أبو دهبل والمرأة الشامية

أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني أبو العابس أحمد بن يحيى قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله قال: خرج أبو دهبل الجمحي يريد الغزو وكان رجلا جميلا صالحا، فلما كان يجيرون جاءته امراة فأعطته كتابا، فقالت له: اقرأ هذا! فقرأه لها، ثم ذهبت، فدخلت قصرا، ثم خرجت إليه، فقالت له: لو بلغت معي إلى هذا القصر فقرأت الكتاب على امرأة فيه كان لك أجر، إن شاء الله. فبلغ ا معها القصر، فلما دخل، إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقن عليه باب القصر، فإذا امرأة جميلة قد أتته فدعته إلى نفسها، فأبى، فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وأطعم وسقي قليلا قليلا حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: أما في الحرام فلا يكون ذلك أبدا، ولكن أتزوجك. قالت: نعم! فتزوجها، وأمرت به فاحسن إليه حتى رجعت نفسه إليه، فأقام معها زمانا طويلا لم تدعه يخرج من القصر، حتى يئس منه أهله وولده، وزوج أولاده بناته واقتسموا ميراثه.

وأقامت زوجته تبكي، ولم تقاسمهم ماله، ولا أخذت من ميراثه شيئا، وجاءها الخطاب، فأبت واقامت على الحزن والبكاء عليه، قال: فقال أبو دهبل لامرأته يوما: إنك قد أثمت في وفي ولدي، فأذني لي أن أخرج إليهم، وأرجع إليك. فأخذت عليه أيمانا ألا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، وأعطته مالا كثيرا، فخرج من عندها بذلك المال حتى قدم على أهله، فرأى زوجته وما صارت إليه من الحزن، ونظر إلى ولده ممن اقتسم ماله، وجاؤوه فقال: ما بيني وبينكم عمل! أنتم ورثتموني وأنا حي، فهو حظكم، والله لا يشرك زوجتي أحد في ما قدمت به. وقال لزوجته: شأنك بهذا المال فهو كله لك، ولست أجهل ما كان من وفائك، وأقام معها وقال في الشامية:

صاح! حي الإله حيا ودودا ... عند أصل القناة من جيرون.

فبتلك اغتربت بالشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون.

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... ص ميزت من لؤلؤ مكنون.

وفي هذه القصيدة يقول أبو دهبل:

ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مقارنا لقرين.

وبكت خشية التفرق والبي ... ن بكاء الحزين نحو الحزين.

فاسألي عن تذكري واكتئابي ... جل أهلي إذا هم عذلوني.

وقد روي هذا الشعر لعبد الرحمن بن حسان، وليس بصحيح. قال: فلما جاء الأجل أراد الخروج إليها ففاجأه موتها، فأقام.

الصوفي وغلامه

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال بمصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن عدي السمرقندي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة الصوفي: رأيت مع أحمد بن علي الصوفي ببيت المقدس غلاما جميلا، فقلتك مذ كم صحبك هذا الغلام؟ فقال: منذ سنين، فقلت: لو صرتما إلى بعض المنازل فكنتما فيه بحيث لا يراكما الناس كان أجمل بكما من الجلوس في المساجد والحديث فيها. فقال: أخاف احتيال الشيطان علي فيه في وقت خلوتي به، وإني لأكره أن يراني الله معه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبون بأحبابهم.

يكره الخلو بالغلام

أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت بالشام قال: حدثنا ابن أيوب القمي قال: أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة قال: كنا عند شيخ يقرئ، فبقي عنده غلام يقرأ عليه، وأردت القيام فأخذ بثوبي وقال: اصبر حتى يفرغ هذا الغلام، وكره أن يخلو هو والغلام.

على طريقة ابن مدرك الشيباني

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: كنت في الحداثة أنشأت كلمة مسمطة على نحو قصيدة مدرك الشيباني في عمرو النصراني، فكان مما ذكرته في كلمتي هذه عند صفة عين إنسان ونسيت الكلمة به:

سقم أوى أحسن عين تطرف ... تقوى به وللقلوب تضعف.

كاسم في الأفعى بفي من يحصف، ... يحيا به، وللنفوس يتلف.

ثم قلت:

دواء من أقصده بسهمه ... تكراره نحو مرامي سهمه.

كالأفعوان يشتفى من سمه ... بشرب درياق كريه لحمه.

قال المعافى بن زكيرا ولنا أيضا في كلمة:

وسقاني بسقم مقلة ظبي ... قد قلبي منه بأحسن قد.

سقمها لي شفاء دائي، إذا جا ... دت وداء إذا تصدت لصد.

وأنا أستغفر الله تعالى من مساكنة ما يشغل عن عبادته، ومما يضارع ما وصفنا في هذا الفضل من وجه قول ابن الرومي:

عيني لعينك حين تبصر مقتل ... لكن عينك سهم حتف مرسل.

ومن العجائب أن معنى واحدا ... هو منك سهم، وهو مني مقتل.

عناية الله بخائفيه

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرني أحمد بن جرب قال: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثني أبو عبد الله البلخي: أن شابا كان في بني إسرائيل لم ير شاب قط أحسن منه، قال: وكان يبيع القفاف، قال: فبينا هو ذات يوم يطوف بقفافه، إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل، فلما راته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: يا فلانة، إني رايت شابا بالباب يبيع القفاف لم أر شابا قط أحسن منه. قالت: أدخليه! فخرجت إليه، فقالت: يا فتى ادخل نشتر منك! فدخل، فأغلقت الباب دونه ثم قالت: ادخل، فدخل فأغلقت بابا آخر دونه.

ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها، فقال لها: اشتر عافاك الله، فقالت: إنا لم ندعك لهذا، إنما دعوناك لكذا، تعني تراوده عن نفسه، فقال لها: اتقي الله! قالت له: إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت علي تكابرني على نفسي. قال: فأبى، ووعظها، فأبت، فقال: ضعوا لي وضوءا! فاقلت: أعلي تعلل؟ يا جارية! ضعي له وضوءا فوق الجوسق، مكان لا يستطيع أن يفر منه، ومن الجوسق إلى الأرض أربعون ذراعا.

قال: فلما صار في أعلى الجوسق قال: اللهم إني دعيت إلى معصيتك وإني أختار أن أصبر نفسي، فألقيتها من هذا الجوسق، ولا أركب المعصية، ثم قال: بسم الله، وألقى نفسه من أعلى الجوسق فاهبط الله، عز وجل، ملكا من الملائكة، فاخذ بضبعيه، فوقع قائما على رجليه، فلما صار في الأرض قال: اللهم إنك إن شئت رزقتني رزقا يغنيني عن بيع هذه القفاف. قال: فأرسل الله، عز وجل، إليه جرادا من ذهب، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقا رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه، وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي به. قال: فبنودي: إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءا لصبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق، قال: فقال: اللهم لا حاجة لي في ما ينقصني مما لي عندك في الآخرة. قال: فرفع.

المجنون الأديب

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد أحمد بن رميح الزيدي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم الأرجاني يقول: سمعت محمد بن يعقوب الأزدي عن أبيه قال: دخلت دير هرقل، فرأيت مجنونا مكبلا، فكلمته، فوجدته أديبا، فقلت له: ما الذي صيرك إلى ما أرى؟ فقال:

نظرت إليها فاستحلت بنظرتي ... دمي، ودمي غال، فأرخصه الحب.

وغاليت في حبي لها، ورأت دمي ... رخيصا، فمن هذين داخلها العجب.

أربع نسوة وأربعة غربان

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله الأهوازي قال: أخبرني بعض أهل الأدب أن بعض البصريين أخبره قال: كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضا، وكنا على عدد أيام عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين، فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجة راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال: هؤلاء نسوة لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال: العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك. فقلت لأصحابي: أقسمت ألا يبرح أحد منكم حتى أعود. فنهضت وحدي، فصعدت إلى موضع أشرف عليهن، وأراهن، ولا يرينني، فرأيت نسوة أربعا كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدم لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة، فلما اطمأن بهن المجلس، جاء خادم لهن، ومعه خمسة أجزاء من القرآن، فدفع إلى كل واحدة منهن جزءا ووضع الجزء الخامس بينهن، فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء، ثم أخرجن صورة معهن في ثوب دبيقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعون لها، ثم أخذن في النوح، فقالت الأولى:

خلس الزمان أعز مختلس، ... ويد الزمان كثيرة الخلس.

لله هالكة فجعت بها، ... ما كان أبعدها من الدنس.

أتت البشارة والنعي بها، ... يا قرب مأتمها من العرس.

ثم قالت الثانية:

ذهب الزمان بأنس نفسي عنوة، ... وبقيت فردا ليس لي من مؤنس.

أودى بملك ولو تفادى نفسها، ... لفديتها ممن أعز بأنفس.

ظلت تكلمني كلاما مطعما، ... لم أسترب فيه بشيء مؤيس.

حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس.

وتسهلت منها محاسن وجهها، ... وعلا الأنين تحثه بتنفس.

جعل الرجاء مطامعي يأسا كما ... قطع الرجاء صحيفة المتلمس.

ثم قالت الثالثة:

جرت على عهدها الليالي، ... وأحدثت بعدها أمور.

فاعتضت باليأس منك صبرا، ... فاعتدل اليأس والسرور.

فلست أرجو، ولست أخشى ... ما أحدثت بعدك الدهور.

فليبلغ الدهر في مساتي، ... فما عسى جهده يضير.

ثم قالت الرابعة:

علق نفيس من الدنيا فجعت به، ... أفضى إليه الردى في حومة القدر.

ويح المنايا أما تنفك أسهمها ... معلقات بصدر القوس والوتر.

يبلى الجديدان، والأيام بالية، ... والدهر يبلى، وتبلى جدة الحجر.

ثم قمن فقلن بصوت واحد:

كنا من المساعده، ... نحيا بنفس واحده.

فمات نصف نفسي ... حين ثوى في الرمس.

فما بقائي بعده ... وشطر نفسي عنده.

فهل سمعتم قبلي ... في من مضى بمثلي.

عاش بنصف روح ... في بدن صحيح.

ثم تنحين وقلن لبعض الخدم: كم عندك منهن؟ قال: أربعة. قلن: ائت بهن، فلم ألبث إلا قليلا حتى طلع بقفص فيه أربعة غربان مكتفة، فوضع القفص بين أيديهن، فدعون بعيدان، فأخذت كل واحدة منهن عودا فغنت:

لعمري! لقد صاح الغراب ببنيهم، ... فأوجع قلبي بالحديث الذي يبدي.

فقلت له: أفصحت لا طرت بعدها، ... بريش، فهل للقلب ويحك من رد!.

ثم أخذن واحدا من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنهن ثم غنت:

أشاقك، والليل ملقي الجران، ... غراب ينوح على غصن بان.

أحص الجناح، شديد الصياح، ... يبكي بعينين ما تهملان.

وفي نعبات الغراب اغتراب، ... وفي البان بين بعيد التداني.

ثم أخذن الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له: أتبكي بلا دمع وتفرق بين الألاف، فمن أحق بالقتل منك؟ ثم فعلن به ما فعلن بصاحبه. ثم غنت الثالثة:

ألا يا غراب البين لونك شاحب، ... وأنت بلوعات الفراق جدير.

فبين لنا ما قلت، إذ أنت واقع، ... وبين لنا ما قلت حين تطير.

فإن يك حقا ما تقول، فأصبحت ... همومك شتى، والجناح كسير.

ولا زلت مكسورا عديما لناصر، ... كما ليس لي من ظالمي نصير.

ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه، وأمرت ففعل به ذلك، ثم غنت الرابعة:

عشية ما لي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى، والخط في الدار مولع.

أخط وأمحو كل ما قد خططته ... بدمعي والغربان في الدار وقع.

ثم قالت لأخواتها: أي قتلة أقتله؟ فقلن لها: علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئا ثقيلا حتى يموت، ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن، ودعون بالغداء، فأكلن، ودعون بالشراب، فشربن، وجعلن كلما شربن قدحا شربن للصورة مثله، وأخذن عيدانهن فغنين، فغنت الأولى كأنها تودع به:

أبكى فراقكم عيني فأرقها، ... إن المحب على الأحباب بكاء.

ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا، وريب الدهر عداء.

ثم غنت الثانية:

أما والذي أبكى وأضحك، والذي ... أمات وأحيا، والذي أمره الأمر.

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر.

ثم غنت الثالثة:

سأبكي على ما فات منك صبابة ... وأندب أيام الأماني الذواهب.

أحين دنا من كنت أرجو دنوه ... رمتني عيون الناس من كل جانب.

فأصبحت مرحوما، وكنت محسدا، ... فصبرا على مكروه مر العواقب.

ثم غنت الرابعة:

سأفني بك الأيام حتى يسرني ... بك الدهر، أو تفنى حياتي مع الدهر.

عزاء وصبرا! أسعداني على الهوى، ... وأحمد ما جربت عاقبة الصبر.

ثم أخذت الصورة فعانقتها، وبكت، وبكين، ثم شكون إليها جميع ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة، فطويت، ففرقت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن فقلت: لقد ظلمتن الغربان. فقالت: لو قضيت حق السلام، وجعلته سببا للكلام، لأخبرناك بقصة الغربان. قال قلت: إنما أخبرتكن بالحق. قلن: وما الحق في هذا، وكيف ظلمناهن؟ قلت: إن الشاعر يقول:

نعب الغراب برؤية الأحباب، ... فلذاك صرت أحب كل غراب.

قالت: صحفت وأحلت المعنى، إنما قال: بفرقة الأحباب، فلذاك صرت عدو كل غراب. فقتل لهن: فبالذي خصكن بهذا المجلس، وبحق صاحبة الصورة، لما خبرتنني بخبركن؟ قلن: لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه ما أخبرناك.

كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب منا واحدة البارد دون صاحبتها، فاحترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يوم نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت. قلت: وما تلك العلة؟ قلن: فرق بينها وبين أنس كان لها، ففارقت الحياة، فكانت تذمهن عندنا، وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نتمثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان.

ثم نهضن فمضين، ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثم طلبتهن بعد ذلك، فما وقعت لهن على خبر، ولا رأيت لهن أثرا.

أبو السائب والغراب

أخبرنا أبو الحسن علي وأبو منصور أحمد ابنا الحسن بن الفضل الكاتب في ما أجازاه لي قالا: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن خالد الكاتب من لفظه قال: أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضا، فإذا أبو السائب قائما على غراب يباع قد أخذ طرف ردائه وهو يقول للغراب: يقول لك قيس بن ذريح:

ألا يا غراب البين، قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى، فهل أنت واقع؟

ثم لا تقع، ويضربه بردائه والغراب يصيح.

لبنى صاحبة قيس بن ذريح والغربان

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني عبد الجبار بن عبد الأعلى قال: قال خندف بن سليم: حدثني أحمد بن هود أن لبنى أمرت غلاما لها فاشترى لها أربعة غربان، فلما رأتهن بكت وصرخت، وكتفتهن، وجعلت تضربهن بالسوط حتى متن جميعا، وجعلت تقول بأعلى صوتها:

لقد نادى الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب.

فقلت: غدا تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب.

فقلت: تعست ويحك من غراب ... أكل الدهر سعيك في تباب.

لقد أولعت، لاقيت خيرا، ... بتفريق المحب عن الحباب.

فدخل زوجها، فرآها على تلك الحال، فقال: ما دعاك إلى ما أرى؟ قالت: دعاني أن ابن عمي وحبيبي قيسا أمرهن باوقوع فلم يقعن حيث يقول:

ألا يا غراب البين، قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى، فهل أنت واقع؟

فآليت أن لا أظفر بغراب إلا قتلته، قال: فغضب، وقال: لقد هممت بتخلية سبيلك، فقالت: لوددت أنك فعلت، وإني عمياء، فوالله ما تزوجتك رغبة فيك، ولقد كنت آليت أن لا أتزوج بعد قيس أبدا، ولكني غلبني أبي على أمري.

قلبي باك

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة في ما أجاز لنا قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عكران المرزياني إجازة قال:

أعاد من حبك لا من ضنى ... وأكثر العواد أشراكي.

ولست أشكوك إلى عائد، ... أخاف أن أشكو إلى شاكي.

إن كنت لا أبكي حذار العدى، ... فإن قلبي أبدا باكي.

قاتل الله الرقيب

ولي من قصيدة أولها:

إذا كنت من أسر الهوى غير منفك، ... فدع جسدي يضنى ودع مقلتي تبكي.

وفيها:

ألا قاتل الله الرقيب وموقفا ... بكينا به، والبين يفتر بالضحك.

وغرب غربان النوى، حين بشرت، ... نعيبا من البين المفرق بالوشك.

فيا ويح للعشاق أمست دماؤهم ... تطل غراما وهي هينة السفك.

معبد المغني وغلامه

أخبرنا أب الفتح عبد الواحد بن أحمد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي التوزي قالا: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قالك أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي.

قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان لمعبد مملوك رباه وأحسن أدبه، فمر به فتى، فاستطرف الغلام، فاشتراه منه، فلما رحل سمع الفتى الغلام يبكي، ويقول:

وما كنت أخشى معبدا أن يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفرا.

أخوكم ومولاكم، وصاحب سركم، ... ومن قد نشا فيكم، وعاصركم دهرا.

فقال له مولاه: الحق بأهلك، فهم في حل من ثمنك.

الفضل بن الربيع يهوى غلاما

وبالإسناد قال: أخبرنا الحسين بن القاسم قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر الوراق قال: أخبرني دوست الخراساني قال: اشترى خزام صاحب دواب المعتصم خادما نظيفا، وكان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه، وقد نشب في ابتياعه، فسأله هبته له، أو بيعه منه، فلم يفعل، فصنع أبياتا، وعمل فيها لحنا، واتصل خبرها بخزام، وخاف أن يتصل الخبر بالمعتصم فيأتي عليه، فوجه به إليه، وهذه هي الأبيات:

يوم سبت فصرفا لي المداما ... واسقياني لعلني أن أناما.

شرد النوم حب ظبي غرير، ... ما أراه يرى الحرام حراما.

اشتراه فتى بقضمة يوم ... أصبحت غبه الدواب صياما.

دمعة هطلت في ساعة البين

وبالإسناد أيضا قال: أخبرنا الحسين بن القاسم قال: حدثني محمد بن عجلان قال: أخبرني ابن السكيت أن عبد الله بن طاهر عزم على الحج، فخرجت إليه جارية شاعرة، فبكت لما رأت آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله:

دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل.

هطلت في ساعة البي ... ن من الطرف الكحيل.

ثم قال لها: أجيزي، فقالت:

حين هم القمر الزاهر عنا بالأفول.

إنما يفتضح العشاق في يوم الرحيل.

حن شوقا وأن

ولي من نسيب قصيدة:

وأخي لوعة لقيت فما زا ... ل بماء الجفون يبكي الجفنا.

يشتكي وجده إلي وأشكو ... ما يقاسي قلبي المشوق المعنى.

ثم لما كفت دموع مآقي ... ه ومني، وحن شوقا وأنا:

قد أفاق العشاق من سكرة البي ... ن جميعا، فما لنا ما أفقنا؟

قلت: جار الهوى علينا، فلو كن ... ا غداة الفراق متنا استرحنا.

إياس وابنة عمه صفوة

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي في ما أجاز لنا قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العابس بن حيويه الخزاز قراءة عليه قال: أخبرنا محمد بن خلف إجازة قال: حدثنا قاسم بن الحسن قال: حدثنا العمري قال: أخبرني الهيثم بن عدي أن إياس بن مرة بن مصعب القيسي كان له أخ يقال له فهر، وكانا ينزلان الحيرة، وأن فهرا ارتحل بأهله وولده، فنزل بأرض السراة، وأقام مرة بالحيرة، وكانت عند مرة امرأة من بكر بن وائل، فلبثت معه زمانا لم يرزق منها ولدا، حتى يئس من ذلك. ثم أتي في منامه، ليلة من ذلك، فقيل له: إنك إن باشرت زوجتك من ليلتك هذه رأيت سرورا وغبطة، فانتبه، فباشرها فحملت فلم يزل مسرورا إلى أن تمت أيامها، فولدت له غلاما، فسماه إياسا، لنه كان آيسا منه، فنشأ الغلام منشأ حسنا.

فلما ترعرع ضمه أبوه إليه، وأشركه في أمره، وكان إذا سافر أخرجه معه لقلة صبره عنه، فقال له أبوه يوما: يا بني، قد كبرت سني، وكنت أرجوك لمثل هذا اليوم، ولي إلى عمك حاجة، فأحب أن تشخص فيها. فقال له إياس: نعم يا أبه، ولي إلى عمك حاجة، فأحب فأنا لحاجتك. فأعلمه الحاجة، فخرج متوجها حتى أتى عمه، فعظم سروره به وسأله عن سبب قدومه، وما الحاجة فأخبره بها، ووعده بقضائها، فأقام عند عمه أياما، ينتظر فيها قضاء الحاجة.

وكان لعمه بنت يقال لها صفوة، ذات جمال وعقل، فبينا هو ذات يوم جالس بفناء دارهم، إذ بدت له صفوة زائرة بعض أخواتها وهي تهادى بين جوار لها، فنظر إليها إياس نظرة أورثت قلبه حسرة، وظل نهاره ساهيا، وبات وقد اعتكرت عليه الأحزان، ينتظر الصباح، يرجو أن يكون فيه النجاح، فلما بدا له الصبتح خرج في طلبها ينتظر رجوعها، فلم يلبث أن بدت له، فلما نظرت إليه تنكرت ثم مضت فأسرعت، فمر يسعى خلفها، يأمل منها نظرة، فلم يصل إليها، وفاتته فانصرف إلى منزله، وقد تضاعف عليه الحزن واشتد الوجد، فلبث أياما، وهو على حاله، إلى أن أعقبه ذلك مرضا أضناه وأنحل جسمه، وظل صريعا على الفراش.

فلما طال به سقمه وتخوف على نفسه بعث إلى عمه لينظر إليه ويوصيه بما يريد، فلما رآه عمه ونظر إلى ما به سبقته العبرة إشفاقا عليه، فقال له إياس: كف، جعلت فداك يا عم، فق أفرحت قلبي. فكف عن بعض بكائه، فشكا إليه إياس ما يجد من العلة. فقال له: عز، والله، علي يا ابن أخي، ولن أدع حيلة في طلب الشفاء لك. فانصرف إلى منزله، وأرسل إلى مولاة له كانت ذات عقل فأوصاها به، وبالتعاهد له، والقيام عليه.

فلما دخلت المولاة عليه فتأملته علمت أن الذي به عشق، فقعدت عند رأسه، فأجرت ذكر صفوة لتستيقن ما عنده، فلما سمع ذكرها زفر زفرة، فاقلت المرأة: والله ما زفر إلا من هوى داخله ولا أظنه إلا عاشقا. فأقبلت عليه كالممازحة له فقالت له: حتى متى تبلي جسمك، فوالله ما أظن الذي بك إلا هوى. فقال لها إياس: يا أمه، لقد ظننت بي ظن سوء، فكفي عن مزاحك. فقالت: إنك والله لن تبديه إلى أحد هو أكتم له من قلبي. فلم تزل تعطيه المواثيق وتقسم عليه إلى أن قالت له: بحق صفوة فقال لها: لقد أقسمت علي بحق عظيم لو سألتني به روحي لدفعتها إليك، ثم قال: والله يا أمه ما أعظم دائي إلا بالاسم الذي أقسمت علي بحقه، فالله الله في كتمانه وطلب وجه الحيلة فيه.

فقالت: أما إذ أطلعتني عليه، فسأبلغ فيه رضاك، إن شاء الله، فسر بذلك، وأرسل معها بالسلام إلى صفوة. فلما دخلت عليها ابتدأتها صفوة بالمسألة عن الذي بلغها من مرضه وشدة حاله، فاستبشرت المولاة بذلك، ثم قالت: يا صفوة ما حالة من يبيت الليل ساهرا محزونا يرعى النجوم ويتمنى الموت؟ فقالت صفوة: ما أظن هذا على ما ذكرت بباق، وما أسرع منه الفراق.

ثم أقبلت عى المولاة فقالت: إني أريد أن أسألك عن شيء فبحقي عليك لما أوضحته. فقالت: وحقك إن عرفته لا كتمتك منه شيئا.

قالت: فهل أرسلك إياس إلى احد من أهل وده في حاجة؟ فقالت المولاة: والله لأصدقنك، والله ما جل دائه وعظم بلائه إلا بك، وما أرسلني بالسلام إلا إليك، فأجيبيه إن شئت،أو دعي. فقالت: لا شفاه الله، والله لولا ما أوجب من حقك لأسأت إليك، وزجرتها، فخرجت من عندها كئيبة، فأتته فأعلمته فازداد على ما كان به من مرضه، وأنشأ يقول:

كتمت الهوى حتى إذا شب واستوت ... قواه، أشاع الدمع ما كنت أكتم.

فلما رأيت الدمع قد أعلن الهوى ... خلعت عذاري فيه، والخلع أسلم.

فيا ويح نفسي كيف صبري على الهوى ... وقلبي وروحي عند من ليس يرحم.

قال: ثم إن عمه دخل عليه ليعرف خبره، فقال له: يا عم، إلي مخبرك بشيء لم أخبرك به حتى برح الخفاء ولم أطق له محملا، فأخبره الخبر، فزوجه فأفاق وبرأ من علته.

إبليس يغني

أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في ما أجاز لنا قال: أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا الربيعي قال: قال إبراهيم القارئ: رأيت إبليس في النوم شيخا أبيض الرأس واللحية، وهو يغني بصوت شج:

أسهرت ليل المستهام، ... ونفيت عن عيني المنام.

وهجرتني متعمدا، ... ما هكذا فعل الكرام.

محنة العاشق

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: أخبرني أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرني الصولي قال: قال أبو تمام:

أنت في حل فزدني سقما، ... افن صبري واجعل الدمع دما.

وارض لي الموت بهجرتك فإن ... ألمت نفسي، فزدني ألما.

محنة العاشق ذل في الهوى، ... فإذا استودع سرا كتما.

ليس منا من شكا علته، ... من شكا ظلم حبيب ظلما.

المأمون والعباس بن الأحنف

أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز القرشي بالكوفة بقراءتي عليه سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأنا متوجه إلى مكة، قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد بن إسحاق البزاز في ما كتب به إلينا قال: حدثنا أبو هريرة أحمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن محمد بن إسماعيل بن موسى قال: رأيت في كتاب الأخبار لأبي أن المأمون لما خرج إلى خرسان كان في بعض الليل جالسا في ليلة مقمرة إذ سمع مغنيا يغني من خيمة له:

قالوا: خراسان أقصى ما تحاوله، ... ودون ذاك، فقد جزنا خراسانا.

ما أقدر الله أن يدني بعزته ... سكان دجلة من سكان جيحانا.

عينا أظن أصابتنا، فلا نظرت، ... وعذبت بصنوف الهجر ألوانا.

متى يكون الذي أرجو وآمله، ... أما الذي كنت أخشاه فقد كانا.

فخرج المأمون من موضعه حتى وقف على الخيمة، وعلمها، فلما كان من الغد وجه فأحضر صاحب الخيمة، وهو شاب، فسأله عن اسمه، فقال العباس بن الأحنف. قال: أنت الذي كنت تقول:

متى يكون الذي أرجو وآمله، ... أما الذي كنت أخشاه فقد كانا.

قال: نعم. قال: ما شأنك؟ قال: يا أمير المؤمنين تزوجت ابنة عم لي، فنادى مناديك يوم أسبوعي في الرحيل إلى خراسان، فخرجت، فأعطاه رزق سنة، ورده إلى بغداد، وقال: أقم إلى أن تنفقها، فإذا نفدت رجعت.

مهجور لا مسحور

أنبأنا أبو سعيد مسعود بن ناصر السخبري، وقد قدم علينا بغداد، قال: أنبأنا أبو القاسم بن عمر ببغداد قال: أنشدنا أبو علي الحسن بن عبد الله الزنجاني لبعضهم:

قال الطبيب لأهلي حين أبصرني: ... هذا فتاكم، وحق الله، مسحور.

فقلت: ويحك! قد قاربت في صفتي ... عين الصواب، فهلا قلت: مهجور.

صيرت لحظها سلاحا

أخبرنا أبو سعيد أيضا قال: حدثني أبو غانم حميد بن مأمون بهمذان قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي قال: أخبرني أبو العباس الوليد بن بكر الأندلسي قال: أنشدنا أبو عمر يوسف بن عبد الله الملقب بأبي رمال، على البديهة، إذ غبر عليه حبيبه:

بحت بوجدي، ولو غرامي ... يكون في جلمد لباحا.

أضعتم الرشد في محب ... ليس يرى في الهوى جناحا.

لم يستطع حمل ما يلاقي، ... فشق أثوابه وناحا.

محير المقلتين قل لي: ... هل شربت مقلتاك راحا؟

نفسي فدا لمة ووجه ... قد كملا الليل والصباحا.

ومقلة أولعت بقتلي، ... قد صيرت لحظها سلاحا.

وعقرب سلطت علينا، ... تملأ أكبادنا جراحا.

جمال يلهي الناس

أخبرنا إبراهيم بن سعيد بمصر في سنة خمس وخمسين وأربعمائة بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة:

كان كامل بن المخارق الصوفي من أحسن ما رأيته من أحداث الصوفية وجها، وكان قد لزم منزله، وأقبل على العبادة، فكان لا يخرج إلا من جمعة إلى جمعة، فإذا خرج يريد المسجد، وقف له الناس، ورموه بأبصارهم ينظرون إليه، فقدم به علينا حجار بن قيس المكي دمشق، وكان أحد الفصحاء العقلاء، وكان لي صديقا، فكلمني جماعة من أصحابه أسأله أن يجلس لهم مجلسا يتكلم عليهم فيه، ويسألونه، فكلمته فوعدهم يوما، فاتعدنا لذلك اليوم، ودعا الناس بعضهم بعضا.

فلما أن كان يوم الجمعة وصلى الناس الغداة، أقبلوا من كل ناحية، فوقف يتكلم علينا، فبينا هو كذلك، إذ أقبل كامل بن المخارق، فلما رأته النسا رموه بأبصارهم، وشغلوا بالنظر إليه عن الاستماع منه، وفطن بهم حجار، فقطع كلامه، وقال: يا قوم! ما لكم لا ترجون لله وقارا، ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، فوالله لما تنظرون منهما على بعدهما أعجب إلي من نظركم إلى هذا، فاحذروا أن تعود عليكم النفوس بعوائد حكمهان إذا حالت القلوب في غامض فكرها، أتنظرون إلى جمال تحول عنه نضرته، ووجه تتخرمه الحادثات بعد خبرته؟ ما هذا نظر المشتاقين، اين تذهب منها محبوب نفوسكم ومطالبة قلوبكم إلا بإحدى ثلاث: إما بتوبة يتلافاكم الله، عز وجل، بها، أو عصمة يتغمدكم برحمته فيهان أو يطلقكم وما تطلبون، فإما أن تحول أقداره بينكم وبين شهواتكم، وإما تبلغوا منها إرادتكم فتسخطوه عليكم، أما سمعتموه، تعالى ذكره، يقول: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم؟ ثم أخذ في كلامه، فأحيطت من أحرم من مجلسه ذلك اليوم نيف على سبعين بين رجل وغلام.

مجنون مصفد بالحديد

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام سنة ست وأربعين وأربعمائة.

قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: حكي لي عن حبيب بن محمد بن خالد الواسطي قال: دخلت يوما على علي بن عثام، فوجدته باكيا حزينا ذاهب النفس، فانكرته، فسألته عما دهاه، فقال: اعلم أني مررت بالحريبة فرأيت مجنونا مصفدا في الحديد يتمرغ في التراب ويقول:

ألا ليت أن الحب يعشق مرة، ... فيعرف ماذا كان بالناس يصنع.

يقولون فز بالصبر! إنك هالك، ... وللصبر مني، إن أحاوله، أجزع.

إما موت أو حياة

أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: أنشدني إبراهيم بن أحمد الشيباني لقيس بن ذريح:

لقد عنيتني يا حب لبنى، ... فقع إما بموت أو حياة.

فإن الموت أيسر من حياة ... منغصة لها طعم الشتات.

وقال الآمرون: تعز عنها، ... فقلت: نعم، إذا حانت وفاتي!.

عاشقان يصليان

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أيوب قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فجعلا يتحدثان من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة.

الحياء المانع

قال محمد بن عمران وأخبرنا الصولي قال: أنشدنا محمد بن القاسم:

كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء، وقد أودى بمعقولي.

بأبي الحياء وشيبي أن ألم به، ... وخشية بعد من قال ومن قيل.

العشاق الأعفاء

قال وأنشدنا إبراهيم بن محمد بن عرفة لنفسه:

كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر.

وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر.

كذلك الحب لا إتيان معصية، ... لا خير في لذة من بعدها سقر.

وللعطوي من أبيات:

إن أكن عاشقا فإني عفيف الل ... حظ واللفظ عن ركوب الحرام.

كنت مارا بين تيماء ووادي القرى، وأظنه في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، صادرا من مكة، فرأيت صخرة عظيمة ملساء فيها تربيع بقدر ما يجلس عليها النفر كالدكة، فقال بعض من كان معنا من العرب، وأظنه جهينا: هذا مجلس جميل وبثينة فاعرفه.

 

سيوف البين

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أنبأني أبي قال: أنشدنا أحمد بن عبيد:

ضعفت عن التسليم يوم فراقها، ... فودعتها بالطرف والعين تدمع.

وأمسكت عن رد السلام، فمن رأى ... محبا بطرف العين قبلي يودع.

رأيت سيوف البين عند فراقها، ... بأيدي جنود الشوق، بالموت تدفع.

عليك سلام الله مني مضاعفا، ... إلى أن تغيب الشمس من حيث تطلع.

لقاء في الجنة

أخبرنا أحمد بم علي بن محمد السواق قال: اخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا عبد الله بن عبيد قال: حدثني محمد بن الحسين في إسناد لا أحفظه قال: علق فتى من الحي بنت عم له، فخطبها إلى أبيها، فرغب بها عنه، فبلغ ذلك الجارية، فأرسلت إليه: قد بلغني حبك إياي، وقد أحببتك لذلك لا لغيره، فغن شئت خرجت إليك بغير علم أهلي، وإن شئت سهلت لك المجيء. فأرسل إليها: كل ذلك لا حاجة لي فيه، إني أخاف أن يلقيني حبك في نار لا تطفأ وعذاب لا ينقطع أبداص. فلما جاءها الرسول بكت، ثم قالت: لا أراك راهبا، والله، ما أحد أولى بهذا الأمر من أحد، إن الخلق في الوعد والوعيد مشتركون.

قال: فتدرعت الشعر وأقبلت على العبادة، فكبر ذلك على أهلها وعلى أبيها، فلم تزل تتعبد حتى ماتت. فكان الفتى يأتي قبرها كل ليلة، فيدعوه لها ويستغفر وينصرف. فأخبرنا أنه رآها في المنام فقال لها: فلانة؟ قالت: نعم، ثم قالت:

نعم المحبة، يا سؤلي، محبتكم، ... حب يجر إلى خير

إلى نعيم وعيش لا زوال له، ... في جنة الخلد خلد ليس بالفاني.

قال: فقلت لها: أيتها الحبيبة، أفتذكرينني هناظ؟ قال: فقالت: والله إني لأتمناك على مولاي ومولاك، فأعني على نفسك بطاعته، فلعله يجمع بيني وبينك في داره، ثم ولت، فقتل لها: متى أراك؟ قلت: تراني قريبا إن شاء الله. قال: فلم يلبث الفتى بعد هذه الرؤيا إلا قليلا حتى مات فدفن إلى جانبها.

صخر بن الشريد وزوجته

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الحازري بقراءتي عليه قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: التقى صخر بن عمرو بن الشريد السلمي ورجل من بني أسد، فطعن الرجل صخرا، فقيل لصخر: كيف طعنك؟ قال: كان رمحه أطول من رمحي بأنبوب، فضمن صخر منها، وطال مرضه، وكانت أمه إذا سئلت عنه، قالت: نحن بخير ما رأينا سواده بيننا، وكانت امرأته، إذا سئلت عنه، قالت: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى، فقال صخر:

أرى أم صخر لا تمل عيادتي، ... وملت سليمى مضجعي ومكاني.

إذا ما امرؤ سوى بأم حليلة، ... فلا عاش إلا في شقا وهوان.

لعمري لقد أيقظت من كان نائما، ... وأسمعت من كانت له أذنان.

بصيرا بوجه الحزم لو يستطيعه، ... وقد حيل بين العير والنزوان.

قال المعافى بن زكيرا ويروى: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه. وقول أم صخر: ما رأينا سواده أي شخصه. قال الشاعر: بين المخازم يرتقبن سوادي، أي شخصي.

نوم الفهد

أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح الروذباري بقراءتي عليه بمصر، سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب إجازة قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: مرض أعرابي من بني نمير يقال له: حنيف بن مساور، وكانت له امرأة من قومه يقال لها زرعة بنت الأسود، وكان لها محبا. فلما اشتد وجعه جلست عند رأسه، فأنشأ يقول:

يا زرع دومي واحفظي لي عهدي، ... كم من منير بيننا مسدي.

وكاشح، يا زرع، بادي الحقد، ... يا زرع إن وسدتني في لحدي.

وجاءك الخاطب بعد الوفد، ... وقلت: عبد بدل من عبد.

فخصك الله بفذ ... وغد ينام في بيتك نوم فهد.

قال: فمات، فوالله ما انقضت عدتها، إلا ريثما تزوجت، فكأنه كان يرى زوجها، وهو كما وصف.

لم يفوا ولم يرحموا

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا الفوارس بن حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري قال: سمعت أبا الحسن العيشي المؤدب يقول: انحدرت من بالس أريد العراق، فدخلت الموصل، فأقمت بها أياما، فبينا أنا مار في بعض أزقتها، إذا صياح وجلبة، فسألت عنها فقيل: ههنا دار المجانين، وهذا صوت بعضهم، فدخلت، فإذا شاب مشدود متشحط في الدم، فسلمت، فرد السلام، وقال: من أين؟ تجيء قلت: من بالس. قال: وأين تريد؟ قلت: العراق. فقال: أتعرف بني فلان؟ وأشار إلى أهل بيت. قلت: نعم. قال: لا صنع الله لهم ولا خار لهم، هم الذين أدهشوني وتيموني وأحلوني هذا المحل. قلت: وما فعلوا؟ قال:

زموا المطايا واستقلوا ضحى ... ولم يبالوا قلب من تيموا.

ما ضرهم، والله يرعاهم، ... لو ودعوا بالطرف أو سلموا.

ما زلت أذري الدمع في إثرهم، ... حتى جرى من بعد دمعي دم.

ما أنصفوني، يوم بانوا ضحى، ... ولم يفوا عهدي ولم يرحموا.

ضجيج الكواكب

أنبأنا محمد بن أبي نصر بدمشق قال: أنشدني علي بن أحمد ليحيى بن هذيل:

إذا حبست على قلبي يدي بيدي، ... وصحت في الليلة الظلماء واكبدي.

ضجت كواكب ليلى في مطالعها، ... وذابت الصخرة الصماء من كمدي.

الهوى حلو ومر

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا المعافى بن زكريا الجريري قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو الوضاح عن الواقدي عن أبي الجحاف قال: إني لفي الطواف وقد مضى أكثر الليل وخف الحاج إذا امرأة قد أقبلت كأنها شمس على قضيب غرس في كثيب، وهي تقول:

رأيت الهوى حلوا إذا اجتمع الوصل، ... ومرا على الهجران، لا بل هو القتل.

ومن لم يذق للهجر طعما، فإنهإذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل.

وقد ذقت من هذين في القرب والنوى، ... فأبعده قتل وأقربه خبل.

زليخا ويوسف

أخبرنا القاضي أبو علي زيد بن أبي حيويه قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن عمر بن علي الحلباني.

قال: حدثنا محمد بن سعيد قال: حدثنا ابن عليل المطيري قال: حدثنا ابن الدروقي قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال:

لما خلت زليخا بيوسف، عليه السلام، ارتعد يوسف. فقالت زليخا: من أي شيء ترعد، إنما جئت بك لتأكل وتشرب وتشتم رائحتي، وأشتم رائحتك. قال: يا أمة الله، لست لي بحرمة. قالت: فمن أي شيء تفزع؟ قال: من سيدي. قالت: الساعة، إذا نزل من الركوب، واخذت بيدي الكأس المذهب والإبريق المفضض، سقيته شربة من السم، وألقيت لحمه عن عظمه. قال لها: لا تفعلي، فلست ممن يقتل الملوك، وإنما أخاف من إله السماء. قالت له: فعندي من الذهب والفضة والجواهر والعقيق ما أفديك منه. قال: هو لا يقبل الرشا. قالت: دع عنك هذا! قم اسق أرضي. قال: لا ازرع أرض غيري. قالت: فارفع رأسك انظر إلي! قال: أخاف العمى في آخر عمري. قالت: فمازحني ترجع إلي نفسي. قال: يا أمة الله! لست لي بحرمة فأمازحك. قالت: فلا صبر لي عن هذه الذؤابة التي بلغت إلى قدميك، ليتني وسمتها مرة واحدة. قال: أخشى أن تحشى من قطران جهنم، يا هذه، هوذا الشيطان يعينك على فتنتي، لا تشوهي بخلقي ذا الحسن الجميل، فادعى في الخلق زاينا، وفي الوحوش خائنا، وفي السماء عبدا كفورا.

قال وهب: ولان من يوسف، عليه السلام، مقدار جناح بعوضة، فارتفعت الشهوة إلى وجهه، وفاستنارت، وكان سرواله معقودا تسع عشرة عقدة، فحل أول عقدة، وإذا قائل يقول من زاوية البيت: إن الله كان عليكم رقيبا! ثم حل العقدة الثانية، فإذا قائل يقول: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فأوحى الله، عز وجل، إلى جبريل: الحقه، فغنه المعصوم في ديوان الأنبياء! فانفرج السقف في أقل من اللمح فنزل جبريل، عليه السلام، فضرب صدره ضربة، فخرجت شهوته من أطراف أنامله فنقص منه ولد، فولد لكل رجل من أولاد يعقوب، عليه السلام، اثنا عشر ولدا، ما خلا يوسف، عليه السلام، فإنه ولد له أحد عشر. فقال: يا رب ماذا خبري؟ لم ألحق بأخوتي في الويد، فأوحى الله، عز وجل، إليه: إن الشهوة التي خرجت من أناملك حاسبناك بها.

وبإسناده قال وهب: لما أراد الله بيوسف الخير قامت زليخا إلى طاق لها، فارخت عليه سترا، وكان لها في الطاق صنم من خشب تعبده، فقال لها يوسف، عليه السلام: ماذا صنعت؟ قالت: استحييت من إلهي أن يراني أصنع الفاحشة. قال: فأنت تستحيين من إله من خشب لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يسمع ولا يبصر، فأنا أستحيي ممن أكرم مثواي، واحسن مأواي، واستبقا الباب. قالت زليخا: يا يوسف، بليت منك بخصلتين: ما رأيت بشرا أحسن منك، والثانية زوجي عنين. فلما تزوجها يوسف، عليه السلام، فأبصر بعينيها حولا قال: يا زليخا! أو حولاء؟ قالت له: ما علمت؟ قال: لا والله! قالت: ما استحللت أن أملأ عيني منك.

قال وهب بن منبه: وكانت زليخا ممنوعة من الشقاء، وكانت أجمل من بطشابع صاحبة داود، عليه السلام.

انتظري الدهر

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن إسحاق الجابري الموصلي بالبصرة قال: حدثنا محمد بن ياسر الكاتب كاتب ابن طولون قال: حدثني أبي قال: حدثنا علي بن إسحاق قال: اشترى عبد الله بن طاهر جارية بخمسة وعشرين ألفا على ابنة عمه، فوجدت عليه، وقعدت في بعض المقاصير، فمكثت شهرين لا تكلمه، فعمل هذين البيتين:

إلى كم يكون العتب في كل ساعة، ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا.

رويدك! إن الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين، فانتظري الدهرا.

قال: وقال للجارية: اجلسي على باب المقصورة فغني به! قال: فلما غنت البيت الأول لم تر شيئا، فلما غنت البيت الثاني، إذا هي قد خرجت مشقوقة الثوب حتى أكبت على رجله فقبلتها.

هبوا ساعة

أخبرني أبو عبد الله الحافظ الأندلسي بدمشق قال: أنشدني أبو عبد الله بن حزم لنفسه:

صلوا راحلا عنكم بتأنيس ليلة، ... فسوف يغيب المرء عنكم لياليا.

هبوا ساعة يسترجع الطرف ضعفها، ... فدى لكم نفسي وأهلي وماليا.

ولا تحسبوا عون الزمان، فأنه ... لنا ولكم يمسي ويضحى معاديا.

الله يحب التوابين

أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح بن علي بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب في ما أجاز لنا قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرنا الحسن بن خضر قال: أخبرني رجل من أهل بغداد عن أبي هاشم المذكر قال: أردت البصرة، فجئت إلى سفينة أكتريها، وفيها رجل ومعه جارية، فقال الرجل: ليس ههنا موضع! فسألته الجارية أن يحملني، فحملني، فلما سرنا، دعل الرجل بالغداء، فوضع، فقال: انزلوا بذكل المسكين ليتغدى، فأنزلت على أنني مسكين، فلما تغدينا، قال: يا جارية هاتي شرابك، فشرب، وأمرها أن تسقيني، فقلت: رحمك الله، إن للضيف حقا، وهذا يؤذيني. قال: فتركني، فلما دب فيه النبيذ قال: يا جارية هاتي العود وهاتي ما عندك، فأخذت العود، ثم غنت:

وكنا كغصني بانة ليس واحد ... يزول على الحالات عن رأي واحد.

تبدل بي خلا فخاللت غيره، ... وخليته لما أراد تباعدي.

فلو أن كفي لم تردني أبنتها،ولم يصطحبها، بعد ذلك، ساعدي.ألا قبح الرحمن كل مماذقيكون أخا في الحفض لا في الشدائد.

ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: أحسن خيرا منه، فقرأت: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت. فجعل يبكي، فلما انتهيت إلى قوله: وإذا الصحف نشرت، قال: يا جارية اذهبي، فأنت حرة لوجه الله، عز وجل، وألقى ما معه من الشارب في الماء، وكسر العود، ثم دنا إلي، فاعتنقني وقال: يا أخي أترى الله يقبل توبتي؟ فقلت: إن الله حب التوابين، وحب المتطهرين، قال: فآخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي، فرأيته في المنام فقلت: إلام صرت بعدي؟ فقال: إلى الجنة. فقلت: يا أخي بم صرت إلى الجنة؟ قال: بقراءتي علي: وإذا الصحف نشرت.

رجل لا يملك دمعه

أخبرنا إبراهيم بن سعيد إجازة قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي، وحدثني أبو الغمر حسام بن المضاء المصري قال: غزوت في زمن الرشيد في بعض المراكب فلججنا في البحر، فانكسر بنا في بعض جزائر صقلية، فخرج من أفلت، وخرجت معه فرأيت في بعض الجزائر رجلا لا يملك دمعه من كثرة البكاء، فسألته عن حاله، وقلت له: ارفق بعينيك، فإن البكاء قد أضر بهما. قال: إلا ذلك. فقلت: وما جنايتهما عليك حتى تتمنى لهما البلاء؟ فقال: جناية لا أزال معتذار منها إلى الله تعالى أيام حياتي. قلت: وما هي؟ قال: سرعة نظرهما إلى الأمور المحظورة عليها، ولقد أوقعتاني في ذنب نظرت إليه، لولا الرجاء لرحمة الله لأيست أن يعفو لي عنه. وبالله لو صفح الله لي عنه وأدخلني الجنة ثم تراءى لاستحييت أن أنظر إليه بعينين عصتاه، ثم صعقن وسقط مغشيا عليه.

حنين المغنية الحسناء إلى بغداد

أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي بمصر، وكتبه لي بخطه قال: أخبرني أبو محمد اليزيدي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني أبو علي بن الأشكري المضري قال: كنت من جلاس تميم بن أبي أوفى، وممن يخف عليه، فبعث بي إلى بغداد، فاتبعت له هناك جارية رائعة جدا، فلما حصلت عند أقام دعوة لجلسائه، قال: وأنا فيهم، ثم وضعت الستارة، وأمرها بالغناء ليسمع غناءها، ويحاسن الحاضرين بها، فغنت:

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه.

يبدو كحاشية الرداء، ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه.

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه، ... والماء ما سمحت به أجفانه.

قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت:

سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره.

ثنى الله عطفيه وألف شخصه، ... على البر، مذ شدت عليه مآزره.

قال: فطرب تميم ومن حضر طربا شديدا، ثم غنت:

أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه.

قال: فاشتد طرب تميم، وأفرط جدا، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك متمناك. فقالت: أتمنى عافية الأمير وبقاءه. فقال: والله لا بد لك أن تتمني. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى؟ فقال: نعم!، فقالت له: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغداد. قال: فاستنقع لون تميم، وتغير وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقمنا كلنا.

قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه، وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك فرجعت، فوجدته جالسا ينتظرني، فسلمت وجلست، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنا به؟ قلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء لها، وما اثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها غلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها. فقلت: سمعا وطاعة. قال: ثم قمت وتأهبت وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية سوادء تخدمها، وأمر بناقة ومحمل، فأدخلت فيهن وجعلها معين ثم دخلنا الطريق إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية، أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية. فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد اندفع بالغناء:

لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق.

وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق.

أيقنت لي ولمن أح ... ب بجمع شمل واتفاق.

وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق.

فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! فما سمع لها كلمة. قالك ثم نزلنا بالياسرية، وبينها وبين بغداد قريب في بساتين متصلة من الناس فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح، إذا أنا بالسوداء قد أتتني ملهوفة. فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيدتي ليست حاضرة! فقلت:وأين هي؟ قالت: والله ما أدري. قال: فلم أحس لها أثرا، فدخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته الخبر، فعظم ذلك عليه، ثم ما زال بعد ذلك ذاكرا لها واجما عليها.

الأسود المتيم بالله

أخبرنا أبو الحسن علي ن محمود الزوزني شيخ الرباط بقراءتي عليه قال: سمعت محمد بن محمد بت ثوابة يقول: حكي لي عن الشبلي أنه دخل إلى مارستان، فإذا هو بأسود، إحدى يديه مغلولة إلى عنقه، والأخرى إلى سارية، وهو مقيد بقيدين. قال: فلما رآني قال لي: يا أبا بكر قل لربك أما كفاك أن تيمني بحبك حتى قيدتني؟ ثم أنشأ يقول:

على بعدك لا يصبر من عادته القرب.

وعن قربك لا يصبر من تيمه الحب.

فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب.

قال: فزعق الشبلي، وأغمي عليه، فلما أفاق رأى الغل مطروحا والقيد والأسود مفقودين.

الشبلي وشعر المجنون

أخبرنا أبو الحسن الزوزني أيضا على أثره قال: قال لي علي بن المثنى: دخلت على أبي بكر جحدر بن جعفر الملقب بالشبلي في داره يوما، وهو يهيج ويقول:

على بعدك لا يصبر من عادته القرب.

ولا يقوى على حجبك من تيمه الحب.

لئن لم ترك العين فقد يبصرك القلب.

سأل الله أن يبتليه

حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن علي العلاف الواعظ من حفظه قال: سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ شيخنا يقول: سمعت أبا عبد الله الغلفي، أو قال لي أبو عبد الله الغلفي بطرسوس صاحب أبي العباس بن عطاء يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: قرأت القرآن، فما رأيت الله، عز وجل، ذكر عبدا فأثنى عليه في ما تبتليني، فما مضت الأيام والليالي حتى خرج من داري نيف وعشرون ما رجع منهم أحد، وذهب ماله، وذهب عقله، وذهب ولده وأهله.

قال أبو عبد الله الغلفي: فمكث بحكم الغلبة سبع سنين أو نحوها، فما رأيت أحدا صحا بعد غلبة فنطق بالحكمة أحسن من أبي العباس بن عطاء، فكان أول شيء قال بعد صحوه من غلبته:

حقا أقول لقد كلفتني شططا ... حملي هواك وصبري ذان تعجيب.

جمعت شيئين في قلب له خطر، ... نوعين ضدين: تبريد وتلهيب.

نار تقلقلني، والشوق يضرمها، ... فكيف قد جمعا، والعقل مسلوب.

لا كنت إن كنت أدري كيف يسلمني ... صبري إليك كما قد ضر أيوب.

لما تطاول بلواه اقشعر لها، ... فصاح، من حملها، غرثان مكروب:

قد مسني الضر والشيطان ينصب بي، ... وأنت ذو رحمة، والعبد منكوب.

قال لنا شيخنا أبو طاهر بن العلاف: قال لنا أبو الحسين بن سمعون، رحمه الله: أظن كان بقي عليه من الغلبة شيء فقال: لقد كلفني شططا، وأنا أقول: لقد حملتني عجبا.

ريحانة ناطقة

أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد المكي صاحب قوت القلوب بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس إملاء قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن محمد بن سهل الواعظ قال: حدثنا محمد يعني ابن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا روح بن منصور قال: قال عباد العطار: قمت ذات ليلة فقلت: اللهم اكس وجهي منك حياء، فصرخت ريحانة: ادعو لك بإسقاط العرى، أنت مراء، وتدعو بالحياء؟ الورع أولى بك من ذا، وأنشأت تقول:

تعود سهر الليل، فإن النوم خسران.

ولا تركن إلى الذنب، فعقبى الذنب نيران.

وكن للوحي دراسا، فللقرآن أخدان.

إذا ما الليل فاجاهم، فهم في الليل رهبان.

يميلون كما مالت، من الأرواح، أغصان.

قال: فبكيت حتى اشتفيت.

عيسى بن مريم والأسد

أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد الشاهد قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي قال: حدثنا أبو يوسف الضخم قال: حدثنا عبد الله بن مقوم التنوخي قال: أخبرنا عبد المنعم عن أبيه قال: خرج عيسى بن مريم، عليه السلام، في ليلة شاتية في سياحته فأخذته السماء بالمطر والريح، فأتى كهفا ليسكن فيه، فإذا هو بسبع قد خرج إليه يبصيص، فلما رآه عيسى رجع وقال: أنت أحق بموضعك، وجعل يقول: يا رب لكل ذي روح ملجأ يسكن إليه، وليس لعيسى مسكن، فأوحى الله، عز وجل، إليه: استبطأتني، وعزتي لأزوجنك، يوم القيامة، حوراء، ولأولمن عليك أربعة آلاف سنة.

كمون الحب في الحشا

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي الوكيل قال: حدثنا الحسن بن حسين بن حكمان قال: حدثنا أبو الفتح البصري قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الصوفي قال: حدثنا أبو العباس بن عطاء قال: حكي لنا عن الأصمعي قال: دخلت بعض أحياء العرب فإذا بقوم شحب ألوانهم، فقلت في نفسي: إن هؤلاء قد وقعوا على داء، فأنا أخرج من بينهم.

قال: فذهبت لأخرج فإذا بعضهم يقول لي: إلى أين، يا أخا العرب؟ فقلت: أطلب لدائكم دواء. فقال: ارجع، عافاك الله، فإنا قوم ليس لدائنا دواء، نحن قوم فشت في قلوبنا محبة الله، فتغيرت ألواننا.قال الأصمعي: فأعجبيني ما سمعت لأنني ما سمعت مثله قط. قال: فرجعت إلى الحي، ولم أزل أور فرأيت خباء شعر منفردا عن البيوت، فقصدته، فاطلعت فيه، فإذا أنا بفتى حسن الوجه في عنقه سلسلة مشدودة سكة في الأرض، قال: فهالني ما رأيت منه، فقلت: يا فتى ما شأنك؟ فقال: يا ابن عمي! يقولون إني مجنون! فقلت: أهو كما يقولون؟ فقال لي: لا والله ما أنا بمجنون، ولكني بحب الله مفتون.

قال: قلت فصف لي الحب! فقال: إليك عني، يا أخل العرب، جل عن أن يحد، وخفي أن يرى، كمن في الحشا كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى، ثم صفق وأنشأ يقول:

أأنت الذي أصفيت منك مودة ... قلائعها في ساحة القلب تغرس.

وإن كان لي من فقد قلبي موحش، ... فقد ظل لي من فكرتي فيك مؤنس.

أناجيك بالإضمار حتى كأنني ... أراك بعيني فكرتي، حين أجلس.

كل محب عليل

أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي قال: أخبرني محمد بن هارون الثقفي قال: أنشدنا المسروقي قال: أنشدنا بعض أصحابنا:

ونفس محب الله نفس عليلة، ... وأي محب تراه عليلا؟.

 

 

الكفوف المجذوم

أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ قال: حدثنا عبد الرحمن بن فضالة النيسابوري قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن شاذان المزكي قال: سمعت طيبا المخملي بالبصرة يقول: سمعت علي بن سعيد العطار يقول: مررت بعبادان بمكفوف مجذوم، وإذا الزنبور يقع عليه، فيقطع لحمه، فقلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه، وفتح من عيني ما أغلق من عينيه! قال: فبينا أنا أردد الحمد إذ صرع، فبينا هو يتخبط نظرت إليه، فإذا هو مقعد، فقلت: مكفوف يصرع، ومقعد مجذوم؟ قال: فما ساتتممت كلامي حتى صاح: يا مكلف! ما دخولك في ما بيني وبين ربي؟ دعه يعمل بي ما شاء. ثم قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إربا إربا، وصببت علي العذاب صبا، ما ازددت لك إلا حبا.

زوجتان من الحور العين

أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان قراءة عليه، غير مرة، في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي إملاء قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز عن الحارث عن ابن وهب قال: حدثني بكر بن مضر أن عبد الكريم بن الحارث حدثه عن رجل أنهم كانوا مرابطين في حصن، فخرج رجلان إلى الجيش، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن تغتسل لعل الله أن يعرضنا للشهادة؟ فقال صاحبه: ما أريد أن أغتسل، فاغتسل صاحبه، فلما فرغ سقط حجر من الحصن فأصاب الرجل، فمررت بهم، وهم يجرونه إلى خيامهم، فسألتهم ما شأنه؟ فأخبروني الخبر، فانصرفت إلى أصحابي، ثم رجعت إليهم، فأقمت عندهم، وهم يشكون هل مات أو عاد إليه الروح.

فبينا هو كذلك إذ ضحك فقلنا: إنه حي، ث مكث مليا، ثم ضحك، ثم مكث مليا، ثم بكى، ففتح عينيه. فقلنا: ابشر يا فلان، فلا بأس عليك، لقد رأينا منك عجبا، كنا نظن أنك قد مت إذ ضحكت، ثم مكثت مليا. قال: إني لما أصابني ما اثابني أتاني رجل فأخذ بيدي فمضى بي إلى قصر من ياقوتة، فوقف بي على الباب، فخرج إلي غلمان مشمرين لم أر مثلهم، فقالوا: مرحبا بسيدنا! فقلت: من أنتم، بارك الله فيكم؟ قالوا: نحن خلقنا لك.

ثم مضى بي حتى أتى بي قصرا آخر، وخرج إلي منه غلمان مشمرين هم أفضل من الأولين فقالوا: مرحبا وأهلا بسيدنا! فقلت: من أنتم، بارك الله فيكم؟ فقالوا: محن خلقنا لك.

ثم مضى بي إلى بيت لا أدري من ياقوت أو زبرجد أو لؤلؤ، فخرج إلي غلمان مشمرين سوى الأولين فقالوا مثل ما قال الأولون، وقلت لهم مثل ذلك، فوقف بي على باب البيت، فإذا بيت مبسوط فيه فرش موضوعة بعضها فوق بعض ونمارق مبسوطة، فأدخلني البيت، وفيه بابان، فألقيت نفسي بين الوسادتين، فقال: أقسمت عليك إلا ألقيت نفسك فوق هذه الفرش، فإنك قد نصبت في يومك هذا. فقمت فاضطجعت على تلك الفرش على وطاء لم أضع جنبي على مثله قط.

فبينا أنا كذلك إذ سمعت حسا من أحد البابين، فإذا أنا بامرأة لم أر مثل جمالها، وعليها حلي وثياب لم ار مثلها، وأقبلت حتى وقفت علي، ولم تتخط تلك النمارق، ولكن أقبلت بين السماطين حتى وقفت وسلمت، فرددت عليها السلام. فقلت: من أنت، بارك الله فيك؟ فقالت: أنا زوجتك من الحور العين، فضحكت فرحا بها، فأقامت تحدثني، وتذكرني أمر نساء أهل الدنيا، كأن ذلك معها في كتاب.

فبينا أنا كذلك إذا سمعت حسا من الشق الآخر، فإذا أنا بامرأة لم أر مثلها ولا مثل حليها وجمالها، فأقبلت، حتى وقفت كنحو ما صنعت صاحبتها، ثم مكثت تحدثني، فأقصرت الأخرى، فأهويت بيدي إلى أحداهما، فقالت: تأن لم يأن لك، إن ذلك مع صلاة الظهر، فما أدري أقالت ذلك أم رمي بي إلى صحراء، فلم أر منهم أحدا، فبكيت عند ذلك.

فقال الرجل: فما صليت الظهر أو عند الظهر، حتى قبضه الله، عز وجل.

الشهداء في قباب ورياض

أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان أيضا قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن أبي هارون الغنوي عن مسلم بن شداد عن عبيد بن عمير عن أبي بن كعب قال: الشهداء يوم القيامة بفناء العرش، في قباب ورياض بين يدي الله، عز وجل.

عيناء الجنة

أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان قال: حدثنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا أحمد الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزاز قال: حدثنا إسحاق ابن بنت داود بن أبي هند قال: أخبرنا عباد بن راشد البصري عن ثابت البناني قال: كنت عند أنس بن مالك، إذ قدم عليه ابن له من غزاة، يقال لها أبو بكر، فساءله، فقال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟ بينا نحن قائلون في غزاتنا إذ ثار، وهو يقول: وا أهلاه، وا أهلاه، فثرنا إليه، وظننا أن عارضا عر ض له، فقلنا: ما لك؟ فقال: إني كنت أحدث نفسي ألا أتزوج حتى أستشهد، فيزوجني الله تعالى من الحور العين، فلما طالت علي الشهادة قلت في سفرتي هذه: إن أنا رجعت، هذه المرة، تزوجت، فأتاني آت في المنام قال: أأنت القائل إن رجعت تزوجت؟ قم، فقد زوجك الله العيناء، فانطلق بي إلى روضة خضراء معشبة، فيها عشر جوار.

وذكر الحديث وقطع الحديث، بسبب ما وقع في الجامع، وذلك أنه تكلم رجل في المذهب، فعاونه رجل فضولي في رواق الجامع، وأخرجوه فقتل وانقطع عنا الحديث، وقبر في غد في قبر معروف، فسئل الشافعي أن يملي تمام هذا الحديث، في يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الأولى، فأملاه علينا، وبيد كل واحدة صنعة تصنعها، لم أر مثلهن في الحسن والجمال. فقلت: أفيكن العيناء؟ فقلن: نحن من خدمها، وهي أمامك. فمضيت، فإذا روضة أعشب من الأولى، وأحسن، فيها عشرون جارية في يد كل واحدة صنعة تصنعها، وليس العشر إليها بشيء في الحسن والجمال، قلت: أفيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.

فمضيت، فإذا بروضة وهي أعشب من الأولى والثانية في الحسن والجمال، فيها أربعون جارية في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها وليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلت: أفيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.

فمضيت فإذا بياقوتة مجوفة فيها سرير عليه امرأة قد فضل جنباها عن السرير، فقلت: أأنت العيناء؟ قالت: نعم! مرحبا بك، فأردت أن أضع يدي عليها، قالت: مه، إن فيك شيئا من الروح بعد، ولكن تفطر عندنا الليلة، قال: فانتبهت.

قال: فما فرغ الرجل من حديثه، حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي، قال: فركينا فصاف الرجل العدو، وقال: فإني لأنظر الرجل، وأنظر إلى الشمس، وأذكر حديثه، فما ؟أدري أرأسه سقط أم الشمس سقطت.

جارية تزو رفي المنام

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه، في سنة أربعين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن سويد قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا عبد الله بن خلف قال: حدثنا أبو بكر محمد بن سماعة قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز القرشي قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: كان عندنا فتى باليمن بطال مسرف على نفسه. وكان مع ذلك ذا مال وجمال، فرأى ليلة، في نومه، جارية، قد أقبلت إليهن وعليها ثوب من اللؤلؤ تتثنى أطرافه، وبيدها كتاب من حرير أخضر مكتوب بالذهب، فقالت له: بأبي أنت اقرأ لي هذا الكتاب، فقرأه فإذا هو:

من التي صاغها الرحمن في غرف، ... من مسكة عجنت في ماء نسرين.

إلى الذي حبه في القلب محتبس، ... وقلبه عنه في لهو وتفتين.

يا سهل بادر، فقد أورثتني حزنا، ... كم عنك ما لا أحب، الدهر، يأتيني.

ألست تشتاق أن تلهو على فرش ... موضونة مع جوار خرد عين؟

قال: فأصبح الفتى تاركا لكل ما كان عليه من البطالة والصبى، ولم يزل متنسكا أحسن تنسك حتى مات. قال: وكان اسمه سهلا. قال أبو بكر بن الأنباري: الخرد الحسان. والموضونة: المنسوجة بالذهب. والعين: الحسان الأعين.

خود في قصر زبرجد

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد البزاز قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا أبو الطيب بن الشهوري قال: حدثني زريق الصوفي قال: أخبرني محمد بن الحسين عن حبيب الفارسي قال:

دخلت يوما إلى الرجان، فإذا بمجنون يقال له أبنا. قال: فهاج على قلبي آية من كتاب الله، عز وجل، فقرأت: حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. قال: فهاج ثم أنشأ يقول:

من حب سيدة تبوأ جنة ... قد حففت أنهارها بخيام.

مع خودة في جوف قصر زبرجد ... مكنونة في خدرها كغلام.

ورصانة في قولها وحديثها، ... لا تأيسن براقد نوام.

الجارية المجنونة والزرع

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي بهذا الإسناد عن زريق الصوفي عن عبد الواحد قال: قال عتبة الغلام: خرجت من البصرة والأبلة، فإذا أنا بخباء أعراب قد زرعوا، وغذا أنا بخيمة، وفي الخيمة جارية مجنونة عليها جبة صوف لا تباع ولا تشترى، فدنوت فسلمت، فلم ترد السلام، ثم وليت فسمعتها تقول:

زهد الزاهدون والعابدونا، ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا.

أسهروا الأعين القريحة فيه، ... فمضى ليلهم، وهم ساهرونا.

حيرتهم محبة الله حتى ... علم الناس أن فيهم جنونا.

هم ألبا ذوو عقول، ولكن ... قد شجاهم جميع ما يعرفونا.

قال: فدنوت إليها فقلت: لمن الزرع؟ فقالت: لنا إن سلم، فتركتها وأتيت بعض الأخبية، فأرخت السماء كأفواه القرب فقلت: والله لآتينها فأنظر قصتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرق، وإذا هي قائمة نحوه وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف سحر بصفي محبة اشتياقك، إن قلبي ليوقن منك بالرضا، ثم التفتت إلي فقالت: يا هذا! إنه زرعه، فأنبته، وأقامه، فسنبله، وركبه، وأرسل عليه غيثا فسقاه، واطلع عليه فحفظه، فلما دنا حصاده، أهلكه، ثم رفعت راسها نحو السماء فقالت: العباد عبادكن وأرزاقهم عليك، فاصنع ما شئت! فقلت لها : كيف صبرك؟ فقالت: اسكت يا عتبة.

إن إلهي لغني حميد، ... في كل يوم منه رزق جديد.

الحمد لله الذي لم يزل ... يفعل بي أكثر مما أريد.

قال عتبة: فوالله ما ذكرت كلامها إلا هيجني.

دعاء ريحان المجنون

وحكى الصقر بن عبد الرحمن الزاهد قال: كان ريحان المجنون يقول في دعائه: اللهم قصدتك آمالي، الطمع رغبتي فيك، وولهت بك جوارحي لمواصلات الوداد إليك. ثم يقول:

كتب الناسك بالدم ... ع إلى الحور كتابا.

لا بأقلام ولكن ... خط بالدمع سحابا.

من فتى أقلقه الشو ... ق وأضنى وأذابا.

لا تمرض ولا تهرم ولا تموت

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بن عاصم البزاز الصوفي قراءة عليه بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: كنت مع محمد بن الفرج السائح، فنظر إلى جارية جميلة تعرض على رجل ليشتريها، فقال: بكم تباع هذه الجارية؟ فقيل له: بألف دينار، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم! إنك تعلم أني لا أملكها، ولا تنالها يدي، وإني لأعلم من كرمك أني لو سألتك إياها لم تردني عنها ولم تمنعني منها، تفضلا منك علي وإحسانا إلي، وإني أسالك ما هو أنفس عندي منها، بادنة لا تمرض ولا تهرم ولا تموت، ومهرها أن لا تراني نائما بليل، ولا طاعما بنهار، ولا ضاحكا إلى أحد من خلقك أبدا، وأنا أجد في المهر من وقتي هذا، فأنجز لي، إذا لقيتك، ما سألتك يا كريم. قال: فما رأيناه نائما بليل، ولا طاعما بنها، ولا ضاحكا إلى أحد من الناس حتى لحق بالله، عز وجل.

الغلام الشهيد

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر بإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي:

طنت مع عبيد الله بن محمد الغسكندراني ببلاد الروم فنظر إلى غلام جميل يحمل على علج من الروم، ويرجع عنه أحيانا، فدنا منه، وقال: فدتك النفس أنا تشتاق إلى أن ترى وجها هو أحسن من وجهك وأبهج من شخصك؟ فقال: بلى، والله يا عم. فقال: والله ما بينك وبين أن ترى الله، عز وجل، إلا أن يقتلك هذا العلج، فصاح الغلام، وحمل عليه، فقتله العلاج، فكان عبيد الله بن محمد يقول بعد ذلك إذا ذكره: رحمة الله علينا وعليه، إني لأرجو أن يكون الله، عز وجل، قد ضحك غلى وجهه الحسن الجميل بما بذل له من مهجة نفسه.

ابن جويرية والغلام الجميل

وبإسناده قال: قال أبو حمزة وحدثني إسماعيل بن هرثمة الوقاص قال: حدثنا الأسود بن مالك الفزاري قال: حدثني أبي قال: حضرت أبا مسلم سعيد بن جويرية الخشوعي، وقد نظر إلى غلام جميل فأطال النظر إليه، ثم قرأ: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، سبحان الله، ما أهجم طرفي على مكروه نفسه، وأقدمه على سخط سيده، وأغراه بما قد نهى عنه، وألهجه بالأمر الي حذر منه، لقد نظرت إلى هذا نظرا لا أحسبه إلا أنه سيفضحني عند جميع من عرفني في عرصة القيامة، ولقد تركني نظري هذا، وأنا أستحيي من الله، عز وجل، وإن غفر لي، وأراني وجهه، ثم صعق.

يحن بالجنان

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن هزار بن محمد بن هزار الخطيب بمرو الروذ قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز .

قال: حدثنا علي بن الجعد قال: حدثنا شعبة قال: بلغني عن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز النخعي أنه كان يصلي في مسجد على عهد عمر فقرأ الإمام ذات ليلة: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقطع صلاته وجن، وهام على وجهه، فلم يوقف له على أثر.

العظة القاتلة

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر، سنة خمس وخمسين، قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: أبو حمزة الصوفي: حدثني محمد بن مصعب بن الزبير المكي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة، ونحن ببلاد الروم في سرية عليها محمد بن مصعب الطرطوسي قال: كان بالمدينة غلام من بني مخزوم موصوف ببراعة الجمال، فإذا كان في أيام الحج حجبه أبوه عن الخروج إلى المسجد حتى يصدر آخر الحاج إشفاقا عليه من أعين الناس وحذرا عليه منهم، فاشتهر بجماله ووصف بكماله، فكانت الرفاق تتحدث بحديثه، فقدم علينا رجل من الصوفية عند انقضاء عمرتهم، وقد رجعوا من الحج لزيارة قبر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وما بالمدينة يومئذ أحد من الحاج غيرهم، فخرج المخزومي في ذك اليوم، فأتى قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، ثم قعد في الروضة ينتظر الصلاة، فوقف عليه طلحة ينظر إليه مليا، فرأى شيئا لم ير مثله قط، ثم قال: يا فتى اسمع عني مقالتي واعرض على قلبك كلامي، وافهم مني عظتي، فإني قد بدأتك بالنصيحة لما أملت لك من الله، عز وجل، فيها من حسن الجزاء، وجميل الثناء.

يا حبيبي أتدري من يراك، ومن يشهد عليك؟ قال: ومن هما يا عم؟ قال: الله تعالى يراك، ونبيه، صلى الله عليه وسلم، يشهد عليك، فإياك واقتراف المعاصي بحضرة نبيك، صلى الله عليه وسلم، فإنك لا تأتي أمرا في هذه البلدة يكون عليك فيه تبعة، إلا والله تعالى له حفيظ، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عليك به شعيدن وأصحابه لك خصوم، وكفى خصما أن يكون القاضي عليه خالقه، والشاهد عليه نبيه، صلى الله ليه وسلم، والخصوم له خيرة الله من خلقه الصالحون من عباده فانتفض الغلام وسقط مغشيا عليه، واجتمع الناس فاحتملوه إلى منزله، فما أتى عليه ثلاثة أيام حتى مات.

خليلان في الجنة

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي.

قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: حدثان أبو حمزة الصوفي قال: حدثنا محمد بن الأحوص الثقفي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: كان محمد بن الحسين الضبي وعبد العزيز بن الشاه التيمي كأنهما هلالان أو درتان من حسنهما وجمالهما، فسمعا كلام أبي عبد الله الديلمي، وكان من أحسن الناس كلاما وأظهرهم خشوعا وأكثرهم صلاة واجتهادا، فصحباه، وكانا معه لا يامن عليهما أبواهما أحدا غيره، فكان يحج بهما في كل عام، ويرابط معهما في السواحل سائر سنيه، حتى أخذا منهن ووعيا عنه، وتأسيا بأخلاقه، واحتذيا عاى طريقتهن وكانا مقبلين على طلب الخير والجهاد، فخرج بهما فرآهما رجل من الجند، فرأى شيئا لم ير مثله، فأراد أخذهما منه، فحال بينه وبينهما، وأعانه الناس على ذلك، وكان مشهورا بالنسك والعفاف، فاغتاله الجندي فقتله، وقبض على الغلامين، فمتنعا عليه، واستغاثا بالناس، فجاؤوا فنظروا إلى ابي عبد الله الديلمي مقتولا، فأخذوا الجندي، وأتوا به السلطان فقتله.

قال أبي: فحدثني هذا الرجل قال: كنت حاضرا لهما، وقد دفناه ورجعا عن قبره، يعرف الحزن عليهما، والكآبة فيهما، فسمعت أحدهما يقول لصاحبه: ما ترى، يا اخي؟ قال: أرى أن يكون على عزيمتنا أو يمضي على ما عقدناه من نيتنا حتى نقضي راطنا، ونرجع إلى بلادنا، فقال له الآخر: لست أرى رأيك ولا ما أشرت بهن ولكن مصيبتنا بهذا الرجل ليست بصغيرة ولا حقه علينا بيسير، ه علينا حق الوالد بالشفقة، وحق التعليم وطول الصحبة، وطهارة العشرة، وحسن المرافقة، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن نقيم على قبره مقدار رباطنا نستغفر له، ثم ننصرف، فإن عزمت أن نرابط بعد فعلنا، وإن أحببت أن نرجع صدرنا.

قال: قد قلت قولا لن أخالفك عليه، فاسألاني الإسعاد لهما على ذلك، فأقمت معهما نيفا على عشرين يوما، فاعتل محمد بن الحسن، فاشتدت علته، فقلن عبد العزيز قلقا شديدا، وجزع جزعا لم أره من أحد قط، فقلت: ما هذا الجزع يا أخي؟ قال: أفلا يحق لي أن أجزع على أخ شقيق وحبيب شفيق؟ فسمعنا محمد فقال: يا عبد العزيز لا تجزع فإن الجزع لا يغني عني شيئا مما نزل بي من الموت، واعلم يا أخي أنك أرفع عند الله، عز وجل، ردحة مني.

فقال: وبم ذاك؟ قال: بمصابك بي، فبكى عبد العزيز حتى ألصق خده بالأرض وأبكى من حضر من النساك وغيرهم، فقال له محمد: يا أخي لا تبك فإني في أمر عظيم، وعلى خطر جسيم هو أكبر عندي وأجل في قلبي من بكائك، وقد شغلني الفكر فيك وفي وحدتك بعدي عن بعض ما أنا فيه من ألم العلة، وقد تزايدت علتي لما أراه في وجهك من الحزن والغم، فإن استطعت أن تحتسبني عند الله، عز وجل، فافعلن، ولا تطلقن علي عبرة ولا تذرين بعدي دمعة، فإني منقول إلى رحمة وصائر إلى نعمة، لول كان أحد أحق بالبكاء من أحد لكنت أحق به لما نزل بي من الموت وشدة كربه وحياء مما حضرني من ملائكة ربي.

فصعق عبد العزيز، وخر مغشيا عليه، فدنوت من محمد بن الحسن، فقلت: ألك حاجة أو أمر توصيني به؟ فقال: أوصيك بإيثار تقوى الله، عز وجل، على جميع الأمور، وحاجتي أن تحفظني في أخي هذا، فإنه من أهم من أترك بعدي.

فقال له أبو المغلس الصوفي، وكان يشبه خشوعه بخشوع أبي عبد الله الديلمي: يا أبا عبد الله! قد عشتما مصطحبين منذ كنتما صغيرين، لا نعرف لأحد منكما خزية ولا نحفظ عليكما زلة، فنشأتما على أمر واحد لم تتهاجرا، ولم تختصما، ولم تتفرقا، وقد تكلم بعض الناس فيكما بكلام قد رفع الله أقداركما عنه لما بين الله تعالى اليوم من أموركما، ونشر من حسن طويتكما، فالحمد لله على ما أولاكما من ذلك. وقد تذكر أن أعلام الموت إليك قد أقبلتن والملائكة منك قد اقتربت، وإني أثق بفهمك، لما أعلم من حسن عقلك، فهل ترى أحدا منهم؟ فقال: إني أرى صورا تقبل ولا أثبتها على حقيقة النظر.

قال: فما تجد؟ قال: أجد ألما لو قسم على جميع الخلائق لكانوا في مثل حالي.

قال: صفه لي.

قال: وما عسى أن أصف لك منه؟ أجد نفسي كأنها بين جبلين قد اصطكا علي، وكأن أسنة توخز في بدني، وكأن نارا توقد في عيني، وأجد لهاتي قد يبست، فما أجد فيها شيئا من ريقي.

فقال له أبو المغلس: إني قرأت بعض الأخبارن وما روي في الآثار: حتى يرى مقعده من النار، أو الجنة. فهل رأيت شيئا من ذلك؟ قال: أما في وقتي هذا فلا.

فلما اشتد به الامر وكاد أن يغلبه الكرب أومأ بيده إلى أبي المغلس، فأصغى بأذنه إليه، فقال: إنك سألتني عن مقعدي، وهذه الروح قد خرجت من بعض جسدي، وارتفعت إلى حقوي، وقد رأيت مقعدي.

قال: وأين رايته؟ قال: رأيته في جنة عدن.

قال: فهل رأيت أبا عبد الله الديلمي؟ قال: إن روحه لترفرف علي، وقد رايت مقعده أفضل من مقعدي، ودرجته أفضل من درجتي، ولا احسب أنه قال إلا بالعلم الذي سبق إليه قبلي، أو بالشهادة التي اختصه الله تعالى بها دوني، وهذه روحه تبشر روحي بما أعده الله تعالى لي مما لم يبلغه عملي، ولا أحاط به فهمي، ولا استحقه بفعلي مما يعجز عن صفته قول، ثم مد يده وغمض عينيه، وقضى، رحمة الله عليه.

ثم إن عبد العزيز أفاق بعد طويل فحضر غسله وجهازه، ودفنه، ورجع، ورجعنا معه، فمكث أياما لا يطعم ولا يتكلم، وحضرت صلاة الغداة، فقام إلى جانبي في الصف، فسمعته يدعو بعدما فرغ من الصلاة، وهو يقول: اللهم لا تجمع علي كرب الدنيا وعذاب الآخرة، وعجل خروجي عن الدنيا سالما منها غل رضاك ومغفرتك، وارحم غربتي، وأجب دعوتين واجمع بيني وبين من أحبني فيك، وأحببته لك، ولا تفرق بيني وبينه، واجعل اجتماعنا في محل الفائزين.

ثم قال: أقسمت عليك ألا فعلت. ثم خر ساجدا فظننت أنه قد سجد وأطال السجود، فدنوت منه، فحركته، فإذا هو قد قضى، فدفنته إلى جنب صاحبه، فكنا حينا من الدهر نتحدث بحديثهم، وبما وهب الله، عز وجل، لهم من الاجتماع في الدنيا والآخرة، وبما أفضوا إليه من الكرامة والرحمة.

قال: فمكثت سنين أتمنى أن أرى واحدا منهم في منام، فرأيت عبد العزيز بن الشاه، وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، فناديته، فوقف، فقلت: ما عل الله بك؟ قال: غفر لي.

قلت: بماذا غفر لك؟ قال: بقول الناس في ما لا يعلمون وبرميهم إياي بالإفك والظنون.

قلت: فما فعل محمد بن الحسن؟ قال: جمع الله بيني وبينه، وأنا وهو في درجة واحدة.

قلت: فما فعل أبو عبد الله الديلمي؟

 - ل: هيهات! ذاك رجل أبيح له الجنة، فهو يسرح فيها، ويحل منها حيث يشاء.

قلت: وبم ذاك؟ قال: بما سبق له من السعادة، وبفضل أجر الشهادة، وبحفظه لفرجه عن الحرام، وطرفه ولسانه عن الآثام.

فقلت " كيف وجدت الموت؟ قال: هونه الله علي لما علم من ضعفي وطول حزني.

قلت: هل رأيت جهنم؟ قال: وهل الصراط إلا عليها، والورود إلا إليها؟ نعم قد رأيتها ووردتها، فما آلمني حزها، ولا أفزعني زفيرها.

قلت: فكيف كان ممرك على الصراط؟ قال: كما يجري الفرس الجواد على الأرض البسيطة التي ليس فيها حجر يخاف أن يعثر به.

قلت: هل رأيت منكدرا الشعراني؟ قال: رأيته وسلمت عليه، وما أقرب درجته من درجة أبي عبد الل الديلمي.

قلت: وبم أعطي ذلك؟ قال: بغضه لطرفه وحفظه لفرجه.

قلت: فهل رايت مغلسا الصوفي؟ قال: نعم، رايته على فرس من ياقوت أحمر، يطير به في الجنة.

فقلت له: اين تريد؟ فقال: أريد أن أستقبل أرواح قوم قتلوا في البحر.

قلت: وكيف أعطي ذلك؟ قال: بفضل رحمة الله.

قلت: قد علمت أنه إنما نال ذلك بفضل الله تعالى وبرحمته.

قال: بكثرة البكاء وملازمة الدعاء وطول الظماء وصبره على البلاء.

الهارب إلى ربه والآبق من ذنبه

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور الزاهد القواس، رحمه الله، قال: حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن سهل إملاء سمعته من لفظه قال: حدثنا سعيد بن عثمان بن عباس الخياط قال: حدثنا أحمد محمد بن عيسى الإسكندراني واصله مصيصي قال: حدثني منصور بن عمار قال: بينا أنا سائر في بعض طرقات البصرة، إذا أنا بقصر مشيد، وخدم وعبيد، وبسمر القنا منصوبة وقباب الأدم مضروبة، وإذا حاجب قد جلس على كرسي من حديد، وثنى رجلا على رجل، كأنه جبار عنيد، فهممت بأن أدنو من القصر، فصاح بي تجبرا وتحكما: ويحك! أما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره؟ قلت: هذا ملك يكوت والحي في السماء ملك لا يموت، والله لأدنون من القصر، فأنظر لمن هو.

فدنوت من ورائه فإذا أنا بمنابر طوال مشبكة بقضبان الذهب والفضة، وإذا بغلام جالس على كرسي من ذهب مرصع بأنواع الجوهر، كأنه غصن بان أو مشق قضيب ريحان، أخضر الشارب صلت الجبين، سهل الخدين مقرون الحاجبين، كأن لبته صفحة فضة، وخده أشبه بخدود النساء من خدود الرجال، قد حزق في الفنك والسمور، ورقيق الكتان، وهو ينادي بحنين جرمه: يا نشوان! فما لبثت أن خرجت علي جارية كأنها خوط بان أو مشق قضيب ريحان، عليها مرط حرير أخضر، قد لصق على رطوبة جسمها، تمشي على فاضل شعرها تطرق بنعلها، وتفنن، والله، من رآها، فلا أدري، والله، الجارية كانت أحسن أم الغلام، فخشيت أن تغشاني، ففتحت الأبواب، فخرج الغلمان فتلببوني وقالوا: ويحك! ما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره حتى نظرت إلى حرمة الملك.

فقلت: لمن يكون هذا القصر؟ فقالوا: لملك البصرة، وابن سيدها.

فدخلت إليبه فنظر إلي وأجال حماليق عينيه، كأنهما عينا ظبي تتفرس إلي، فقال لي " لقد اجترأت علي إذ نظرت غلى حرمتي.

فقلت: أيها الملك! جد بعفوك على ضعفي، وبحلمك على جهلي، فإني رجل طبيب، ولا يرى في كتب الحكماء قتل الطبيب، وإني لأرى في جسمك هذا مدخلا قد التوت عليه الضلوع والأعضاء، وهو رقيق في الضمير، ما بين الأحشاء. يا غلام قد حزقت في الفنك والسمور، هل لك صبر على مقطعات التيران، وسرابيل القطران، وصوت مالك وعرض الرحمن؟ أما سمعت أنه ينادى بالنار يوم القيامة بأربعة أصوات: يا نار كلي ولا تقتلي، يا نار أحرقي، يا نار أنضجي، يا نار اشتفي، فإذا سمعت النار يا نار كلي، أكلت بوهج اللهب من بين أطباقها، فويل للطبقة السفلى من الطبقة العليا كيف يتراكب عليهم الدخان من بعد مهاويها، وقد شدوا في سلاسلها وقرنوا مع شياطينها، وأرسلت عليهم حياتها وعقاربها.

فصرخ الغلام صرخة، ثم قال: يا طبيب قتلتني، وبأسهم المنايا رشقتني، فما أخطأت صميم كبدي،ويحك يا طبيب، ما أحر مكاويك، وأرشق نبلك.

فقلت له: حبيبي قد أعجبك نشوان، فلو نظرت إليها بعد ثالثة من وفاتها، وقد تمعط شعرها، وسال صديدها، وبلي بدنها، إذن لمقتهان أفلا أصف لك نشوان الجنان التي ذكرها الله تعالى في القرآن: إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين، جارية إذا خطرت مالت الأشجار إلى حسن وجهه، وصفرت الطير إلى جمالها طربا، وإذا وقفت وقف جاري الماء لوقوفها، وإذا مشت تبسمت الحضرة من تحت زمام نعلها، ويكاد ينظوي من رطوبة جسمها، جارية خلقت من الزعفران والمسك الأذفر، بلا تعب ولا نصب، فترى مجرى الدم منها كما ترى الخمرة في الزجاجة البيضاء. قال لها بارئ النسم: كوني فكانت.

قال: فصاح الغلام: يا طبيب قتلتني، وبسهم المنايا رشقتني، ثم ضرب بيده إلى أقبيته فشقها، ورمى بسيفه ومنطقته، ووثب قائما على قدميه يرتعد كالسعفة في يوم ريح عاصف، ثم اقل: يا قصر! عليك السلام قد هربني هذا الطبيب الشفيق الرفيق.

قال منصور: فصرخت نشوان صرخة من داخل القصر، وقالت: يا مولاي والله ما تنصفني، تهرب وتتركني، رويدا مكانك، فخرجت علي نشوان، وقد قصرت من شعرها، ثم قالت: يا مولاي! من أراد السفر إلى بلد قفر هيأ الزاد، ومن أراد التوبة شمر لها.

قال منصور: ثم هربا جميعا، فخرجت إلى باب القصر، فإذا أنا بالقباب قد نزعت، وبالخيام قد رفعت، وبالحجب قد نحيت، فوقفت فناديت بأعلى صوتي: يا أيها الهارب إلى ربه، والآبق من ذنبه، لقد هربت إلى أكرم الأكرمين.

قال منصور: فلما كان بعد حولين كاملين حججت إلى بيت الله الحرام، فبينا أنا في الطواف إذ سمعت صوت محزون مكروب مغموم، وهو يقول: إلهي وسيدي! نحل جسمي ودق عظمي ورق جلدي وخرجت من مالي رجاء أن تريني وجهك الكريم الجميل، وتجمع بيني وبين نشوان في الجنان.

قال منصور: فدنوت منه فقلت: يا غلام ما أقل حياءك! بأي حق تطلب من ربك نشوان الجنان؟ فنظر إلى وبكى وقال لي: رفقا يا طبيب! رفقا هكذا تضرب بسوطك جسما عليلا، ثم لا تعرفه؟ أنا والله ملك البصرة وابن سيدها.

قال منصور: فوالله ما عرفته إلا بخال كان في وجهه، وقد نحل وذاب جسمه، فقلت له: حبيبي ما فعلت نشوانك؟ فبكى وقال: يا ابن عمار، والله لو رأيتها ما عرفتها، قد ذهب البكى ببصرها، ومحت الدموع محاسن وجهها.

فقلت له: حبيبي! ما كان أحوجني إلى رؤيتها، فاخذ بيدي، فأوقفني إلى باب خيمة من الشعر، فقلت: أحبتي! بعد القصور صرتم إلى خيام الشعر، لقد أبلغتم في العبادة.

فخرجت نشوان من داخل الخيمة فقالت: بالله! أنت منصور بن عمار؟ فقلت لها: نعم! فقالت لي: يا منصور أترى ربي يسكنني الجنان ويريني نشوان الجنان؟ فقلت لها: جدي في الطلب، وأحسني المعاملة، تخدمك الولدان، وتسكنني الجان، وتري نشوان الجنان، وتزوري الله، عز وجل، الملك الديان.

قال منصور بن عمار: فشهقت شهقة خرت منها ميتة بإذن الله، قال: فبكى الغلام وقال: بأبي والله من كانت مساعدتي على الشدة والرخاء! ولم يتمالك الغلام أن شهق أيضا شهقة خر منها ميتا.

قال منصور: فأخذنا في جهازهما، وغسلناهما وكفناهما، وصلينا عليها، ودفناهما، رحمهما الله.

الدب المنقطع إلى الله

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الخياط قال: حدثنا أبو الحسن علي بن جهضم بمكة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سالم قال: قال سهل يعني ابن عبد الله: أول ما رأيت من العجائب والكرامات أني خرجت يوما إلى موضع خال وطاب لي المقام، وكأني وجدت من قلبي قربة إلى الله، عز وجلن وحضرت الصلاة، وأردت الطهور، وكانت عادتي من صباي أن أجدد الوضوء عند كل صلاة، وكأني اغتممت لفقد الماء، فبينا أنا كذلك إذا دب يمشي على رجليه، كأنه إنسان، ومعه جرة خضراء ممسك بيده عليها.

قال سهل: فلما رأيته من بعيد توهمت أنه آدمي، حتى إذا دنا مني وسلم علي ووضع الجرة بين يدي قال: أبو محمد؟ فجاءني العلم يعترض، وذلك من شريطة الصحة، فقلت في نفسي: هذه الجرة، والماء من أين هو؟ فنطق الدب، وقال: يا سهل! إنا قوم من الوحش قد انقطعنا إلى الله، عز وجل، بعزم التوكل والمحبة، فبينا نحن نتكلم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إن سهل بن عبد الله يريد ماء للوضوء، فوضعت هذه الجرة في يدي، وبجنبتي ملكان، حتى دنوت منك فصاب فيها هذا الماء من الهواء، وأنا أسمع خرير الماء.

قال سهل: فغشي علي، فلما أفقت إذا أنا بالجرة موضوعة، ولا علم لي بالدب أين ذهب، وأنا متحسر إذ لم أكلمه، فتوضأت، فلما فرغت أردت الشرب منه، فنوديت من الوادي: يا سهل! لم يأن لك أن تشرب هذا الماء بعد. فبقيت الجرة، وأنا أنظر إليها تضطرب، فلا أدري أين مرت.

تصفيق القناديل

أخبرنا عبد العزيز بن علي قال: أخبرنا علي بن عبد الله الهمذاني بمكة قال: حدثي محمد بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني بطرسوس قال: سمعت أبا طالب يقول: كنت مع سمنون، وهو يتكلم في شيء من المحبة، وقناديل معلقة، فرأيت القناديل تصفق حتى تكسرت.

المشتاق إلى الجنة

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي المحتسب قال: حدثنا أبو القسم إسماعيل بن محمد بن سويد قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا الكديمي قال: حدثنا إسماعيل بن نصر العبدي قال: صاح صائح في مجلس صالح المري: ليقم البكاؤون المشتاقون إلى الجنة! فقام أبو جهير. فقال أبو جهير. فقال: يا صالح، اقرأ! فقرأ: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثورا، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. فقال: أعدها يا صالح، فأعادها، فما انتهى حتى مات أبو جهير.

أشعر من قال في منى

أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن عيسى القيسي بقراءتي عليه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة.

قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن مغلس بن جعفر السراري قال: حدثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي قال: أنشدنا ثعلب قال: وسئل جعفر بن موسى الليثي: من اشعر من قال في منى وعرفات والحج؟ فقال: ما قال أحد أصحابنا القرشيون، ولقد أحسن الملحي، يعني كثيرا، حين يقول:

تفرق أنواع الحجيج على منى ... وفرقهم، شعب النوى، مشي أربع.

فلم أر دارا مثلها دار غبطة، ... وملقى إذا التف الحجيج بمجمع.

أقل مقيما راضيا بمقامه، ... وأكثر جارا ظاعنا لم يودع.

فشاقوك لما وجهوا كل وجهة ... سراعا، وخلوا عن منازل بلقع.

فريقان منهم سالك بطن نخلة، وآخر منهم سالك خبت يفرع.

أعين الإنس لا أعين الجن

أخبرنا أبو بكر محمد بم أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي القاضي يقول: سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: سمعت العابس بن سالم الشيباني يقول: سمعت ابن الأعرابي قال: ومن جيد شعره، يعني مجنون بني عامر:

وجاؤوا إليه بالتعاويذ والرقى، ... وصبوا عليه الماء من ألم النكس.

وقالوا به من أعين الجن نظرة، ... ولو عقلوا قالوا: به أعين الإنس.

قميص سعدون

أخبرنا أبو بكر الأردستاني محمد بن أحمد بمكة قال: حدثنا أبو القاسم بن حبيب المذكر.

قالك سمعت الحاكم الحسين بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: خرجت يوما بكرة إلى مقابر عبد الله بن مالك فرأيت شخصا مقنعا كلما رأى قبرا منخسفا وقف عليه، فإذا هو سعدون، فقلت: أي شيء تصنع ههنا؟ فقال: إنما يسأل عما أصنع من أنكر ما أصنع، فأما من عرف ما أصنع، فما يغني سؤاله، فقلت: يا سعدون تعال نبك على هذه الأبدان قبل أن تبلى! فقال: البكى على القدوم على الله، عز وجل، أولى بنا من البكى على الأبدان، فإن يكن عندها خير، فخيرها عند ربها أكثر من بلاها، وإن يكن عندها شر، فشرها عند ربها من بلاها في القبور، فليتها تركت تبلى في القبور، ولم تبعث للحساب.

يا ذا النون إنك إن تدخل النار فلا ينفعك في النار دخول غيرك الجنة. وإن تدخل الجنة لا يضرك دخول غيرك النار.

ثم قال: يا ذا النون! وإا الصحف نشرت، ثم صاح: وا غوثاه بالله، ماذا نقابله في الصحف؟ قال: فغشي علي غشية، فلما أفقت إذا هو يسمح وجهي بكمه، ويقول: يا ذا النون! من اشرف منك غن مت مكانك هذا؟ قال محمد بن الصباح: وقرات على قميص سعدون:

عين فابكي علي، قبل انطلاق، ... بدموع تمل منها المآقي.

وانظري مصرعي، فقد قضي الأم ... ر ونوحي علي قبل الفراق.