الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

البابا الثامن :في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل  له الاستمتاع به وأباح عشقه

  قالت هذه الطائفة بيننا وبينكم الكتاب والسنة وأقوال أئمة الإسلام والمعقول الصحيح   أما الكتاب فقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وهذا يعم جميع ما خلق الله فما الذي أخرج من عمومه الوجه المليح وهو من أحسن ما خلق وموضع الاستدلال به والاعتبار أقوى ولذلك يسبح الخالق سبحانه عند رؤيته كما قال بعض الناظرين إلى جميل الصورة   ذي طلعة سبحان فالق صبحه  ومماطف جلت يمين الغارس   مرت بأرجاء الخيال طيوفه  فبكت على رسم السلو الدارس   ورؤية الجمال البديع تنطق ألسنة الناظرين بقولهم سبحان الله رب العالمين وتبارك الله أحسن الخالقين والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثا وإنما أظهرها ليستدل الناظر إليها على قدرته ووحدانيته وبديع صنعه فلا تعطل عما خلقت له   وأما السنة فالحديث المشهور النظر إلى الوجه المليح عبادة 

  وفي الحديث الآخر اطلبوا الخير من حسان الوجوه وفي هذا إرشاد إلى تصفح الوجوه وتأملها وخطب رجل امرأة فاستشار النبي في نكاحها فقال هل نظرت إليها فقال لا قال اذهب فانظر إليها ولو كان النظر حراما لما أطلق له أن ينظر فإنه لا يأمن الفتنة   وأما أقوال الأئمة فحكى السمعاني أن الشافعي رضي الله عنه كتب إليه رجل في رقعة   سل المفتى المكي هل في تزاور  ونظرة مشتاق الفؤاد جناح   فأجابه الشافعي   معاذ إله العرش أن يذهب التقى  تلاصق أكباد بهن جراح   وذكر الخرائطي هذا السؤال والجواب عن عطاء بن أبي رباح وأوله سألت عطاء المكي وذكر الحاكم في مناقب الشافعي رضي الله عنه من شعره   يقولون لا تنظر وتلك بلية  ألا كل ذي عينين لا بد ناظر   وليس اكتحال العين بالعين ريبة  إذا عف فيما بين الضمائر   وذكر الاسترباذي في كتاب مناقب الشافعي أن رجلا كتب إلى سعيد ابن المسيب   يا سيد التابعين والبرره  نسيت في العشق سورة البقره   فكن بفتواك مشفقا رفقا  باهى بك الله أكرم البرره   هل حرم الله لثم خد فتى  أوصافه بالجمال مشتهره 

  فأجابه سعيد   يا سائلي عن خفي لوعته  عليك بالصبر تحمدن أثره   ولا تكن طالبا لفاحشة  أو كالذي ساق سيله مطره   وراقب الله واخش سطوته  وخالف الفاسقين والفجره   وقبل الخد من حبيبك ذا في كل يوم وليلة عشره   وقال أبو العباس المبرد في الكامل قال أعرابي أنشدنيه أبو العالية   سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي  يحل من التقبيل في رمضان   فقال لي المكي أما لزوجة  فسبع وأما خلة فثمان   وذكر أبو بكر الخطيب في كتاب رواه مالك عن بعضهم   

أقول لمفت بين مكة والصفا  لك الخير هل في وصلهن حرام

وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا  عذاب الثنايا إن لثمت أثام

فقال لي المفتي وسالت دموعه  على الخد من عينيه فهي تؤام

ألا ليتني قبلت تلك عشية  ببطن منى والمحرمون نيام 

 وقال الحاكم في كتاب مناقب الشافعي حدثنا أبو العلاء بن كوشيار الحاري أنبأنا علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن الجهم قال سمعت الربيع يقول حضرت الشافعي بمكة وقد دفع إليه رجل رقعة فيها 

أقول لمفتي خيف مكة والصفا  لك الخير هل في وصلهن حرام

وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا  عذاب الثنايا إن لثمت أثام 

  قال فوقع الشافعي فيها

فقال لي المفتي وفاضت دموعه  على الخد من عين وهن تؤام

ألا ليتني قبلت تلك عشية  ببطن منى والمحرمون قيام

وقال عمرو بن سفيان ابن ابنة جامع بن مرخية

إنا سألنا مالكا وقرينه  ليث بن سعد عن لثام الوامق

أيجوز قالا والذي خلق الورى  ما حرم الرحمن قبلة عاشق 

  ذكر ذلك صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين وأنشد فيه لعمرو بن سفيان هذا وكتب بها إلى ابن عيينة   

قلنا لسفيان الهلالي مرة  حرمت ضم العاشق المشتاق

لحبيبه من بعد نأي ناله  فأجاب لا والواحد الخلاق

وأنشد فيه لجده جامع وكتب بها إلى علي بن زيد بن جدعان

سألنا ابن جدعان بن عمر وأخا العلا  أيحرم لثم الحب في ليلة القدر

فقال لنا المكي وناهيك علمه  ألا لا ومن قد جاء بالشفع والوتر 

 وأنشد لإبراهيم بن المدبر وكتب بها إلى أبي بكر بن عياش أحد أئمة القراء 

سألت ابن عياش وكان معلما  لك الخير هل في ضمة الحب من وزر

فقال أبو بكر ولا في لثامه  ألم يأتنا التنزيل بالوضع للإصر 

 وأنشد لآخر وكتب بها إلى الإمام أحمد بن حنبل قال وزعم بعضهم أنه إسحاق بن معاذ بن زهير شاعر أهل مصر في وقته  

سألت إمام الناس نجل ابن حنبل  عن الضم والتقبيل هل فيه من باس

فقال إذا جل العزاء فواجب  لأنك قد أحييت عبدا من الناس 

وأنشد لابن مرخية وكتب بها إلى أبي حنيفة

 

كتبت إلى النعمان يوما رسالة  نسائله عن لثم حب ممنع

فقال لنا لا إثم فيه وإنه  شهي إذا كانت لعشر وأربع 

  وكتب رجل إلى أبي جعفر الطحاوي

أبا جعفر ماذا تقول فإنه  إذا نابنا خطب عليك المعول

فلا تنكرن قولي وأبشر برحمة ال  إله عن الأمر الذي عنه نسأل

أب الحب عار أم من الحب مهرب  وهل من لحا أهل الصبابة يجهل

وهل بمباح فيه قتل متيم  يهاجره أحبابه وهو يوصل

فرأيك في رد الجواب فإنني  بما فيه تقضي أيها الشيخ أفعل

  فأجابه الطحاوي

سأقضي قضاء في الذي عنه تسأل  وأحكم بين العاشقين فأعدل

فديتك ما بالحب عار علمته  وللعار ترك الحب إن كنت تعقل

ومهما لحا في الحب لاح فإنه  لعمرك عندي من ذوي الجهل أجهل

وليس مباحا عندنا قتل مسلم  بلا ترة بل قاتل النفس يقتل

ولكنه إن مات في الحب لم يكن  له قود فيه ولا عنه يعقل

وصالك من تهوى وإن صد واجب  عليك كذا حكم المتيم يفعل

فهذا جواب فيه عندي قناعة  لما جئت عنه أيها الصب تسأل 

  ويكفي أن المعتزلة من أشد الناس تعظيما للذنوب وهم يخلدون أصحاب الكبائر ولا يرون تحريم ذلك كما ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه المشهور لبعض المعتزلة  

سألنا أبا عثمان عمرا وواصلا  عن الضم والتقبيل للخد والجيد

فقالا جميعا والذي هو عادل  يجوز بلا إثم فدع قول تفنيد 

   وقال إسحاق بن شبيب  

 سألنا شيوخ الواسطيين كلهم  عن الرشف والتقبيل هل فيهما إثم

  فقالوا جميعا ليس إثما لزوجة  ولا خلة والضم من هذه غنم   

 وأنشد أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن سعد الخير في كتابه شرح الكامل  

فلما أن أبيح لنا التلاقي  تعانقنا كما اعتنق الصديق

وهل حرجا تراه أو حراما  مشوق ضمه صب مشوق 

  وقال الخطيب في تاريخ بغداد حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسن إملاء حدثنا أبو عبدالله المرزباني وابن حيويه وابن شاذان قالوا حدثنا أبو عبدالله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه بقرطبة قال دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه فقلت له كيف تجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه قال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فأما النظر المباح فأورثني ما ترى وذكر القصة وستأتي في باب عفاف العشاق والمقصود أنه لم ير النظر إلى معشوقه ولا عشقه حراما وجرى على هذا المذهب أبو محمد بن حزم في كتاب طوق الحمامة له قالوا ونحن نحاكمكم إلى واحد يعد بآلاف مؤلفة وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه سئل   ما تقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في رجل عاشق في صورة وهي مصرة على هجره منذ زمن طويل لا تزيده إلا بعدا ولا يزداد لها إلا حبا وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنى ولا هو ممن يدنس عشقه بزنى وقد أفضى به الحال إلى الهلاك لا محالة إن بقي مع محبوبه على هذه الحالة فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر وهل يجب وصاله علىالمحبوب المذكور وهل يأثم ببقائه على هجره وما يجب من تفاصيل أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع الشريف   فأجاب بخطه بجواب طويل قال في أثنائه فالعاشق له ثلاث مقامات ابتداء وتوسط ونهاية أما ابتداؤه فواجب عليه فيه كتمان ذلك وعدم إفشائه للخلق مراعيا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة فإن زاد به الحال إلىالمقام الأوسط فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه فيخف بإعلامه وشكواه إليه ما يجد منه ويحذر من اطلاع الناس على ذلك فإن زاد به الأمر حتى خرج عن الحدود والضوابط التحق بالمجانين والموسوسين فانقسم العشاق قسمين قسم قنعوا بالنظرة بعد النظرة فمنهم من يموت وهو كذلك ولا يظهر سره لأحد حتى محبوبه لا يدري به وقد روي عن النبي من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد والقسم الثاني أباحوا لمن وصل إلى حد يخاف على نفسه منه القبلة في الحين قالوا لأن تركها قد يؤدي إلى هلاك النفس والقبلة صغيرة وهلاك النفس كبيرة وإذا وقع الإنسان في مرضين داوى الأخطر ولا خطر أعظم من قتل النفس حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على ذلك إذا علم أن ترك ذلك يؤدي إلى هلاكه واحتجوا بقول الله تعالى ^ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ^ وبقوله تعالى ^ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ^ وبحديث الذي قال يا رسول الله إني لقيت امرأة أجنبية فأصبت منها كل شيء إلا النكاح قال أصليت معنا قال نعم قال إن الله قد غفر لك فأنزل الله تعالى ^ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ^ ثم قال فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يدنس عشقه بزنى ولا يصحبه بخنى فينظر في حاله فإن كان من الطبقة الأولى فالنظر كاف لهم إن صدقت دعواهم وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأس بشكواه إلى محبوبه كي يرق عليه ويرحمه وإن غلب عليه الحال فالتحق بالثالثة أبيح له ما ذكرنا بشرط أن لا يكون أنموذجا لفعل القبيح المحرم فيلتحق بالكبائر ويستحق القتل عند ذلك ويزول عنه العذر ويحق عليه كلمة العذاب انتهى ما ذكرناه من جوابه   قالوا وقد جوزت طائفة من فقهاء السلف والخلف والعلماء استمناء الإنسان بيده إذا خاف الزنى وقد جوزت طائفة من الفقهاء لمن خاف على نفسه في الصوم الواجب من شدة الشبق أن تتشقق أنثياه أن يجامع امرأته وبنوا على ذلك فرعا وهو إذا كان له امرأتان حائض وصائمة فهل يطأ هذه أو هذه على وجهين ولا ريب أن النظر والقبلة والضم إذا تضمن شفاءه من دائه كان أسهل من الاستمناء باليد والوطء في نهار رمضان   وقد جوز بعض الفقهاء للمرأة إذا خافت الزنى أن تتخذ لها شيئا تدخله في فرجها وتخرجه لئلا تقع في محظور الزنى   ولا ريب أن الشريعة جاءت بالتزام الدخول في أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلا لأعلاهما فأين مفسدة النظر والقهلة والضم من مفسدة المرض والجنون أو الهلاك جملة فهذا ما احتجت به هذه الفرقة ونحن نذكر ما لها وما عليها في ذلك بحول الله وقوته وعونه