ابن الدمينة العليل
ذكر شيخنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبد الملك بن جريج الطوماري، أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنبأنا عبد الله بن شبيب أنشدني الزبير لابن الدمينة:
يقولون: قد طال اعتلالك بالقذى، ... ألم يأن أن تلقى لعينيك راقيا؟
وأقبلن من أعلى البيوت يعدنني، ... ألا إن بعض العائدات دوائيا
يعدن مريضا هن أصل لدائه؛ ... بقية ما أبقين نصلا يمانيا
لم يدر لوعتي إلا الله
وذكر أبو علي أيضا، حدثنا الطوماري، أخبرنا ثعلب أنشدنا عبد الله لعقبة الكلابي:
إذا اقتسم الناس الأحاديث وانتحوا ... خلا بفؤادي حبها وانتحانيا
فكفكفت دمعي ثم حولت مضجعي ... فلم يدر إلا الله لوعة ما بيا
وقالوا: نرى هذا عن اللهو معرضا؛ ... فقلت لهم: لا يعنكم ما عنانيا
أغزل بيت وأشجع بيت
حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي بن الحسن بن محمد الملحمي، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى ابن زكريا، حدثنا علي بن الجهم أبو طالب الكاتب، حدثني أبو العباس سوار بن أبي شراعة البصري، حدثني الرياشي، حدثني الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: إني أقول لكم أغزل الناس في بيت وأشجعهم في بيت، أما أغزل بيت فقوله:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل
وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا: الطعان، فقلنا: تلك عادتنا؛ ... أو تنزلون، فإنا معشر نزل
أرق بيت في العيون
حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي الملحمي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحارث أبو النضر العقيلي، أخبرني محمد بن راهويه الكاتب، أخبرني الحسن بن إبراهيم قال: قال المأمون لبعض من عنده: أنشدني أرق بيت قيل في العيون، فأنشده:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
قال: ما عمل شيئا، أشعر منه أبو نواس حيث يقول:
ربع البلى بين الجفون محيل، ... عفى عليه بكى عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته، ... حتى تشحط بينهن قتيل
قال القاضي أبو الفرج: القول قول المأمون في رقة شعر أبي نواس.
الشعر ما دخل القلب بلا إذن
أخبرنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي قراءة عليه، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري إملاء، حدثنا إبراهيم بن عرفة الأزدي قال: استنشدني أبو سليمان داود بن علي الأصبهاني بعقب قصيدة أنشدته إياها، ومدحته فيها وسألته الجلوس. فأجابني وقال لي في شيء منها: لو بدلت مكانه. فقلت له: هذا كلام العرب. فقال: أحسن الشعر ما دخل القلب بلا إذن؛ هذا بعد أن بدلت الكلمة. فقال لي إنسان بحضرته: ما أشد ولوعك بذكر الفراق في شعرك! فقال سليمان: وأي شيء أمض من الفراق؟ ثم حكى عن محمد بن حبيب عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قيل له: ما كان أبوك صانعا حيث يقول:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الفراق فعلت ما لم أفعل
قال: كان يقلع عينه ولا يرى مظعن أحبابه.
موت الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا العباس بن العباس الجوهري، حدثنا محمد بن موسى الطوسي أنشدني هلال بن العلاء الرقي:
وقد مات قبلي أول الحب فانقضى، ... فإن مت أمسى الحب قد مات آخره
معشوقان يختصمان
أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا أبو الحسن العباس بن العباس الجوهري، حدثنا الطوسي: أنشدني هلال بن العلاء:
أرى كل معشوقين غيري وغيرها، ... يلذان في الدنيا ويغتبطان
وأمسي وتمسي في البلاد كأننا ... أسيران للأعداء مرتهنان
أصلي فأبكي في صلاتي لذكرها، ... لي الويل مما يكتب الملكان
ضمنت لها أن لا أهيم بغيرها، ... وقد وثقت مني بغير ضمان
ألا يا عباد الله قوموا تسمعوا ... خصومة معشوقين يختصمان
وفي كل عام يستجدان مرة ... عتابا وهجرا، ثم يصطلحان
يعيشان في الدنيا غريبين أينما ... أقاما وفي الأعوام يلتقيان
من يموت في الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا هارون بن محمد، أخبرني أبو عبد الله القرشي، حدثني الحكم قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله الحب. قال: إنما تموت من الحب هذه اليمانية الضعاف القلوب.
يا حبها زدني جوى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الله بن مسلم المروزي قال: كان الأصمعي يقول: لم يكن مجنونا، ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري، وهو أشعر الناس، على أنهم قد نحلوه شعرا كثيرا مثل قول أبي صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك، والذي ... أمات وأحيا، والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة، ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلى قد بلغت بي المدى، ... وزدت على ما لم يكن صنع الهجر
معاوية والفتى العذري
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: قرئ على محمد بن المرزبان، وهو يسمع وأنا أسمع، حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبو محنف عن هشام بن عروة قال: أذن معاوية بن أبي سفيان للناس يوما، فكان في من دخل عليه فتى من بني عذرة، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين، ثم أنشأ يقول:
معاوي! يا ذا الحلم والفضل والعقل، ... وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مسكني، ... وأنكرت مما قد أصيب به عقلي
ففرج، كلاك الله عني، فإنني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذلي، هداك الله، حقي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجي عدله إذ أتيته، ... فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني، ... فهذا أمير المؤمنين من العدل؟
فقال له معاوية: ادن. بارك الله عليك، ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة تزوجت ابنة عم لي. وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها، فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم، فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها، وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك، يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟ ثم بكى. وقال في بكائه:
في القلب مني نار، ... والنار فيها شنار
وفي فؤادي جمر، ... والجمر فيه شرار
والجسم مني نحيل، ... واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ... فدمعها مدرار
والحب داء عسير ... فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلا، ... ولا نهاري نهار
فرق له معاوية، وكتب له إلى ابن أم الحكم كتابا غليظا، وكتب في آخره:
ركبت أمرا عظيما لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زان
قد كنت تشبه صوفيا له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان
حتى أتاني الفتى العذري منتحبا، ... يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطي الإله عهودا لا أخيس بها ... أو لا فأبرأ من دين وإيمان
إن أنت راجعتني في ما كتبت به ... لأجعلنك لحما بين عقبان
طلق سعاد، وفارقها بمجتمع، ... وأشهد على ذاك نصرا وابن طيبان
فما سمعت كما بلغت من عجب، ... ولا فعالك حقا فعل إنسان
فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة، ثم عرضني على السيف؛ وجعل يؤامر نفسه في طلاقها ولا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها، ثم قال: اخرجي يا سعاد، فخرجت شكلة غنجة، ذات هيبة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي؛ وكتب جواب كتابه:
لا تحنثن، أمير المؤمنين، وفي ... بعهدك اليوم في رفق وإحسان
وما ركبت حراما حين أعجبني، ... فكيف سميت باسم الخائن الزاني!
وسوف تأتيك شمس لا خفاء بها ... أبهى البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت، ... أقول ذلك في سر وإعلان
فلما ورد على معاوية الكتاب قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البرية، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاما، وأكملهم شكلا ودلا، فقال: يا أعرابي! هل من سلو عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول:
لا تجعلني، والأمثال تضرب بي، ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق، ... وأشعر القلب منه أي إشعار
والله والله لا أنسى محبتها ... حتى أغيب في رمس وأحجار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبار
قال: فغضب معاوية غضبا شديدا، ثم قال لها: اختاري، إن شئت، أنا، وإن شئت ابن أم الحكم؛ وإن شئت الأعرابي، فأنشأت سعاد تقول:
هذا، وإن أصبح في أطمار، ... وكان في نقص من اليسار
أعز عندي من أبي وجاري، ... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى، إذا غدرت، حر النار
فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأنشأ الأعرابي يقول:
خلوا عن الطريق للأعرابي، ... إن لم ترقوا ويحكم لما بي
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وناقة ووطاء، وأمر بها، فأدخلت بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي.
المحب يسيء الظنون
أخبرنا أبو محمد الحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا ابن المرزبان أنشدني أبو العباس محمد بن يعقوب:
ألا ليت شعري، على نأيكم، ... أناسون للعهد أم حافظونا
ولا لوم إن ساء ظني بكم، ... كذاك المحب يسيء الظنونا
اللهم فرج ما ترى
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني إسحق بن محمد بن إبان، أخبرني بعض البصريين قال: مر أبو السائب المخزومي بسوداء تستقي وتسقي بستانا. قال: ويلك! ما لك؟ قالت: صديقي عبد بني فلان كان يحبني وأحبه، ففطن بنا، فقيده مواليه وصيرني مولاي في هذا العمل. فقال أبو السائب: والله لا يجمع عليك ثقل الحب وثقل ما أرى. وقام مقامها في الزرنوق، فكل الشيخ وعرق، فجعل يمسح العرق ويقول: اللهم فرج ما ترى.
يا رب باك شجوه
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أبو العباس محمد بن يحيى قال: قال أبو سعيد عبد الله بن شبيب:
أنشدني علي بن طاهر بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب لبعض المدنيين:
ألا رب مشغوف بما لا يناله، ... غداة تساق المشعرات إلى النحر
غداة توافي أهل جمع، ضحية، ... لدى الجمرة القصوى أولو الجمم الغبر
وللرمي إذ تبدي الحسان أكفها، ... وتفتر بالتكبير عن شنب غر
فيا رب باك شجوه، ومعول، ... إذا ما رأى الأطناب تنزع للنفر
قال أبو بكر بن الأنباري: الشنب الثغر البارد، والشنب: برد الأسنان، والغر: البيض.
ليلى الملاحين
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين الوكيل بقراءتي عليه سنة أربعين وأربعمائة، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد قال: قعد رجل في سفينة فسمع الملاحين يذكرون ليلى، وكان يهواها، فأنشأ يقول:
فويحك يا ملاح! أرق ليلنا ... دعاؤك ليلى، والسفين تعوم
لعلك إن طالت حياتك أن ترى ... حبائبك اللاتي بهن تهيم
أجدك ما تنسيكهن ملمة، ... ألمت، ولا عهد بهن قديم
النسيم المنيم الموقظ
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس الأخباري أنشدني أبو نضلة لنفسه:
ولما التقينا للوداع، ولم يزل ... ينيل لثاما دائما وعناقا
شممت نسيما منه يستجلب الكرى، ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
حديث كجنى النحل
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بقراءتي عليه، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا محمد بن الحسين بن حميد الخزاز، أخبرني علي بن محمد المرهبي أنشدني بعض أصحابنا لذي الرمة:
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا ماءها بالأصابع
ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع
الصوفي والوجه الجميل
أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر بقراءتي عليه، أخبرنا أبو صالح السمرقندي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع، حدثنا أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري، حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي: حدثني عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالسا مع أبي النظر الغنوي، وكان من المبرزين الخائفين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقفتين عليه. حتى دنا منه. فقال له: سألتك بالله السميع وعزه الرفيع وسلطانه المنيع ألا وقفت علي أروى من النظر إليك! فوقف قليلا ثم ذهب. فقال له: سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا وقفت! فوقف ساعة، فأقبل يصعد النظر فيه ويصوبه ثم ذهب، فقال: سألتك بالواحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت! فوقف ساعة ثم نظر إليه طويلا، ثم ذهب، فقال: سألتك باللطيف الخبير السميع البصير، وبمن ليس له نظير ألا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق إلى الأرض. ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل، وهو يبكي، وقال: لقد ذكرني هذا بنظري إليه وجها جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض؛ ثم غشي عليه.
قيس ولبنى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي إجازة، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا أيوب ابن عباية قال:
خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي أعطك الثمن، فمضى معه. فلما فتح الباب، فإذا لبنى، وقد استقبلت قيسا، فلما رآها ولى هاربا، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي والله مطيتين أبدا. قال: أنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم! قال: هذه لبنى قد رأيتها فقف حتى أخيرها، فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن له في قلبها موضعا، وأنها لا تفعل. قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها، فخيرها، فاختارت قيسا. فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء عدتها ليتزوجها، فماتت في العدة.
بهرام جور وابنه الخامل
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال: كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثا من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرئاستين واعترض ما حفظناه، فنخبره به. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم ولكم جدات، ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا! فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسن اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشرف الهمة، وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا. قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا! قال: إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين والمنجمين والحكماء ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكمون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه. قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية. فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدونك، فضمن له ستره، وأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرها وخبره. ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب الموكل بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها.
فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته له أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به. ثم دعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها ويسألني أن أزوجه إياها. ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعا فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك.
فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك. وهي أعظم الناس منة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي. وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك.
ففعل الفتى ذلك وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته. وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره وعقد لابنه على الملك بعده.
قال اليماني مولى ذي الرئاستين، ثم قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه.
فؤادي! فؤادي
أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة الشرطي، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه بتنيس في كتاب التسلي، حدثنا أبو علي الحسن بن علي الديبلي الكوفي، حدثني جماعة من أهل طبرية منهم أبو يعقوب وأبو علي ابنا يعقوب الحذاء وأبو الحسين بن أبي الحارث وأبو الفرج الصوفي وغيرهم.
أنه كان عندهم رجل صوفي يعرف بالقاسم الشراك وكانت له عنيزات يرعاهن. وقال لي بعضهم: إنه لم يكن يحضر معهم مجالس السماع، ويجتذبونه إلى ذلك فلم يكن له رغبة فيه. قالوا: فبينا هو يرعى عنيزاته إذ سمع صبيا من صبيان الصحراء يغني في حقل:
إن هواك الذي بقلبي ... صيرني سامعا مطيعا
أخذت قلبي وغمض طرفي، ... سلبتني العقل والهجوعا
فذر فؤداي، وخذ رقادي ... فقال: لا بل هما جميعا
فراح مني بحاجتيه، ... وبت تحت الهوى صريعا
قال: فاعتراه طرب شديد، فقال للصبي، وأقبل نحوه: كيف قلت؟ ففزع الصبي وعدا، وهو يقول: لا بأس عليك! كيف قلت يا صبي؟ فلم يقف له ورجع إلى قصائدي كان لهم بطبرية يقال له حميد الفاخوري، حاذق بهذا المعنى، فتردد إليه ثلاثة أيام يردد عليه هذه الأبيات، ثم تخلف في منزله عليلا، يصيح: فؤداي فؤادي، إلى أن قضى، رحمه الله تعالى.
الحب يعلن الجنون
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الاردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام، حدثنا أبو القاسم الحسن بن حبيب المذكر، حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي، حدثني يحيى بن سليمان، سمعت محمد بن الزيات يقول: قلت لغورك يوما: متى حدث بك هذا العشق؟ قال: مذ زمان، إلا أني كنت أكتمه، فلما غلب علي بحت به. قلت: أنشدني من أحسن ما قلت في ذلك! فقال:
كتمت جنوني، وهو في القلب كامن، ... فلما استوى والحب أعلنه الحب
وخلاه والجسم الصحيح يذيبه، ... فلما أذاب الجسم ذل له القلب
فجسمي نحيل للجنون وللهوى، ... فهذا له نهب، وهذا له نهب
نار الهوى أحر من الجمر
أخبرنا أبو بكر الاردستاني بمكة أيضا، حدثنا الحسن بن حبيب أنشدني عبد العزيز بن محمد بن النضر الفهري لماني:
زعموا أن من تشاغل باللذا ... ت عمن يحبه يتسلى
كذبوا والذي تساق له البد ... ن ومن عاذ بالطواف وصلى
إن نار الهوى أحر من الجم ... ر على قلب عاشق يتقلى
ماتا معتنقين
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، ونقلته من أصله، حدثنا أبو علي محمد بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، حدثنا أحمد بن محمد بن أسد الأزدي، حدثنا الساجي عن الأصمعي قال: رأيت بالبادية رجلا قد دق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده، فتعجبت فدنوت منه أسأله عن حاله، فلم يرد جوابا، فسألت جماعة حوله عن حاله، فقالوا: اذكر له شيئا من الشعر يكلمك، فقلت:
سبق القضاء بأنني لك عاشق، ... حتى الممات، فأين منك مذاهبي؟
فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول:
أخلو بذكرك لا أريد محدثا، ... وكفى بذلك نعمة وسرورا
أبكي فيطربني البكاء، وتارة ... يأبى، فيأتي من أحب أسيرا
فإذا أنا سمح بفرقة بيننا، ... أعقبت منه حسرة وزفيرا
قال، فقلت: أخبرني عن حالك؟ قال: إن كنت تريد علم ذلك، فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه جهده:
ألا ما للمليحة لا تعود، ... أبخل ذاك منها أم صدود؟
فلو كنت المريضة جئت أسعى ... إليك، ولم ينهنهني الوعيد
فإذا جارية مثل القمر قد خرجت، فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك فسترتهما بثوبي خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة. فرقت بينهما، فإذا هما ميتان، فما برحت حتى صليت عليهما، ودفنا، فسألت عنهما فقيل لي: عامر بن غالب وجميلة بنت أميل المزنيان، فانصرفت.
عبد الله بن عجلان صاحب هند
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، أخبرنا محمد بن المرزبان، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني سليمان بن الربيع الكاذي، حدثني عبد العزيز بن الماجشون عن أيوب عن ابن سيرين قال: عبد الله بن عجلان هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرض مرضا شديدا، حتى ضني، فلم يدر أهله ما به، فدخلت عليه عجوز، فقالت: إن صاحبكم عاشق، فاذبحوا له شاة، وأتوه بكبدها، وغيبوا فؤادها.
قال: ففعلوا وأتوه بها، فجعل يرفع بضعة ويضع أخرى ثم قال: أما لشاتكم قلب؟ فقال أخوه: ألا أراك عاشقا ولم تخبرنا. فبلغني أنه قال لهم بعد ذلك: آه! ومات.
عاشق جارية أخته
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا أبو بكر بن المرزبان إجازة، حدثني محمد بن علي عن أبيه علي بن ابن دأب قال: عشق جارية لأخته، وكان سبب عشقه إياها أنه رآها في منامه فأصبح مستطارا عقله ساهيا قلبه، فلم يزل كذلك حينا لا يزداد إلا حبا ووجدا، حتى أنكر ذلك أهله وأعلموا عمه عما كان له، فسأله عن حاله، فلم يقر له بشيء، وقال: علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم له إلا شرا، وامتنع من الطعام والكلام، فلما رأوا ذلك منه اجتمعوا على أن يوكلوا به امرأة، فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والبوح بما في نفسه، فعزم رأيهم على ذلك وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة يقال لها حمامة، ووكل به حاضنة كانت له، فلما أن شرب الفتى غنت الجارية قدامه، فأنشأ يقول:
دعوني لما بي وانهضوا في كلاءة ... من الله، قد أيقنت أن لست باقيا
وأن قد دنا موتي وحانت منيتي، ... وقد جلبت عيني علي الدواهيا
أموت بشوق في فؤادي مبرح ... فيا ويح نفسي من به مثل ما بيا
قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته، فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرة فيما بينه وبين الجارية، وكثرت بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك فانتشر الخبر، فوهبتها له فبرأ من علته، وأقام على أحسن حال.
من غزل ابن السراج
قال ابن السراج: لي من جملة قصيدة كتبت بها إلى القاضي أبي مسلم ابن أخي أبي العلاء المعري أولها:
إن غرامي، يا أبا مسلم، ... إلى غريمي، في الهوى مسلمي
فلا تسل يوم النوى عن دم ... سال من الأجفان كالعندم
ومنها:
حتى بدت لي من منى ظبية ... ما بين شعب الخيف والمأزم
أعرتها طرف خلي من ال ... وجد، فغارت واستحلت دمي
فقلت، والأجفان منهلة، ... من سقم في جفنها مسقمي
ألله يا ظبية خيفي منى ... في محرم لولاك لم يحرم
وإنما حج ليلقاك في ... جملة من يلقاك في الموسم
أبحت ما حرمه الله من ... قتل حنيف ناسك محرم
ردي عليه قلبه تؤجري ... ولا تبيحي دمه تأثمي
لا تقتليه، فله معشر، ... ما الدهر من بأسهم محتمي
قال: ولي من أبيات كتبت بها إلى بعض أهل الأدب بديار مصر:
فلو كنت شاهدنا، والرقي ... ب ينظر شزرا إلينا قياما
نفض عن العتب خاتامه، ... وقد هتكت وهتكت اللثاما
وعفتنا حاجز بيننا ... ولو تلفت مهجتانا غراما
فإن لم أمت حسرة، يا سعا ... د، فقد ذقت قبل الحمام الحماما
بكاء الزنجي
حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الجبار بن خلف قال: قال المزني: بينا أنا بنواحي مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إذا أنا بزنجي يبكي على إلف كان له وهو يقول:
أيا دهر ما هذا لنا منك مرة، ... عثرت فأقصيت الحبيب المحببا
وأبدلتني من لا أحب دنوه، ... وأسقيتني صابا من العذب مشربا
سوداء تنتقد ذا الرمة
حدثنا محمد بن خلف، أخبرنا محمد بن الفضل، أخبرني أبي، أخبرنا القحذمي قال: دخل ذو الرمة الكوفة، فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له، إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب دار، فاستحسنها، ووقعت بقلبه، فدنا إليها، فقال: يا جارية! اسقيني ماء. فأخرجت إليه كوزا فيه ماء، فشرب فأراد أن يمازحها، ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية! ما أحر ماءك! فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حر مائي وبرده. فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى! قالت:
فأنت الذي شبهت عنزا بقفرة، ... لها ذنب فوق استها، أم سالم
جعلت لها قرنين فوق جبينها، ... وطبيين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك، يا غيلان، مثل المياسم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
فقال: نشدتك بالله ألا أخذت راحلتي هذه وما عليها، ولا تظهري هذا! ونزل عن راحلته، فدفعها إليها وذهب ليمضي، فدفعتها إليه وضمنت ألا تذكر لأحد ما جرى.
الأصمعي يصف العشق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، أخبرني علي بن أيوب القمي، حدثني محمد بن عمران، حدثني علي بن هارون، أخبرنا محمد بن العباس عن الرياشي قال: قال الرشيد: يا أصمعي! ما العشق الذي على حقيقته؟ قال: قلت أن يكون ريح البصل منها أطيب عنده من ريح المسك والعنبر.
العاشق على وجل
قال محمد بن عمران: وأنشدني بعض أصحابنا عن أبي العباس المبرد لأبي حفص الشطرنجي:
أتبعت لما ملكت الوعد بالعلل ... لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
قد كنت مما أراه خائفا وجلا، ... ولا ترى عاشقا إلا على وجل
الرضاب الشبم
ولي من أثناء قصيدة:
فتنتني أم خشف أودعت ... من هواها في فؤادي أسهما
وظباء بحطيم مكة، ... يستحلون به سفك الدما
يرجع الصائد عنهم مخفقا ... ويصيدون الحنيف المسلما
ليتهم إذ نصبوا أشراكهم ... لقلوب الوفد صانوا الحرما
ما عليهم لو أغاثوا صاديا ... فسقوه ريقة تشفي الظما
فله عن زمزم مندوحة، ... إن أباحوه الرضاب الشبما
ولي أيضا من أثناء قصيدة:
يا راحلين عن الغضا، ولجمره ... بين الضلوع لهيبه وضرامه
إنسان عيني منذ حم فراقكم، ... ما إن يزال بمائها استحمامه
هل عودة ترجى، وجيش نواكم، ... قد نشرت لفراقكم أعلامه؟
مجنون ليلى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثني عبد الله بن المعدل قال: سمعت الأصمعي يقول: وذكر مجنون بني عامر قيس بن معاذ، ثم قال: لم يكن مجنونا إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
ولم أر ليلى بعد موقف ساعة، ... بخيف منى ترمي جمار المحصب
وتبدي الحصى منها، إذا قذفت به، ... من البرد، أطراف البنان المخضب
وبه قال القحذمي لما قال المجنون، وهو قيس بن الملوح:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها، ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
نظرة شافية
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وزعم ابن دأب أن معاذ بن كليب أحد بني نمير بن عوف بن عامر بن عقيل، وكان يعشق ليلى الأعلمية، من بني عقيل، وكان قد أقعده حبها من رجليه، فأتاه أخو ليلى بها، فلما نظر إليها وكلمته تحلل ما كان به وانصرف وقد عوفي.
ذكر ليلى يعيد عقله
قال أبو عبيدة: وكان المجنون يجلس في نادي قومه، وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم، فيحدثه وهو باهت ينظر إليه ولا يفهم ما يحدثه، ثم يثوب عقله، فيسأل عن الحديث، فلا يعرفه، فحدثه مرة بعض أهله بحديث، ثم سأله عنه في غد، فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون! فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم، ... فأستفيق، وقد غالتني الغول
يهوي بقلبي حديث النفس نحوكم ... حتى يقول جليسي: أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، وكان لا يقر في موضع ولا يأنس برجل، ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئا مما يكلم به إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبدائه ورجع عقله.
بيت ربي
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد القطيعي، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن محمد بن يزيد عن خنيس عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج، ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه، فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت وهي تقول: بيت ربي بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت، فوالله ما رفعت إلا ميتة.
ما أحلاك مولاي
أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، حدثني محمد بن مسعر عن رياح القيسي قال: بينا أنا أطوف بالبيت، إذ سمعت امرأة تقول: خداه خداه شيرين خداه، قال: فاصطكت، والله، ركبتاي حتى سقطت، قالت: مولاي مولاي ما أحلاك مولاي.
تموت متضرعة
وبإسناده: حدثنا محمد بن الحسين وغير واحد قالوا: حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال: ما رأيت أحدا أرعى لحرمة هذا البيت ولا أحرص عليه منكم يا أهل البصرة، لقد رأيت جارية منهم، ذات ليلة، تعلقت بأستار الكعبة، وجعلت تدعو وتتضرع وتبكي حتى ماتت.
هجره تنزيها لله ولنفسه
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدثنا علي بن أيوب القمي، حدثنا المرزباني، حدثني عمر بن يوسف الباقلاني قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم: قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي، وكان سيد الصوفية، وقد رأيته يماشي غلاما وضيئا مدة، ثم فارقه: لم هجرت ذلك الفتى الذي كنت أراه معك، بعد أن كنت له مواصلا، وإليه مائلا؟ قال: والله لقد فارقته عن غير قلى ولا ملل. قلت: ولم فعلت ذاك؟ قال: رأيت قلبي يدعوني إلى أمر إذا خلوت به وقرب مني. لو أتيته لسقطت من عين الله تعالى. فهجرته لذلك تنزيها لله تعالى، ولنفسي عن مصارع الفتن، وإني لأرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته ما أعقب الصابرين عن محارمه عند صدق الوفاء بأحسن الجزاء، ثم بكى حتى رحمته.
ألا أيها الواشي
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال، رحمه الله تعالى، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى، أنبأنا أبو بكر محمد بن القاسم أنشدني أبي لقيس بن الملوح:
ألا أيها الواشي بليلى ألا ترى ... إلى من تشي أو من به جئت واشيا
لعمر الذي لم يرض حتى أطيعه ... بهجرانها لا يصبح، الدهر، راضيا
دعاني أمت، يا عاذلي، بدائيا، ... ولا تلحياني لا أحب اللواحيا
إذا نحن رمنا هجرها ضم حبها ... صميم الحشا ضم الجناح الخوافيا
دم العشاق غير حرام
ولي من أبيات:
يا ساكني البلد الحرام! أعندكم ... حل دم العشاق غير حرام
قالوا: أما لك في جميل أسوة ... والعامري وعروة بن حزام
لما شكوت صدى إلى برد اللمى ... وتيقنوا أني إليه ظامي
قالوا: عليك بماء زمزم! قلت، ما ... في ماء زمزم ما يبل أوامي
قالوا: فقد حظر العفاف وروده، ... والصون، بعد، وملة الإسلام
حب السودان
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، حدثني القحطبي، أخبرني بعض الرواة قال: بينا أنا يوما على ركي قاعد، وذلك في أشد ما يكون من الحر، إذا أنا بجارية سوداء تحمل جرة لها، فلما وصلت إلى الركي وضعت جرتها، ثم تنفست الصعداء وقالت:
حر هجر وحر حب وحر، ... أين من ذا وذا يكون المفر؟
وفي رواية أخرى: أي حر من بعد هذا أضر؟ وملأت الجرة، وانصرفت، فلم ألبث إلا يسيرا، حتى جاء أسود، ومعه جرة، فوضعها بحيث وضعت السوداء جرتها، فمر به كلب أسود فرمى إليه رغيفا كان معه، وقال:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
ابن المهدي والسوداء
وبإسناده: حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الرحمن بن سليمان، حدثني محمد بن جعفر، حدثني أحمد بن موسى قال: دخلت على محمد بن عبيد الله بن المهدي، وقد قعد للشرب مع جواريه، فاحتشمت، فقال لي: لا تحتشم، ثم قال لي: بالله! من ترى لي أعشق من هؤلاء؟ فنظرت إلى سوداء كانت فيهن، فقلت: هذه، فقام، فقعد إلى جنبها، فوالله ما برحت حتى بكى من عشقها.
كاد يخلع العذار
ولي من أثناء قصيدة مدحت بها أحد بني منقذ:
عرضت لي لمياء بالخيف تحكي ... غصن البان نعمة وقواما
تتمشى في نسوة كظباء الر ... مل يخفين بينهن الكلاما
كدت أن أخلع العذار، ولكن ... ني تحرجت حيث كنت حراما
ثم إني ناديت، والقلب فيه، ... شعل للهوى تزيد اضطراما
يا ابنة القوم هل لديك لصاد ... شربة من لماك تشفي الأواما؟
فأجابت: إن العفاف وإن الص ... صون ينهى عن ذاك والإسلاما
صوت بأربعة آلاف دينار
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو الفضل الكاتب عن أبي محمد العامري قال: قال إسماعيل بن جامع: كان أبي يعظني في الغناء، ويضيق، فهربت منه إلى أخوالي باليمن، فأنزلني خالي غرفة له مشرفة على نهر في بستان، فإني لمشرف منها، إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست فوضعت قربتها وغنت:
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي، ... لها عسل مني، وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته، ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما
وذرفت عيناها، فاستفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده، فلم تفعل، وملأت القربة، ونهضت، فنزلت أعدو وراءها، وقلت: يا جارية! بأبي أنت وأمي ردي الصوت! قالت: ما اشغلني عنك! قلت: بماذا؟ قالت: علي خراج كل يوم درهمان. فأعطيتها درهمين، فتغنت وجلست حتى أخذته، وانصرفت، ولهوت يومي ذلك وكرهت أن أتغنى الصوت، فأصبحت وما أذكر منه حرفا واحدا، وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها غنت غير ذلك الصوت، فنهضت وعدوت في إثرها. فقلت: الصوت قد ذهب علي منه نغمة، قالت: مثلك لا يذهب عليه نغمة، فتبين بعضه ببعض، وأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها ذلك، فأعادته فتذكرته، فقلت: حسبك! قالت: كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم، كأني والله بك، وقد أصبت به أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد يوما، وبين يديه أكياس في كل كيس ألف دينار، إذ قال: من أطربني، فله كيس، فغن لي الصوت، فغنيته، فرمى لي بكيس، ثم قال: أعد! فأعدت، فرمى لي بكيس، وقال: أعد، فأعدت، فرمى لي بكيس، فتبسمت، فقال: ما يضحكك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت حديث أعجب منه، فحدثته الحديث فضحك، ورمى إلي الكيس الرابع، وقال: لا تكذب قول السوداء، فرجعت بأربعة آلاف دينار.
يعتل لرؤيتها
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ بالشام، حدثنا علي بن أيوب القمي، حدثنا محمد بن عمران، حدثنا عمر بن داود العماني، حدثني محمد بن علي بن الفضل بن المديني، حدثني الحسين بن علي المهلبي مولى لهم يعني الكرابيسي، أخبرني مسدد، حدثني عبد الوهاب في ما أحفظ أو غيره قال: كان زياد بن مخراق يجلس إلى إياس بن معاوية. قال: ففقده يومين أو ثلاثة، فأرسل إليه، فوجده عليلا. قال: فأتاه، فقال: ما بك؟ فقال له زياد: علة أجدها. قال له إياس: والله ما بك حمى، وما بك علة أعرفها، فأخبرني ما الذي تجد؟ فقال: يا أبا وائلة تقدمت إليك امرأة، فنظرت إليها في نقابها حين قامت من عندك، فوقعت في قلبي فهذه العلة منها.
جرح تعز مراهمه
ولي من أثناء قصيدة:
وشرب هوى دارت عليهم كؤوسه ... حثاثا، فكل طائر القلب هائمه
فلما انتشوا علوا بكأس تفرق، ... فنغص حلو الشهد منه علاقمه
رمى رشأ من وحش وجرة مقتلي، ... وكنت على مر الليالي أسالمه
فلم يخط سوداء الفؤاد بسهمه، ... فيا لك من جرح تعز مراهمه
قتيل الهوى
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، حدثنا علي بن أيوب، حدثنا محمد بن عمران، أخبرني يوسف بن يحيى بن علي المنجم عن أبيه، حدثني محمد إدريس بن سليمان بن يحيى عن أبيه قال: كان المؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة شاعرا غزلا ظريفا، وكان منقطعا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة ثم قدم العراق، فكان مع عبد الله بن مالك الخزاعي، فذكره للمهدي، فحظي عنده، وهو القائل:
قلن: من ذا؟ فقلت: هذا اليما ... مي قتيل الهوى أبو الخطاب
قلن: بالله أنت ذاك يقينا، ... لا تقل قول مازح لعاب
إن تكنه حقا، فأنت منانا ... خاليا كنت أو مع الأصحاب
قال فسمي قتيل الهوى، وهو القائل:
أنا ميت من جوى الح ... ب، فيا طيب مماتي
أندبوني، يا ثقاتي، ... واحضروا اليوم وفاتي
ثم قولوا عند قبري: ... يا قتيل الغانيات
قال وله أيضا:
إنا إلى الله راجعون، أما ... يرهب من رام قتلي القودا
أصبحت لا أرتجي السلو، ولا ... أرجو من الحب راحة أبدا
إني إذا لم أطق زيارتكم، ... وخفت موتا لفقدكم كمدا
أخلو بذكراكم فتؤنسني ... فلا أبالي أن لا أرى أحدا
ميت يتكلم
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق بقراءتي عليه، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان البزاز الزبيبي، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني يحيى بن أيوب أن فتى كان يعجب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: إن هذا الفتى ليعجبني، وإنه انصرف ليلة من صلاة العشاء، فمثلت له امرأة بين يديه، فعرضت له بنفسها، ففتن بها، ومضت فاتبعها حتى وقف على بابها، فلما وقف بالباب أبصر وجلي عنه، ومثلت له هذه الآية: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " ، فخر مغشيا عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت، فلم تزل هي وجارية لها تتعاونان عليه حتى ألقتاه على باب داره.
وكان له أب شيخ كبير يقعد لانصرافه، كل ليلة، فخرج، فإذا مر به ملقى على باب الدار لما به، فاحتمله فأدخله، فأفاق بعد ذلك، فسأله أبوه: ما الذي أصابك يا بني؟ قال: يا أبت لا تسألني، فلم يزل به حتى أخبره، وتلا الآية. وشهق شهقة خرجت معها نفسه؛ فدفن فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال ألا آذ نتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره، فنادى: يا فلان، ولمن خاف مقام ربه جنتان، فأجابه الفتى من داخل القبر: قد أعطانيهما ربي يا عمر.
وسواس خالد الكاتب
أخبرنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران النحوي مكاتبة، حدثنا ابن دينار، أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني قال: كان خالد الكاتب، وهو خالد بن يزيد، ويكنى أبا القاسم، من أهل بغداد، وأصله من خراسان، وكان أحد كتاب الجيش، فوسوس في آخر عمره، وقيل: إن السوداء غلبت عليه، وقال قوم: بل كان يهوى جارية لبعض الملوك ببغداد، فلم يقدر عليها، وولاه محمد بن عبد الملك العطاء بالثغور، فخرج، فسمع في طريقه منشدا ينشد، ومغنية تغني:
من كان ذا شجن بالشام يطلبه، ... ففي حمى الشام لي أهل ولي شجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، ثم أفاق مختلطا، واتصل ذلك حتى وسوس وبطل.
قال ولخالد مما غني به:
يا تارك الجسم بلا قلب؛ ... إن كنت أهواك فما ذنبي؟
يا مفردا بالحسن أفردتني ... منك بطول الهجر والحب
إن تك عيني أبصرت فتنة، ... فهل على قلبي من عتب
حسيبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
في تيه الحب
ولي من أثناء قصيدة:
عجبت أم خالد إذ رأت سح ... ب جفوني، في فيضهن، ركاما
ثم نادت أترابها، إذ رأت إن ... سان عيني، في مائها، قد عاما
يا سليمى، يا هند، يا فا ... طم، يا أم مالك يا أماما
ما لإنسان عينه يكثر الغس ... ل بفياض مائها استحماما؟
قلن: لا علم عندنا غير أن المر ... ء في تيه حبكم قد هاما
أبو ريحانة والجارية السوداء
أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الشروطي بالشام، أخبرنا رضوان بن عمرو الدينوري قال: حدثنا الحسين بن جعفر العبدي قال: حدثنا أبو قتيبة سالم بن الفضل الأدمي، حدثني محمد بن موسى الشامي، سمعت الأصمعي يقول: مررت بالبصرة بدار الزبير بن العوام، فإذا أنا بشيخ أبو ولد الزبير، يكنى أبا ريحانة، على باب الزبير، ما عليه إلا شملة تستره، فسلمت عليه، وجلست إليه أحدثه، فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا جارية سوداء تحمل قربة، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها ثم قال: يا ستي جمعة، غني لي صوتا! فقالت: إن موالي أعجلوني. قال: لا بد من ذلك. قالت: أما والقربة على كتفي فلا. قال: فأنا أحملها. فأخذ القربة فحملها على عنقه واندفعت، فغنت:
فؤادي أسير لا يفك، ومهجتي ... تقضى، وأحزاني عليك تطول
ولي مهجة قرحى لطول اشتياقها ... إليك، وأجفاني عليك همول
كفى حزنا أني أموت صبابة، ... بدائي، وانصاري عليك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة، ... فأفنيت علاتي، فكيف أقول؟
قال: فطرب الشيخ، وصرخ صرخة، وضرب بالقربة الأرض فشقها، فقامت الجارية تبكي وقالت: ما هذا جزائي منك يا أبا ريحانة، أسعفتك بحاجتك وعرضتني لما أكره من موالي؟ قال: لا تغتمي، فإن المصيبة علي دخلت دونك.
وأخذ بيدها واتبعته إلى السوق، فنزع الشملة، ووضع يدا من قدام ويدا من خلف، وباع الشملة، وابتاع بثمنها قربة، وقعد على تلك الحال. ورجعت، فجلست عنده، فاجتاز به رجل من الطالبية، فلما نظر إليه وإلى حالته عرف قصته، فقال: يا أبا ريحانة! أحسبك من الذين قال الله عز وجل: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " . فقال: لا يا ابن رسول الله، ولكني من الذين قال الله تعالى فيهم: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " فضحك منه العلوي، وأمر له بألف درهم وخلعة.
أتراك تعذب عبدك
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، إن لم يكن سماعا فإجازة، أخبرني سلامة بن عمر النصيبي، حدثنا أحمد بن جعفر أبو بكر، حدثنا العباس بن يوسف الشكلي قال: قال سعيد بن جعفر الوراق، قال عنبسة الخواص: كان عتبة الغلام يزورني، فبات عندي ليلة، فقدمت له عشاء، فلم يأكله، فسمعته يقول: يا سيدي إن تعذبني، فإن لك محب؛ وإن ترحمني، فإني لك محب. فلما كان في آخر الليل شهق شهقة، وجعل يحشرج كحشرجة الموت، فلما أفاق قلت له: يا أبا عبد الله!؟ ما كان حالك منذ الليلة؟ قال: فصرخ، ثم قال: يا عنبسة، ذكر العرض على الله، عز وجل، قطع أوصال المحبين، ثم غشي عليه، ثم أفاق، فسمعته يقول: سيدي أتراك تعذب عبدك؟
لا محبوب إلا الله
وأخبرنا أبو بكر أيضا، حدثني يحيى بن علي الطيب العجلي، سمعت عبد الله بن محمد الدامغاني يقول: سمعت الحسن بن علي بن يحيى بن سلام يقول: قيل ليحيى بن معاذ: يروى عن رجل من أهل الخير قد كان أدرك الأوزاعي وسفيان، أنه سئل: متى تقع الفراسة على الغائب؟ قال: إذا كان محبا لما أحب الله مبغضا لما أبغض الله، وقعت فراسته على الغائب. فقال يحيى:
كل محبوب، سوى الله، سرف ... وهموم وغموم وأسف
كل محبوب، فمنه خلف، ... ما خلا الرحمن ما منه خلف
إن للحب دلالات، إذا ... ظهرت من صاحب الحب عرف
صاحب الحب حزين قلبه، ... دائم الغصة محزون دنف
همه في الله لا في غيره، ... ذاهب العقل وبالله كلف
أشعث الرأس خميص بطنه، ... أصفر الوجنة والطرف ذرف
دائم التذكار من حب الذي ... حبه غاية غايات الشرف
فإذا أمعن في الحب له، ... وعلاه الشوق من داء كثف
باشر المحراب يشكو بثه، ... وأمام الله مولاه وقف
قائما قدامه منتصبا، ... لهجا يتلو بآيات الصحف
راكعا طورا وطورا ساجدا ... باكيا والدمع في الأرض يكف
أورد القلب على الحب الذي ... فيه حب الله حقا، فعرف
ثم جالت كفه في شجر ... أنبت الحب، فسمى واقتطف
إن ذا الحب لمن يعى له، ... لا لدار ذات لهو وطرف
لا ولا الفردوس لا يألفها، ... لا ولا الحوراء من فوق غرف
دمع وتسهاد
ولي من أبيات:
ومنكرة ما بي من الوجد والأسى، ... ولي شاهدان: فيض دمعي وتسهادي
فقلت: إذا أنكرت ما بي، فسائلي، ... إذا راح عني، يا ابنة القوم، عوادي
ليلى ومجنونها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا ابن المرزبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه عن ابن دأب، حدثني رجل من بني عامر يقال له رياح بن حبيب قال:
كان في بني عامر من بني الحريش جارية من أجمل النساء، وأحسنهن، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى ابنة مهدي بن ربيعة بن الحريش، فبلغ المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبا بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيأ بأحسن هيئة، وركب ناقة له كريمة، وأتاها، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها، أعجبته، ووقعت بقلبه. فظل يومه يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف، فبات بأطول ليلة من الليلة الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس، حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث، وبالمنى ... ويجمعني والهم، بالليل، جامع
وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه، فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع، حتى إذا أمسى انصرف.
وإنه خرج ذات يوم يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء، فتطير من لقائها فأنشأ يقول:
وكيف ترجي وصل ليلى، وقد جرى ... يجد القوى من ليل أعسر حاسر
صديع العصا جدب الزمان إذا انتحى ... لوصل امرئ لم يقض منه الأواطر
ثم صار إليها من غد، فلم يزل عندها. فلما رأت ليلى ذلك منه وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاء يوما كما كان يجيء، فأقبل يحدثها، وجعلت هي تعرض عنه بوجهها وتقبل على غيره، كل ذلك تريد أن تمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه، وجزع حتى عرف ذلك فيه، فلما خافت عليه، أقبلت كالمشيرة إليه، فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا، ... وكل عند صاحبه مكين
فسري عنه، وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهدا إن أنا جالست بعد هذا يومي رجلا سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذاك. قال: فانصرف في عشيته، وهو أسر الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض، لا مال لدي، ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي، ... ولا وارث إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
زيارة الطيف
ولي من قصيدة:
بعثت خادمها نحوي، وقد ... أبصرت حبل الهوى منصرما
تترثى لي من وشك نوى، ... فتكت فينا، وبين ظلما
وتقول: الصبر أوقى جنة، ... فادرع صبرك، أو مت كرما
وتزود نظرا تحي به، ... لست في أهل الهوى متهما
قلت: زادي شربة مثلوجة ... من ثناياك، فقد مس الظما
فاسمحي لي، يا ابنة العم، بها، ... واجعلي إبريقها منك الفما
فتملت غضبا، واختمرت ... بحياء، زاد جسمي سقما
ثم قالت: كنت يا صاحبنا ... قبل هذا عندنا محتشما
إن ثوب الصون والعفة من ... دون ما تطلبه منا حمى
ليس بعد اليوم إلا طيفنا، ... يمتطي الليل، إذا ما أظلما
قلت: يا هذي هبي الطيف سرى، ... أيزور الطيف إلا النوما؟
جارية حاضرة الذهن
أخبرنا القاضيان أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسين التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو عبد الله التميمي، حدثني أبو الوضاح الباهلي عن أبي محمد اليزيدي قال: قال عبد الله بن عمر بن عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير:
خرجت أنا ويعقوب بن حميد بن كاسب قافلين من مكة، فلما كنا بودان لقيتنا جارية من أهل ودان، فقال لها يعقوب: يا جارية! ما فعلت نعم. فقالت: سل نصيبا. فقال: قاتلك الله، ما رأيت كاليوم قط أحد ذهنا، ولا أحضر جوابا منك. وإنما أراد يعقوب قول نصيب في نعم، وكانت تنزل ودان:
أيا صاحب الخيمات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودان! ما فعلت نعم
أسائل عنها كل ركب لقيتهم، ... وما لي بها من بعد مكتنا علم
صفراء السوداء
أخبرنا ابن التوزي والتنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وذكر بعض الرواة عن العمري: كان أبو عبد الله الحبشاني يعشق صفراء العلاقمية، وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضني حتى صار إلى حد الموت، فقال بعض أهله لمولاها: لو وجهت صفراء إلى أبي عبد الله الحبشاني، فلعله يعقل إذا رآها؟ ففعل، فلما دخلت عليه صفراء قالت: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحي. قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك. قالت: فما تشتكي؟ قال: حبك. قالت: أفتوصي بشيء؟ قال: نعم! أوصي بك إن قبلوا مني. فقالت: إني أريد الانصراف. قال: فتعجلي ثواب الصلاة علي. فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء ومات من ساعته.
سمنون الكذاب
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بقراءتي عليه بالشام، سمعت أبا نعيم الحافظ يقول: سمنون هو ابن حمزة الخواص، أبو الحسين، وقيل أبو بكر، بصري سكن بغداد، ومات قبل الجنيد، وسمى نفسه سمنون الكذاب، بسبب أبياته التي قال فيها:
فليس لي في سواك حظ، ... فكيف ما شئت فامتحني
فحصر بوله من ساعته فسمى نفسه سمنون الكذاب.
من شعر سمنون
أنبأنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، وحدثنا الخطيب عنه، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، أنشدني علي بن أحمد بن جعفر أنشدني ابن فراس لسمنون:
وكان فؤادي خاليا قبل حبكم، ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمزح
فلما دعا قلبي هواك أجابه، ... فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت ببين منك إن كنت كاذبا، ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيء في البلاد بأسرها، ... إذا غبت عن عيني، بعيني يملح
فإن شئت واصلني، وإن شئت لا تصل، ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
وأخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدثنا الحسن بن أبي بكر قال: ذكر أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد أن سمنون المجنون أنشده:
يا من فؤادي عليه موقوف، ... وكل همي إليه مصروف
يا حسرتي حسرة أموت بها، ... إن لم يكن لي إليك معروف
مساكين أهل العشق
أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الحسين وأبو القاسم علي بن المحسن بن علي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني جعفر بن علي اليشكري، أخبرني الرياشي، أخبرني العتبي قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم! جعلني الله فداءك، ومن العشق أفلتتني إليك البادية. قال: ومن عشقت؟ قال: جارية لبني مدلج، فأحدق بها الواشون، فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، فأجلس على الطريق حتى تمر بي فأراها، ففي ذلك أقول:
جلست لها كيما تمر لعلي ... أخالسها التسليم، إن لم تسلم
فلما رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها خوفا ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري ... حياة جميع العاشقين بدرهم
دعا باسم ليلى
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، رحمه الله تعالى، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا جعفر بن هارون بن زياد قال: وحدثني هلال بن العلاء، حدثني عياض بن أحمد السلمي قال:
كنت أجلس إلى الأصمعي فما سمعته سئل فقال حتى أنظر، أو ما أعرفه. قال: وسمعته يقول: كنت مع جعفر بن يحيى في زورق فسمع هاتفا يهتف باسم جارية، فقال: إن هذا الهاتف يهتف باسم جارية قلبي، فأنشدني في ذا شيئا، فأنشدته:
وداعدعا إذ نحن بالخيف من منى، ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها، فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
فأعطاني عشرة آلاف درهم.
المجنون في مكة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: قال أبو عمرو الشيباني: لما ظهر من المجنون ما ظهر ورأى قومه ما ابتلي به، اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا! قد ترى ما ابتلي به ابنك، فلو خرجت به إلى مكة فعاذ ببيت الله الحرام، وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا الله تعالى، رجونا أن يرجع عقله، ويعافيه الله، فخرج أبوه حتى أتى به مكة، فجعل يطوف به ويدعو الله، عز وجل، له بالعافية. وهو يقول:
دعا المحرمون الله يستغفرونه، ... بمكة، وهنا، أن تمحى ذنوبها
وناديت أن يا رب أول سؤلتي ... لنفسي ليلى ثم أنت حسيبها
فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله خلق توبة لا أتوبها
حتى إذا كان بمنى نادى مناد من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخر قيس مغشيا عليه، واجتمع الناس حوله، ونضحوا على وجهه الماء، وأبوه يبكي عند رأسه، ثم أفاق وهو يقول:
وداع دعا، إذ نحن بالخيف من منى، ... فهيج أشواق الفؤاد ولم يدر
دعا باسم ليلى غيرها، فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
الله يا سلام
ولي من غزل قصيدة أولها:
بين الأراك وبين ذي سلم ... ألقيت خوف نواك بالسلم
ومنها:
الله يا سلام في رجل ... أبقيته لحما على وضم
أعدت جفونك جسمه فرمت ... بفتورها فيه وبالسقم
ورميته بسهام بينك إذ ... عيرته بالشيب والعدم
فحدا ركاب مناه نحو فتى ... ذي همة تعلو على الهمم
نأت دار من تهوى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن أحمد الفقيه، حدثنا محمد بن يحيى الصولي أبو بكر، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: هجر محمد بن إسحق بن إبراهيم جارية له كان يخرجها معه إلى أسفاره، وحدث له خروج، فجعلت تغني وتبكي، وهو مستمع:
نأت دار من تهوى، فما أنت صانع؛ ... أمصطبر للبين أم أنت جازع؟
فإن تمنعوني أن أبوح بحبها، ... فليس لقلبي من جوى الحب مانع
قال: فدخل فترضاها وأخرجها معه.
قتلته بالسحر
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: قال إسحق بن منصور: حدثني جابر بن نوح قال: كنت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، جالسا عند بعض أهل السوق، فمر بي شيخ حسن الوجه حسن الثياب، فقام إليه البائع فسلم عليه، وقال له: يا محمد! أسأل الله أن يعظم أجرك وأن يربط على قلبك بالصبر. فقال الشيخ مجيبا له:
وكان يميني في الوغى ومساعدي، ... فأصبحت قد خانت يميني ذراعها
وأصبحت حرانا من الثكل حائرا، ... أخا كلف ضاقت علي رباعها
فقال البائع: أبشر يا أبا محمد، فإن الصبر معول المؤمن، وإني لأرجو أن لا يحرمك الله الأجر على مصيبتك. فقلت له: من هذا الشيخ؟ فقال: رجل منا من الأنصار من الخزرج، فقلت: وما قصته؟ قال: أصيب بابنه، وكان به بارا قد كفاه جميع ما يعنيه، وقام به، وميتته أعجب ميتة. قلت: وما كان سبب ميتته، وما كان خبره؟ قال: أحبته امرأة من الأنصار، فأرسلت إليه تشكو حبها وتسأله الزيارة، وتدعوه إلى الفاحشة. قال: وكانت ذات بعل، فأرسل إليها:
إن الحرام سبيل لست أسلكه، ... ولا أمر به ما عشت في الناس
ألغي العتاب، فإني غير متبع ... ما تشتهين، فكوني منه في ياس
فلما قرأت الأبيات كتبت إليه:
دع عنك هذا الذي أصبحت تذكره، ... وصر إلى حاجتي يا أيها القاسي
دع التنسك إني غير ناسكة، ... وليس يدخل ما أبديت في راسي
قال: فأفشى ذلك إلى صديق له، فقال له: لو بعثت إليها بعض أهلك فوعظتها وزجرتها رجوت أن تكف عنك. فقال: والله لا فعلت ولا صرت في الدنيا حديثا، وللعار في الدنيا خير من النار في الآخرة، وقال:
العار في مدة الدنيا وقلتها، ... يفنى ويبقى الذي بالنار يؤذيني
والنار لا تنقضي ما دام بي رمق، ... ولست ذا ميتة فيها، فتفنيني
لكن سأصبر صبر الحر محتسبا، ... لعل ربي من الفردوس يدنيني
قال: وأمسك عنها، فأرسلت إليه: إما أن تزورني، وإما أن أزورك، فأرسل إليها: اربعي أيتها المرأة على نفسك، ودعي عنك التسرع إلى هذا الأمر. قال: فلما أيست منه ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر، فجعلت لها الرغائب لتهيجه. قال: فعملت لها فيه.
قال: فبينا هو ذات ليلة جالس مع أبيه، إذ خطر ذكرها بقلبه وهاج به أمر لم يكن يعرفه، واختلط، فقام من بين يدي أبيه مسرعا فصلى واستعاذ وجعل يبكي والأمر يتزايد، فقال له أبوه: يا بني ما قصتك؟ فقال: يا أبت! أدركني بقيد فما أرى إلا وقد غلب علي. قال: فجعل أبوه يبكي ويقول: يا بني حدثني بالقصة، فحدثه بقصته، فقام إليه فقيده وأدخله بيتا، فجعل يضطرب ويخور كما يخور الثور، ثم هدأ ساعة عند الباب، فإذا هو ميت، وإذا الدم يسيل من منخره.
ميتان وامرأة حرى
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام بقراءتي عليه، أخبرنا علي بن أبي علي البصري، حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، حدثنا جحظة قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، فاستؤذن عليه للزبير بن بكار حين قدم من الحجاز، فلما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له: لئن باعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين ذكرك، فاختارك لتأديب ولده، وأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت من الثياب وعشرة بغال تحمل عليها رحلك إلى حضرته بسر من رأى. فشكره على ذلك، وقبله، فلما أراد توديعه قال له: أيها الشيخ! أما تزودنا حديثا نذكرك به؟ قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟ قال: بل بما شاهدت؟ فقال: بينا أنا في مسيري هذا بين المسجدين، إذ بصرت بحبالة منصوبة فيها ظبي ميت، وبإزائها رجل على نعشه ميت، ورأيت امرأة حرى تسعى، وهي تقول:
يا خشن، لو بطل، لكنه أجل، ... على الإثاية، ما أودى بك البطل
يا خشن قلقل أحشائي وأزعجها، ... وذاك يا خشن عندي كله جلل
أمست فتاة بني نهد علانية، ... وبعلها في أكف القوم يبتذل
قد كنت راغبة فيه أضن به، ... فحان من دون ضن الرغبة الأجل
قال: فلما خرج من حضرته قال لنا محمد بن عبد الله بن طاهر: أي شيء أفدنا من الشيخ؟ قلنا له: الأمير أعلم. فقال: قوله: أمست فتاة بني نهد علانية أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا.
أسود وسوداء
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو الفضل قاسم بن سليمان الإيادي عن عبد الرحمن بن عبد الله قال: أخبرني مخبر أنه رأى أسود ببئر ميمون وهو يمتح من بئر، ويهمس بشيء لم أدر ما هو، فدنوت منه، فإذا بعضه بالعربية وبعضه بالزنجية، ثم تبينت ما قال، فإذا هو:
ألا يا لا ئمي في خب رئم، ... أفق عن بعض لومك لا اهتديتا
أتأمرني بهجرة بعض نفسي؟ ... معاذ الله أفعل ما اشتهيتا
أحب لحبها تثليم طرا، ... وتكعة والمشك وعين زيتا
فقلت: ما هذه؟ قال: رباع كانت لنا بالحبشة كنا نألفها. قال قلت: أحسبك عاشقا. قال: نعم! قلت: لمن؟ قال: لمن إن وقفت رأيته. فما لبثنا ساعة أن جاءت سوداء على كتفها جرة، فضرب بيده عليها، وقال: ها هي هذه. قال: قلت له: ما مقامك ههنا؟ قال: اشتريت، فأوقفت على هذا القبر أرشه، فأنا أبرد من فوق، وربك يسخن من أسفل.
جبال الحب
أنبأنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله تعالى، في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المعمري، أنشدنا أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي أنشدني بعض إخواننا لأبي بكر محمد بن داود الفقيه:
حملت جبال الحب فيك، وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
وما الحب من حسن ولا من سماحة، ... ولكنه شيء به الروح تكلف
نياق القرشي
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بالتاريخ، حدثنا عبد الواحد بن علي بن الحسين، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى حدثنا المساحقي عن أبيه أنه خرج ساعيا في بني عامر، فأتاه مجنون بني عامر، فساله أن يكلم له عمه، فأبى أن يزوجه، فأمر المساحقي للمجنون بقلائص، فوهبها له وأبى أن يقبلها، ثم أنشأ يقول:
تركت قلائص القرشي لما ... رأيت النقض منه للعهود
بقاء العاشقين عجيب
أنبأنا الجوهري، أنشدنا أبو عمر بن حيويه، أنشدنا محمد بن عبد الله الكاتب، أنشدني محمد بن المرزبان:
لئن كنت لا أشكو هواك فإنني ... أخو زفرات، والفؤاد كئيب
وإن كان قلبا فيك يضنى صبابة، ... وقد مرضت من مقلتيك قلوب
فما عجب موت المحبين في الهوى، ... ولكن بقاء العاشقين عجيب