الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

الباب الثامن عشر:في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين  

 قد جعل الله سبحانه وتعالى لكل داء دواء ويسر الوصال إلى ذلك الدواء شرعا وقدرا فمن أراد التداوي بما شرعه الله له واستعان عليه بالقدر وأتى الأمر من بابه صادف الشفاء ومن طلب الدواء بما منعه منه شرعا وإن امتحنه به قدرا فقد أخطأ طريق المداواة وكان كالمتداوي من داء بداء أعظم منه وقد تقدم حديث طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال لم ير للمتحابين مثل النكاح وقد اتفق رأي العقلاء من الأطباء وغيرهم في مواضع الأدوية أن شفاء هذا الداء في التقاء الروحين والتصاق البدنين وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله رأى امرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه وذكر إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله أنه كان يقول يا معشر خولان زوجوا شبابكم وإماءكم فإن الغلمة أمر عارم فأعدوا عدتها واعلموا أنه ليس لمنعظ إذن يريد أنه إذا استأذن عليه فلا إذن له وذكر العتبي أن رجلا من ولد عثمان ورجلا من ولد الحسين خرجا يريدان موضعا لهما فنزلا تحت سرحة فأخذ أحدهما فكتب عليها  

خبرينا خصصت بالغيث يا سر  ح بصدق والصدق فيه شفاء

 وكتب الآخر  

هل يموت المحب من ألم الحبب  ويشفى من الحبيب اللقاء

ثم مضيا فلما رجعا وجدا مكتوبا تحت ذلك

إن جهلا سؤالك السرح عما  ليس يوما عليك فيه خفاء

ليس للعاشق المحب من الحبب  سوى لذة اللقاء شفاء

 وقال أبو جعفر العذري

لسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي  إذا سكر الندمان من لذة الخمر

وأحسن من قرع المثاني ونقرها  تراجيع صوت الثغر يقرع بالثغر

ولما دعوت الصبر بعدك والبكا  أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر 

 وقال عبدالله بن صالح كان الليث بن سعد إذا أراد الجماع خلا في منزل في داره ودعا بثوب يقال له الهركان وكان يلبسه إذ ذاك وكان إذا خلا في ذلك المنزل علم أنه يريد أمرا وكان إذا غشي أهله قال اللهم شد لي أصله وارفع لي صدره وسهل علي مدخله ومخرجه وارزقني لذته وهب لي ذرية صالحة تقاتل في سبيلك قال وكان جهوريا فكان يسمع ذلك منه رضي الله عنه   وقال الخرائطي حدثنا عمارة بن وثيمة قال حدثني أبي قال كان عبدالله بن ربيعة من خيار قريش صلاحا وعفة وكان ذكره لا يرقد فلم يكن يشهد لقريش خيرا ولا شرا وكان يتزوج المرأة فلا تمكث معه إلا أياما حتى تهرب إلى أهلها فقالت زينب بنت عمر بن أبي سلمة مالهن يهربن من ابن عمهن قيل لها إنهن لا يطقنه قالت فما يمنعه مني فأنا والله العظيمة الخلق الكبيرة العجز الفخمة الفرج قال فتزوجها فصبرت عليه وولدت له ستة من الولد   وقال رشيد بن سعد عن زهرة بن معبد عن محمد بن المنكدر أنه كان يدعو في صلاته اللهم قوي لي ذكري فإن فيه صلاحا لأهلي وقال حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال كان لأنس بن مالك غلام وكان شيخا كبيرا فرافعته امرأته إلى أنس وقالت لا أطيقه ففرض له عليها ستة في اليوم والليلة   وقال علي بن عاصم حدثنا خالد الحذاء قال لما خلق الله آدم وخلق حواء قال له يا آدم اسكن إلى زوجك فقالت له حواء يا آدم ما أطيب هذا زدنا منه وفي الصحيح أن سليمان بن داود عليهما السلام طاف في ليلة واحدة على تسعين امرأة وفي الصحيحين أن رسول الله كان يطوف على نسائه في الليلةالواحدة وهن تسع نسوة وربما كان يطوف عليهن بغسل واحد وربما كان يغتسل عند كل واحدة منهن   وقال المروذي قال أبو عبدالله يعني أحمد بن حنبل ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء النبي تزوج أربع عشرة ومات عن تسع ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا وقد كان النبي يصبح وما عندهم شيء ومات عن تسع وكان يختار النكاح ويحث عليه ونهى عن التبتل فمن رغب عن سنة النبي فهو على غير الحق ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له والنبي قال حبب إلي النساء قلت له فإن إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال لروعة صاحب العيال فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال وقعت في بنيات الطريق أنظر ما كان عليه محمد وأصحابه ثم قال بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا أين يلحق المتعبد العزب انتهى كلامه  

وقد اختلف الفقهاء هل يجب على الزوج مجامعة امرأته فقالت طائفة لا يجب عليه ذلك فإنه حق له فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه بمنزلة من استأجر دارا إن شاء سكنها وإن شاء تركها   وهذا من أضعف الأقوال والقرآن والسنة والعرف والقياس يرده أما القرآن فإن الله سبحانه وتعالى قال ^ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ^ فأخبر أن للمرأة من الحق مثل الذي عليها فإذا كان الجماع حقا للزوج عليها فهو حق على الزوج بنص القرآن وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أمر الأزواج أن  يعاشروا الزوجات بالمعروف ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوة الرجل أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة ومن زعم أن هذا من المعروف كفاه طبعه ردا عليه والله سبحانه وتعالى إنما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه لا على غيره فقال تعالى ^ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ^    

وقالت طائفة يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق وهذا من جنس القول الأول وهذا باطل من وجه آخر فإن المقصود إنما هو المعاشرة بالمعروف والصداق دخل في العقد تعظيما لحرمته وفرقا بينه وبين السفاح فوجوب المقصود بالنكاح أقوى من وجوب الصداق  

  وقالت طائفة ثالثة يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر مرة واحتجوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أباح للمولي تربص أربعة أشهر وخير المرأة بعد ذلك إن شاءت أن تقيم عنده وإن شاءت أن تفارقه فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك لم يجعل للزوج تركه في تلك المدة وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللذين قبله فليس أيضا بصحيح فإنه غير المعروف الذي لها وعليها وأما جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فنظرا منه سبحانه للأزواج فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطء امرأته مدة لعارض من سفر أو تأديب أو راحة نفس أو اشتغال بمهم فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلا أربعة أشهر ولا يلزم من ذلك أن يكون الوطء مؤقتا في كل أربعة أشهر مرة  

  وقالت طائفة أخرى بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد قالوا وعليه أن يشبعها وطئا إذا أمكنه ذلك كما عليه أن يشبعها قوتا وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره  

  وقد حض النبي على استعمال هذا الدواء ورغب فيه وعلق عليه الأجر وجعله صدقة لفاعله فقال وفي بضع أحدكم صدقة ومن تراجم النسائي على هذا الترغيب في المباضعة ثم ذكر هذا الحديث ففي هذا كمال اللذة وكمال الإحسان إلى الحبيبة وحصول الأجر وثواب الصدقة وفرح النفس وذهاب أفكارها الرديئة عنها وخفة الروح وذهاب كثافتها وغلظها وخفة الجسم واعتدال المزاج وجلب الصحة ودفع المواد الرديئة فإن صادف ذلك وجها حسنا وخلقا دمثا وعشقا وافرا ورغبة تامة واحتسابا للثواب فذلك اللذة التي لا يعادلها شيء ولا سيما إذا وافقت كمالها فإنها لا تكمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة فتلتذ العين بالنظر إلى المحبوب والأذن بسماع كلامه والأنف بشم رائحته والفم بتقبيله واليد بلمسه وتعتكف كل جارحة على ما تطلبه من لذتها وتقابله من المحبوب فإن فقد من ذلك شيء لم تزل النفس متطلعة إليه متقاضية له فلا تسكن كل السكون ولذلك تسمى المرأة سكنا لسكون النفس إلينا قال الله تعالى ^ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ^ ولذلك فضل جماع النهار على جماع الليل ولسبب آخر طبيعي وهو أن الليل وقت تبرد فيه الحواس وتطلب حظها من السكون والنهار محل انتشار الحركات كما قال الله تعالى ^ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ^ وقال الله تعالى ^ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ^ وتمام النعمة في ذلك فرحة المحب برضاء ربه تعالى بذلك واحتساب هذه اللذة عنده ورجاء تثقيل ميزانه ولذلك كان أحب شيء إلى الشيطان أن يفرق بين الرجل وبين حبيبه ليتوصل إلى تعويض كل منهما عن صاحبه بالحرام كما في السنن عنه أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي إن إبليس ينصب عرشه على الماء ثم يبث سراياه في الناس فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة فيقول أحدهم ما زلت به حتى زنى فيقول يتوب فيقول الآخر ما زلت به حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت نعم أنت فهذا الوصال لما كان أحب شيء إلى الله ورسوله كان أبغض شيء إلى عدو الله فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبة التي يحبها الله ويؤلف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها وأكثر العشاق من جنده وعسكره ويرتقي بهم الحال حتى يصير هو من جندهم وعسكرهم يقود لهم ويزين لهم الفواحش ويؤلف بينهم عليها كما قيل  

عجبت من إبليس في نخوته  وقبح ما أظهر من سيرته

تاه على آدم في سجدة  وصار قوادا لذريته 

   وقد أرشد النبي الشباب الذين هم مظنة العشق إلى أنفع أدويتهم ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج   وفي لفظ آخر ذكره أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله رضي الله عنه عن النبي عليكم بالباءة وذكر الحديث وبين اللفظين فرق فإن الأول يقتضي أمر العزب بالتزويج والثاني يقتضي أمر المتزوج بالباءة  

والباءة اسم من أسماء الوطء وقوله من استطاع منكم الباءة فليتزوج فسرت الباءة بالوطء وفسرت بمؤن النكاح ولا ينافي التفسير الأول إذ المعنى على هذا مؤن الباءة ثم قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجاري الشهوة فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيته فكمية الغذاء وكيفيته يزيدان في توليدها والصوم يضيق عليها ذلك فيصير بمنزلة وجاء الفحل وقل من أدمن الصوم إلا وماتت شهوته أو ضعفت جدا والصوم المشروع يعدلها واعتدالها حسنة بين سيئتين ووسط بين طرفين مذمومين وهما العنة والغلمة الشديدة المفرطة وكلاهما خارج عن الاعتدال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وخير الأمور أوساطها والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين وكذلك السنة وسط بين بدعتين وكذلك الصواب في مسائل النزاع إذا شئت أن تحظى به فهو القول الوسط بين الطرفين المتباعدين وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة فإنا لم نقصد له وبالله التوفيق