روضة المحبين ونزهة المشتاقين
لابن قيم الجوزية
أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)
الباب العاشر :في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه
فالذي عليه الأطباء قاطبة أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور والشمائل وسببه النفساني الاستحسان والفكر وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن ولذلك أكثر ما يعتري العزاب وكثرة الجماع تزيله بسرعة وقال بعض الفلاسفة العشق طمع يتولد في القلب ويتحرك وينمي ثم يتربى ويجتمع إليه مواد من الحرص وكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج والتمادي في الطمع والحرص على الطلب حتى يؤديه ذلك إلى الغم والقلق ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إليها ومن غلبة السوداء يحصل له فسادالفكر ومع فساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمني مالا يتم حتى يؤدي إلى الجنون فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه وربما مات غما وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحا وربما شهق شهقة فتختنق روحه فيبقى أربعة وعشرين ساعة فيظن أنه قد مات فيدفن وهو حي وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت وتراه إذا ذكر له من يهواه هرب دمه واستحال لونه وقال أفلاطون العشق حركة النفس الفارغة وقال أرسطاطاليس العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب ومن هذا أخذ جرير قوله
فلست براء عيب ذي الود كله ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقال أرسطو العشق جهل عارض صادف قلبا فارغا لا شغل له من تجارة ولا صناعة وقال غيره هو سوء اختيار صادف نفسا فارغة قال قيس بن الملوح
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وقال بعضهم لم أر حقا أشبه بباطل ولا باطلا أشبه بحق من العشق هزله جد وجده هزل وأوله لعب وآخره عطب وقال الجاحظ العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما جاوز الاقتصاد فكل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا والمحبة جنس والعشق نوع منها ألا ترى أن كل محبة شوق وليس كل شوق محبة وقالت فرقة أخرى العشق هو الاستهيام والتضرع واللوذان بالمعشوق والوجد هو الحب الساكن والهوى أن يهوى الشيء فيتبعه غيا كان أو رشدا والحب حرف ينتظم هذه الثلاثة وقال المأمون ليحيى بن أكثم ما العشق فقال سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه فقال له ثمامة بن أشرس اسكت يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد ظبيا فأما هذه فمن مسائلنا نحن فقال له المأمون قل يا ثمامة قال العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جارية ملك الأبدان وأرواحه
والقلوب وخواطرها والعقول وآراءها قد أعطي عنان طاعتها وقوة تصرفها توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه فقال له المأمون أحسنت يا ثمامة وأمر له بألف دينار وقال بعضهم قلت لمجنون قد أذهب عقله العشق أجز هذاالبيت
وما الحب إلا شعلة قدحت بها عيون المها باللحظ بين الجوانح
ونار الهوى تخفى وفي القلب فعلها كفعل الذي جاءت به كف قادح
وقال الأصمعي سألت أعرابيا عن العشق فقال جل والله عن أن يرى وخفي عن أبصار الورى فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر إن قدح أوري وإن ترك توارى وقال بعضهم العشق نوع من الجنون والجنون فنون فالعشق فن من فنونه واحتج بقول قيس
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ألعشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
وقال آخر إذا امتزجت جواهر النفوس بوصف المشاكلة أنتجت لمح نور ساطع تستضيء به النفس في معرفة محاسن المعشوق فتسلك طريق الوصول إليه وقال أعرابي العشق أعظم مسلكا في القلب من الروح في الجسم وأملك بالنفس من ذاتها بطن وظهر فامتنع وصفه عن اللسان وخفي نعته عن البيان فهو بين السحر والجنون لطيف المسلك والكمون وقيل العشق ملك غشوم مسلط ظلوم دانت له القلوب وانقادت له الألباب وخضعت له النفوس العقل أسيره والنظر رسوله واللحظ لفظه دقيق المسلك عسير المخرج وقيل لآخر ما تقول في العشق فقال إن لم يكن طرفا من الجنون فهو نوع من السحر وأما الفلاسفة المشاؤون فقالوا هو اتفاق أخلاق وتشاكل محبات وتجانسها وشوق كل نفس إلى مشاكلها ومجانسها في الخلقة القديمة قبل إهباطها إلى الأجساد قلت هذا مبني على قولهم الفاسد بتقدم النفوس على الأبدان وعليه بنى ابن سينا قصيدته المشهورة
هبطت إليك من المحل الأرفع…….
وسمعت شيخنا يحكي عن بعض فضلاء المغاربة وهو جمال الدين بن الشريشي شارح المقامات أنه كان ينكر أن تكون هذه له قال وهي مخالفة لما قرره في كتبه من أن حدوث النفس الناطقة مع البدن وقال آخرون في وصفه دق عن الأفهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته وعظم سلطانه من القلب ثم يتغشى سائر الأعضاء فيبدي الرعدة في الأطراف والصفرة في الألوان والضعف في الرأي واللجلجة في الكلام والزلل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى الجنون وقيل لأبي زهير المديني ما العشق قال الجنون والذل وهو داء أهل الظرف ونظر عاشق إلى معشوقه فارتعدت فرائصه وغشي عليه فقيل لحكيم ما الذي أصابه فقال نظر إلى من يحبه فانفرج له قلبه فتحرك الجسم بانفراج القلب فقيل له نحن نحب أولادنا وأهلنا ولا يصيبنا ذلك فقال تلك محبة العقل وهذه محبة الروح قال وما هو إلا أن يراها فجاءة فتصطك رجلاه ويسقط للجنب وقال العشق ملك مسلط على قهر النفوس وأسر القلوب قال الشاعر ملك القلوب فأصبحت في أسره وبودها أن لا يفك إسارها وقال أعرابي في وصفه بالقلب وثبته وبالفؤاد وجبته وبالأحشاء ناره وسائر الأعضاء خدامه فالقلب من العاشق ذاهل والدمع منه هامل والجسم منه ناحل مرور الليالي تجدده وإساءة المحبوب لا تفسده وقيل ليس هو موقوفا على الحسن والجمال وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة فيها كما قيل وما الحب من حسن ولا من ملاحة ولكنه شيء به الروح تكلف وقيل أول العشق عناء وأوسطه سقم وآخره قتل كما قال ابن الفارض رحمه الله هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل فما اختاره مضنى به وله عقل وعش خاليا فالحب أوله عنى وأوسطه سقم وآخره قتل