المأمون يسأل ما هو العشق

مصارع العشاق

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر. رب أعن.

المأمون يسأل ما هو العشق

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثنا أبو العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهتم بها قلبه، وتؤثرها نفسه.

قال: فقال له ثمامة: اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد ظبيا أو قتل نملة، فأما هذه فمسائلنا نحن.

فقال له المأمون: قل يا ثمامة، ما العشق؟ فقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه.

فقال له المأمون: أحسنت والله يا ثمامة! وأمر له بألف دينار.

العشق داء أهل الظرف

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المروروذي قال: حدثنا جعفر بن محمد الخالدي قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثني علي بن عبد الله القمي قال: قال لي عبد الله بن جعفر المديني قلت لأبي زهير المديني: ما العشق؟ قال: الجنون والذل، وهو داء أهل الظرف.

العشق أوله لعب وآخره عطب

أنبأنا أبو بكر أحمد علي بن الحافظ إن لم يكن حدثنا قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي الكاتب بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرني المظفر بن يحيى قال: قال بعض الفلاسفة: لم أر حقا أشبه بباطل ولا باطلا أشبه بحق من العشق، هزله جد وجده هزل، وأوله لعب وآخره عطب.

ذنوب اضطرار

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: حدثنا رضوان بن عمر الدينوري قال: سمعت معروف بن محمد بن الصوفي الصوفي بالري يقول: سمعت أبا بكر الصيني يقول: سمعت إبراهيم بن الفضل يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لو كان إلي من الأمر شيء ما عذبت العشاق، لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار.

المجنون الشاعر

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو علي الحسن بن صالح قال: قال مساور الوراق: قلت لمجنون كان عندنا، وكان شاعرا، ويقال إن عقله ذهب لفقد ابنة عم كانت له، فقلت له يوما: أجز هذا البيت:

وما الحب إلا شعلة قدحت بها ... عيون المها باللحظ بين الجوانح.

قال فقال على المكان:

ونار الهوى تخفى، وفي القلب فعلها ... كفعل الذي جادت به كف قادح.

الجنة لمن عشق وعف

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بدمشق قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسين بن أيوب القمي إملاء قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني وأبو عمرو بن حيويه وأبو بكر بن شاذان قالوا: حدثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي الملقب بنفطويه قال: دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى.

فقلت: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين، أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة، فأما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة، ثم أنشدنا لنفسه:

انظر إلى السحر يجري في لواحظه، ... وانظر إلى دعج في طرفه الساجي.

وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهن نمال دب في عاج.

وأنشدنا لنفسه:

ما لهم أنكروا سوادا بخدي ... ه، ولا ينكرون ورد الغصون.

إن يكن عيب خده بدد الشع ... ر، فعيب العيون شعر الجفون.

فقلت له: نفيت القياس في الفقه، وأثبته في الشعر. فقال: غلبة الهوى، وملكة النفوس دعتا إليه.

قال: ومات في ليلته أو في اليوم الثاني.

العاشق الشهيد

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثني محمد بن مخزوم قال: حدثني الحسن بن علي الأشناني وأحمد بن محمد بن مسروق قالا: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من عشق فظفر فعف فمات مات شهيدا.

سقراط والعشق

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: وأخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: قال سقراط الحكيم: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.

 

العاشق التقي

أخبرنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله القطيعي إجازة قال: حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخالدي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا سويد بن سعيد أبو محمد قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة من بعض إخواني: ألا أريك فتى عاشقا؟ قال: بلى، والله، فإني أسمع الناس ينكرون العشق وذهاب العقل فيه، وإني لأحب رؤيته، فعدني يوما أجئ معك فيه.

قال: فوعدته يوما فمضينا فأنشأ صاحبي يحدثني عن نسكه وعبادته، وما كان فيه من الاجتهاد، قلت: وبمن هو متعلق؟ قال: بجارية لبعض أهله كان يختلف إليهم، فوقعت في نفسه، فسألهم أن يبيعوها منه، فأبوا، وبذل لهم جميع ماله، وهو سبعمائة دينار، فأبوا عليه ضرارا وحسدا أن يكون مثلها في ملكه، فلما أبوا عليه، بعثت إليه الجارية، وكانت تحبه حبا شديدا: مرني بأمرك، فوالله لأطيعنك ولأنتهين إلى أمرك في كل ما أمرتني به. فأرسل إليها: عليك بطاعة الله، عز وجل، فإن عليها المعول والسكون إليها، وبطاعة من يملك رقك، فإنها مضمومة إلى طاعة ربك، عز وجل، ودعي الفكر في أمري لعل الله، عز وجل، أن يجعل لنا فرجا يوما من الدهر، فوالله ما كنت بالذي تطيب نفسي بنيل شيء أحبه أبدا في ملكي، فأمنعه، أمد يدي إليه حراما بغير ثمن، ولكن أستعين بالله على أمري، فليكن هذا آخر مرسلك إلي، ولا تعودي فإني أكره والله أن يراني الله تعالى، وأنا في قبضته، ملتمسا أمرا يكرهه مني، فعليك بتقوى الله، فإنها عصمة لأهل طاعته، وفيها سلو عن معصيته.

قال: ثم لزم الاجتهاد الشديد، ولبس الشعر وتوحد، فكان لا يدخل منزله إلا من ليل إلى ليل، وهو مع ذلك مشغول القلب بذكرها ما يكاد يفارقه، فوالله ما زال الأمر به حتى قطعه، فو الآن ذاهب العقل واله في منزله.

قال: ثم صرنا إلى الباب واستأذنا فأذن لنا. قال علي: فدخلت إلى دار قوراء سرية، وإذا أنا بشاب في وسط الدار على حصير متزر بإزار ومرتد بآخر. قال: فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام، فجلسنا إلى جنبه، وإذا هو من أجمل من رأيت وجها، وهو مطرق ينكت في الأرض، ثم ينظر إلى ساعده، ثم يتنفس الصعداء، حتى أقول قد خرجت نفسه، وهو مع ذلك كالخلال من شدة الضر الذي به.

قال: فالتفت، فإذا أن بوردة حمراء مشدودة في عضده، قال: فقلت لصاحبي: ما هذه؟ فوالله ما رأيت العام وردا قبل هذه! فقال: أظن فلانة، وسماها، بعثت بها إليه، فلما سماها رفع رأسه فنظر إلينا ثم قال:

جعلت من وردتها ... تميمة في عضدي.

أشمها من حبها ... إذا علاني كمدي.

فمن رأى مثلي فتى ... بالحزن أضحى مرتدي.

أسقمه الحب، فقد ... صار حليف الأود.

وصار سهوا دهره ... مقارنا للكمد.

قال: ثم أطرق، فقلت: الساعة، والله، يموت. اقل علي بن عاصم: وورد علي من أمره ما لم أتمالك، وقمت أجر ردائي، فوالله ما بلغت الباب حتى سمعت الصراخ فقلت: ما هذا؟ فقالوا: مات والله! قال علي: فقلت: والله لا أبرح حتى أشهده. قال: وتسامع الناس فجاؤوا بطبيب فقال خذوا في أمر صاحبكم، فقد مضى لسبيله، فغسلوه وكفنوه ودفنوه وانصرف الناس.

فقال لي صاحبي: امض بنا! فقلت: امض أنت فإني أريد الجلوس ههنا ساعة، فمضى، فما زلت أبكي وأعتبر به. وأذكر أهل محبة الله، عز وجل، وما هم فيه. قال: فبينا أنا على ذلك، إذا أنا بجارية قد أقبلت كأنها مهاة، وهي تكثر الالتفات، فقالت لي: يا هذا! أين دفن هذا الفتى؟ قال علي: فرأيت وجها ما رأيت قبله مثله، فأومأت إلى قبره؟ قال: فذهبت إليه، فوالله ما تركت على القبر كثير تراب إلا ألقته على رأسها، وجعلت تتمرغ فيه، حتى ظننت أنها ستموت، فما كان بأسرع من أن طلع قوم يسعون حتى جاؤوا إليها، فأخذوها، وجعلوا يضربونها، فقمت إليهم فقلت: رفقا بها، برحمكم الله! فقالت: دعهم أيها الرجل يبلغوا همتهم، فوالله لا انتفعوا بي بعده أيام حياتي، فليصنعوا بي ما شاؤوا.

قال علي: فإذا هي التي كان يحبها الفتى، فانصرفت وتركتها.

رواية ثانية عن العاشق التقي.

أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قراءة عليه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال: أخبرني عبد الله بن نصر المروزي قال: أخبرني عبد الله بن سويد عن أبيه قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة من بعض إخواني: هل لك في عاشق تراه؟ فمضيت معه، فرأيت فتى كأنما نزعت الروح من جسده، وهو مؤتزر بإزار ومرتد بآخر، وإذا هو مفكر، وفي ساعده وردة، فذكرنا له بيتا من الشعر، فتهيج، وقال: وذكر الأبيات المتقدمة الخمسة، ثم أطرق، فقلنا: ما شأنه؟ فقالوا: عاشق جارية لبعض أهله فأعطى بها كل ما يملك، وهو سبعمائة دينار، فأبوا أن يبيعوها. فنزل به ما ترى، وفقد عقله.

قال: فخرجنا فلبثنا ما شاء الله، ثم مات فحضرت جنازته، فلما سوي عليه، إذا أنا بجارية تسأل عن القبر، فدللتها، فما زالت تبكي وتأخذ التراب فتجعله في شعرها، فبينا هي كذلك إذا قوم يسعون فأقبلوا عليها ضربا، فقالت: شأنكم، والله لا تنتفقون بي بعده أبدا.

عاتبوه في سفك دمي!

ولي من أبيات:

عاتبوه اليوم في سفك دمي ... فعسى عتبكم يحشمه.

ثم قولوا للذي لم يخطني ... إذ رمى، صائبة أسهمه:

أحلال لك في شرع الهوى ... دم من ليس حلالا دمه؟

بي جرح في فؤادي من هوى ... شادن أعوزني مرهمه.

مجنون دير هرقل

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، بباب الندوة، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن الصديق بنسف قال: حدثنا أبو يعلى محمد بن مالك الرقي قال: حدثنا عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك. فدخلنا فإذا بشاب حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحبا بالوفد، قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما. قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك.

فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتكما.

قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟ فقال:

الله يعلم أنني كمد، ... لا أستطيع أبث ما أجد.

نفسان لي: نفس تضمنها ... بلد، وأخرى حازها بلد.

أما المقيمة ليس ينفعها ... صبر، وليس بقربها جلد.

وأظن غائبتي كشاهدتي، ... بمكانها تجد الذي أجد.

ثم التفت إلينا فقال: أحسنت؟ قلنا: نعم!، ثم ولينا فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هات! فقال:

لما أناخوا، قبيل الصبح، عيسهم، ... ورحلوها، فسارت بالهوى الإبل.

وقلبت، من خلال السجف، ناظرها، ... ترنو إلي ودمع العين منهمل.

فودعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل.

ويلي من البين! ماذا حل بي وبها؟ ... يا نازح الدار حل البين وارتحلوا.

يا راحل العيس عرج كي أودعها، ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل.

إني على العهد لم أنقض مودتكم، ... فليت شعري، وطال العهد، ما فعلوا؟

فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مجونا منا: ماتوا! فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟ فقلنا، لننظر ما يصنع: نعم! ماتوا. قال: إني والله ميت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبة دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات. فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا.

هند المحرمة

أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي بقراءتي عليه سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عجلان النهدي في الجاهلية:

ألا إن هندا أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حمى.

وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوسا وأسهما.

ومد بها صوته حتى مات.

المجنون الشاعر

أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن عيسى بقراءتي أو قراءة عليه بمصر قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن القاسم بن مرزوق قال: أخبرنا إبراهيم بن علي بن إبراهيم البغدادي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: حدثني المبرد قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابي مع المأمون، فلما قربنا من نحو الرقة فإذا نحن بدير كبير فأقبل إلي بعض أصحابي فقال: مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه، ونحمد الله، سبحانه، على ما رزقنا من السلامة. فلما دخلنا إلى الدير رأينا مجانين مغلولين، وهم في نهاية القذارة، فإذا منهم شاب عليه بقية ثياب ناعمة، فلما بصر بنا قال: من أين أنتم يا فتيان، حياكم الله؟ فقلنا: نحن من العراق. فقال: يا بأبي العراق وأهلها! بالله أنشدوني أو أنشدكم؟ فقال المبرد: والله إن الشعر من هذا لطريف. فقلنا: أنشدنا! فأنشأ يقول:

الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد.

روحان لي: روح تضمنها ... بلد، وأخرى حازها بلد.

وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر، ولا يقوى بها جلد.

وأظن غائبتي، كشاهدتي، ... بمكانها تجد الذي أجد.

قال المبرد: إن هذا لطريف، والله زدنا! فأنشأ يقول:

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها، فسارت بالهوى الإبل.

وأبرزت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين منهمل.

وودعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل!

ويلي من البين! ماذا حل بي وبها، ... من نازل البين حان الحين وارتحلوا.

يا راحل العيس عجل كي نودعها! ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل!

إني على العهد لم أنقض مودتهم، ... فليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟

فقال رجل من البغضاء الذين معي: ماتوا! قال: إذا فأموت. فقال له: إن شئت. قال: فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدودا فيها فما برحنا حتى دفناه.

فراقية ابن زريق

أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن الجاز القرشي الأديب بالكوفة، وأنا متوجه إلى مكة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حاتم بن بكير البزاز التكريتي بتكريت قال: حدثني بعض أصدقائي أن رجلا من أهل بغداد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه، فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره، فأعطاه شيئا نزرا، فقال البغدادي: إنا لله وإنا إليه راجعون! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر؟ فانكسرت إليه نفسه واعتل فمات.

وشغل عنه الأندلسي أياما، ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه ، فانتهوا إلى الخان الذي كان فيه وسألوا الخانية عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره، فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميتا، وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:

لا تعذليه، فإن العذل يولعه ... قد قلت حقا، ولكن ليس يسمعه.

جاوزت في نصحه حدا أضر به ... من حيث قدرت أن النصح ينفعه.

قد كان مضطلعا بالحطب يحمله، ... فضلعت بخطوب البين أضلعه.

ما آب من سفر إلا وأزعجه ... عزم إلى سفر بالرغم يزمعه.

كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بقضاء الله يذرعه.

أستودع الله، في بغداد، لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه.

وكم تشفع بي أن لا أفارقه، ... وللضرورات حال لا تشفعه.

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى، ... وأدمعي مستهلات وأدمعه.

أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته، ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه.

ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا ... شكر عليه، فعنه الله ينزعه.

قال لنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز وزادني أبو علي الحسن بن علي المتصوف:

والحرص في المرء، والأرزاق قد قسمت، ... بغي، ألا إن بغي المرء يصرعه.

لو أنني لم تقع عيني على بلد ... في سفرتي هذه إلا وأقطعه.

اعتضت من وجه خلي، بعد فرقته، ... كأسا تجرع منها ما أجرعه.

فلما وقف أبو عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي. وكان في رقعة الرجل: منزلي ببغداد في الموضع المعروف بكذا، والقوم يعرفون بكذا، فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وسفتجة، وحصلت في يد القوم وعرفهم موت الرجل.

مجنون على الدرب

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة بقراءتي عليه قال: حدثنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا الفرج أحمد بن محمد بن بيان النهاوندي يقول: مررت بدرب أبي خلف، فإذا جماعة وقوف على مجنون فوقفت، فهش إلي وقال:

سقني قبل تباريح العطش! ... إن يومي يوم طش بعد رش.

حب من أهواه قد أدهشني، ... لا خلوت الدهر من ذاك الدهش.

لحم على وضم

ولي في نسيب قصيدة مدحت بها أحد بني عقيل، رحمه الله، بالشام:

قالت، وقد قوضت خيامهم ... واستملوا للنوى بذي سلم.

للسائق المستحث: رد على ... الواقف السلام واستقم.

فصحت وجدا، والبين مبتسم، ... ألقاه من مفرقي بمبتسمي.

الله يا سلم في صريع هوى ... أبقيت منه لحما على وضم.

عقربا الصدغين

ولي أيضا من نسيب قصيدة مدحت بها بعض الرؤساء ببغداد:

يا خليلي اكشفا عن قصتي ... تجدا نضوا من الحب لقا.

فأدال الله، يا يوم النوى، ... منك، إذ أقلقتني يوم اللقا.

إن في نهر المعلى فرهدا ... قمرا من فوق غصن في نقا.

عقربا صدغيه تسري، فإذا ... لدغت قلبا تحامته الرقى.

قبر النديم

أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة بن عبيد الله الوراق بقراءتي عليه بتنيس قال: حدثنا أبو علي الحسين بن علي الديبلي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن علي قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا عبيد النعالي غلام أبي الهذيل قال: انصرفت من جنازة من مسجد الرضى في وقت الهاجرة، فلما دخلت سكك البصرة اشتد علي الحر فتوخيت سكة ظليلة فاضطجعت على باب دار، فسمعت ترنما يجذب القلب، فطرقت الباب واستسقيت ماء فإذا فتى اجتهرني جماله، إلا أن أثر العلة والسقم عليه بين، فأدخلني إلى خيش نظيف، وفرش سري، فلما اطمأننت خرج الفتى ومعه وصيفة معها طست وماء ومنديل، فغسلت رجلي وأخذت ردائي ونعلي، وانصرفت، فلبثت يسيرا فإذا جارية أخرى وقد جاءت بطست وماء، فقلت: قد غسلت يدي. فقالت: إنما غسلت رجليك، فاغسل الآن يديك للغداء. وإذا الفتى قد أقبل ضاحكا ليؤنسني، وأنا أعرف العبرة في عينيه وأتي بالطعام فأقبل يأكل نغض بما يأكله، وهو في ذلك يبسطني.

فلما انقضى أكلنا أتينا بشراب فشرب قدحا وشربت آخر، ثم زفر زفرة ظننت أن أعضاءه قد نقضت وقال لي: يا أخي! إن لي نديما، فقم بنا إليه! فقمت وتقدمني، ودخل مجلسا، فإذا قبر عليه ثوب أخضر، وفي البيت رمل مصبوب، فقعد على الرمل، وطرح لي مصلى، فقلت: والله لا قعدت إلا كما تقعد، وأقبل يردد العبرات ثم شرب كأسا وشربت وأنشأ يقول:

أطأ التراب، وأنت رهن حفيرة، ... هالت يداي على صداك ترابها.

إني لأعذر من مشى إن لم أطأ ... بجفون عيني ما حييت جنابها.

لو أن جمر جوانحي متلبس ... بالنار أطفأ حرها وأذابها.

ثم أكب على القبر مغشيا عليه، فجاءه غلام بماء فصبه على وجهه، فأفاق فشرب ثم أنشأ يقول:

اليوم ثاب لي السرور لأنني ... أيقنت أني عاجلا بك لاحق.

فغدا أقاسمك البلى، ويسوقني ... طوعا إليك، من المنية، سائق

ثم قال لي: قد وجبت حقي عليك فاحضر غدا جنازتي! قلت: يطيل الله عمرك. قال إني ميت لا محالة. فدعوت له بالبقاء فقال: لقد عققتني، ألا قلت:

جاور خليلك مسعدا في رمسه، ... كيما ينالك في البلى ما ناله.

فانصرفت وطالت علي ليلتي، وغدوت فإذا هو قد مات.

مريض مطوح

أخبرنا أبو علي محمد بن أبي نصر الأندلسي بمصر من لفظه قال: أخبرنا أبو محمد علي بن محمد الحافظ بالأندلس قال: أخبرنا أبو مروان عبد الملك بن أبي نصر السعدي قال: قال أبو النصر مسلمة بن سهل: حدثني أبو كامل مؤمل بن صالح البغدادي قال: قال أبو شراعة: بينا أنا أمشي بالبادية ناحية السماوة مصعدا إذا بفتى من الأعراب ملوح الجسم معروقه، عليه قطيريتان، وهو محتضن صبيا يقول له: إذا حاذيت أبيات آل فلان، فارفع صوتك منشدا بهذه الأبيات، ولك إحدى بردتي هاتين. فجعل يكررها عليه ليحفظها فحفظها:

مريض بأفناء البيوت مطوح، ... أبى ما به من لاعج الشوق يبرح.

يقولون: لو جئت النطاسي عل ما ... تشكاه من آلام وجدك يمصح.

وليس دواء الداء إلا بخيلة ... أضر بنا فيها غرام مبرح.

إذا ما سألناها وصالا تنيله ... فصم الصفا منها بذلك أسمح.

فتبعت الصبي، وهو لا يشعر بي،فلما حاذباها رفع عقيرته بالأبيات ينشدها، فسمعت من بعض الأبيات قائلا يقول:

رعى الله من هام الفؤاد بحبه، ... ومن كدت من شوق إليه أطير.

لئن كثرت بالقلب أبراح لوعة، ... فإن الوشاة الحاضرين كثير.

يمشون، يستشرون غيظا وشرة، ... وما منهم إلا أبل غيور.

فإن لم أزر بالجسم رهبة مرصد، ... فبالقلب آتي نحوكم فأزور.

أفاق بعد لأي، وهو يقول:

أظن هوى الخود الغريرة قاتلي، ... فيا ليت شعري ما بنو العم صنع.

أراهم، وللرحمن در صنيعهم، ... تراكى دمي هدرا، وخاب المضيع.

حي على البهم

أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا محمد بن سعيد قال: حدثنا عباس الترقفي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أبو غياث البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: بينا ابن أبي ملكية يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يتعنى في دار العاص بن وائل ويقول:

صغيرين نرعى البهم، يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر، ولم تكبر البهم.

قال: فأسرع في الأذان، فأراد أن يقول: حي على الصلاة، فقال: حي على البهم، حتى سمعه أهل مكة، فجاء يعتذر إليهم.

موت عروة بن حزام

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بالشام قال: أخبرنا أبو الحسين بن روح قال: حدثنا المعافى بن زكرياء قال: حدثني علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا محمد بن يزيد قال: حدثني مسعود بن بشر المازني قال: حدثنا العتبي عن أبيه عن رجل عن هشام بن عروة عن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري قال: وليت صدقات بني عذرة، قال: فدفعت إلى فتى تحت ثوب، فكشفت عنه، فإذا رجل لم يبق منه إلا رأسه، فقلت: ما بك؟ فقال:

كأن قطاة علقت بجناحها، ... على كبدي من شدة الخفقان.

جعلت لعراف اليمامة حكمه، ... وعراف نجد إن هما شفياني.

ثم تنفس حتى ملأ منه الثوب الذي كان فيه، ثم بخمد، فإذا هو قد مات، فأصلح من شأنه، وصليت عليه، فقيل لي: أتدري من هذا؟ هذا عروة بن حزام.

ذو الرمة ورسيس الهوى

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ فيما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال: حدثني جعفر بن هارون بن رياب قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة المهلبي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل عن أبيه عن جده غيلان بن الحكم قال: وفد علينا ذو الرمة، ونحن بكناسة الكوفة، فأنشدنا قصيدته الحائية فلما انتهى إلى قوله:

إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح.

قال له ابن شبرمة: أراه قد برح. ففكر ثم قال: لم أجد.

رسيس الهوى من حب مية يبرح.

فرجعت بحديثهم إلى أبي الحكم البحتري، من المختار، فقال: أخطأ ابن شبرمة حين رد عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث قبل منه، إنما هذا كقول الله عز وجل: إذا أخرج يده لم يكد يراها أي لم يرها ولم يكد.

موت الصوفي عاشق الغلام

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة: رأيت مع محمد بن قطن الصوفي غلاما جميلا، فكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، فمكثا بذلك زمنا طويلا، فمات الغلام، وكمد عليه محمد بن قطن، حتى عاد جلدا وعظما، فرأيته يوما، وقد خرج إلى المقابر، فاتبعته، فوقف على قبره قائما يبكي، وينظر إليه والسماء تمطر بالمطر، فما زال واقفا من وقت الضحى إلى أن غربت الشمس لم يبرح ولم يجلس، ويده على خده، فانصرفت عنه، وهو كذلك واقفا، فلما كان من الغد خرجت لأعرف خبره، وما كان من أمره، فصرت إلى القبر، فإذا هو مكبوب لوجهه ميت، فدعوت من كان بالحضرة فأعانوني على حمله، فغسلته وكفنته في ثيابه ودفنته إلى جانب القبر.

عاشق يخاف معصية الله

وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر أيضا بإسناده قال:

قال أبو حمزة: ونظر محمد بن عبيد الله بن الأشعث الدمشقي، وكان من خيار عباد الله، إلى غلام جميل فغشي عليه، فحمل إلى منزله، واعتاده السقم حتى أقعد من رجليه، فكان لا يقوم عليهما زمنا طويلا، فكنا نأتيه ونعوده، ونسأله عن حاله وأمره، وكان لا يخبرنا بقصته ولا بسبب مرضه، وكان الناس يتحدثون بحديث نظره، فبلغ ذلك الغلام، فأتاه عائدا، فهش إليه وتحرك وضحك في وجهه، واستبشر برؤيته، فما زال يعوده حتى قام على رجليه، وعاد إلى حالته. فسأله الغلام يوما المصير إليه معه إلى منزله، فأبى أن يفعل، فكلمني أن أسأله أن يتحول إليه، فسألته، فأبى، فقلت: وما الذي تكره من ذلك؟ فقال: لست بمعصوم من البلاء، ولا آمن من الفتنة، وأخاف أن تقع علي من الشيطان محنة أو عند ظفر بفرصة فتجري بيني وبينه معصية فيحتجب الله عني يوم تظهر فيه الأسرار ويكشف فيه عن ساق فأكون من الخاسرين.

ليلى العامرية ومجنونها

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حيويه الخزاز قراءة عليه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني قاسم بن الحسن عن العمري قال: قال الهيثم بن عدي: حدثنا عثمان بن عمارة عن أشياخهم من بني مرة قال: رحل رجل منا إلى ناحية الشام مما يلي تيماء والشراة في طلب بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له، وقد أصابه مطر، فعدل إليها، فتنحنح، فإذا امرأة قد كلمته، فقالت له: انزل، فنزل وراحت إبلهم وغنمهم فإذا أمر عظيم وإذا رعاء كثير، فقالت لبعض العبيد سلوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلت: من ناحية اليمامة ونجد. فقالت: أي بلاد نجد وطئت؟ قلت: كلها. قالت: بمن نزلت هنا؟ قلت: ببني عامر، فتنفست الصعداء، وقالت: بأي بني عامر؟ فقلت: ببني الحريش. فاستعبرت، ثم قالت: هل سمعت بذكر فتى يقال له قيس ويلقب بالمجنون؟ فقلت، إي والله، ونزلت بأبيه، وأتيته حتى نظرت إليه، يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم إلا أن تذكر له ليلى فيبكي، وينشد أشعارا يقولها فيها.

قال: فرفعت الستر بيني وبينها، فإذا شقة قمر لم تر عيني مثلها، فبكت وانتحبت حتى ظننت، والله، أن قبلها قد انصدع، فقلت لها: أيتها المرأة! اتقي الله، فوالله ما قلت بأسا، فمكثت طويلا على تلك الحال من البكى والنحيب ثم قالت:

ألا ليت شعري، والخطوب كثيرة، ... متى رحل قيس مستقل فراجع.

بنفسي من لا يستقل برحله ... ومن هو، إن لم يحفظ الله، ضائع.

ثم بكت حتى غشي عليها، فلما أفاقت قلت: من أنت، بالله؟ قالت: أنا ليلى المشؤومة عليه، غير المساعدة له. فما رأيت مثل حزنها ووجدها، فمضيت وتركتها.

ردوا على المشتاق قلبه الجريح

ولي من نسيب قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله:

سبحت حين أبصرت من دموعي ... لج بحر قد أعجز السباحا.

ثم قالت لتربها، في خفاء ... ليت هذا الفتى قضى فاستراحا.

أيها الراحلون! ردوا على ال ... مشتاق قلبا أثخنتموه جراحا.

كتم الوجد جهده، فإذا الدم ... ع بأسرار وجده قد باحا.

باعكم قلبه الكئيب سفاها، ... فأخذتم رقاده استرباحا.

الرشيد وجارية زلزل

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز قال حدثنا محمد المفضل قال حدثني إسحاق بن إبراهيم المصلي عن أبيه قال لي زلزل وكان اسمه منصور عندي جارية من صالحها ومن صفتها قد علمتني الغناء فكنت اشتهي أن أرها فاستحي أساله فلما توفي زلزل بلغني أن ورثته يعرضون الجارية، فصرت إليهم فأخرجوها، فإذا جارية كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها ونقص منه، قال: قلت لها: غني صوتا! فجيء بالعود فوضع في حجرها، فاندفعت تغني وتقول، وعيناها تذرفان:

أقفر من أوتاره العود ... فالعود للإقفار معمود.

وأوحش المزمار من صوته ... فما له بعدك تغريد.

من للمزامير وسماعها ... وعامر اللذات مفقود.

والخمر تبكي في أباريقها ... والقينة الخمصانة الرود.

ثم شهقت شهقة ظننت أن نفسها قد خرجت، فركبت من ساعتي، فدخلت على أمير المؤمنين فأخبرته بخبر الجارية، وما سمعت منها، فأمر بإحضارها، فلما دخلت عليه قال لها: عني الصوت الذي غنيت به إبراهيم! فغنت وجعلت تريد البكى فيمنعها إجلال أمير المؤمنين، فرحمها وأعجب بها، فقال: أتحبين أن أشتريك؟ فقالت: يا سيدي أما إذ خيرتني فقد وجب نصحك علي، والله لا يشتريني أحد بعد زلزل فينتفع بي. فقال: يا إبراهيم! أتعلم بالعراق جارية جمعت ما جمعت هذه؟ إن وجدت فاشترها بشطر ما لي! فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ولا على وجه الأرض فأمر بشرائها وأعتقها وأجرى عليها رزقا.

اطلبوا نفسي

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: أنشدنا جحظة لنفسه:

ويح نفسي عهدي بها في التراقي، ... قبل يوم الفراق، عند الفراق.

اطلبوها في حيث كنا اعتنقنا، ... هلكت في اشتغالنا بالعناق.

وجهك أظرف

أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد اللبان الرازي قال: حدثنا أبو محمد بيان بن يزداد القمي إجازة قال: أنشدني أحمد بن محمد القمي المؤدب:

يراك الفؤاد بعين الهوى، ... وعين المحبة لا تخلف.

إذا غبت عن ناظر المقلتي ... ن فقلبي يراك وما يطرف.

تمكن في القلب من حبكم ... عيون من الحب ما تنزف.

فمن يك من حبه ساليا، ... فإني من حبكم مدنف.

كلام رخيم ودل مليح، ... ووجهك من كل ذا أظرف.

العيون الدعج

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الشروطي قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن هارون الاشنانداني قال: أخبرني التوزي قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رجل من بني فزارة لرجل من عذرة: تعدون موتكم من الحب مزية، أي فضيلة، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقيدة، وضيق الروية. فقال العذري: أما لو أنكم رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج، والشفاه السمر تفتر عن الثنايا الغر، كأنها سرد الدر، لجعلتموها اللات والعزى، ودفعتم الإسلام وراء ظهوركم.

صريع الغواني

أنبأنا أحمد بن علي قال: حدثنا علي بن أيوب قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد: أن مسلم بن الوليد الأنصاري لما وصل الرشيد في أول يوم لقيه أنشده قصيدته التي يصف فيها الخمر، وأولها:

أديرا علي الكأس لا تشربا قبلي، ... ولا تطلبا من عند قاتلي ذحلي.

فاستحسن ما حكاه من وصف الشراب واللهو والغزل وسماه يومئذ صريع الغواني بآخر بيت منها وهو:

هل العيش إلا أن تروح مع الصبا، ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل.

غليل ودموع

أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة قال: أخبرنا ابن حبيب المذكر قال: دخلت دار المرضى بنيسابور فرأيت شابا من أبناء النعم، يقال له أبو صادق السكري، مشدودا، وهو يجلب ويصيح، فلما بصر بي قال: أتروي من الشعر شيئا؟ قلت: نعم! قال: من شعر من؟ قلت: من شعر من شئت. قال: من شعر البحتري؟ قلت: أي قصيدة تريد؟ فقال:

ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي؟

فأنشدته القصيدة، فقال: فأنشدك قصيدة؟ قلت: نعم! فأخذ في إنشاد قصيدته:

أقصرا! إن شأني الإقصار، ... وأقلا لا ينفع الإكثار.

حتى بلغ قوله:

إن جرى بيننا وبينك عتب، ... أو تناءت منا ومنك الديار.

فالغليل الذي عهدت مقيم، ... والدموع التي شهدت غزار.

فقفز وجعل يرقص في قيده ويصيح إلى أن سقط مغشيا عليه.

عبد الله بن جعفر وجاريته.

وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأنبوسي، ونقلته من أصله، قال: حدثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثني جدي قال: حدثني عمي قال: حدثني علي بن أبي مريم قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثني بكر بن إسحاق النجلي قال: حدثنا أبو سهل محمد بن عمر الأنصاري عن محمد بن سيرين قال: نظر عبد الله بن جعفر إلى جارية له كان يحبها حبا شديدا وهي تلاحظ مولاه فسألها: بالله هل تحبين فلانا؟ فقالت: أعيذك بالله يا سيدي! قال فسألها: بالله لا تكتميني ذلك! فسكتت فأعتقها ودعاه فزوجها إياه. قال: ثم إن نفسه تتبعتها فدعا مولاه فقال: أتنزل عنها ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا والله، ولا مائة ألف درهم. قال: بارك الله لك فيها! قال فأعرض عنها.؟ قال: فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات مولاه وتزوجها ابن جعفر بعد ذلك.

قال ابن حسين فذكرت هذا الحديث لأبي ياسين الرقي فحدثني عن بعض أصحابه أن عبد الله بن جعفر لما دخلت عليه أنشأ يقول:

رضيت بحكم الله في كل أمره، ... وسلمت أمر الله في كما مضى.

بلاني وأبلاني بحب دنية، ... وصبرني حتى امحى الحب فانقضى.

لعمري! ما حبي بحب ملالة، ... ولا كان ودي زائلا فتنقضا.

ولكن حبي معه دل يزينه، ... ويعرض أحيانا إذا الحب أعرضا.

صريعا الحب

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قراءة عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي الجرادي الكاتب قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه عن يونس قال: انصرفت من الحج فمررت بماوية وكان لي فيها صديق من بني عامر بن صعصعة، فصرت إليه مسلما، فأنزلني، فبينا أنا عنده، ونحن قاعدان بفنائه، إذا نساء مستبشرات، وهن يقلن: تكلم تكلم! فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فتى منا كان يعشق ابنة عم له، فزوجت، وحملت إلى ناحية الحجاز، فإنه لعلى فراشه منذ حول ما تكلم، ولا أكل، إلا أن يؤتى بما يأكله ويشربه. فقلت: أحب أن أراه. فقام، وقمت معه فمشينا غير بعيد، وإذا بفتى مضطجع بفناء بيت من تلك البيوت، لم يبق منه إلا خيال، فأكب الشيخ عليه يسأله، وأمه واقفة، فقالت: يا مالك! هذا عمك أبو فلان يعودك، ففتح عينيه، وأنشأ يقول:

ليبكني اليوم أهل الود والشفق، ... لم يبق من مهجتي إلا شفا رمق.

اليوم آخر عهدي بالحياة، فقد ... أطلقت من ربقة الأحزان والقلق.

ثم تنفس الصعداء فإذا هو ميت، فقام الشيخ، وقمت فانصرفت إلى خبائه فإذا جارية بضة تبكي وتتفجع. فقال الشيخ: ما يبكيك؟ فأنشأت تقول:

ألا أبكي لصب شف مهجته ... طول السقام وأضنى جسمه الكمد.

يا ليت من خلف القلب الهيوم به، ... عندي فأشكو إليه بعض ما أجد.

أنشر تربك أسرى لي النسيم به، ... أم أنت حيث يناط السحر والكبد.

ثم انثنت على كبدها، وشهقت، فإذا هي ميتة.

قال يونس: فقمت من عند الشيخ وأنا وقيذ.

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق قال: حدثنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد فذكر القصة.

أجساد بغير قلوب.

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: أخبرنا أبو محمد بن الجرادي الكاتب قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا العكلي عن أبيه لداود بن سلم التميمي:

ما ذر قرن الشمس إلا ذكرتها، ... ويذكرنيها ما دنت لغروب.

واذكرها ما بين ذاك وبعده، ... وبالليل أحلامي، وعند هبوب.

وبليتها شوقا، وبلاني الهوى، ... وأعيا الذي بي طب كل طبيب.

وأعجب أني لا أموت صبابة، ... وما كمد من عاشق بعجيب.

وكم لام فيها من مؤد نصيحة، ... فقلت له: أقصر، فغير مصيب.

أتأمر إنسانا بفرقة قلبه؟ ... أتصلح أجسادا بغير قلوب؟

وكل محب قد سلا، غير أنني ... غريب! ألا يا ويح كل غريب.

السل داء الحب

أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي فيما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال: حدثنا أحمد بن منصور بن سوار قال: حدثنا نوح بن يزيد المعلم قال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن زبير قال: سمعت رجلا من بني عذرة عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا بحق أقول لكم إنكم أرق الناس قلوبا. فقال: نعم، والله، لقد تركت بالحي ثلاثين قد خامرهم السل، وما بهم داء إلا الحب.

مجنون وعليلة

أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق من حفظه قال: حكى لي أبو الحسين علي بن الحسين الصوفي المعروف برباح قال: حدثني بعض أصدقائي أنه دخل إلى بعض المارستانات ببغداد فرأى شابا حسن الوجه، نظيف الثياب، جالسا على حصير نظيف، وعن يساره مخدة نظيفة، وفي يده مروحة، وإلى جانبه كوز فيه ماء، فسلمت عليه، فرد السلام أحسن رد، فقلت له: هل لك من حاجة؟ فقال: نعم! أريد قرصين وعليهما فالوذج، فمضيت فجئته بذلك، وجلست مقابله حتى أكل، ثم قلت له: أبقي لك حاجة؟ فقال: نعم، ولا أظنك تقدر عليها. فقلت: اذرها، فلعل الله أن ييسرها. فقال: تمضي إلى نهر الدجاج درب أحمد الدهقان، إلى دار على باب زقاق الغفلة، فاطرق الباب وقل: إن فلانا قال لي:

مر بالحبيب وقل له: ... مجنونكم من ذا يحله؟.

قال: فمضيت وسألت عن الدرب والزقاق، فدللت عليه، فطرقت الباب، فخرجت إلي عجوز فأبلغتها الرسالة، فدخلت وغابت عني ساعة، ثم خرجت فقالت:

ارجع إليه وقل له: ... عليلكم من ذا أعله.

فرجعت إلى الفتى فأخبرته بالجواب، فشهق شهقة فمات، وعدت إلى القوم أخبرهم بذلك، فوجدت الصراخ في الدار، وقد ماتت الجارية، أو كما قال.

الحب للحبيب الأول

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن الفضل الأرجي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا محمد بن علي بن المأمون قال: حدثنا أبو محمد الرقاقي قال: خرج أبو حمزة يشيع بعض الغزاة، وكان راكبا، فسمع قائلا يقول:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ... ما الحب إلا للحبيب الأول.

فسقط حتى خشينا عليه.

دين الغدر

ولي من قطعة:

يا من رمى قلبي فلم يخطه، ... أصميتني قتلا، ولم أدر.

ساعدك الحب على مقتلي، ... كلاكما قد دان بالغدر.

سواجع وهواتف

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرني الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: أخبرني مسجع بن نبهان قال: حدثني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم قال: كنت أهوى جارية من باهلة، وكان قومها قد أخافوني، وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم، فإذا حمامات يسجعن على أفنان أيكات متناوحات في سرارة واد، فاستفزني من الشوق ما لم أعقل معه بشيء، فركبت، وأنا أقول:

دعت، فوق أغصان من الأيك موهنا، ... مطوقة ورقاء في إثر آلف.

فهاجت عقابيل الهوى، إذ ترنمت، ... وشبت ضرام الشوق بين الشراسف.

لكني خرجت فآواني الليل إلى حي فخفت أن يكونوا من قومها فبت في القفر، فلما هدأت الرجل إذا قائل يقول:

تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار.

فتألمت من ذلك ثم غلبتني عيناي، فإذا آخر يقول:

ولا شيء بعد اليوم إلا تعلة ... من الطيف أو تلقى بها منزلا قفرا.

فزادني ذلك قلقا، ثم نمت فإذا ثالث يقول:

لن يلبث القرناء أن يتفرقوا، ... ليل يكر عليهم ونهار.

فقمت، فغيرت وركبت متنكبا عن الطريق، فلما برق الفجر، إذا راع مع الشروق قد سرح غنمه وهو يتمثل:

كفى بالليالي مخلفات لجدة ... وبالموت قطاعا حبال القرائن.

فأظلمت علي الأرض فتأملته فعرفته، فقلت: فلان؟ قال: فلان.

قلت: ما وراءك؟ قال: ضاجعت، والله، رملة الثرى، فما لبثت أن سقطت عن بعيري فما أفقت حتى حميت الشمس علي، وقد عقل الغلام ناقتي، وقد مضى، فكررت إلى أهلي، وأنشأت أقول:

يا راعي الضأن! قد أبقيت لي كمدا ... يبقى ويتلفني، يا راعي الضان.

نعيت نفسي إلى نفسي، فكيف إذا، ... أبقى، ونفسي في أثناء أكفاني؟

لو كنت تعلم ما أسأرت في كبدي، ... بكيت مما تراه اليوم أبكاني.

من الحب اليائس إلى التعبد

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن شكر قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة قال: حدثنا إبراهيم بن علي قال: حدثنا محمد بن جعفر الكاتب عن محمد بن الحسن البرجلاني عن جعفر بن معاذ قال: أخبرني أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب يتعبد ملازما للمسجد الجامع، لا يكاد يخلو منه، وكان حسن الوجه، حسن القامة، حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال، وعقل، فشغفت به، وطال ذلك عليها، فلما كان ذات يوم وقفت له على طريقه، وهو يريد المسجد، فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت. فمضى ولم يكلمها. ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه، وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى اسمع كلمات أكلمك بها. فأطرق فقال لها: هذا موقف تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعا. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك، ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم، معاشر العباد، في مثال القوارير أدنى شيء يعيبه، وجملة ما أكلمك به أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.

قال: فمضى الشاب إلى منزله، وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاسا وكتب كتابا، ثم خرج من منزله. فإذا بالمرأة واقفة في موضعها، فألقى إليها الكتاب، ورجع إلى منزله. وكان في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. اعلمي أيتها المرأة أن الله، تبارك وتعالى، إذا عصي حلم، فإذا عاود العبد المعصية ستر، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله، عز وجل، لنفسه غضبة تضيق منها السموات والأرضون والجبال والشجر والدواب، فمن ذا الذي يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلا، فإني أذكرك يوما تكون السماء كالمهل، وتصير الجابل كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف بصلاح غيري، وإن كان ما ذكرت حقا فإني أدلك على طبيب، هو ولي الكلوم الممرضة، والأوجاع المرمضة، ذلك الله رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة، فإني متشاغل عنك بقوله، عز وجل: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، والله يقضي بالحق، فأين المهرب من هذه الآية؟ ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على طريقه، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله لئلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا أبدا إلا بين يدي الله، عز وجل. وبكت بكاء كثيرا، ثم قالت: أسأل الله، عز وجل. الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك. ثم تبعته فقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك، وأوصني بوصية أعمل عليها! فقال لها الفتى: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله عز وجل: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار.

قال: فأطرقت، وبكت بكاء أشد من بكائها الأول، ثم أفاقت، فقالت: والله ما حملت أنثى ولا وضعت إنسا كمثلك في مصري وأحيائي. وذكرت أبياتا آخرها:

لألبسن لهذا الأمر مدرعة، ... ولا ركنت إلى لذات دنيايا.

ثم لزمت بيتها فأخذت بالعبادة. قال: فكانت إذا أجهدها الأمر تدعو بكتابه فتضعه على عينيها، فيقال لها: وهل يغني هذا شيئا؟ فتقول: وهل لي دواء غيره؟ وكان إذا جن عليها الليل قامت إلى محرابها، فإذا صلت قالت:

يا وارث الأرض هب لي منك مغفرة، ... وحل عني هوى ذا الهاجر الداني.

وانظر إلى خلتي، يا مشتكى حزني، ... بنظرة منك تجلو كل أحزاني.

فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمدا، وكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي عليها، فيقال له: مم بكاؤك، وأنت قد أيستها؟ فيقول: إني ذقت طعمها مني في أول أمرها وجعلت قطعها ذخيرة لي عند الله، عز وجل، وإني لأستحيي من الله، عز وجل، ؟ أن أسترد ذخيرة ذخرتها عنده.

قال لنا الشيخ أبو القاسم الأزجي، رحمه الله: ووجدت في نسخة زيادة مسموعة عن الزينبي شيخنا، رحمه الله، قال: ثم إن الجارية لم تلبث أن بليت ببلية في جسمها، فكان الطبيب يقطع من لحمها أرطالا لأنه قد عرف حديثها مع الفتى، فكان إذا أراد أن يقطع لحمها يحدثها بحديث الفتى فما كانت تجد لقطع لحمها ألما ولا كانت تتأوه، فإذا سكت عن ذكره تأوهت. قال: فلم تزل كذلك حتى ماتت كمدا.

خارب بيته

أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي إجازة وحدثني أحمد بن ثابت الحافظ عنه قال: أنشدني أبو عبد الله بن الحجاج لنفسه:

يا سيدي! عبدك لم تقتله؟ ... رأيت من يفعل ما تفعله؟

نزلت في قلبي، فيا سيدي ... لم تخرب البيت الذي تنزله؟

آه من البين

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام سنة ست وأربعين وأربعمائة على باب الندوة بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد بن علي الزنجاني الصوفي بأسفرايين يقول: سمعت عبد العزيز بن سعيد المنجوري يقول: سمعت سهلان القاضي يقول: بينا أنا مار في طرقات جبل شورى، وقد مرت علي قافلة عظيمة، إذا نحن بشاب على الطريق ذاهب العقل، مدهوش، عريان وبين يديه خلقان ممزقات فقال لي: أين رأيت القافلة؟ قلت: في موضع كذا.

قال: آه من البين! آه من البين! آه من دواعي الحين! فقلت: وما دهاك؟ فقال:

شيعتهم من حيث لم يعلموا، ... ورحت، والقلب بهم مغرم.

سألتهم تسليمة منهم ... علي، إذ بانوا، فما سلموا.

ساروا، ولم يرثوا لمستهتر، ... ولم يبالوا قلب من تيموا.

واستحسنوا ظلمي، فمن أجلهم ... أحب قلبي كل من يظلم.

وفاء زوجة

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن خلف قال: أخبرني أبو بكر العامري عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: تزوج مالك بن عمرو الغساني بابنة عم النعمان بن بشير فشغف كل واحد منهما بصاحبه، وكان مالك شجاعا، فاشترطت عليه أن لا يقاتل إذا لقي، شفقة عليه وضنا به، وإنه غزا حيا من لخم، فباشر القتال، فأصابته جراح فقال، وهو مثقل منها:

ألا ليت شعري عن غزال تركته، ... إذا ما أتاه مصرعي كيف يصنع؟.

فلو أنني كنت المؤخر بعده، ... لما برحت نفسي عليه تطلع.

وإنه مكث يوما وليلة ثم مات من جراحه، فلما وصل خبره إلى زوجته بكته سنة، ثم اعتقل لسانها فامتنعت من الكلام، وكثر خطابها، فقال عمومتها وولاة أمرها: نزوجها لعل لسانها ينطلق، ويذهب حزنها، فإنما هي من النساء، فزوجوها بعض أبناء الملوك فساق إليها ألف بعير، فلما كان في الليلة التي أهديت إليه فيها قامت على باب القبة ثم قالت:

يقول رجال: زوجوها لعلها ... تقر، وترضى بعده بخليل.

فأخفيت في النفس التي ليس بعدها ... رجاء لهم، والصدق أفضل قيل.

وحدثني أصحابه أن مالكا ... أقام، ونادى صحبه برحيل.

وحدثني أصحابه أن مالكا ... ضروب بنصل السيف غير نكول.

وحدثني أصحابه أن مالكا ... خفيف على الأحداث غير ثقيل.

وحدثني أصحابه أن مالكا ... صروم كماضي الشفرتين صقيل.

وأخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرنا أبو بكر العامري قال: حدثني عمرو بن محمد العبقري قال: أخبرني شيخ أثق به، وذكر الحديث، وزاد فيه: فلما فرغت من الشعر شهقت شهقة فماتت.

جميل والبنات العذريات

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن خلف.

قال: أخبرني أبو بكر قال: أخبرنا المدايني قال: قال هشام بن محمد سمعت رجلا من بني عذرة يحدث قال: لما علق جميل بثينة وجعل ينسب بها استعدى عليه أهلها ربعي بن دجاجة، وهو يومئذ أمير تيماء، قال: فخرج جميل هاربا حتى انتهى إلى رجل من عذرة، بأقصى بلادهم، وكان سيدا، فاستجار به، وكان للرجل سبع بنات، فلما رأى جميلا رغب فيه، وأراد أن يزوجه ليسلو عن بثينة، فقال لبناته: البسن أحسن ثيابكن وتحلين بأحسن حليكن، وتعرضن له، فلعل عينه أن تقع على إحداكن فأزوجه.

قال: وكان جميل: إذا أراد الحاجة، أبعد في المذهب، فإذا أقبل رفعن جانب الخباء، فإذا رآهن صرف وجهه، قال: ففعلن ذلك مرارا، فعرف جميل م أراد به الشيخ، فأنشأ يقول:

حلفت لكيما تعلميني صادقا، ... وللصدق خير في الأمور وأنجح.

لتكليم يوم واحد من بثينة ... ورؤيتها عندي ألذ وأملح.

من الدهر لو أخلو بكن، وإنما ... أعالج قلبا طامحا حيث يطمح.

فقال الشيخ: أرخين عليكن الخباء، فوالله لا يفلح هذا أبدا .

حبذا ذاك الظلوم

أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون قال: قرأ على أبي بكر بن الأنباري، وأنا أسمع، للمؤمل:

أقاتلتي هند، وقتلي محرم، ... أما فيكم يا أيها الناس مسلم.

يظلمها في ما تريد بعاشق، ... ألا حبذا ذاك الظلوم المظلم.

لقد زعموا لي أنها نذرت دمي، ... وما لي بحمد الله لحم ولا دم.

برى حبها لحمي، ولم يبق لي دما، ... وإن زعمت أني صحيح مسلم.

ستقتل جلدا باليا فوق أعظم، ... وليس يبالي القتل جلد وأعظم.

فلم أر مثل الحب صح قرينه، ... ولا مثل من لم يدر ما الحب يسقم.

أآذنة لي أنت في ذكر حاجة، ... ألا طالما قد كنت عنها أجمجم.

غدرتم، ولم نغدر، وقلتم: غدرتم، ... تظنون أنا منكم نتعلم.

قطعنا، زعمتم، والقطيعة منكم، ... زعمنا، وأنتم تزعمون ونزعم.

فإن شئتم كان اجتماعا، فقلتم ... وقلنا، فإن القول للقول سلم.

وإلا فإنا قد رضينا بحكمكم ... على كل حال فاتقوا الله واحكموا.

فوالله ما أجرمت جرما علمته، ... فإن سركم جرمي، فها أنا مجرم.

وعاقبتموني في السلام عليكم، ... ولم يك لي ذنب سوى ذاك يعلم.

فإن تمنعوا مني السلام، فإنني ... لغاد على حيطانكم فمسلم.

الظريفة العاشقة

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي في ما أذن لنا أن نرويه عنه قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه.

قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله السرخسي قال: حدثني عباس بن عبيد قال:

كان بالمدينة جارية ظريفة حاذقة بالغناء، فهويت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها، فملها الفتى وتزايدت هي في محبته وأسفت، فغارت، فولهت وجعل مولاها لا يعبأ بذلك ولا يرق لشكواها، وتفاقم الأمر بها حتى هامت على وجهها، ومزقت ثيابها، وضربت من لقيها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها فلم ينجع فيها العلاج، وكانت تدور بالليل في السكك مع الأدب والظرف. قال: فلقيها مولاها ذات يوم في الطريق، ومعه أصحاب له، فجعلت تبكي وتقول:

الحب أول ما يكون لجاجة، ... يأتي به وتسوقه الأقدار.

حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى، ... جاءت أمور، لا تطاق، كبار

قال: فما بقي أحد إلا رحمها، فقال لها مولاها: يا فلانة امضي معنا إلى البيت، فأبت وقالت:

شغل الحلي أهله أن يعارا.

قال: وذكر بعض من رآها ليلة، وقد لقيتها مجنونة أخرى، فقالت لها: فلانة! كيف أنت؟ فقالت: كما لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحبك؟ قالت: على ما لم يزل يتزايد بي على مر الأيام.

قالت لها: تغني بصوت من أصواتك فإني قريبة الشبه بك. فأخذت قصبة توقع بها وغنت:

يا من شكا ألما للحب شبهه ... بالنار في القلب من حزن وتذكار.

إني لأعظم ما بي أن أشبهه ... شيئا يقاس إلى مثل ومقدار.

لو أن قلبي في نار لأحرقها، ... لأن أحزانه أذكى من النار.

ثم مضت.

عليان المجنون

حدثنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد الجرادي الكاتب قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال: حدثني عبيد الله بن الزعفراني المحدث عمن حدثه قال: مر بي عليان المجنون البصري في بعض الأيام، فقلت: يا أبا الحسين، قف علينا! فقال: أنت شبعان وعليان جائع يريد أن يأكل شيئا، فدعوت له بما يأكل، وهو يسمع، فرجع، فلما أكل تنفس الصعداء وأنشأ يقول:

وذي نفس صاعد، ... يئن بلا عائد.

تبرم عواده ... بذي السقم الزائد.

وذي سهرة قد جفا ... كل أخ راقد.

يكر على عسكر، ... ويضعف عن واحد.

ومضى، فقلت لغلامي: رده وارفق به! فرده، فقلت: زدني! فقال: الذي أعطيتني لا يساوي أكثر مما أعطيتك. فقلت للغلام: اسقه قدحا، فوقف، فلما شربه قال:

وكنت إذا رأيت فتى يبكي ... على شجن ضحكت إذا خلوت.

فأحسبني أدال الله مني، ... فصرت إذا سمعت به بكيت.

فشغلت بخط ما أنشدنيه ومضى.

عاشق يموت كتمانا

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن العلاف الواعظ، رحمه الله، بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين قال: حدثنا جعفر بن محمد الصوفي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا زكريا بن إسحاق قال: سمعت مالك بن سعيد يقول: حدثني مشيخة من خزاعة أنه كان عندهم بالطائف جارية متعبدة ذات يسار وورع، وكانت لها أم أشد عبادة منها، وكانت مشهورة بالعبادة، وكانتا قليلتي المخالطة للناس، وكانت لهما بضاعة مع رجل من أهل الطائف، فكان يبضعها لهما، فما رزقهن الله من شيء أتاهن به.

قال: وبعث يوما ابنه، وكان فتى جميلا مسرفا على نفسه، إليهن ببعض حوائجهن، فقرع الباب، فقالت أمها: من هذا؟ قال: أنا ابن فلان. قالت: ادخل! فدخل وابنتها في بيت، ولم تعلم بدخول الفتى، فلما قعد معها خرجت ابنتها، وهي تظن أنها بعض نسائهن حتى جلست بين يديه، فلما نظرت إليه قامت مبادرة فخرجت، ونظر إليها فإذا هي من أجمل العرب.

قال: ووقع حبها في قلبه. فخرج من عندها، وما يدري أين يسلك، فأتى أباه، فأخبره برسالتهن، وجعل الفتى ينحل ويذوب جسمه، وتغير عما كان عليه، ولزم الوحدة والفكر، وجعل الناس يظنون أن الذي به من عبادة قد لزمها، حتى سقط على فراشه.

فلما رآه أبوه على تلك الحال دعا له الأطباء والمعالجين، فجعلوا ينظرون إليه، فكل يصف به دواء، ويقول: به داء لا يقوله صاحبه، والفتى مع ذلك ساكت لا يتكلم، حتى إذا طالت علته واشتد عليه الأمر دعا أبوه فتيانا من الحي، وإخوانه الذين كانوا له أنسا، فقال لهم: اخلوا به وسلوه عن علته لعله يخبركم ببعض ما يجده، فأتوه فكلموه وسألوه، فقال: والله ما بي علة أعرفها فأبينها لكم، وأخبركم بما أجد منها، فأقلوا الكلام.

وكان الفتى فطنا ذا عقل، فلما طال به الوجد دعا امرأة من بعض أهله فخلا بها، وقال: إني ملق إليك حديثا ما ألقيته إليك إلا عند الإياس من نفسي، فإن ضمنت لي كتمانه أخبرتك وإلا صبرت حتى يحكم الله في أمري ما يحب، وبعد، فوالله ما أخبرت به أحدا قبلك، ولئن كتمت علي لا أخبر به أحدا بعدك، وإن هذا البلاء الذي أرى بي لا شك قاتلي وإنه يجب علي في محبتي له أن أكون لمن أحب صائنا وعليه مشفقا من تزيد الناس وإكثارهم حتى يصير الصغير كبيرا، والكبير عندهم الباقي ذكره أبدا، الله الله في أمري، واجعليه محرزا في صدرك فإن فعلت فلك حسن المكافأة، وإن أبيت فالله يحسن لك الشكر.

فقالت له المرأة: قل يا بني ما بدا لك، فوالله ما أجد في الدنيا أحدا أحب بقاءه غيرك، وكيف لي أن يكون عندي بعض دوائك، فوالله لأكتمن أمرك ما بقيت أيام الدنيا. فقال لها: إن من قصتي كذا وكذا! فقالت له: يا بني أفلا أخبرتنا، فوالله ما رأيت كلمة أسكن بمجامع القلب فلا تفارقه أبدا، من كلمة: محب عاشق أخبر من يحبه أنه له وامق، فتلك الكلمة تزرع في قلوب ذوي الألباب شجرا لا تدرك أصوله. فقال لها: ومن لي بها، وكيف السبيل إليها وقد بلغك حالها وقصتها وشدة اجتهادها وعبادتها؟ قالت له: يا بني علي أن آتيك بما تسر به.

قال: فلبست ثوبها وأتت منزل الجارية، فدخلت فسلمت على أمها وحادثتها ساعة. فسألتها أمها عن حاله وعن وجعه، فقالت: والله لقد رأيت الأوجاع والآلام، فما رأيت وجعا قط كوجعه، وإن وجعه يزيد في كل يوم، وألمه يترقى، وهو في ذلك صابر غير شاك لا يفقد من جوارحه شيئا، ولا من عقله. فقالت أمها: أفلا تدعون له الأطباء؟ قالت: بلى، والله فما وقع أحد منهم على دائه، ولا يفقه دواءه.

ثم قامت فدخلت على الجارية في بيتها الذي كانت تتعبد فيه، فسلمت عليها، وحادثتها ساعة، وقد كان وقع إلى الجارية خبره، فعلمت أن ذلك من أجلها، فقالت لها المرأة: يا بنية أبليت شبابك وأفنيت أيامك على هذه الحال التي أنت عليها. قالت: يا عمتاه أية حال سوء تريني عليها قالت لا يا بنية ولكن مثلك يفرح في الدنيا ويلذ فيها ببعض ما أحل الله عز وجل لك، غير تاركة لطاعة ربك ولا مفارقة لخدمته، فيجمع الله لك بذلك الدارين جميعا، فوالله ما حرم الله، عز وجل، على عباده ما أحل لهم.

فقالت: يا عمتاه، أو هذه الدار دار بقاء لا انقطاع لها ولا فناء فتكون الجوارح قد وثقت بذلك، فتجعل لله تعالى منظر هممها، وللدنيا شطرها، فتعد الجوارح إذا التعب راحة والكد سلامة، أم هذه الدار دار فناء وتلك دار بقاء ومكافأة، والعمل على حسب ذلك.

قالت: يا بنية لا! ولكن الدنيا دار فناء وانقطاع وليست بباقية على أحد، ولا دائمة له، ولكن قد جعل الله تعالى لعباده فيها ساعات صدقة منه على النفوس، تنال فيها ما أحل لها من مخافة الشدة عليها.

فقالت الجارية: صدقت يا عمتاه، ولكن لله عباد قد علموا وصح في هممهم شيء من ذخر ذخروه عنده، فجعلوا هذا الشكر الذي جعله ذخيرة عنده، إذ لم تكن الدنيا كاملة لهم، ولا هم متنقصون شيئا قدموه لأنفسهم، وسكنت نفوسهم ورضيت منهم بالصبر على الطاعة لتنال جملة الكرامة، وإن كلامك ليدلني على أن تحته علة، وهو الذي حملك على مناظرتك لي على مثل هذا، وقد كنت أظن قبل اليوم فيك أنك تأمرين بالحرص على طاعة الله، عز وجل، والخدمة له، والتقرب إليه بالأعمال الزكية التي تبلغ رضاه وترفع عنده فقد أصبحت متغيرة عن ذلك العهد الذي كنت أعهدك عليه، فأخبريني بما عندك وأوضحي لي ما في نفسك، فإن يكن لك جواب أعتبتك، وإن يكن فيه حظ تابعتك، وإن يكن أمرا بعيدا من الله تعالى وعظتك.

قالت: يا بنية فأنا مخبرتك به، والذي منعني من إلقائه إليك هيبتك، إذ بسطتني وعلمت أن عندي خيرا وأمرتني بإلقائه، فإن من قصة فلان كذا وكذا.

قالت: قد ظننت ذلك فأبلغيه مني السلام، وقولي: أي أخاه! إني والله قد وهبت نفسي لمليك يكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويعين من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع بعد الهبة سبيل، فتوسل إلى مولاك ومولاي بمحابه، واضرع إليه في غفران ما قدمت يداك من عمل لم يهبه فيه، ولم يرضه، فهو أول ما يجب عليك أن تسأله، وأول ما يجب علي أن أعظك به، فإذا خدمته بقدر ما عصيته طاب لك الفراغ من سؤال شهوات القلوب وخطرات الصدور، فإنه لا يحسن بعبد كان لمولاه عاصيا وعن أمره موليا ناسيا لأن ينسي ذنوبه والاعتذار منها، ويلزم نفسه مسألة الحوائج لعلها داعية له إلى الفتنة إن لم يتداركه الله تعالى بكرمه، فاستنفذ نفسك يا أخي من مهلكات الذنوب، فإن له فضلا وسع كل شيء، ولست مؤيستك من فضله إن رآك متبتلا إليه ومما قدمت يداك معتذرا أن يمن بي عليك، فإنه الملك الذي يجود على من ولى عنه بكرمه، فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من ولى عنه، يكون لمن أطاعه مكرما وإليه وقت الندامة مسرعا، وما أبقيت لك حجة تحتج بها، فليكن ما أخبرتك به نصب عينك ولا ترادني في المسألة، فلا أجيبك والسلام.

قال: فقامت المرأة من عندها، فأتته، فأخبرته بمقالتها. قال: فبكى بكاء شديدا، فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت امرأة خوف الله، عز وجل، في صدرها، مثل هذه المرأة فاعمل بما أمرتك به، فقد، والله، بالغت في النصيحة، وأحسنت الموعظة، فلا تلق نفسك في مهلكات الأمور، فتندم حيث لا تغني الندامة، ولو علمت يا بني أن حيلة تنفذ غير الذي دعتك إليه لاحتلتها، ولكان عندي من ذلك ما أرجو أن محتالة، ولكني رأيت الله، عز وجل،قد جعلته نصب عينيها، فهي إليه ناظرة ومن جعل الله عز وجل نصب عينيه لها عن زينة الحياة الدنيا، ورفعتها، واشتغل بما قد جعله نصب عينيه.

وجعل يبكي ويقول: كيف لي بالبلوغ إلى ما دعت إليه ومتى يكون آخر المدة التي نلتقي فيها؟ قال: فاشتد وجعه ذلك، وحال عن ذوي العقول، فلما نظر القوم إليه في تلك الحال، وجعل لا يقره قرار، حبسوه في بيت، وأوثقوه، وتوهم القوم أن الذي به من عشق، فكان ربما أفلت، فيخرج من منزله فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له: مت عشقا، مت عشقا! فكان يقول:

أأفشي إليكم بعض ما قد يهيجني ... أم الصبر أولى بالفتى عند ما يلقى.

أأوعد وعدا ما له، الدهر، آخر ... وأومر بالتقوى، ومن لي بالتقوى.

سلام على من لا أسميه باسمه ... ولو صرت مثل الطير في قفص يلقى.

ألا أيها الصبيان لو ذقتم الهوى ... لأيقنتم أني محدثكم حقا.

أحبكم من حبها، وأراكم ... تقولون لي: مت يا شجاع بها عشقا.

فلم تنصفوني، لا، ولا هي أنصفت ... فرفقا رويدا، ويحكم بالفتى رفقا.

فلما صح ذلك عند أهله وعلموا أنه عاشق جعلوا يسألونه عن أمره، فكان لا يجيبهم، وكتمت العجوز قصته، فأخذوه فحبسوه في بيت فلم يزل فيه حتى مات، رحمه الله.

جفني كأس ودمعي الراح

ولي من أبيات من أثناء القصيدة:

صرعتنا ألحاظ غزلان يبري ... ن كأن اللحاظ منها رماح.

من ظباء في كل جارحة من ... ا لألحاظهن يلقى جراح.

استحلوا من قتلنا كل محظو ... ر وما قتل عاشقين مباح.

يا نديمي إليك بالكأس عني، ... إن جفني كأسي ودمعي الراح.

رأي سقراط في العشق

أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: قال سقراط: العشق جنون، وهو ألوان، كما أن الجنون ألوان.

لا أنت تدري بي ولا أدري

أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي قال: أنشدنا أبو عمر بن العباس قال: أنشدنا أبو عبد الله بن عرفة لبعضهم:

ينظر في عمري فإن كان في ... عمرك نقص زيد من عمري.

حتى نوافي البعث في ساعة ... لا أنت تدري بي ولا أدري.

أخاف أن أطفأ، فيدعوك من ... يهواك من بعدي إلى غدري.

شكوى المحبين

ولي ابتداء قصيدة كتبت بها من دمشق إلى الشيخ الفقير أبي الحسن مروان بن عثمان النحوي الإسكندراني، وهو بصور:

وحق مصارع أهل الهوى ... لروعة صوت غراب النوى.

وشكوى المحبين يوم الفرا ... ق ما في قلوبهم من جوى.

وقد لف أعناقهم موقف ... وقد رفع البين فيهم لوا.

عشية أجروا عيون العيو ... ن بين العقيق وبين اللوى.

دموعا كثرن فلو أنه ... أتاهن وفد منى لارتوى.

لقد أتمنى زمانا يضم ... بك الشمل وهو لقلبي هوى.

مجنون المربد

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن إجازة قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر خلف قال: حدثني محمد بن الفضل قال: حدثني بعض أهل الأدب عن محمد بن أبي نصر الأزدي قال: رأيت بالبصرة مجنونا قاعدا على ظهر الطريق بالمربد، فكلما مر به ركب قال:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا، فقد أمسى هوانا يمانيا.

نسائلكم: هل سال نعمان بعدنا ... فحب إلينا بطن نعمان واديا.

قال: فسألت عنه فقيل: هذا رجل من أهل البصرة، كانت له ابنة عم، وكان يحبها فتزوجها رجل من أهل الطائف فنقلها، فتوله عليها.

إبراهيم بن المهدي والشعر

كتب إلي أبو غالب بن بشران من واسط قال: أخبرنا ابن دينار قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني الحسين بن إسحاق قال: حدثني خالد قال: لما بويع لإبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني، وقد كان يعرفني وقد كنت متصلا ببعض أسبابه، فأدخلت إليه فقال: أنشدني يا خالد شيئا من شعرك! فقلت: يا أمير المؤمنين ليس من الشعر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكما، وإنما أمزح وأهزل. قال: لا تقل هذا! هات أنشدني، فأنشدته:

عش فحبيك سريعا قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي.

ظفر الشوق بقلب دنف ... فيك والسقم بجسم ناحل.

فهما بين اكتئاب وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل.

قال: فاستملح ذلك ووصلني.

راكب القصبة

أخبرنا أبو غالب بن بشران في ما كتب به إلينا قال: أخبرنا ابن دينار قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني قال: حدثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر قال: دخلت بغداد في بعض السنين، فبينا أنا مار في الجنينة إذا أنا مار برجل عليه مبطنة نظيفة، وعلى رأسه قلنسوة سوداء، وهو راكب قصبة والصبيان يصيحون خلفه: يا خالد، يا بارد! فإذا أذوه حمل بالقصبة عليهم، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستانا هناك، فجلس واستراح، واشتريت له رطبا فأكل. واستنشدته فأنشدني:

قد حاز قلبي فصار يملكه ... فكيف أسلو وكيف أتركه.

رطيب جسم كالماء تحسبه ... يخطر في القلب منه مسلكه.

يكاد يجري من القميص من النع ... مة لولا القميص يمسكه.

فاستزدته، فقال: ولا حرف.

الأمين وحبه للشعر

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي، رحمه الله، في ما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا العباس بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أبو نصر محمد بن موسى الطوسي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد أبو هفان قال: حدثني أبو نواس قال: دخلت على الأمين أمير المؤمنين، وهو قاعد في قبة له، ومعه جارية لم أر قط أحسن منها. قال: وإذا على جبين الجارية مكتوب بالغالية مما عمل في طار: الله، وعلى رأسها إكليل وفي حجرها عود، وإذا على الإكليل مكتوب:

والله يا طرفي الجاني على كبدي ... لأطفئن بدمعي لوعة الحزن.

بالله تطمع أن أبلى هوى وجوى ... وأنت تلتذ طيب العيش والوسن.

وإذا على العود مكتوب:

يا أيها الزاعم الذي زعما ... أن الهوى ليس يورث السقما.

لو أن ما بي بك الغداة لما ... لمت محبا إذا شكا ألما.

قال: وبين أيديهما صينية ذهب. قال: وإذا على الصينية مكتوب:

لا شيء أحسن من أيام مجلسنا ... إذ نجعل الرسل في ما بيننا الحدقا.

وإذا حواجبنا تقضي حوائجنا ... وشكلنا في الهوى نلقاه متفقا.

ليت الوشاة بنا والحاسدين لنا ... في لجة البحر ماتوا كلهم غرقا.

أو ليت من عابنا أو ذم مجلسنا ... شبت عليه ضرام النار فاحترقا.

وإذا على المغسل مكتوب:

لو كان يدري مالك ما الذي ... ألقى من الأحزان والكرب.

وما ألاقي من أليم الهوى ... عذب أهل النار بالحب.

قال فملأ الكأس وأعطاني، وإذا على الكأس مكتوب:

الحمد لله على ما قضى ... قد كان ذا في القدر السابق.

ما تحمل الأرض على ظهرها ... أشقى ولا أوثق من عاشق.

فبينما يمشي على مرمر ... إذا به يسقط من حالق.

قال: فشربت الكأس وناولته، فحياني بتفاحة وأترجة، وإذا على التفاحة مكتوب بالذهب:

تفاحة تأكل تفاحة، ... يا ليتني كنت التي تؤكل.

فألثم الثغر، إذا عضني ... بعلة الأكل، ولا أؤكل.

قال وإذا على الأترجة مكتوب:

يا لك أترجة مطيبة ... توقد نار الهوى على كبدي.

لو أن أترجة بكت لبكت ... لرحمتي هذه التي بيدي.

هوى الملاح بلاء

ولي من غزل قصيدة مدحت بها أحد بني منقذ:

أيها الراحلون من بطن خبت، ... فركاب النوى بهم تترامى.

إن أتيتم وادي الأراك فأهدوا ... لسليمى تحيتي والسلاما.

واطلبوا لي قلبي وآيته أن ... تجدوا فيه من هواها سهاما.

وردوا ماء ناظري عوض الغد ... ران وارعوا بين الحشا لا الخزاما.

ولي أيضا قصيدة:

كفي ملامك عنه والعذلا، ... قد ضاق ذرعا بالذي حملا.

ودعي مدامعه تسح وإن ... لم تطف من نار الهوى شعلا.

وذريه يرفل في غلائل من ... نسج الغليل يجرها وملا.

يا أخت كندة! رفهي كمدا ... شربت مفاصله الهوى نهلا.

لو كنت شاهدة مواقفنا، ... والبين يضحك بيننا جذلا.

والدمع قد سال الكثيب به ... حتى لكاد يسيل المقلا.

لرثيت للعشاق راحمة، ... وعلمت أن هوى الملاح بلا.

حجر من أرض لوط

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي قراءة عليه قال: أخبرنا علي بن جعفر السيرواني الصوفي بمكة قال: سمعت المواريني يقول، قال لي رجل من الحاج: مررت بديار قوم لوط وأخذت حجرا مما رجموا به، وطرحته في مخلاة، ودخلت مصر، فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في أسفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي، ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان في أسفل الدار صبيا إليه، واجتمع معه فسقط الحجر على الحدث من الروزنة فقتله.

فاسق لم يغفر له

أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكي بقراءتي عليه بمصر قال: أخبرنا جدي أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زريق قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجا إلى مكة فلما صرنا كان ليلة عرفات رأى الإمام الذي حج بنا تلك الليلة بمنى مناما، فلما صرنا بعد الحج إلى مكة بعد انقضاء الحج، بتنا تلك الليالي في المسجد الحرام، والخلائق جلوس، إذ سمعنا مناديا ينادي فوق الحجر: أنصتوا، يا معشر أهل الحجيج، فأنصتوا، ثم قال: يا معشر أهل الحجيج: إن إمامكم رأى أن الله، عز وجل، قد غفر لكل من وافى العام البيت إلا رجلا واحدا فإنه فسق بغلام.

امرأة صاحب المسحاة والملك

أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه في ذي القعدة، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري قال: حدثنا أبو عبد الله بن عرفة قال: حدثني محمد بن موسى السامس قال: حدثنا روح بن أسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن سلمان قال: كان في بني إسرائيل امرأة ذات جمال، وكانت عند رجل يعمل بالمسحاة، فكان إذا جاء بالليل قدمت له طعامه، وفرشت له فراشه، فبلغ خبرها ملك ذلك العصر، فبعث إليها عجوزا من بني إسرائيل، فقالت لها: ما تصنعين بهذا الذي يعمل بالمسحاة! لو كنت عند الملك لكساك الحرير، وفرشك الديباج، فلما وقع الكلام في مسامعها جاء زوجها بالليل، فلم تقدم له طعامه، ولم تفرش له فراشه، فقال لها: ما هذا الخلق يا هنتاه! فقالت: هو ما ترى. فقال: أطلقك؟ قالت: نعم، فطلقها. فتزوجها ذلك الملك، فلما زفت إليه نظر إليها فعمي، ومد يده إليها فجفت. فرفع نبي ذلك العصر خبرهما إلى الله، عز وجل، فأوحى الله تعالى إليه: أعلمهما أني غير غافر لهما، أما علما أن بعيني ما عملا بصاحب المسحاة؟

يقتل جاريته بريبة

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: حدثنا الحسين بن القاسم قال: حدثنا عبيد الله بن خرداذبة قال: أخبرني موسى بن المأمون قال: كان فروح الزناء يعشق جارية بالمدينة يقال لها رهبة ثم اشتراها فقال:

يا رهب لم يبق لي شيء أسر به ... غير الجلوس، فتسقيني وأسقيك.

وتمزجين بريق منك لي قدحا، ... وتشتفي بكم نفسي وأشفيك.

يا رهب ما مسني شيء أغم به ... إلا تفرج عني حين آتيك.

قال ثم عثر على ريبة بينها وبين جارية له، فقتلها، فقال ابن الخياط المديني:

تنجد واستشرى على قتل كاعب، ... كأن فضاض المسك منها التنفس.

فمالت على الكفين خود غريرة، ... كما بات بين الراح والصهب نرجس.

قتيل لا يودى

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثني أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري قال: حدثنا عمي قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان قال: حدثني ابن شهاب أن القاسم بن محمد أخبره أن رجلا ضاف ناسا من هذيل، فخرجت لهم جارية، واتبعها ذلك الرجل، فأرادها على نفسها فتعافسا في الرمل، فرمته بحجر، ففضت كبده، فبلغ ذلك عمر، رحمه الله، فقال: ذاك قتيل الله لا يودى أبدا.

يقتلها ويبكي عليها

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف القاضي قال: حدثني أبو عبد الله اليمامي عن العتبي عن أبيه قال:

كان رجل من العرب تحته ابنة عم له، وكان لها عاشقا، وكانت امرأة جميلة، وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه، ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها، ثم يرجع إلى أصحابه عشقا لها، فطبن لها ابن عم لها، فاكترى دارا إلى جنبه، ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد، فاحتالت، فنزلت إليه، ودخل الزوج كعادته لينظر إليها، فلم يرها، فقال لامرأة: أين فلانة؟ قالت: تقضي حاجة، فطلبها في الموضع، فلم يجدها، فإذا هي قد نزلت، وهو ينظر إليها، فقال لها: ما وراءك؟ فوالله لتصدقني. قالت: والله لأصدقنك، من الأمر كيت وكيت، فأقرت له، فسل السيف فضرب عنقها، وقتل أمها، وهرب وأنشأ يقول:

يا طلعة طلع الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الردى بيديها.

رويت من دمها الثرى، ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها.

حكمت سيفي في مجال خناقها، ... ومدامعي تجري على خديها.

ما كان قتليها لأني لم أكن ... أخشى إذا سقط الغبار عليها.

لكن بخلت على العيون بحسنها، ... وأنفت من نظر العيون إليها.

قال: وزادني غير أبي عبد الله: وكان لها أخت شاعرة فقالت تجيبه:

لو كنت تشفق أو ترق عليها ... لرفعت حد السيف عن ودجيها.

ورحمت عبرتها وطول حنينها، ... وجزعت من سوء يصير إليها.

من كان يفعل ما فعلت بمثلها، ... إذ طاوعتك، وخالفت أبويها.

فتركتها في خدرها مقتولة، ... ظلما، وتبكي، يا شقي، عليها.

ظبيات لهن أسرى وقتلى

ولي ابتداء قصيدة:

بين باب ابرزوا ونهر المعلى ... ظبيات لهن أسرى وقتلى.

فاتكات حللن، يوم التقينا، ... من دمي بالإعراض ما ليس حلا.

هجروا مع تصاقب الدار، واست ... ل هواهم من جسمي الروح سلا.

وأبوا أن يسامحوا بحبال ... ربما نفس الهموم وسلا.

فعليهم، مع الصبى والتصابي ... من سلامي، ما دق منه وجلا.

إهدار دم الفاسق

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا أبو الحسين بن بيان الزبيبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا أبو المليح عن الزهري قال: كان رجل يهوى امرأة، فأرادها، فأغلقت الباب دونه، فأدخل الرجل رأسه من إسكفة الباب، فأخذت المرأة حجرا أو خشبة، فضربت رأسه فدمغته، فرفع ذلك إلى عبد الملك بن مروان فقال: به لا بظبي، وأهدر دمه.

عمر وابن الشيخ الأنصاري

أخبرنا أبو طاهر بن السواق قال: حدثنا محمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: قال عمر بن الخطاب: لا أهدر دم أحد من المسلمين. وإنه أتي يوما بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق. فسأل عمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر، ولم يعرف له قاتل. فشق ذلك عليه، وقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك وجد صبي مولود ملقى بموضع القتيل، فأتي به عمر، رحمة الله عليه، فقال: ظفرت بدم المقتول، إن شاء الله، فدفع الصبي إلى امرأة وقال لها: قومي بشأنه، وخذي منا نفقته، وانظري من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها، فأعلميني بمكانها.

فلما شب الصبي، وطاب، جاءت جارية فقالت للمرأة: إن سيدتي بعثتني إليك، لتبعثي بالصبي لتراه، والمرأة معها، حتى دخلت على سيدتها، فلما رأته أخذته فقبلته وضمته إليها، وإذا هي بنت شيخ من الأنصار من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرت عمر خبر المرأة، فاشتمل عمر على سيفه، ثم أقبل إلى منزلها، فوجد أباها متكئا على باب داره فقال: يا أبا فلان! ما فعلت ابنتك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين جزاها الله خيرا، هي من أعرف الناس بحق الله تعالى، وحق أبيها، مع حسن صلاتها وصيامها، والقيام بدينها. فقال عمر: قد أحببت أن أدخل عليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثها على ذلك. فقال الشيخ: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين! فقال له: امكث مكانك حتى أرجع إليك.

فاستأذن عمر عليها، فلما دخل أمر عمر كل من كان عندها بالخروج، فخرجوا عنها، وبقيت هي وعمر في البيت ليس معهما أحد، فكشف عمر عن السيف فقال: لتصدقني، وكان عمر لا يكذب، فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، على الخبير وقعت، فوالله لأصدقن: إن عجوزا كانت تدخل علي، فاتخذتها أما، وكانت تقوم من أمري بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضت بذلك حينا، ثم إنها قالت: يا بينة إنه قد عرض لي سفر، ولي بنت في موضع أتخوف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك، حتى أرجع من سفري، فعمدت إلى ابن، كان لها، شاب أمرد فهيأته كهيأة الجارية، وأتتني به، وأنا لا أشك أنه جارية، فكان يرى مني ما ترى الجارية من الجارية، حتى اغتفلني يوما وأنا نائمة، فما شعرت حتى علاني وخالطني، فمددت يدي إلى شفرة كانت إلى جنبي فقتلته، ثم أمرت به فألقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي، فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه، فهذا والله خبرهما على ما أعلمتك.

فقال لها عمر، رحمة الله عليه: صدقت بارك الله فيك! ثم أوصاها ووعظها، ودعا لها، وخرج من عندها، وقال لأبيها: بارك الله في ابنتك، فنعم الابنة ابنتك، وقد وعظتها وأمرتها. فقال له الشيخ: وصلك الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيرا عن رعيتك!.

سوسن العابدة ومراوداها

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا ابن فارس قال: حدثنا الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني أحمد بن زهير قال: قال غيلان: حدثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم عن أبي إدريس الأودي قال: كان رجلان في بني إسرائيل عابدان وكانت جارية يقال لها سوسن، عابدة، وكانوا يأتون بستانا فيتقربون فيه بقربان لهم، فهوي العابدان سوسن فكتم كل واحد منهما عن صاحبه، واختبأ كل واحد منهما خلف شجرة ينظران إليها، فبصر كل واحد منهما بصاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: ما يقيمك ههنا؟ فأفشى كل واحد منهما إلى صاحبه حب سوسن، فاتفقا على أن يراوداها عن نفسها، فلما جاءت لتقرب قالا لها: قد عرفت طواعية بني إسرائيل بني إسرائيل لنا، فإن لم تؤاتينا قلنا، أصبحنا: إنا أصبنا معك رجلا، وإن الرجل فاتنا، وإنا أخذناك، فقالت لهما: ما كنت لأطيعكما، فأخذاها، وأخرجاها، وقالا: أخذنا سوسن مع رجل، وإن الرجل سبقنا وذهب، فأقاموا سوسن على المصطبة، فكانوا يقيمون المذنب ثلاثة أيام، فتنزل نار من السماء، فتأخذه، فأقاموا سوسن، فلما كان اليوم الثالث جاء دانيال، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فوضعوا له كرسيا، فجلس عليه، وقال: قدموهما إلي! فجاءا كالمستهزئين، فقال: فرقوا بين الشاهدين! قال لأحدهما: خلف أي شجرة رأيتها؟ فقال: وراء تفاحة، وقال للآخر: خلف أي شجرة رأيتها؟ فاختلفا، فنزلت نار من السماء، فأحرقتهما، وأفلتت سوسن.

قال أبو بكر: وفي خبر آخر أنها وقفت لترجم فنزل الوحي على دانيال وهو ابن سبع سنين.

يخون الغازي فيقتل

أخبرنا أبو علي زيد بن أبي حيويه القاضي بمدينة تنيس في سنة خمس وخمسين وأربعمائة قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن نصر قال: حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد السمرقندي بتنيس قال: حدثنا أحمد بن شيبان الموصلي قال: حدثنا مؤمل عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد عن أيوب: أن رجلا خرج غازيا، فخرج من جيرانه فأبصر في بيته ذات ليلة مصباحا، فقام قريبا من منزله، فسمع:

وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام.

أبيت على ترائبها ويضحي ... على جرداء لاحقة الحزام.

كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينتمين إلى فئام.

قال: فدخل عليه فقتله، ثم رمى به، فلما أصبح أخبر عمر به فقام يخطب الناس فقال: أنشد الله رجلا، وأعزم على من علم من هذا الرجل علما إلا أخبرنا به. فقام الرجل فأخبره بما رأى وبما سمع، فقال عمر: اقتل! قال: فعلت يا أمير المؤمنين.

ما أذنبت إلا ذنب صحر

أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي ولقيته بمدينة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: حدثنا العكلي عن ابن أبي خالد عن الهيثم عن مجالد عن الشعبي قال: كان لقمان بن عاد بن عاديا، الذي عمر عمر سبعة أنسر، مبتلى بالنساء، وكان يتزوج المرأة فتخونه، حتى تزوج جارية صغيرة لم تعرف الرجال، ثم نقر لها بيتا في صفح جبل، وجعل له درجة بسلاسل ينزل بها ويصعد، فإذا خرج رفعت السلاسل، حتى عرض لها فتى من العماليق فوقعت في نفسه، فأتى بني أبيه، فقال: والله لأجنين عليكم حربا لا تقومون لها! قالوا: وما ذلك؟ قال: امرأة لقمان بن عاد هي أحب الناس إلي. قالوا: فكيف نحتال لها؟ قال: اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني بينها، وشدوها حزمة عظيمة، ثم ائتوا لقمان، فقولوا: إنا أردنا أن نسافر، ونحن نستودعك سيوفنا حتى نرجع، وسموا له يوما! ففعلوا وأقبلوا بالسيوف فدفعوها إلى لقمان، فوضعها في ناحية بيته.

وخرج لقمان وتحرك الرجل فخلت الجارية عنه، فكان يأتيها، فإذا أحست بلقمان جعلته بين السيوف حتى انقضت الأيام، ثم جاؤوا إلى لقمان فاسترجعوا سيوفهم، فرفع لقمان رأسه بعد ذلك فإذا نخامة تنوس في سقف البيت، فقال لامرأته: من نجم هذه؟ قالت: أنا، قال: فتنخمي! ففعلت، فلم تصنع شيئا، فقال: يا ويلتاه! والسيوف دهتني، ثم رمى بها من ذروة الجبل فتقطعت قطعا، وانحدر مغضبا، فإذا ابنة له يقال لها صحر فقالت له: يا أبتاه! ما شأنك؟ قال: وأنت أيضا من النساء، فضرب رأسها بصخرة فقتلها، فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر، فصارت مثلا .