الباب السادس: في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

الباب السادس : في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه

 قال الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن الآية فلما كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه   وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته وفي الصحيح أن الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رديف رسول الله يوم النحر من مزدلفة إلى منى فمرت ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فحول رسول الله رأسه إلى الشق الآخر وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه وفي الصحيح عنه أنه قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى 

أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر واللسان يزني وزناه النطق والرجل تزني وزناها الخطى واليد تزني وزناها البطش والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب ولافرج ونبه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقبل وجعل الفرج مصدقا لذلك إن حقق الفعل أو مكذبا له إن لم يحققه وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر أن ذلك زناها ففيه رد على من أباح النظر مطلقا وثبت عنه أنه قال يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية   ووقعت مسألة ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر فقالت له نفسه هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعنى   فكان الجواب الحمد لله لا يجوز هذا لعشرة أوجه أحدها أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد الثاني أن النبي سئل عن نظر الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر الثالث أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له الرابع أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه والتجربة شاهدة به والظاهر 

أن الأمر كما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة الخامس أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه السادس أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية السابع أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة الثامن أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ومعلوم أن الثانية أشد سما فكيف يتداوى من السم بالسم التاسع أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه فإن لم يكن مرضيا تركه فإذا يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله العاشر يتبين بضرب مثل مطابق للحال وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقي القلب في التلف والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ولو أنه غض أولا لاستراح قلبه وسلم وتأمل قول النبي النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم فإن بادر استفرغه وإلا قتله ولا بد   قال المروذي قلت لأحمد الرجل ينظر إلى المملوكة قال أخاف عليه الفتنة كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل وقال ابن عباس الشيطان من الرجل في ثلاثة في نظره وقلبه وذكره وهو من المرأة في ثلاثة في بصرها وقلبها وعجزها 

 فصل :   ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلة إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن النبي أنه قال النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة يجدها إلى يوم يلقاه أو كما قال وقال جرير بن عبدالله رضي الله عنهما سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر فما لم يعتمده القلب لا يعاقب عليه فإذا نظر الثانية تعمدا أثم فأمره النبي عند نظرة الفجأة أن يصرف بصره ولا يستديم النظر فإن استدامته كتكريره وأرشد من ابتلي بنظرة الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته وقال إن معها مثل الذي معها فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه والثاني أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي قال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي اتقوا الدنيا واتقوا النساء وفي مسند محمد بن إسحاق السراج من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي أخوف ما أخاف على أمتي النساء والخمر وقال ابن عباس رضي الله عنهما لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء وكفر من بقي من قبل النساء 

فصل :  وفي غض البصر عدة فوائد أحدها تخليص القلب من ألم الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته فأضر شيء على القلب إرسال البصر فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه وذلك غاية ألمه وعذابه قال الأصمعي رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها فقالت لي يا هذا ما شأنك قلت وما عليك من النظر فأنشأت تقول

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا  لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر  عليه ولا عن بعضه أنت صابر 

  والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها  فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها  في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته  لا مرحبا بسرور عاد بالضرر 

  والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه ولي من أبيات  

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا  أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له  توقه إنه يأتيك بالعطب 

وقال الفرزدق

تزود منها نظرة لم تدع له  فؤادا ولم يشعر بما قد تزودا

فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا  بغير سلاح مثلها حين أقصدا 

   وقال آخر  

ومن كان يؤتى من عدو وحاسد  فإني من عيني أتيت ومن قلبي

هما اعتوراني نظرة ثم فكرة  فما أبقيا لي كل من رقاد ولا لب 

   وقال آخر  

رماني بها طرفي فلم تخط مقلتي  وما كل من يرمى تصاب مقاتله

إذا مت فابكوني قتيلا لطرفه  قتيل صديق حاضر ما يزيله 

 وقال ابن المعتز

متيم يرعى نجوم الدجى  يبكي عليه رحمة عاذله

عيني أشاطت بدمى في الهوى  فابكوا قتيلا بعضه قاتله 

  ومثله للمتنبي

وأنا الذي اجتلب المنية طرفه  فمن المطالب والقتيل القاتل 

   وقال أيضا

يا نظرة نفت لرقاد وغادرت  في حد قلبي ما بقيت فلولا

كانت من الكحلاء سؤلي وإنما  أجلي تمثل في فؤادي سولا

 وقال أيضا 

وقي الأمير من العيون فإنه  مالا يزول ببأسه وسخائه

يستأسر البطل الكمي بنظرة ويحول بين فؤاده وعزائه 

 وقال الصوري

إذا أنت لم ترع البروق اللوامحا  ونمت جرى من تحتك السيل سائحا

غرست الهوى باللحظ ثم احتقرته  وأهملته مستأنسا متسامحا

ولم تدر حتى أينعت شجراته وهبت رياح الوجد فيه لواقحا

فأمسيت تستدعي من الصبر عازبا  عليك وتستدني من النوم نازحا 

 ودخل أصبهان مغن فكان يتغنى بهذين البيتين

سماعا يا عباد الله مني  وكفوا عن ملاحظة الملاح

فإن الحب آخره المنايا  وأوله شبيه بالمزاح 

 وقال آخر

وشادن لما بدا  أسلمني إلى الردى   بظرفه ولطفه  وطرفه لما بدا

أردت أن أصيده  فصاد قلبي وعدا 

 وقال آخر يعاتب عينه  

والله يا بصري الجاني على جسدي  لأطفئن بدمعي لوعة الحزن

تالله تطمع أن أبكي هوى وضنى  وأنت تشبع من غمض ومن وسن

هيهات حتى ترى طرفا بلا نظر  كما أرى في الهوى شخصا بلا بدن 

  وقال آخر

يا من يرى سقمي يزيد  وعلتي أعيت طبيبي

لا تعجبن فهكذا  تجني العيون على القلوب 

  وقال آخر

لواحظنا تجني ولا علم عندنا  وأنفسنا مأخوذة بالجرائر

ولم أرى أغبى من نفوس عفائف  تصدق أخهار العيون الفواجر

ومن كانت الأجفان حجاب قلبه  أذن على أحشائه بالفواقر 

  وقال آخر

ومستفتح باب البلاء بنظرة  تزود منها قلبه حسرة الدهر

فوالله ما تدري أيدري بما جنث  على قلبه أم أهلكته وما يدري 

  وقال آخر

أنا ما بين عدوين هما قلبي وطرفي    ينظر الطرف ويهوى القلب والمقصود حتفي 

  وقال الخفاجي  

رمت عينها عيني وراحت سليمة  فمن حاكم بين الكحيلة والعبرى

فيا طرف قد حذرتك النظرة التي  خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا

ويا قلب قد أرداك طرفي مرة  فويحك لم طاوعته مرة أخرى 

  ولي من أبيات لعل معناها مبتكر  

ألم أقل لك لا تسرق ملاحظة  فسارق اللحظ لا ينجو من الدرك

نصبت طرفي له لما بدا شركا  فكان قلبي أولى منه بالشرك 

  الفائدة الثانية أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى الله نور السموات والأرض عقيب قوله قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وجاء الحديث مطابقا لهذا حتى كأنه مشتق منه وهو قوله النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا الحديث   الفائدة الثالثة أنه يورث صحةالفراسة فإنها من النور وثمراته وإذا استنار القلب صحت الفراسة لأنه يصير بمنزلةالمرآة المجلوة تظهر فيها المعلومات كما هي والنظر بمنزلة التنفس فيها فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها كما قيل 

مرآة قلبك لا تريك صلاحه  والنفس فيها دائما تتنفس 

  وقال شجاع الكرماني من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال لم تخطىء فراسته وكان شجاع لا تخطىء له فراسة والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته   الفائدة الرابعة أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ويسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه   الفائدة الخامسة أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل له سلطان البصير مع سلطان الحجة وفي الأثر إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه قال الحسن إنهم وإن هملجت بهم البغال طقطقت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه وقال بعض الشيوخ الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وفيه قسط ونصيب من فعل من عاداه بمعاصيه وفي دعاء القنوت إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت   الفائدة السادسة أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه 

وأيضا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما وهاهنا يمتاز العقل من الهوى   الفائدة السابعة أنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه فهو كما قيل   طليق برأي العين وهو أسير   ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار   كعصفورة في كف طفل يسومها  حياض الردى والطفل يلهو و يلعب   الفائدة الثامنة أنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول فمتى هتك الحجاب ضري على المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية فإن النفس في هذا الباب لا تقتع بغاية تقف عندها وذلك أن لذتها في الشيء الجديد فصاحب الطارف لا يقتعه التليد وإن كان أحسن منه منظرا وأطيب مخبرا فغض البصر يسد عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه   الفائدةالتاسعة أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته فإن إطلاق البصر وإرساله 

لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره قال الشاعر   بو أعقل الناس من لم يرتكب سببا  حتى يفكر ما تجني عواقبه   الفائدة العاشرة أنه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق كما قال الله تعالى عن عشاق الصور لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فالنظرة كأس من خمر والعشق هو سكر ذلك الشراب وسكر العشق أعظم من سكر الخمر فإن سكران الخمر يفيق وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات كما قيل   سكران سكر هوى وسكر مدامة  ومتى إفاقته من به سكران   وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهتا عليه تنبيها ولا سيما النظر إلى من لم يجعل الله سبيلا إلى قضاء الوطر منه شرعا كالمردان الحسان فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع والداء العضال وقد روى الحافظ محمد بن ناصر من حديث الشعبي مرسلا قال قدم وفد عبدالقيس على النبي وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة فأجلسه النبي وراء ظهره وقال كانت خطيئة من مضى من النظر وقال سعيد بن المسيب إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه وقد ذكر ابن عدي في كامله من حديث بقية عن الوازع عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما من السلف ينهون عن مجالة المردان قال النخعي مجالستهم فتنة وإنما هم بمنزلة النساء وبالجملة فكم من مرسل لحظاته رجع بجيش صبره مغلولا ولم يقلع حتى تشحط بينهم قتيلا   يا ناظرا ما أقلعت لحظاته  حتى تشحط بينهن قتيلا