فتوى في الحب

وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرني بعض أصحابنا قال: كتب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر بن داود الفقيه الأصبهاني:

يا ابن داود، يا فقيه العراق ... أفتنا في قواتل الأحداق

هل عليها القصاص في القتل يوما، ... أم حلال لها دم العشاق؟

فأجابه ابن داود:

عندي جواب مسائل العشاق، ... فاسمعه من قلق الحشا مشتاق

لما سألت عن الهوى أهل الهوى ... أجريت دمعا لم يكن بالراقي

أخطأت في نفس السؤال، وإن تصب ... بك في الهوى شفقا من الأشفاق

لو أن معشوقا يعذب عاشقا، ... كان المعذب أنعم العشاق

أبو العتاهية يعاتب عتبة

أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله تعالى، إجازة، حدثنا الشريف أبو الفضل بن المأمون، حدثنا أبو بكر بن الانباري، أنشدنا محمد بن المرزبان: أنشدني الحسن بن صالح الأسدي لأبي العتاهية:

سبحان جبار السماء ... إن المحب لفي عناء

من لم يذق حرق الهوى، ... لم يدر ما جهد البلاء

لو كنت أحسب عبرتي ... لوجدتها أنهار ماء

كم من صديق لي أسا ... رقه البكاء من الحياء

فإذا تفطن لامني، ... فأقول: ما بي من بكاء

لكن ذهبت لأرتدي، ... فأصبت عيني بالرداء

حتى أشككه، فيس ... كت عن ملامي والمراء

يا عتب! من لم يبك لي ... مما لقيت من الشقاء

بكت الوحوش لرحمتي، ... والطير في جو السماء

والجن عمار البيو ... ت، بكوا، وسكان الهواء

والناس، فضلا عنهم، ... لم تبك إلا بالدماء

يا عتب! إنك لو شهد ... ت علي ولولة النساء

وموجها مسترسلا ... بين الأحبة للقضاء

لجزيتني غير الذي ... قد كان منك من الجزاء

أفما شبعت، ولا روي ... ت من القطيعة والجفاء

لم تبخلين على فتى ... محض المودة والصفاء؟

وفيها أبيات اختصرتها.

يا حبذا بلدا حلته

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن شاهين، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه يعني الأصمعي لنائل ابن أبي حليمة أحد بني بزوان من بني أسد:

إني أرقت، وساري الليل قد هجدا، ... والنجم ينهض في مرقاته صعدا

وما أرقت بحمد الله من وصب ... وما شكوت وربي منعم أبدا

طافت طوائف من ذكراك عاتية، ... مخالط حبها الأحشاء والكبدا

ما تأمرين بكهل قد عرضت له، ... والله ما وجد النهدي ما وجدا

أما الفؤاد فأمسى مقصدا كمدا، ... من أجل من لا تداني داره أبدا

من أجل جارية إني أكاتمها ... حتى أموت، ولم أخبر بها أحدا

من يموت ولم يخبر بقاتله ... فلا إخال له عقلا، ولا قودا

وهاجني صرد في فرع غرقدة؛ ... إنا إلى ربنا، ما أشأم الصردا

ما زال ينتف ريشا من قوادمه، ... ويرجف الريش حتى قلت قد سجدا

تحقق البين من لبنى وجارتها، ... يا برح عيني إن كان الفراق غدا

تمشي الهوينا إلى الأتراب إن فعلت ... عوم الغدير زهته الريح فاطردا

تجلو بأخضر من نعمان يصحبه ... قبل الشراب بكف رخصة بردا

يضمن المسك والكافور ذا غدر ... مثل الأساود لا سبطا ولا قددا

حلت بأطيب نجد نهره، علمت، ... يا حبذا بلدا حلت به بلدا

قتيلهن شهيد

ووجدت على ظهر جزء بن شاهين هذين البيتين:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة، ... وأي جهاد غيركن أريد

لكل حديث عندكن بشاشة، ... وكل قتيل بينكن شهيد

عاشق لي أو لمن؟

أنبأنا الرئيس أبو علي محمد بن وشاح الكاتب، أخبرنا المعافى بن زكريا الجريري إجازة، حدثنا محمد بن محمد بن يحيى الصولي، حدثنا عون بن محمد الكندي قال: خرجت مع محمد بن أبي أمية إلى ناحية الجسر ببغداد، فرأى فتى من ولاد الكتاب جميلا، فمازحه، فغضب وهدده، فطلب من غلامه دواته وكتب من وقته:

دون باب الجسر دار لفتى، ... لا أسميه ومن شاء فطن

قال كالمازح، واستعلمني: ... أنت صب عاشق لي، أو لمن؟

قلت: سل قلبك يخبرك به، ... فتحايا بعدما كان محن

حسن ذاك الوجه لا يسلمني، ... أبدا منه، إلى غير حسن

ثم دفع الرقعة إليه، فاعتذر وحلف أنه لم يعرفه.

أبو العتاهية وعتبة

أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله تعالى، إجازة إن لم يكن سماعا، حدثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني محمد بن المرزبان، حدثني إسحق بن محمد، حدثنا محمد بن سلام قال:

قدم أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وهو خامل الذكر، لا يعرف، فمدح المهدي بشعر، فلم يجد من يوصله إليه، فكان يطلب سببا يشتهر به، ويعرف من جهته، فيوصله إلى المهدي، فاجتازت به يوما عتبة راكبة مع عدة من جواريها وحشمها، فكلمها واستوقفها، فلم تكلمه، لم تقف عليه، وأمرت غلمانها بتنحيته، فأنشأ يقول:

يا عتب! ما شاني وما شانك، ... ترفقي، ستي، بسلطانك

أخذت قلبي هكذا عنوة ... ثم شددتيه بأشطانك

الله في قتل فتى مسلم ... ما نقض العهد وما خانك

حرمتني منك دنوا، فيا ... ويلي، ما لي ولحرمانك

يا جنة الفردوس جودي، فقد ... طابت ثناياك وأردانك

البيت يعرفهن لو يتكلم

وبإسناده: أنشدني أبي وأبو الحسن بن البر لعمر بن بي ربيعة:

لبثوا ثلاث منى بمنزل قلعة، ... فهم على عرض، لعمرك ما هم

متجاورين بغير دار إقامة، ... لو قد أجد ترحل لم يندموا

ولهن بالبيت العتيق لبانة، ... والبيت يعرفهن لو يتكلم

لو كان حيا قبلهن ظعائنا، ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم

لكنه مما يطيف بركنه، ... منهن، صماء الصدى مستعجم

وكأنهن، وقد صدرن عشية، ... در بأكناف الحطيم منظم

الحب لا يعلق إلا الكرام

أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي فيما أجاز لنا، حدثنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل الهاشمي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن أبي أيوب: اجتمع أبو نواس والعباس بن الأحنف، فاستنشد أبو نواس العباس، فأنشده:

حب الحجازية أبلى العظام، ... والحب لا يعلق إلا الكرام

سيدتي، سيدتي! إنه ... ليس لما بالعاشقين اكتتام

سيدتي، سيدتي! إنني ... أعجز عن حمل البلايا العظام

سيدتي، سيدتي! فاسمعي ... دعوة صب عاشق مستهام

ومر في أبيات كثيرة أول كل بيت سيدتي سيدتي، فقال له أبو نواس: لقد خضعت لهذه المرأة خضوعا، ظننت معه أنك تموت قبل تمام القصيدة.

يزيد بن معاوية وعمارة المغنية

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري إن لم يكن سماعا فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم عن أبي بكر العجلي عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها عمارة، وكان يجد بها وجدا شديدا، وكان لها نمه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد، ذات يوم، فأخرجها إليه، فلما نظر إليها، وسمع غناءها، وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت؛ وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبدا، وليس يغني في هذا إلا الحيلة، فقال: انظروا لي رجلا عراقيا له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه، فأتوه به، فلما دخل رأى بيانا وحلاوة وفهما، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك آخر الدهر ويد أكافئك عليها إن شاء الله تعالى؛ ثم أخبره بأمره، فقال له: عبد الله بن جعفر ليس يرام ما في قلبه إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت، فأرجو أن أكونه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت.

فأخذ من طرف الشام وثياب مصر، واشترى متاعا للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلا إلى جانبه، ثم توسل إليه وقال: إني رجل من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه أن أكرم الرجل، ووسع عليه في نزوله.

فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياما وعرفه نفسه، وهيأ له بغلة فارهة، وثيابا من ثياب العراق وألطافا، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي! إني رجل تاجر، ونعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من تحف وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان، وطيئة الظهر، فاتخذها لرجلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا قبلت هديتي ولم توحشني بردها، إني أدين الله تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك.

فأمر عبد الله بقبض هديته، وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه، وقبل يده، واستكثر منه، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف تطرفه، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيرا، فقد ملأنا شكرا، وما نقدر على مكافأته.

فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس، وسمع غناء عمارة، تعجب، وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له: هل رأيت مثل عمارة! قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة؟ قال: تقول هذا لتزين لي رأيا فيها وتجتلب سروري؟ قال له: يا سيدي، والله، إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدراهم إلى الدرهم، طلبا للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها. فقال له عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم! ولم يكن في لك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف. قال: قد أخذتها. قال: هي لك، قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي.

فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد جيء به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار، وقال: هذا ثمن عمارة، فردها، وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال له: جعلت فداءك! إن الجد والهزل في البيع سواء. فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جارية تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك، ولكني كنت مازحا، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي. فقال العراقي: إن كنت مازحا، فإني كنت جادا، وما اطلعت على ما في نفسك وقد ملكت الجارية، وبعثت إليك بثمنها، وليس تحل لك، وما لي من أخذها من بد. فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنبره.

فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق، ولا نزل بنا نازل أعظم بلية منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره وألجأه إلى أن استحلفه؟ أما والله ليعلمن الله، عز وجل، أني سأبليه، في هذا الأمر، الصبر وحسن العزاء.

ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه، وبتجهيز الجارية بما يشبهها من الخدم والثياب والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضها مما ألطفتنا، والله المستعان.

فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة! إني، والله، ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري دارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له وفي طلبك بعث بي فاستتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك، أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.

ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أياما، ثم تلطف للدخول عليه، فشرح له القصة، ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك، فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.

فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد، وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه، فاستتري مني.

ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريبا من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع، وقد نزل العرصة، لا حياه الله، فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه.

فلما استقر بعث إلى عبد الله: جعلت فداءك! إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء فعلت. فأذن له، فلما دخل سلم عليه، وقبل يده، فقربه عبد الله، ثم اقتص عليه القصة، حتى إذا فرغ قال: قد والله وهبتها لك قبل أن أراها، وأضع يدي عليها، فهي لك، ومردودة عليك. وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجها إلا عندك. فبعث إليها، فجاءت وجاء بما جهزها به موفرا، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشيا عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه.

وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول، ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا؟ ما أصدق بهذا. فقال له العراقي: جعلت فداءك! قد ردها عليك إيثارك الوفاء وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني تصبرت عنها، وآثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، فلك الحمد! ثم قال: يا أخا العراق ما في الأرض أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى.

وأقام العراقي أياما، وباع عبد الله غنما له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: اعذر، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه، فرحل العراقي محمودا وافر العرض والمال.

سكينة وعروة بن أذينة

وأخبرنا محمد، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا محمد بن يحيى النحوي، حدثنا عبيد الله بن شبيب عن عمر بن عثمان قال: مرت سكينة بعروة بن أذينة، وكان تنسك، فقالت له: يا أبا عامر! ألست القائل:

إذا وجدت أذى للحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

هبني ابتردت ببرد الماء ظاهره، ... فمن لنار على الأحشاء تتقد

أو لست القائل:

قالت، وأبثثتها سري فبحت به: ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك، وما ألقى، على بصري

ثم قالت: هؤلاء أحرار إن كان هذا خرج من قلب سليم.

رقية حميرية

وجدت بخط شيخي أبي عبد الله الحسين بن الحسن الأنماطي في مجموع له بخطه قال: وحكى بعضهم عن شيخ من أهل اليمن أنه وجد في كتاب بالمسند، وهي لغة حمير، كلاما كانت حمير ترقي به العاشق، فيسلو. وهو:

ما أحسنت سلمى إليك صنيعا، ... تركت فؤادك بالفراق مروعا

قال: فحدثت بهذا الحديث كاهنة كانت هناك، فلما كان من غد ذلك اليوم، لقيتني فقالت: إني رأيت البارحة الشعر يحتاج أن يقلب كلامه وحروفه، حتى يسلو به العاشق. قلت: فكيف يقلب كلامه؟ قالت: يقول مروعا بالفراق فؤادك تركت صنيعا إليك سلمى. أحسنت ما.

أمثل هذا يبتغي وصلنا؟

أخبرنا أحمد بن علي الوراق بصور، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسين بن أحمد التغلبي بدمشق، حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن نصر، حدثنا الزجاجي، حدثنا الأخفش، حدثني أبي عن أبيه قال: خرجت إلى سر من رأى في بعض حاجاتي فصحبني رجل في الطريق، فقال: ألا أنشدك شيئا من شعري؟ قلت: بلى، فأنشدني:

ويلي على ساكن شط الصراه، ... مرر حبيه علي الحياه

ما ينقضي من عجب فكرتي، ... في خلة قصر فيها الولاه

ترك المحبين بلا حاكم، ... لم ينصبوا للعاشقين القضاه

أما، ومن أصبحت عبدا له، ... ومن له في كل أفق رعاه

لو أنني ملكت أمر الهوى، ... ملأت بالضرب ظهور الوشاه

حتى إذا قطعت أبشارهم، ... قعدءت أقضي للفتى بالفتاه

لقد أتاني عجب راعني ... مقالها للقوم: يا ضيعتاه

أمثل هذا يبتغي وصلنا؟ ... أما يرى ذا وجهه في المراه؟

فقلت: من أنت؟ قال: أنا القصافي الشاعر.

الأخوات الثلاث وكتابهن

أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثني الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أبي خيثمة، أخبرنا الزبير بن بكار، حدثني مصعب عمي قال: ذكر لي رجل من أهل المدينة أن رجلا خرج حاجا، فنزل تحت سرحة في بعض الطريق، بين مكة والمدينة، فنظر إلى كتاب معلق على السرحة فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الحاج القاصد بيت الله تعالى! إن ثلاث أخوات خلون يوما فبحن بأهوائهن، وذكرن أشجانهن، فقالت الكبرى:

عجبت له إذ زار في النوم مضجعي، ... ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

وقالت الوسطى:

وما زارني في النوم إلا خياله، ... فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا

وقالت الصغرى:

بنفسي وأهلي من أرى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك أطيبا

وفي اسفل الكتاب مكتوب: رحم الله امرأ نظر في كتابنا، وقضى بالحق بيننا، ولم يجر في القضية.

قال: فأخذ الكتاب فتى، فكتب في أسفله:

أحدث عن حور تحدثن مرة، ... حديث امرئ ساس الأمور وجربا

ثلاث كبكرات الهجان عطابل، ... نواعم يغلبن اللبيب المشببا

خلون، وقد غابت عيون كثيرة، ... من اللاء قد يهوين أن يتغيبا

فبحن بما يخفين من لاعج الهوى، ... معا، واتخذن الشعر ملهى وملعبا

عجبت له إذ زار في النوم مضجعي، ... ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

عمر وجميل وبثينة

أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، حدثنا أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله القرشي قال: خرج عمر بن أبي ربيعة إلى الجباب، حتى إذا كان بالجباب لقيه جميل بن معمر، فاستنشده عمر بن أبي ربيعة، فأنشده كلمته التي يقول فيها:

خليلي في ما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي

ثم استنشده جميل، فأنشده قافيته التي أولها:

عرفت مصيف الحي والمتربعا

حتى بلغ إلى قوله:

وقربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعا قسن إصبعا

فصاح جميل واستحيا، وقال: لا والله ما أحسن أن أقول مثل هذا. فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة لنتحدث عندها؟ فقال له: إن الأمير قد أهدر دمي متى جئتها، قال: دلني علي أبياتها؟! فدله، ومضى حتى وقف على الأبيات، وتأنس، وتعرف، ثم قال: يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعلمي بثينة مكاني! فأعلمتها، فخرجت إليه فقالت: لا والله يا عمر! ما أنا من نسائك اللاتي تزعم أن قد قتلهن الوجد بك. قال: وإذا امرأة طوالة أدماء حسناء، فقال لها عمر: فأين قول جميل:

وهما قالتا: لو أن جميلا ... عرض اليوم نظرة فرآنا

نظرت نحو تربها ثم قالت: ... قد أتانا، وما علمنا، منانا

بينما ذاك منهما رأتاني ... أعمل النص سيرة زفيانا

فقالت له: لو استمد جميل منك ما أفلح، وقد قيل: اشدد البعير مع الفرس إن تعلم جرأته وإلا تعلم من خلقه.

العجوز وبنتها الجميلة

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد بن سويد المعدل، حدثنا علي أبو الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو أمية الغلابي، أخبرني محمد بن أفلح السدوسي، أخبرني سوادة بن الحسين قال: خرجت أنا وصاحب لي نبغي ضالة لنا، فألجأنا الحر إلى أخبية، فدنونا من خباء منها، فإذا عجوز بفنائه، فسلمنا، فردت السلام، ثم جلسنا نتناشد الأشعار. فقالت العجوز: هل فيكم من يروي لذي الرمة شيئا؟ قلنا: نعم! قالت: قاتله الله حيث يقول:

وما زال ينمي حب مية عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما يزيدها

ثم ولت، واطلعت علينا من الخباء بهكنة كأنها شقة قمر، فقالت: إنها والله ما قالت شيئا وإن أشعر منه الذي يقول:

ورخصة الأطراف ممكورة ... تحسبها من حسنها لؤلؤه

كأنها بيضة أدحية، ... أرخى عليها هقلها جؤجؤه

قال: فأقبلت على صاحبي متعحبا من حالها، فقالت: مم تعجب؟ فقلت: من جمالك. قالت: فوالله لو رأيت بنية لي رأيت ما لم يخطر على قلبك من حسن امرأة. قلت: فأرينيها! قالت: إنه يقبح ذلك. قلت: إنما نريد أن نستتم الحديث، ولعلنا أن لا نلتقي أبدا.

قال: فأشارت إلى جانب الخباء، فسفرت منه جارية كأنها الشمس، فبهتنا ننظر إليها ثم أسبلت الستر، فكان آخر العهد بها.

أحيا الناس جميعا

أنبأنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا أبو الحسين محمد ابن أخي ميمي، حدثنا جعفر الخالدي، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا محمد الحسين البرجلاني، حدثني أشرس بن النعمان، حدثني الجزري، حدثني موسى بن علقمة المكي قال: كان عندنا ههنا بمكة نخاس، وكانت له جارية، وكان يوصف من جمالها وكمالها أمر عجيب، وكان يخرجها أيام الموسم، فتبذل فيها الرغائب، فيمتنع من بيعها، ويطلب الزيادة في ثمنها، فما زال كذلك حينا، وتسامع بها أهل الأمصار، فكانوا يحجون عمدا للنظر إليها.

قال: وكان عندنا فتى من النساك قد نزع إلينا من بلده، وكان مجاورا عندنا، فرأى الجارية يوما، في أيام العرض لها، فوقعت في نفسه، وكان يجيء أيام العرض، فينظر إليها، وينصرف. فلما حجبت أحزنه ذلك، وأمرضه مرضا شديدا، فجعل يذوب جسمه، وينحل، واعتزل الناس، فكان يقاسي البلاء طول السنة إلى أيام الموسم، فإذا خرجت الجارية إلى العرض خرج فنظر إليها فسكن ما به، حتى تحجب. فبقي على ذلك سنين، ينحل ويذبل، وصار الخلال من شدة الوله وطول السقم. قال: فدخلت عليه يوما، ولم أزل به، وألح عليه، إلى أن حدثني بحديثه، وما يقاسيه، وسأل أن لا أذيع عليه ذلك، ولا يسمع به أحد، فرحمته لما يقاسي، وما صار إليه، فدخلت إلى مولى الجارية، ولم أزل أحادثه، إلى أن خرجت إليه بحديث الفتى، وما يقاسي، وما صار إليه، وأنه على حالة الموت، فقال: قم بنا إليه حتى أشاهده وأنظر حاله.

فقمنا جميعا فدخلنا عليه، فلما دخل مولى الجارية ورآه وشاهده، وشاهد ما هو عليه لم يتمالك أن رجع إلى داره، فأخرج ثيابا حسنة سرية، وقال: أصلحوا فلانة، ولبسوها هذه الثياب، واصنعوا بها ما تصنعون لها أيام الموسم، ففعلوا بها ذلك، فأخذ بيدها، وأخرجها إلى السوق، ونادى في الناس، فاجتمعوا، فقال: معاشر الناس! اشهدوا أني قد وهبت جاريتي فلانة لهذا وما عليها ابتغاء ما عند الله. ثم قال للفتى: تسلم هذه الجارية فهي هدية مني إليك بما عليها، فجعل الناس يعذلونه ويقولون: ويحك! ما صنعت؟ قد بذل لك فيها الرغائب، فلم تبعها، ووهبتها لهذا؟ فقال: إليكم عني، فإني قد أحييت كل من على وجه الأرض، قال الله تعالى: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " .

تضحية محمودة

حدثنا الخطيب بدمشق، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن يعقوب الضبي، سمعت أمي تقول، سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول:

صادفت من أبي عثمان خلوة، فاغتنمتها، فقلت: يا أبا عثمان! أي عملك أرجى عندك؟ فقال: يا مريم! لما ترعرعت، وأنا بالري، وكانوا يريدونني على التزويج، فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! قد أحببتك حبا ذهب بنومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب، وأتوسل إليك به أن تتزوج بي. قلت: ألك والد؟ قالت: نعم، فلان الخياط، في موضع كذا وكذا، فراسلت أباها أن يزوجها إياي، ففرح بذلك وأحضر الشهود، فتزوجت بها. فلما دخلت بها وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخلق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي.

فكان أهل بيتي يلومونني على ذلك، فأزيدها برا وإكراما، إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها، فتركت حضور المجلس إيثارا لرضاها، وحفظا لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدي لها شيئا من ذلك إلى أن ماتت، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي.

ابن داود وابن سريج والظهار

أخبرنا أبو بكر الخطيب، حدثنا التنوخي، حدثنا أبي، حدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن البختري القاضي الداودي، حدثني أبو الحسن عبد الله بن أحمد، حدثني أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد الداودي قال: كان أبو بكر محمد بن داود وأبو العباس بن سريج، إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر، يعني محمد بن يوسف، لم يجر بين اثنين في ما يتفاوضان أحسن مما يجري بينهما، وكان ابن سريج كثيرا ما يتقدم أبا بكر في الحضور إلى المجلس، فتقدمه في الحضور أبو بكر يوما، فسأله حدث من الشافعين عن العود الموجب للكفارة في الظهار ما هو؟ فقال: إنه إعادة القول ثانيا، وهو مذهبه، ومذهب داود، فطالبه بالدليل، فشرع فيه، ودخل ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى، فشرحوه، فقال ابن سريج لابن داود: أولا يا أبا بكر أعزك الله! هذا قول، من من المسلمين تقدمكم فيه؟ فاستشاط أبو بكر من ذلك، وقال: أتقدر أن من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة، إجماع عندي؟ أحسن أحوالهم أن أعدهم خلافا، وهيهات أن يكونوا كذلك. فغضب ابن سريج وقال له: أنت يا أبا بكر بكتاب الزهرة أمهر منك في هذه الطريقة. فقال أبو بكر: وبكتاب الزهرة تعيرني! والله ما تحسن تستتم قراءته قراءة من يفهم، وإنه من أحد المناقب إذ كنت أقول فيه:

أكرر في روض المحاسن مقلتي، ... وأمنع نفسي أن تنال المحرما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم، ... فما إن أرى حبا صحيحا مسلما

وينطق سري عن مترجم خاطري، ... فلولا اختلاس رده لتكلما

يكتب إلى روحه

أخبرنا الأزجي، حدثنا علي بن عبد الله: كتب الحسين بن منصور إلى أخبرنا بن عطاء: أطال الله لي حياتك، وأعدمني وفاتك، على ما أحسن ما جرى به قدر، أو نطق به خبر، مع ما أن لك في قلبي من لواعج أسرار محبتك، وأفانين ذخائر مودتك، ما لا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب، وفي ذلك أقول:

كتبت، ولم أكتب إليك، وإنما ... كتبت إلى روحي بغير كتاب

وذلك أن الروح لا فرق بينها ... وبين محبيها بفضل خطاب

فكل كتاب صادر منك وارد ... إليك، بلا رد الجواب، حوابي

الفتى الحاج والجارية المكية

وجدت بخط أبي عمر بن حيويه يقول: حدثنا أبو بكر محمد بن المرزبان، أخبرني أبو جعفر أحمد بن الحارث، حدثنا أبو الحسن المدايني عن بعض رجاله قال: حج ابن أبي العنبس الثقفي، فجاور، ومعه ابن ابنه، وإلى جانبهم قوم من آل أبي الحكم مجاورون، وكان الفتى يجلس مجلسا يشرف منه على جارية، فعشقها، فأرسل إليها، فأجابته، فكان يأتيها يتحدث إليها. فلما أراد جده الرحيل جعل الفتى يبكي، فقال له جده: ما يبكيك يا بني، لعلك ذكرت مصر؟ وكانوا من أهل مصر. فقال: نعم! وأنشأ يقول:

يسائلني، غداة البين، جدي، ... وقد بلت دموع العين نحري:

أمن جزع بكيت، ذكرت مصرا؟ ... فقلت: نعم! وما بي ذكر مصر

ولكن للتي خلفت خلفي، ... بكت عيني، وقل اليوم صبري

فمن ذا إن هلكت وحان يومي ... يخبر والدي دائي وأمري

فيحفظ أهل مكة في هوائي، ... وإن كانوا أتوا قتلي وضري

قال: وارتحلوا، فلما خرجوا عن أبيات مكة أنشأ يقول:

رحلوا، وكلهم يحن صبابة ... شوقا إلى مصر، وداري بالحرم

ليت الركاب، غداة حان فراقنا، ... كانت لحوما قسمت فوق الوضم

راحوا سراعا يعملون مطيهم ... قدما، وبت من الصبابة لم أنم

طوبى لهم يبغون قصد سبيلهم، ... والقلب مرتهن ببيت أبي الحكم

ثم إن الفتى اعتل، واشتدت علته، فلما وردوا أطراف الشام مات فدفنه جده، ووجد عليه وجدا شديدا، وقال يرثيه:

يا صاحب القبر الغريب ... بالشام من طرف الكثيب

بالشعب بين صفائح ... صم ترصف بالجنوب

ما إن سمعت أنينه، ... ونداءه عند المغيب

أقبلت أطلب طبه، ... والموت يعضل بالطبيب

والليل منسدل الدجى، ... وحش الجناب من الغروب

هاجت لذلك لوعة ... في الصدر ظاهرة الدبيب

عاشق أخت زوجته

ذكر أبو عمر محمد بن العباس، ونقلته من خطه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو بكر العامري، أخبرني رياح بن قطب بن زيد الأسدي ابن أخت قريبة أم البهلول ابنة أباق الدبيرية الأسدية أخت الركاض بن أباق الدبيري الشاعر عن قريبة قالت: كان لعبد المخبل وهو كعب بن مالك؛ وقال غير قريبة: هو كعب بن عبد الله من بني لأي بن شاس بن أنف الناقة وهو من أهل الحجاز؛ ابنة عم له يقال لها أم عمرو، وكانت أحب الناس إليه، فخلا بها ذات يوم، فنظر إليها وهي واضعة ثيابها فقال لها: يا أم عمرو! هل ترين أن أحدا من النساء أحسن منك؟ قالت: نعم! أختي ميلاء أحسن مني. قال: فكيف لي بأن ترينيها؟ قالت: إن علمت بك لم تخرج إليك. ولكن تختبئ في الستر، وأبعث إليها.

قال: ففعلت، وأرسلت إليها، وهو في الستر، وجاءت ميلاء، فلما نظر إليها عشقها وترك أختها امرأته، وعارضها من مكان لا تحتسبه، فشكا إليها حبها، وأعلمها أنه قد رآها. فقالت: والله يا ابن عم! ما وجدت بي من شيء، إلا قد وجدت منك مثله، وظنت أم عمرو امرأته أنه قد عشق أختها فتبعتهما، وهما لا يدريان، حتى رأتهما قاعدين جميعا، فمضت تقصد إخوتها، وكانوا سبعة، فقالت: إما أن تزوجوا كعبا ميلاء، وإما أن تغيبوها عني. فلما بلغه أن ذلك قد بلغ إخوتها هرب، فرمى بنفسه نحو الشام وترك الحجاز. وقال وهو بالشام:

أفي كل يوم أنت من بارح الهوى ... إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر

فروى هذا البيت رجل من أهل الشام. ثم خرج يريد مكة فمر على أم عمرو وأختها ميلاء، وقد ضل الطريق، فسلم عليهما، وسألهما عن الطريق. فقالت أم عمرو: يا ميلاء! صفي له الطريق، فذكر الرجل لما سمعها تقول يا ميلاء:

أفي كل يوم أنت من بارح الهوى ... إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر

فتمثل به فعرفت الشعر، فقالت: يا عبد الله! من أين أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الشام، فقالت: فمن أين رويت هذا الشعر؟ قال: رويته عن أعرابي بالشام. قالت: أو تدري ما اسمه؟ قال: اسمه كعب. قال: فأقسمتا عليه أن لا يبرح حتى يراك إخوتنا، فيكرموك، ويدلوك على الطريق، فقد أنعمت علينا. فقال: إني لأروي له شعرا آخر، فما أدري أتعرفانه أم لا؟ فقالتا: نسألك بالله إلا أسمعتنا إياه؟ قال: سمعته يقول:

خليلي! قد رزت الأمور وقستها، ... بنفسي وبالفتيان كل مكان

فلم أخف يوما للرفيق ولم أجد ... خليا ولا ذا البث يستويان

من الناس إنسانان، ديني عليهما، ... مليان لولا الناس قد قضياني

منوعان، ظلامان، ما ينصفانني، ... بدليهما والحسن قد خلباني

يطيلان حتى يحسب الناس أنني ... قضيت، ولا والله ما قضياني

خليلي، أما أم عمرو فمنهما، ... وأما عن الأخرى، فلا تسلاني

بلينا بهجران، ولم ير مثلنا ... من الناس إنسانان يهتجران

أشد مصافاة وأبعد من قلى، ... وأعصى لواش حين يكتنفان

يبين طرفانا الذي في نفوسنا، ... إذا استعجمت بالمنطق الشفتان

فوالله ما أدري أكل ذوي الهوى ... على شكلنا، أم نحن مبتليان

فلا تعجبا مما بي اليوم من هوى، ... ففي كل يوم مثل ما تريان

خليلي! عن أي الذي كان بيننا ... من الوصل أو ماضي الهوى تسلان

وكنا كريمي معشر حم بيننا ... هوى، فحفظناه بحسن صيان

نذود النفوس الحائمات عن الهوى ... وهن بأعناق إليه ثوان

سلاه بأم العمر منه، فقد برا ... به السقم لا يخفى وطول ضمان

فما زادنا بعد المدى نقض مرة، ... ولا رجعا من علمنا ببيان

خليلي! لا والله ما لي بالذي ... تريدان من هجر الصديق يدان

ولا لي بالهجر اعتلاء، إذا بدا ... كما أنتما بالبين معتليان

قال: فنزل الرجل وحط رحله حتى جاءت إخوتهما فأخبرتاهم الخبر، وكانتا مهتمتين بكعب، وذلك أنه كان ابن عمهم، وكان ظريفا شاعرا، فأكرموا الرجل ودلوه على الطريق، وخرجوا، فطلبوا كعبا بالشام، فوجدوه، فأقبلوا به، حتى إذا صار إلى بلدهم نزل كعب في بيت ناحية من الحي، فرأى ناسا قد اجتمعوا عند البيوت، فقال كعب لغلام قائم، وكان قد ترك بنيا له صغيرا: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي كعب. قال: فعلام يجتمع هذا الناس؟ وأحس فؤاد كعب بشر. قال: يجتمعون على خالتي ميلاء، ماتت الساعة. قال: فزفر زفرة حر منها ميتا، فدفن إلى جانب قبرها.

يقتل حبيبته وينتحر

ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، ونقلته من خطه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا العمري عن الهيثم عن ابن عياش ولقيط بن بكير قال: وحدثنا أحمد بن الحارث الخزاز، حدثنا أبو الحسن المدايني، حدثني هشام بن الكلبي عن أبي مسكين قال: خرج ناس من بني حنيفة يتنزهون فبصر فتى منهم بجارية فعشقها، فقال لأصحابه: انصرفوا حتى أقيم وأرسل إليها، فطلبوا إليه أن يكف، وأن ينصرف، فأبى، وانصرف القوم، وجعل يراسل الجارية حتى وقع في نفسها، فأقبل في ليلة إضحيان متقلدا قوسا، والجارية نائمة بين إخوتها، فأيقظها، فقالت: يا فاسق انصرف وإلا، والله أيقظت إخوتي، فقاموا إليك، فقتلوك، فقال: والله للموت أهون علي مما أنا فيه، ولكن أعطيني يدك أضعها على فؤادي وأنصرف، فأعطته يدها، فوضعها على فؤاده وصدره، ثم انصرف.

فلما كانت الليلة القابلة أتاها، وهي في مثل حالها، فأيقظها، فقالت: له مثل مقالتها الأولى، ورد هو عليها مثل قولها، وقال: لك الله علي إن أمكنتني من شفتيك أرتشفهما أن أنصرف، ثم لا أعود إليك، فأمكنته من شفتيها ثم انصرف، ووقع في نفسها مثل النار، ونذر به الحي، فقالوا: ما لهذا الفاسق في هذا الحي ذاهبا وجائيا؟ انهضوا بنا حتى نخرجه. فأرسلت إليه أن القوم يأتونك الليلة، فالحذر، فلما أمسى خرج ناحية عن الحي، فقعد على مرقب له ومعه قوسه وأسهمه، وكان أحد الرماة، وأصاب الحي من النهار مطر، فلهوا عنه، فلما كان في آخر الليل ذهب السحاب، وطلع القمر، فخرجت تريده، وقد أصابها الندى، فنشرت شعرها، وكانت معها جارية من الحي، فقالت: هل لك في عباس، وهو اسمه، فخرجتا تمشيان، فنظر إليهما، وهو على المرقب، فظن أنهما ممن يطلبه، فرمى بسهمه فما أخطأ قلب الجارية، ففلقه، وصاحت الجارية التي كانت معها، وانحدر من المرقب الذي كان عليه، فإذا هو بالجارية متضمخة بدمها، فقال عند ذلك، وهو يبكي:

نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر

تبكي، وأنت قتلتها، ... فاصبر، وإلا فانتحر

قال: ثم وجأ نفسه بمشاقصه، حتى مات. وجاء الحي فوجدوهما ميتين، فدفنوهما في قبر واحد.

المأمون وذات القلم

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا محمد بن عبد الله البصري، حدثنا الغلابي محمد بن زكريا، حدثنا مهدي بن سابق قال: رأى المأمون في يد جارية له قلما، وكان ذا شغف بها، واسمها منصف، فقال:

أراني منحت الحب من ليس يعرف ... فما أنصفتني في المحبة منصف

وزادت لدينا حظوة يوم أعرضت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف

أصم، سميع، ساكن، متحرك، ... ينال جسيمات العلى، وهو أعجف

عجبت له أنى، ودهرك معجب، ... يقوم تحريف العباد محرف

ميت الحب شهيد

قال الجوهري: وأنشدني محمد بن محمد الصائغ:

سأكتم ما ألقاه، يا فوز، ناظري، ... من الوجد كيلا يذهب الأجر باطلا

فقد جاءنا عن سيد الخلق أحمد، ... ومن كان برا بالعباد وواصلا

بأن من يمت في الحب يكتم وجده، ... يموت شهيدا في الفراديس نازلا

رواه سويد عن علي بن مسهر، ... فما فيه من شك لمن كان عاقلا

وما ذا كثير للذي بات مفردا، ... سقيما، عليلا، بالهوى متشاغلا

عصيان العذال سنة

ولي من أثناء قصيدة مدحت بها ببغداد:

وحوراء غدت باللح ... ظ للعشاق قتاله

فكم من قائل حين ... رآها، وهي مختاله

أفي أجفانها المرضى ... من القارة نباله

بدت ما بين أتراب ... لها كالبدر في الهاله

عليها من ثياب الصو ... ن ما تسحب أذياله

أيا ظبية بطن الخي ... ف! ضيف رام إنزاله

قراه قبلة، فالبي ... ن قد قرب أحماله

فكم لاح على حبي ... ك لم أصغ لما قاله

ومن سنة من يعش ... ق أن يعصي عذاله

عمر والمرأة المتلعجة

أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن الربيع الخزاز، حدثني يونس بن بكير الشيباني، حدثني أبو إسحق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس، وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، قال:

ما زلت أسمع حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرا، إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها، وهي تقول:

تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه

ألاعبه طورا، وطورا كأنما ... بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه

يسر به من كان يلهو بقربه، ... لطيف الحشا لا تحتويه أقاربه

فوالله، لولا الله لا شيء غيره، ... لنقض من هذا السرير جوانبه

ولكنني أخشى رقيبا موكلا ... بأنفسنا لا يفتر، الدهر، كاتبه

ثم تنفست الصعداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي، وغيبة زوجي عني، وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله، يرحمك الله! ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب في أن يقدم عليها زوجها.

سادلة البرقع

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بأصفهان، حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا المقري، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد، حدثنا الكوكبي، أخبرنا أبو العيناء، أخبرني الجماز عن الأصمعي قال: نظر أعرابي إلى أعرابية عليها برقع، فقال لها: ارفعي البرقع أنظر نظرة! فقالت: لا والله، دون أن يبيض القار، فأنشأ يقول:

هل القار مبيض فأنظر نظرة ... إلى وجه ليلى، أو تقضى نذورها

ميعاد السلو

أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا ابن دريد، حدثنا عبد الرحمن عن عمه، سمعت جعفر بن سليمان يقول: ما سمعت بأشعر مر القائل:

إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر

فقلت: أشعر منه الأحوص حيث يقول:

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر

 

رجل في ثوب امرأة

أنبأنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين ابن القاسم الكوكبي، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا محمد بن صالح الحسني، حدثني أبي عن نمير بن قحيف الهلالي قال: كان في بني هلال فتى يقال له بشر، ويعرف بالأشتر، وكان سيدا حسن الوجه، شديد القلب، سخي النفس، وكان معجبا بجارية من قومه تسمى جيداء، وكانت الجارية بارعة، فاشتهر أمره وأمرها ووقع الشر بينه وبين أهلها، حتى قتلت بينهم القتلى، وكثرت الجراحات، ثم افترقوا على أن لا ينزل أحد منهم بقرب الآخر.

فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني ذات يوم، فقال يا نمير! هل فيك من خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت. قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي، وتنغصت علي حياتي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت.

فركب وركبت معه، فسرنا يومنا وليلتنا، حتى إذا كان قريبا من مغرب الشمس نظرنا إلى منازلهم، ودخلنا شعبا خفيا، فأنخنا راحلتينا، وجلين، فجلس هو عند الراحلتين، وقال: يا نمير! اذهب، بأبي أنت وأمي، فادخل الحي واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بين شفة ولسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية، فأقرئها مني السلام، وسلها عن الخبر، وأعلمها بمكاني.

فخرجت لا أعذر في أمري حتى لقيت الجارية فأبلغتها الرسالة، وأعلمتها بمكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت: بلى، والله، مشدد عليها، متحفظ منها، وعلى ذلك فموعدكما الليلة عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت.

فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا، حتى جاء الموعد، فلم نلبث إلا قليلا إذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر، فصافحها وسلم عليها، وقمت موليا عنهما، فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله ما بيننا ريبة، ولا قبيح نخلو به دونك. فانصرفت راجعا إليهما حتى جلست معهما، فتحدثا ساعة، ثم أرادت الانصراف، فقال الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحدث ليلتنا، ويشكو بعضنا إلى بعض؟ قالت: والله ما إلى ذلك من سبيل إلا أن تعود إلى الشر الذي تعلم. قال لها الأشتر: لا بد من ذلك، ولا وقعت المساء على الأرض. فقالت: هل في صديقك هذا من خير أو فيه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله. قالت: يا فتى! هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك، فإني منته إلى مرادك، ولو كان في ذلك ذهاب روحي.

فقامت فنزعت ثيابها، فخلعتها علي، فلبستها. ثم قالت: اذهب إلى بيتي، فادخل في خبائي، فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة، أو ساعتين، فيطلب منك القدح ليحلب به الإبل، فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه، ثم ارم به رميا، ولا تعطه إياه من يدك، فإني كذا كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبنا، فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى تطيل نكدا عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه حتى تصبح، إن شاء الله تعالى.

قال: فذهبت، ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء القدح الذي فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه، حتى طال نكدي، ثم أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، واختلفت يدي ويده، فانكفأ القدح، واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط. وضرب بيده إلى مقدم البيت فاستخرج منه سوطا مفتولا كمتن الثعبان المطوق، ثم دخل علي، فهتك الستر عني وقبض بشعري، وأتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته، وأخت له، فانتزعوني من يده، ولا والله ما أقلعوا، حتى زايلتني روحي، وهممت أن أوجره السكين، وإن كان فيه الموت.

فلما خرجوا عني، وهو معهم، شددت ستري، وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلا حتى دخلت أم جيداء علي تكلمني، وهي تحسبني ابنتها، فاتقيتها بالسكات والبكى، وتغطيت بثوبي دونها. فقالت: يا بنية! اتقي الله ربك ولا تعرضي لمكروه زوجك فذاك أولى بك، فأما الأشتر، فلا أشتر لك آخر الدهر.

ثم خرجت من عندي، وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك، وتبيت عندك الليلة. فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي، فلما استمكنت منها شددت بيدي على فيها، وقلت: يا هذه! تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة في سببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك، ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملة، ثم رفعت يدي عنها، فاهتزت الجارية كما تعتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته، وأعفه وأحسنه حديثا، فلم تزل تتحدث، وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور، إذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت، وفزعت، وقالت: ويلك! من هذا عندك؟ قلت: أختك. قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي.

وأخذت ثيابي منها، ومضيت إلى صاحبي، فركبنا، ونحن خائفان، فلما سري عنا روعنا، حدثته ما أصابني، وكشفت عن ظهري، فإذا فيه ما غرس الله من ضربة إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها. فلما رآني الأشتر قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك، إذ خاطرت بنفسك، فبلغني الله مكافأتك.

شامة مشؤومة

أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، حدثني عباد بن عبد الواحد، حدثني ابن عائشة، حدثني أبي قال:

كانت عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية عند هشام بن عبد الملك، وكانت من أجمل النساء، فدخل عليها يوما، وعليها ثياب سود رقاق من هذه التي يلبسها النصارى يوم عيدهم، فملأته سرورا حين نظر إليها، ثم تأملها فقطب، فقالت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ أكرهت هذه، ألبس غيرها؟ قال: لا! ولكن رأيت هذه الشامة التي على كشحك من فوق الثياب، وبك يذبح النساء، وكانت بها شامة في ذلك الموضع، أما إنهم سينزلونك عن بغلة شهباء، يعني بني العباس، وردة، ثم يذبحونك ذبحا. قال: وقوله يذبح بك النساء، يعني إذا كانت دولة لأهلك ذبحوا بك من نساء القوم الذين ذبحوك.

فأخذها عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان معها من الجوهر ما لا يدرى ما هو، ومعها درع يواقيت وجوهر منسوج بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلى سبيلها. فقالت، في الظلمة: أي دابة تحتي؟ قيل لها: دهماء، في الظلمة، فقالت، نجوت.

قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي، فقالوا: ما صنعت؟ أدنى ما يكون يبعث أبو جعفر إليها، فتخبره بما أخذت منها، فيأخذه منك، اقتلها، فبعث في إثرها، وأضاء الصبح، وإذا تحتها بغلة شهباء وردة، فلحقها الرسول، فقالت: مه! فقال: أمرنا بقتلك، قالت: هذا أهون علي، فنزلت فشدت درعها من تحت قدميها وكميها.

صاحب يساوي الخلافة

أخبرنا أبو علي بن محمد الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا الفضل بن العباس أبو الفضل الربعي، حدثنا إبراهيم بن عيسى الهاشمي قال: قال علويه: أمرني المأمون وأصحابي أن نغدو إليه لنصطبح، فغدوت، فلقيني عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب. فقال: يا أيها الرجل الظالم المتعدي! أما ترحم ولا ترق ولا تستحي من عريب؟ هي هائمة بك.

قال علويه: وكانت عريب أحسن الناس وجها، وأظرف الناس وأحسن غناء مني ومن صاحبي مخارق، فقلت له: مر حتى أجيء معك، فحين دخلنا قلت له: استوثق من الأبواب، فإني أعرف الناس بفضول الحجاب، فأمر بالأبواب فأغلقت ودخلت، فإذا عريب جالسة على كرسي، وبين يديها ثلاث قدور زجاج، فلما رأتني قامت إلي، فعانقتني، وقبلتني، وأخلت لسانها في فمي.

قالت: ما تشتهي تأكل؟ قلت: قدرا من هذه القدور، فأفرغت قدرا منها بيني وبينها، فأكلنا. ثم دعت بالنبيذ، فصبت رطلا، فشربت نصفه، وسقتني نصفه، فما زلنا نشرب حتى سكرنا، ثم قالت: يا أبا الحسن! أخرجت البارحة شعرا لأبي العتاهية فاخترت منه شيئا. قلت: ما هو؟ قالت:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه

عذيري من الإنسان! لا إن جفوته ... صفا لي، ولا إن كنت طوع يديه

فصيرناه مجلسنا، فقالت: بقي فيه شيء، فأصلحه! قلت: ما فيه شيء. قالت: بلى، في موضع كذا، فقلت: أنت أعلم، فصححناه جميعا، ثم جاء الحجاب، وكسروا الباب، واستخرجت، فأدخلت على المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الصحن، وأصفق بيدي، وأغني الصوت، فسمع وسمعوا ما لم يعرفوه، فاستطرفوه، فقال المأمون: ادن يا علويه! فدنوت، فقال: رد الصوت! فرددته سبع مرات، فقال: أنت الذي تشتاق إلى ظل صاحب يروق ويصفو إن كدرت عليه؟ فقلت: نعم! فقال خذ مني الخلافة، وأعطني هذا الصاحب بدلها.

وسألني عن خبري، فأخبرته، فقال: قاتلها الله، فهي أجل أبزار من أبازير الدنيا.

امرأة على كتف أعرابي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا عمران بن أبي ليلى، حدثنا حبان بن علي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: كنت أطوف مع عمر بن الخطاب حول الكعبة، وكفي في كفه، فإذا أعرابي على كتفه امرأة مثل المهاة وهو يقول:

صرت لهذي جملا ذلولا ... موطأ أتبع السهولا

أعدلها بالكف أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا

أرجو بذاك نائلا جزيلا

فقال له عمر: ما هذه المرأة التي وهبت لها حجتك يا أعرابي؟ فقال: هذه امرأتي، والله، يا أمير المؤمنين، إنها مع ما ترى من صنيعتي بها، حمقاء مرغامة، أكول قمامة، مشؤومة الهامة. قال: فما تصنع بها إذا كان هذا قولك فيها؟ قال: إنها ذات جمال، فلا تفرك، وأم صغار، فلا تترك. قال: إذا فشأنك بها.

كيد النساء

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا الكوكبي قال: حدثنا أحمد بن عبيد النحوي، حدثنا محمد بن زبار عن الشرقي بن قطامي قال: كان عمرو بن قمية البكري من أحب الناس إلى مرثد بن قيس بن ثعلبة، وكان يجمع بينه وبين امرأته على طعامه، وكانت إصبع قدم عمرو الوسطى والتي تليها ملصقتين، فخرج مرثد ذات يوم يضرب بالقداح، فأرسلت امرأته إلى عمرو أن عمك يدعوك، فجاءت به من وراء البيوت، فلما دخل عليها، لم يجد عنه، وأنكر شأنها، فأرادته على نفسه، فقال: لقد جئت بأمر عظيم. فقالت: أما لتفعلن أو لأسوءنك. فقال: للمساءة ما دعوتني. ثم قام فخرج، وأمرت بجفنة، فكفئت على أثر قدمه، فلما رجع مرثد وجدها متغضبة، فقال: ما شأنك؟ قالت: رجل قريب القرابة منك جاءني يسومني نفسي. قال: من هو؟ قالت: أما أنا فلا أسميه، وهذا أثر قدمه، فعرف مرثد أثر عمرو، فأعرض عنه، وعرف عمرو من أين أتي، فقال في ذلك:

لعمرك! ما نفسي بجد رشيدة، ... تؤامرني سرا لأصرم مرثدا

عظيم رماد القدر، لا متعبس، ... ولا مؤيس منها، إذا هو أخمدا

فقد أظهرت منه بوائق جمة، ... وأفرغ في لومي مرارا وأصعدا

على غير ذنب أن أكون جنيته، ... سوى قول باغ جاهد فتجهدا

النخلة العاشقة

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، أخبرني محمد بن أحمد الحكيمي، حدثنا أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب قال: سمعت أبا مسلمة المنقري يقول: كان عندنا بالبصرة نخلة ذكر من حسنها وطيب رطبها. قال: ففسدت حتى شيصت. قال: فدعا صاحبها شيخا قديما يعرف النخيل، فنظر إليها وإلى ما حولها من النخل، فقال: هذه عاشقة لهذا الفحل الذي بالقرب منها. قال: فلقحت منه، فعادت إلى أحسن ما كانت.

المهدي ونخلتا حلوان

وأخبرنا أحمد بن علي التوزي، أخبرنا أبو عبيد الله، أخبرنا أبو بكر الجرجاني، حدثنا الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن أبي القيسي عن أبي سمير عبد الله بن أبي أيوب قال: لما خرج المهدي، فصار بعقبة حلوان، استطاب الموضع، فتغدى ودعا بحسنة، فقال لها: أما ترين طيب هذا الموضع، فغنيني، فأخذت محكة كانت في يده وأوقعت بها على مخدة، وغنته:

أيا نخلتي وادي بوانة! حبذا، ... إذا نام حراس النخيل، جناكما

فقال: أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين، يعني نخلتي حلوان. فقالت: أعيذك بالله أن تكون النحس. قال: وما ذاك؟ قالت: قول الشاعر فيهما:

أسعداني يا نخلتي حلوان، ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان

واعلما، إن بقيتما، أن نحسا ... سوف يأتيكما، فتفترقان

فقال: لا أقطعهما أبدا، ووكل بهما من يحفظهما.

الأشتر وجيداء

أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي قراءة عليه، حدثني أبي، أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين بن الأصفهاني، حدثني جعفر بن قدامة، حدثني أبو العيناء قال: كنت أجالس محمد بن صالح بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان حمل إلى المتوكل أسيرا، فحبسه مدة، ثم أطلقه، وكان أعرابيا فصيحا محرما، فحدثني قال: حدثني نمير بن قحيف الهلالي، وكان حسن الوجه حييا، قال: كان منا فتى يقال له بشر بن عبد الله، ويعرف بالأشتر. وكان يهوى جارية من قومه يقال لها جيداء، وكانت ذات زوج، وشاع خبره في حبها، فمنع منها، وضيق عليه، وذكر قصة الأشتر مع جيداء على نحو ما في الخبر الذي قبل هذا الجزء فكرهت إعادتها لأن المعنى واحد.

ماتت حزنا على المأمون

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن مالك النحوي، حدثنا يحيى بن أبي حماد الموكبي عن أبيه قال: وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها، فأتي بها وقت خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم ليلبس درعه، خطرت بباله، فأمر، فخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتني، والله يا سيدي، وحدرت دموعها على خدها كنظام اللؤلؤ، وأنشات تقول:

سأدعو دعوة المضطر ربا ... يثيب على الدعاء ويستجيب

لعل الله أن يكفيك حربا، ... ويجمعنا، كما تهوى القلوب

فضمها المأمون إلى صدره، وأنشأ متمثلا يقول:

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها ... وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل

صبيحة قالت في العتاب: قتلتني، ... وقتلي، بما قالت، هناك تحاول

ثم قال لخادمه: يا مسرور! احتفظ بها وأكرم محلها، وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فكان كما قال الأخطل:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء، ولو باتت بأطهار

ثم خرج، فلم يزل الخادم يتعاهدها، ويصلح ما أمر به، فاعتلت علة شديدة أشفق عليها منها وورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وتوفيت، وكان مما قالت، وهي تجود بنفسها:

إن الزمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة أنفاسا وأروانا

أبدى لنا تارة منه، فأضحكنا، ... ثم انثنى تارة أخرى، فأبكانا

إنا إلى الله في ما لا يزال لنا، ... من القضاء، ومن تلوين دنيانا

دنيا نراها ترينا من تصرفها ... ما لا يدوم مصافاة وأحزانا

ونحن فيها، كأنا لا نزايلها، ... للعيش أحياؤنا يبكون موتانا

القاضي المدنف

وأخبرنا الجازري، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، حدثنا أحمد بن الصلت قال: كان حمدان البرتي على قضاء الشرقية، فقدمت امرأة طقطق الكوفي زوجها إليه، وادعت عليه مهرا أربعة آلاف درهم، فسأله القاضي عما ذكرت، فقال: أعز الله القاضي، مهرها عشرة دراهم. فقال لها البرتي: أسفري، فسفرت حتى انكشف صدرها، فلما رأى ذلك قال لطقطق: ويحك! مثل هذا الوجه يستأهل أربعة آلاف دينار ليس أربعة آلاف درهم، ثم التفت إلى كاتبه، فقال له: ما في الدنيا أحسن من هذا الشذر على هذا النحر.

فقال له طقطق: فديتك إن كانت قد وقعت في قلبك طلقتها. فقال له البرتي: تهددها بالطلاق، وقد قال الله: عز وجل: " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " ، وإن ههنا ألفا ممن يتزوجها. فقال طقطق: فإني، والله، ما قضيت وطري منها، وأنا طقطق لست بزيد. فأقبل البرتي على المرأة، فقال: يا حبيبتي! ما أدري كيف كان صبرك على مباضعة هذا البغيض، ثم أنشأ يقول:

تربص بها ريب المنون، لعلها ... تطلق يوما، أو يموت حليلها

فقام طقطق، وتعلق به وصيف غلام البرتي، فصاح به: دعه يذهب عنا إلى سفر، ثم قال لها: إن لم يصر لك إلى ما تريدين فصيري إلى امرأة وصيف حتى تعلمني، وأضعه في الحبس.

وكتب صاحب الخبر ما كان، فعلق به البرتي، وصانعه على خمسمائة دينار على أن لا يرفع الخبر بعينه، ولكن يكتب أن عجوزا خاصمت زوجها، فاستغاثت بالقاضي، فقال لها: ما أصنع يا حبيبتي! هو حكم ولا بد أن أقضي بالحق.

وانصرف البرتي متيما، فما زال مدنفا يبكي ويهيم فوق السطوح، ويقول الشعر: فكان مما يقوله:

واحسرتي على ما مضى، ... ليتني لضم أعرف القضا

أحببت أمرا وخفت الله حقا ... فما تم حتى انقضى

وغير ذلك من شعر لا وزن له ولا روي إلا أنه ارعوى ورجع.

بماذا أكفر؟

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بصور، أنبأنا أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الناجي الأندلسي: حدثني خالي القاضي أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب بن محمد التجيبي لعبد الله بن الفرج الجياني، وهو أخو سعيد وأحمد ابني الفرج:

تداركت من خطإي نادما، ... لرجوى سوى خالقي راحما

فلا رفعت صرعتي إن رفع ... ت يدي إلى غير مولاهما

أموت وأدعو إلى من يمو ... ت بماذا أكفر هذا بما؟

كل يومين حجة واعتمار

وأخبرنا محمد، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب عن أبيه قال: أنشد ابن أبي عتيق سعيد بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة:

أيها الراكب المجد ابتكارا، ... قد قضى من تهامة الأوطارا

إن يكن قلبك، الغداة، خليا، ... ففؤادي بالخيف أمسى معارا

ليت ذا الدهر كان حتما علينا، ... كل يومين حجة واعتمارا

فقال: لقد كلفت المسلمين شططا. فقال: يا أبا محمد! في نفس الجمل شيء غير ما في نفس سائقه.

ليس للغدور وفاء

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الجبار لنفسه:

رنت إلي بعين الرئم، والتفتت ... بجيده، وثنت من قدها ألفا

فخلت بدر الدجى يسري على غصن ... هزته ريح الصبا فاهتز وانعطفا

وأبصرت مقلتي ترنو مسارقة ... إلى سواها، فعضت كفها أسفا

ثم انثنت كالرشا المذعور نافرة، ... وورد وجنتها بالغيظ قد قطفا

تقول: يا نعم! قومي تنظري عجبا، ... هذا الذي يدعي التهيام والشعفا

يريد منا الوفا، والغدر شيمته، ... هيهات أن يتأتى للغدور وفا

أكني بغيرك واعنيك

وأخبرنا التنوخي قال: تقلت من خط أبي إسحق الصابي:

أكني بغيرك في شعري وأعنيك، ... تقية، وحذارا من أعاديك

فإن سمعت بإنسان شعفت به، ... فإنما هو ستر دون حبيك

غالطتهم دون شخص لا وجود له، ... معناه أنت، ولكن لا أسميك

أخاف من مسعدي في الحب زلته، ... وكيف آمن فيه كيد واشيك

ولو كشفت لهم ما بي وبحت به ... لاستعبروا رحمة من محنتي فيك

مرضى تبعث المرض

ولي من أثناء قصيدة:

وشادن سهامه ... من الجفون تنتضى

قد أصبحت لها قلو ... ب عاشقيه غرضا

كم بعثت أجفانه ال ... مرضى لقلب مرضا

شعر على حائط

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري قال: قال أبو علي صديقنا: حدثني بعض أهل المعرفة أنه بينا هو في بعض بلاد الشام نزل في دار من دورها، فوجد على بعض حيطانها مكتوبا:

دعوا مقلتي تبكي لفقد حبيبها، ... لتطفي ببرد الدمع حر كروبها

ففي حل الدمع للقلب راحة، ... فطوبى لنفس متعت بحبيبها

بمن لو رأته القاطعات أكفها ... لما رضيت إلا بقطع قلوبها

قال: فسأل عنه، فأخبر أن بعض العمال نزل هذه الدار، وقد أصاب ثلاثين ألف دينار، فعلق غلاما، فأنفق ذلك المال كله عليه. قال: فبينا أنا جالس إذ مر بنا ذلك الغلام، قال: فما رأيت غلاما أحسن منه حسنا وجمالا.

جرير والحجاج وأمامة

وأخبرنا أبو علي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو النضر العقيلي، أخبرنا الزبير، حدثني محمد بن أيوب اليربوعي عن أبي الذيال السلولي، حدثني جرير قال: وفدت على الحجاج في سفرة تسمى سفرة الأربعين، فأعطاني أربعين راحلة ورعاءها، وحشو حقائبها القطائف والأكسية لعيالي، وأوقرها حنطة، ثم خرجت. فلما شددت على راحلتي كورها، وأنا أريد المضي، جاءني خادم فقال: أجب الأمير، فرجعت معه، فدخلت على الحجاج، فإذا هو قاعد على كرسي، وإذا جارية قائمة تعممه، فقلت: السلام عليك أيها الأمير. فقال: هات، قل في هذه! فقلت: بأبي وأمي تمنعني هيبة الأمير، وإجلاله، فأفحمت، فما أدري ما أقول، فقال: بل هات، قل فيها! فقلت: بأبي وأمي، فما اسمها؟ قال: أمامة، فلما قال أمامة فتح علي فقلت:

ودع أمامة حان منك رحيل، ... إن الوداع لمن تحب قليل

تلك القلوب صواديا تيمتها، ... وأرى الشفاء، وما إليه سبيل

فقال: بل إليه سبيل. خذ بيدها! فأخذت بيدها، فجبذتها، فتعلقت بالعمامة، وجبذتها حتى رأيت عنق الحجاج قد صغت، ومالت مما جبذتها، وتعلق بالعمامة. قال: وخطر ببالي بيت من شعر، فقلت:

إن كان طبكم الدلال، فإنه ... حسن دلالك، يا أميم، جميل

فقال الحجاج: إنه، والله، ما بها ذاك، ولكن بها بغض وجهك، وهو أهل لذاك. خذها بيدها جرها! فلما سمعت ذلك منه خلت العمامة، وخرجت بها، فكنيتها أم حكيم، وجعلتها تقوم على عمالي وتعطيهم نفقاتهم بقرية يقال لها الفنة، من قرى الوشم.

قال طلحة: فأخبرني الزبير قال: قال محمد بن أيوب: وسمعت حبجيا بن نوح يقول: كانت والله مباركة.

عائشة بنت طلحة وغراب قيس بن ذريح

أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن إسحق بن إبراهيم العجلي البزاز المعروف بالمراجلي بسر من رأى، حدثنا محمد بن يونس الكديمي، حدثنا يحيى بن عمر الليثي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثنا المجالد عن الشعبي قال: مر بي مصعب بن الزبير، وأنا في المسجد. فقال: يا شعبي؛ قم! فقمت، فوضع يده في يدي وانطلق حتى دخل القصر، فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي! فدخل حجرة، فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي! فدخل بيتا، فقصرت، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا امرأة في حجلة، فقال: أتدري من هذه؟ فقلت: نعم! هذه سيدة نساء المسلمين، هذه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فقال: هذه ليلى، وتمثل:

وما زلت في ليلى لدن طر شاربي ... إلى اليوم أخفي حبها وأداجن

وأحمل في ليلى لقوم ضغينة، ... وتحمل في ليلى علي الضغائن

ثم قال لي: يا شعبي! إنها اشتهت علي حديثك، فحادثها، فخرج وتركها، قال: فجعلت أنشدها وتنشدني، وأحدثها وتحدثني، حتى أنشدتها قول قيس بن ذريح:

ألا يا غراب البين! قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى، فهل أنت واقع؟

أتبكي على لبنى، وأنت قتلتها؟ ... فقد هلكت لبنى، فما أنت صانع؟

قال: فلقد رأيتها، وفي يدها غراب تنتف ريشه، وتضربه بقضيب وتقول: يا مشؤوم.

أبو السائب يضرب الغراب

وحدثنا المعافى قال: قال محمد بن مزيد الخزاعي، حدثنا الزبير قال: قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضا، فاطلعت فإذا أبو السائب قابضا على غراب يباع، قد أخذ طرف ردائه. وهو يقول للغراب: يقول لك ابن ذريح:

ألا يا غراب البين! قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى، فهل أنت واقع؟

ثم لا تقع، ويضربه بردائه والغراب يصيح.

السوداء وغراب البين

وحدثنا المعافى، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، حدثنا ميمون بن المزرع قال: كنت آتي أبا إسحق الزيادي. فأتيته مرة، فمرت به أمة سوداء شوهاء، فقال لها: يا عنيزة أسمعيني: مر بالبين غراب فنعب، فقالت: لا والله أو تهب لي قطيعة، فأخرج صريرة من جيبه فناولها قطيعة أريت أن فيها ثلاث حبات، فوضعت الجرة عن ظهرها وقعدت عليها، ثم رفعت عقيرتها:

مر بالبين غراب فنعب، ... ليت ذا الناعب بالبين كذب

فلضحاك الله من طير لقد ... كنت لو شئت غنيا أن تسب

قال أبو بكر: فأحسنت.

الذنب ذنبي لا ذنب الغراب

قال أبو الفرج المعافى: وحدثني محمد بن الحسن بن مقسم أنشدني أحمد بن يحيى لأحمد بن مية، وهو أحد الظرفاء:

يسب غراب البين ظلما معاشر، ... وهم آثروا بعد الحبيب على القرب

وما لغراب البين ذنب، فأبتدي ... بسب غراب البين، لكنه ذنبي

فيا شوق لا تنفد، ويا دمع فض وزد ... ويا حب راوح بين جنب إلى جنب

ويا عاذلي لمني! ويا عائدي الحني، ... عصيتكما، حتى أغيب في الترب

إذا كان ربي عالما بسريرتي ... فما الناس في عيني بأعظم من ربي

المعتصم والمأمون والغلام التركي

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي المحتسب، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد، حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: دعا المعتصم بالله المأمون، فأجلسه في مجلس في سقفه جامات، فوقع ضوء بعض الجامات على وجه سيماء التركي، غلام المعتصم، وكان أوجد الناس به ولم يكن في عصره مثله، فصاح المأمون: يا أحمد بن محمد اليزيدي، وكان حاضرا، انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيماء، أرأيت أحسن من هذا قط؟ وقد قلت:

قد طلعت شمس على شمس، ... وزالت الوحشة بالأنس

أجز، فقال:

قد كنت أقلى الشمس في ما مضى، ... فصرت أشتاق إلى الشمس

وفطن المعتصم، فعض شفته على أحمد. فقال أحمد للمأمون: والله، لئن يعلم أمير المؤمنين لأقعن معه في ما أكره. فدعاه، فأخبره الخبر، وأنشده الشعر، فضحك المعتصم، وقال: كثر الله في غلمان أمير المؤمنين مثله.

المأمون والعشق

وأخبرنا أحمد بن علي الوكيل، حدثنا المرزباني الصولي، حدثنا عون بن محمد الكندي، سمعت موسى بن عيسى يقول: سمعت أحمد بن يوسف يقول: كان المأمون يحب أن يعشق ويعمل أشعارا في العشق، فلم يكن يقع له العشق، ولا يستمر له ما يريد. وكانت عنده جارية اشتريتها له، وكانت تسميني أبي، وكان يباثني حديثها وأمرها. وربما شكاها إلي، فقال: فعلت بنتك كذا وكذا. وله أشعار فيها:

أول الحب مزاح وولع، ... ثم يزداد إذا زاد الطمع

كل من يهوى، وإن غالت به ... رتبة الملك، لمن يهوى تبع

فلذا هم وغدر ونوى؛ ... ولذا شوق ووجد وجزع

الوليد بن يزيد والفتاة النصرانية

أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا أبو حاتم، أخبرنا العتبي قال: نظر الوليد بن يزيد إلى جارية نصرانية من أهيإ النساء يقال لها سفرى، فجن بها، وجعل يراسلها، وهي تأبى، حتى بلغه أن عيدا للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه.

وكان في موضع العيد بستان حسن، وكانت النساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله فينظر إليها، فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته، ودخلت سفرى البستان، فجعلت تمشي حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ فقال: رجل مصاب. فجعلت تمازحه وتضاحكه، حتى اشتفى من النظر إليها، ومن حديثها، فقيل لها: ويلك أتدرين من ذاك الرجل؟ قالت: لا! فقيل لها: الوليد بن يزيد وإنما تقشف حتى ينظر إليك، فجنت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها. فقال الوليد في ذلك:

أضحى فؤادك، يا وليد، عميدا ... صبا كليما للحسان صيودا

من حب واضحة العوارض طفلة ... برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

ما زلت أرمقها بعيني وامق، ... حتى بصرت بها تقبل عودا

عود الصليب، فويح نفسي من رأى ... منكم صليبا مثله معبودا

فسألت ربي أن أكون مكانه، ... وأكون في لهب الجحيم وقودا

قال القاضي أبو الفرج المعافى: لم يبلغ مدرك الشيباني هذا الحد من الخلاعة، إذ قال في عمرو النصراني:

يا ليتني كنت له صليبا، ... فكنت منه أبدا قريبا

أبصر حسنا، وأشم طيبا، ... لا واشيا أخشى ولا رقيبا

فلما ظهر أمره وعلمه الناس قال:

ألا حبذا سفرى، وإن قيل إنني ... كلفت بنصرانية تشرب الخمرا

يهون علينا أن نظل نهارنا ... إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا

جور الهوى

ولي من جملة قصيدة عملتها بتنيس، وأنا أستغفر الله وأستقيله:

وبتنيس في كنيسة ديري ... ن، لحيني، أبصرت ظبيا أغنا

واقفا يلثم الصليب، وطورا ... بأناجيله يرجع لحنا

فتمنيت أن أكون صليبا، ... يوم قربانه، فأقرع سنا

وفي هذه القطعة:

وأخي لوعة لقيت، فما زا ... ل بماء الجفون يبكي الجفنا

يشتكي وجده إلي، وأشكو ... ما يلاقي قلبي الكئيب المعنى

ثم لما كفت دموع مآقي ... ه ومل المكان مما وقفنا

قال لي، والعذال قد يئسوا من ... ه ومني، وحن شوقا وأنا:

قد أفاق العشاق من سكرة الح ... ب جميعا فما لنا ما أفقنا؟

قلت: جار الهوى علينا فلو أن ... ا غداة الفراق متنا استرحنا

مدرك الشيباني وعمرو النصراني

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال: أنشدنا أبو القاسم مدرك بن محمد الشيباني لنفسه في عمرو النصراني. قال القاضي أبو الفرج: وقد رأيت عمرا، وبقي حتى ابيض رأسه:

من عاشق ناء هواه دان، ... ناطق دمع صامت اللسان

موثق قلب مطلق الجثمان، ... معذب بالصد والهجران

من غير ذنب كسبت يداه، ... غير هوى نمت به عيناه

شوقا إلى رؤية من أشقاه، ... كأنما عافاه من أضناه

يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلة ما ترقا

ناطقة وما أحارت نطقا، ... تخبر عن حب له استرقا

لم يبق منه غير طرف يبكي، ... بأدمع مثل نظام السلك

تطفيه نيران الهوى وتذكي، ... كأنها قطر السماء تحكي

إلى غزال من بني النصارى، ... عذار خديه سبى العذارى

وغادر الأسد به حيارى، ... في ربقة الحب له أسارى

رئم بدار الروم رام قتلي، ... بمقلة كحلاء لا عن كحل

وطرة بها استطار عقلي، ... وحسن وجه وقبيح فعل

رئم بها أي هزبر لم يصد، ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود

متى يقل: ها! قالت الألحاظ: قد، ... كأنه ناسوته حين اتحد

ما أبصر الناس جميعا بدرا، ... ولا رأوا شمسا، وغصنا نضرا

أحسن من عمرو، فديت عمر!! ... ظبي بعينيه سقاني الخمرا

ها أنا ذا بقده مقدود، ... والدمع في خدي له أخدود

ما ضر من فقدي به موجود، ... لو لم يقبح فعله الصدود

إن كان ديني عنده الإسلام ... فقد سعت في نقضه الآثام

واختلت الصلاة والصيام، ... وجاز في الدين الحرام

يا ليتني كنت له صليبا، ... أكون منه أبدا قريبا

أبصر حسنا وأشم طيبا، ... لا واشيا أخشى، ولا رقيبا

بل ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا

أو جاثليقا كنت أو مطرانا، ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا

بل ليتني كنت لعمرو مصحفا ... يقرأ مني كل يوم أحرفا

أو قلما يكتب بي ما ألفا ... من أدب مستحسن قد صنفا

بل ليتني كنت لعمرو عوذه، ... أو حلة يلبسها مقذوذه

أو بركة بإسمه مأخوذه، ... أو بيعة في داره منبوذه

بل ليتني كنت له زنارا ... يديرني في الخصر كيف دارا

حتى إذا الليل طوى النهارا، ... صرت له حينئذ إزارا

قد، والذي يبقيه لي، أفناني، ... وابتز عقلي، والضنى كساني

ظبي على البعاد والتداني، ... حل محل الروح من جثماني

واكبدي من خده المضرج، ... أذهب للنسك وللتحرج

إليك أشكو يا غزال الإنس، ... ما بي من الوحشة بعد الأنس

يا من هلالي وجهه وشمسي، ... لا تقتل النفس، بغير نفس

جد لي كما جدت بحسن الود، ... وارع كما أرعى قديم العهد

واصدد كصدي عن طويل الصد، ... فليس وجد بك مثل وجدي

ها أنا في بحر الهوى غريق، ... سكران من حبك لا أفيق

محترق، ما مسني حريق، ... يرثي لي العدو والصديق

فليت شعري فيك! هل ترثي لي ... من سقم بي وضنى طويل

أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل!

في كل عضو منه سقم وألم، ... ومقلة تبكي بدمع وبدم

شوقا إلى بدر وشمس وصنم، ... منه إليه المشتكى، إذا ظلم

أقول إذ قام بقلبي وقعد: ... يا عمرو، يا عامر قلبي بالكمد

أقسم بالله يمين المجتهد، ... إن امرأ أسعدته لقد سعد

يا عمرو! ناشدتك بالمسيح، ... ألا استمعت القول من فصيح

يخبر عن قلب له جريح، ... باح بما يلقى من التبريح

يا عمرو! بالحق من اللاهوت، ... والروح روح القدس والناسوت

ذاك الذي في مهده المنحوت، ... عوض بالنطق من السكوت

بحق ناسوت ببطن مريم، ... حل محل الريق منها في الفم

ثم استحال في قنوم الأقدم، ... فكلم الناس، ولما يفطم

بحق من بعد الممات قمصا ... ثوبا على مقداره ما قصصا

وكان لله تقيا مخلصا، ... يشفي ويبري أكمها وأبرصا

بحق محيي صورة الطيور، ... وباعث الموتى من القبور

ومن إليه مرجع الأمور، ... يعلم ما في البر والبحور

بحق ما في شامخ الصوامع، ... من ساجد لربه وراكع

يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفا إلى الله بدمع هامع

بحق قوم حلقوا الرؤوسا، ... وعالجوا طول الحياة بوسا

وقرعوا في البيعة الناقوسا، ... مشمعلين يعبدون عيسى

بحق مارت مريم وبولس، ... بحق شمعون الصفا وبطرس

بحق دانيل بحق يونس، ... بحق حزقيل وبيت المقدس

ونينوى، إذ قام يدعو ربه، ... مطهرا من كل سوء قلبه

ومستقيلا، فأقال ذنبه، ... ونال من أبيه ما أحبه

بحق ما في قلة الميرون ... من نافع الأدواء للمجنون

بحق ما يؤثر عن شمعون، ... من بركات الخوص والزيتون

بحق أعياد الصليب الزهر، ... وعيد شمعون وعيد الفطر

وبالشعانين العظيم القدر، ... وعيد مرماري الرفيع الذكر

وعيد أشعبا، وبالهياكل، ... والدخن اللاتي بكف الحامل

يشفى بها من خيل كل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل

بحق سبعين من العباد، ... قاموا بدين الله في البلاد

وأرشدوا الناس إلى الرشاد، ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد

بحق ثنتي عشرة من الأمم، ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم

حتى إذا صبح الدجى جلى الظلم ... صاروا إلى الله وفازوا بالنعم

بحق ما في محكم الإنجيل، ... من محكم التحريم والتحليل

وخبر ذي نبإ جليل، ... يرويه جيل قد مضى عن جيل

بحق مرقس الشفيق الناصح، ... بحق لوقا ذي الفعال الصالح

بحق يوحنا الحليم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح

بحق معموية الأرواح، ... والمذبح المشهور في النواحي

ومن به من لابس الأمساح، ... وعابد باك ومن نواح

بحق تقريبك في الآحاد، ... وشربك القهوة كالفرصاد

وطول تبييضك للأكباد، ... بما بعينيك من السواد

بحق ما قدس شعيا فيه، ... بالحمد لله وبالتنزيه

بحق نسطور وما يرويه، ... عن كل ناموس له فقيه

شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم

لم ينطقا قط بغير فهم، ... موتهما كان حياة الخصم

بحرمة الأسقف والمطران، ... والجاثليق العالم الرباني

والقس والشماس والديراني، ... والبطرك الأكبر والرهبان

بحرمة المحبوس في أعلى الجبل، ... ومار قولا حين صلى وابتهل

وبالكنيسات القديمات الأول، ... وبالسليم المرتضى بما فعل

بحرمة الأسقوفيا والبيرم، ... وما حوى مغفر رأس مريم

بحرمة الصوم الكبير الأعظم، ... وحق كل بركة ومحرم

بحق يوم الذبح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والسلاق

والذهب المذهب للنفاق، ... والفصح، يا مهذب الأخلاق

بكل قداس على قداس، ... قدسه القس مع الشماس

وقربوا يوم الخميس الناسي، ... وقدموا الكاس لكل حاس

ألا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب

فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب

فانظر أميري في صلاح أمري، ... محتسبا في عظيم الأجر

مكتسبا في جميل الشكر، ... في نثر ألفاظ، ونظم شعر

قضاة لا يقبلون الرشى

قال ابن السراج: ولي من قطعة:

دمعي بمكتوم غرامي وشى، ... وكان مطويا عليه الحشا

ينهل دمعي ساجما كلما ... أبصرت ربعا منهم موحشا

صاد فؤادي في الهوى شادن ... سقاه من ريقته فانتشى

أبصرته يوم شعانينه ... يجذبه الردف إذا ما مشى

أشد شيء في الهوى أنه ... قضاته لا يقبلون الرشى