ذو النون الصوفي والمشتاقون

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الهمذاني بمكة قال: سمعت أبا بكر محمد بن علي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدثنا يوسف بن الحسين قال: وصف ذو النون المشتاقين فقال: سقاهم من صرف المودة شربة، فماتت شهواتهم في القلوب من خوف عواقب الذنوب، وذهلت أنفسهم عن الماطعم من حذر فوت المناعم، قد أنحلوا الأبدان بالجوع وصفوا القلوب من كل كدر، فهي معلقة بمواصلة المحبوب، ثم قال: يا حسن غراس الأشجان في رياض الكتمان! وذكر كلاما ثم تنفس وقال:

شوق أضر بمهجة المشتاق ... فجرت سوابق عبرة الآماق.

لعبت يد العبرات في وجناته ... وكذا به لعبت يد الأشواق.

يا من يعز علي

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة بقراءتي عليه، في المسجد الحرام، بباب الندوة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال: حدثنا يوسف بن عمر الزاهد قال: قرأت على جعفر بن محمد الحواص حديث إبراهيم بن محمد المروزي قال: رأيت الوليد بن عتبة قد سمع صوتا وهو يقول: يا من يعز علي ما لي أهون عليك؟ ثم صاح ووقع في الطين فبقي أربعين يوما مريضا.

كل كريم طروب

أخبرنا الأردستاني بمكة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت الإمام أبا سهل محمد بن سليمان بن روزبة يقول: سمعت أبا محمد السوري يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: حدثت أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو في هدم مروءته، نبقي عليه فعله، يريد عبد الله بن أبي طالب، فدخلا عليه وعنده سائب خاسر، وهو يلقي على جوار له، فأمر عبد الله الجواري أن يتنحين لدخول معاوية، وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرا، فأجلسه إلى جنبه، ثم اقل لعبد الله: عد إلى ما كنت عليه! فأمر بالكراسي فألقيت، وأمر الجواري أن يخرجن، فخرجن فجلسن على الكراسي، فتغنى سائب:

ديار التي كنا ونحن نزورها ... تعفت بأرياح الصبا والجنائب.

ومضى في الشعر ورددت الجواري عليه النغم الطيب، وحرك معاوية يديه، وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب وجه السرير.

فقال له عمرو: اتئد فإن الذي جئت تلحاه أحسن حالا منك، وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت، لا أبا لك، فإن كل كريم طروب.

عروة بن حزام

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري إجازة قال: أخبرنا أبو الحسين بن روح قراءة عليه.

قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني ابن فهم قال: حدثنا عبد الله بن شبيب عن سليمان بن عبد العزيز قال: حدثني خارجة المكي قال: حدثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال: فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الذي أقول:

أفي كل يوم أنت رام بلادها ... بعينين إنساناهما غرقان.

ألا فاحملاني، بارك الله فيكما، ... إلى حاضر الروحاء ثم ذراني.

 

جفون وجفون

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: انشدنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني قال: أنشدني محمد بن أحمد الكاتب قال: أنشدني محمد بن موسى البربري:

يا جفونا سواهرا أعدمتها ... لذة النوم والرقاد جفون.

إن لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب العيون.

القاتلات الضعائف

أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني إجازة قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيت أعرابيا بمكة، فاستنطقته فوجدته ظريفا، فاستنسبته، فأخبر له أنه عذري. فقلت: إنكم لقبيلة قد ضشاع عنكم في العرب ما شاع من رقة القلوب وصدق المقة مع العفاف، وتجنب المآثم، فهل صحبت شبيبتك بشيء من ذلك؟ فقال: والله لقد كنت أصحب الشباب بالتصابي، وأتحدث إلى العقائل. فقلت: فهل قلت في ذلك شيئا؟ فأنشدني:

تتبعن مرمى الوحش حتى رميننا ... من النبل لا بالطائشات الخواطف.

يقتلن الرجال بلا دم، ... فيا عجبا للقاتلات الضعائف.

وللعين ملهى في التلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف.

الزوجة الفارك

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري إجازة قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني عبد الله بن المهاجر قال: حدثني محمد بن يزيد قال: تزوج رجل امرأة من أهل الكوفة، وكانت ذات جمال وظرف، فكانت تجيء وتذهب وتتمثل بهذا البيت:

ستندم حين تفقدني ... وتطلبني فلا تجد.

قال: فكان الزوج يتطير من قولها: ويقول: تعدني بالذهاب، قال: وكان لها محبا، قال: فأصبح ذات يوم يطلبها، فمل يقدر عليها حتى الساعة.

لابسة السواد

حدث أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني أبو صالح الأزدي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: أخبرني محمد بن سماعة القرشي قال: آخر من مات من العشق علي بن أديم مولى الجعفي، وكان خرازا، مر بكتاب بالكوفة في بني عبس، فرأى جارية يقال لها منهلة، فعشقها، وكان رآها في سواد، فقال:

إني لما يعتادني ... من حب لابسة السواد.

في فتنة وبلية ... ما إن يطيقها فؤادي.

فبقيت لا دنيا أنا ... ل وفاتني طلب المعاد.

قال: وأصابه عليها شبيه الجنون، فجمع أبوه التجار، فتحمل بهم على العبسية مولاة الجارية، وأعطاها مالا كثيرا، فأبت، فخرج الفتى إلى أم جعفر، فكتب إليها قصة يخبرها فيها بخبره وحاله، فأمرت أن تشترى له، فبينا هو يتنحز ذلك إذ خرجت جارية من القصر فقالت: أين هذا العاشق؟ فأومأ لها إليه، فقالت: أنت عاشق وبينك وبين من تحب الجسور والمفوز والقناطر، ولا تدري ما يكون؟ قال: صدقت، وقام من مجلسه مبادرا، فاكترى بغلا، فمات يوم دخوله الكوفة.

ما لليالي وما لي

أنشدني أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن الشويح الأموي الفقيه بمصر لنفسه:

ما لليالي وما لي ... يطلبن روحي وما لي.

قد جئنني بخلوب ... لم تمض يوما ببالي.

لما عرقن عظامي ... سألنني كيف حالي.

فقلت قولا وجيزا: ... الحال مني بحالي.

يا جارة الحي

ولي من ابتداء قصيدة نظمتها بالشام في بني أبي عقيل، رحمهم الله:

ألا هل لمن أضناه حبك إفراق ... وهل للديغ البين عندك درياق.

وهل لأسير سامه قتل نفسه ... هواك، وقد زمت ركابك، إطلاق.

أيا جارة الحي الذين ترحلوا، ... فللعيس وخد بالحمول وإعناق.

ألما تخافي الله في قتل عاشق ... هجرته حتى في الكرى وهو مشتاق.

فقالت، وروعات النوى تستحثها ... ودمع مآقيها على النحر مهراق:

هو البين فالبس جنة الصبر، أو فمت ... بداء الهوى، قد مات قبلك عشاق.

رابعة العدوية الصوفية ومنامها

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثنا محمد هو ابن الحسين قال: حدثني عصام بن عثمان الحلبي قال: حدثني مسمع بن عاصم قال: قالت لي رابعة العدوي: اعتللت علة قطعتني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أياما أقرا جزئي، إذا ارتفع النهار، لما يذكر فيه أنه بعدل بقيام الليل. قالت: ثم رزقني الله، عز وجل، العافية فاعتادني فترة في عقب العلة، وكنت قد سكنت إلى قراءة جزئي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل. قالت: فبينا أنا ذات ليلة راقدة أريت في منامي كأني رفعت إلى روضة خضراء، ذات قصور ونبت حسن، فبينا أنا أجول فيها أتعجب من حسنها، إذا أنا بطائر أخضر، وجارية تطارده كأنها تريد أخذه، قالت: فشغلني حسنها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه، فوالله ما رأيت طائرا قط أحسن منه.

قالت: بلى، ثم أخذت بيدي فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى باب قصر فيها، فاستفتحت، ففتح لها، ثم قالت: افتحوا لي بيت لمقة، قالت: ففتح لها باب شاع منه شعاع استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، وقالت لي: ادخلي، فدخلت إلى بيت يحار فيه البصر تلألؤا وحسنا، ما أعرف له في الدنيا شبيها أشبهه به.

فبينا نحن نجول فيه إذ رفع لنا باب ينفذ منه إلى بستان، فأهوت نحوه أنا معها، فتلقانا فيه وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم المجامر، فقالت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قتل في البحر شهيدا.

قالت: أفلا تجمرون هذه المرأة قالوا: قد كان لها في ذلك حظ فتركته.

قالت: فارسلت يدها من يدي، ثم أقبلت علي فقالت:

صلاتك نور والعباد رقود ... ونومك ضد للصلاة عنيد.

وعمرك غنم إن عقلت ومهلة ... يسير ويفنى دائما ويبيد.

ثم غابت من بين عيني، واستيقظت حين تبدى الفجر، فوالله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي، وأنكرت نفسي. قال: ثم سقطت رابعة مغشيا عليها.

معاذة وغايتها من صلاتها

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال:حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا يحيى بن بسطام قال: حدثنا عمران بن خالد قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية، وكانت معاذة قد أرضعتها، قالت:

قالت لي معاذة، لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها: والله يا بنية! ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش، ولا لروح نسيم، ولكني والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي، عز وجل، بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.

معاذة تبكي وتضحك عند احتضارها

وبإسناده قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثني روح بن سلمة الوراق قال: سمعت عفيرة العابدة تقول: بلغني أن معاذة العدوية، لما احتضرت، بكت، ثم ضحكت، فقيل لها: بكيت ثم ضحكت، فمم البكاء ومم الضحك، رحمك الله! قالت: أما البكاء فإني، والله، ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر، فكان البكاء لذلك. وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي، فإني نظرت إلى أبي الصهباء، وقد أقبل في صحن الدار، وعليه حلتان خضراوان، وهو في نفر، والله ما رأيت لهم في الدنيا شبها، فضحكت إليه، ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا. قال: فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.

ذو الرمة ومي

أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال: أنبانا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني محمد بن أحمد الكابت قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن زياد الأعرابي.

قال: حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك الفزاري شيخ منهم، بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فسلوا عنه! كان حلو العينين، حسن المضحك، براق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازعك الكلام لا تسأم حديثه، وإذا أنشد أبر وحسن صوته.

جمعني وإياه مربع مرة، فأتاني فقال: هيا عصمة! إن ميا منقرية، ومنفر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه ببصر، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل نزداد عليها ميا؟ قال: إي والله، الجؤذر بنت يمانية. قال: فعلينا بها! فجئت بها، فركب وردفته، ثم انطلقنا حتى نهبط على مي، وإذا الحي خلوف، فلما راتنا النسوة عرفن ذا الرمة، فتقوضن من بيوتهن حتى اجتمعن، وأنخنا قريبا، وجئناهن، وجلسنا، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال لي: أنشدهن، فأنشدت قوله:

وقفت على ربع لمية ناقتي، ... فما زالت أبكي عنده، وأخاطبه.

فلما انتهيت إلى قوله:

نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل، أو أثل تميل ذوائبه.

فأسبلت العينان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت علي سواكبه.

بكى وامق، جاء الفراق، ولم يجل ... جوائلها، أسراره أو معاتبه.

قالت الظريفة: لكن اليوم فليجل، ثم مضيت. فلما انتهيت إلى قوله:

وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أحادثها إلا الذي أنا كاذبه.

إذن، فرماني الله من حيث لا أرى، ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه.

قالت مي: ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله، عز وجل، ثم مضيت حتى انتهيت غلى قوله:

إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب آتته جميعا عوازبه.

فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله! فقالت مية: ما أصحه وهنيئا له.

قال: فتنفس ذو الرمة تنفسة كاد حرها يطير بلحيته، ثم مضت حتى انتهيت غلى قوله:

إذا نازعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه.

فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جاذبه.

فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا، وهذا القول قد تنوزع، فمن لنابأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مي فقالت: ما لك، قاتلك الله، ماذا تجنين به؟ فتضاحكت النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذين لشأنا، فقم بنا عنهما، فقمن، وقمت فصرت إلى بيت قريب منهما أراهما، ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف، فوالله ما رأيته برح مكانه، ولا تحرك. وسمعتها تقول: كذبت والله، فوالله ما أدري ما الذي كذبته فيه، فتحدثا ساعة، ثم جاءني ومعه قويريرة فيها دهن طيب، فقال: هذه دهنة أتحفتنا بها مي، فشأنك بها. وهذه قلائد زودتنا للجؤذر، فلا واللخ لا قلدتهن بعيرا أبدا. ثم عقدهن في ذؤابة سيفه.

قال: فانصرفنا، فلم نزل نختلف إليها، مربعنا، حتى انقضى. ثم جاءني يوما فقال: يا عصمة! قد ظعنت مي، فلم يبق إلا الديار، والنظر في الآثار، فانهض بنا ننظر إلى آثارها، فخرجنا حتى وقفنا على ديارها، فجعل ينظر ثم قال:

ألا، فاسلمي يا دار مي على البلى، ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر.

فإن لم تكوني غير شام بقفرة، ... يجر بها الأذيال صيفية كدر.

ثم انتضحت عيناه بعبرة، فقلت: مه! فقال: غني لجلد، وإن كان مني ما ترى، فما رأيت صبابة قط، ولا تجلدا أحسن من صبابته وتجلده يومئذ، ثم انصرفنا، فكان آخر العهد به.

تآلفا في الحياة وفي الممات

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا علي بن أيوب القمي قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني معاذ بن يحيى الصنعاني قال: خرجت من مكة إلى صنعاء، فلما كان بيننا وبين صنعاء خمس ساعات رأيت الناس ينزلون عن محاملهم ويركبون دوابهم، فقلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد أن ننظر إلى قبر عفراء وعروة، فنزلت عن محملي وركبت حماري، واتصلت بهم، فانتهيت إلى قبرين متلاصقين، قد خرج من كلا القبرين ساق شجرة، حتى إذا صارا على قامة التفا، فكان الناس يقولون: تآلفا في الحياة وفي الممات.

الهوى إله معبود

وبإسناده قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عون بن محمد قال: حدثنا إسحاق الموصلي قال: قال يحيى بن أكثم: قال ابن عباس: الهوى إله معبود! فقيل له: أتقول ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه.

عمر بن عون وحبيبته بيا

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا محمد بن أحمد بن فارس الحافظ قال: أخبرنا أبو الحسين الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزباني قال: حدثنا أبو الفضل المروروذي.

قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن صالح قال: كان فتى من بني مرة يقال له عمر بن عون، وكان يحب جارية من قومه يقال لها بيا بنت الركين، فتزوجها رجل من قومه يقال له دهيم، وأبت بيا إلا حب عمر بن عون، وأبى عمر إلا حبها وقول الشعر فيها، فخرج زوجها بها هاربا منه حتى وقع باليمن في بني الحارث بن كعب، فطلبها عمرن فخفي عليه أمرها، ولم يعلم موضعها، فمكث حيا يبكي ويبكي له من عرفه، ثم خرج حاجا على ناقة له، ومعه صحابة له، وقال: لعلي أتعلق بأستار الكعبة، أسأل الله، فعسى أن يرحمني، فردها علي، أو يذهب بقلبي عن حبها.

فلما كان بمنى نظر إليه فتى من بني الحارث بن كعب، فأعجبه فجلس إليه يتحدث معه، وأنشده عمر بعض شعره في بيا، وشكا إليه بعض ما هو فيه من البلاء. فرق له، فقال الفتى، وسأله عن صفتها وصفة زوجها، فوصفها له، فقال الفتى: عندي خبر هذه المراة، وهذا الرجل، منذ سنوات، فخر عمر لله تعالى ساجدا، ثم سأله عن حالها، فذكر أنها سالمة، وأنها باكية حزينة لا يهنؤها شيء من العيش. فقال له عمر: هل لك في صنيعة عند من يحسن الشكر؟ فقال له الفتى: أفعل ماذا؟ قال عمر: تخلف عن أصحابك، وأتخلف عن أصحابي حتى لا يكون عند أحد منا علم، ثم أمضي معك متنكرا. فقال الفتى: ذلك لك في عنقي.

فلما كان النفر تخلف كل واحد منهما عن صاحبه، وأقاما بمكة أياما ثلاثة أو أربعة حتى ارتحل الحاج، ثم مضينا حتى وصل الفتى إلى أهله، فأدخله مع امرأته وأخته في منزلهما، ومضى إلى بيا، وأخبرها، فكانت كل تجيئه كل يوم فيتحدثان ويشكوان ما كانا فيه من البلاء والوحشة.

واستراب زوجها بغشيانها ذلك البيت، ولم تكن من قبل تغشاه، ولا تقرب أهله، واستراب بطيب نفسها، وأنها ليست كما كانت، فخرج في رفقة إلى نجران على أن يغيب عشر ليال، فأقام ليلتين مختفيا في موضع، ثم أقبل راجعا في الليلة الثالثة، وقد أمنه عمر، وظن أنه قد ذهب فأتاها، ففرشت له بساطا قدام البيت، فتحدثا ثم غلبهما النوم، وهي مضطجعة على جانب البساط، وعمر على جانبه الآخر، فأقبل الزوج، فوجدهما على تلك الحال، فنظر في وجه عمر، فعرفه فأثبته، وانتبه عمر، فوثب بالسيف فزعا. فقال له الزوج: ويلك يا عمر ما ينجيني منك بر ولا بحر.

فقال عمر: يا ابن عمي! ما نا على ريبة، وما يسائلني الله تعالى عن أهلك عن قبيح قط، ولكن نشأت أنا وهي فألفتها وألفتني، ونحن صبيان، فلست أعطى عنها صبرا، وما بيننا شيء أكثر من هذا الحديث الذي ترى.

قال له الزوج: أما أنا فلم أهرب إلى هذه البلاد إلا منك، فأما بعد ان صح عندي من عفتك وصدق قولك فإني لا أهرب منك أبدا.

فأقاموا سنوات، وهم على تلك الحال، فمات عمر وجدا بها، فكانت تبكي عليه الدماء، فضلا عن الدموع، ثم مات دهيم بعد ذلك وعمرت هي.

التقي عزيز

وبإسناده قال: وأخبرني محمد بن سعد قال: أنشدني رجل من النساك:

ما للتصبر، ما أعلاه من عمد، ... قد يورث الصبر أهل الصبر إحسانا.

كم عاشق مات شوقا في تعذبه، ... وعاشق حال من يهواه أحيانا.

لا شيء أعلى من التقوى وصحبتها، ... إن التقي عزيز حيث ما كانا.

لا تنفع الرقى

ولي من أثناء قصيدة:

يا لهف قلبي اليوم ما باله، ... يعاود النكس، إذا فرقا.

هل سلوة؟ هيهات لا سلوة، ... قد بلغ السيل الزبى وارتقى.

لا ترقيا في حبه ذا هوى، ... فالحب لا تنفع فيه الرقى.

ماتت على القبر

أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر قال: حدثني الفقيه أبو محمد بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: رأيت بالبادية امرأة على راحلة تطوف حول قبر وهي تقول:

يا من بمقلته زهى الدهر، ... قد كان فيك تضاءل الأمر.

زعموا قتلت، وما لهم خبر، ... كذبوا، وقبرك، ما لهم عذر!

يا قبر سيدنا عليك رضا، ... صلى الإله عليك يا قبر.

ما ضر قبرا قد سكنت به ... ألا يمر بأرضه القطر.

فلينبعن جودك في تربه، ... وليورقن بقربك الصخر.

وإذا غضبت تصدعت فرقا ... منك الجبال، وخافك الذعر.

وإذا رقدت، فأنت منتبه، ... وإذا انتبهت، فوجهك البدر.

والله! لو بك لم أدع أحدا ... إلا قتلت لفاتني الوتر.

قال: فدنوت منها لأسألها عن أمرها فإذا هي ميتة.

إسحاق وزهر الأعرابية

وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: حدثني جحظلة قال: حدثني حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي قال: كتبت إلي زهر الأعرابية، وقد غابت عني، كتابا فيه:

وجدي يجل، على أني أجمجمه، ... وجد السقيم ببرء بعد إزفاف.

أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها، ... أو وجد منشعب من بين ألاف.

قال حماد: قال لي أبي، فكتبت إليها:

اقرأ السلام على زهر إذا شحطت، ... وقل لها: قد أذقت القلب ما خافا.

أما أويت لمن قد بات مكتئبا، ... يذري مدامعه سحا وتوكافا.

فما وجدت على إلف أفارقه، ... وجدي عليك، وقد فارقت آلافا.

الضعيف الضائع

وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: أنشدنا ابن دريد ولم يسم قائلا ولا عزاه إلى أحد:

آل ليلى! إن ضيفكم ... ضائع في الحي مذ نزلا.

أمكنوه من ثنيتها، ... لم يرد خمرا ولا عسلا.

التفاح بدل الجمار

أنبأنا أبو الحسين أحمدبن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: أخبرني ابن الأصقع قال: قال لي بعضهم: رأيت ببغداد في وقت الحج فتى، ومعه تفاح مغلف، فانتهى إلى سور فوقف تحته، فاطلع عليه جوار كأنهن المها، فأقبل يرميهن بذلك التفاح، فقلت له: أليس كنت معتزما على الحج؟ فقال:

ولما رأيت الحج قد آن وقته، ... وأبصرت بزل العيس بالركب تعسف.

رحلت مع العشاق في طلب الهوى، ... وعرفت من حيث المحبون عرفوا.

وقد زعموا أن الجمار فريضة، ... وتارك مفروض الجمار يعنف.

فهيأت تفاحا ثلاثا وأربعا، ... فزعفر لي بعض وبعض مغلف.

وقمت حيال القصر ثم رميته، ... فظلت لها أيدي الملاح تلقف.

وإني لأرجو أن تقبل حجتي، ... وما ضمني للحج سعي وموقف.

قمرية الوادي

أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: حدثنا إسماعيل بن سويد قال: حدثنا الكوكبي قال: حدثني أبو الحسن بن الأصقع قال: كان فتى من بني عذرة يتعشق ابنة عم له، فبلغه أن فتى أسود يأتيها لريبة، فغمه ذلك، فمر يوما ببابها، فقال:

شابت أعالي قروني وامحى شعري، ... مما أحدث عن قمرية الوادي.

نبئت أن غرابا بات محتضنا ... قمرية بين أغصان وأعواد.

فلما سمعت شعره خرجت، فاعتذرت إليه، وآلت أن لا تعرف ذكرا غيره، فلم يزل يحتال حتى تزوجها.

الصوفي وغلامه

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: حدثني أبو المختار الضبي.

قال: حدثني أبي قال: قلت: لأبي الكميت الأندلسي، وكان جوالا في أرض الله، عز وجل: حدثني بأعجب ما رأيته من الصوفية! قال: صحبت رجلا منهم يقال له مهرجان، وكان مجوسيا، فأسلم وتصوف، فرأيت معه غلاما جميلا لا يفارقه، فكان إذا جاء الليل، قام فصلى ثم ينام إلى جانبه يقوم فزعا، فيصلي ما قدر له، ثم يعود فينام إلى جانبه أيضا، حتى يفعل ذلك في الليلة مرارا، فإذا أسفر الصبح، أو كاد أن يسفر، أوتر ثم رفع يديه، فقال: اللهم إنك تعلم أن الليل قد مضى علي سليما لم أقارف فيه فاحشة، ولا كتبت الحفظة علي فيه معصية، وأن الذي أضمره في قلبي لو حملته الجبال لتصدعت، أو كان بالأرض لتدكدكت.

ثم يقول: يال ليل اشهد بما كان مني فيك، فقد منعني خوف الله، عز وجل، عن طلب الحرام والتعرض للآثام.

ثم يقول: يا سيدي! أنت بيننا على تقى، ولا تفرق بيننا يوم تجمع فيه الأحباب.

فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك في كل ليلة، وأسمع هذا القول، فلما هممت بالانصراف من عنده قلت له: سمعتك تقول، إذا انقضى الليل: كذا وكذا. فقال: أوقد سمعتني؟ قلت: نعم! قال: فوالله يا أخي إني لأدري من قلبي ما لو داراه سلطاننا من رعيته، لكان من الله حقيقا فقلت: وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله؟ وذكر كلاما اختصرته.

الصوفي المتقشف

وبإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: حدثني الصلت بن بهرام المجاشعي قال: حدثني محمد بن االخضر التيمي قال:

كان أبو عمرو الضبابي من أحسن من رأيته وجها ممن يصحب الصوفية، وكان لا يرافق أحدا ولا يجالسه ولا يلابسه إلا في طريق، فأتاني ذات يوم، ونحن ببلاد الروم، فقال: هل لك في مرافقتي، فغني قد مللت الوحدة، وطالت علي الوحشة.

فقلت: علا خلال ثلاث.

قال: وما هي؟ قلت: على أن لا أراك ضاحكا إلى أحد من خلق الله، ولا مشغلا بغير طاعة الله، عز وجل، ولا تعمل عملا حتى أقول لك.

قال: قد فعلت.

وكان معي لا يفارقني في حج ولا غزو، فكنت أرى منه أمورا أعلم أن الله سيرفعه بها في الدنيا والآخرة من حسن صلاته وكثرة صيامه وطول صمته وقلة كلامه، فقلت له، ذات يوم، لأتبين معرفة عقله: ألا أشتري لك جارية؟.

فقال: وما أصنع بها؟ قلت: ما يصنع الرجل بملك يمينه!.

فقال: لو أردت هذا لم أترك أهلي وأشخص عن وطني وأخرج عن دنياي، ولكان لي منهم مقنع وفي المقام معهم متسع.

فقلت: ألق هذا الصوف عنك، فإنه قد أثر ببدنك، ونهك جسمك.

فقال: أتأمري أن ألقي عني ثوبا أتقرب إلى الله، عز وجل، بخشونته وريحه، وأنا أرجو منه حسن الثواب عليه عند منقلبي إليه.

قلت: فهل لك أن تفطر فإن الصيام قد أنحلك والظمأ قد غيرك؟ فقال: سبحان الله، ما أعجب ما تأمرني به! هل الدنيا إلا يومان، يوم قد مضى علي ويوم أنا فيه لا أدري بما يختم لي من رحمة أو عذاب، فإن عذبني وأنا على حالة أتقرب إليه بها، فهو أجدر أن يعذبني إذا فعلت أمرا أنا فيه مقصر.

فقلت: فصم يوما وأفطر يوما.

فقال: ذلك صوم الأبرار، ومن أمن النار، الذين علموا أن الله، عز وجل، متجاوز عنهم، وقابل منهم، فأما أنا فأنت تعلم أني غير عالم بما سبق علي في الكتاب من شقاء وسعادة، والله لئن عذبني الله على طاعته أحب إلي من أن يغفر لي وأنا على معصيته، على أنه غير جائر على من خلقه ولا معذب له إلا بذنب.

قلت: أفلا أشتري لك وطاء تنام عليه؟ فقال: وأي وطاء أوطأ من ظهر الأرض، وقد سماه الله، عز وجل مهادا، والله لا أفترش فراشا ولا أتوسد وسادا، حتى ألحق بالله، عز وجل.

فقلت: فهل لك أن تريح نفسك في هذه الغزاة، وترجع؟ فقال: واعجباه من قولك! تأمرني أن أرجع عن الجنةن وقد فتح لي بابها، والله لا أزال أعرض نفسي على الله تعالى لعله يقبلين، فإن رزقني وخصني بالشهادة، فهو الذي كنت أحاول وبه أطالب، فإن حرمني ذلك فبالذنوب التي سلفت، وأنا أسأل الله أن يتفضل علي بما سألته، ويجيبني في ما دعوته.

فغزا معنا، ونحن في خلق كثير مع محمد بن مصعب، فلقينا العدو، فكان أول من جرح، فوقفت عليه، فقلت: أبشر بثواب الله، عز وجل، فقد أعطاك الرضا، وفوق المزيد.

فقال بصوت ضعيف: الحمد لله على كل حال، لقد نظرت إلى كل ما تمنيت، وفوق ما اشتهيت، وبلغت ما أحببت، وأدركت ما طلبت من حور وولدان وسلسبيل وريحان، وإياك والتقصير، لعل الله، عز وجل، أن يبلغك ما بلغني ويرزقك ما رزقني، ثم فاضت نفسه.

أبو إسماعيل وفتح الموصلي

حدث جعفر الخالدي قال: حدثنا أحمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن الفرج العابد قال: كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا إسماعيل، قال: فمر ذات ليلة برجل، وهو يتهجد على سطحه، ويقرأ: وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها، وإليه ترجعون. قال: فصرخ أبو إسماعيل صرخة وغشي عليه، فلم يزل على حاله تلك، حتى أصبح، فلما أصبح أسلم، ثم أتى فتحا الموصلي فاستأذنه في صحبته، فكان يصحبه ويخدمه.

قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينيه وغشي على الأخرى.

فقلت له ذات يوم: حدثني ببعض أمر فتح.

قال: فبكى ثم قال: أخبرك عنه، كان والله كهيئة الروحانيين معلق القلب بما هناك، ليست له في الدنيا راحة.

قلت: على ذاك؟

قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل، ورجع بعدما تفرق الناس، ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة، فبكى ثم قال: قد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب! ثم سقط مغشيا عليه، فجئت بماء فمسحت به وجهه، فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبسني أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشيا عليه، فجئت بماء، فمسحت على وجهه، فأفاق فما عاش بعد ذلك إلا أياما، حتى مات، رحمه الله.

النفس حيث يجعلها الفتى

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزباني قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحيم عن العباس بن علي قال: حدثني بعض أهل المدينة قال: دعاني فتى من أهل المدينة إلى جارية تغني، فلما دخلنا عليها، إذا هي أحسن الناس وجها، وإذا بها انخراط وجه وسهو وسكوت، فجعلنا نبسطها بالمزاح والكلام، ويمنعها من ذلك ما تكتمه، فقلت في نفسي: والله إن بها لتهياما، وطائفا من الحب، فأقبلت عليها، فقلت: بالله لما صدقتني ما الذي بك؟ فقالت: برح الذكر، ودوام الفكر، وخلو النهار، وتشوق إلى من سار، والذي يرى ما وصفت لك، فإن كنت ذا أدب صرفت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في الطلب لدواء من قد أشرف على العطب، كما قال الشاعر، وأخذت العود، فغنت:

سيوردني التذكار حوض المهالك ... فلست لتذكار الحبيب بتارك.

أبى الله إلا أن أموت صبابة، ... ولست لما يقضي الإله بمالك.

كأن بقلبي حين شطت به النوى، ... وخلفني فردا، صدور النيازك.

تقطعت الأخبار بيني وبينه، ... لبعد النوى، واستد سبل المسالك.

قال: فوالله لقد خفت أن أسلب عقلي لما غنت، فقلت: جعلني الله فداءك، وهو الذي صيرك إلى ما أرى يستحق هذا منك! فوالله إن الناس لكثير، فلو تسليت بغيره فلعل ما بك أن يسكن أو يخف، فقد قال الأول:

صبرت على اللذات، لما تولت، ... وألزمت نفسي صبرها، فاستمرت.

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى،فإن أطمعت تاقت،وإلا تسلت.

فأقبلت علي فقالت: قد والله رمت ذلك، فكنت كما قال قيس بن الملوح:

ولما أبى إلا جماحا فؤاده، ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل.

تسلى بأخرى غيرها، فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي.

قال: فأسكتتني والله بتواتر حججها عن محاورتها، وما رايت كمنطقها ولا كشكلها وأدبها وكمال خلقها.

العفة الناجعة

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله قال: أخبرنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن قال: حدثني محرز أبو القاسم الجلاب قال: حدثني سعدان قال: أمر قوم امرأة ذات جمال بارع، أن تتعرض للربيع بن خيثم، فلعلها تفتنه، قال: وجعلوا لها، إن هي فعلت، ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها في تلك الحال، فراعه أمرها وجمالها، ثم أقبلت عليه، وهي سافرة، فقل لها الربيع: كيف بك لو نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من نورك وبهجتك؟ أم كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة، وخرجت مغشيا عليها، قال: فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادتها أنها يوم ماتت كانت كأنها جذع محترق.

الحب الصارع

وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، رحمه الله، قال: حدثنا أبو محمد بن مغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو عيسى قال: أنشدنا أبو العباس المبرد لأم الضحاك المحاربية:

الحب أول ما يكون ولع، ... وإذا تمكن في الفؤاد صرع.

ويلي من الحب الذي شفني، ... ماذا علي من الهموم جمع.

أم سبعة أنبياء

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي الحسين المحتسب قال: حدثنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي كعب الحريري عن الحسن.

أن امرأة من بني إسرائيل كانت أعطيت من الجمال عجبا، قال: فبلغ من أمرها أنها كانت لا تمكن من نفسها إلا من أعطاها مائة دينار، فاتخذت سريرا من ذهب فأبصرها رجل من العابدين، فأعجبتهن فانطلق فالتمس وابتغى، وتحملن أو كما وصف، حتى جمع مائة دينار، فأتاها بها، فقال: إني رأيتك فأعجبتني، فانطلقت فتمحلت وابتغيت، حتى جمعت مائة دينار.

قالت: فادفعها إلى الجهبذ ينتقدها، ففعل، فقالت للجهبذ: انتقدها! قال: نعم! قال: فتهيأت، كما كانت تتهيأ، وجلست على سريرها، فلما جلس منها مكان الرجل من امرأته ذكره الله تعالى برحمته، فانقبضت إليه نفسه، فقام عنها فقال: المائة دينار لك، افتحي الباب! فقالت: وما رأيت؟ ألست زعمت انك رأيتني فأعجبتك فتمحلت وابتغيت حتى جمعت مائة دينار، فما رأت؟ قال: ليس في الأرض شيء أبغض إلي منك.

قالت: وما رأيت؟ قال: هذا شيء لم أفعله قط.

قالت: ما قال لي هذا أحد، لئن كنت صادقا فما أريد زوجا غيرك، فلي عليك أن تتزوجني.

قال: نعم، فقنع رأسه ورجع، فلحق ببلده، وأقبلت تبيع متاعها، ثم ارتحلت إليه، فانتهت إلى البلد الذي هو فيه، فسالت عنه، فقيل لها: هوذا في المسجد. فقيل له: جاءت ملكة أرض كذا وكذا تسأل عنك، فأتته، فلما نظر إليها نظرة مال ميتا، فوجدت عليه وجدا شديدا، فقالت: اما هذا فقد فاتني، ولكن هل له أخ أو قريب؟ قيل: إن له ؟ أخا ضعيفا.

قال معتمر: أي ليس في العبادة مثله، فتزوجت أخاه، فولدت له سبعة أنبياء.

المرقش الشاعر وأسماء

كتب إلي أبو غالب بن بشران من واسط حدثنا ابن دينار قال: حدثنا أبو الفرج محمد بن علي الأصفهاني في كتاب الأغاني قال: قال أبو عمرو، ووافقه المفضل الضبي: كان من خبر مرقش الأكبر أنه عشق ابنة عم له يقال لها أسماء بنت عوف بن مالك، علقها وهو غلام، فخطبها إلى أبيها، فقال له: لا أزوجها حتى تعرف بالناس، وهذا قبل أن يخرج ربيعة من أرض اليمن، فكان يعده فيها المواعيد، ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك، وكان عنده زمانا، ومدحه، فأجازه، وأصاب عوفا زمان شديد، فأتاه رجل من مراد أحد بني عطيف، فأرغبه في المال، فزوجه أسماء على مائة من الإبل، ثم تنحى عن بني سعد بن مالك.ورجع مرقش، فقال أخوتها: لا تخبروه إلا أنها ماتت، فذبحوا كبشا، فأكلوا لحمه، ودفنوا عظامه، ولفوها في ملحفة، ودفنوها، فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت، وأتوا به موضع القبر، فنظر إليه، وكان بعد ذلك يعتاده، ويزوره.

فبينا هو ذات يوم مضطجع، وقد تغطى بثوبه، وابنا أخيه يلعبان بكعاب لهما، إذ اختصما في كعب، فقال أحدهما: هذا أجدهما: هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه، وقالوا: إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء. فكشف مرقش عن رأسه، ودعا الغلام، وقد ضني ضنى شديدا، فسأله عن الحديث، فأخبره به، وبتزويج المرادي أسماء، فدعا مرقش وليدة له، ولها زوج من غفيلة كان عسيفا لمرقش، فأمرها بأن تدعو له زوجها، فدعته، وكانت له رواحل، فامره بإحضارها ليطلب المرادي، فأحضرها فركبهان ومضى في طلبه، فمرض في الطريق حتى صار لا يحمل إلا معروضا.

وإنهما نزلا كهفا بأسفل نجران، وهي أرض مراد، ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش زوج الوليدة يقول لها: اتركيه، فقد هلك سقما، وهلكنا معه جوعا وضرا، فجعلت الوليدة تبكي من ذلك، فقال لها زوجها: إن أطعتني، وإلا فإني تاركك، وكان مرقش يكتب، وكان لأبوه دفعه وأخاه حرملة، وكانا أحب ولده إليه، إلى نصراني من أهل الحيرة، فعلمها الخط، فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب على مؤخر الرحل:

يا صاحبي تلبثا لا تعجلا! ... إن الرواح رهين أن لا تفعلا.

فلعل لبثكما يقرب نائيا، ... أو يسبق الإسراع شيئا مقبلا.

يا راكبا إما عرضت فبلغا ... أنس بن سعد إن لقيت وحرملا.

لله دركما ودر أبيكما، ... إن أفلت الغفلي حتى يقتلا.

من مبلغ الأقوام أن مرقشا ... أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا.

وكأنما يرد السباع بشلوه، ... إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا.

قال: وانطلق الغفلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما، فقالا: مات المرقش، ونظر حرملة إلى الرحل، وجعل يقلبه. فقرأ الأبيات، فدعاهما وخوفهما، وأمرهما أن يصدقاه، ففعلا، فقتلهما، وقد كانا وصفا له الموضع، وامرهما في طلب المرقش حتى أتى المكان، فسأل عن خبره، فعرف أن مرقشا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه، وأقبل راعيها إليه، فلما بصر به قال: من أنت وما شأنك؟ فقال له مرقش: أنا رجل من مراد فمن أنت؟ قال: راعي فلانن وإذا هو راعي زوج أسماء، فقال له مرقش: أتستطيع ان تكلم أسماء امرأة صاحبك؟ قال: لا، ولا أدنو منها، ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزا، فآتيها بلبنها. فقال له: خذ خاتمي هذان فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه، وإنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قط غن أنت فعلت ذلك.

فأخذ الراعي الخاتم، فلما حلبت العنز طرح الخاتم في القدح، فانطلقت به الجارية، وتركته بين يديها، فلما سكنت رغوته، اخذته، فشربته، وكذلك كانت تصنع، فقرع الخاتم ثنيتها، فأخذته، واستضاءت به بالنار، فعرفته، فقالت للجارية: ما هذا؟ فقالت: ما لي به علم، فأرسلتها إلى مولاها، وهو في شرب بنجران، فأقبل فزعا، فقال لها: لم دعوتني؟ فقالت: ادع عبدك راعي غنمك، فدعاه، فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم؟ فقال: وجدته مع رجل في كهفي جبار، فقاللي: اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء، فإنك تصيب به خيرا، وما أخبرني من هو، ولقد تركته في آخر رمق.

فقال زوجها: وما هذا الخاتم؟ قالت: هذا خاتم مرقش، فأعجل الساعة في طلبه، فركب فرسه وحملها على فرس وسارا حتى طرقاه من ليلته، فاحتملاه فمات عند أسماء، وقال قبل أن يموت:

سما نحوي خيال من سليمى، ... فأرقني، وأصحابي هجود.

فبت أدير أمري كل حال، ... وأذكر أهلها، وهم بعيد.

على أن قد سما طرفي لنار، ... يشب لها بذي الأرطى وقود.

حواليها مها بيض التراقي، ... وآرام وغزلان رقود.

نواعم لا تعالج بؤس عيش، ... أوانس لا تروح، ولا ترود.

يرحن معا بطاء المشي رودا، ... عليهن المجاسد والبرود.

سكن ببلدة وسكنت أخرى، ... فقطعت المواثق والعهود.

فما بالي أفي ويخان عهدي، ... وما بالي أصاد ولا أصيد.

ورب أسيلة الخدين بكر، ... منعمة لها فرع وجيد.

وذو أشر شتيت النبت عذب ... نقي اللون براق برود.

لهوت بها زمانا في شبابي، ... وزارتها النجائب والقصيد.

أناسا كلما أخلقت وصلا ... عناني منهم وصل جديد.

فدفن في أرض مراد.

المحب الجاحد

أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحافظ قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال: حدثنا محمد بن جعفر الأديب قال: حدثنا أبو القاسم السكوني إملاء قال: حدثني الحسين بن مكرم قال: حدثنا يزيد الثمالي قال: مات أبو العتاهية وعباس بن الأحنف وإبراهيم الموصلي في يوم واحد، فرفع خبرهم إلى الرشيد، فأمر المأمون بحضورهم والصلاة عليهم، فوافى المأمون، وقد صفوا له في موضع الجنائز، فقال: من قدمتم؟ قالوا: إبراهيم، قال: أخروه وقدموا عباسا! قال: فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الظاهرية، فقال له: أيها الأمير بم قدمت عباسا؟ قال: يا فضولي بقوله:

سماك لي قوم وقالوا: إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد.

فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم، ... إني ليعجبني المحب الجاحد.

القبلة القاتلة

حدث أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن حرب قال: حدثني أبو عبد الله القرشي قال: حدثني أبو غسان قال: كان سبب وفاة مالك بن أبي السمح أنه لما كبر ضم إليه رجلا من قريش يقوم عليه، ففرش له على سرير وخرق فيه خرقا لوضوء، فأتته الجارية يوما بطعام فاكل، ثم أتته ببخور فتبخر، فوقعت الجارية بقلبه، فاهوى إليها ليقبلها، وتنحت عنه، فسقط عن السرير، فاندقت عنقه، فمات.

قال الزبير: أنشدتني ظبية لحسن بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن العابس بن عبد المطلب في مالك بن أبي السمح:

ليس عيش إلا بمالك بن أبي السم ... ح، فلا تلحني، ولا تلم.

نتملى لذيذ عيش، ولا نه ... تك حق الإسلام والحرم.

رب ليل قصره اللهو، فانجا ... ب، ويوم كذاك لم يدم.

كنت فيه ومالك بن أبي السم ... ح الكريم الأخلاق والشيم.

ضل عنه فؤاده

أنبأنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الأزهري قال: أنشدنا سهل بن أحمد الديباجي قال: أنشدنا ابن دريد لنفسه:

صارمته فتواصلت أحزانه ... وهجرته فتهاجرت أجفانه.

قالت تعرض: مس شيطان به، ... بل أنت حين ملكته شيطانه.

قد ضل عنه فؤاده، فاستخبري ... عينيك أين محله ومكانه.

 

هل من آس لداء القلب

ولي من قصيدة أولها:

بالحزن هاجت للفتى أحزانه ... وجفت لذيذ رقادها أجفانه.

ومنها:

يا جارة الحي الذين ترحلوا ... سحرا فأوحش ربعهم غزلانه.

هل تعلمين لداء قلبي آسيا، ... فاليوم حين ترحلوا بحرانه.

كتم الهوى خوف العذول ولومه، ... حتى أضر بجسمه كتمانه.

بنت الوالي والسجين

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة إن لم يكن سماعا فإجاوة قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني ابن أبي الدنيا.

قال: حدثني محمد بن زيد العتبي قال: أخبرني جدي الحسين بن زيد قال: ولي بديار مصر وال فوجد على بعض عماله، فحبسه، وقيده، فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته، فكتبت غليه، وقد كان نظر إليها:

أيها الرامي بعيني ... ه، وفي الطرف الحتوف.

إن ترد وصلا، فقد ... أمكنك الظبي الألوف.

فأجابها الفتى:

إن تريني زاني العي ... نين، فالفرج عفيف.

ليس إلا النظر الفا ... تر، والشعر الظريف.

فكتبت إليه:

قد أردناك على عش ... قك إنسانا عفيفا.

فتأبيت، فلا زل ... ت لقيديك حليفا.

فأجابها الفتى:

غير أني خفت ربا ... كان بي برا لطيفا.

فذاع الشعر وبلغ الخير الولي، فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه.

دواء الحب غال

أخبرنا التنوخي علي بن المحسن قال: اخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أبو بكر المحولي قال: وأنشدني حماد بن إسحاق للوليد بن يزيد:

ولقد قال طبيبي، ... وطبيبي غير آل.

أشك ما شئت سوى ال ... حب، فإني لا أبالي.

سقم الحب رخيص، ... ودواء الحب غال.

مرض الحب

وبإسناده قال: وأنشدني أبو العابس بن أحمد من أهل ضرية لرجل من بني أسد:

أقول، وعقبة الأسدي يرقي ... أخاه برقية المين الكذوب:

تثاءب لي، فما بي غير حبي ... صفية، ضل سعيك من طبيب.

وبإسناده قال: أنشدني احمد بن منصور المروروذي:

أيا سبب الدموع إلى الجفون، ... وشجو المستهام المستكين.

سل الحسرات: هل أبقين دمعا ... يجود به على قلب حزين.

وهل ترك السقام به حراكا ... يسير به إليك سوى الحنين.

القطيعة أذهب للعقل

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر قال: أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي قال: قرأت على أبي بكر بن دريد للحسين بن مطير الأسدي:

فوا عجبا للناس يستشرفونني، ... كان لم يروا بعدي محبا، ولا قبلي.

يقولون لي: اصرم يرجع العقل كله ... وصرم حبيب النفس أذهب للعقل.

فيا عجبا من حب من هو قاتلي، ... كأني أجازيه المودة عن قتلي.

ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي.

أنا أشعر من قيس

وبإسناده قال: حدثنا القاضي قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا الرياشي عن بعض أصحابه قال: اخبرني رجل قال: جلست في ظل شجرة وقلت ما أشعر قيسا حيث يقول:

يبيت ويضحي كل يوم وليلة ... على منهج تبكي عليه القبائل.

قتيل للبنى صدع الحب قلبه، ... وفي الحب شغل للمحبين شاغل.

فقال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:

سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقة، تضحى إليك وتخصر.

وأخليتها من مخها، فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفر.

إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذر.

خذي بيدي ثم انهضي بي تبيني ... بي الضر، إلا أنني أتستر.

قال: ثم مر فجمز في الصحراء، فلما كان في اليوم الثاني أتيته، فجلست في ذلك الموضع، فلما أحسست به قلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:

تباكر أم تروح غدا رواحا، ... ولن يستطيع مرتهن براحا.

سقيم لا يصاب له دواء، ... أصاب الحب مقتله فناحا.

وعذبه الهوى حتى براه، ... كبري القين بالسفن القداحا.

وكاد يذيقه جرع المنايا، ... ولو أسقاه ذلك لاستراحا.

فقال: أنا اشعر منه حيث أقول:

فما وجد مغلوب بصنعاء موثق، ... بساقيه من ثقل الحديد كبول.

قليل الموالي مستهام مروع، ... له بعد نومات العشاء عويل.

يقول له الحداد: أنت معذب، ... غداة غد، أو مسلم فقتيل.

بأعظم مني روعة يوم راعني ... فراق حبيب ما إليه سبيل.

سيف الفراق

وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: أنبأنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:

قد قلت والعبرات تس ... فحها على الخد الأماقي.

حين انحدرت إلى الجزي ... رة وانقطعت عن العراق.

وتخبطت أيدي الرفا ... ق مهامه البيد الرفاق.

يا بؤس من سل الزما ... ن عليه سيفا للفراق.

مصدعة القلوب

وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: قرأت على أبي بكر بن دريد لجميل:

رحل الخليط جمالهم بسواد، ... وحدا على أثر الأحبة حاد.

ما إن شعرت ببينهم ورحيلهم، ... حتى سمعت به الغراب ينادي.

لما رأيت البين قلت لصاحبي: ... صدعت مصدعة القلوب فؤادي.

بانوا، وغودر في الديار متيم، ... كلف بذكرك يا بثينة صاد.

ليست له صبوة

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي الكاتب بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو عبيد محمد بن عمران بن موسى المرزباني الكاتب قال: حديث عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي إملاء قال: حدثنا كامل بن طلحة قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا ابو عشانة قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: عجب ربنا تعالى من شاب ليست له صبوة.

المأمون وجارية أبيه

أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في ما أجاز لنا قال: حدثنا المعافى بن زكريا الحريري قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: قال منصور البرمكي وكان أديبا: كانت لهارون الرشيد جارية غلامية، تصب على يده، وتقف على رأسه، وكان المأمون يعجب بها، وهو أمرد، فبينا هي تصب على هارون من إبريق معها، والمأمون مع هارون قد قابل بوجهه وجه الجارية، إذ أشار إليها بقبلة، فزبرته، بحاجبها وأبطأت عن الصب في مهلة ما بين ذلك، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال: ضعي ما معك! علي كذا إن لم تخبريني لأقتلنك. فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة. فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه، فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: قم فاخل بها في تلك القبة، فقام فعل، فقال له هارون: قل في هذا شعرا، فأنشأ يقول:

ظبي كنيت بطرفي ... عن الضمير إليه.

قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه.

ورد أخبث رد ... بالكسر من حاجبيه.

فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه.

الأطباء والمحبون

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه قراءة عليه قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان إجازة قال: أنشدني منشد للحسن بن وهب:

حين عرقي: فقال: حب، طبيبي، ... ما له في علاجه من مصيب.

فغمزت الطبيب سرا بعيني، ... ثم حلفته بحق الصليب.

لا تقل: لوعة الهوى أسقمته، ... فينالوا، بدعوة، من حبيبي.

وأنشد:

واعي السقم تخبر عن ضميري، ... ويخبر عن مفارقتي سروري.

ألا يا سائلي عن سوء حالي، ... وعن شأني سقطت على الخبير.

شربت من الصبابة كأس سقم ... بعيني شادن ظبي غرير.

وقال عمر بن أبي ربيعة:

طبيبي داويتما ظاهرا، ... فمن ذا يداوي جوى باطنا.

فعوجا على منزل بالعمي ... م، فإني لقيت به شادنا.

ولي من أثناء قصيدة:

وذي شجن مثلي شكوت صبابتي ... إليه، ودمعي ما يفتر قطره.

فقال، ولم يملك سوابق عبرة ... تترجم عما قد تضمن صدره:

كلانا أسير في الهوى متهدد ... بقتل، فما ينفك ما عاش أسره.

وأقلقني حادي الركائب بالضحى، ... وسائقها لما تتابع زجره.

وتقويض خيم الحي، والبين ضاحك ... لفرقتنا حتى بدا منه ثغره.

وفي الجيرة الغادين أحوى، عذاره ... يقوم به للعاشق الصب عذره.

غدائره لي شاهدات بأنني ... وفيت له من بعد ما بان غدره.

السوداء وحبيبها عمر

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسك علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العابس بن يحيوه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مالك بن الهيثم الخزاعي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني إبراهيم بن ميمون قال: حججت في أيام الرشيد، فبيما أنا بمكة أجول في سككها، إذا أنا بسوء قائمة ساهية، فأنكرت حالها، فوقفت أنظر إليها، فمكثت كذلك ساعة، قم قالت:

أعمرو علام تجنبتني؟ ... أخذت فؤادي فعذبتني.

فلو كنت، يا عمرو، خبرتني ... أخذت حذاري، فما نلتني.

قال: فدنوت منها، فقلت: يا هذه! من عمرو؟ فارتاعت من قولي وقالت: زوجي. فقلت: وما شأنه؟ قالت: أخبرني أنه يهواني وما زال يدس إلي ويعلق بي في كل طريق، ويشكو شدة وجده حتى تزوجني، فلبث معي قليلا، وكان له عندي من الحب مثل الذي كان لي عنده، ثم مضى إلى جدة، وتركني.

قلت: فصفيه لي.

فقالت: أحسن من تراه، وهو أسمر حلو ظريف.

قال، فلت: فخبريني أتحبين أن أجمع بينكما؟ قالت: فكيف لي بذلك؟ وظنتني أهزل بها. قال: فركبت راحلتي وصرت غلى جدة فوقفت في المرقى أتبصر من يعمل في السفن، وأصوت: يا عمرو يا عمرو! فإذا أنا به خارج من سفينة، وعلى عنقه صن، فعرفته بالصفة، فقلت: أعمرو علام تجنبتني؟ فقال: هيه هيه، رأيتها وسمعته منها؟ ثم أطرق هنيهة ثم اندفع يغنيه، فأخذته منه، وقلت له: ألا ترجع؟ فقال: بأبي أنت، ومن لي بذلك؟ ذلك والله أحب الأشياء إلي ولكن منع منه طلب المعاش.

قلت: كم يكفيك كل سنة.

قال: ثلاثمائة درهم، فإعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت: هذه لعشر سنين، ورددته إليها، وقلت له: إذا فنيت أو قاربت الفناء قدمت علي فسررتك، وإلا وجهت إليك، وكان ذلك أحب إلي من حجي.

قال محمد بن عبد الله قال إسحاق: والناس ينسبون هذا الصوت إلى إبراهيم، وكان إبراهيم، وكان إبراهيم أخذه من هذا الفتى.

مدرك الشيباني وعمرو النصراني

أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي ولقيته بمدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، في أول سنة ست وأربعين وأربع مائة قال: أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ النجيرمي قال: أنشدني جعفر بن شاذان القمي أبو القاسم قال: أنشدني مدرك بن علي الشيباني له ببغداد في الجانب الغربي في عمرو بن يوحنا النصراني:

من عاشق ناء هواه دان، ... ناطق دمع صامت اللسان.

القصيدة جميعها.

وقال أبو القاسم جعفر بن شاذان القمي: وكان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد من الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورة وأجملهم خلقا، وكان مدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان مدرك من أفاضل أهل الأدب والمطبوعين في الشعر، وكان له مجلس يجتمع إليه الأحداث لا غير، فإن حضره شيخ أو كهل قال له مدرك: إنه يقبح بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم.

بمجالس العلم التي ... بك تم جمع جموعها.

ألا رثيت لمقلة ... غرقت بماء دموعها.

بيني وبينك حرمة، ... والله في تضييعها.

فقرأ الأبيات، ووقف عليها من كان في المجلس وقرأوها، واستحيا عمرو من ذلك، فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، فترك مجلسه ولزم دار الروم، وجعل يتبع عمرا حيث سلك، وقال فيه هذه القصيدة المزدوجة العجيبة.

ولمدرك في عمرو أيضا أشعار كثير، ثم خرج مدرك إلى الوسواس وسل جسمه، وذهل عقله، وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش، فحضره جماعة، فقال لهم: ألست صديقكم القديم العشرة لكم، أفما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه، وقالوا له: إن كان قتل هذا الفتى دينا، فإن إحياءه لمروءة! قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حال ما نحسبك ترضى به. فلبس ثيابه ونهض معهم، فلما دخلوا عليه سلم عليه عمرو وأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي؟ فنظر إليه فأغمي عليه ساعة ثم أفاق وفتح عينيه، وهو يقول:

أنا في عافية إ ... لا من الشوق إليكا.

أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا.

لا تعد جسما، وعد ... قلبا رهينا في يديكا.

كيف لا يهلك مرش ... ق بسهمي مقلتيكا.

ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفنوه.

موسى في وقت الكلام

أخبرنا محمد بن أحمد الأردستاني، رحمه الله، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا الفضل محمد بن إسحاق السبخري قال: سمعت القناد يقول: سألت الحسين بن منصور عن حال موسى في وقت الكلام، فقال: بدا له باد من الحق فلم يبق لموسى ثم أثر، وأنشد:

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه.

يبدو كحاشية الرداء، ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه.

فأتى لينظر كيف لاح، فلم يطق ... نظرا إليه ورده سبحانه.

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه، ... والماء ما سمحت به أجفانه.

الحب يذهب بالحب

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر المحولي محمد بن خلف قال: أخبرني أبكر العامري قال: حدثني الحسين بن علي بن قدامة مولى بني أمية عن أبيه قال: خرجت إلى الشام، فلما كنت بالشراة، ودنا الليل، إذا قصر، فهويت إليه، فإذا بين بابي القصر امرأة لم أر مثلها، قط، هيئة وجمالا، فسلمت، فردت، ثم قالت: من أنت؟ قلت: رجل من بني أمية من أهل الحجاز.

فقالت: مرحبا، وحياك الله، انزل أنت في أهلك، قلت: ومن أنت، عافاك الله؟ قالت: امرأة من قومك، فأمرت إلي بمنزل وقرى وبت في خير مبيت، فلما أصبحت أرسلت إلي تقول: كيف مبيتك؟ قلت: خير مبيت، والله ما رأيت أكرم منك ولا شرف من فعالك، قالت: فإن لي إليك حاجة، تمضي حتى تأتي ذلك الدير، دير أشارت إليه منتح، فإن فيه ابن عمي، وهو زوجي، قد غلبت عليه نصرانية في ذلك الدير، فهجرني ولزمها، فتنظر إليه وتخبره عن مبيتك، وعما قلت لك، فقلت: أفعل، ونعمى عين.

فخرجت حتى انتهيت إلى الدير، وإذا أنا برجل في فنائه جالس كأجمل ما يكون من الرجال، فسلمت، فرد وسألني، فأخبرته من أنا، وأين بت، وما قالت لي المرأة. فقال: صدقت! أنا رجل من قومك من آل الحارث بن الحكم، ثم صاح: يا قسط! وتلك أروى، وأنا الذي أقول:

تبدلت قسطا بعد أروى وحبها، ... كذاك لعمري الحب يذهب بالحب.

صوفي سيئ الحال

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي: كان عبد الله بن موسى من رؤساء الصوفية ووجوههم، فنظر إلى غلام في بعض الأسواق فبلي به، وكاد يذهب عقله عليه صبابة وحبا له، وكان يقف في كل يوم على طريقه حتى يراه إذا أقبل، وإذا انصرف، فطال به البلاء، وأقعده عن الحركة الضنى، فكان لا يقدر أن يمشي خطوة فما فوقها، فأتيته يوما لأعوده، فقلت: يا أبا محمد! ما قصتك، وما الأمر الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: أمور امتحنني الله تعالى بها، فلم أصبر على البلاء فيها، ولم يكن لي بها طاقة ولا يدان، ورب ذنب استصغره الإنسان مما يزينه له الشيطان هو عند الله تعالى أعظم من ثبير، وحقيق لمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام. ثم بكى.

فقلت: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يكون حسابي إلى النار يطول فيها شقائي. فانصرفت عنه، وأنا راحم له لما رأيت به من سوء الحال.

الطرف الغرار

وبإسناده قال: قال أبو حمزة: وكنت مع ثابت بن السري الصوفي، فنظر إلى غلام، فقال: يا طول حزناه مما أرتنيه عيني، لقد تركني وأنا لا آنس غلى نظر بعد نظرتي هذه! يا شر ما أتاني به المقدور في النظر إلى الغرور، غرني والله طرفي حتى استمكن من حتفي.

ثم قال: كم أستقيل الله، عز وجل، فيقيلني، وكم أستعفيه فيعفيني، لقد خفت أن يكون ذلك استدراجا منه حتى يأخذني بذلك كله، في وقت حاجتي إليه عند قدومي عليه.

ثم بكى حتى غشي عليه.

الهاتف بالليل

أنبأنا أبو القاسم علي بن أبي علي التنوخي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي إجازة قال: حدثني سعيد بن عمر بن علي البيروذي قال: حدثني علي بن المختار قال: حدثني القحذمي قال: هوي رجل من أهل البصرة امرأة فضني من حبها، حتى سقط على الفراش، وكان إذا جنه الليل صاح بأعلى صوته: كم ترى بيننا وبين الصباح؟ فإذا أكثر من ذلك هتف به هاتف من جانب البيت:

ألف عام وألف عام تباعا، ... غير شك، فلا تكن ملحاحا.

قال: فأقام الرجل على علته سنين ثم أبل من علته.

لي سكرتان

أخبرنا أبو بكر الأردستاني قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي في مجلس سماع، وحضر المشايخ، فغنى قوال، فصاح رجل، والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر أليس هؤلاء سمعوا معك، كما سمعت؟ فقام من بين الجماعة وتواجد، وأنشأ يقول:

لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا.

وأنشد على أثره:

لي سكرتان، وللندمان واحدة، ... شيء خصصت به من بينهم وحدي.

سكينة وعروة بن أذينة

أنبأنا الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد قال: حدثنا أبو علي الطوماري قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني أبو معاوية عبد الجبار بن سعيد المساحقي قال: وقفت سكينة على ابن أذينة في موكبها، ومعها جواريها، فقالت: يا أبا عامر! أأنت تزعم أنك ريئ وأنت هيئ، وأنت الذي تقول:

قالت، وأبثثتها سري، فبحت به: ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر.

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك، وما ألقى على بصري.

الهالك من عشق

أنبأنا أحمد علي بن ثابت قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: أخبرني محمد بن يحيى قال: قال العباس بن الأحنف:

ويح المحبين ما أشقى جدودهم، ... إن كان مثل الذي بي بالمحبينا.

يشقون في هذه الدنيا بعشقهم، ... لا يدركون به دنيا ولا دينا.

يرق قلبي لأهل العشق أنهم ... إذا رأوني وما ألقى يرقونا.

قال: وله أيضا:

أيها النادب قوما هلكوا، ... صارت الأرض عليهم طبقا.

أندب العشاق، لا غيرهم، ... إنما الهالك من قد عشقا.

ولي من أثناء قصيدة:

مرت بنا ساحبة مرطها، ... قد أفتنت في حبها رهطها.

ومنها:

وشرطت إتلاف عشاقها، ... فكلهم ملتزم شرطها.

واستخبرت عني عذارى بنا ... ت العم ثم استخبرت سمطها.

وكلهم أخبر عن رتبة ... لي في الهوى، غيري لم يعطها.

لولا الهوى العذري، يا هند، لم ... أشك النوى قط ولا شحطها.

كوى ما كوى

ولي ابتداء قصيدة:

يا ناظري أنت جنيت الهوى، ... يوم استقل الحي عن ذي طوى.

تالله! ما أدري متى أرشقت ... عيناك قلبي يا غزال اللوى.

أحيك الطائي أغراك بي؟ ... لا عقد العز عليهم لوا.

حب إلى قلبي الغزال الذي ... كوى من الأحشاء ما قد كوى.

قتله خبر زواجها

ذكر ابن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني إسحاق بن محمد الكوفي قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن حفص بن موسى بن عبيد الله بن معمر عن أبيه قال: كان مسافر بن أبي عمرو بن أمية يتعشق جارية من أهل مكة، فنذر به أهلاه، فهرب، فلحق بالحيرة بالنعمان بن المنذر، فاعتل هناك بالهلاس، فجمع له النعمان أطباء الحيرة فأجمعوا على كيه، فكوي فبرأ، ثم إنه قدم عليه رجل من أهل مكة، فقال له: ما فعلت فلانة؟ قال: تزوجت، قال فشهق ومات في مكانه، فقال أبو طالب، وكان صديقا لمسافر خاصا به، فقال يرثيه:

ليت شعري، مسافر بن أبي عم ... رو، وليت، يقولها المحزون.

كيف كانت مرارة الموت في في ... ك، وماذا بعد الممات يكون.

خير ميت على هبالة، قد حا ... لت فياف من دونه وحزون.

بورك الميت الغريب، كما بو ... رك نضر الريحان والزيتون.

كم صديق وصاحب وابن عم ... وخليل عفت عليه المنون.

فتعزيت بالجلادة والصب ... ر، وإني بصاحبي لضنين.

رجع الناس آيبين جميعا، ... وخليلي في مرمس مدفون.

خشيف شبيه الحبيب

وجدت بخط أحمد بن محمد بن الأبنوسي ونقلته من أصله قال: حدثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثنا جدي قال: حدثنا أبو عمر العمري قال: حدثنا عبد الملك بن قريب عن غياث بن الحارث السهمي قال: حدثني زيد بن عمارة النهدي قال: اصطدت خشفا فأوثقته، وحملته، ثم اقبلت به، إذ استقبلني غلام كأنه فلقة قمر له ضفيرتان قد قاربتا عجيزته، فلما رأى الخشف، وقف ينظر إليه وتنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول، وهو يبكي:

وذكرني من لا أبوح بذكره، ... محاجر ظبي في حبائل قانص.

فقلت، ودمع العين يجري بحرقة، ... ولحظي إلى عينيه لحظة شاخص:

ألا أيهذا القانص الظبي خله! ... وإن كنت تأباه، فمر بقلائصي.

خف الله لا تحبسه! إن شبيهه ... حياتي، وقد أرعدت فيه فراقي.

قال: ثم بكى، قال: فقلت: دونكه يا فتى فهو لك، قال: فعمد إليه فحله، ثم قبل عينيه، ثم ارسله.

قال: فمر الظبي وأتبعه بصره يبكي في أثره، قال: ثم سكن فقلت: يا فتى ألك حاجة؟ قال: نعم! قلت: ما هي؟ قال: تبلغ معي الحي. قال: فوصلت معه المنزل، قال: فلما كان من الغد، إذا به يسوق عشرا من الإبل حتى وقف علي، فقال: دونكها، فامتنعت، فأبى إلا قبولها.

قال: فسألت عنه، فقالوا: هذا فتى يهوى فتاة من الحي.

العجوز المتصابية

أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد العدل أن أبا عبيد الله محمد بن عمران أخبرهم في ما أجاز لهم قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: إني لفي سوق ضرية، وقد نزلت على رجل من بني كلاب، وكان متزوجا بالبصرة، وكان له أهل بضرية، إذ أقبلت عجوز على ناقة لها حسنة البزة، يتخيل فيها باقي جمال، فأناخت، وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكأ على محجن لها، فجلست قريبا منا، فقالت: هل من منشد؟ فقلت للكلابي: أيحضرك شيء؟ فقال: لا! فأنشدتها شعرا لبشر بن عبد الرحمن الأنصاري، وهو:

وقصيرة الأيام ود جليسها ... لو باع مجلسها بفقد حميم.

محذيات أخي الهوى غصص الجوى ... بدلال غانية ومقلة ريم.

صفراء من بقر الجواء، كأنما ... خفر الحياء بها رداع سقيم.

فجشت على ركبتهيا، وأقبلت تنكت الأرض بمحجنها وأنشأت تقول:

قفي يا أمام القلب، نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك.

فلو قلت طأ في النار أعلم أنه ... هوى منك لي أو منة من نوالك.

لقدمت رجلي نحوها فوطئتها، ... هوى منك لي أو هفوة من ملالك.

سلي البانة العليا من الأجرع الذي ... به البان، هل حاولت غير وصالك.

وهل قمت في أطلالهن عشية، ... قيام سقيم القلب، واخترت ذلك.

ليهنك إمساكي بكفي على الحشا، ... ورقراق دمعي رهبة من زيالك.

قال الأصمعي: فأظلمت والله علي الدنيا لحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها، فدنوت منها فقلت: نشدتك بالله لما زدتني من هذا؟ فرأيت الضحك في عينيها، وأنشدت:

ومستحقبات ليس يحقبن زرننا، ... ويسحبن أذيال الصيانة والشكل.

جمعن الهوى حتى إذا ما ملكنه ... نزعن، وقد أكثرن فينا من القتل.

مريضات رجع القول خرس عن الخنا، ... تألفن أهواء القلوب بلا بذل.

موارق من حبل المحب عواطف ... بحبل ذوي الألباب بالجد والهزل.

يعنفني العذال فيهن، والهوى ... يحذرني من أن أطيع ذوي العذل.

فقلت: أحسنت، والذي خلقك! فقالت: اكذاك؟ قلت: نعم! قالت: فنشرك في هذا الإحسان غيركم، ثم قامت، فوالله ما مسعتمنشدة بعدها أحلى ألفاظا منها.

 

 

أماتها ومات أسفا عليها

وجدت بخط أبي عمر بن حيويه، رحمه الله، ونقلته منه قال: حدثني أبو بكر محمد بن خلف المحولي قال: حدثنا أبو عبد الله التميمي قال: أخبرنا زياد بن صالح الكوفي قال: كان العلاء بن عبد الرحمن التغلبي من أهل الأدب والظرف، فواصلته جارية من جواري القيان، فكان يظهر لها ما ليس في قلبه، وكانت الجارية على غاية العشق له، والميل إليه، فلم يزالا على ذلك حتى ماتت الجارية عشقا له ووجدا به، فذكرها بعد ذلك وأسف على ما كان كمن جفائه لها وإعراضه عنها، فرآها ليلة في منامه، وهي تقول له:

أتبكي بعد قتلك لي عليا، ... فهلا كان ذا إذ كنت حيا.

سكبت دموع عينك في انهلال، ... ومن قبل الممات تسي إليا.

أقل من النياحة والمراثي، ... فإني ما أراك صنعت شيا.

عذبة الأنياب

أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: قال جميل بن معمر:

خليلي عوجا اليوم حتى تسلما ... على عذبة الأنياب طيبة النشر.

فإنكما إن عجتما لي ساعة ... شكرتكما حتى أعيت في قبري.

وإنكما إن لم تعوجا فإنني ... سأصرف وجدي، فأذنا اليوم بالهجر.

وما لي لا أبكي، وفي الأيك نائح؟ ... وقد فارقتني شحنة الكشح والخصر.

أيبكي حمام الأيك من فقد إلفهش ... وأحمل ما بي عن بثينة من صبر.

يقولون: مسحور يجن بذكرها، ... فأقسم ما بي من جنون، ولا سحر.

فأقسم لا أنساك ما ذر شارق، ... وما خب آل في ملمعة قفر.

وما لاح نجم في السماء معلق، ... وما تورق الأغصان من ورق السدر.

لقد شغفت نفسي، بثين، بذكركم، ... كما شغف المخمور، يا بثن، بالخمر.

ذكرت مقامي ليلة البان قابضا ... على كف حوراء المدامع كالبدر.

فكدت، ولم أملك إليها صبابة، ... أهيم، وفاض الدمع مني على النحر.

فيا ليت شعري، هل أبيتن ليلة ... كليلتنا حتى يرى ساطع الفجر.

تجود علينا بالحديث وتارة ... تجود علينا بالرضاب من الثغر.

فليت الهوى قد قضى ذاك مرة، ... فيعلم ربي، عند ذلك، ما شكري.

فلو سألت مني حياتي بذلتها، ... وجدت بها إن كان ذلك من أمري.

بكيت من الفراق

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أنشدني إبراهيم بن عمرو لمحمد بن أبي أمية:

بكيت من الفراق غداة ولت ... بنا بزل الركاب عن العراق.

فما رقأت دموع العين حتى ... شفى قلبي العراق من الفراق.

غدا أحدو مطايا الشوق مني ... بسوق لا يقيم على الرفاق.

وأستبطي إلى بغداد سيري، ... ولو أني حملت على البراق.

آه من الحب

حدثنا أبو عبد الله بن أبي نصر الأندلس من لفظه قال: حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: حدثني القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي قال: أنشدنا ابن عرفة نفطويه لابن أبي مرة المكي:

إن وصفوني، فناحل الجسد، ... أو فتشوني فأبيض الكبد.

ضاعف وجدي وزاد في سقمي ... أن لست أشكو الهوى إلى أحد.

آه من الحب! آه، واكبدي! ... إن لم أمت في غد فبعد غد.

جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى، وانطويت فوق يدي.

كأن قلبي، إذا ذكرتكم، ... فريسة بين ساعدي أسد.

قاتل الله الحمى

قال: وأخبرنا الأشرف قال: قرأت على أبي العباس الأعرابي:

أيا منشر الموتى أفدني من التي ... بها نهلت نفسي سقاما وعلت.

لقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنت.

ألا من لعين لا ترى قلل الحمى، ... ولا حبب الأوشال إلا استهلت.

ألا قاتل الله الحمى من مقامة، ... وقاتل دنيانا به كيف ولت.

فما أم بو هالك بتنوفة، ... إذا ذكرته آخر الليل حنت.

وما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت.

إذا ذكرت نجدا وطيب ترابه، ... وبرد الحصى من أرض نجد أرنت.

بأكثر مني لوعة، غير أنني ... أطامن أحشائي على ما أجنت.

حديث كالقطر

وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: قرأت في نوادر ابن الأعرابي عن أبي عمر المطرز الأعرابي قال أبو عمر: أنشدنا أبو عمر:

وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا.

فأصاخ يرجو أن يكون حيا، ... ويقول من فرح: أيا ربا.

حديثها السحر الحلال

وأحسن ابن الرومي في هذا المعنى قوله:

وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز.

إن طال لم يملل، وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز.

شرك العيون، وفتنة ما مثلها ... للمطمئن، وعقلة المستوفز.

حديث كقطع الرياض

قال: وأنشدني بعض أصحابنا لبسار:

وكأن حلو حديثها، ... قطع الرياض كسين زهرا.

وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا.

وتخال ما جمعت علي ... ه ثيابها ذهبا وعطرا.

وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا.

ما لي وللعيد

أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أنشدني أبو عبد الله بن حجاج لنفسه:

قالوا: غدا العيد فاستبشر به فرحا! ... فقلت: ما لي وما للعيد والفرح.

قد كان ذا، والنوى لم تضح نازلة، ... بعقوتي، وغراب البين لم يصح.

أيام لم يخترم قربي العباد، ولم ... يغد الشتات على شملي ولم يرح.

وطائر طار في خضراء مورقة ... على شفا جدول بالروض متشح.

بكى وناح، ولولا أنه سبب ... لشجو قلبي المعنى فيك لم ينح.

فما ذكرتك، والأقداح دائرة، ... إلا مزجت بدمعي باكيا قدحي.

ولا سمعت بصوت فيه ذكر نوى ... إلا عصيت عليه كل مقترح.

مختصر يصف نفسه في ساعة الموت

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي قال: حدثنا أبو كامل الحراني قال: حدثني أبو محمد بن زرعة قال: كان خضر بن زهرة الشيباني من أعبد الصوفية، وأنسكهم وأشدهم اجتهادا، وأملكهم لنفسه، وكان مقبول القول مطاعا في بلده، فارسا شجاعا، ذا مال وافر، فنشأ له غلام قد رباه كأحسن ما رؤي من الغلمان في حفظ القرآن وحفظ الحديث وحجسن المناظرة والأدب والعبادة، وكان قد أخذ عنه، وسمع حتى كان بعض الناس يوازيه به في الفروسية والشجاعة والمعرفة، وكانا ملازمين لغزو، فخرجا في بعض السرايا، فأصيبت السرية، وأفلت منها جرحى، وفيها خضر وغلامه جريحان، مثخنان، فكمنا في بعض الغياض، فاشتدت علة الغلامن وضعف عن الحركة والنهوض، فأقمنا عليه ثلاثا، ونزل به الموت، فأقبل يضحك أحيانا، ويبكي أحيانا، فقال له خضر: مم تضحك يا بني؟ قال: أضحك إلى جوار يضحكن إلي، ويقبلن بوجوههن علي.

قال: فما يبكيك؟ قال: أبكاني فراقك وحبسك في الدنيا بعدي.

قال: أما لئن قلت ذلك يا بني ليكونن عمري بعدك قصيرا، وحزني عليك كثيرا، وفرحي بعدك قليلا، وقلبي بفراقك عليلا، فسبحان من أبقاني بعدك للأحزان، وعرضني لنوائب الزمان، وجعلني غرضا لنوازل الحدثان.

وبكى حتى انقطع عن الكلام، فقال له: لا تبك فإن لقاءنا قريب، واجتماعنا سريع.

فقال: أتوصي بشيء يا بين حتى أبلغ فيه محبوبك؟ قال: نعم! قال: قل! قال: عليك بالصبر بعدي، فغنها درجة الأبرار، ومعقل الأخيار، وإياك والجزع، فإنه سبيل لكل ضعيف، ومعول كل حاطئ، وغياك والزيغ، والزم ما أنت عليه، فإنه يوشك أن يقدم بك على غبطة وسرور وسعادة وحبور، فلو رأيت ما أعد الله تعالى لي من الكرامة، وتفضل علي به من الرحمة، لأحببت أن تكون المقدم إليه قبلي.

فقال: لقد سررتني يا بني بما وصفت، وغبطتك بما قد بلغت، فهل بقي سبيل أمر من أمور الدنيا تحب أن تبلغه حتى أبلغه لك إن رزقني الله العافية، وتخلصت سالما، ووهبت لي الحياة.

قال: نعم! تجعل لي معك سالما، ووهبت لي الحياة.

قال: نعم! تجعل لي معك سهما في حجك وغزوك وصدقتك.

قال: قد فعلت، لوالدي الثلث ولك الثلث، مما تفضل الله به علي من الأجر.

فقال: أما إذ بدا لك ما سألت، فإني أقول لم أكن قلته لك، ولا أطلعتك عليه: ما أتيت أمرا من أمور الخير إلا قلت: اللهم ما قسمت لي فيه من أجر فاجعله لمولاي دوني.

قال: بم استحققت ذلك منك يا بني؟

قال: لأنك ملكتني صغيرا، فاحسنت ملكي، وصحبتي كبيرا، فوقفت في صحبتي، وخفت مقام الله في، ونزهت نفسك عن السوء، وصنتني عن أفعال قد كانت عن غيرك مأثورة عنهم، ومحفوظة مشهورة، قد تحدث بها النساك عنهم وسمعوها منهم، وشهدت الحفظة وكتبتها الملائكة من هجومهم على السيئات وركوبهم الفاحشات، وجموحهم في الباطل وتركهم سبيل الحق، وإيثارهم لشهواتهم في جميع حالاتهم، وقد صحبتك على مر الأيام وكر السنين فلم أرك تؤثر شيئا من هواك على أمر آخرتم، ولم أر أحدا الله أهيب في قلبه منك، فنفعك الله بذلك، وجعله سببا للنظر إلى وجهه، والبلاغ إلى رحمته، والخلوة في داره، والمقام في جواره.

قال أبو محمد بن زرعة: فدنوت منه، وقلت: بابي أنت وأمي! اجعلني في شفاعتك.

قال: أنت الرفيق والصاحب، أنت أول من أشفع له بعد مولاي، ولهؤلاء الذين معك.

فقال له مولاه: يا بين! هل تجد للموت ألما، وترى من مقدماته علما؟ فإن كنت ترى شيئا، فحدثني بكل ما تراه قبل أن تغلب على الحديث، فلا يمكنك أن تخبرني بشيء مما تجد أو ترى.

قال: أما ما أجده قلبي كأنه سعفة في يوم ريح عاصف من خفقانه، أو ريشة في جناح طائر إذا أمعن في طيرانه، وأجد نفسي ساعة بعد ساعة تذبل كالسراج إذا أراد أن يطفأ، وأجد عيني كأن الأسنة تنخسها، فما أقدر على جمرة تتوقد، واجد عظامي كأنه بين رحيين تطحنانها، وأجد أمعائي وأحشائي كأنها في أفواه سباع تمضغها.

فبكى خضر وقال: كف عني، لا تصف شيئا، فقد كاد عقلي أن يذهل بصفتك وقلبي يتصدع مما نزل بك.

فقلت له: أليس في ما سمعت وسمعنا أن الشهيد لا يجد من ألم السلاح إلا كما يجد أحدكم ألم الشوكة أو أقل؟ قال: بلى! قال: فقلت: أفلست شهيدا مثلهم؟ قال: بلى! قلتك فما بالك أنت تألم من بينهم؟ قال: إنما ذلك عند خروج النفس ورؤية ملك الموت، ولم أبلغ بعد إلى ذلك.

فقال له خضر: فهل ترى شيئا.

قال: أرى صورا مقبلة لها أجنحة تطير بها، ترفرف بين السماء والأرض.

قال: فهل قرب منك أحد منها؟ قال: نعم جماعة.

قال: صفهم لي.

قال: أرى صورا لم أر أحسن منها منظرا، بعضهم جناحاه من لؤلؤ وسائر بدنه من ياقوت، وبعشهم جناحاه من ياقوت وسائر بدنه من زمرد.

قال: فهل ترى ملك الموت؟ قال: ما أراه! أليس في ما كتبت من الحديث أن العبد إذا عاين ملك الموت شخص ثم أمسك ساعة فلم يتكلم؟ فقال له خضر: هل ترى شيئا؟ قال: أرى شخصا قد هبط من السماء إلى الأرض حتى سد ما بين الخافقين، قد نشر أجنحته، فأشرقت الشمس من حسنه وأضاءت الدنيا من نوره، وسكن عني ما أجد من الألم حتى كأنه لم يكن، فما أحس منه شيئا، ثم سكت، فلم يتكلم بكلمة حتى مات، رحمه الله.

نومة عبود

ذكر أبو بكر محمد بن الفضل بن قدير في مجموعة قال: حدثني محمد بن أحمد البزاز قال: حدثني عبد الله بن محمد أبو جمعة الوراق قال: أخبرت أن المهدي دخل الكوفة فقال لأبي الأحوص محمدبن حيان الكوفي: حدثنا حديثا من طرائف الأخبار بما حضرك، قال: كان في الزامن الأول رجل يقال له عبود وكان عاشقا لابنة عم له فحضرتها الوفاة، فأزعجه ذلك، وأقلقه، فلما توفيت صار إلى المسيح، فسأله أن يحييها قال: لن يتهيأ ذلك أو تهب لها من عمرك شيئا. قال: قد وهبت لها نصف عمري، فصار المسيح إلى تربتها، فوقف عليها، وسأل ربه أن يحييها فأحياها، فأخذ بيدها عبود، ومضى يريد بها أله، فأدركه الفتور في بعض الطريف، فحط رحله، ووضع رأسه في حجرها، واستقل نوما.

فاجتاز بها ملك الناحية فرأى وجها جميلا وخلقا حسنا، فعرض عليها صحبته، فأجابته، فأمرها، فوضعت رأسه من حجرها، وحملها في قبة كانت معه، فلما انتبه عبود بقي متلددا، فبينا هو كذلك إذ تلقاه نفر يتواصفون الجارية وبراعة خلقها، فسألهم عن الخبر، فأعلموه أنهم رأوا مع الملك امرأة لحقها فجعل يذكرها العهد، وهي ساكتة، ويسألها النزوع عما هي عليه، وهي مزورة عنه، إلى أن قال: ويحك قد كنت توفيت، فصرت في جملة الموتى، فسألت المسيح، فأحياك لي على أني أعطيتك من عمري نصفه، فإن كنت لا تساعدينني ولا تصيرين معي إلى أهلي وأهلك ، فردي علي ما وهبت لك من عمري.

قالت: فإني قد رددته عليك، ولا حاجة لي فيه، فما أتمت هذه الكلمة حتى وقعت ميتة، وانصرف عبود إلى أهله مغتبطا، فضربت العرب بنومة عبود مثلا.