الباب الخامس عشر: فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

الباب الخامس عشر:  فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة  مذهبه  

 قال الله تعالى إخبارا عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وقد أثنى الله عليهم سبحانه بهذا الدعاء الذي سألوه فيه أن لا يحملهم مالا طاقة لهم به وقد فسر ذلك بالعشق وليس المراد اختصاصه به بل المراد أن العشق مما لا طاقة للعبد به وقال مكحول هو شدة الغلمة وقال النبي لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه قال الإمام أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل الناس لمعشوقه ولما يحصل به رضاه والحب مبناه على الذل والخضوع للمحبوب كما قيل   

إخضع وذل لمن تحب فليس في  شرع الهوى أنف يشال ويعقد

 وقال آخر

مساكين أهل العشق حتى قبورهم  عليها تراب الذل بين المقابر 

  وقال آخر

قالوا عهدناك ذا عز فقلت لهم  لا يعجب الناس من ذل المحبينا

لا تنكروا ذلة العشاق إنهم  مستعبدون برق الحب راضونا 

  قالوا وإذا اقتحم العبد بحر العشق ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة كما ذكر الخرائطي أنه كان بالمدينة جارية ظريفة فهويت رجلا من قريش وكان لا يفارقها ولا تفارقه فملها وزاد حبها له فسقمت وجعل مولاها لا يعبأ بشكواها ولا يرق لها حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وأفضت إلى أمر عظيم فلما رأى ما صرت إليه عالجها فلم ينفع فيها العلاج وكانت تدور في السكك بالليل وتقول  

ألحب أول ما يكون لجاجة  تأتي به وتسوقه الأقدار

حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى  جاءت أمور لا تطاق كبار

من ذا يطيق كما نطيق من الهوى  غلب العزاء وباحت الأسرار 

   قال الخرائطي وأنشدني بعض أصحابنا

الحب أوله شيء يهيم به  قلب المحب فيلقى الموت كاللعب

يكون مبدؤه من نظرة عرضت  ومزحة أشعلت في القلب كاللهب

كالنار مبدؤها من قدحة فإذا  تضرمت أحرقت مستجمع الحطب 

  قالوا وكيف يمدح أمر يمنع القرار ويسلب المنام ويوله العقل ويحدث الجنون بل هو نفسه جنون كما قال بعض الحكماء الجنون فنون والعشق فن من فنونه كما قال بعض العشاق   قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم  ألعشق أعظم مما بالمجانين   ألعشق لا يستفيق الدهر صاحبه  وإنما يصرع المجنون في الحين   قالوا وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه قال الزبير بن بكار جاءت بدوية إلى أخت لها فقالت كيف بك من حب فلان قالت حرك والله حبه الساكن وسكن المتحرك ثم أنشأت تقول

فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى  وبالريح لم يسمع لهن هبوب

ولو أنني أستغفر الله كلما  ذكرتك لم تكتب علي ذنوب 

  فقلت والله لأسألنه كيف هو من حبك فجاءته فسألته فقال إنما الهوى هوان ولكنه خولف باسمه وإنما يعرف ذلك من استبكته المعالم والطلول   وأنشد أبو الفضل الربعي

قد أمطرت عيني دما فدماؤها  بعد الدموع من الجفون

هوامل   كيف العزاء ولا يزال من الضنى  في الجسم مني

والجوانح نازل   لهفي على زمن مضى تجتازني 

 فيه صروف الدهر وهي عواقل   قالوا والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح ولا يقع معه الارتياح بل هو بحر من ركبه غرق فإنه لا ساحل له ولا نجاة منه وهو الذي قال فيه القائل   وما أحد في الناس يحمد أمره  فيوجد إلا وهو في الحب أحمق   وما أحد ما ذاق بؤس معيشة  فيعشق إلا ذاقها حين يعشق   وقال العباس بن الأحنف  

ويح المحبين ما أشقى نفوسهم  إن كان مثل الذي بي بالمحبينا

يشقون في هذه الدنيا بعشقهم  لا يرزقون به دنيا ولا دينا

 وقال آخر

ألعشق مشغلة عن كل صالحة  وسكرة العشق تنفي لذة الوسن

 وقال محمد بن أبي محمد اليزيدي

كيف يطيق الناس وصف الهوى  وهو جليل ما له قدر

بل كيف يصفو لحليف الهوى  عيش وفيه البين والهجر

 وقال محمد بن أمية

قرين الحب يأنس بالهموم  ويكثر فكرة القلب السقيم

وأعظم ما يكون به اغتباطا  على خطر ومطلع عظيم

  وقال أبو تمام

أما الهوى فهو العذاب فإن جرت  فيه النوى فأليم كل عذاب

  وقال ابن أبي حصينة  

والعشق يجتذب النفوس إلى الردى  بالطبع واحسدي لمن لم يعشق

 

  وقال ابن المعتز

الحب داء عضال لا دواء له  يحار فيه الأطباء النحارير

قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا  في وصفه فإذا بالقوم تقصير

   وقال أعرابي  

ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا  يذل به طوع اللسان فيوصف

ولكنه شيء قضى الله أنه  هو الموت أو شيء من الموت أعنف

فأوله سقم وآخره ضنى  وأوسطه شوق يشف ويتلف

وروع وتسهيد وهم وحسرة  ووجد على وجد يزيد ويضعف

وقال عبدالمحسن الصوري  

ما الحب إلا مسلك خطر  عسر النجاة وموطىء زلق

 وقال آخر

وكان ابتداء الذي بي مجونا  فلما تمكن أمسى جنونا

وكنت أظن الهوى هينا  فلاقيت منه عذابا مهينا

 وقالت امرأة  

رأيت الهوى حلوا إذا اجتمع الشمل ومرا على الهجران لا بل هو القتل

فمن لم يذق للهجر طعما فإنه  إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل

وقد ذقت طعميه على القرب والنوى  فأبعده قتل وأقربه خبل 

  قالوا والعشق يترك الملك مملوكا والسلطان عبدا كما قال الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل وكان ملك الأندلس  

ظل من فرط حبه مملوكا  ولقد كان قبل ذاك مليكا

تركته جآذر القصر صبا  مستهاما على الصعيد تريكا

يجعل الخد واضعا فوق ترب  للذي يجعل الحرير أريكا

هكذا يحسن التذلل بالحر  ر إذا كان في الهوى مملوكا

  وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار من جواريه ويقال إنه المأمون  

ملك الثلاث الآنسات عناني  وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلها  وأطيعهن وهن في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى  وبه قوين أعز من سلطاني

 وقال بعض الملوك في جارية له عشقها وكانت كثيرة التجني عليه  

أما يكفيك أنك تملكيني  وأن الناس كلهم عبيدي

وأنك لو جهدت على تلافي  لقلت من الرضا أحسنت زيدي

   وقال ابن طاهر ملك خراسان

فإني وإن حنت إليك ضمائري  فما قدر حبي أن يذل له قدري

  وقال ابن الأحمر ملك الأندلس

أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي  على كل حال أنت لا بد لي منك

فإما بذل وهو أليق بالهوى  وإما بعز وهو أليق بالملك 

  قالوا وكم ممن هرب من الحب إلى مظان التلف ليتخلص من التلف بالتلف قال دعبل الشاعر كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا بفتى يجر رمحه بين يدي فالتفت فنظر إلي فقال أنت دعبل قلت نعم قال اسمع مني ثم أنشدني فقال   

أنا في أمري رشاد  بين غزو وجهاد

بدني يغزو عدوي

والهوى يغزو فؤادي

   ثم قال كيف ترى قلت جيد والله قال فوالله ما خرجت إلا هاربا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال أصرم بن حميد  

نحن قوم تليننا الحدق النجل  على أننا نلين الحديدا

طوع أيدي الظباء تقتادنا العين  ونقتاد بالطعان الأسودا

تتقي سخطنا الليوث ونخشى  صولة الخشف حين يبدي الصدودا

وترانا عند الكريهة أحرا  را وفي السلم للغواني عبيدا 

  قالوا ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص قال الخرائطي أنشدني أبو جعفر العبدي   

إن الله نجاني من الحب لم أعد  إليه ولم اقبل مقالة عاذلي

ومن لي بمنجاة من الحب بعدما  رمتني دواعي الحب بين الحبائل

وقال أبو عبيدة الحبائل الموت قال وأنشدني أبو عبيدالله بن الدولابي

دعوت ربي دعاء فاستجاب له  كما دعا ربه نوح وأيوب

أن ينزع الداء من صدري ويجعله  في صدر سلمى وحمل الداء تعطيب

أو يشف قلبي سريعا من صبابته  فلا أحن إذا حن المطاريب 

  قالوا وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا على مناخرها في الجحيم وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة وكم أنزلت من معقل عزه عزيزا فإذا هو من الأذلين ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين وكم كشفت من عورة وأحدثت من روعة وأعقبت من ألم وأحلت من ندم وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدرا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد وكم جلبت من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء فقل أن يفارقها زوال نعمة أو فجاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية فلو سألت النعم ما الذي أزالك والنقم ما الذي أدالك والهموم والأحزان ما الذي جلبك والعافية ما الذي أبعدك وجنبك والستر ما الذي كشفك والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك والحياة ما الذي كردك وشمس الإيمان ما الذي كورك وعزة النفس ما الذي أذلك وبالهوان بعد الإكرام بدلك لأجابتك بلسان الحال اعتبارا إن لم تجب بالمقال حوارا   هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون ^ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ^  

ويكفي اللبيب موعظة واستبصارا ما قصه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرا واعتبارا فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحامل له على التكبر عن طاعة الله عز وجل في أمره بالسجود لآدم فحمله هوى النفس وإعجابه بها على أن عصى أمره وتكبر على طاعته فكان من أمره ما كان ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغب في الخلود في الجنة وحمله هواه على أن أكل من الشجرة التي نهي عنها وكان الحامل له على ذلك هوى النفس ومحبتها للخلود فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب وقيل إنه إنما أكل منها طاعة لحواء فحمله حبه لها أن أطاعها ودخل في هواها وإنما توصل إليه عدوه من طريقها ودخل عليه من بابها فأول فتنة كانت في هذا العالم بسبب النساء   ثم ذكر سبحانه فتنة الكفار الذين أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وتعبدوا له بالفواحش وزعموا أنه أمرهم بها واتخذوا الشياطين أولياء من دونه والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد وعليه حاربوا رسله وكذبوا كتبه وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه حتى خسروا الدنيا والآخرة ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدنيا ودخول النار في الآخرة ثم ذكر قصة عاد وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع والعقوبة المستمرة ثم قصة قوم صالح كذلك ثم قصة العشاق أئمة الفساق وناكحي الذكران وتاركي النسوان وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون وقطع دابرهم وهم في سكر عشقهم يعمهون وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أمة من الأمم أجمعين وجعلهم سلفا لإخوانهم اللوطية من المتقدمين والمتأخرين ولما تجرأوا على هذه المعصية ومردوا ونهجوا لإخوانهم طريقا وقاموا بأمرها وقعدوا ضجت الملائكة إلى الله من ذلك ضجيجا وعجت الأرض إلى ربها من هذا الأمر عجيجا وهربت الملائكة إلى أقطار السموات وشكتهم إلى الله جميع المخلوقات وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأخذ الظالمين إلا بعد إقامة الحجة عليهم والتقدم بالوعد والوعيد إليهم فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم وينذرهم عذابه الأليم فأذن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملإ منهم والأشهاد وصاح بها بين أظهرهم في كل حاضر وباد وقال فكان في قوله لهم من أعظم الناصحين ^ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ^ ثم أعاد لهم القول نصحا وتحذيرا وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون ^ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ^ فأجاب العشاق جواب من أركس في هواه وغيه فقلبه بعشقه مفتون و ^ قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ^ فلما أن حان الوقت المعلوم وجاء ميقات نفوذ القدر المحتوم أرسل الرحمن تبارك وتعالى لتمام الإنعام والامتحان إلى بيت لوط ملائكة في صورة البشر وأجمل ما يكون من الصور وجاءوه في صورة الأضياف النزول بذي الصدر الرحيب فسيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ^ وجاء الصريخ إلى اللوطية أن لوطا قد نزل به شباب لم ينظر إلى مثل حسنهم وجمالهم الناظرون ولا رأى مثلهم الراؤون فنادى اللوطية بعضهم يعضا أن هلموا إلى منزل لوط ففيه قضاء الشهوات ونيل أكبر اللذات ^ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات ^ فلما دخلوا إليه وهجموا عليه قال لهم وهو كظيم من الهم والغم وقلبه بالحزن عميد ^ يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ^ فلما سمع اللوطية مقاله أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد ^ لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ^ فقال لهم لوط مقالة المضطهد الوحيد ^ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ^ فلما رأت رسل الله ما يقاسي نبيه من اللوطية كشفوا له عن حقيقة الحال وقالوا هون عليك ^ يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ^ فسر نبي الله سرور المحب وافاه الفرج بغتة على يد الحبيب وقيل له ^ فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ^ ولما أبوا إلا مراودته عن أضيافه ولم يرعوا حق الجار ضرب جبريل بجناحه على وجوههم فطمس منهم الأعين وأعمى الأبصار فخرجوا من عنده عميانا يتحسسون ويقولون ستعلم غدا ما يحل بك أيها المجنون 

 فلما انشق عمود الصبح جاء النداء من عند رب الأرباب أن اخسف بالأمة اللوطية وأذقهم أليم العذاب فاقتلع القوي الأمين جبريل مدائنهم على ريشة من جناحه ورفعها في الجو حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعوا الحجارة من سجيل وهو الطين المستحجر الشديد وخوف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد فقال تعالى ^ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ^ فهذه عاقبة اللوطية عشاق الصور وهم السلف وإخوانهم بعدهم على الأثر   وإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منهم ببعيد   وإنهم في الخسف ينتظرونهم  على مورد من مهلة وصيد   يقولون لا أهلا ولا مرحبا بكم  ألم يتقدم ربكم بوعيد   فقالوا بلى لكنكم قد سننتم  صراطا لنا في العشق غير حميد   أتينا به الذكران من عشقنا لهم  فأوردنا ذا العشق شر ورود   فأنتم بتضعيف العذاب أحق من  متابعكم في ذاك غير رشيد   فقالوا وأنتم رسلكم أنذرتكم  بما قد لقيناه بصدق وعيد   فما لكم فضل علينا فكلنا  نذوق عذاب الهون جد شديد   كما كلنا قد ذاق لذة وصلهم  ومجمعنا في النار غير بعيد   وكذلك قوم شعيب إنما حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم حتى أصابهم العذاب 

  وكذلك قوم فرعون حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى حتى آل بهم الأمر إلى ما آل وكذلك أهل السبت الذين مسخوا قردة إنما أتوا من جهة محبة الحيتان وشهوة أكلها والحرص عليها وكذلك الذي آتاه الرب تبارك وتعالى آياته ^ فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ^ وقال تعالى ^ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ^ وتأمل قوله تعالى آتيناه آياتنا فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو ثم قال ^ فانسلخ منها ^ ولم يقل فسلخناه بل أضاف الانسلاخ إليه وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخليه عنها بالكلية وهذا شأن الكافر وأما المؤمن ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية ثم قال ^ فأتبعه الشيطان ^ ولم يقل فتبعه فإن في أتبعه إعلاما بأنه أدركه ولحقه كما قال الله تعالى فأتبعوهم مشرقين أي لحقوهم ووصلوا إليهم ثم قال ^ ولو شئنا لرفعناه بها ^ ففي ذلك دليل على أن مجرد العلم لا يرفع صاحبه فهذا قد أخبر الله سبحانه أنه آتاه آياته ولم يرفعه بها فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه ثم أخبر الله عز وجل عن السبب الذي منعه أن يرفع بها فقال ^ ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ^ وقوله ^ أخلد إلى الأرض ^ أي سكن إليها ونزل بطبعه إليها فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء قال سهل قسم الله الأعضاء من الهوى لكل عضو منه حظا فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش ثم ذكر سبحانه مثل المتبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللهث في حالتي تركه والحمل عليه فهكذا هذا لا يفارقه اللهث على الدنيا راغبا وراهبا   

 والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرهم فالعشق والهوى أصل كل بلية قال عدي ابن ثابت كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا كبر علي ذكره فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك قال نعم قال تسجد لي سجدة واحدة فسجد له وقتل الرجل فهو قول الله تعالى ^ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ^   وقال واصل مولى أبي عيينة دخلت على محمد بن سيرين فقال لي هل تزوجت فقلت لا قال وما يمنعك قلت قلة الشيء قال تزوج عبدالله بن محمد بن سيرين ولا شيء له فرزقه الله   ثم حدث أن امرأة من بني إسرائيل يقال لها ميسونة خاصمت إلى حبرين من بني إسرائيل فعلقاها قال وكان كل واحد منهما يكتم صاحبه ما يجد منها فأخبرا أنها في حائط تغتسل قال فجاءا فتسورا عليها الحائط فلما رأتهما دخلت غمرا من الماء فوارت نفسها فقالا لها إنك إن لم تفعلي غدونا فشهدنا عليك بالزور فأبت فشهدا عليها فلما قربت ليقام عليها الحد نزل الوحي على دانيال بتكذيبهما فهذا بعض فتنة العشق   وقد روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول كان سعد يعلمنا هذا الدعاء ويذكره عن النبي

اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر   وقال الحسن بن عرفة حدثنا أبو معاوية الضرير عن ليث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء وهو كفر من بقي أيضا   وقد روى سفيان بن عيينة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله ما تركت على أمتي بعدي أضر على الرجال من النساء   وروى أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال قال رسول الله إن أخوف ما أخاف على أمتي الخمر والنساء وقال علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء   وروى سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قيل لآدم ما حملك على أكل الشجرة قال يا رب زينت لي حواء قال فإني قد عاقبتها لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها وأدميتها في الشهر مرتين 

  وقال ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء   قالوا ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق وذلك موجود في كل زمان   فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة لقولها ونحن نعقد للحكم بين الطائفتين بابا مستقلا بعون الله تعالى