الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

 الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

 وقبل الخوض في ذلك لا بد من  ذكر أقسام لنفوس ومحابها فنقول   النفوس ثلاثة نفس سماوية علوية فمحبتها منصرفة إلى المعارف واكتساب الفضائل والكمالات الممكنة للإنسان واجتناب الرذائل وهي مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى وذلك قوتها وغذاؤها ودواؤها فاشتغالها بغيره هو داؤها   ونفس سبعية غضبية فمحبتها منصرفة إلى القهر والبغي والعلو في الأرض والتكبر والرئاسة على الناس بالباطل فلذتها في ذلك وشغفها به   ونفس حيوانية شهوانية فمحبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والمنكح وربما جمعت الأمرين فانصرفت محبتها إلى العلو في الأرض والفساد كما قال الله تعالى ^ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ^   وقال في آخر السورة ^ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ^ والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاثة فأي نفس منها صادفت ما يلائم طبعها استحسنته ومالت إليه ولم تصغ فيه لعاذل ولم تأخذها فيه لومة لائم وكل قسم من هذه الأقسام يرون أن ما هم فيه أولى بالإيثار وأن الاشتغال بغيره والإقبال على سواه غبن وفوات حظ فالنفس السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبعية بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم   فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة قال الله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم   فالملك يتولى من يناسبه بالنصح له والإرشاد والتثبيت والتعليم وإلقاء الصواب على لسانه ودفع عدوه عنه والاستغفار له إذا زل وتذكيره إذا نسي وتسليته إذا حزن وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها وإيعاد صاحبه بالخير وحضه على التصديق بالوعد وتحذيره من الركون إلى الدنيا وتقصير أمله وترغيبه فيما عند الله فهو أنيسه في الوحدة ووليه ومعلمه ومثبته ومسكن جأشه ومرغبه في الخير ومحذره من الشر يستغفر له إن أساء ويدعو له بالثبات إن أحسن وإن بات طاهرا يذكر الله بات معه في شعاره فإن قصده عدو له بسوء وهو نائم دفعه عنه 

فصل :  والشياطين أولياء النوع الثاني يخرجونهم من النور إلى الظلمات قال الله تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم وقال تعالى كتب عليه أنه من كولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وقال تعالى ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون ! عنها محيصا وقال تعالى وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا   فهذا النوع بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبة طبعية بها ملت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم فالشياطين تتولاهم بضد ما تتولى الملائكة لمن ناسبهم فتؤزهم إلى المعاصي أزا وتزعجهم إليها إزعاجا لا يستقرون معه ويزينون لهم القبائح ويخفقونها على قلوبهم ويحلونها في نفوسهم ويثقلون عليها الطاعات ويثبطونهم عنها وبقبحونها في أعينهم ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام وما لا يفيد ويزينونه في أسماع من يسمعه منهم يبيتون معهم حيث باتوا ويقيلون معهم حيث قالوا ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم يأكلون معهم ويشربون معهم ويجامعون معهم وينامون معهم قال تعالى ^ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ^ وقال تعالى ^ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ^  

فصل :  وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان ونفوسهم أرضية سفلية لا تبالي بغير شهواتها ولا تريد سواها إذا عرفت هذه المقدمة فعلامات المحبة قائمة في كل نوع بحسب محبوبه ومراده فمن تلك العلامات تعرف من أي هذه الأقسام هو فنذكر فصولا من علامات المحبة التي يستدل بها عليها   فمنها إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره وهي أبلغ في ذلك من اللسان لأن دلالتها بغير اختيار صاحبها ودلالة اللسان لفظية تابعة لقصده فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف ما دار ويجول معه في النواحي والأقطار كما قال  

أذود سوام الطرف عنك وماله  على أحد إلا عليك طريق 

بل المحب في عين المحبوب تمثاله كما في قلبه شخصه ومثاله كما قيل   ومن عجب أني أحن إليهم  وأسأل عنهم من لقيت وهم معي   وتطلبهم عيني وهم في سوادها  ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي   فالمحب نظره وقف على محبوبه كما قال   إن يحجبوها عن العيون فقد  حجبت عيني لها عن البشر 

 فصل :   ومنها إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرفإلى الأرض قال الله تعالى مخبرا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا ولا طمح متجاوزا إلى ما هو رائيه ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك ولهذا اشتد نهي النبي للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء وتوعدهم على ذلك بخطف أبصارهم إذ هذا من كمال الأدب مع من المصلي واقف بين يديه بل ينبغي له أن يقف ناكس الرأس مطرقا إلى الأرض ولولا أن عظمة رب العالمين سبحانه فوق سماواته على عرشه لم يكن فرق بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل 

فصل :   ومنها كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون فقال تعالى ^ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ^ والمحبون يفتخرون بذكرهم أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء كما قال قائلهم  

ذكرتك والخطي يخطر بيننا  وقد نهلت منا المثقفة السمر

  وقال آخر  

ولقد ذكرتك والرماح كأنها  أشطان بئر في لبان الأدهم

فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المتبسم

   وفي بعض الآثار الإلهية إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحبوب عند الرغب والرهب وقال بعض المحبين في محبوبه

يذكرنيك الخير والشر والذي  أخاف وأرجو والذي أتوقع

 

  ومن الذكر الدال على صدق المحبة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحب ولسانه عند أول يقظة من منامه وأن يكون ذكره آخر ما ينام عليه كما قال قائلهم

آخر شيء أنت في كل هجعة  وأول شيء أنت وقت هبوبي 

 وذكر المحبوب لا يكون عن نسيان مستحكم فإن ذكره بالقوة في نفس المحب ولكن لضيق المحل به يرد عليه ما يغيب ذكره فإذا زال الوارد عاد الذكر كما كان وأعلى أنواع ذكر الحبيب أن يحبس المحب لسانه على ذكره ثم يحبس قلبه على لسانه ثم يحبس قلبه ولسانه على شهود مذكوره وكما أن الذكر من نتائج الحب فالحب أيضا من نتائج الذكر فكل منهما يثمر الآخر وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة 

 فصل :  ومن علاماتها الانقياد لأمر المحبوب وإيثاره على مراد المحب بل يتحد مراد المحب والمحبوب وهذا هو الاتحاد الصحيح لا الاتحاد الذي يقوله إخوان النصارى من الملاحدة فلا اتحاد إلا في المراد وهذا الاتحاد علامة المحبة الصادقة بحيث يكون مراد الحبيب والمحب واحدا فليس بمحب صادق من له إرادة تخالف مراد محبوبه منه بل هذا مريد من محبوبه لا مريد له وإن كان مريدا له فليس مريدا لمراده فالمحبون ثلاثة أقسام منهم من يريد من المحبوب ومنهم من يريد المحبوب ومنهم من يريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب وهذا أعلى أقسام المحبين وزهد هذا أعلى أنواع الزهد فإنه قد زهد في كل إرادة تخالف مراد محبوبه وبين هذا وبين الزهد في الدنيا أعظم مما بين السماء والأرض فالزهد خمسة أقسام زهد في الدنيا وزهد في النفس وزهد في الجاه والرئاسة وزهد فيما سوى المحبوب وزهد في كل إرادة تخالف مراد المحبوب وهذا إنما يحصل بكمال المتابعة لرسول الحبيب   قال الله تعالى ^ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ^ فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل   تعصي الإله وأنت تزعم حبه  هذا محال في القياس بديع   لو كان حبك صادقا لأطعته  إن المحب لمن يحب مطيع 

 فصل :   ومن علاماتها قلة صبر المحب عن المحبوب بل ينصرف صبره إلى الصبر على طاعته والصبر عن معصيته والصبر على أحكامه فهذا صبر المحب وأما الصبر عنه فصبر الفارغ عن محبته المشغول بغيره قال   والصبر يحمد في المواطن كلها  وعن الحبيب فإنه لا يحمد   فمن صبر عن محبوبه أدى به صبره إلى فوات مطلوبه وقال بعض المحبين   ما أحسن الصبر وأما على  أن لا أرى وجهك يوما فلا   لو أن يوما منك أو ساعة  تباع بالدنيا إذا ما غلا 

فصل : ومنها الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه وإن ظهر منه إقبال على غيره فهو إقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه كما قال   وأديم لحظ محدثي ليرى  أن قد فهمت وعندكم عقلي   فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحاب شيء إليه الحديث عنه ولا سيما إذا حدث عنه بكلامه فإنه يقيمه مقام خطابه كما قال القائل المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم وفيه غاية مطلوبهم ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله اقرأ علي قلت أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى ^ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ^ قال حسبك الآن فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ وهم يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وربما بكى عمر   ومر رسول الله بأبي موسى رضي الله عنه وهو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف واستمع لها فلما غدا على رسول الله قال لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فوقفت واستمعت لقراءتك فقال لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا والله سبحانه وهو الذي تكلم بالقرآن يأذن ويستمع للقارىء الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه كما قال لله أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته والأذن بفتح الهمزة والذال مصدر أذن يأذن إذا استمع قال الشاعر  

أيها القلب تعلل بددن  إن قلبي في سماع وأذن 

  وقال زينوا القرآن بأصواتكم وغلط من قال إن هذا من المقلوب وإن المراد زينوا أصواتكم بالقرآن فهذا وإن كان حقا فالمراد تحسين الصوت بالقرآن وصح عنه أنه قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه أحدها أن ذلك المعنى إنما يقال فيه استغنى لا تغنى والثاني أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث يجهر به هذا لفظه قال أحمد نحن أعلم بهذا من سفيان وإنما هو تحسين الصوت به يحسنه ما استطاع الثالث أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ ولو احتمله فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم وبعد هذا فإذا كان من التغني بالصوت ففيه معنيان أحدهما يجعله له مكان الغناء

لأصحابه من محبته له ولهجه به كما يحب صاحب الغناء لغنائه والثاني أنه يزينه بصوته ويحسنه ما استطاع كما يزين المتغني غناءه بصوته وكثير من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشجي فهؤلاء قتلى القرآن لا قتلى عشاق المردان والنسوان  

فصل : ومنها محبة دار المحبوب وبيته حتى محبة الموضع الذي حل به وهذا هو السر الذي لأجله علقت القلوب على محبة الكعبة البيت الحرام حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجر الأوطان والأحباب ولذ لهم فيها السفر الذي هو قطعة من العذاب فركبوا الأخطار وجابوا المفاوز والقفار واحتملوا في الوصول غاية المشاق ولو أمكنهم لسعوا إليها على الجفون والأحداق  

نعم أسعى إليك على جفوني  وإن بعدت لمسراك الطريق 

  وسر هذه المحبة هي إضافة الرب سبحانه له إلى نفسه بقوله ^ وطهر بيتي للطائفين ^   قال الشاعر   لما انتسبت إليك صرت معظما  وعلوت قدرا دون من لم ينسب   وكل ما نسب إلى المحبوب فهو محبوب ^ وأنه لما قام عبد الله يدعوه ^ ^ سبحان الذي أسرى بعبده ^ ^ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ^وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ^ ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى بيدك الخير وقول عبده ورسوله لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك وإذا كان من يحب مخلوقا مثله يحب داره كما قال

أمر على الديار ديار ليلى  أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي  ولكن حب من سكن الديارا 

  فكيف بمن ليس كمثله شيء ومن ليس كمثل محبته محبة 

 فصل :  ومنها الإسراع إليه في السير وحث الركاب نحوه وطي المنازل في الوصول إليه والاجتهاد في القرب والدنو منه وقطع كل قاطع يقطع عنه واطراح الأشغال الشاغلة عنه والزهد فيها والرغبة عنها والاستهانة بكل ما يكون سببا لغضبه ومقته وإن جل والرغبة في كل ما يدني إليه وإن شق قال الشاعر   ولو قلت طأ في النار أعلم أنه  رضا لك أو مدن لنا من وصالك   لقدمت رجلي نحوها فوطئتها  هدى منك لي أو ضلة من ضلالك 

 فصل : ومنها محبة أحباب المحبوب وجيرانه وخدمه وما يتعلق به حتى حرفته وصناعته وآنيته وطعامه ولباسه قال 

أحب بني العوام طرا لحبها  ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

  وقال آخر

يشتاق واديها ولولا حبكم  ما شاقه واد زهت أزهاره

 وقال الآخر

   فيا ساكني أكناف طيبة كلكم  إلى القلب من أجل الحبيب حبيب  

  وفي أخبار العشاق أن عاشقا عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه فوجد في تركته اثنا عشر حملا وفردة من السراويلات ذكره البصري وعشق آخر الهاوونات من أجل صوت هاون محبوبته فوجد في تركته عدة آلاف منها وعند الناس من هذا عجائب كثيرة وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يحب الدباء كثيرا لما رأى النبي يتتبعها من جوانب القصعة

 فصل :  ومنها قصر الطريق حين يزوره ويوافي إليه كأنها تطوى له وطولها إذا انصرف عنه وإن كانت قصيرة قال   

وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها  أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

من الخفرات البيض ود جليسها  إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها 

  وقال آخر

والله ما جئتكم زائرا  إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا انثنى عزمي عن بابكم  إلا تعثرت بأذيالي

 وقال آخر

وإذا قمت عنك لم أمش إلا  مشي عان يقاد نحو الفناء

وإذا جئت كنت أسرع في السي  ر من الطير نازلا في الهواء

   وقال الآخر  

وتدنو الطريق إذا زرتكم  وتبعد إذ أنثني راجعا

 فصل :  ومنها انجلاء همومه وغمومه إذا زار محبوبه أو زاره وعودها إذا فارقه كما قال   يزور فتنجلي عني همومي  لأن جلاء حزني في يديه   ويمضي بالمسرة حين يمضي  لأن حوالتي فيها عليه   ومن المعلوم أنه ليس للمحب فرحة ولا سرور ولا نعيم إلا بمحبوبه وبمفارقة محبوبه عذابه الآجل والعاجل فصل   ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة كما قال الشاعر 

فما هو إلا أن أراها فجاءة  فأبهت حتى ما أكاد أجيب

فأرجع عن رأيي الذي كان أولا  وأذكر ما أعددت حين تغيب

  وقال آخر

   فما هو إلا أن يراها فجاءة  فتصطك رجلاه ويسقط للجنب   وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأة كما قال  

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى  فهيج أشجان الفؤاد  وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما  أطار بليلى طائرا كان في صدري

  وقد اختلف في سبب هذه الروعة والفزع والاضطراب فقيل سببه أن للمحبوب سلطانا على قلب محبه أعظم من سلطان الرعية فإذا رآه فجأة راعه ذلك كما يرتاع من يرى من يعظمه فجأة فإن القلب معظم لمحبوبه خاضع له والشخص إذا فجئه المعظم عنده راعه ذلك وقيل سببه انفراج القلب له ومبادرته إلى تلقيه فيهرب الدم منه فيبرد ويرعد ويحدث الاصفرار والرعدة وربما مات وبالجملة فهذا أمر ذوقي وجداني وإن لم يعرف سببه 

 فصل :  ومنها غيرته لمحبوبه وعلى محبوبه فالغيرة له أن يكره ما يكره ويغار إذا عصي محبوبه وانتهك حقه وضيع أمره فهذه غيرة المحب حقا والدين كله تحت هذه الغيرة   فأقوى الناس دينا أعظمهم غيرة وقد قال النبي في الحديث الصحيح أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته   وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى ^ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ^  

فصل :   وأما الغيرة على المحبوب فإنما تحمد حيث يحمد الاختصاص بالمحبوب ويذم الاشتراك فيه شرعا وعقلا كغيرة الإنسان على زوجته وأمته والشيء الذي يختص هو به فيغار من تعرض غيره لذكره ومشاركته له فيه وهذه الغيرة تختص بالمخلوق ولا تتصور في حق الخالق بل المحب لربه يحب أن الناس كلهم يحبونه ويذكرونه ويعبدونه ويحمدونه ولا شيء أقر لعينه من ذلك بل هو يدعو إلى ذلك بقوله وعمله   ولما لم يميز كثير من الصوفية بين هاتين الغيرتين وقع في كلامهم تخبيط قبيح وأحسن أمره أن يكون من السعي المغفور لا المشكور وكان بعض جهلتهم إذا رأى من يذكر الله أو يحبه يغار منه وربما سكته إن أمكنه ويقول غيرة الحب تحملني على هذا وإنما ذلك حسد وبغي وعدوان ونوع معادة لله ومراغمة لطريق رسله أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة الصور من المخلوقين   ولا ريب أن هذه الغيرة محمودة في محبة من لا تحسن مشاركة المحب فيه وسيأتي ذلك في باب الغيرة على المحبوب 

 فصل :  ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه مما كان يتمتع به بدون المحبة وللمحب في هذا ثلاثة أحوال أحدها بذله ذلك تكلفا ومشقة وهذا في أول الأمر فإذا قويت المحبة بذله رضا وطوعا فإذا تمكنت من القلب غاية التمكن بذله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب حتى إنه ليبذل نفسه دون محبوبه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقون رسول الله في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله

ولي فؤاد إذا لج الغرام به  هام اشتياقا إلى لقيا معذبه

يفديك بالنفس صب لو يكون له أعز من نفسه شيء فداك به 

  ومن آثر محبوبه بنفسه فهو له بماله أشد إيثارا قال الله تعالى ^ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ^ ولا يتم لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم فضلا عن أبنائهم وآبائهم كما صح عنه أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر رضي الله عنه والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر   فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله فكيف بمحبته سبحانه وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعا ولا قدرا وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه فحمله محبة غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله وليست محبته لذلك المحبوب لذاته بل لغرضه منه وهذا المحبوب له مثل ولمحبته مثل وأما محبة الله ليس لها مثل ولا للمحبوب مثل ولهذا حكم الصحابة رضي الله عنهم رسول الله في أنفسهم وأموالهم فقالوا هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك قال قيس بن صرمة الأنصاري  

ثوى في قريش بضع عشرة حجة  يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه  فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرت به النوى  وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

بذلنا له الأموال من حل مالنا  وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم  جميعا وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره  وأن رسول الله أصبح هاديا 

  فالمحب وصفه الإيثار والمدعي طبعه الاستئثار

 فصل :   ومنها سروره بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفسه فيكون عنده بمنزلة الدواء الكريه يكرهه طبعا ويحبه لما فيه من الشفاء وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضى به محبوبه وإن كان كريها لنفسه وأما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من مراضي محبوبه فليست محبته صادقة بل هي محبة معلولة حتى يسر بما ساءه وسره من مراضي محبوبه وإذا كان هذا موجودا في محبة الخلق بعضهم لبعض فالحبيب لذاته أولى

 بذلك قال أبو الشيص  

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي  متأخر عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا  ما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهم  إذ كان حظي منك حظي منهم

أجد الملامة في هواك لذيذة  حبا لذكرك فليلمني اللوم 

  وقريب من هذا البيت الأخير قول الآخر

لئن ساءني أن نلتني بمساءة  لقد سرني أني خطرت ببالك

 وقال الآخر

صدودك عني إن صددت يسرني  ولم أر قبلي عاشقا سر بالصد

سررت به أني تيقنت أنما  دعاك إليه رغبة منك في ودي

ولو كنت فيه تزهدين لساءه  ولكنما عتب المحب من الوجد

فيا فرحة لي إذ رأيتك تعتبي  علي لذنب كان مني على عمد

  وقال الآخر

أهوى هواها وطول البعد يعجبها  فالبعد قد صار لي في حبها أربا

فمن رأى والها قبلي أخا كلف  ينأى إذا حبه من أرضه قربا

  وقريب من هذا قول أحمد بن الحسين

يا من يعز علينا أن نفارقهم  وجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سركم ما قال حاسدنا  فما لجرح إذا أرضاكم ألم

واهتدم بعضهم هذا فقال   يا من يعز علينا أن نلم بهم

إذ بعدنا عنهم قد صار قصدهم   إن كان يرضيكم

هذا البعاد فما  فيه لصبكم جرح ولا ألم

  ولعمر الله أكثر هذه دعاوى لا حقيقة لها والصادق منهم يخبر عن علمه وإرادته لا عن حاله وصفته ولقد أحسن القائل  

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم  وخاضوا بحار الحب دعوى وما ابتلوا

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم  وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا 

   وإن كان هذا هو وصف قائلها بعينه وحاله فإنه خاض بحار الحب وما ابتل فيه له قدم وأخبر عن نفسه عند انكشاف غطائه وطلب الرسل له لقدومه على ربه فقال وصدق  

إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمنا  فاليوم أحسبها أضغاث أحلام 

  وهذه حال كل من أحب مع الله شيئا سواه فإنه إلى هذه الغاية يصير ولا بد وسيبدو له إذا انكشف الغطاء أنه إنما كان مغرورا مخدوعا بأمنية ظفرت نفسه بها مدة حياته ثم انقطعت وأعقبت الحسرة والندامة قال الله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأمنهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوصل والعلائق والمودات التي كانت لغير الله وفي غير ذات الله وهي التي يقدم إليها سبحانه فيجعلها هباء منثورا فكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها وحسرة عليه إلا محبته ومحبة ما يدعو إلى محبته ويعين على طاعته ومرضاته فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر كما قال  

سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا  سريرة حب يوم تبلى السرائر

   وقال آخر  

إذا تصدع شمل الوصل بينهم  فلمحبين شمل غير منصدع

وإن تقطع حبل الوصل يومئذ  فللمحبين حبل غير منقطع 

 فصل :   ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس وكأن المحبة قد ثبتت على ذلك فلا شيء أحلىللمحب الصادق من خلوته وتفرده فإنه إن ظفر بمحبوبه أحب خلوته به وكره من يدخل بينهما غاية الكراهة 

ولهذا السر والله أعلم أمر النبي برد المار بين يدي المصلي حتى أمر بقتاله وأخبر أنه لو يدري ما عليه من الإثم لكان وقوفه أربعين خيرا له من مروره بين يديه ولا يجد ألم المرور وشدته إلا قلب حاضر بين يدي محبوبه مقبل وقد ارتفعت الأغيار بينه وبينه فمرور المار بينه وبين ربه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه وهذا أمر الحاكم فيه الذوق فلا ينكره إلا من لم يذق   وقال ابن مسعود رضي الله عنه مرور المار بين يدي المصلي يذهب نصف أجره ذكره الإمام أحمد وأيضا فإن المحب يستأنس بذكر محبوبه وكونه في قلبه لا يفارقه فهو أنيسه وجليسه لا يستأنس بسواه فهو مستوحش ممن يشغله عنه وحدثني تقي الدين بن شقير قال خرج شيخ الإسلام ابن تيمية يوما فخرجت خلفه فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس بحيث لا يراه أحد سمعته يتمثل بقول الشاعر  

وأخرج من بين البيوت لعلني  أحدث عنك القلب بالسر خاليا 

  فخلوة المحب لمحبوبه هي غاية أمتيته فإن ظفر بها وإلا خلا به في سره وأوحشه ذلك من الأغيار وكان قيس بن الملوح إذا رأى إنسانا هرب منه فإذا أراد أن يدنو منه ويحادثه ذكر له ليلى وحديثها فيأنس به ويسكن إليه وينبغي للمحب أن يكون كما قال يوسف لإخوته وقد طلب منهم أخاهم ^ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ^   إذا لم تكن فيكن سعدى فلا أرى  لكن وجوها أو أغيب في لحدي 

فصل :   ومنها استكانة المحب لمحبوبه وخضوعه وذله له والحب مبني على الذل ولا يأنف العزيز الذي لا يذل لشيء من ذله لمحبوبه ولا يعده نقصا ولا عيبا بل كثير منهم يعد ذله عزا كما قال 

إذا كنت تهوى من تحب ولم تكن  ذليلا فه فاقرأ السلام على الوصل

تذلل لمن تهوى لتكسب عزة  فكم عزة قد نالها المرء بالذل

 وقال الآخر

إخضع وذل لمن تحب فليس في  شرع الهوى أنف يشال ويعقد

 وقال الآخر  

ويعجبني ذلي لديك ولم يكن  ليعجبني لولا محبتك الذل

 وقال آخر

يلذ له ذل الهوى وخضوعه  ولولا الهوى ما لذ للعاقل الذل

  وقال الآخر

مساكين أهل الحب حتى قبورهم  عليها تراب الذل دون المقابر 

 ومتى استحكم الذل والحب صار عبودية فيصير القلب المحب معبدا لمحبوبه وهذه الرتبة لا يليق أن تتعلق بمخلوق ولا تصلح إلا لله وحده 

فصل : ومنها امتداد النفس وتردد الأنفاس وتصاعدها وهذا نوعان   أحدهما ما يقارنه حزن ولهف كما قال القائل   رب ليل أمد من نفس العا  شق طولا قطعته بانتحاب   وقال آخر   تردد أنفاس المحب يدلنا  على كنه ما أخفاه من ألم الحب   إذا خطرات الحب خامرن قلبه  تنفس حتى ظل متصدع القلب   والثاني ما يكون سببه طربا ولذة وسبب وجود النوعين انحصار القلب وانفراجه بسبب الوارد الذي ورد عليه فأحدث للنفس الذي تروحه عليه الرئة كيفية مؤذية وطلب إخراجها فهو تنفس الصعداء وأما تنفس الراحة فإن القلب ينبسط بعد انقباضه فيدفع الهواء المحيط به فيطلب الخروج 

 فصل :   ومنها هجره كل سبب يقصيه من محبوبه ويبغضه المحبوب وارتياحه لكل سبب يدنيه منه ويستحمد به عنده إذا بلغه عنه وفي الباب عجائب للمحبين فكثير منهم هجر طعاما أو لباسا أو أرضا أو صناعة أو حالة من الحالات كان محبوبه يمقتها فلم يعد إليها أبدا ولم تطاوعه نفسه بفعله البتة وكثير منهم حمله الحب على اكتساب المعالي والفضائل وغيرها مما يعلم أن المحبوب يعظمه ويحبه وهذا نوعان أيضا  أحدهما أن يكون المحبوب مؤثرا لذلك محبا له فالمحب يبذل جهده فيه لينال منه أعلاه إن أمكنه فإن كان المحبوب مشغوفا بجمع المال أثر ذلك في محبه شغفا أشد من شغفه وإن كان مشغوفا بالعلم اجتهد المحب في طلبه أشد من من اجتهاده وإن كان مشغوفا بحرفة أو صناعة حرص المحب علىتعلمها إن وجد إلى ذلك سبيلا وإن كان مشغوفا بالنوادر والحكايات الحسان والأخبار المستحسنة بالغ المحب في تحفظها فالمحبة النافعة أن تقع على عشق كامل يحملك عشقه على طلب الكمال والبلية كل البلية أن تبتلى بمحبة فارغ بطال صفر من كل خير فيحملك حبه على التشبه به   

 والثاني أن يكون المحبوب فارغا من محبة ذلك وإيثاره ولكن المحبة تستخرج من قلب المحب عزما وإرادة وحرصا على ما يعظم به في عين المحبوب وقلبه فتجده من أحرص الناس على ذلك بحسب استعداده كما قيل   ويرتاح للمعروف في طلب العلى  لتحمد يوما عند ليلى شمائله   وهذا قد يكون له سبب آخر وهو معاداة الناس له وتنقصهم إياه وازدراؤهم به فيحمله الانتخاء لنفسه والغيرة لها ومحبتها على المنافسة في المعالي واكتساب الحمد وهذا من شرف النفس وعزتها كما قيل 

من كان يشكر للصديق فإنني  أحبو بصالح شكري الأعداء

هم صيروا طلب المعالي ديدني  حتى وطئت بنعلي الجوزاء

ولربما انتفع الفتى بعدوه  والسم أحيانا يكون شفاء

 وقال الآخر

عداي لهم فضل علي ومنة  فلا أعدم الرحمن عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها  وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا 

 فصل:   ومنها الاتفاق الواقع بين المحب ومحبوبه ولا سيما إذا كانت المحبة محبة مشاكلة ومناسبة فكثيرا ما يمرض المحب بمرض محبوبه ويتحرك بحركته ولا يشعر أحدهما بالآخر ويتكلم المحبوب بكلام فيتكلم المحب به بعينه اتفاقا فانظر إلى قول النبي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال له ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به فقال قلت لك إنك تأتيه العام قال لا قال فإنك آتيه ومطوف به ثم جاء أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال له يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديتنا ونرجع ولما يحكم الله بيننا فقال له إنه رسول الله وهو ناصره وليس يعصيه قال ألم يكن يحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به قال أقال لك إنك تأتيه العام قال لا قال فإنك آتيه ومعطوف به فأجاب على جواب رسول الله حرفا بحرف من غير تواطؤ ولا تشاعر بل موافقة محب لمحبوب هكذا وقع في صحيح البخاري ووقع في بعض المغازي أنه أتى أبا بكر أولا فقال له ذلك ثم أتى رسول الله بعده فقال له مثل ما قال أبو بكر   قال السهيلي وهذا هو الأولى ويشبه أن يكون المحفوظ فإنه لا يظن بعمر رضي الله عنه أن رسول الله يقول له قولا فلا يرضى به حتى يأتي أبا بكر رضي الله عنه بعد ذلك والشبهة عنده لم تزل فيعيدها عليه ولا يظن ذلك بعمر رضي الله عنه ولعمري لقد نزع أبو القاسم بذنوب صحيح ولكن المحفوظ هو الذي وقع في البخاري وعليه عامة أهل السير والمسانيد والسنن وأما ما نسب إليه عمر رضي الله عنه فقد أجيب عنه بأنه كان يرجو النسخ وموافقة ربه له في ذلك كما تقدم له أمثالها فإنه كان يقول القول فينزل به الوحي والثاني أن المقام كان مقام محنة وابتلاء عجز عنه صبر أكثر الصحابة ولم يتسع له بطانهم وداخلهم من الهم والقلق والتحرق على أعدائهم أمر عظيم ولهذا لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وينحرا بدنهم لم يقم منهم رجل واحد حتى دخل على أم سلمة مغضبا فقالت له من أغضبك أغضبه الله فقال ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع وهذا يرد تأويل من تأوله على أن القوم كانوا محسنين في ذلك التثبت وأنهم كانوا ينتظرون النسخ فلا لوم عليهم وهذا خطأ قبيح من هذا المعتذر بل كانت المبادرة إلى امتثال أوامره أولى بهم ولو كانوا محسنين في التأخير لما اشتد غضبه عليهم ولكان أولى منهم بانتظار النسخ بل هذا من سعيهم المغفور الذي غفره الله لهم بكمال إيمانهم ونصحهم لله ورسوله وعذرهم الله سبحانه لقوة الوارد وضعفهم عن حمله حتى لم يحمله عمر رضي الله عنه في قوته وشدته واحتمله رسول الله وأبو بكر وكان جوابهما من مشكاة واحدة   ولما احتمل رسول الله هذا الحكم الكوني الأمري الذي حكم الله له به ورضي به وأقر به ودخل تحته طوعا وانقيادا وهو الفتح الذي فتح الله له أثابه الله عليه بأربعة أشياء مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإتمام نعمته عليه وهدايته صراطا مستقيما ونصر الله له نصرا عزيزا وبهذا يقع جواب السؤال الذي أورده بعضهم هاهنا فقال كيف يكون حكم الله له بذلك علة لهذه الأمور الأربعة إذ يقول الله تعالى ^ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ^ الآية وجوابه ما ذكرنا أن تسليمه لهذا الحكم والرضا به والانقياد له والدخول تحته أوجب له أن آتاه الله ذلك والمقصود إنما هو ذكر الاتفاق بين المحب والمحبوب وهذا الذي جرى للصديق رضي الله عنه من أحسن الموافقة ومن هذا موافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لربه تعالى في عدة أمور قالها فنزل بها الوحي كما قال وتقوى هذه الموافقة حتى يعلم المحب بكثير من أحوال محبوبه وهو غائب عنه وهذا بحسب تعلق الهمة به وتوجه القلب إليه واتحاد مراده بمراده وربما اقتضى ذلك اتفاقهما في المرض والصحة والفرح والحزن والخلق فإن كان مع ذلك بينهما تشابه في الخلق الظاهر فهو الغاية في الاتفاق ولنقتصر من العلامات على هذا القدر وبالله التوفيق