الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

الباب السابع عشر في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

   قال الله تعالى تعالى عقيب ذكره ما أحل لعباده من الزوجات والإماء وما حرم عليهم يريد الله ليبين لكم ويهدكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا أي لا يصبر عن النساء كما ذكر الثوري عن ابن طاوس عن أبيه ^ وخلق الإنسان ضعيفا ^ قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر وكذلك قال غير واحد من السلف ولما كانت الشهوة في هذا الباب غالبة لا بد أن توجب ما يوجب التوبة كرر سبحانه وتعالى ذكر التوبة مرتين فأخبر أن متبعي الشهوات يريدون من عباده أن يميلوا ميلا عظيما وأخبر سبحانه وتعالى أنه يريد التخفيف عنا لضعفنا فأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من أطايب النساء أربعا وأن نتسرى من الإماء بما شئنا   ولما كان العبد له في هذا الباب ثلاثة أحوال حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه وحالة تقصير وتفريط وحالة ضعف وقلة صبر قابل سبحانه جهل عبده بالبيان والهدى وتقصيره وتفريطه بالتوبة وضعفه وقلة صبره بالتخفيف 

  وقال عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه حدثنا أبو معمر حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله جعلت قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب الجائع يشبع والظمآن يروى وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء وأصله في صحيح مسلم بدون هذه الزيادة   وفي صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما أصاب رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة جميلة حلوة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله تستعينه على كتابتها قالت فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعلمت أن رسول الله يرى منها ما رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فجئت رسول الله أستعينه قال فهل لك في غير ذلك قالت وما هو 

قال أقضي كتابتك وأتزوجك قالت نعم يا رسول الله قد فعلت وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم قالت فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها   وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما خرج سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفس أن قمت إليها فقبلتها   وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال قدم رسول الله خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله لنفسه فخرج بها حتى بلغا سد الروحاء فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال رسول الله آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله يحوى لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب وعند أبي داود في هذه القصة قال وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيي  

  وقال أبو عبيدة حج عبدالملك بن مروان ومعه خالد بن يزيد بن معاوية وكان خالد هذا من رجالات قريش المعدودين وكان عظيم القدر عند عبدالملك فبينما هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقا شديدا ووقعت بقلبه وقوعا متمكنا فلما أراد عبدالملك القفول هم خالد بالتخلف عنه فوقع بقلب عبدالملك تهمة فبعث إليه فسأله عن أمره فقال يا أمير المؤمنين رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت فأذهلت عقلي والله ما أبديت إليك ما بي حتى عيل صبري ولقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله والسلو على قلبي فامتنع عنه فأطال عبدالملك التعجب من ذلك وقال ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك قال فإني لأشد تعجبا من تعجبك مني ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس الشعراء والأعراب أما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء ووصفهن والتغزل فمال طبعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا إليه منقادين وأما الإعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها ولا يشغله عنه شيء فضعفوا عن دفع الهوى فتمكن منهم فما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحزم وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه فتبسم عبدالملك فقال أفكل هذا قد بلغ بك فقال والله ما عرتني هذه البلية قبل وقتي 

هذا فوجه عبدالملك إلى الزبير يخطب رملة على خالد فذكروا لها ذلك فقالت لا والله أو يطلق نساءه فطلق امرأتين كانتا عنده وظعن بها إلى الشام وكان يقول   أليس يزيد الشوق في كل ليلة  وفي كل يوم من حبيبتنا قربا   خليلي ما من ساعة تذكرانها  من الدهر إلا فرجت عني الكربا   أحب بني العوام طرا لحبها  ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا   تجول خلاخيل النساء ولا أرى  لرملة خلخالا يجول ولا قلبا   وذكر الخرائطي أن بشر بن مروان كان إذا ضرب البعث على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي ثم سمر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت وأنه ضرب البعث على رجل عاشق حديث عهد بعرس ابنة عمه فلما صار في مركزه كتب إلى ابنة عمه كتابا ثم كتب في أسفله   لولا مخافة بشر أو عقوبته  وأن يرى بعد ذا في الكف مسمار   إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم  إن المحب إذا ما اشتاق زوار   فلما ورد عليها الكتاب أجابته عنه ثم كتبت في أسفله 

  ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو  كانت عقوبته في فجوة النار   بل المحب الذي لا شيء يفزعه  أو يستقر ومن يهواه في الدار   فلما قرأ الكتاب قال لا خير في الحياة بعد هذا وأقبل حتى دخل المدينة فأتى بشر بن مروان في وقت غدائه فلما فرغ من غدائه أدخل عليه فقال ما الذي دعاك إلى تعطيل ثغرك أما سمعت النداء فقال اسمع عذري فإما عفوت وإما عاقبت فقال ويلك وهل لك من عذر فقص عليه قصته وقصة ابنة عمه فقال أولى لكما يا غلام خط على اسمه من البعث وأعطه عشرة آلاف درهم والحق بابنة عمك  

سهرت ومن أهدى لي الشوق نائم  وعذب قلبي بالهوى وهو سالم

فواحسرتا حتى متى أنا قائل لمن لامني في حبكم أنت ظالم

وحتى متى أخفي الهوى وأسره  وأدفن شوقي في الحشا وأكاتم

أريد الذي قد سركم بمساءتي  ليغفل واش أو ليعذر لائم

 وقال آخر

بي لا بها ما أقاسي من تجنيا  ومن جوى الحب في الأحشاء أفديها

والله يعلم أني لا أسر بأن  تلقى من الوجد ما لاقيته فيها

خوف البكاء كما أبكي فتتركني  أبكي على كبدي طورا وأبكيها 

  وقال العباس بن هشام الكلبي ضرب عبدالملك بن مروان بعثا إلى اليمن فأقاموا سنين حتى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق قال والله لأعسن الليلة مدينة دمشق ولأسمعن الناس ماذا يقولون في البعث الذي أغزيت فيه رجالهم وأغرمتهم أموالهم فبينما هو في بعض أزقتها إذ هو بصوت امرأة قائمة تصلي فتسمع إليها فلما انصرفت إلى مضجعها قالت اللهم مسير النجب ومنزل الكتب ومعطي الرغب أسألك أن ترد لي غائبي فتكشف به همي وتقر به عيني وأسألك أن تحكم بيني وبين عبدالملك بن مروان الذي فعل بنا هذا ثم أنشأت تقول  

تطاول هذا الليل فالعين تدمع  وأرقني حزن لقلبي موجع

فبت أقاسي الليل أرعى نجومه وبات فؤادي بالجوى يتقطع

إذا غاب منها كوكب في مغيبه  لمحت بعيني كوكبا حين يطلع

إذا ما تذكرت الذي كان بيننا  وجدت فؤادي حسرة يتصدع

وكل حبيب ذاكر لحبيبه  يرجي لقاه كل يوم ويطمع

فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي  فأنت الذي يدعو العباد فيسمع

دعوتك في السراء والضر دعوة  على حاجة بين الشراسيف تلذع 

فقال عبدالملك لحاجبه تعرف هذا المنزل قال نعم هذا منزل يزيد بن سنان قال فما المرأة منه قال زوجته فلما أصبح سأل كم تصبر المرأة عن زوجها قالوا ستة أشهر 

  وقال جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بالمدينة فإذا رأى شيئا ينكره أنكره فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول   

تطاول هذا الليل واخضل جانبه  وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا رب غيره  لحرك من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يصدني  وأكرم بعلي أن تنال مراكبه 

   ثم تنفست الصعداء وقالت لهان على عمر بن الخطاب ما لقيت الليلة فضرب باب الدار فقالت من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة فقال افتحي فأبت فلما أكثر عليها قالت أما والله لو بلغ أمير المؤمنين لعاقبك فلما رأى عفافها قال افتحي فأنا أمير المؤمنين قالت كذبت ما أنت أمير المؤمنين فرفع بها صوته وجهر لها فعرفت أنه هو ففتحت له فقال هيه كيف قلت فأعادت عليه ما قالت فقال أين زوجك قالت في بعث كذا وكذا فبعث إلى عامل ذلك الجند أن سرح فلان بن فلان فلما قدم عليه قال اذهب إلى أهلك ثم دخل على حفصة ابنته فقال أي بنية كم تصبر المرأة عن زوجها قالت شهرا واثنين وثلاثة وفي الرابع ينفد الصبر فجعل ذلك أجلا للبعث وهذا مطابق لجعل الله سبحانه وتعالى 

مدة الإيلاء أربعة أشهر فإنه سبحانه وتعالى علم أن صبر المرأة يضعف بعد الأربعة ولا تحتمل قوة صبرها أكثر من هذه المدة فجعلها أجلا للمولي وخيرها بعد الأربعة إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فسخت نكاحه فإذا مضت الأربعة أشهر عيل صبرها قال الشاعر

ولما دعوت الصبر بعدك والبكا    أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر