وفاة جميل

أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، أخبرنا الصولي، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما حضرت الوفاة جميلا بمصر قال: من يعلم بثينة؟ فقال رجل: أنا، فلما مات صار إلى حي بثينة فقال:

بكر النعي وما كنى بجميل، ... وثوى بمصر ثواء غير قفول

بكر النعي بفارس ذي نهمة، ... بطل، إذا حمل اللواء مديل

فسمعته بثينة، فخرجت مكشوفة تقول:

وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها

سواء علينا يا جميل بن معمر، ... إذا مت، بأساء الحياة ولينها

الهوى ينسي الأكل

أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر، حدثنا أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا ابن الأنباري، أخبرنا أبو العباس قال: مر رجل بجميل، فأضافه، وخبز خبزة من مكوك، وثردها في لين وسمن، قال: ثم أتاه بها، فجعل الرجل يحدث جميلا عن بنت عم له بحبها، ويأكل حتى أتى على الخبزة، فقال جميل:

وقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يلح على قرصي، ويبكي على جمل

فلو كنت عذري العلاقة لم تكن ... بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل

لا تقتليه

ولي من أثناء قصيدة أولها:

أدر المخدرة العقارا، ... فالليل قد أرخى الإزارا

يا جارتي برصافة ال ... مهدي لم ترعي جوارا

ردي على المشتاق قل ... با هائما بك مستطارا

لا تقتليه، فقومه ... لا يتركون، الدهر، ثارا

شعر على تكة

أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحربي المعروف بابن القزويني الزاهد، رحمه الله تعالى، فيما أذن لنا في روايته، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: كتبت عازم على تكة حرير كانت تتعصب بها:

إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا، ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به، ... وهن أضعف خلق الله أركانا

شعر على عصابة

وأخبرنا علي بن عمر أيضا، أخبرنا عمر بن حيويه، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت غليل على عصابتها:

ما ضر من صيرني حبه ... قرين أحزان ووسواس

لو أنه فرج عن كربتي ... بأسطر في شر قرطاس

تضن بتسليمة

ولي من قصيدة رجز أولها:

لا تحسبوا أني ملول سالي، ... لا أعرف الهجر من الوصال

حتى علقت من بني هلال ... جارية حسناء كالتمثال

صامتة السوار والخلخال، ... جامعة للصون والجمال

ترنو بعين رشإ غزال، ... ريقتها أشهى من الجريال

قد زاد في حبي لها بلبالي، ... لحاظها أمضى من النصال

ترمي القلوب ثم لا تبالي، ... من قتلت هوى من الرجال

وما دم العشاق بالحلال، ... سألتها عشية الترحال

تسليمة، فلم تجب سؤالي، ... وأعرضت إعراض ذي ملال

أعشق من كثير عزة

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الله بن محمد الطالقاني، أخبرني السري بن يحيى الأزدي عن أبيه عن المفضل بن الحسن المخزومي قال: دخل كثير عزة على عبد الملك بن مروان، فجعل ينشده شعره في عزة، وعيناه تذرفان، فقال له عبد الملك: قاتلك الله يا كثير! هل رأيت أحدا أعشق منك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت مرة أسير في البادية على بعير لي، فبينا أنا أسير إذ رفع إلي شخص، فأممته، فإذا رجل قد نصب شركا للظباء، وقعد بعيدا منه، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ قال: نصبت شركا للظباء، فأنا أرصدها. قلت: إن قمت له لديك فصدت أتطعمني؟ قال: إي والله.

قال: فنزلت فعقلت ناقتي، وجلست أحدثه فإذا هو أحسن خلق الله حديثا، وأرقه وأغزله. قال: فما لبثنا أن وقعت ظبية في الشرك، فوثب ووثبت معه فخلصها من الحبال، ثم نظر في وجهها مليا، ثم أطلقها، وأنشأ يقول:

أيا شبه ليلى لن تراعي، فإنني ... لك اليوم من بين الوحوش صديق

ويا شبه ليلى لن تزالي بروضة ... عليك سحاب دائم وبروق

فما أنا إذ شبهتها ثم لم تؤب ... سليما عليها، في الحياة، شفيق

فديتك من أسر دهاك لحبها، ... فأنت لليلى ما حييت طليق

ثم أصلح شركه، وعدونا إلى موضعنا، فقلت: والله لا أبرح حتى أعرف أمر هذا الرجل، فأقمنا باقي يومنا فلم يقع شيء، فلما أمسينا قام إلى غار قريب من الموضع الذي كنا فيه وقمت معه فبتنا به، فلما أصبح غدا فنصب شركه، فلم يلبث أن وقعت ظبية شبيهة بأختها بالأمس، فوثب إليها ووثبت معه، فاستخرجها من الشرك ونظر في وجهها مليا ثم أطلقها، فمرت، وأنشأ يقول:

اذهبي في كلاءة الرحمن، ... أنت مني في ذمة وأمان

ترهبيني؟ والجيد منك كليلى، ... والحشا والبغام والعينان

لا تخافي بأن تفاجي بسوء ... ما تغنى الحمام في الأغصان

ثم عدنا إلى موضعنا فلم يقع يومنا ذلك شيء، فلما أمسينا صرنا إلى الغار، فبتنا فيه، فلما أصبحنا عدل إلى شركه، وغدوت معه، فنصبه، وقعدنا نتحدث وقد شغلني، يا أمير المؤمنين، حسن حديثه عما أنا فيه من الجوع، فبتنا نتحدث إذ وقعت في الشرك ظبية، فوثب إليها ووثبت معه، فاستخرجها من الشرك، ثم نظر في وجهها وأراد أن يطلقها فقبضت على يده وقلت: ماذا تريد أن تعمل؟ أقمت ثلاثا كلما صدت شيئا أطلقته. قال: فنظر في وجهي وعيناه تذرفان وأنشأ يقول:

أتلحى محبا هائم القلب أن رأى ... شبيها لمن يهواه في الحبل موثقا

فلما دنا منه تذكر شجوه، ... وذكره من قد نأى فتشوقا

قال أبو بكر: وبيت آخر ذهب علي، فرحمته والله، يا أمير المؤمنين، فبكيت لبكائه ونسبته، فإذا هو قيس بن معاذ المجنون، فذاك والله أعشق مني يا أمير المؤمنين.

وشاية الطيب

ولي من ابتداء قصيدة:

طرقت، والظلام قد مد سترا، ... تتخطى إلي سهلا ووعرا

والكرى قد سقى سلافته السم ... ار صرفا، فطرح القوم سكرا

كتمت خشية الرقيب خطاها، ... فوشى الطيب بالمليحة نشرا

هتكت برقع العتاب وثنت ... منه نظما يذكي الغرام ونثرا

ثم قالت: وقد جلت غرة رد ... ت بأضوائها دجى الليل فجرا

أيها المدعي هوانا، وأنا ... قد سلبنا كراه صدا وهجرا

أترى ما قرأت أخبار مجنو ... ن بني عامر وعروة عفرا

وجميل وقيس لبنى وخلق ... من بني عذرة يزيدون كثرا

تدعي حبنا بغير شهود؛ ... قلت: هذه الدموع تشهد قطرا

واستهلت مدامعي، فرثت لي، ... إذ رأتني حرمت في الحب صبرا

وسقتني من ريقها العذب كأسا ... كانت الشهد لذة والخمرا

أم سالم والغزال

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا أبو غسان المديني، أخبرني عبد العزيز بن أبي ثابت، أخبرني رجل من التجار قال: اشترى أبو زبان الهرمي ظبيا من المصلى بدرهمين ثم أخذ بيدي، حتى إذا كنا بالحرة أطلقه وقال: ما كان ليؤسر شبه أم سالم، ثم أنشأ يقول:

ألا يا غزال الرمل بين الصرائم ... ألا لا، فقد ذكرتني أم سالم

لك الجيد والعينان منها وحوة ال ... شفاه وقد خالفتها في القوائم

إبراهيم بن المهدي وجارية عمته

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لآل الهمذاني، أخبرنا أحمد بن حرب الجيلي عن بعض مشايخه قال: اختفي إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند بنت عصمة بنت أبي جعفر عند هربه من المأمون لشدة طلبه له، وكانت تكرمه غاية الكرامة، وتلطفه بالطرائف، وتتفقده في أوقاته، ووكلت به جارية يقال لها ملك، وكانت قد أدبتها، وأنفقت عليها الأموال، وكانت مغنية حاذقة، راوية للأشعار، بارعة الجمال، حسنة القد، عاقلة؛ وقد كانت طلبت منها بخمسين ومائة ألف درهم؛ فكانت تلي خدمة إبراهيم، وتقوم على رأسه، وتتفقد أموره، فهويها، وكره أن يطلبها من عمته، وأن يفجعها بها، وتذمم من ذلك، فلما اشتد وجده بها، وغلب حبها عليه، وسكر فهيجه السكر أيضا، أخذ عودا وغنى بشعر له فيها، وهي واقفة على رأسه والغناء له:

يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه

والذي أجللت خدي ... ه، فقبلت يديه

بأبي وجهك ما أك ... ثر حسادي عليه

أنا ضيف، وجزاء الض ... يف إحسان إليه

فسمعت الجارية الشعر، وفطنت لمعناه لرقتها وظرفها، وكانت مولاتها تسألها عن حالها وحاله في كل يوم، فأخبرتها في ذلك اليوم بما في قلبه منها، وبما سمعت منه من الشعر والغناء، فقالت لها مولاتها: اذهبي فقد وهبتك له! فعادت إليه، فلما رآها أعاد الصوت، فأكبت عليه الجارية فقبلت رأسه، فقال لها: كفى! فقالت: قد وهبتني مولاتي لك، وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.

موت المجنون في الوادي

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن الهيثم القرشي، حدثني العباس بن هشام عن أبيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي أن رجلا من أهل الشام كان له أدب، وأنه ذكر له المجنون، وأخبر بخبره، فأحب أن يراه، وأن يسمع من شعره، فخرج يريده، حتى إذا صار إلى حية سأل عنه، فأخبر أنه لا يأوي إلى مكان، وأنه يكون مع الوحش، قال: فكيف لي بالنظر إليه؟ قيل: إنه لا يقف لأحد حتى يكلمه إلا لداية له هي التي كانت ربته، فكلم دايته وسألها، فخرجت معه تطلبه في مظانه التي كان يكون فيها في البرية، فطلبوه يومه ذلك، فلم يقدروا عليه، ثم غدوا في اليوم الثاني يطلبونه، فبينا هم كذلك إذ أشرفوا على واد كثير الحجارة، وإذا به في ذلك الوادي ميت، فاحتمله الرجل ودايته حتى أتيا به الحي، فغسلوه وكفنوه ودفنوه، فقال الرجل: قد كنت أقدر أن أسمع منه شيئا من شعره ففاتني ذلك فأنشدوني من شعره شيئا أنصرف به، فأنشدوه أشياء كتبها، وانصرف.

لو بلي البين ببين

أخبرنا الشيخ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا سعد بن الحسن الصوفي، أنبأنا عبد المؤمن، حدثنا الحسن بن أبي الفضل أنشدنا هبة الله بن الحسن لنفسه:

حتى متى يا قرة العين، ... تعذب المدنف بالبين

ما أقتل الشوق لأهل الهوى ... وأقرب البين من الحين

لو بلي البين ببين لما ... فرق ما بين المحبين

أو ذاق طعم الوصل يوما لما ... شتت شملا بين إلفين

غراب البين

و أخبرنا أحمد بن الحسن على أثره، أخبرنا محمد بن الحسن الأصبهاني، أنبأنا وليد بن معن المؤدب: أنشدنا أبي لأبي الحسن البرمكي:

أترحل عمن أنت صب بذكره ... وتشكو غراب البين؟ هذا هو الظلم

وما لغراب البين بالبين فطنة؛ ... وما لغراب البين بالملتقى علم

امرأة على قبر ولدها

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي في ما أجاز لنا، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الرصافي، حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، حدثنا محمد بن موسى بن حماد، حدثني أبو عبد الله العدوي، حدثني الحسين، سمعت أبي يقول: سمعت مصعبا يقول: قرأت على لوحين على قبرين:

أمغطى مني على بصري في الحب ... ب أم أنت أكمل الناس حسنا

وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا

ورأيت امرأة عند القبرين، وهي تقول: بأبي لم تمتعك الدنيا من لذتها، ولم تساعدك الأقدار على ما تهوى، فأوقرتني كمدا، فصرت مطية للأحزان، فليت شعري كيف وجدت مقيلك، وماذا قلت وقيل لك؟ ثم قالت: استودعتك من وهبك لي، ثم سلبني أسر ما كنت بك.

فقلت لها: يا أمه! ارضي بقضاء الله، عز وجل، وسلمي لأمره! فقالت: هاه نعم! فجزاك الله خيرا، لا حرمني الله أجرك، ولا فتنني بفراقك. فقلت لها: من هذا؟ فقالت: ابني، وهذه ابنة عمه، كان مسمى بها وهي صغيرة، فليلة زفت إليه أخذها وجع أتى على نفسها فقضت فانصدع قلب ابني فلحقت روحه روحها فدفنتهما في ساعة واحدة. فقلت: فمن كتب هذا على القبرين؟

قالت: أنا. قلت: وكيف؟ قالت: كان كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين فحفظتهما لكثرة تلاوته لهما، فقلت: ممن أنت؟ فقالت: فزارية. قلت: ومن قائلهما؟ قالت: كريم ابن كريم، سخي ابن سخي، شجاع ابن بطل، صاحب رئاسة. قلت: من؟ قالت: مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن يقولهما في امرأته حبيبة بنت أبي جندب الأنصاري. ثم قالت: وهو الذي يقول:

يا منزل الغيث بعدما قنطوا ... ويا ولي النعماء والمنن

يكون ما شئت أن يكون وما ... قدرت أن لا يكون لم يكن

لو شئت إذ كان حبها غرضا، ... لم ترني وجهها، ولم ترني

يا جارة الحي كنت لي سكنا، ... إذ ليس بعض الجيران بالسكن

أذكر من جارتي ومجلسها ... طرائفا من حديثها الحسن

ومن حديث يزيدني مقة، ... ما لحديث الموموق من ثمن

قال: فكتبتها، ثم قامت مولية، فقالت: شغلتني عما إليه قصدت لتسكين ما بي من الأحزان.

هذي الخدود

وأنشدت لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلي، وقد لقيت المذكور بالإسكندرية منذ خمس وعشرين سنة، ابتداء قصيدة له:

هذي الخدود، وهذه الحدق، ... فليدن من بفؤاده يثق

لو أنهم عشقوا لما عذلوا، ... لكنهم عذلوا وما عشقوا

عنفوا علي بلومهم سفها، ... لو جرعوا كأس الهوى رفقوا

ليس الفؤاد معي فأعلم ما ... قد نال منه الشوق والقلق

ما الحب إلا مسلك خطر، ... عسر النجاة، وموطئ زلق

المطبوع على الكرم

أخبرنا أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه وأنا أسمع، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو القاسم الصائغ، حدثني أسد بن خالد، حدثني قبيصة بن عمر بن حفص المهلبي عن أبي عبيدة النحوي قال: كنا نأتي رؤبة بن العجاج، فربما أعوزنا مطلبه فنطلبه في مظانه، وكان للحارث بن سليم الهجيمي، وهو أبو خالد بن الحارث، مجلس يؤلف، وكان رؤبة ربما أتاه، فطلبته يوما، فأتيت مجلس الحارث، فتحدث القوم، وتحدث الحارث قال: شهدت مجلس أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، فأتى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فقال يا أمير المؤمنين! أتيتك مستعديا. فقال: على من؟ قال: موسى شهوات. قال: وما له؟ قال: سمع بي، واستطال في عرضي، قال: يا غلام! علي بموسى! فأتي به، فقال أمير المؤمنين: سمعت به واستطلت في عرضه. قال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين، ولكني مدحت ابن عمه، فغضب هو. قال: وما ذاك؟ قال: يا أمير المؤمنين علقت جارية لم تبلغ ثمنها جدتي، فأتيته، وهو صديقي، فشكوت ذلك إليه، فلم أصب عنده في ذلك شيئا، فأتيت ابن عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فشكوت إليه ما شكوت إلى ذلك. قال: تعود إلي، فتركته ثلاثا ثم أتيته، فسهل من أمري، فما استقر المجلس حتى قال: يا غلام! قل لقيمي وديعتي! ففتح بابا بين بابين، فإذا أنا بجارية، فقال لي: هذه بغيتك؟ قلت: نعم! فداؤك أبي وأمي! قال: اجلس! يا غلام قل لقيمي ظبية نفقتي. فأتي بظبية فنثرت بين يديه، فإذا فيها مائة دينار، وليس فيها غيرها، فردت في الظبية ثم قال: عتيدتي التي فيها طيبي! فأتي بها، فقال: ملحفة فراشي! فأتي بها، فصير ما في الظبية وما في العتيدة في حواشي الملحفة، وقال لي: شأنك بهواك، واستعن بهذا عليه.

قال فقال أمير المؤمنين: فذاك حين تقول ماذا؟ فقال:

أيا خالدا! أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد

ولكنني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد

عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعقيد

دعوه دعوه إنكم قد رقدتم، ... وما هو عن أحسابكم برقود

قال: فقال: يا غلام علي بسعيد بن خالد! فأتي به، فقال: يا سعيد! أحق ما وصفك به موسى؟ قال: وما هو، يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك، يا أمير المؤمنين. قال: فما طوقك ذاك؟ قال: الكلف. قال: فما حملتك الكلف؟ قال: دين، والله يا أمير المؤمنين، ثلاثين ألف دينار، قال: قد أمرت لك بها وبمثلها وبمثلها، وثلث مثلها.

فلقيت سعيد بن خالد، بعد حين، فأخذت بعنان دابته، فقلت: بأبي وأمي! ما فعل المال الذي أمر لك بن سليمان أمير المؤمنين. قال: ما علمك به؟ قال: كنت حاضر المجلس يومئذ. قال: والله ما استطعت أن أملك منه دينارا ولا درهما، قال: فما اغتاله؟ قال: خلة من صديق أو فاقة من ذي رحم.

نقش الشعر على الخواتم

أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية قال: نقشت مغنية على خاتمها:

ما أنصفوا، حجبوك أو حجبوني، ... مهما أذوك، فبالأذى طلبوني

قال ونقشت مغنية أخرى على خاتمها:

أحببت من يهواني ... برغم من ينهاني

ونقشت أخرى على خاتمها:

كفى بصب عشق ... يدعو بقلب حنق

ونقشت أخرى:

سماجة بمحب خان عاشقه، ... ما خان قط محب يعرف الكرما

ونقشت أخرى:

قلبان في خاتم الهوى جمعا، ... فأرغم الله أنف من قطعا

ونقشت أخرى:

يا حبيبي من شقائي وشومي، ... أنت للناس جميعا حبيب

ونقشت أخرى:

أنا إن مت فالهوى داء قلبي، ... فبداء الهوى يموت الكرام

ونقشت أخرى:

تمنيت القيامة ليس إلا ... لألقى من أحب على الصراط

ونقشت أخرى:

لا تنكرن تذللي، ... فالحب يلعب بالكرام

قلب على شعل

أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، لمحمد بن عون الكاتب:

غنيت بمشيتها عن الأغصان، ... حسناء يلعب حبها بجناني

وبدت تفض العتب عن خاتامه، ... وتجول فيه بناظر ولسان

رفقا بقلب قل ما قلبته ... إلا على شعل من النيران

صوني ما تبقى

ولي ابتداء قصيدة:

طرقت بعد هجعة أم ورقا، ... خوف واش وحاسد يتوقى

ثم فضت ختم العتاب وقالت: ... أنت لو كنت عاشقا مت عشقا

مثل ما مات من بني عذرة كل ... ل صحيح الهوى فغودر ملقى

قتل الحب قيس لبنى ومجنو ... ن بني عامر وأمرض خلقا

وتحدى كثيرا وجميلا، ... ولقي منه عروة كل ملقى

قلت: عندي على هواك شهود: ... أدمع مستهلة، ليس ترقا

وسلي عن أضالعي زفرات، ... ما تلاقي من حرهن وألقى

أنت ضيعت جل قلبي بالهج ... ر، فصوني بالوصل ما قد تبقى

المغنيات ونقشهن الشعر

أخبرنا ابن القزويني، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت مغنية على خاتمها:

الحب أسقمني، والحب أضناني، ... والحب أنحلني، والحب أبلاني

ونقشت أخرى:

فإن تضربوا جنبي وظهري كليهما، ... فليس لقلب بين جنبي ضارب

ونقشت مذنب جارية الحسن بن علي على قميص لها:

كأن روحي إذا ما غبت غائبة، ... فإن تعد لي عادت لي إلى بدني

ونقشت أخرى:

من صحح الحب لأحبابه، ... أعانه الله على ما به

ونقشت مخارق جارية القطيني على جبينها:

لا عدمت الهوى، ولا من هويت، ... وبقي من هويت لي وبقيت

 

لا فرج الله عني

وأخبرني أبو الحسن القزويني أيضا إجازة، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت شبل، وكانت تعشق ناشئا:

لا فرج الله عني إن مددت يدي ... إليه أسأله من حبه الفرجا

أعرابي حذاء الكعبة

أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد، حدثنا الحسين بن القاسم، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثني ابن بكار قال: وحكى العذري، أخبرنا الحسن بن جعفر بن سليمان الضبعي قال: كنت لا أكاد أمر في طريق ولا في حاجة إلا ومعي ألواح، فحججت فرأيت أعرابيا تقدم حتى قام حذاء الكعبة ثم قال: تفهموا عني، واحفظوا مقالتي، ثم رفع صوته فقال:

ألا يا من لعين قد عصتني، ... وقلب قد أبى إلا الحنينا

ونفس لا تزال الدهر تهفو ... كأن بها لما تهفو جنونا

أحب الغانيات، وليس قلبي ... بسال ما بقيت وما بقينا

وجمل، ما علمت، غريم سوء، ... تمنينا وتمطلنا الديونا

فرآني وأنا أكتب ما ينشد، ثم قلت له: ويحك! هذا هو الخسران المبين؛ أتفعل هذا في مثل هذا الموضع؟ قال: بل الخسران المبين ما أنت فيه؛ أنا معذور مسلوب العقل، جئت مستجيرا بربي لما أجد من قلبي، وأنت تكتب بلايا العاشقين مؤثرا لها في هذا الموضع، تنح عني لا قدس الله روحك!

يموت بكل يوم

أخبرنا أبو محمد الجوهري، رحمه الله تعالى قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني إسحق بن محمد، حدثني أبو معاذ النميري قال: لقي مجنون بني عامر الأحوص بن محمد الأنصاري، فقال له: حدثني حديث عروة بن حزام! قال: فجعل الأحوص يحدثه وهو يسمع، حتى فرغ من حديثه، فأنشأ المجنون يقول:

عجبت لعروة العذري أمسى ... أحاديثا لقوم بعد قوم

وعروة مات موتا مستريحا، ... وها أنا ذا أموت بكل يوم

عفا الله عنها

وبإسناده قال: أنشدنا محمد بن خلف، أنشدني القحذمي للمجنون:

أقول لإلف ذات يوم لقيته ... بمكة، والأنضاء ملقى حبالها

بربك أخبرني ألم تأثم التي ... أضر بجسمي من زمان خيالها؟

فقال: بلى والله سوف يمسها ... عذاب وبلوى في الحياة ينالها

فقلت: ولم أملك سوابق عبرة ... سريع على جيب القميص انهمالها:

عفا الله عنها ذنبها وأقالها، ... وإن كان في الدنيا قليلا نوالها

لا مات ولا عوفي

أخبرنا الأمير السيد أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدثنا أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا الرياشي قال: قال عركن بن الجميح الأسدي: كان لي صديق من الحي، وكان شابا جميلا، يعشق ابنة عم له، وكانت له محبة، وكانت هيبة عمه تمنعه أن يخطبها إليه، فحجبت عنه، فكان يأتيني، فيشكو شوقه إليها، فما لبث أن مرض عمه مرضا أشفى منه، فكان الفتى يدخل إليه، وابنته عند رأسه تمرضه، فيستشفي بالنظر إليها، ثم يخرج إلي مسرورا جذلا، إلى أن برأ عمه فأنشأ يقول:

أبكي من الخوف أن يبرا فيحجبها ... ولست أبكي على عمي من الجزع

لا مات عمي ولا عوفي من الوجع ... وعاش ما عاش بين اليأس والطمع

فخطبت الجارية، فزوجها أبوها غيره، فجاءني الفتى، فقال: ودعني وداعا لا نتلاقى بعده! فناشدته، فإذا الجزع قد حال دون فهمه، فقلت: فأين تذهب؟ فقال: اذهب ما وجدت أرضا؛ ونهض، فكان آخر العهد به، وقد التمسه عمه في آفاق البلاد، فما قدر عليه ولم يطل عمر الجارية بعده.

الموت في الحب جميل

أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر الحزبي، رحمه الله تعالى أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت كلثم على فص خاتمها: لا غفر من هجر. ونقشت خليدة الحيرية: الموت في الحب جميل.

حبذا نجد

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: وذكر محمد بن حبيب عن هشام بن محمد الكلبي وغيث الباهلي وأبي عمرو الشيباني عن ابن دأب عن رياح، حدثني بعض المشايخ قال: خرجت حاجا حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال، فصعدت إليهم، فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه، وقد علاه اصفرار، وبدنه ناحل، وهم يمسكونه. قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه لما بلي به، يستجير له ببيت الله الحرام، وقبر محمد، عليه الصلاة والسلام، فلعل الله يعافيه. قلت لهم: فما بالكم تمسكونه؟ قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه، قال: وهو يقول: دعوني أتنسم صبا نجد. فقال لي بعضهم: ليس يعرفك، فلو شئت دنوت منه، فأخبرته أنك قدمت من نجد وأخبرته عنها، قلت: نعم، أفعل، فدنوت منه. فقالوا له: يا قيس، هذا رجل قدم من نجد. قال: فتنفس حتى ظننت أن كبده قد تصدعت، ثم جعل يسائلني عن موضع فموضع وواد فواد، وأنا أخبره وهو يبكي، ثم أنشأ يقول:

ألا حبذا نجد وطيب ترابه ... وأرواحه إن كان نجد على العهد

ألا ليت شعري! هل عوارضتي قنا ... بطول الليالي قد تغيرتا بعدي

وعن جارتينا بالنثيل إلى الحمى، ... على عهدنا أم لم تدوما على العهد

وعن علويات الرياح إذا جرت ... بريح الخزامى هل تهب على نجد

وعن أقحوان الرمل ما هو صانع ... إذا هو أثرى ليلة بثرى جعد

ظبية بشاة

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر العامري عن عبد الله بن أبي كريم عن أبي عمرو الشيباني عن أبي بكر الوالبي قال: ذكروا أن المجنون برجلين قد صادا عنزا من الظباء فلما نظر إليها دمعت عيناه وقال: يا هذان! خلياها، فأبيا عليه. فقال: لكما مكانها شاة من غنمي. فقبلا ذلك منه، ودفعاها إليه، فأطلقها، ودفع إليهما الشاة، وأنشأ يقول:

شريت بكبش شبه ليلى، فلو أبى ... لأعطيت ما لي من طريف وتالد

فيا بائعي شبه لليلى هبلتما، ... وجنبتما ما ناله كل عائد

فلو كنتما حرين ما بعتما فتى ... شبيها لليلى بيعة المتزايد

وأعتقتماها رغبة في ثوابها، ... ولم ترغبا في ناقص غير زائد

قتيل لا يودى

ولي ابتداء قطعة:

بين الحطيم وزمزم، ... والحجر والحجر المقبل

للعاشقين بني الهوى ... أبدا مصارع ليس تجهل

كم بالمحصب من علي ... ل هوى طريح لا يعلل

وقتيل بين بين خي ... ف منى وجمع ليس يعقل

سكينة تنقد الشعراء

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لآل الهمذاني، حدثنا أحمد بن الحسين بن علي، حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي عبد الملك بن قريب عن أبيه عن لبطة بن الفرزدق بن غالب قال:

اجتمع أبي وجميل بن معمر العذري وجرير بن الخطفى ونصيب مولى عمر وكثير في موسم من المواسم، فقال بعضهم لبعض: والله لقد اجتمعنا في هذا الموسم لأمر خير أو شر، وما ينبغي لنا أن نتفرق إلا وقد تتابع لنا في الناس شيء نذكر به، فقال جرير: هل لكم في سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، نقصدها، فنسلم عليها، فلعل ذلك يكون سببا لبعض ما نريد؟ فقالوا: امضوا بنا، فمضينا إلى منزلها، فقرعنا الباب فخرجت إلينا جارية لها بريعة ظريفة، فأقرأها كل رجل منهم السلام باسمه ونسبه، فدخلت الجارية، وعادت فبلغتهم سلامها، ثم قالت أيكم الذي يقول:

سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كل مرام

عفت معالمها الرواسم بعدنا، ... وسجال كل مجلجل سجام

درس المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام

لو كنت صادقة بما حدثتنا ... لوصلت ذاك وكان غير تمام

قال جرير: أنا قلته. قالت: فما أحسنت ولا أجملت، ولا صنعت صنيع الحر الكريم، لا ستر الله عليك كما هتكت سترك وسترها، ما أنت بكلف ولا شريف حين رددتها بعد هدوء العين، وقد تجشمت إليك هول الليل. هلا قلت:

طرقتك صائدة القلوب فمرحبا ... نفسي فداؤك فادخلي بسلام

خذ هذه الخمسمائة درهم، فاستعن بها في سفرك.

ثم انصرفت إلى مولاتها وقد أفحمتنا، وكل واحد من الباقين يتوقع ما يخجله، ثم خرجت فقالت: أيكم الذي يقول:

ألا حبذا البيت الذي أنا هاجره ... فلا أنا ناسيه، ولا أنا ذاكره

فبورك من بيت وطال نعيمه ... ولا زال مغشيا وخلد عامره

هو البيت بيت الطول والفضل دائما ... وأسعد ربي جد من هو زائره

به كل موشي الذراعين يرتعي ... أصول الخزامى ما تيقن طائره

هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا: ... أحي نرجي أم قتيل نحاذره

فأصبحت في أهل وأصبح قصرها ... مغلقة أبوابه ودساكره

فقال أبي، يعني الفرزدق: أنا قلته. قالت: ما وفقت ولا أصبت، أما أيست بتعريضك من عودة عندك محمودة؟ خذ هذه الستمائة، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول:

فلولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشء الصغار

بنفسي كل مهضوم حشاها، ... إذا ظلمت فليس ولها انتصار

فقال نصيب: أنا قلته. فقالت: أغزلت وأحسنت وكرمت، إلا أنك صبوت إلى الصغار، وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم، فاستعن بها.

ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول:

وأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع

دنوك حتى يذكر الجاهل الصبي ... ومدك أسباب الهوى حين يطمع

وأنك لا يدري غريم مطلته، ... أيشتد إن لاقاك أم يتضرع

وأنك إن واصلت أعلمت بالذي ... لديك فلم يوجد لك الدهر مطمع

قال كثير: أنا قلته. قالت: أغزلت وأحسنت. خذ هذه الثمانمائة درهم، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، وخرجت فقالت: أيكم يقول:

لكل حديث بينهن بشاشة، ... وكل قتيل بينهن شهيد

يقولون جاهد يا جميل بغزوة، ... وأي جهاد غيرهن أريد

وأفضل أيامي وأفضل مشهدي، ... إذ هيج بي يوما وهن قعود

فقال جميل: أنا قلته. قالت: أغزلت وكرمت وعففت، ادخل. قال: فلما دخلت سلمت، فقالت لي سكينة: أنت الذي جعلت قتيلنا شهيدا. وحديثنا بشاشة، وأفضل أيامك يوم تنوب فيه عنا، وتدافع، ولم تتعد ذلك إلى قبيح خذ هذه الألف درهم وابسط لنا العذر، أنت أشعرهم.

سكينة والفرزدق

وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي أيضا بالمسجد الحرام، قال: أخبرنا أبو أحمد بن لآل الهمذاني قال: حدثنا أبو بكر بن أحمد الأخباري وأحمد بن الحسين قالا: حدثنا حامد بن حماد، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي، حدثنا جهضم بن سالم: بلغني أن الفرزدق بن غالب خرج حاجا، فمر بالمدينة ودخل على سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب مسلما عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كما قلت، أشعر منك الذي يقول:

بنفسي من تجنيه عزيز ... علي، ومن زيارته لمام

ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام

فقال: والله لئن آذنتني لأسمعنك من شعري ما هو أحسن من هذا. فقالت: أقيموه، فخرج. فلما كان من الغد، عاد إليها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كما قلت؛ أشعر منك الذي يقول:

لولا الحياء لهاجني استعبار، ... ولزرت قبرك والحبيب يزار

كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... خزن الحديث وعفت الأسرار

لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار

قال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك من شعري ما هو أحسن من هذا، فأمرت به، فأخرج. فلما كان الغد غدا عليها، وحولها جوار مولدات، عن يمينها وعن شمالها، كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق واحدة منهن، كأنها ظبية أدماء، فمات عشقا لها، وجنونا بها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: ليس كذلك؛ أشعر منك الذي يقول:

إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا

فقال: يا ابنة رسول الله! إن لي عليك حقا عظيما لموالاتي لك ولآبائك، وإني سرت إليك من مكة قاصدا لك إرادة التسليم عليك، فلقيت في مدخلي إليك من التكذيب لي والتعنيف، ومنعك إياي أن أسمعك من شعري ما قطع ظهري وعيل صبري به، والمنايا تغدو وتروح، ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا مت فمري من يدفنني في درع هذه الجارية، وأومأ إلى الجارية التي كلف بها، فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من بردها، ثم أمرت له بألف درهم وكسى وطيب وبالجارية بجميع آلتها، وقالت: يا أبا فراس! إنما أنت واحد منا أهل البيت، لا يسؤك ما جرى. خذ ما أمرنا لك به، بارك الله لك فيه، وأحسن إلى الجارية، وأكرم صحبتها؛ وأمرت الجواري، فدفعن في ظهورهما، فقال الفرزدق، فلم أزل والله أرى البركة بدعائها في نفسي وأهلي ومالي.

سكينة وقبلة عزة

وبإسناده، حدثنا حامد بن حماد، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي، حدثنا سفيان بن عيينة قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين بن علي، ذات يوم، فقالت: يا عزة، أرأيتك إن سألتك عن شيء هل تصدقينني؟ قالت: نعم! قالت: ما عنى كثير بقوله:

قضى كل دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها

فتحايت، وقالت: فداؤك أبي! إن رأيت أن تعفيني. فقالت: لا أعفيك بل أعزم عليك. قالت: كنت وعدته بقبة، قالت: أنجزيها له وعلي إثمها.

شهادة قبل عيان

أنشدني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال من حفظه ولم يسم القائل:

يا قبلة شهد الضمير لها ... قبل المذاق بأنها عذب

كشهادة لله خالصة ... قبل العيان بأنه الرب

في أثواب العفاف

ولي من نسب قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله أولها:

كم لا تزال تسائل الأطلالا، ... يصل الغدو وقوفك الآصالا

رحلوا وفي الأحداج غزلان النقا ... متكنسين أكلة وحجالا

من كل ذات لمى شهي بارد، ... يروي الصوادي رائقا سلسالا

طرقت فنم الحلي في وسواسه ... بمزارها معطارة مكسالا

وتضوع النادي بفائح طيبها ... نشرا فقال رقيبنا ما قالا

لما سرت وهنا، وخافت كاشحا، ... جرت على آثارها أذيالا

حسناء لو عرضت لأشمط راهب ... هجر الأنيس وبت منه حبالا

لصبا وفارق دبره وتغيرت ... أحواله لجمالها أحوالا

علقتها من قبل طرح تمائمي ... عني، وأقسم، حبها لا زالا

بتنا، وأثواب العفاف تضمنا، ... تشكو وأشكو في الهوى الأهوالا

وجعلت أذكرها ليالي وصلنا، ... وأقول، لو رفعت بقولي بالا:

أنسيت موقفنا بجو سويقة ... متفيئين به الغضا والضالا

أيام لا أخشى من البيض الدمى ... لي الديون ولا أخاف مطالا

ليلى المريضة

وأخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف قال: قال رباح بن حبيب: حدثني بعض بني عامر أن رجلا أتى يوما بعد تزويج ليلى وذهاب عقل قيس، فسأل عن المجنون، فقيل له: ما تريد منه؟ فقال: أريد أن أنظر إليه وأخبره بخبر، فقيل له: أخبرنا نحن بما عندك، فإنه لا يفهم منك ما تقول، قال: دلوني عليه، على كل حال.

قال: فبعثوا معه برجل، فلم يزل يطلبه حتى وجده، فقال له الرجل: أتحب ليلى؟ قال: نعم! قال: فما يغني حبك عنها، وهي مريضة لا تأتيها، ولا تسأل عنها؟ قال: فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقت بدنه، ثم رفع رأسه، وهو يقول:

يقولون ليلى بالصفاح مريضة ... فماذا إذا تغني وأنت صديق

شفى الله مرضى بالصفاح فإنني ... على كل شاك بالصفاح شفيق

خشوع المذنب المتنصل

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف الواعظ بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد الصوفي، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا القاسم بن الحسن، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا خلاد بن يزيد الأرقط، حدثني مغلس بن بكر الأسدي قال: كان في بني أسد شاب لا يكاد يكلم أحدا كأنه معتوه، فسمعته ينشد أبياتا، فعلمت أنه مشغول عن كلام الناس ببثه، فسمعته يقول:

وصلت، فلما أر الوصل نافعي، ... وقربت قربانا، فلم يتقبل

وعذبت قلبي بالتجلد صابيا ... إليك، وإن لم يصف عندك منهلي

ولما نقلت الدمع عن مستقره ... إلى ساحة من خد حران معول

وأظلمت الدنيا علي برحبها، ... وقلقلني الهجران كل مقلقل

عتبت على نفسي وأقلعت تائبا، ... إليك، خشوع المذنب المتنصل

فما زادني إلا صدودا وهجرة ... وقد كنت عن دار الهوان بمعزل

فوالله ما أدري، فأشكر عامدا ... لآخر، ما أوليتني أو لأول

فدنوت منه، ورفقت به، وسألته أن يخبرني بقصته، فأبى، وقال: إليك عني، اشتغل بنفسك، فإن لك فيها شغلا، ولم يعلم أحدا حاله حتى قضى.

الحب يتنفس ويتكلم

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، أنبأنا محمد بن خلف بن المرزبان أنشدنا عبد الله بن شبيب لبعضهم:

وما زال يشكو الحب حتى سمعته ... تنفس في أحشائه وتكلما

ويبكي فأبكي رحمة لبكائه، ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما

عبرى مولهة

وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا الرياشي، حدثنا الأصمعي قال: مررت أنا وصاحب لي بجارية عند قبر، لم أر أحسن ولا أجمل منها، وعليها ثياب نظيفة وحلي كثير، وهي تبكي على القبر، فلم نزل نتعجب من جمالها وزينتها وحزنها، فقلت: يا هذه! علام هذا الحزن الشديد؟ فبكت، ثم أنشأت تقول:

فلا تسألاني فيم حزني، فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان

وإني لأستحييه والترب بيننا، ... كما كنت أستحييه حين يراني

فعجبنا منها ومن ظرفها وجمالها، واستحيينا منها، فتقدمنا قليلا، ثم جلسنا نسمع ما تقول، ولا ترانا، ولا تعلم بنا، فسمعناها تقول:

يا صاحب القبر يا من كان يؤنسني ... وكان يكثر في الدنيا مؤاتاتي

قد زرت قبرك في حليي وفي حللي ... كأنني لست من أهل المصيبات

لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما ... قد كنت تألفه من كل هيئاتي

فمن رآني رأى عبرى مولهة، ... مشهورة الزي تبكي بين أموات

فلم نزل قعودا حتى انصرفت واتبعناها، حتى عرفنا موضعها، ومن هي، فلما خرجت إلى هارون الرشيد قال لي: يا أصمعي! ما أعجب ما رأيت بالبصرة؟ فأخبرته خبرها، فكتب إلى صاحب البصرة أن يمهرها عشرة آلاف وتجهز وتحمل إليه، فحملت إلى هارون، وقد سقمت حزنا على الميت، فلما وصلت إلى المداين ماتت، فقلما ذكرها هارون إلا دمعت عيناه.

شن بال

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الواعظ، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المروروذي، حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، حدثنا أبو محمد عبد الصمد الصوفي، حدثنا علي بن سياخف، وكان من ظرفاء الصوفية ونساكهم، قال: قال لي أبو الجعد السائح: رأيت رجلا حسن الوجه، كأنه الشن البالي بجبال لبنان، وعليه خرقة، وما معه شيء، ولا عليه غير تلك الخرقة، فسمعته يقول:

شدة الشوق والهوى ... تركاني كما ترى

حزن شديد

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: روى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: استعمل مروان بن الحكم رجلا من قريش يقال له: محمد بن عبد الرحمن، على صدقات كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسمع بخبر المجنون، فأمر أن يؤتى به، فسأله عن حاله، فأخبره، وأنشده شعره، فأعجب به، وقال له: الزمني، ووعده أن يعمل له في أمر ليلى، فكان يأتيه في بعض الأوقات، فيتحدث عنده.

وكان لبني عامر مجتمع يجتمعون إليه في كل سنة مرة، فيأكلون ويشربون يومهم؛ وكان الوالي يخرج إليهم، فيكون معهم في ذلك المجتمع لئلا يكون بينهم شر أو قتل، فحضر ذلك اليوم، فقال المجنون للوالي: أتأذن لي في الخروج معك إلى هذا المجتمع؟ فقال له: نعم. فقيل له: إنما سألك أن يخرج معك ليرى ليلى، وقد استعدى أهلها عليه، فأهدر السلطان دمع إن أتاهم، فلما سمع ذلك منعه من الخروج معه، وأمر له بقلائص من قلائص الصدقة فأبى أن يقبلها وقال:

رددت قلائص القرشي لما ... أتاني النقض منه العهود

وراحوا مقصرين وخلفوني ... إلى حزن، أعالجه، شديد

شوق ووجد

أخبرنا التنوخي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وأنشدني أبو علي البلدي الشاعر للمجنون:

من نزحت دار بليلى لربما ... غنينا بخير، والزمان جميع

وفي النفس من شوق إليك حزازة، ... وفي القلب من وجد عليك صدوع

المجنون وولي الصدقات

وأخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن إسحق، حدثني ابن عائشة عن أبيه قال: ولي نوفل بن مساحق صدقات كعب بن ربيعة، فنزل بمجمع من تلك المجامع، فرأى قيس بن معاذ المجنون، وهو يلعب بالتراب، فدنا منه، فكلمه وجعل يجيبه بخلاف ما يسأله عنه، فقال له رجل من أهله: إن أردت أن يكلمك كلاما صحيحا، فاذكر له ليلى، فقال له نوفل: أتحب ليلى؟ قال: نعم! قال: فحدثني حديثك معها! قال: فجعل ينشده شعره فيها، ويقول:

وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان فيك، وأنتم شغلي

وأديم نحو محدثي ليرى ... أن قد فهمت، وعندكم عقلي

وأنشد أيضا:

سرت في سواد القلب حتى إذا انتهى ... بها السير وارتادت حمى القلب حلت

فللعين تهمال إذا القلب ملها، ... وللقلب وسواس إذا العين ملت

ووالله ما في القلب شيء من الهوى ... لأخرى سواها أكثرت أم أقلت

وأنشد أيضا:

ذكرت عشية الصدفين ليلى، ... وكل الدهر ذكراها جديد

علي ألية إن كنت أدري ... أينقص حب ليلى أم يزيد

فلما رأى نوفل ذلك منه أدخله بيتا، وقيده، وقال: أعالجه، فأكل لحم ذراعيه وكفيه، فحله، وأخرجه، فكان يأوي مع الوحوش، وكانت له داية ربته صغيرا فكان لا يألف غيرها، ولا يقرب منه أحد سواها، فكانت تخرج في طلبه في البادية وتحمل له الخبز والماء، فربما أكل بعضه، وربما لم يأكل، فلم يزل على ذلك حتى مات.

دية فاسق

وجدت بخط أبي عمر بن حيويه ونقلته من كتابه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثني محمد بن سلمة الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا شعبة بن الحجاج عن الحكم: أن رجلا كان يدخل على امرأة رجل من جيرانه، فنهاه زوجها عن الدخول عليها، وأشهد عليه، فلم ينته، ثم رآه بعد ذلك في بيته، فقتله، فرفع إلى مصعب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودى مثل هذا ما وديته. ثم وداه.

أبو عيشونة الشاعر

أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم إملاء، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن محمد بن عجلان بسر من رأى قال: خرجت مرة من المرار إلى مدينة السلام، فدعاني صديق لي ينزل الدور، فأقمت عنده، ثم انصرفت إلى منزلي في ليلة مقمرة، فبينما أنا أنزل شارع دار الرقيق، رأيت شيخا قصيرا أصلع متشحا بإزار أحمر، وبيده سكين خوصية، وهو يقول:

عشرون ألف فتى ما منهم رجل ... إلا كألف فتى مقدامة بطل

أضحت مزاودهم مملوءة أملا ... ففرغوها، وأوكوها على الأجل

فقلت لهم: أحسنت، فقصد إلي، وقال لي: لبيك، أتريد رقيقة؟ قلت: نعم! فقال:

إنما هيج البلا، ... حين عض السفرجلا

ولقد قام لحظه ... لي على القلب بالغلا

فقلت له: أبو من شيخنا؟ فقال: أبو عيشونة الخياط من أهل مربعة حرب، قد خرجت الفتيان الكبار، وصغا من يدي كل شاطر كان في هذا الصقع، وشهدت حروب محمد كلها وعمرت تلك الدار منذ عشرين سنة؛ وأشار بيده إلى سجن الشام، وأنا الذي أقول:

لي فؤاد مستهام، ... وجفون ما تنام

ودموع أبد الده ... ر على خدي سجام

وحبيب كلما خا ... طبته قال: سلام

فإذا ما قلت: زرني! ... قال لي: ذاك حرام

ثم انثنى عني ناحية، وهو يقول:

مؤرق في سهده، ... مسهد في كمده

خلا به السقم، فما ... أسرعه في جسده

يرحمه مما به ... من ضره ذو حسده

كأن أطراف المدى ... يجرحن أعلى كبده

مجنون بين قبرين

أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس الزاهد، حدثنا محمد بن عمرو البختري الرزاز إملاء، أنبأني محمد بن معاوية الزيادي قال: رأيت مجنونا يختلف بين قبرين، وهو يقول:

وصف الطبيب، فهم بما ... وصف الطبيب يعالجونه

يرجون صحة جسمه، ... هيهات مما يرتجونه

قاتل أبيه

حدثنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر المؤدب من لفظه وكتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس، رحمه الله تعالى: أن أبا عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناصر، وهو المعروف بالمطلق من بني أمية، كان يعشق جارية كان أبوه قد رباها معه، وذكرها له، ثم بدا له، فاستأثر بها، وخلا معها، فيقال: إنه اشتدت غيرته لذلك وانتضى سيفا وتغفل أباه في بعض خلواته ليلا، فقتله، وعثر على ذلك، فحبسه المنصور محمد بن أبي عامر سنين، وقال في السجن أشعارا رائقة، ثم أطلق فلقب بالمطلق، ويقال: إنه من ذلك اعتراه الجنون، وكان يصرع.

ماني الموسوس والماجنة

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسن البصري بتنيس، رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن الحسين البغدادي، حدثنا محمد بن الحسن بن الفضل، حدثني ابن الأنباري أبو بكر، حدثني محمد بن المرزبان، حدثني أبو حفص عمر بن علي قال: كنت عند بعض إخواني، فبينا نحن على شرابنا وقينة تغنينا، إذ استأذن ماني الموسوس، فدخل، فأتي بطعام، فأكل، وسقيناه، فشرب، فحانت من بعضنا التفاتة، فبصر به وقد أخرج رقعة من جيبه، فقرأها، ثم طواها، وقبلها ووضعها على عينه، ثم ردها إلى جيبه، فقلنا: إن لهذه الرقعة لشأنا، فلاطفناه، فأخذناها، فإذا هي رقعة من ماجنة من مواجن الكرخ، قد كتبت إليه تصف شغفها به، وأنها على حال التلف، وتطالبه بالجواب، فلما طلب الرقعة في جيبه فلم يجدها هاج وقام، وقال: أين رقعتي؟ فلم نزل نسكته، حتى جلس، فأنشأ يقول:

وعاشق جاءه كتاب، ... فزال عنه به العذاب

وقال: قد خصني حبيبي ... بنعمة ما لها ثواب

فحق لي أن أتيه تيها، ... يقصر عن وصفه الخطاب

حتى رمته بصرف دهر ... عيون حساده الصلاب

فاستل منه الكتاب واش ... بحيلة شأنها عجاب

فليس يهنيه طيب عيش ... ولا طعام ولا شراب

ثم هاج، وقام، وحلف أن لا يجلس.

غريب يبسط عذره

وجدت بخط في مجموع عتيق يقول: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يزيد الوراق، حدثني عمي قال: سافرت في طلب العلم والحديث، فلم أدع بخراسان بلدا إلا دخلته، فلما أن دخلنا سمرقند، رأيت بلدا حسنا أعجبني، وتمنيت أن يكون مقامي فيه بقية عمري، وأقمنا فيه أياما، وعاشرت من أهله جماعة، فحدثني بعضهم قال: ورد إلينا فتى من أهل بغداد حسن الوجه، ولم يزل مقيما عندنا دهرا، وكان أديبا، ثم إنه أثرى وحسنت حاله، فارتحل مع الحاج إلى العراق، وكان هوي فتى من أولاد الفقهاء وله معه مواقف وأقاصيص، وله فيه أيضا أشعار كثيرة، يحفظها أهل البلد، فخرج يوما معه إلى البستان للنزهة، وأقاما يومهما، فخرجت في غد ذلك اليوم، واجتزت بالبستان، فدخلته، فإني لأطوفه إذ قرأت على حائط مجلس مكتوبا فيه:

لم يخب سعيي ولا سفري، ... حين نلت الحظ من وطري

في قضيب البان في ميل، ... وشبيه الشمس والقمر

لست أنسى يومنا أبدا، ... بفنا البستان والنهر

في رياض وسط دسكرة، ... وبساط حف بالشجر

وأبو نصر يعانقني، ... طافحا سكرا إلى السحر

غير أن الدهر فرقنا، ... وكذا من عادة القدر

وتحته مكتوب: الغريب يبسط العذر بالقول والفعل لاطراحه المراقبة وأمنه في هفواته من المعاتبة.

الشيطان واستراق السمع من السماء

أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، رحمه الله تعالى، قراءة عليه سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا عبد العزيز بن معاوية أبو خالد، حدثنا أبو حفص بن عمر أبو عمر الضرير، حدثنا حماد بن سلمة أن داود بن أبي هند أخبرهم عن سماك بن حرب عن جرير بن عبد الله البجلي قال: إني لفي تستر في طريق من طرقها، زمن فتحت، إذ قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون، قال: فسمعني هربذ من تلك الهرابذة، فقال: ما سمعت هذا الكلام من أحد منذ سمعته من السماء، فقلت له: وكيف ذلك؟ قال: إنه كان رجل، يعني نفسه، وإنه وفد عاما على كسرى بن هرمز، قال: فخلفه في أهله شيطان تصور على صورته، فلما قدم، لم يهش إليه أهله، كما يهش أهل الغائب إلى غائبهم إذا قدم، فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا: إنك لم تغب. قال: وظهر له الشيطان فقال: اختر أن يكون لك منها يوم، ولي يوم، وإلا أهلكتك، فاختار أن يكون له يوم، وله يوم، فأتاه يوما فقال: إني ممن يسترق السمع، وإن استراق السمع بيننا نوب، وإن نوبتي الليلة، فهل لك أن تجيء معنا؟ قلت نعم.

فلما أمسى أتاني فحملني على ظهره، فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير، فقال: لا تفارقني، فتهلك. قال: ثم عرجوا حتى لصقوا بالسماء، فسمعت قائلا يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. قال: فلبج، ووجم، فوقعوا من وراء العمران في غياض الشجر، فلما أصبحت رجعت إلى منزلي، وقد حفظت الكلمات، فكان إذا جاء قلتهن، فيضطرب، حتى تخرج من كوة البيت، فلم أزل أقولهن حتى ذهب عني.

تصرعه الجنية

ذكر محمد بن سعيد التيمي قال: رأيت جارية سوداء في بعض مدن الشام، وبيدها خوص تسفه، وهي تقول:

لك علم بما يجن فؤادي، ... فارحم اليوم ذلتي وانفرادي

فقلت: يا سوداء! ما علامة المحب؟ وإذا رجل قد صرع بالقرب منها، فنظرت إلي وإلي الرجل، وقالت: يا بطال! علامة المحب الصادق لله في حبه أن يقول لهذا المجنون: قم، فيقوم، فإذا الرجل قد قام، وإذا الجنية تقول لها على لسانه: وحق صدق حبك لربك لا رجعت إليه أبدا.

الجني العاشق

أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمران الجندي، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا الوليد بن طلحة، حدثنا ابن وهب عن عمر بن محمد عن سالم يعني ابن عبد الله بن عمر، أخبرني واقد أخي أن جنيا عشق جارية لا أعلمه إلا قال: منهم أو من آل عمر، قال: وإذا في دارهم ديك. قال: فكلما جاءها صاح الديك، فهرب، فتمثل في صورة إنسان، ثم خرج حتى لقي شيطانا من الإنس، فقال: اذهب فاشتر لي ديك بني فلان بأي ثمن كان، فأتني به في مكان كذا؛ فذهب الرجل فأغلى لهم في الديك، فباعوه، فلما رآه الديك صاح، فهرب، وهو يقول: اخنقه، فخنقه حتى صرع الديك، فجاءه فحك رأسه، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى صرعت الجارية.

مس الإنسي كمس الجني

أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، رحمه الله تعالى، سمعت أبا الحسن الجهضمي الهمذاني بمكة يقول في المسجد الحرام: سمعت الخالدي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: إذا تمكن الذكر في القلب، وقوي سلطانه، فلا يأمنه العدو، ويصرع به كما يصرع الإنسي إذا مسه الجني، فتمر به الجن فيقولون: ما بال هذا؟ فيقال مسه الإنسي.

عفا الله عن ليلى

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: وقال العمري عن عطاء بن مصعب: خرج المجنون مع قوم في سفر، فبينا هم يسيرون إذا اتسعت لهم طريق إلى الماء الذي كانت عليه ليلى، فقال المجنون لأصحابه: إن رأيتم أن تحطوا وترعوا وتنتظروني حتى آتي الماء؟ فأبوا عليه، وعذلوه، فقال لهم: أنشدكم الله لو أن رجلا صحبكم، وتحرم بكم، فأضل بعيره، أكنتم مقيمين عليه يوما حتى يطلب بعيره؟ قالوا: نعم! قال: فوالله لليلى أعظم حرمة من البعير، وأنشأ يقول:

أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة، إني إذا لصبور

هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمة، إن الذمام كبير

وللصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يضل بعير

عفا الله عن ليلى، الغداة، فإنها ... إذا وليت حكما علي تجور

قال: فأقاموا عليه حتى مضى ورجع.

الحب المجرم

ذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا الفضل بن محمد العلاف قال: لما قدم بغا ببني نمير أسرى كنت كثيرا ما أصير إليهم، فلا أعدم أن ألقى منهم الفصيح، فجئتهم، ذات يوم، في صبيحة ليلة، قد كانوا مطروا فيها، وإذا شاب جميل قد نهكه المرض وليس به حراك وهو ينشد:

ألا يا سنا برق على قلل الحمى، ... لهنك من برق علي كريم

لمعت اقتداء الطير، والقوم هجع، ... فهيجت أحزانا، وأنت سليم

فبت بحد المرفقين أشيمه، ... كأني لبرق بالستار حميم

فهل من معير طرف عين خلية؟ ... فإنسان عين العامري كليم

رمى قلبه البرق الملألئ رمية ... بذكر الحمى وهنا فصار يهيم

فقلت: يا فتى! إن في دون ما بك ما يشغل عن قول الشعر. قال: أجل، ولكن البرق أنطقني. ثم اضطجع فمات، فما يتهم عليه إلا الحب.

عبد الملك والغلام العاشق

أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا الكديمي أبو العباس، أخبرنا السلمي عن محمد بن نافع مولاهم عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسا عاما، فبينا هو جالس في مستشرف له، وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة، فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنيني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما شاء من حكمه. فاستشاط من ذلك غضبا، وقال: يا رباح علي بصاحب هذه القصة. فخرج الناس جميعا، وأدخل عليه غلام من أجمل الفتيان وأحسنهم، فقال له عبد الملك: يا غلام! أهذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! قال: ومائتين الذي غرك مني؟ والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظراءك من أهل الخسارة. علي بالجارية! فجيء بها كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها الكرسي، فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال لها: غنيني يا جارية بشعر قيس بن ذريح:

لقد كنت حسب النفس لو دام ودنا، ... ولكنما الدنيا متاع غرور

وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور

فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور

فغنت، فخرج الغلام بجميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثاني! فقال: غنيني بشعر جميل:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد

إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابت ويزيد

وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد

فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبها فيما يبيد يبيد

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها، ... ويحيا إذا فارقتها، فيعود

قال: فغنته الجارية، فسقط الغلام مغشيا عليه ساعة، ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال: يا جارية غنيني بشعر قيس بن الملوح المجنون:

وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب

فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب

فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرف فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر، فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق ويده على رأسه:

غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد داري من دياركم بعدا

تصافح الأكف والخدود

أنبأنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، أنشدنا أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل بن المأمون، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية وأنشدنيها أبي لغيره من المحدثين:

وحدثني عن مجلس كنت زينه ... رسول أمين والوفود شهود

فقلت له: كر الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد

أناشده بالله ألا ذكرته، ... كأني بطيء الفهم حين يعيد

يجدد لي ذكر الحديث لذاذة، ... فذكرك عندي والحديث جديد

قال وفي رواية أبي، رحمه الله تعالى:

فلما همنا بالفراق تصافحت ... أكف، وثنت عند ذاك خدود

مخافة الواشي

وبالإسناد أخبرنا أبو بكر أنبأنا أبي أنشدنا أحمد بن عبيد:

يقولون: ما تهواك مي تعبثا، ... فما باله يضحي ويمسي مسلما

ويعرض عن ذكراك في كل موطن ... وقد يسعف الحب المحب المتيما

وقد صدقوا أني لأترك ذاكم، ... كأني لم أعرفك إلا توهما

وأهجركم، والله يعلم أنني ... أحبك حبا خالط اللحم والدما

مخافة واش أو توقي أعين، ... ترى بث أسرار المحبين مغنما

فراق أم تلاق؟

أخبرنا الأمين العدل أبو الفضل أحمد بن الحسن قراءة عليه، حدثنا أبو الحسين محمد بن الحسن الأصبهاني، سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن إسحق الشاهد يقول: ودعت أبا عبد الله نفطويه، فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إلى العراق؛ فقال: وأي العراق؟ قلت: الأهواز، فأنشدني:

قالوا: وشيك فراق، ... فقلت: لا بل تلاق

كم بين أكناف نجد، ... وبين أرض العراق

قد فزت يوم التقينا، ... بقبلة واعتناق

وبعد هذا وصال ... من الأحبة باق

جناية السبع على عاشقين

ذكر أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد بن خلف حدثهم: حدثني أبو أحمد عبد الله بن محمد الطالقاني، حدثني محمد بن الحارث الرازي، أخبرني أحمد بن عمر الزهري، حدثني عمي عن أبيه قال: خرجت في نشدان صالة لي، فآواني المبيت إلى خيمة أعرابي، فقلت: هل من قرى؟ فقال لي: انزل! فنزلت، فثنى لي وسادة، وأقبل علي يحدثني، ثم أتاني بقرى، فأكلت.

فبينا أنا بين النائم واليقظان، إذا بفتاة قد أقبلت لم أر مثلها جمالا وحسنا، فجلست، وجعلت تحدث الأعرابي ويحدثها، ليس غير ذلك، حتى طلع الفجر، ثم انصرفت، فقلت: والله لا أبرح موضعي هذا، حتى أعرف خبر الجارية والأعرابي.

قال: فمضيت في طلب ضالتي يوما، ثم أتيته عند الليل، فأتى بقرى، فبينا أنا بين النائم واليقظان، وقد أبطأت الجارية عن وقتها، قلق الأعرابي، فكان يذهب ويجيء وهو يقول:

ما بال مية لا تأتي لعادتها، ... أعاجها طرب أم صدها شغل

لكن قلبي عنكم ليس يشغله ... حتى الممات، وما لي غيركم أمل

لو تعلمين الذي بي من فراقكم ... لما اعتذرت ولا طابت لك العلل

نفسي فداؤك قد أحللت بي سقما ... تكاد من حره الأعضاء تنفصل

لو أن غادية منه على جبل، ... لماد وانهد من أركانه الجبل

ثم أتاني فأنبهني، ثم قال لي: إن خلتي التي رأيت بالأمس، قد أبطأت علي، وبيني وبينها غيضة، ولست آمن السبع عليها، فانظر ما ههنا حتى أعلم علمها، ثم مضى فأبطأ قليلا، ثم جاء بها يحملها، السبع قد أصابها، فوضعها بين يدي، ثم أخذ سيفه، ومضى فلم أشعر إلا وقد جاء بالأسد يجره مقتولا، ثم أنشأ يقول:

ألا أيها الليث المضر بنفسه، ... هبلت لقد جرت يداك لك الشرا

أخلفتني فردا وحيدا مدلها، ... وصيرت آفاق البلاد بها قبرا

أأصحب دهرا خانني بفراقها؟ ... معاذ إلهي أن أكون بها برا

ثم أقبل علي فقال: هذه ابنة عمي كانت من أحب الناس إلي، فمنعني أبوها أن أتزوجها، فزوجها رجلا من أهل هذه الأبيات، فخرجت من مالي كله ورضيت بالمقام ههنا على ما ترى، فكانت إذا وجدت خلوة أو غفلة من زوجها أتتني، فحدثتني وحدثتها، كما رأيت ليس شيء غيره، وقد آليت على نفسي أن لا أعيش بعدها، فأسألك بالحرمة التي جرت بيني وبينك، إذا أنا مت فلففني وإياها في هذا الثوب، وادفنا في مكاننا هذا، وأكتب على قبرنا هذا الشعر:

كنا على ظهرها والدهر في مهل، ... والعيش يجمعنا والدار والوطن

ففرق الدهر بالتصريف ألفتنا، ... فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن

ثم اتكأ على سيفه، فخرج من ظهره فسقط ميتا، فلففتهما في الثوب وحفرت لهما، فدفنتهما في قبر واحد وكتبت عليه كما أمرني.

في الدنيا وفي الآخرة

قال ابن المرزبان: وحدثني سعيد بن يحيى القرشي، حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحق عن أبيه عن أشياخ من الأنصار قالوا: أتي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أحد بعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح قتيلين، فقال: ادفنوهما في قبر واحد، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا.

مات على الجبل

قال وذكر أبو الحسن المدايني عن محمد بن صالح الثقفي: أن بعض الأعراب عشق جارية من حيه، فكان يتحدث إليها، فلما علم أهلها بمكانه ومجلسه منها، تحملوا بها، فتبعهم ينظر إليهم، ففطن به، فلما علم أنه قد فطن به انصرف، وهو يقول:

بان الخليط فأوجعوا قلبي، ... حسبي بما قد أورثوا حسبي

إن تكتبوا نكتب، وإن لا يكن ... يأتيكم بمكانكم كتبي

جد الرحيل، فبان ما بيننا، ... لا شك أني منقض نحبي

قال: ثم وقف على جبل ينظر إليهم ماضين، فلما غابوا عن عينه خر ميتا.

ليلى الغريبة

ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه أن أبا بكر محمد بن خلف حدثهم: أخبرني عبد الله بن أبي عبد الله القرشي قال: وجدت في كتاب بعض أهل العلم أن الهيثم بن عدي حدثهم عن رجل من بني نهد قال: كان رجل منا يقال له: مرة تزوج ابنة عم له جميلة يقال لها: ليلى، وكان مستهاما بها، فضرب عليه البعث إلى خراسان فكره فراقها، واشتد عليه، ولم يجد من ذلك بدا، فقال لها: أكره أن أخلفك، وقلبي متعب بك. قالت: اصنع ما شئت، فمر براذان، وبها رجل من قومه، له شرف وسؤدد، فذكر حاله، وأمر امرأته، وقال: اخلفها عند عيالك وأهلك حتى أقدم، قال: نعم! فأخلوا لها منزلا، فقرأ، ثم تعجل، فلما صار براذان، جلس قريبا من القصر الذي كانت فيه امرأته، حتى يمسي، وكره أن يدخل نهارا. فخرجت جارية من القصر، فقال لها: ما فعلت المرأة التي خلفتها عندكم؟ قالت: أما ترى ذلك القبر الجديد؟ قال: بلى! قالت: فإن ذلك قبرها، فلم يصدق حتى خرجت أخرى، فسألها، فقالت له مثل ذلك، فأتى القبر، فجعل يبكي ويتمرغ عليه، ويرثيها، فقال:

أيا قبر ليلى! لو شهدناك أعولت ... عليها نساء من فصيح ومن عجم

ويا قبر ليلى! ما تضمنت مثلها ... شبيها لليلى في عفاف وفي كرم

ويا قبر ليلى! أكرمن محلها، ... تكن لك ما عشنا علينا بها نعم

ويا قبر ليلى، إن ليلى غريبة، ... براذان لم يشهدك خال ولا ابن عم

يسائلني عن علتي وهو علتي

أخبرنا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن أبي عثمان فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا محمد بن هارون المقري، حدثنا سعيد بن عبد الله بن راشد قال: علقت فتاة من العرب فتى من قومها، وكان الفتى عاقلا فاضلا، فجعلت تكثر التردد إليه، تسأله عن أمور النساء، وما في قلبها إلا النظر إليه واستماع كلامه، فلما طال ذلك عليها، مرضت وتغيرت، واحتالت في أن خلا لها وجهه وقتا، فتعرضت له ببعض الأمر، فصرفها، ودفعها عنه، فتزايد بها المرض، حتى سقطت على الفراش، فقالت له أمه: إن فلانة قد مرضت، ولها علينا حق. قال: فعوديها، وقولي لها: يقول لك ما خبرك؟ فصارت إليها أمه، فقالت لها: ما بك؟ قالت: وجع في فؤادي هو أصل علتي، قالت: فإن ابني يقول لك ما علتك؟ فتنفست الصعداء، وقالت:

يسائلني عن علتي وهو علتي، ... عجيب من الأنباء جاء به الخبر

فانصرفت أمه إليه، فأخبرته، وقالت له: قد كنت أحب أن نسألها المصير إلينا لنقضي حقها ونلي خدمتها، قال: فسليها ذلك. قالت: قد أردت أن أفعله ولكن أحببت أن يكون عن رأيك. فمضت إليها، فذكرت لها ذلك عنه، فبكت وقبلت، ثم أنشأت تقول:

يباعدني عن قربه ولقائه، ... فلما أذاب الجسم مني تعطفا

فلست بآت موضعا فيه قاتلي، ... كفاني سقاما أن أموت كذا كفى

فألحت عليها؛ فأبت. وترامت العلة بها، وتزايد المرض حتى ماتت.

أين الشفاء من السقم

أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي إن لم يكن سماعا فإجازة، أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا محمد بن المرزبان:

شكوت إلى رفيقي الذي بي، ... فجاءاني وقد جمعا دواء

وجاءا بالطبيب ليكوياني، ... ولا أبغي، عدمتهما، اكتواء

ولو ذهبا إلى من لا أسمي، ... لأهدى لي من السقم الشفاء

قوت النفس

وبالإسناد: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري لأحمد بن يحيى:

إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها

ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش لدى ديمومة النبت حوتها

المتصبر الجاهد

قال وزادنا أبو الحسن بن البراء:

أغرك أني قد تصبرت جاهدا، ... وفي النفس مني منك ما سيميتها

فلو كان ما بي بالصخور لهدها، ... وبالريح ما هبت وطال سكوتها

فصبرا لعل الله يجمع بيننا، ... فأشكو هموما منك كنت لقيتها

على قبر ابن سريج

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن في ما أذن لنا أن نرويه عنه، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثني هارون بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب، حدثني إسحق بن يعقوب مولى آل عثمان عن أبيه قال: إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح صبح خامسة من التهانئ إذ دريت برجل على راحلة؛ ومعه إداوة جميلة قد جنب إليها فرسا وبغلا، فوقفا علي، فسألاني، فانتسبت لهما عثمانيا، فنزلا، وقالا: رجلان من أهلك، قد نابتنا إليك حاجة، نحب أن تقضيها قبل الشدة، بأمر الحاج، قلت: فما حاجتكما؟ فالا: نريد إنسانا يوقفنا على قبر عبيد بن سريج. قال: فنهضت معهما، حتى بلغت بهما محلة ابن أبي قارة من خزاعة، بمكة، وهم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنسانا يصحبهما، حتى يوقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل، فأنهضته معهما، فأخبرني ابن أبي دباكل أنه لما وقفهما على قبره، نزل أحدهما عن راحلته، وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم عقرها واندفع يغني غناء الركبان بصوت طليل حسن:

وقفنا على قبر بدسم، فهاجنا، ... وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب

فجالت بأرجاء الجفون سوافح ... من الدمع تستبكي الذي تتعقب

فإن تنفدا عن ساحة عبيدا بعولة، ... وقل له منا البكى والتحوب

فلما أتى عليها نزل صاحبه، فعقر ناقته، وهو رجل من جذام، يقال له عبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنى عند الخلوات:

فارقوني وقد علمت يقينا، ... ما لمن ذاق ميتة من إياب

إن أهل الحصاب قد تركوني ... مودعا مولعا بأهل الحصاب

أهل بيت تتابعوا للمنايا، ... ما على الدهر بعدهم من عتاب

سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى الشعب من صفي الشباب

كم بذاك الحجون من حي صدق ... من كهول أعفة وشباب

قال ابن أبي دباكل: فوالله ما أتم منها ثالثا، حتى غشي على صاحبه، ومضى غير معرج عليه، حتى إذا فرغ جعل ينضح الماء في وجهه، ويقول: أنت أبدا منصوب على نفسك من كلفات ما ترى، فلما أفاق قرب إليه الفرس، فلما علاه استخرج الجذامي من خرج على البغل قدحا، وإداوة، فجعل في القدح ترابا من تراب القبر، وصب عليه ماء، ثم قال: هاك! فاشرب، هذه السلوة، فشرب، ثم جعل الجذامي مثل ذلك لنفسه، ثم نزل على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله ما يعرجان ولا يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما مما كنت أرى قبل شيئا. قال: فلما اشتمل علينا أبطح مكة مد يده إلي بشيء، وإذا عشرون دينارا، فوالله ما جلست حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداة الراحلتين، فبعتهما بثلاثين دينارا.

قاتل الله الأعرابي ما أبصره!

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن شاهين، رحمه الله تعالى، حدثنا أبي، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كنت في الشباب إذا أصابتني مصيبة تجلدت، ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابيا بالكناسة، واقفا على نجيب، وهو ينشد:

خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل

لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل

فسألت عنه، فقيل: ذو الرمة، فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي، وأجد لذلك راحة، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره!

لسان كتوم ودمع نموم

أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، سمعت أحمد بن محمد بن عروة يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: كان الجنيد يقول:

لساني كتوم لأسراركم، ... ودمعي نموم لسري مذيع

ولولا دموعي كتمت الهوى، ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع

الشعر حسن وقبيح

ومما وجدته بغير سند في مجموعات بعض أهل العلم قال: وقف شيخ من العرب على مسعر بن كدام، وهو يصلي، فأطال، فلما فرغ قال له الأعرابي: خذ من الصلاة كفيلا! فتبسم وقال له: يا شيخ! خذ فيما يجدي عليك. كم تعد من سنيك؟ قال: مائة وبضع عشرة سنة. فقال له: في بعضها ما يكفي واعظا فاعمل لنفسك، فأنشأ الأعرابي يقول:

أحب اللواتي هن من ورق الصبى ... وفيهن عن أزواجهن طماح

مسرات بغض مظهرات مودة، ... تراهن كالمرضى، وهن صحاح

فقال له مسعر: أف لك من شيخ! فقال: والله ما بأخيك حراك منذ أربعين سنة، لكنه بحر يجيش من زبده، فضحك مسعر وقال: إن الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبحه قبيح.

عديني وامطلي

أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:

أذات الطوق لم أقرضك قلبي، ... على ضني به، ليضيع ديني

سكنت القلب حين خلقت منه، ... فأنت من الحشا والناظرين

أحبك أن لونك لون قلبي، ... وإن ألبست لونا غير لوني

عديني وامطلي، أبدا، فحسبي ... وصالا أن أراك وأن تريني

البين صعب على الأحباب

وأخبرنا القاضي، أنشدنا الثقة بحضرة المرتضى:

قالت، وقد نالها للبين أوجعه، ... والبين صعب على الأحباب موقعه

اشدد يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه مما به لو كان ينفعه

اعطف علي المطايا ساعة فعسى ... من كان شتت شمل البين يجمعه

كأنني، يوم ولوا ساعة بمنى، ... غريق بحر رأى شطا ويمنعه

قتلها الجوى

ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، أخبرني أبو العلاء القيسي، حدثنا أبو عبد الرحمن العائشي، أخبرني أبو منيع عبد لآل الحارث بن عبيد قال: رأيت شيخا من كلب قاعدا على رأس هضبة، فملت إليه، فإذا هو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: رحمة لجارية منا كانت تحب ابن عم لها، وكان أهلها بأعلى واد بكلب، فتزوجها رجل من أهل الكوفة، فنقلها إلى الكوفة، فقتلها الجوى وبلغ منها الشوق، فأوت في علية لها، فتغنت بهذا الشعر:

لعمري لئن أشرفت أطول ما أرى ... وكلفت عيني منظرا متعاديا

وقلت: زياد مؤنسي متهلل، ... أم الشوق يدني منه ما ليس دانيا

وقلت لبطن الجن حين لقيته: ... سقى الله أعلال السحاب الغواديا

ثم قبضت مكانها.

غراب البين ناقة أو جمل

أخبرنا أبو إسحق الحبال في ما أذن لنا في روايته، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، حدثنا أبو الفتح بن سنحت، حدثنا أبو عبد الله الحكيمي: أنشدني عون عن أبيه لأبي الشيص:

ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل

والناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا

وما غراب البين إل ... لا ناقة أو جمل

الدنو الفاضح

وبإسناده قال: وأنشدنا لنفسه:

الله يعلم ما أردت بهجركم ... إلا مساترة العدو الكاشح

وعلمت أن تستري وتباعدي ... أدنى لوصلك من دنو فاضح

الحراث الشاعر

أنبأنا أبو بكر الخطيب، إن لم يكن حدثنا، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد بن إبراهيم قراءة عليه، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسن الرازي، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الكوكبي الكاتب، حدثنا أبو العباس المبرد قال: قال لي الجاحظ: أنشدني أكار بالمصيصة لنفسه:

حصد الصدود وصالنا بمناجل، ... طبع المناجل من حديد البين

ديس الحصاد، وذريت أكداسه، ... بعد الحصاد، بسافيات المين

فالشوق يطحنه بأرحية الهوى، ... والهم يعجنه بدمع العين

والحزن يخبزه بنيران الهوى، ... والهجر يأكله بلون لون

لم يطل ليلي

وبإسناده أنشدنا أبو علي لبشار:

لم يطل ليلي، ولكن لم أنم، ... ونفى عني الكرى طيف ألم

ختم الحب لها في عنقي، ... موضع الخاتم من أهل الذمم

إن في ثوبي جسما ناحلا ... لو توكأت عليه لانهدم

عقوبة الغراب

أخبرنا أبو إسحق الحبال، رحمه الله تعالى، فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن محمد بن رحيم، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زوزان، حدثنا أبو زيد، أخبرنا إبراهيم بن الأزهر عن عبد الله بن محمد قال:

مررت في بعض سكك البصرة فسمعت استغاثة جارية تضرب، فتيممت الأبواب حتى وقفت على الباب الذي يخرج منه الصوت، فقلت: يا أهل الدار! أما تتقون الله؟ علام تضربون جاريتكم؟ فقيل لي: ادخل. فدخلت، فإذا أمرأة كأن عنقها إبريق فضة، جالسة على منصة، وبين يديها غراب مشدود، وفي يدها عصا تضربه بها. قال: فكلما ضربت الغراب صاحت الجارية، فقلت: ما شأن هذا الغراب؟ فقالت لي: أما سمعت قول قيس بن ذريح حيث يقول:

ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من ليلى فهل أنت واقع

ألا وقع كما أمره؟ فقلت: إن هذا الغراب ليس هو ذاك الغراب. فقالت: نأخذ البريء بالسقيم حتى نظفر بحاجتنا.

موت عروة بن حزام

حدث أبو القاسم منصور بن جعفر بن محمد الصيرفي، حدثنا عبد الله بن جعفر عن المبرد، أخبرني مسعود بن بشر الأنصاري قال: وليت صدقات عذرة، فصرت إلى بلدهم، فإذا بشيء يختلج تحت ثوب، فأقبلت، فكشفت عنه، فإذا رجل لا يرى إلا رأسه، فقلت: ويحك! ما بك؟ فقال:

كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان

جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني

قال: ثم تنفس حتى ملأ ثوبه الذي كان فيه ثم خمد، فنظرت فإذا هو قد مات. فلم أرم حتى أصلحت من شأنه، وصليت عليه، فقال لي رجل: أتدري من هذا؟ قلت: لا! قال: هذا عروة بن حزام.

عيش غض وزمان مطاوع

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بدمشق، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: كنت عند ثعلب جالسا، فجاءه محمد بن داود الأصبهاني، فقال له: أهاهنا شيء من صبوتك؟ فأنشده:

سقى الله أياما لنا ولياليا ... لهن بأكناف الشباب ملاعب

إذ العيش غض والزمان مطاوع ... وشاهد آفات المحبين غائب