الجارية الحميراء وابن جامع

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين إن لم يكن سماعا فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا أبو النضر العقيلي، حدثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، حدثني محمد بن ضو التيمي، سمعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمني الدهر ضما شديدا بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوما ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجت، وهي في كمي. فإذا بجارية حميراء على رقبتها جرة تريد الركي، وتمشي بين يدي، وتترنم بصوت شجي، تقول فيه:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا، ... فقالوا لنا: ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سراعا، ولا يغشى لنا النوم أعينا

ما دنا الليل المضر بذي الهوى، ... جزعنا، وهم يستبشرون إذا دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

فوالله ما دار لي منه حرف واحد. فقلت لها: يا جارية! ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك أم جرمك، فلو شئت أعدته علي. فقالت: حبا وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار كان بالقرب منها، ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها، وحطت الجرة على ساقها، واندفعت تغني بأحسن صوت، فوالله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت: لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدته مرة أخرى.

فقطبت وكلحت، وقالت: ما أعجب هذا! أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة، فيقول لها: أعيدي مرة بعد أخرى، فضربت يدي إلى ثلاثة دراهم، ودفعتها إليها، وقلت لها: أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتها كالمتكرهة، وقالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتا أحسبك تأخذ عليه ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، ثم اندفعت تغني، وأعملت فكري في غنائها، فدار لي الصوت، وفهمته، وانصرفت به مسرورا، وذكر باقي الخبر.

قال ابن السراج: وقد ذكرت هذا الخبر بتمامه في أثناء كتابي هذا، فلذلك ما استوعبته هاهنا.

مأساة بشر وهند

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الملك بن بشران قراءة عليه، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزيق في شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قراءة عليه، يوم الخميس لاثنتي عشرة من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا عمر بن عبد الحكم وجعفر بن عبد الله الوراق والقاسم بن الحسن عن أبي سعد عن أبيه قال: ذكر أنه كان في بدء الإسلام، وبعضهم يزيد على حديث بعض، شاب، وكان يقال له بشر، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من بني أسيد بن عبد العزى، وكان طريقه، إذا غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، أن يأخذ على جهينة، وإذا فتاة من جهينة، فنظرت إليه، فعشقته، وكان لها من الحسن والجمال حظ عظيم، وكان لها زوج يقال له سعد بن سعيد، فكانت تقعد كل غداة لبشر، حتى يجتاز بها، لينظر إليها، فلما أخذها حبه كتبت إليه هذه الأبيات:

تمر ببابي ليس تعلم ما الذي ... أعالج من شوق إليك ومن جهد

تمر رخي البال من لوعة الهوى، ... وأنت خلي الذرع مما بدا عندي

فديتك، فانظر نحو بابي نظرة، ... فإنك أهوى الناس كلهم عندي

فوالله لو قصرت عنا فلضم تكن ... تمر بنا أصبحت لا شك في لحد

فأجابها الفتى يقول:

عليك بتقوى الله والصبر، إنه ... نهى عن فجور بالنساء موحد

وصبرا لأمر الله لا تقربي الذي، ... نهى الله عنه، والنبي محمد

فوالله لا آتي حليلة مسلم ... إلى أن أدلى في القبور، وأفقد

أحاذر أن أصلى جحيما، وأن أرى ... صريعا لنار حرها يتوقد

فلا تطمعي في أن أزورك طائعا، ... وأنت لغيري، بالخناء معود

فأجابته الفتاة تقول:

أمرت بتقوى الله، والصبر والتقى، ... فكيف؟ وما لي من سبيل إلى الصبر

وهل تستطيع الصبر حرى حزينة ... معذبة بالحب موقرة الظهر؟

ووالله ما أدعوك يا حب للذي ... تظن، ولكن للحديث وللشعر

وكي نتداوى ما تراكد داؤه ... من الشوق والحب الذي لك في صدري

وليت، فدتك النفس، أبغيك محرما، ... وما ذاك من شأني ولا ذاك من أمري

وما حاجتي إلا الحديث ومجلس ... يسكن دمعا يستهل على النحر

قال فأجابها الفتى:

منع الزيارة أن أزورك طائعا، ... أخشى الفساد، إذا فعلت، فنعتدي

أخشى دنوا منك غير محلل، ... فأكون قد خالفت دين محمد

فأخاف أن يهواك قلبي شارفا، ... فيكون حتفي بالذي كسبت يدي

فالصبر خير عزيمة، فاستعصمي، ... وإلى إلهك ذي المعارج فاقصدي

وإذا أتتك وساوس وتفكر، ... وتذكر، فلكل ذلك فاطردي

وعليك ياسين، فإن بدرسها ... تنفى الهموم، وذاك نفسك عودي

فأجابته الفتاة وهي تقول:

لعمرك ما ياسين تغني من الهوى، ... وقربك من ياسين أشهى إلى قلبي

فدع ذكر ياسين، فليس بنافعي، ... فإني في غمر الحياة، وفي كرب

تحرجت عن إتياننا، وحديثنا، ... فقتلي، إن فكرت، من أكبر الذنب

وإتياننا أدنى إلى الله زلفة، ... وأحسن من قتل المحب بلا عتب

قال: فلما قرأ بشر هذه الأبيات غضب غضبا شديدا، وحلف لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتابا، فلما امتنع كتبت إليه تقول:

سألت ربي، فقد أصبحت لي شجنا، ... أن تبتلى بهوى من لا يباليكا

حتى تذوق الذي قد ذقت من نصب، ... وتطلب الوصل ممن لا يؤاتيكا

رماك ربي بحماة مقلقلة، ... وبامتناع طبيب لا يداويكا

وأن تظل بصحراء على عطش، ... وتطلب الماء ممن ليس يسقيكا

فلما لج بشر وترك الممر ببابها، أرسلت إليه بوصيفة لها فأنشدته هذه الأبيات، فقال للوصيفة: لأمر ما لا أمر، فلما جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر، فكتبت وهي تقول:

كفر يمينك! إن الذنب مغفور، ... واعلم بأنك كفرت مأجور

لا تطردن رسولي وارثين له، ... إن الرسول قليل الذنب مأمور

واعلم بأني أبيت الليل ساهرة، ... ودمع عيني على خدي محدور

أدعوه باسمك في كرب وفي تعب، ... وأنت لاه قرير العين مسرور

فلم لج بشر وترك الممر ببابها، اشتد عليها ذلك، ومرضت مرضا شديدا، فبعث زوجها إلى الأطباء، فقالت: لا تبعث إلي طبيبا، فإني عرفت دائي، قهرني جني في مغتسلي، فقال لي: تحولي عن هذه الدار، فليس لك في جوارنا خير.

فقال لها زوجها: فما أهون هذا. فقالت: إني رأيت في منامي أن أسكن بطحاء تراب. قال: اسكني بنا حيث شئت، فاتخذت دارا على طريق بشر، فجعلت تنظر إليه، كل غداة، إذا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى برأت من مرضها، وعادت إلى حسنها، فقال لها زوجها: إني لأرجو أن يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن اسكني بطحاء تراب، فأكثري من الدعاء.

وكانت مع هند في الدار عجوز، فأفشت إليها أمرها، وشكت ما ابتليت به، وأخبرتها أنها خائفة إن علم بشر بمكانها أن يترك الممر في طريقه، ويأخذ طريقا آخر، فقالت لها العجوز: لا تخافي، فإني أعلم لك أمر الفتى كله، وإن شئت أقعدتك معه، ولا يشعر بمكانك. قالت: ليت ذاك قد كان.

فقعدت العجوز على باب الدار، فلما أقبل بشر قالت له العجوز: يا فتى؟ هل لك أن تكتب لي كتابا إلى ابن لي بالعراق؟ قال بشر: نعم! فقعد يكتب، والعجوز تملي عليه وهند تسمع كلامهما، فلما فرغ بشر قالت العجوز لبشر: يا فتى! إني لأظنك مسحورا، قال بشر: وما أعلمك بذلك؟ قالت له: ما قلت لك حتى علمت، فما الذي تهم؟ قال لها: إني كنت أمر على جهينة، وإن قوما منهم كانوا يرسلون إلي ويدعونني إلى أنفسهم، ولست آمنهم أن يكونوا قد أضمروا لي شرا. قالت له العجوز: انصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك.

فلما انصرف دخلت إلى هند فقالت: هل سمعت ما قال؟ قالت: نعم! قالت: ابشري، فإني أراه فتى حدثا، لا عهد له بالنساء، ومتى ما أتى وزينتك هنيئة وطيبتك، وأدخلتك عليه، غلبت شهوته وهواه دينه، فانظري يخرج زوجك إلى القرية، فأخبريني.

فسألت هند زوجها، فأخبرها أنه خارج يوم كذا وكذا، وأخبرت هند العجوز، وواعدت بشرا ميعادا، لتنظر له في نجمه، فلما كان في ذلك الوقت جاء بشر إلى العجوز، فقالت: إني شاكية لست أقدر أن أجعل النشرة. ولكن بيتي أستر عليك، فدخل معها البيت، وجاءت هند خلفها، فدخلت البيت على بشر، فلما دخلت خرجت العجوز، فأغلقت الباب عليهما، وقدم زوج هند من الخروج في ذلك اليوم إلى الضيعة فجاء حتى دخل داره، فوجد مع امرأته رجلا في البيت، فطلقها، ولبب بالفتى فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا نبي الله! سليمان هذا بأي حق دخل داري، وجامع زوجتي، فبكى بشر، وقال: والله يا رسول الله ما كذبتك منذ صدقتك، وما كفرت بالله منذ آمنت بك، ولا زنيت منذ شهدت أن لا إله إلا الله، فقص على النبي صلى الله عليه وآله، قصته.

فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى العجوز وهند، فأحضرهما، فأقرتا بين يديه، فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق. ثم قال لهند: استغفري لذنبك، وأدب العجوز، وقال لها: أنت رأس الخطيئة، فرجع بشر إلى منزله، وهند إلى منزلها، فهاج بشر حب هند، فسكت حتى إذا قضت عدتها بعث إليها يخطبها، فقالت: لا والله لا يتزوجني وهو قد فضحني عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم مرض من حبها، وعاد إليها الرسول، فقال: إنه مريض، وإنك إن لم تفعلي ليموتن، فقالت: أماته الله، فطال ما أمرضني.

قال: ومرض بشر فاشتد مرضه وبلغ أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا إليه يعودونه، فقال بعضهم: أنا أرجو أن يعذب الله هندا، وأنشأ يقول:

إلهي إني قد بليت من الهوى ... واصبحت يا ذا العرش في أشغل الشغل

أكابد نفسا قد تولى بها الهوى، ... وقد مل أخواني وقد ملني أهلي

وقد أيقنت نفسي بأني هالك ... بهند وأني قد وهبت لها قتلي

وإني وإن كانت إلي مسيئة، ... يشق علي أن تعذب من أجلي

قال: فشهق شهقة فمات، رحمه الله تعالى، وأقامت عليه أخته مأتما، فقامت تندبه، فجاءت هند، وأخته تقول:

وابشراه من لوعة الهوى قد تولى، ... وابشراه ذو الحاجات لا تقضى

وابشراه شبابه ما تملى، ... وابشراه صحيحا قد تولى

وابشراه لكتابه ما أقرأ، ... وابشراه بين أصحابه لا يرى

وابشراه للضيف ما أقرى، ... وابشراه معجلا إلى الغربا

قال: فلما سمعت هند صرخت صرخة، ووقعت ميتة، رحمهما الله، وذهب بها فدفنت مع بشر، فلما مضت أيام جاءت العجوز إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، أنا رأس الخطيئة، كما قلت، أنا التي كنت سبب الأمر، وقد خشيت أن لا تكون لي توبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استغفري لذنبك وتوبي، فإن الله تعالى يقبل التوبة النصوح.

آخر حديثهما.

الحبيب المتبدل

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف قال: أنشدني أبو بكر العامري، أنشدني غيث الباهلي، أنشدتني قريبة أم البهلول لبيهس بن مكنف بن أعيا بن ظريف:

ألم تر ظمياء الشباك تبدلت ... بديلا وحلت حبلها من حباليا؟

أرى الإلف يسلو للتنائي وللغنى، ... ولليأس، إلا أنني لست ساليا

بنفسي ومالي قاسيا لو وجدته ... على النحر فاستسقيته ما سقانيا

ومن لو رأى الأعداء ينتضلونني ... لهم غرضا، يرمونني لرمانيا

ومن لو أراه عانيا لكفيته، ... ومن لو رآني عانيا ما كفانيا

ومن قد عصيت الناس فيه جماعة، ... وصرمت خلانا له، وجفانيا

غايات الوصال

وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف قال: أنشدت للحكم بن قنبر:

وقائلة صل غيرها قد تبدلت، ... فإن ظراف الغانيات كثير

فقلت لها قلبي يقول: وهل لها، ... وإن صرمتني، في الظراف نظير؟

فكفي، فإني في اطلابي لوصلها، ... بأربع غايات الوصال نضير

 

البين مضر للمشغوف

وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف، حدثني أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثني أبو عبد الرحمن الغلابي قال: قال إسحاق: جاء رجل من التجار بقينة يعرضها على الرشيد، وأمر بإدخالها مقصورة لتهيأ فيها، فدخل الفضل بن الربيع ليعترضها، ويخبر أمير المؤمنين، فأخذت العود، وأصلحته، وجعلت تنظر في وجه مولاها، وعيناها تذرفان، وغنت:

قد حان منك، فلا تبعد بك الدار، ... بين، وفي البين للمشغوف أضرار

فأخبر الفضل بن الربيع الرشيد الخبر، فأمر بردها على مولاها، وأمر له بعشرة آلاف درهم.

ما أعف وأمجد

أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: أنشدت لجميل بن عبد الله بن معمر:

أقول، ولما تجز بالود طائلا، ... جزى الله خيرا، ما أعف وأمجدا

فقالت: بغيري كنت تهتف دائبا، ... وكنت صبورا للغواني مصيدا

فقلت: فمن ذا يتم القلب غيركم ... وعوده غير الذي كان عودا

فقالت لتربيها، لتصديق قولها، ... هلما اسمعا منه المقالة واشهدا

فقالت: وهل في ذاك بأس، وإنما ... أريد لكيما تسعداني، وتحمدا

موهوب للمنايا

وبإسناده قال أنشدت لأعرابي:

لقد وهبتني للمنايا غريرة، ... قريبة عهد بالصبى والتمائم

أأجعلها كالرثم، حاشى لحسنها ... وللرخص من أطرافها والمعاصم

بلى! إن طرف الرثم يشبه طرفها، ... ومنها استعار الجيد ظبي الصرائم

خلوت بها ليلا، وثالثنا التقى، ... ولست على ذاك العفاف بنادم

الفتول الخثعمية وحلف الفضول

ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي في كتابه كتاب المجالسات، حدثني أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن موسى عن الزبير، حدثني غير واحد منهم عن عبد العزيز بن عمر القيسي عن مفتي بن عبد الله بن عنبسة: أن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا، ومعه بنت له يقال لها الفتول، فعلقها نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة، فلم يبرح حتى نقلها إليه وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول. فأتاهم، فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، فقالوا له: أخرج ابنة هذا الرجل، وهو يومئذ متبد بناحية مكة، وهي معه. فقال: يا قوم متعوني منها الليلة. قالوا له: لا والله، ولا ساعة، فأخرجها، فأعطوها أباها، وركبوا وركب معهم الخثعمي، فلذلك يقول نبيه بن الحجاج:

راح صحبي ولم أحي الفتولا، ... لم أودعهم وداعا جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني، ولا أخاف الفضولا

عفة ووجه صبيح

أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لبعض الأعراب:

يا خليلي هجرا كي تروحا، ... هجتما للسقام قلبا قريحا

إن تريحا كي تعلما سر سعدى ... تجداني بسر سعدى شحيحا

كلمتني، وذاك ما نلت منها؛ ... إن سعدى ترى الوصال قبيحا

إن سعدى لمنية المتمني، ... جمعت عفة ووجها صبيحا

صدق الواشون

وبالإسناد قال أنشدت لقيس بن الملوح:

فماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

نعم! صدق الواشون! أنت كريمة ... علي، وأهوى منك حسن الخلائق

كذا ذكر والصواب:

نعم! صدق الواشون! أنت حبيبة ... إلي، وإن لم تصف منك الخلائق

سواء في الهوى

في المجالسات حدث أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي، حدثني أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله المحرر، أخبرني بعض أصحابنا، أخبرني صديق لي من أهل المدينة قال: كان لنا عبد أسود يستقي الماء، فهوي جارية لبعض المدنيين سوداء، وكان يواصلها سرا منا، فلم يزالا كذلك حتى اشتهر أمرهما، وظهر، فشكا مولى الجارية الغلام إلى أبي، فضربه وحبسه وقيده، فمكث أياما على هذه الحال ثم دخلت إليه فقلت له: ويلك! قد فضحتنا وشهرتنا بحبك لهذه السوداء، وتعرضت فيها للمكروه، فهل تجد بك مثل وجدك بها؟ فبكى، وأنشأ يقول:

كلانا سواء في الهوى غير أنها ... تجلد أحيانا، وما بي تجلد

تخاف وعيد الكاشحين، وإنما ... جنوني عليها حين أنهى وأوعد

قال: فخبرت بذلك أبي، فحلف أنه لا يبيت أو يجمع بينهما، فاشتراها له أبي باثي عشر دينارا وزوجها منه.

قتيل لا قود له ولا دية

أنبأنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متويه البلخي، حدثنا أحمد بن إسماعيل الكرابيسي، حدثنا معبد بن فرقد البلخي، حدثنا سليمان بن أبي عبد الرحمن عن مجالد بن عبد الرحمن الأندلسي عن عطاء أن عكرمة قال: كنا عند ابن عباس في آخر أيام العشر في المسجد الحرام، إذ أقبل فتيان يحملون فتى، حتى وضعوه بين يدي ابن عباس فقالوا: استشف الله له تؤجر. فقال لهم: ما به؟ فأنشأ الفتى يقول:

وبي من جوى الأسقام والحب لوعة، ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب

ولكنما أبقى حشاشة ما ترى ... على ما به عود هناك صليب

قال ابن عباس: والله ما رأيت وجها أعتق، ولا لسانا أذلق، ولا عودا أصلب من هذا، هذا والله قتيل الحب والهوى، لا قود له ولا دية.

الدمع المبتذل

وأنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا جعفر الموسائي العلوي يقول: حدثني محمد بن أحمد بن الرصافي قال: قال لي عبد الملك بن محمد: إني خرجت من البصرة أريد الحج، فإذا أنا بفتى نضو قد نهكه السقام، يقف على محمل محمل، وهودج هودج، ويطلع فيه، فتعجبت منه ومن فعله، فقال:

أحجاج بيت الله في أي هودج، ... وفي أي خدر من خدوركم قلبي؟

أأبقى أسير الحب في دار غربة، ... وحاديكم يحدو بقلبي في الركب؟

فلم أزل أقف عليه، حتى جاء إلى المنزل، فاستند إلى جدار ثم قال:

خل فيض الدمع ينهمل، ... بان من تهواه فارتحلوا

كل دمع صانه كلف ... فهو يوم البين مبتذل

قال: ثم تنفس الصعداء، وشهق شهقة، فحركته، فإذا هو ميت.

يقتل من يحبه

أنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا القاسم بن متويه يقول: رشق الجماني العلوي غلاما له وكان يحبه، فقتله، وقال فيه:

فإن تك قد قتلت بسهم رام، ... وكانت قوسه سببا لحتفك

فكم يوم أدمت القتل فيه، ... بقوسي حاجبيك وسهم طرفك

هذا مليح

أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب بالشام، أنبأنا أبو الفرج التميمي أنشدنا أبو الحسن السلامي لنفسه:

ظبي إذا لاح في عشيرته ... يطرق بالهم قلب من طرقه

سهام ألحاظه مفوقة، ... فكل من رام وصله رشقه

بدائع الحسن فيه مفترقه، ... وأنفس العاشقين متفقه

قد كتب الحسن فوق عارضه: ... هذا مليح وحق من خلفه

الشاهد الغائب

أنبأنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد بن أبي مسلم، حدثنا أبو بكر الصولي قال: كنا يوما عند تغلب، فأقبل محمد بن داود الأصفهاني، فسلم عليه أبو العباس، ثم قال له: أهاهنا شيء من صيودك؟ فأنشده:

سقى الله أياما لنا ولياليا، ... لهن بأكناف الشباب ملاعب

إذ العيش غض، والزمان مطاوع، ... وشاهد آفات المحبين غائب

السقم المسروق

قال: وأنشدني أبو بكر الصولي:

أحببت من أجله من كان يشبه، ... وكل شيء من المعشوق معشوق

حتى حكيت بجسمي ما بمقلته، ... كأن سقمي من جفنيه مسروق

حياة الكلام وموت النظر

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أحمد بن طيفور، حدثنا عبد الله بن أحمد، أخبرني أبو أحمد الغساني عن أعرابي من عذرة يكنى أبا المعرج قال: نزل أعرابي من بني أسد بأعرابية من طي في يوم صائف، فأتته بقرى حاضر وماء بارد، فنظر إليها، ففتنته بنظرها من وراء البرقع، فراودها عن نفسها، فقالت: يا هذا! أما يقذعك الإسلام والكرم؟ كل وقل، وإن أردت غير ذلك فارتحل، فأنشأ الأسدي يقول:

تقول لي عمرة قول المبتعل: ... للضيف حق يا فتى فكل وقل

فعندنا ما شئت من برد وظل، ... أما الذي تطلبه، فلا يحل

يمنع منه الدين والعرق الأصل

قال: وعلقها، فقال: فزوجيني نفسك. فقالت: شأنك وأوليائي؟ فأتاهم، فخاف أن لا يزوجوه للعداوة التي بينهم، فانتسب عذريا، فزوجوه، فأقام معها زمانا ثم علم به أهلها، فقالوا: يا هذا والله إنك لكفؤ كريم، ولكنا نكره أن تنكح منا وأنت حربنا، فخل عن صاحبتنا، وقد كان تزايد وجده بها لما رأى من موافقتها وحسنها، وكانت تهالكه عند الجماع، فطلقها وقال:

أحبك يا عمر حب المسر، ... لطول الحياة وأمن الغير

ويعجبني منك عند الجما ... ع حياة الكلام وموت النظر

وهجرك يرمين بالمنكرات ... أغاليظ ذو السكر المبتهر

وذو أشر بارد طعمه، ... ورابي المجسة سخن القعر

الأخوات الثلاث وكتابهن

أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي في ما أجاز لنا، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا الحسين بن القاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني عم لي قال: ذكر لي رجل من أهل المدينة أن رجلا خرج حاجا، فبينا هو قد نزل تحت سرحة في بعض الطريق، بين مكة والمدينة، إذا هو بكتاب معلق في السرحة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الحاج القاصد بيت الله إن ثلاث أخوات فتيات خلون يوما، فبحن بهواهن، وذكرن أشجانهن، فقالت الكبرى منهن:

عجبت له أن زار في النوم مضجعي، ... ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

وقالت الوسطى:

ما زارني في النوم إلا خياله، ... فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا

وقالت الصغرى:

بنفسي وأهلي من أرى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك أطيبا

وفي أسفل الكتاب: رحم الله من نظر في كتابنا هذا وقضى بيننا بالحق ولم يجر في القضية. قال: فأخذ الكتاب فتى وكتب في أسفله:

أحدث عن حور تحدثن مرة، ... حديث امرئ ساس الأمور وجربا

ثلاث كبكرات الهجان عطابل، ... نواعم يقتلن اللئيم المسببا

خلون، وقد غابت عيون كثيرة، ... من اللاء قد يهوين أن يتغيبا

فبحن بما يخفين من لاعج الهوى، ... معا، واتخذن الشعر ملهى وملعبا

عجبت له أن زار في النوم مضجعي، ... ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

وإذ أخبرت ما أخبرت وتضاحكت، ... تنفست الأخرى، وقالت تطربا:

وما زارني في النوم إلا خياله، ... فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا

وشوقت الأخرى وقالت مجيبة ... لهن بقول كان أشهى وأعذبا:

بنفسي وأهلي من أرى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك أطيبا

فلما تبينت الذي قلن وانبرى ... لي الحكم لم أترك لدى القول معتبا

قضيت لصغراهن بالظرف، إنني ... رأيت الذي قالت إلى القلب أطربا

غريبان وجارية

أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين قالا: حدثنا أبو القاسم بن سويد العدل، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن علي الكاتب، أخبرني بعض أصحابنا من الكتاب قال: دخلت البصرة أنا وصديق لي، فرأيت جارية قد خرجت من بعض الدور كأنها فلقة قمر، فقلت لصاحبي: لو ملت بنا إليها فاستسقيناها ماء؟ ففعل، فقلنا له: جعلنا الله فداءك، اسقينا ماء، فقالت: نعم، وكرامة! فدخلت وأخرجت كوز ماء، وهي تقول:

ألا حي شخصي قاصدين أراهما ... أقاما فما أن يعرفا مبتغاهما

هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما

فقلت لها: جعلني الله فداءك، فهل لك في الخلوة؟ فولت، وهي تقول: شه! أجمل أنا فيركبني اثنان؟

المضل إبله والجارية الموجعة القلب

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا إبراهيم بن محمد الطائفي، حدثني صقر بن محمد مولى قريش، حدثنا الأصمعي قال: سمعت رجلا من بني تميم يقول: أضللت إبلا لي، فخرجت في طلبهن، فمررت بجارية أعشى نورها بصري، فوقفت بها، فقالت: ما حاجتك؟ قلت: إبل لي أضللتها، فهل عندك شيء من علمها؟ قالت: أفلا أدلك على من عنده علمهن؟ قلت: بلى! قالت: الذي أعطاكهن هو الذي أخذهن، فاطلبهن من طريق التيقن لا من طريق الاختيار. ثم تبسمت، وتنفست الصعداء، ثم بكت وأطالت البكاء، وأنشأت تقول:

إني وإن عرضت أشياء تضحكني، ... لموجع القلب مطوي على الحزن

إذا دجا الليل أحيا لي تذكره، ... والصبح يبعث أشجانا على شجن

وكيف ترقد عين صار مؤنسها ... بين التراب، وبين القبر والكفن

أبلى الثرى وتراب الأرض جدته، ... كأن صورته الحسناء لم تكن

أبكي عليه حنينا حين أذكره، ... حنين والهة حنت إلى وطن

أبكي على من حنت ظهري مصيبته، ... وطير النوم عن عيني وأرقني

والله لا أنس حبي الدهر ما سجعت ... حمامة، أو بكى طير على فنن

فقلت، عندما رأيت من جمالها وحسن وجهها وفصاحتها وشدة جزعها: هل لك من بعل لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه؟ فأطرقت مليا ثم أنشأت تقول:

كنا كغصنين في أصل غذاؤهما ... ماء الجداول في روضات جنات

فاجتث خيرهما من جنب صاحبه، ... دهر يكر بفرحات وترحات

وكان عاهدني، إن خانني زمن، ... أن لا يضاجع أنثى بعد مثواتي

وكنت عاهدته أيضا، فعاجله ... ريب المنون مذ سنيات

فاصرف عنانك عمن ليس يردعه ... عن الوفاء خلاب في التحيات

 

دعه ليوم البعث

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن بيان الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن الحسين، حدثني محمد بن سلام الجمحي قال: سمعت خارجة بن زياد، وهو من بني سليم، يذكر قال: هويت امرأة من الحي، فكنت أتبعها إذا خرجت إلى المسجد، فعرفت مني ذلك فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم! قالت: وما هي؟ قلت: مودتك. قالت: دع ذلك ليوم التغابن. قال: فأبكتني، والله فما عدت إليها بعد ذلك.

لحام بني إسرائيل والجارية

أخبرنا أحمد، حدثنا محمد، حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمران الجوني قال: كان لحام بني إسرائيل لا يتورع من شيء، فجهد أهل بيت من بني إسرائيل، فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله، فمضت إليه، وقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا لحما! فقال: لا! أو تمكنيني من نفسك. فرجعت، فجهدوا جهدا شديدا، فرجعت إليه، فقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا! فقال: لا! أو تمكنيني من نفسك. فرجعت، فجهدوا جهدا شديدا، فأرسلوها إليه، فقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا، فقال: لا؟! أو تمكنيني من نفسك. قالت: دونك.

فلما خلا بها جعلت تنتفض كما تنتفض السعفة إذا خرجت من الماء، فقال لها: ما لك؟ قالت: أخاف الله! هذا شيء لم أصنعه قط. قال: فأنت تخافين الله ولم تصنعيه، وأفعله أنا. أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه.

قال: فأوحى الله، عز وجل، إلى نبي بني إسرائيل: أن كتاب لحام بني إسرائيل أصبح في كتاب أهل الجنة، فأتاه النبي، عليه السلام، فقال: يا لحام! أما علمت بأن كتابك أصبح في كتاب أهل الجنة؟

راهبة لا تشارك في المعصية

أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف القاضي، حدثنا أبو بكر القرشي، حدثني أحمد بن العباس النمري، حدثني أبو عثمان التميمي قال: مر رجل براهبة من أجمل النساء فافتتن بها، فتلطف في الصعود إليها، فأرادها على نفسها، فأبت عليه، وقالت: لا تغتر بما ترى، فليس وراءه شيء، فأبى حتى غلبها على نفسها، وكان إلى جانبها مجمرة لبان، فوضعت يدها فيها، حتى احترقت، فقال لها بعد أن قضى حاجته منها: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قالت: إنك لما قهرتني على نفسي خفت أن أشركك في اللذة، فأشاركك في المعصية، ففعلت ذاك لذلك، فقال الرجل: والله لا أعصي الله أبدا، وتاب مما كان عليه.

يقلع عينه

وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر القرشي، حدثني محمد بن الحسين، حدثني الصلت بن حكيم، حدثني موسى بن صالح أبو هارون قال: نظر رجل من عباد بني إسرائيل إلى امرأة جميلة نظرة شهوة، فعمد إلى عينه فقلعها.

اللهو البرئ

أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: وأنشدني عبد الله بن شبيب لبعض المدنيين:

وبالعرصة البيضاء إن زرت أهلها، ... مها مهملات ما عليهن سائس

خرجن لحب اللهو من غير ريبة، ... عفائف باغي اللهو منهن آيس

شادن من بني الرهبان

ولي من أثناء قصيدة:

وشادن من بني الرهبان تاركني ... حبي، وقد شاع بين الناس واشتهرا

وقال: لو كنت صبا لافتديت بمن ... تهواه في لبسه الزنار والشعرا

فقلت: لست بذنبي طالبا بدلا، ... ولو أذاب غرامي أعظمي وبرى

وكان ذلك منه أصل سلوته، ... والعزم في الأمر مما يعقب الظفرا

اليد المسموطة

أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت إن لم يكن حدثنا، حدثنا القاضي أبو القاسم هبة الله بن الحسين الرحبي، حدثنا علي بن أحمد المهلبي، أخبرنا أبو العباس بن عطاء قال:

كان يحضر حلقتي شاب حسن الوجه يخبئ يده. قال: فوقع لي أن الرجل قد قطعت يده على حال من الأحوال، قال: فجاءني يوم جمعة، وقد جاءت السماء بالبركات، ولم يجئني في ذلك اليوم أحد، فطالبتني نفسي بمخاطبته، فدفعتها مرارا كثيرة إلى أن غلب علي كلامه، فكلمته فقلت له: يا فتى ما بال يدك تخبئها، لم لا تخرجها، فإن كان بها علة دعوت الله تعالى لك بالعافية، فما سببها؟ فأخرجها، فرأيت فيها شبيها بالشلل، فقلت: يا فتى ما أصاب يدك؟ قال: حديثي طويل. قلت: ما سألتك إلا وأحب أن أسمعه.

فقال لي الغلام: أنا فلان بن فلان، خلف لي أبي ثلاثين ألف دينار، فعلقت نفسي بجارية من القيان، فأنفقت عليها جملة، ثم أشاروا علي بشرائها، فاشتريتها بستة آلاف دينار، فلما حصلت عندي وملكتها قالت: لم اشتريتني، وما في الأرض أبغض إلي منك، وإني لأرى نظري إليك عقوبة، فاسترد مالك، فلا متعة لك بي، مع بغضي لك. قال: فبذلت لها كل ما يبذله الناس، فما ازدادت إلا عتوا، فهممت بردها، فقالت لي داية لي: دعها تموت ولا تموت أنت.

قال: فاعتزلت في بيت، ولم تأكل ولم تشرب، وإنما كانت تبكي وتتضرع حتى ضعف الصوت، وأحسسنا منها بالموت، وما مضى يوم إلا وأنا أجيء إليها وأبذل لها الرغائب، وما ينفع ذلك ولا تزداد إلا بغضا لي.

فلما كان اليوم الرابع أقبلت عليها وسألتها عما تشتهيه، فاشتهت حريرة فحلفت لا يعملها أحد سواي، وأوقدت النار ونصبت القدر، وبقيت أمرس ما جعل فيها، والنار تعمل، وقد أقبلت علي تشكو ما مر بها من الآلام في هذه الأيام، فأقبلت دايتي، فقالت: يا سيدي سليمان يدك؛ قد ذهبت، فرفعتها وقد انسمطت على ما تراها.

قال أبو العباس: فصعقت صعقة، وقلت: يا بأبي هذا في طلب المعشوق أقبل عليك، فنالك هذا كله.

التفاح بدل الجمار

أخبرنا أحمد بن علي التوزي، حدثنا إسماعيل بن سويد، حدثنا أبو علي الكوكبي، أخبرني ابن الأصقع قال: قال لي بعضهم: رأيت ببغداد في وقت الحج فتى ومعه تفاح مغلف، فانتهى إلى سور فوقف تحته، فاطلع عليه جوار كأنهن المها، فأقبل يرميهن بذاك التفاح، فقلن له: أم تكن معتزما على الحج؟ فقال:

ولما رأيت الحج قد آن وقته، ... وأبصرت تلك العيس بالركب تعسف

رحلت مع العشاق في طلب الهوى، ... وعرفت من حيث المحبين عرفوا

وقد زعموا أن الجمار فريضة، ... وتارك مفروض الجمار يعنف

عمدت لتفاح ثلاث وأربع، ... فزعفر لي بعض وبعض مغلف

وقمت حيال القصر، ثم رميته، ... فظلت لها أيدي الملاح تلقف

وإني لأرجو أن تقبل حجتي، ... وما ضمني للحج سعي وموقف

مدرك الشيباني وعمرو النصراني

أخبرنا القاضي أبو عبد الله القضاعي إجازة، أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاد النحيرمي بقراءتي عليه، أخبرنا جعفر بن شاذان القمي أبو القاسم قال: كان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد، في الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورة وأجملهم خلقا، وكان مدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان من أفاضل أهل الأدب، وكان له مجلس يجتمع إليه الأحداث لا غير، فإن حضره شيخ أو كهل قال له: إنه ليقبح بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان فقم في حفظ الله.

وكان عمرو بن يوحنا ممن يحضر مجلسه، فعشقه مدرك، وهام به، فجاء عمرو يوما إلى المجلس، فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره، فقرأها، فإذا فيها:

بمجالس العلم التي ... بك تم جمع جموعها

ألا رثيت لمقلة، ... غرقت بماء دموعها

بيني وبينك حرمة، ... الله في تضييعها

فقرأ الأبيات، ووقف عليها من كان في المجلس، وقرأوها واستحيا عمرو من ذلك، فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، فترك مجلسه، ولزم دار الروم، وجعل يتبع عمرا حيث سلك، وقال فيه قصيدة مزدوجة عجيبة، وله أيضا في عمرو أشعار كثيرة، ثم اعترى مدركا الوسواس وسل جسمه، وذهب عقله، وانقطع عن إخوانه، ولزم الفراش، فحضره جماعة فقال لهم: ألست صديقكم القديم العشرة لكم، فما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه، وقالوا له: إن كان قتل هذا الفتى دينا، فإن إحياؤه لمروءة. قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حال ما نحسبك تلحقه، فلبس ثيابه، ونهض معهم، فلما دخلوا عليه سلم عليه عمرو، وأخذ بيده، وقال: كيف تجدك يا سيدي؟ فنظر إليه وأغمي عليه ساعة، ثم أفاق وفتح عينيه، وهو يقول:

أنا في عافية إ ... لا من الشوق إليكا

أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا

لا تعد جسما وعد ... قلبا رهينا في يديكا

كيف لا يهلك مر ... شوق بسهمي مقلتيكا

ثم شهق شهقة فارق الدنيا بها حتى دفنوه.

كلانا أسير الهوى

ولي من أثناء قصيدة كتبت بها إلى بعض أهل العلم:

وذي شجن مثلي شكوت صبابتي ... إليه، ودمعي ما يفتر قطره

فقال، ولم يملك سوابق عبرة ... تترجم عما قد تضمن صدره:

كلانا أسير في الهوى متهدد ... بقتل، فما ينفك ما عاش أسره

لقد ضاق ضرعي بالنوى، وأملني ... نعيب غراب البين لا شيد وكره

وأقلقني حادي الركائب بالضحى، ... وسائقها لما تتابع زجره

وتقويض خيم الحي والبين ضاحك ... لفرقتنا، حتى بدا منه ثغره

وفي الجيرة الغادين أحوى، عذاره ... يقوم به للعاشق الصب عذره

غدائره لي شاهدات بأنه ... وفيت له من بعد ما بان غدره

أي قول أحسن؟

أخبرنا أحمد بن علي الوراق بدمشق، حدثنا الحسين بن محمد أخو الخلال، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الشطي بجرجان، حدثنا أبو علي أحمد بن الحسين بن شعبة، حدثنا أحمد بن جعفر الهاشمي، حدثنا محمد بن عبد الله الكاتب قال: كنت يوما عند محمد بن يزيد المبرد، فأنشد:

جسمي معي غير أن الروح عندكم، ... فالجسم في غربة والروح في وطن

فليعجب الناس مني أن لي بدنا ... لا روح فيه، ولي روح بلا بدن

ثم قال: ما أظن الشعراء قالت أحسن من هذا. قلت: ولا قول الآخر؟ قال: هيه! قلت: الذي يقول:

فارقتكم وحييت بعدكم، ... ما هكذا كان الذي يجب

فالآن ألقى الناس معتذرا، ... من أن أعيش وأنتم غيب

قال: ولا هذا. قلت: ولا خالد الكاتب:

روحان لي، روح تضمنها ... بلد، وأخرى حازها بلد

وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد

قال: ولا هذا. قلت: أنت إذا هويت الشيء ملت إليه، ولم تعدل إلى غيره. قال: لا! ولكنه الحق، فأتيت ثعلبا، فأخبرته، فقال ثعلب ألا أنشدته:

غابوا، فصار الجسم من بعدهم، ... ما تنظر العين له فيا

بأي وجه أتلقاهم، ... إذا رأوني بعدهم حيا

يا خجلتي منه، ومن قوله: ... ما ضرك الفقد لنا شيا

قال: فأتيت إبراهيم بن إسحق الحربي، قأخبرته، فقال: ألا أنشدته:

يا حيائي ممن أحب، إذا ما ... قال بعد الفراق: إني حييت

لو صدقت الهوى حبيبا، على الص ... حة لما نأى، لكنت تموت

قال: فرجعت إلى المبرد، فقال: أستغفر الله إلا هذين البيتين، يعني بيتي إبراهيم.

شهود ثقات

وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا محبوب بن محمد النرديجي قاضي شروان، أنبأنا أبو سعيد الحسن بن زكريا العدوي ببغداد: أنشدني إبراهيم الحربي:

أنكرت ذلي، فأي شيء ... أحسن من ذلة المحب؟

أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حبي؟

قال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات.

ود ووفاء حتى الموت

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر، حدثنا الزبير بن بكار عن مولى لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، قال، وكان راوية: إن فتى من قريش من أهل المدينة هوي جارية منهم، فاشتد وجد كل واحد منهما بصاحبه، ثم بلغه عنها أنها تبدلت، فشكا ذلك إلى أخ له، فكان يستريح إليه، وكانت الجارية قد خرجت مع صواحب لها تتبدى، فقال له صاحبه: الرأي أن تتلقاها فتعلمها ذلك، فإن كانت قد فعلت كان اعتزالك عنها، وإن كانت لم تفعل لم تعجل عليها بقطيعة.

قال: فخرجنا حتى أتينا القصر الذي هي فيه، وأرسل إليها: إني أريد أن أكلمك، فأرسلت إليه: إني لا أقدر نهارا، ولكن موعدك الليلة من وراء القصر. فلقيها لموعدها، فشكا إليها وذكر شدة وجده بها وما هو فيه. فقالت: قد أكثرت علي، وما أدري بما أجيبك، إلا أن مثلي ومثلك ما قال جميل:

فما سرت من ميل ولا سرت ليلة ... من الدهر إلا اعتادني منك طائف

ولا مر يوم مذ ترامت بك النوى ... ولا ليلة إلا هوى منك رادف

أهم سلوا عنك ثم تردني ... إليك وتثنيني عليك العواطف

فلا تحسبن النأي أسلى مودتي، ... ولا أن عيني ردها عنك عاطف

وكم من بديل قد وجدنا وطرفة، ... فتأبى علي النفس تلك الطرائف

ثم افترقا وقد خرج ما كان في قلوبهما فلم يزالا على الوفاء والود حتى ماتا.

 

الهموم الغالبة

أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية:

شغلتني بها، ولم ترع عهدي، ... ثم منت وعهدها لا يدوم

ورأتني أبكي إليها، فقالت: ... يتباكى كأنه مظلوم

علم الله أنني مظلوم، ... وحبيبي بما أقول عليم

ليس لي في الفؤاد حظ فأشكو، ... غلبتني على الفؤاد الهموم

العاصمان الحياء والكرم

حدثنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أنبأنا محمد بن أحمد بن فارس، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لبعضهم:

ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا عصاه الحياء والكرم

فلا إلى محرم مددت يدي، ... ولا سعت بي لريبة قدم

وفاء أعرابية لزوجها

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي المقنعي، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن العباس المكتب، حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: رأيت أعرابية ذات جمال فائق بمنى، وهي تتصدق، فقلت لها: يا أمة الله تتصدقين، ولك هذا الجمال؟ فقالت: قدر الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟ قالت: هذا الحاج نتقممهم، ونغسل ثيابهم. قلت: فإذا ذهب الحاج، فمن أين؟ فنظرت إلي، وقالت لي: يا صلت الجبين! لو كنا إنما نعيش من حيث تعلم لما عشنا.

فوقعت بقلبي. فقلت لها: هل لك زوج يعفك ويغنيك الله بسعيه وكده؟ قالت: هيهات، ما أنا إذا من العرب، ولم أف له! فعلمت أن زوجها توفي وآلت أن لا تتزوج بعده، فتركتها.

لا خير في ناقض العهد

أخبرنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف أنشدني رجل من قريش لبعضهم:

والله لا خنت من هويت، ولا ... تسكن عنه صبابتي أبدا

لا خير في مغرم أخي كلف ... ينقض عهدا له إذا عهدا

حتى يرى صاحبا لصاحبه ... في قربه، إن دنا وإن بعدا

أم الضحاك وأرق الهم

وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثني قاسم بن الحسن، أخبرني العمري، أخبرني الهيثم بن عدي قال: كانت أم الضحاك المحاربية تحت رجل من بني ضبة يقال له زيد، وكان لها محبا، فسلا عنها، وتزوج عليها، وكانت على غاية المحبة له فحجت، فبينا هي تطوف بالكعبة إذ رأت زيدا، فلم تملك نفسها أن قبضت على ثوبه، وقالت: أنت هو؟ قال: نعم! حياك الله، فمه! فأنشأت تقول:

أتهجر من تحب بغير جرم، ... أسأت إذا وأنت له ظلوم

تؤرقني الهموم، وأنت خلو، ... لعمرك ما تؤرقك الهموم

فلا والله آمن بعد زيد ... خليلا ما تغورت النجوم

حب على غير ريبة

قال محمد بن خلف: وأنشدني بعض أهل الأدب لأعرابي:

أحب التي أهوى على غير ريبة، ... وأحفظها في ما أسر وما أبدي

ولست بمفش سرها وحديثها، ... ولا ناقض يوما لها موثق العهد

ولا مبتغ أخرى سواها، مكانها، ... ولو أنها حوراء من جنة الخلد

عاشق ومعشوق

قال: وأنشدت أيضا لغيره:

لا خير في من هواه ممذوق، ... ليس له في هواه تصديق

هواي، ما عشت، واحد أبدا، ... لأنني عاشق ومعشوق

وكل من كان صادقا أبدا ... قامت له في فؤاده سوق

مراودة الرسول

زعم الرسول بأنني راودته، ... كذب الرسول، ومنزل الفرقان

ما كنت أجمع خلتين: خيانة ... لكم، وبيع كرامة بهوان

ساء ظن المحب

وقال عباس:

إن جهد البلاء حبك إنسا ... نا هواه بآخر مشغول

ما علمنا إلا الجميل، وما يش ... بهكم، يا ظلوم، إلا الجميل

ما عهدنا ما تكرهون، ولكن ... ساء ظن المحب في ما يقول

 

 

عاشق عفيف

أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لأبي عبد الرحمن العلوي:

إن أكن عاشقا، فإني عفيف الل ... فظ والفرج عن ركوب الحرام

ما حماني الإسلام حب ذوات الأ ... عين النجل والوجوه الوسام

عمر ونصر بن حجاج

وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد، حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الله بن عبيد، أخبرني محمد بن عبد الله، حدثني أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله، حدثني محمد بن سعيد القرشي، أخبرنا محمد بن جهم بن عثمان بن أبي جهمة، وكان جهمة على ساقة غنائم خيبر يوم افتتحها النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: أخبرني أبي عن جده قال: بينما عمر بن الخطاب يطوف ذات ليلة في سكة من سكك المدينة، إذ سمع امرأة وهي تهتف من خدرها وتقول:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها، ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل، ... سهل المحيا، كريم، غير ملجاج

قال: فقال عمر، رحمة الله عليه: ألا أرى معي في المصر رجلا تهتف به العواتق في خدورهن؟ علي بنصر بن حجاج! فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجها وشعرا، فقال: علي بالحجام، فجز شعره، فخرجت له وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال: اعتم، فاعتم، ففتن الناس. فقال عمر: والله لا تساكنني ببلد أنا فيه. قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين ! قال: هو ما قلت لك. فسيره إلى البصرة، وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر إليها عمر بشيء، فدست إليه أبياتا تقول فيها:

قل للإمام الذي تخشى بوادره: ... ما لي وللخمر أو نصر بن حجاج

إني عنيت أبا حفص بغيرهما، ... شرب الحليب وطرف غيره ساجي

إن الهوى ذمة التقوى، فقيده ... حتى أقر بإلجام وإسراج

لا تجعل الظن حقا، أو تبينه، ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي

قال: فبعث إليها عمر: قد بلغني عنك خبر، وإني لم أخرجه من أجلك، ولكن بلغني أنه يدخل على النساء، ولست آمنهن.

قال: وبكى عمر، وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى حتى أقر بإلجام وإسراج. ثم إن عمر كتب إلى عامله بالبصرة كتبا، فمكث الرسول عنده أياما، ثم نادى مناديه: الا إن بريد المسلمين يريد أن يخرج، فمن كانت له حاجة فليكتب! فكتب نصر بن حجاج كتابا، ودسه في الكتب، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين سلام عليك! أما بعد فلعمري، يا أمير المؤمنين، لئن سيرتني أو حرمتني وما نلت مني عليك بحرام، وكتب بهذه الأبيات:

أإن غنت الذلفاء يوما بمنية، ... وبعض أماني النساء غرام

ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء، فما لي في الندي كلام

ويمنعني مما تظن تكرمي، ... وآباء صدق سالفون كرام

ويمنعها مما تظن صلاتها، ... وحال لها في قومها وصيام

فهذان حالانا! فهل أنت راجعي، ... فقد جب مني كاهل وسنام

فقال عمر، لما قرأ الكتاب: أما ولي سلطان فلا، فما رجع إلى المدينة إلا بعد وفاة عمر، وله خبر طويل ليس هذا موضعه، ويقال إن هذه المتمنية أم الحجاج.

الله شاهد

وبإسناده، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني بعض أهل الأدب عن عثمان بن عمر، حدثني عبد الله بن صالح، حدثني بلال بن مرة قال: بلغني أن أعرابيا خلا بجارية من قومه، فراودها عن نفسها، فقالت: ويحك! والله إن كان ما تدعوني إليه حلالا، لقد كان قبيحا. قال: وكيف ذاك؟ قالت: والشاهد الله. قال: فلم يعاودها.

رداء من الصون والعفاف

ولي من نسيب قصيدة من أولها:

يا ليلة لا أزال أذكرها، ... ما نسيت ليلة، وأشكرها

وفت سليمى فيها بموعدها، ... إذ طرقت، والظلام يضمرها

وغاب عنا رقيبنا، فصفت، ... وكان يخشى منه تكدرها

بتنا ضجيعين في ملاحف يط ... ويها الهوى تارة وينشرها

أنهل من ريقها على ظمإ، ... صهباء، فوها الشهي معصرها

نقلي على شرب ريقها قبل ... تشعل نار الهوى وتسعرها

إن مل لفظ مكرر، فمنى ... نفسي في لفظة تكررها

جارية ذات منظر حسن، ... أحسن تصويرها مصورها

كالغصن قدا، والبدر إن سفرت، ... شبيهها في الظباء أحورها

فمن كثيب واراه مئزرها، ... وبدر تم غطاه معجرها

طيبة الأصل لست أنسبها ... مخافة أن يغار معشرها

وخافت الصبح أن ينم على ... مكانها ضوءه فيشهرها

فودعتني عجلى، وأدمعها ... يبل أردانها تحدرها

وانصرفت في رداء مكرمة، ... وحلتي عفة تجررها

رداؤها الصون والعفاف، فما ... تكاد عين الأنام تنظرها

وهي طويلة اقتصرت على ما ذكرته.

نصيب وزينب

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا عبد الله بن عمرو وأحمد بن حرب، حدثنا بنان هو ابن أبي بكر، حدثني محمد بن المؤمل بن طالوت الوادي، حدثني أبي عن الضحاك بن عثمان الحزامي قال: خرجت في آخر الحج، فنزلت بخيمة بالأبواء على امرأة، فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت بقول نصيب:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب

وقل في تجنيها لك الذنب: إنما ... عتابك من عاتبت فيما له عتب

خليلي من كعب ألما، هديتما، ... بزينب، لا يفقدكما أبدا كعب

وقولا لها: ما في البعاد لذي الهوى ... بعاد، وما فيه لصدع النوى شعب

فمن شاء رام الوصل، أو قال ظالما ... لصاحبه ذنب، وليس له ذنب

قال: فلما سمعني أتمثل بالأبيات قالت: يا فتى! أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم! ذاك نصيب. قالت: نعم، هو ذاك، أفتعرف زينب؟ قلت: لا! قالت: أنا والله زينب. قلت: فحياك الله. قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين. خرج إليه عام أول، وعدني هذا اليوم. ولعلك لا تبرح حتى تراه.

قال: فما برحت من مجلسي، وإذا أنا براكب يزول مع السراب. فقالت: ترى خبب ذاك الراكب؟ إني أحسبه إياه.

ثم أقبل الراكب حتى أناخ قريبا من الخيمة، فإذا هو نصيب، ثم ثنى رجله عن راحلته، فنزل ثم أقبل، فسلم علي، وجلس ناحية، وسلم عليها، وساءلها وساءلته فأحفيا، ثم ساءلته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بعدها، فجعل ينشدها، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة.

فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي: على رسلك! أنا معك. فجلست حتى نهض، ونهضت معه، فتسايرنا ساعة، ثم التفت إلي فقال: قلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. قلت: نعم! قد كان ذاك. قال: فلا ورب هذه البنية التي إليها نعمد ما جلست منها مجلسا قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولا كان بيننا مكروه قط.

العاشق المتكتم

وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو موسى عيسى بن جعفر الكاتب، حدثني محمد بن سعيد، حدثني إسحق بن جعفر الفارسي: سمعت عمر بن عبد الرحمن يحكي عن بعض العمريين قال: بينا أنا يوما في منزلي إذ دخل علي خادم لي، فقال لي: رجل بالباب معه كتاب. فقلت له: ادخله، أو خذ كتابه. قال: فأخذت الكتاب منه، فإذا فيه هذه الأبيات:

تجنبك البلا، ولقيت خيرا، ... وسلمك المليك من الغموم

شكون بنات أحشائي إليكم ... هواي حين ألفتني كتوم

وحاولن الكتاب إليك في ما ... يخامرها، فدتك من الهموم

وهن يقلن يا ابن الجود: إنا ... برمنا من مراعاة النجوم

وعندك، لو مننت، شفاء سقمي ... لأعضاء ضنين من الكلوم

فلما قرأت الأبيات قلت: عاشق. فقلت للخادم: ادخله، فخرج إليه الخادم بالخبر فلم يجده، فقلت أخطأت، فما الحيلة؟ فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردد في قلبي، فدعوت جواري كلهن ممن يخرج منهن ومن لا يخرج فجمعتهن ثم قلت: أخبرنني الآن قصة هذا الكتاب.

قال: فجعلن يحلفن، وقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببا وإنه لباطل. ثم قلن: من جاء بهذا الكتاب؟ فقلت: قد فاتني، وما أردت بهذا القول لأني ضننت عليه بمن يهوى منكن، فمن عرفت منكن أمر هذا الرجل، فهي له فلتذهب إليه متى شاءت، وتأخذ كتابي إليه.

قال: فكتبت إليه كتابا أشكره على فعله وأسأله عن حاله، وعما يقصده، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، وقلت: من عرف شيئا فليأخذه، فمكث الكتاب في موضعه حينا لا يأخذه أحد ولا أرى للرجل أثرا، فاغتممت غما شديدا ثم قلت: لعله من بعض فتياننا، ثم قلت: إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قنع ممن يحبه بالنظر، فدبرت عليه، فحجبت جواري من الخروج.

قال: فما كان إلا يوم وبعض آخر، حتى دخل الخادم ومعه كتاب، فقلت له: ما هذا؟ قال: أرسل به إليك فلان، وذكر بعض أصدقائي، فأخذا الكتاب ففضضته، فإذا فيه هذه الأبيات:

ماذا أردت إلى روح معلقة ... عند التراقي، وحادي الموت يحدوها

حثثت حاديها ظلما، فجد بها ... في السير، حتى تولت عن تراقيها

حجبت من كان يحيي عند رؤيته ... روحي، ومن كان يشفيني تلاقيها

فالنفس ترتاح نحو الظلم جاهلة، ... والقلب مني سليم ما يؤاتيها

والله لو قيل لي تأتي بفاحشة، ... وإن عقباك دنيانا وما فيها

لقلت: لا والذي أخشى عقوبته ... ولا بأضعافها ما كنت آتيها

لولا الحياء لبحنا بالذي كتمت ... بنت الفؤاد، وأبدينا تمنيها

قال: قلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى تدخله إلي، ولم أعرف له بعد ذلك خبرا.

قال: فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذا أنا بفتى قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني، وقد صار مثل العود. قال: فلما قضيت طوافي خرجت واتبعني، فقال: يا هذا! أتعرفني؟ قلت: ما أنكرك لسوء، قال: أنا صاحب الكتابين.

قال: فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد شغلت علي قلبي، وأطلت غمي لشدة كتمانك لأمرك، فهل لك فيما سألت وطلبت؟ قال: بارك الله لك وأقر عينك إنما أتيتك مستحلا من نظر كنت أنظره على غير حكم الكتاب والسنة، والهوى داع إلى كل بلاء، وأستغفر الله. فقلت: يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى المنزل، فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك. قال: ليس إلى ذلك سبيل، فاعذر وأجب إلى ما سألتك. فقلت: يا حبيبي! غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتها لك ومعها مائة دينار تعيش بها، ولك في كل سنة كذا وكذا.

قال: بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله تعالى بها وأشياء وكدتها على نفسي لم يكن شيء في الدنيا أحب إلي من هذا الذي تعرضه علي، ولكن ليس إليه سبيل، والدنيا فانية منقطعة.

حدثني قلت له: فأما إذ أبيت أن تصير إلى ما دعوتك إليه، فأخبرني من هي من جواري حتى أكرمها لك ما بقيت. فقال: ما كنت لأسميها لأحد أبدا، ثم سلم علي، ومضى فما رأيته بعد ذلك.

كتمان ما في القلب

وبه قال: أخبرني محمد بن خلف: أنشدني علي بن صالح المعري:

عفيف، حليم، ناسك، ذو مخافة ... إذا مسه شجو من الحب بسرا

سليم من الآفات، ذو ورع، له ... جوارح ما تصبو إلى حسن ما يرى

فتى لم يزل يخفي الذي في ضميره، ... ويكتم ما في القلب منه عن الورى

لا خير في ناقض العهد

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف أنشدني رجل من قريش لبعضهم:

والله لا خنت من هويت، ولا ... تسكن عنه صبابتي أبدا

لا خير في مغرم أخي كلف، ... ينقض عهدا له إذا عهدا

حتى يرى حافظا لصاحبه، ... في قربه، إن دنا، وإن بعدا

قال: وأنشدت لغيره لا خير في من هواه ممذوق، وهي ثلاثة أبيات قد ذكرتها سابقا، وكتبت بعدها ها هنا قال ابن المرزبان: وأنشدت للعباس بن الأحنف:

أيسركم أني هجرتكم، ... ومنحت قوما غيركم ودي

لسنا نلوم على قطيعتنا ... من لا يدوم لنا على عهد

وللعباس أيضا زعم الرسول بأنني راودته وهما بيتان ذكرا من قبل، وبعدهما: وله أيضا إن جهد البلاء وهي ثلاثة أبيات هنالك، فتركت إعادة هذا كله.

طريد العشق

حدث أبو عمر بن حيويه، ونقلته من خطه، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري قال: قال علي بن صالح عن ابن دأب قال: كان من حديث جاركرز الربابي، والرباب بنو عبد مناة، أن أباه كان رجلا من طابخة، يقال له حباب، وكان شجاعا فاتكا، وأنه قتل رجلا من بني حباب بن هبل بن كلب بن وبرة، فرهنهم بالدية امرأته وابنه حية، وهو صغير، وخرج حباب في جمع الدية، فهلك، وبقيت امرأته وابنة في يدي كلب، وشب ابنه حية، فشب أحسن فتى في العرب وأوضأهم، فعلق جارية من جواري الحي، وعلقته، وفسدت به فسادا شديدا، حتى جلس نسوة من كلب، ذات ليلة، يلعبن، ويتذاكران الشراب، ففطن به، وسمعت بذلك كلب، وكان قد علق فتاة منهم، فطلبته كلب، فخرج هاربا، فأدركه أخوها، فرماه حية، فقتله، وانطلق، فلحق بقوم من بلقين، فاستجار بهم، فأجاروه، فعاث في نسائهم، وعلقته امرأة منهم، فطلبته بلقين، فأعجزهم، وهرب حتى أتى أمه ليلا، فقالت: ويلك! إن القوم قاتلوك. فقال: والله ما أجد مذهبا.

قال: وأخفته وذكرت ذلك لظئر لها، هو أخو ابن لها أرضعته، فقالت: أرسليه، فأرسلته إليها، فأخذته فخيطت عليه عباءة، فجعلته كهيئة الكرز، ثم طرحته بفناء بيتها، حتى مر بها عدي بن أوس الكلبي، فقالت: يا عدي! إني قد أردت أن أظعن، وإني أريد أن تجير لي كرزي هذا، وما فيه، قال: قد أجرته، وأمر به، فحمل إلى بيته، فلما نظر إلى الكرز أنكره، ففتشه، فإذا فيه حية، فقال: لا أنعم الله بك عينا، ولكن أجاره وبرز، فقالت له أمه: ويلك مهلا عن نساء الحي! فلم يلتفت إليها، ورأته ابنة عدي، فعلقته، وعلقها، فمكثت بذلك مدة، وعدي لا يعلم، فقال:

 

ما زلت أطوي الحي أسمع حسهم، ... حتى وقعت على ربيبة هودج

فوضعت كفي عند مقطع خصرها، ... فتنفست بهرا، ولما تنهج

وتناولت رأسي لتعرف مسه، ... بمخضب الأطراف غير مشنج

قالت: وعيش أبي ونعمة والدي، ... فعلمت أن يمينها لم تحرج

قال: فلما بلغ عدي بن أوس الخبر، وأنشد الشعر، أمر به فربط، ثم أخرج إلى خارج البيوت فقتل.

أعوذ بالله من الحرام

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا حسين بن الضحاك اليشكري، حدثني محمد بن عبد الله الخراساني، حدثني إبراهيم بن العباس، حدثني إسحق بن عبد الله بن شرحبيل، حدثني سلم بن عبد الرحمن قال: كان عندنا بالمدينة فتى من أهل الأدب والدين، وكان له جمال، فعلقته امرأة من أهل المدينة، من قريش، فأرادت كلامه، فاستحيت منه، فكتبت إليه:

ألا من عذيري من هواي ومن قلبي، ... فقد برحا بي، فاشتكيت إلى ربي

همومي وأحزاني وطول بليتي ... بمن غاب عن عيني، فطال به نحبي

فديتك لولا خيفة الله في الذي ... تكاتمه نفسي لأظهرت ما خبي

قال: فلما أتاه الكتاب أظهر تعجبا، وكان في غفلة عن ذلك، فكتب إليها: وصل إلي كتابك، وفهمت ما سألت، فعلى أي وجه يكون وصالنا، وأصل فراق أم وصل اتفاق؟ فإن كان وصل فراق، فلا حاجة لنا فيه، وإن كان وصل اتفاق، فذاك الذي نريد.

قال: فأرسلت إليه: معاذ الله من وصل فرقة يدعو إلى حسرة، وما سألتك إلا الحق، وإني أعوذ بالله من فعل الحرام.

قال: ففكر في نفسه. فقال: هذه امرأة لها شرف وقدر، ومه هذا يسار، وليس يخطئني ما أحذره من قول الناس.

قال: فأرسل إليها: يا هذه قد فكرت في هذا الأمر، وتدبرته، فلم أر الذي أخاف من عاقبته يخطئني، وإني أكره أن أتعرض لقالة الناس وكلامهم، وكتب إليها:

صدي الفؤاد عن الطريق الأبعد ... ثم اسلكي قصد السبيل الأقصد

ودعي التشاغل بالذي أصبحتم ... فيه، فإني قد أخالك ترشدي

قال: فأمسكت عنه فلم تعاوده.

الفتى المتعبد والمفتونة به

وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو محمد جعفر بن الفضل بن محمد بن المعافى عن عبد الواحد بن زياد الافريقي، حدثني أبي قال: سمعت شيخا من أهل العلم يقول: كان عندنا فتى متعبد، حسن السيرة، فأحبته جارية من قومه، وجعلت تكاتم أمرها مخافة العيب، فمكثت بذلك حينا، فلما بلغ الحب منها أرسلت إليه بكتاب وضمنته هذه الأبيات:

تطاول كتماني الهوى، فأبادني، ... فأصبحت أشكو ما ألاقي من الوجد

فأصبحت أشكو غصة من جوى الهوى، ... أقامت، فما يعدو إلى أحد بعدي

فها أنا ذا حرى من الوجد صبة، ... كثيرة دمع العين، يجري على خدي

قال: فأقبلت به امرأة فقال: ما هذا؟ قالت: كتاب أرسلني به إليك إنسان. قال: سميه! قالت: إذا قرأته سميت لك صاحبه، فرمى به إليها، وأنكره إنكارا شديدا، فقالت له: ما يمنعك من قراءته؟ قال: هذا كتاب قد أنكره قلبي، فلم تزل به حتى قرأه، فرفع رأسه إليها، فقال: هذا الذي كنت أحذر وأخاف، ثم دفعه إليها. فقالت: أما له جواب؟ قال: بلى! قالت: وما هو؟ قال: تقولين لها: إنه يعلم السر وأخفى الله، لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى. قالت: لا غير؟ قال: في هذا كفاية.

فمضت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:

يا فارغ القلب من همي ومن فكري، ... ماذا الجفاء، فدتك النفس يا وطري؟

إن كنت معتصما بالله تخدمه، ... فإن تحليلنا في محكم السور

فلما وصل إليه الكتاب قال: ما هذا؟ قالت: تقرأه، فأبى، فلم تزل تلطف به حتى فتحه، فقرأه، ثم رمى به إليها. فقالت: ما له جواب؟ قال: بلى! قالت: ما هو؟ قال: قولي لها: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار.

فصارت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:

فرج عن القلب بعض الهم والكرب، ... وجد بوصلك، والهجران فاجتنب

إنا سألناك أمرا ما نريد به ... إلا الصلاح، وأن نلقاك عن قرب

فإن أجبت إلى ما قد سألت، فقد ... نلت المنى، والهوى، يا منتهى أربي

وإن كرهت وصالي قلت: أكرهه، ... وإنني راجع عن ذاك من كثب

قال: فجاءت بالكتاب إليه، فأخذه، وقال لها: اجلسي، ففتحه، وقرأه عن آخره، وكتب إليها كتابا كان هذا الشعر آخره:

إني جعلت همومي ثم أنفاسي ... في الصدر مني ولم يظهره قرطاسي

ولم أكن شاكيا ما بي إلى أحد ... إني إذا لقليل العلم بالناس

فاستعصمي الله، مما قد بليت به، ... واستشعري الصبر، عما قلت، بالياس

إني عن الحب في شغل يؤرقني ... تذكار ظلمة قبر فيه أرماسي

ففيه لي شغل لا زلت أذكره، ... من السؤال ومن تفريق أحلاسي

وليس ينفعني فيه سوى عملي، ... هو المؤانس لي من بين أناسي

فاستكثري من تقى الرحمن واعتصمي، ... ولا تعودي، فبي شغل عن الناس

فلما قرأت الكتاب أمسكت وقالت: إنه لقبيح بالحرة المسلمة العارفة مواضع الفتنة كثرة التعرض للفتن، ولم تعاوده.

لا صبر على الفراق

ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو بكر العامري، حدثنا دعبل بن علي الخزاعي قال:

كان بالكوفة رجل من بني أسد عشق جارية لبعض أهل الكوفة، فتعاظم أمره وأمرها، فكان يقول فيها الشعر، وذكر بعض أهل الكوفة أنه مات من حبها، وصنعوا له كتابا في ذلك مثل كتاب جميل وبثينة، وعفراء وعروة، وكثير وعزة، فباعها مولاها لرجل من أهل بغداد، من الهاشميين، فيروى أنه مات حين أخرجت من الكوفة، وأنها لما بلغها موته ماتت أسفا عليه، فمن شعره فيها عند فراقها:

جد الرحيل، وحثني صحبي، ... قالوا: الرحيل، فطيروا لبي

واشتقت شوقا كاد يقتلني، ... فالنفس مشرفة على نحب

لم يلق، يوم البين، ذو كلف ... يوما كما لاقيت من كربي

لا صبر لي عند الفراق على ... فقد الحبيب ولوعة الحب

العاشق البكاء

قال: وحدثني حاتم بن محمد، أخبرني عبد الرحمن بن صالح قال: قيل للنضر بن زياد المهلبي: هل كان عندكم بالبصرة أحد شهر بالعشق، كما شهر من نسمع به من سائر الأمصار؟ قال: نعم! كان عندنا فتى من النساك، له فضل وعلم وأدب، فجعل يذوب ويتغير ويصفر، لا يعرف له خبر، فعاتبه أهله وإخوانه في أمره، وقالوا: لو تداويت وشربت الدواء، فإن العلاج مبارك، وما أنزل الله تعالى داء إلا وله دواء، فلما أكثروا عليه قال:

وقال أناس لو تعالجت بالدوا، ... فقلت: الذي يخشى علي رقيب

تعالج أدواء وللحب لوعة، ... تكاد لها نفس اللبيب تذوب

ولو كان شربي للهليلج نافعا ... من الحب لم تعكف علي كروب

بلى! في علاج الحب أن ذنوبه ... حسان وإحساني علي ذنوب

وإن رمت صبرا أو تسليت ساعة ... فصبري لمن أهوى علي رقيب

قال: ثم سكت، فعوتب، فلم يجب بشيء، وكان، بعدما بدا هذا القول منه، لا يكلمه أحد ممن يعرفه في شيء من الأشياء إلا بكى، ولا يستفيق من البكى، فلم يزل على ذلك حتى مات كمدا.

قال: فأنا أدركت بعض من كان ينسب إليه من ولده أو ولد ولده ينسبون إلى البكاء.

العاقلة الصابئة لدينها

أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف القاضي، حدثنا إسحق بن منصور، حدثني أبي، حدثني أبو العباس التيمي المؤدب، حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثتني أمي، وكانت من عذرة، عن أبيها أنها سمعته يحدث إخوانا له قال: أحببت جارية من العرب، وكانت ذات عقل وأدب، فما زلت أحتال في أمرها حتى اجتمعت معها في ليلة مظلمة شديدة السواد، في موضع خال، فحادثتها ساعة. ثم دعتني نفسي إليها، فقلت: يا هذه! قد طال شوقي إليك، فقالت: وأنا كذلك، فقلت لها: وقد عسر اللقاء. قالت: نحن كذلك. قلت: هذا الليل قد ذهب، والصبح قد قرب. قالت: وهكذا تفنى الشهوات وتنقطع اللذات. قلت لها: لو أدنيتني منك؟ فقالت: هيهات هيهات إني أخاف العقوبة من الله تعالى. قلت لها: فما الذي دعاك إلى الحضور معي في هذا المكان؟ قالت: شقوتي وبلائي، قلت: فمتى أراك؟ قالت: ما أراني أنساك، وأما الاجتماع معك فما أراه يكون.

قال: ثم تولت من بين يدي، فاستحييت مما سمعت منها، فرجعت، وقد خرج من قلبي ما كنت أجد من حبها، ثم أنشات أقول:

توقت عذابا لا يطاق انتقامه، ... ولم تأت ما تخشى به أن تعذبا

وقالت مقالا كدت من شدة الحيا ... أهيم على وجهي حيا وتعجبا

ألا أف للحب الذي يورث العمى ... ويورد نارا لا تمل التوثبا

فأقبل عودي فوق بدء مفكرا، ... وقد زال عن قلبي العمى فتسربا

قال: فلم أر امرأة كانت أصون منها لدينها ولا أعقل.

حب يدعو إلى التقى

أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف

أنشدني صالح بن يعقوب المديني، وأخبرني أن أباه أخبره بهذا الشعر، وذكر أنه أنشده لامرأة من أهل الأبلة كانت متقشفة، وكان لها حبر من رجل من النساك من أهل الأبلة، ولم يحفظ الخبر كله صالح، إلا أنه أخبرني بهذا الكلام، وأنشدني هذا الشعر:

بنفسي من يدعوه حبي إلى التقى ... وخوف عذاب الله في ساعة الحشر

ويترك ما يهوى له ويخافه، ... ويقنع بالتذكار والنظر الشزر

ولم يزد التذكار إلا تهيجا ... لزفرته بين الجوانح والصدر

لئن قنعت نفس المحب من الهوى ... بهاجسة التذكار أو دمعة تجري

ولم تتهيج للمحارم، إنه ... لذو خيفة لله في السر والجهر

سيد العشاق

ومما وجدته بخط أبي عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثنا أبو بكر العامري، حدثني أبو عبد الله القرشي، حدثنا الدمشقي عن الزبير، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: عشق رجل من ولد سعيد بن العاص جارية مغنية بالمدينة، فهام بها دهرا وهو لا يعلمها بذلك، ثم إنه ضجر، فقال: والله لأبوحن لها، فأتاها عشية، فلما خرجت إليه، قال لها: بأبي أنت أتغنيني؟:

أتجزون بالود المضاعف مثله، ... فأن الكريم من جزى الود بالود

قالت: نعم! وأغني أحسن منه، ثم غنت:

للذي ودنا المودة بالضع ... ف، وفضل البادي به لا يجازى

لو بدا ما بنا لكم ملأ الأر ... ض، وأقطار شامها والحجازا

فاتصل ما بينهما بعمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فابتاعها له، وأهداها إليه، فمكثت عنده سنة، ثم ماتت، فبقي مولاها شهرا، أو أقل، ثم مات كمدا عليها، فقال أبو السائب المخزومي: حمزة سيد الشهداء وهذا سيد العشاق، فامضوا حتى ننحر على قبره سبعين نحرة، كما كبر النبي، صلى الله عليه وآله، على عمه حمزة سبعين تكبيرة.

قال: وبلغ أبا حازم الخبر، فقال: أما من محب في الله يبلغ هذا؛ هذا ولي.

موت الأحوص وجاريته بشرة

حدث أبو عمر بن حيويه، حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني العباس بن الفضل الأسدي، حدثني محمد بن زياد الأعرابي قال: خرج الأحوص بن محمد إلى دمشق، ومعه جارية له يقال لها بشرة، وكان شديد الإعجاب بها، لا يكاد أن يصبر عنها، وكانت هي أيضا له من المحبة على أكثر من ذلك، فاشتكى الأحوص، واشتدت علته وحضرته الوفاة، فأخذت رأسه فوضعته في حجرها وجعلت تبكي، فقطر من دموعها على خده، فرفع رأسه إليها، فقال:

ما لجديد الموت يا بشر لذة، ... وكل جديد تستلذ طرائفه

فلا ضير، إن الله يا بشر ساقني ... إلى بلد جاورت فيه خلائفه

فلست، وإن عيش تولى، بجازع ... ولا أنا مما حمم الموت خائفه

ثم مات من يومه، فجزعت عليه بشرة جزعا شديدا ولم تزل تبكي وتندبه إلى أن شهقت شهقة فماتت، فدفنت إلى جانب قبره.

 

أجر الشهادة

أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن عطية المكي، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس الزاهد، حدثنا الحنبلي أبو بكر، حدثني مسبح بن حاتم العكلي، حدثني ابن عائشة قال: كنا على باب عبد الواحد بن زياد، ومعنا أبو نواس، فخرج الشيخ، فقال: سلوا يا فتيان! فسألنا، حتى بقي أبو نواس، فقال: سليمان يا فتى، فقال:

ولقد كنا روينا ... عن سعيد عن قتاده

عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عباده

قال: من مات محبا ... فله أجر الشهاده

فقال: يا خبيث! والله لا حدثتك حديثا، وأنا أعرفك.

ليلى ومجنونها

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي بقراءتي عليه قلت له: أخبركم أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه عن ابن دأب، حدثني رجل من بني عامر يقال له رياح بن حبيب قال:

كان في بني عامر من بني الحريش جارية من أجمل النساء وأحسنهن، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى ابنة مهدي بن ربيعة بن الحريش، فبلغ المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبا بمحادثة النساء، فعمد إلى احسن ثيابه، فلبسها وتهيأ بأحسن هيئة، وركب ناقة له كريمة، وأتاها، فلما جلس إليها، وتحدث بين يديها أعجبته، ووقعت بقلبه، فظل يومه يحدثها وتحدثه، حتى أمسى وانصرف إلى أهله، فبات بأطول ليلة، حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف، فبات بأطول ليلة من ليلته الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، وأنشأ يقول:

نهاري نهار الناس، حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى، ... ويجمعني والهم بالليل جامع

وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه فيتحدث إليه بغيرها، وكان يأتيها كل يوم، فلا يزال عندها نهاره أجمع، حتى إذا أمسى انصرف، وإنه خرج ذات يوم، يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية حاسرة عسراء، فتطير من لقائها، فأنشأ يقول:

وكيف ترجي وصل ليلى، وقد جرى ... بجد القوى في الناس أعسر حاسر

صريع العصا جذب الزمام إذا انتحى ... لوصل امرئ لم تقض منه الأواصر

ثم صار إليها في غد، فلم يزل عندها، فلما رأت ليلى ذلك منه، وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاءها يوما كما كان يجيء، فأقبل يحدثها وجعلت هي تعرض عنه بوجهها، وتقبل على غيره تريد أن تمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع، حتى عرف ذلك فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمشيرة إليه فقالت:

كلانا مظهر للناس بغضا، ... وكل عند صاحبه مكين

فسري عنه، وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهدا إن أنا جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك.

قال: فانصرف في عشيته وهو أسر الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول:

أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهل

ولا أحد أقضي إليه وصيتي، ... ولا وارث إلا المطية والرحل

محا حبها حب الأولى كن قبلها، ... وحلت مكانا لم يكن حل من قبل

إهدار دم المجنون وزواج ليلى

وأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي أيضا بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف قال: قال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي إن قيس بن الملوح، وهو مجنون، لما نسب بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها وزيارتها، وتهددوه بالقتل، وكان يأتي امرأة من بني هلال ناكحا في بني الحريش، وكان زوجها قد مات، وخلف عليها صبية صغارا، فكان المجنون إذا أراد زيارة ليلى جاء إلى هذه المرأة فأقام عندها وبعث بها إلى ليلى، فعرفت له خبرها وعرفتها خبره، فعلم أهل ليلى بذلك فنهوها أن يدخل قيس إليها، فجاء قيس كعادته، فأخبرته المرأة الخبر وقالت: يا قيس! أنا امرأة غريبة من القوم ومعي صبية، وقد نهوني أن أؤويك، وأنا خائفة أن ألقى منهم مكروها، فأحب أن لا تجيء إلي هاهنا، فأنشأ يقول:

أجارتنا إنا غريبان ها هنا، ... وكل غريب للغريب نسيب

فلا تزجريني عنك خيفة جاهل ... إذا قال شرا أو أخيف لبيب

قال: وترك الجلوس إلى الهلالية، وكان يترقب غفلات الحي في الليل، فلما كثر ذلك منه خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه، إلى مروان بن الحكم، فشكوا إليه ما نالهم من قيس، وما قد شهرهم به، وسألوه الكتاب إلى عامله عليهم بمنعه من كلام ليلى، وبخطبه إليهم، فكتب لهم مروان كتابا إلى عامله يأمره فيه أن يحضر قيسا ويتقدم إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدر دمه.

فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه، وأهل بيته، فجمعهم، وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدرا، فانصرف قيس وهو يقول:

ألا حجبت ليلى، وآلى أميرها ... علي يمينا جاهدا لا أزورها

وأوعدني فيهم رجال، أبوهم ... أبي وأبوها، خشنت لي صدورها

على غير شيء غير أني أحبها، ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها

فلما أيس منها، وعلم أن لا سبيل إليها، صار شبيها بالتائه العقل، وأحب الخلوة، وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئا إلا ذكرها وقول الشعر فيها، وبلغها هي ما صار إليه قيس، فجزعت أيضا لفراقه وضنيت ضنا شديدا.

وإن أهل ليلى خرجوا حجابا، وهي معهم، حتى إذا كانوا بالطواف رآها رجل من ثقيف وكان غنيا كثير المال، فأعجب بها، على تغيرها وسقمها، فسأل عنها، فأخبر من هي، فأتى أباها، فخطبها إليه وأرغبه في المهر، فزوجه إياها، وبلغ الخبر قيسا، فأنشأ يقول:

ألا تلك ليلى العامرية أصبحت ... تقطع إلا من ثقيف وصالها

هم حبسوها محبس البدن وابتغى ... بها المال أقوام تساحف مالها

إذا التفتت والعيس صعر من البرى ... بنخلة خلى عبرة العين حالها

مات أبوها فتزوجها

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو محمد المروزي، حدثني العمري عن لقيط بن بكير المحاربي قال: كان رجل من كلب عاشقا لابنة عم له، وكانت هي له كذلك، وكان الفتى مقلا، فخطبها إلى عمه، فأبى وسأله مالا كثيرا، فلما رأت الجارية شدة أبيها على ابن عمها، أرسلت إليه أن اخرج فاطلب الرزق، ولك علي أن أصبر عامين على أن تحلف لي وتوثق لي أنك إن أصبت مالا، لا تتزوج إلا أن يبلغك موتي. فحلف لها، وحلفت له، فخرج الفتى، فرزقه الله مالا، فبلغ الجارية أنه قد تزوج، فكتبت إليه:

ألا ليت شعري هل تغيرت بعدنا ... أم انت على العهد الذي كنت أعهد

فكتب إليها:

عليك بحسن الظن يا هند، واعلمي ... بأن وصالي، ما حييت، مجدد

فكتبت إليه:

إن الرجال أولو غدر، وإن حلفوا ... وقولهم غرر، والود ممذوق

فكتب إليها:

أمنت من غدرنا ما دمت سالمة، ... وما أضاء لنا، يا حمدة، الأفق

فكتبت إليه:

لو كان غيرك ما صدقته أبدا، ... وأنت عندي امرؤ بالصدق معروف

فكتب إليها:

إن كنت عندك ذا صدق وذا ثقة، ... فإن قلبي بكم، يا حمد، مشغوف

فكتبت إليه:

أقبل إلينا وعجل ما استطعت ولا ... تمكث، فإن أبي قد قارب الأجلا

فكتب إليها:

إني إليك سريع، فاعلميه، إذا ... هل الهلال، فلا تبغي لي العللا

فقدم، وقد مات أبوها، فتزوجها.

الصابر والشاكر في الجنة

وأخبرنا الحسن بن علي المقنعي، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح النطاح عن محمد بن أبي رجاء، أخبرني رجل من أهل الكوفة قال: تزوج عمران بن حطان امرأة من الخوارج، وكانت من أجمل النساء، وأحسنهن عقلا، وكان عمران بن حطان من أسمج الناس وأقبحهم وجها، فقالت له يوما: غني نظرت في أمري وأمرك، فإذا أنا وأنت في الجنة. قال: وكيف؟ قالت: إني أعطيت مثلك فصبرت، وأعطيت مثلي فشكرت، فالصابر والشاكر في الجنة.

قال: فمات عنها عمران، فخطبها سويد بن منحوف، فأبت أن تتزوجه، وكان في وجهها خال كان عمران يستحسنه ويقبله، فشدت عليه، فقطعته، وقالت: والله لا ينظر إليه أحد بعد عمران، وما تزوجت حتى ماتت.

البطة العاشقة

ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي، حدثني المظفر بن يحيى، حدثنا محمد بن هارون، حدثني أبي قال: اشتريت زوج بط، فقلت: اعلفوه، ثم أخذت يوما الذكر فذبحته، فجعلت الأنثى تضطرب تحت المكبة، حتى كادت أن تقتل نفسها. فقلت: ارفعوا عنها المكبة، فرفعت، فجاءت فلم تزل تضطرب في داء الذكر حتى ماتت.

حلم أبي العتاهية

أنبأنا أبو حنيفة الملحمي، وحدثني الخطيب عنه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا عسل بن ذكوان، حدثنا ذماد عن حماد بن شفيق قال: قال أبو سلمة الغنوي: قلت لأبي العتاهية، ما الذي صرفك عن الغزل إلى قول الزهد؟ قال: إذا والله أخبرك أني قلت:

الله بيني وبين مولاتي ... أهدت لي الصد والملالات

منحتها مهجتي وخالصتي، ... فكان هجرانها مكافاتي

هيمني حبها، وصيرني ... أحدوثة في جميع جاراتي

فرأيت في المنام، تلك الليلة، كأن آتيا أتاني فقال: ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله، عز وجل؟ فانتبهت مذعورا، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل.

الصوفي وحيلته للتقبيل

أنبأنا التنوخي علي بن المحسن، أخبرنا أبو بكر بن شاذان، حدثني نفطويه، حدثني إدريس بن إدريس قال: حضرت بمصر قوما من الصوفية، وعندهم غلام أمرد يغنيهم، فغلب على رجل منهم أمره، فلم يدر ما يصنع، فقال: يا هذا! قل لا إله إلا الله! فقال: لا إله إلا الله. فقال: أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله.

 

 

الرشيد والأعرابي

أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثنا حماد بن إسحق عن أبيه إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا جالس مع الرشيد على المائدة، إذ دخل الحاجب، فأعلمه أن بالباب أعرابيا عنده نصيحة، فأمر بإحضاره، فلما دخل أمره بالجلوس على المائدة، ففعل، وكان له فصاحة وصباحة، فلما تم الغداء ورفعت المائدة وجيء بالطست، غسل يده، ثم أمر بالشراب، فأحضر، فقال: يا أمير المؤمنين ما حالتي في اللباس؟ فاستملح هارون ذلك من فعله، فأمر بثياب حسنة، فطرحت عليه. وقال له: يا أعرابي من أين جئت؟ قال: من الكوفة. قال: أعربي أم مولى؟ قال: عربي. قال: فما الذي قصد بك إلينا وما نصيحتك؟ قال: قصد بي إليك قلة المال وكثرة العيال؛ وأما نصيحتي، فإني علمت أني لا أصل إليك إلا بها. قال: فأخذ إسحق العود، فغنى صوتا يشتهيه الرشيد ويطرب عليه، وهو:

ليس لي شافع إلي ... ك سوى الدمع ينفع

عشت بعدي ومت قب ... لك، هل فيك مطمع

قسم الحب خمسة، ... صار لي منه أربع

فإلى الله أشتكي ... كبدا لي تقطع

فقال الرشيد كالمازح: كيف ترى هذا يا أعرابي؟ قال: بئس، والله، ما غنى. فغضب من ذلك هارون وصعب عليه. قال إسحق: وسقط في يدي، فقال هارون: ويلك يا أعرابي! هل يكون شيء أحسن من هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ! قولي حين أقول:

لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا

من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا

كبدي في هواك أس ... قم من أن تقطعا

لم تدع سورة الهوى ... للبلى في مطمعا

قال: فاستملح هارون ذلك منه، وأمر إسحق أن يغنيه به شهرا لا يقطعه عنه، وأمر للأعرابي بعشرة آلاف درهم.

الفضل بن يحيى يودع أصحابه

حدثنا المعافى، حدثنا الصولي محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى قال: لما خرج الفضل بن يحيى إلى خراسان ودع أصحابه ثم قال:

لما دنا البين بين الحي واقتسموا ... حبل الهوى، وهو في أيديهم قطع

جادت بأدمعها سلمى، وأعجلني ... وشك الفراق، فما أبكي وما أدع

يا قلب ويحك! لا سلمى بذي سلم، ... ولا الزمان الذي قد مر مرتجع

أكلما مر ركب لا يلائمهم، ... ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا

علقتني بهوى منهم، فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع

صخر العقيلي وزوجته وابنة عمه ليلى

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو محمد التميمي عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني أن رجلا من بني عقيل كان يسمى صخرا، وكانت له ابنة عم تدعى ليلى، وكان بينهما ود شديد، وحب مبرح، ولم يكن واحد منهما يفتر عن صاحبه ساعة، ولا يوما، وكان لهما مكان يلتقيان فيه، ولليلى جارية تبلغ صخرا رسائلها، وتبلغها عنه، وتسعى بينهما، حتى طال ذلك منهما، وكانا يتحدثان في كل ليلة، ثم ينصرفان إلى منازلهما.

ثم إن أبا صخر زوج صخرا امرأة من الأزد وصخر لذلك كاره مخافة أن تصرمه ليلى، فلما بلغ ليلى خبره، قطعته وتركت إتيان المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فمرض صخر مرضا شديدا، وكان قد أفشى سره إلى ابن عم له، وكانوا يقولون: قد سحرته ليلى، لما كان يصنع بنفسه. فكان ابن عمه يحمله إلى ذلك المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فلا يزال يبكي على آثارها وعهدها حتى يصبح، وابن عمه يسعفه ثم يرده.

وكانت ليلى أشد وجدا به، وحبا له منه لها، فأرسلت جاريتها إليه، وقالت: اذهبي إلى مكاننا، فانظري هل ترين صخرا هنالك، فإذا رأيته فقولي له:

تعسا لمن لغير ذنب يصرم، ... قد كنت يا صخر زمانا تزعم:

أنك مشغوف بنا متيم، ... فالحمد لله على ما ينعم

لما بدا منك لنا المجمجم، ... والله ربي شاهد قد يعلم

أن رب خطب شأنه يعظم، ... رددته، والأنف منه يرغم

قال: فانطلقت الجارية، فإذا هي بصخر، فأبلغته قولها، فوجدته كالشن البالي قد هلك حزنا ووجدا. فقال لها: يا حسن أحسني بي فعلا، وأبيني لي عذرا، وسلي لي غفرا وصلحا، فوالله ما ملكت أمري، وقولي لها:

فهمت الذي عيرت يا خير من مشى، ... وما كان عن رأيي وما كان عن أمري

دعيت فلم أفعل، وزوجت كارها، ... وما لي ذنب، فاقبلي واضح العذر

فإن كنت قد سميت صخرا، فإنني ... لأضعف عن حمل القليل من الصخر

ولست، ورب البيت، أبغي محدثا ... سواك، ولو عشنا إلى ملتقى الحشر

فقالت له حسن: يا صخر! إن كنت تزعم أنك كاره تزويج أبيك إياك فاجعل أمر امرأتك بيدي لأعلم ليلى أنك لها محب ولغيرها قال، وأنك كنت مكرها. فقال: لا! ولكن قد جعلت ذلك في يد ابنة عمي.

فانصرفت إليها فأخبرتها بما دار بينهما، وقالت: قد جعل الأمر إليك، وما عليه عتب فطلقيها منه. قالت ليلى: هذا قبيح، ولكن عديه الليلة إلى موضع متحدثنا، ثم أطلق إن جعل أمرها إليك، فإنه لم يكن ليردك بحضرتي.

فمضت الجارية، فأخذت موعده، فاجتمعا وتشاكيا، وتعاتبا، ثم قالت له الجارية: اجعل أمر أهلك إلي، فوالله إن ليلى لأفضل بني عقيل نسبا وأكرمهم أبا وحسبا، وإنها لأشد لك حبا، فقال صخر: فأمرها في يدك. قالت: فهي طالق منك ثلاثا، فأظهرت ليلى من ذلك جزعا، وأن الذي فعلت جاريتها شق عليها. فتراجعا إلى ما كانا عليه من اللقاء ولم يظهر صخر طلاق امرأته حتى قال له أبوه: يا صخر ألا تبني بأهلك؟ قال له: وكيف أبني بها، وقد بانت مني عصمتها في يمين حلفت بها؟ فأعلم أبوه أهل المرأة، وقالت المرأة تهجو ليلى وقومها:

ألا أبلغا عني عقيلا رسالة، ... وما لعقيل من حياء ولا فضل

نساؤهم شر النساء، وأنتم ... كذلك، إن الفرع يجري على الأصل

أما فيكم حر يغار على اخته؛ ... وما خير حي لا يغار على الأهل

قال: وهجتها ليلى، وتقاولتا حتى شاع خبرهما، فأجمعوا على تزويج ليلى من صخر، لما انكشف لهم من وجد كل واحد منهما بصاحبه، فزوجوها من صخر، فعاشا على أنعم حال وأحسن مودة.

تفي لزوجها بعد موته

وأخبرنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو صالح الأزدي عن إبراهيم بن عبد الواحد الزيدي، أخبرني البهلول بن عامر، حدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كان الحسن بن سابور رجلا له عقل ودين، فأعجب بفتاة من الحي ذات عقل ودين، قال: فأرسل إليها بهذه الأبيات:

فديتك هل إلى وصل سبيل، ... وهل لك في شفا بدن عليل

فعندك منيتي وشفاء سقمي، ... فداويني، فديتك، من غليلي

فلما وصل الرسول إليها عذلته، وقالت: ما هذا؟ أو يكتب إلى النساء بمثل هذا؟ وكبتت إليه كتابا تضعف من رأيه وتوبخه وتأمره بالكف عن ذلك، وفيه:

ألا يا أيها النضو المعنى! ... رويدك في الهوى رفقا قليلا

لنا رب يعذب من عصاه ... ويسكن ذا التقى ظلا ظليلا

وكان موسرا، فضمكن لها أنه يدفع إليها ماله. فقالت للرسول: لا حاجة لي في ذلك ولا إليه سبيل. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ويحك إني كنت عاهدت ابن عمي إن مات أن لا أتزوج بعده، وذلك أنه نظر إلي يوما نظرة أنكرتها ودمعت عيناه، وأنشأ يقول:

كأني بالتراب يهال طرا ... على بدني، وتندبني نسايا

وأصبح رهن موحشة دفينا، ... وبنت، وقطعت منكم عرايا

وينساني الحبيب لفقد وجهي، ... ويحدث مؤنسا أيضا سوايا

قالت: فقلت له: كأنك تعرض بي؟ فقال: ومن في العالم أخشى عليه هذا غيرك؟ قالت: فأجبته، فقلت:

ألا طب أيها المحزون نفسا، ... فإني لا أخونك في وداد

ولا أبغي سواك معي أنيسا، ... ولا ينحاش بعدك لي فؤادي

قالت: فقال لي: أوتفين بهذا لي؟ قالت: فقلت: اي والله لا أخونك أبدا، وحاشاك من قولك! فأنشأ يقول:

وإني لا أخونك بعد هذا، ... ولم أنقض على حدث عهودي

ولا أبغي سواك، الدهر، إني ... علي بذاك شاهدة شهودي

قالت: فرضيت بذلك منه ورضي به مني، فعاجلته أقدار الله تعالى، فصار إليه، وما كنت لأنقض عهده أبدا، فقل لصاحبك أن يقبل على شأنه ويدع ذكر ما لا يتم ولا يكون. قال: فرجعت إليه، فأخبرته ما قالت، وحدثته بالقصة فأمسك عنها.

أفق أو لا تفق

ولي من ابتداء قصيدة:

أفق من غرامك، أو لا تفق، ... فإن الخليط غدا منطلق

واطفئ بدمعك نار الحشا، ... إن اسطعت، أو خلها تحترق

وخذ عن أخيك حديث الهوى، ... فقد ذاق منه الذي لم تذق

وإن كنت تنكر فعل الغرا ... م بالعاشقين، فسل من عشق

وقائلة، وغراب النوى ... بفرقة ما بيننا قد نعق:

تزود، ولو قبلة، قبل أن ... ينم بنا دمعك المنهرق

وخذ أهبة البين قبل الفراق، ... فرهنك في حينا قد غلق

وساروا، وقد حصروا باخلي ... ن على الجفن بعدهم ينطبق

فما ضر حاديهم، لا سقاه ... على ظمإ عارض، لو رفق

وقد كنت أقنع من وصلهم، ... بطيف الخيال، إذا ما طرق

وإن كان في ضحك العارضي ... ن بالشيب لي زاجر لا يعق

لو صدق الهوى

ولي أيضا من أثناء قصيدة أولها:

ولما لم أجد ظهرا مطيقا، ... أحمله اشتياقي والغراما

سألت البارق النجدي يهدي ... إلى دار تحل بها السلاما

ومنها: ولست، وإن تطاولت الليالي،

أهذا المدعي زورا وإفكا

فلو صدق الهوى لم يحي يوما