الباب الثاني والعشرون: الباب الثاني والعشرون :في غيرة المحبين على أحبابهم

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

لابن قيم الجوزية

أبو عبد الله، شمس الدين محمد ابن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، الزُّرْعيّ الدمشقي(691 ـ 751هـ/1292 ـ 1350م)

الباب الثاني والعشرون :في غيرة المحبين على أحبابهم

 لما كان هذا الباب  متصلا بإفراد المحبوب بالمحبة ومن موجباته فإن الغيرة بحسب قوة المحبة وقوتها بحسب إفراد المحبوب حسن ذكره بعده   وأصل الغيرة الحمية والأنفة والغيرة نوعان غيرة للمحبوب وغيرة عليه فأما الغيرة له فهي الحمية له والغضب له إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته وناله مكروه من عدوه فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه فهذه غيرة المحبين حقا وهي من غيرةالرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره   وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها أو يفعل ما يبغضه عليه ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة ومتى خلت من القلب خلا من الدين فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحب والغيرة تصفي القلب وتخرج خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد 

فصل : وأما الغيرة علىالمحبوب فهي أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره وهذه أيضا نوعان غيرة المحب أن يشاركه غيره في محبوبه وغيرة المحبوب على محبه أن يحب معه غيره والغيرة من صفات الرب جل جلاله والأصل فيها قوله تعالى ^ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ^   ومن غيرته تعالى لعبده وعليه يحميه مما يضره في آخرته كما في الترمذي وغيره مرفوعا إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وفي الصحيحين أن رسول الله قال في خطبة الكسوف والله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سر بديع قد نبهنا عليه في باب غض البصر وأنه يورث نورا في القلب ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الأمر به وبين ذكر آية النور فجمع الله سبحانه بين نور القلب بغض البصر وبين نوره الذي مثله بالمشكاة لتعلق أحدهما بالآخر فجمع النبي بين ظلمة القلب بالزنا وبين ظلمة الوجود بكسوف الشمس وذكر أحدهما مع الآخر وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ليس شيء أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه ولا أحد أحاب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل 

  وروى الثوري عن حماد بن إبراهيم عن عبدالله قال إن الله عز وجل ليغار للمسلم فليغر وروي أيضا عن عبدالأعلى عن ابن عيينة عن أمه عن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله عز وجل يغار فليغر أحدكم وفي الصحيح عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله يغار والمؤمن يغار وغيرةالله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه وروى القعنبي عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله المؤمن يغار والله أشد غيرة 

 فصل :   وغيرةالعبد على محبوبه نوعان غيرةممدوحة يحبها الله وغيرة مذمومة يكرهها الله فالتي يحبها الله أن يغار عند قيام الريبة والتي يكرهها أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه وفي المسند وغيره عنه قال الغيرة غيرتان فغيرة يحبها الله الله وأخرى يكرهها الله قلنا يا رسول الله ما الغيرة التي يحب الله قال أن تؤتى معاصيه أو تنتهك محارمه قلنا فما الغيرة التي يكره الله قال غيرة أحدكم في غير كنهه وفي الصحيح عنه إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة وفي الصحيح عنه أنه قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وقال عبدالله بن شداد الغيرة غيرتان غيرة يصلح بهاالرجل أهله وغيرة تدخله النار وروى عبدالله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن شماسة المهري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله دخل على مارية القبطية وهي حامل بإبراهيم وعندها نسيب لها قدم معها من مصر فأسلم وكان كثيرا ما يدخل على أم إبراهيم وأنه جب نفه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق قليل ولا كثير فدخل رسول الله يوما عليها فوجد عندها قريبها فوجد في نفسه من ذلك شيئا كما يقع في أنفس الناس فخرج متغير اللون فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعرف ذلك في وجهه فقال يا رسول الله أراك متغير اللون فأخبره ما وقع في نفسه من قريب مارية فمضى بسيفه فأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد عندها قريبها ذلك فأهوى بالسيف ليقتله فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله فأخبره فقال إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي وبشرني أن في بطنها غلاما وأنه أشبه الخلق بي وأمرني أن أسميه إبراهيم 

  وقال الواقدي عن محمد بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قال كانت سارة عند إبراهيم فمكثت معه دهرا لا ترزق منه ولدا فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمتها فولدت لإبراهيم فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء فقال لها إبراهيم هل لك أن تبر يمينك قالت كيف أصنع قال اثقبي أذنيها واخفضيها والخفض هو الختان ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسنا فقالت سارة إنما زدتها جمالا فلم تقاره على كونها معه ووجد بها إبراهيم وجدا شديدا فنقلها إلى مكة فكان يزورها كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها   وفي الصحيح من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه قال أهدى بعض نساء النبي له قصعة فيها ثريد وهو في بيت بعض نسائه فضربت يد الخادم فانكسرت القصعة فجعل النبي يأخذ الثريد ويرده في القصعة ويقول كلوا غارت أمكم ثم انتظر حتى جاءت قصعة صحيحة فأعطاها التي كسرت قصعتها وقالت عائشة رضي الله عنها ما غرت على امرأة قط ما غرت على خديجة من كثرة ذكر النبي إياها ولقد ذكرها يوما فقلت ما تصنع بعجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها فقال والله ما أبدلني الله خيرا منها فانظر هذه الغيرة الشديدة على امرأة بعدما ماتت وذلك لفرط محبتها لرسول الله كانت تغار عليه أن يذكر غيرها وكذلك غيرتها من صفية رضي الله عنها فإن رسول الله لما قدم بها المدينة وقد اتخذها لنفسه زوجة وعرس بها في الطريق قالت عائشة رضي الله عنها تنكرت وخرجت أنظر فعرفني فأقبل إلي فانقلبت فأسرع المشي فأدركني فاحتضنني وقال كيف رأيتها قلت يهودية بين يهوديات تعني السبي   وفي المسند من حديث الأشعث بن قيس قال تضيفت بعض أصحاب النبي فقام إلى امرأته فضربها قال فحجزت بينهما فرجع إلى فراشه فقال ياأشعث احفظ عني شيئا سمعته من رسول الله لا تسألن رجلا فيم يضرب امرأته وذكر حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع امرأته تكلم رجلا من وراء جدار بينها وبينه قرابة لا يعلمها ابن عمر فجمع لها جرائد ثم ضربها حتى أضبت حسيسا وذكر الخرائطي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يأكل تفاحا ومعه امرأته فدخل عليه غلام له فناولته تفاحة قد أكلت منها فأوجعها معاذ ضربا ودخل يوما على امرأته وهي تطلع في خباء أدم فضربها وذكر الثوري عن أشعث عن الحسن أن امرأة جاءت تشكو زوجها إلى النب لطمها فدعا الرجل ليأخذ حقها فأنزل الله عز وجل ^ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ^ فقال رسول الله أردنا أمرا وأراد الله أمرا وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الغيرة وكانت امرأته تخرج فتشهد الصلاة فيكره ذلك فتقول إن نهيتني انتهيت فيسكت امتثالا لقول رسول الله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وهو الذي أشار على النبي أن يحجب نساءه وكان عادة العرب أن المرأة لا تحتجب لنزاهتهم ونزاهة نسائهم ثم قام الإسلام على ذلك فقال عمر يا رسول الله لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله عز وجل آية الحجاب ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل قد قتل امرأته ومعها رجل آخر فقال أولياء المرأة هذا قتل صاحبتنا وقال أولياء الرجل إنه قد قتل صاحبنا فقال عمر رضي الله عنه ما يقول هؤلاء قال ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال لهم عمر ما يقول فقالوا ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنتين فقال عمر رضي الله عنه إن عادوا فعد ذكره سعيد بن منصور في سننه وأخذ بهذا جماعة من الفقهاء منهم الإمام أحمد وأصحابه رحمهم الله تعالى قالوا لو وجد رجلا يزني بامرأته فقتلهما فلا قصاص عليه ولا ضمان إلا أن تكون المرأة مكرهة فعليه القصاص بقتلها ولكن لا يقبل قول الزوج إلا بتصديق الولي أو بينة واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في عدد البينة فروي عنه أنها رجلان ويروى عنه لا بد من أربعة ووجه هذه الرواية ظاهر حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت رجلا مع امرأتي أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فقال النبي نعم فقال والذي بعثك بالحق إن كنت لأضربه بالسيف غير مصفح فقال النبي ألا تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني   وذكر سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته فإذا مع امرأته رجل فقتلها وقتله فقال علي رضي الله عنه إن جاء بأربعة شهداء وإلا دفع برمته ووجه رواية الاكتفاء باثنين أن البينة ليست على إقامة الحد ولكن على وجوب السبب المانع من القصاص فإن الزوج كان له أن يقتل المتعدي على أهله ولكن لما أنكر أولياء القتيل طولب القاتل بالبينة فاكتفي برجلين ورفع إلى عمر رضي الله عنه رجل قد قتل يهوديا فسأله عن قصته فقال إن فلانا خرج غازيا وأوصاني بامرأته فبلغني أن يهوديا يختلف إليها فكمنت له حتى جاء فجعل ينشد ويقول

وأبيض غرةالإسلام مني  خلوت بعرسه ليل التمام

أبيت على ترائبها ويمسي  على جرداء لاحقة الحزام

كأن مواضع الربلات منها  فئام ينهضون إلى فئام 

 فقمت إليه فقتلته فأهدر عمر دمه وليس في هذين الأمرين مطلبة عمر رضي الله عنه القاتل بالبينة إذ لعله تيقن ذلك أو أقر به الولي والصواب أنه متى قام على ذلك دلالة ظاهرة لا تحتمل الكذب أغنت عن البينة وذكر سفيان بن عيبنة عن الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلا أضاف إنسانا من هذيل فذهبت جارية لهم تحتطب فأرادها عن نفسها فرمته بفهر فقتلته فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ذاك قتيل الله لا يودى أبدا وذكر حماد بن سلمة عن القاسم بن محمد أن أبا السيارة أولع بامرأة أبي جندب يراودها عن نفسها فقالت لا تفعل فإن أبا جندب إن يعلم بهذا يقتلك فأبى أن ينزع فكلمت أخا أبا جندب فكلمه فأبى أن ينزع فأخبرت بذلك أبا جندب فقال أبو جندب إني مخبر القوم أني أذهب إلى الإبل فإذا أظلمت جئت فدخلت البيت فإن جاءك فأدخليه علي فودع أبو جندب القوم وأخبرهم أني ذاهب إلى الإبل فلما أظلم الليل جاء فكمن في البيت وجاء أبو السيارة وهي تطحن في ظلها فراودها عن نفسها فقالت ويحك أرأيت هذا الأمر الذي تدعوني إليه هل دعوتك إلى شيء منه قط قال لا ولكن لا أصبر عنك قالت أدخل البيت حتى أتهيأ لك فلما دخل البيت أغلق أبو جندب الباب ثم أخذه فدقه من عنقه إلى عجب ذنبه فذهبت المرأة إلى أخي أبي جندب فقالت ادرك الرجل فإن أبا جندب قاتله فجعل أخوه يناشده فتركه وحمله أبو جندب إلى مدرجة الإبل فألقاه فكان إذ مر به إنسان قال له ما شأنك فيقول وقعت من بكر فحطمني وبلغ الخبر عمر رضي الله عنه فأرسل إلى أبي جندب فأخبره بالأمر على وجهه فأرسل إلى أهل المرأة فصدقوه فجلد عمر أبا السيارة مائة جلدة وأبطل ديته   وذكر العباس بن هشام الكلبي عن أبيه أن عمرو بن حممة الدوسي أتى مكة حاجا وكان من أجمل العرب فنظرت إليه امرأة فقالت لا أدري وجهه أحسن أم فرسه وكانت له جمة تسمى الزينة فكان إذا جلس مع أصحابه نشرها وإذا قام عقصها فقالت له المرأة أين منزلك قال نجد قالت ما أنت بنجدي ولا تهامي فاصدقني فقال رجل من أهل السراة فيما بين مكة واليمن ثم أشار إليها ارتدفي خلفي ففعلت فمضى بها إلى السراة وتبعها زوجها فلم يلحقها فرجع فلما استقرت عنده قطع عروقها وقال والله لا تتبعين بعدي رجلا أبدا ثم ردها إلى زوجها على تلك الحال

فصل :  والله سبحانه وتعالى يغار على قلب عبده أن يكون معطلا من حبه وخوفه ورجائه وأن يكون فيه غيره فالله سبحانه وتعالى خلقه لنفسه واختاره من بين خلقه كما في الأثر الإلهي ابن آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عم ما خلقتك له وفي أثر آخر خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت لك برزقك فلا تتعب يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا خير لك من كل شيء ويغار على لسانه أن يتعطل من ذكره ويشتغل بذكر غيره ويغار على جوارحه أن تتعطل من طاعته وتشتغل بمعصيته فيقبح بالعيد أن يغار مولاه الحق على قلبه ولسانه وجوارحه وهو لا يغار عليها   وإذا أراد الله بعبده خيرا سلط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء وهذا من غيرته سبحانه وتعالى على عبده وكما أنه سبحانه وتعالى يغار على عبده المؤمن فهو يغار له ولحرمته فلا يمكن المفسد أن يتوصل إلى حرمته غيرة منه لعبده فإنه سبحانه وتعالى يدفع عن الذين آمنوا فيدفع عن قلوبهم وجوارحهم وأهلهم وحريمهم وأموالهم يتولى سبحانه الدفع عن ذلك كله غيرة منه لهم كما غاروا لمحارمه من نفوسهم ومن غيرهم والله تعالى يغار على إمائه وعبيده من المفسدين شرعا وقدرا ومن أجل ذلك حرم الفواحش وشرع عليها أعظم العقوبات وأشنع القتلات لشدة غيرته على إمائه وعبيده فإن عطلت هذه العقوبات شرعا أجراها سبحانه قدرا 

فصل :  ومن غيرته سبحانه وتعالى غيرته على توحيده ودينه وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله بل حال بينهم وبينه غيرة عليه قال الله تعالى ^ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ^ ولذلك ثبط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله واللحاق به غيرة كما قال الله تعالى ^ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ^ فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون فيسعوا بينهم بالفتنة فثبطهم وأقعدهم عنهم وسمع الشبلي رحمه الله تعالى قارئا يقرأ ^ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ^ فقال أتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله يعني أنه سبحانه وتعالى لم يجعل الكفار أهلا لمعرفته وها هنا نوع من غيرة الرب سبحانه وتعالى لطيف لا تهتدي إليه العقول وهو أن العبد يفتح له باب من الصفاء والأنس والوجود فيساكنه ويطمئن إليه وتلتذ به نفسه فيشتغل به عن المقصود فيغار عليه مولاه الحق

 فيخليه منه ويرده حينئذ إليه بالفقر والذلة والمسكنة ويشهده غاية فقره وإعدامه وأنه ليس معه من نفسه شيء البتة فتعود عزة ذلك الأنس والصفاء الوجود ذلو ومسكنة وفقرا وفاقة وذرة من هذا أحب إليه سبحانه وتعالى وأنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء والأنس المجرد عن شهود الفقر والذ1لة والمسكنة وهذا باب لا يتسع له قلب كل أحد 

فصل:   ومن الغيرة الغيرة على دقيق العلم ومالا يدركه فهم السامع أن يذكر له ولهذه الغيرة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال ابن مسعود رضي الله عنه ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة فالعالم يغار على علمه أن يبذله لغير أهله او يضعه في غير محله كما قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تبذلوها لغير أهلها فتظلموها   وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن فقال للسائل وما يؤمنك أني إن أخبرتك بتفسيرها كفرت فإنك تكذب به وتكذيبك بها كفرك بها فالمسألة الدقيقة اللطيفة التي تبذل لغير أهلها كالمرأة لحسناء التي تهدى إلى ضرير مقعد كما قيل

خود تزف إلى ضرير مقعد   وكان أبو علي إذا وقع شيء في خلال مجلسه من تشويش الوقت يقول هذا من غيرة الحق يريد أن لا يجري ما يجري من صفاء الوقت قال الشاعر

همت بإتياننا حتى إذا نظرت  إلى المراة نهاها وجهها الحسن

ما كان هذا جزائي من محاسنها  عذبت بالهجر حتى شفني الحزن 

   قال القشيري وقيل لبعضهم أتحب أن تراهم قال لا قيل ولم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي وفي معناه أنشدوا   

إني لأحد ناظري عليكا  حتى أغض إذا نظرت إليكا

وأراك تخطر في شمائلك التي  هي فتنتي فأغار منك عليكا 

  قلت وهذه غيرة فاسدة وغاية صاحبها أن يعفى عنه وأن يعد ذلك في شطحاته المذمومة وأما أن تعد في مناقبه وفضائله أن يقال أتحب أن ترى الله فيقول لا ورؤيته أعلى نعيم أهل الجنة وهو سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله النظر إليه وقبد ثبت عن النبي أنه كان من دعائه اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وقول هذا القائل أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي من خدع الشيطان والنفس وهو يشبه ما يحكى عن بعضهم أنه قيل له ألا تذكره فقال أنزهه أن يجري ذكره على لساني وطرد هذا التنزيه الفاسد أن ينزهه أن يجري كلامه على لسانه أو يخطر هو أيضا على قلبه وقد وقع بعضهم في شيء من هذا فلاموه فأنشد 

يقولون زرنا واقض واجب حقنا  وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها  ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني 

 وطرد هذه الغيرة أن لا يزور بيته غيرة على بيته أن يزوره مثله ولقد لمت شخصا مرة على ترك الصلاة فقال لي إني لا أرى نفسي أهلا أن أدخل بيته فانظر إلى تلاعب الشيطان بهؤلاء ومن هذا ما ذكره القشيري قال سئل الشبلي متى تستريح فقال إذا لم أر له ذاكرا ومات ابن له فقطعت أمه شعرها فدخل هو الحمام ونور لحيته حتى ذهب شعرها فقيل له لم فعلت هذا فقال إنهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي وموافقة لأهلي ونظير هذا ما يحكى عن النوري رحمه الله تعالى أنه سمع رجلا يؤذن فقال طعنة وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فسئل عن ذلك فقال أما ذاك فكان يذكره على راس الغفلة وأما الكلب فقال الله تعالى ^ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ^ وسمع الشبلي مرة رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله هن هذا وياعجبا ممن يعد هذا في مناقب رجل ويجعله قدوة ويزين به كتابه وهل شيء أشد على قلب المؤمن وأمر عليه من أن لا يرى لربه ذاكرا وهل شيئ أقر لعينه من أن يرى ذاكرين الله بكل مكان وعذر هذا القائل أنه لا يرى ذاكرا لله بحق الذكر بل لا يرى ذاكرا إلا والغفلة والسهوة مستولية على قلبه فيذكر ربه بلسان فارغ من القلب وحضوره في الذكر وذلك ذكر لا يليق به فيغار محبه أن يذكر بهذا الذكر فيحب أن لا يسمع أحدا يذكره هذا الذكر ولما اشترك الناس في هذا الذكر أخبر أن راحته أن لا يرى له ذاكرا هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه وإلا فظاهره إلى العداوة أقرب منه إلى المحبة وليس هذا حال الشبلي رحمه الله تعالى فإن المحبة كانت تغلب عليه ومع ذلك فهو من شطحاته التي يرجى أن تغفر له بصدقه ومحبته وتوحيده لا أنها مما يحمد عليه ويقتدى به فيه   وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يذكروه على جميع أحوالهم وإن كان ذكرهم إياه مراتب فأعلاها ذكر القلب واللسان مع شهود القلب للمذكور وجمعيته بكليته بأحب الأذكار إليه ثم دونه ذكر القلب واللسان أيضا وإن لم يشاهد المذكور ثم ذكر القلب وحده ثم ذكر اللسان وحده فهذه مراتب الذكر وبعضها أحب إلى الله من بعض   وكان طرد قول الشبلي أن راحته أن لا يرى لله مصليا ولا لكلامه تاليا ولا يرى أحدا ينطق بالشهادتين فإن هذا كله من ذكره بل هو أعلى أنواع ذكره فكيف يستريح قلب المحب إذا لم ير من يفعل ذلك والله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر ولو كان من كافر   وقال بعض السلف إن الله يحب أن يذكر على جميع الأحوال إلا في حال الجماع وقضاء الحاجة وأوحى الله عز وجل إلى موسى أن اذكرني على جميع أحوالك والله تعالى لا يضيع أجر ذكر اللسان المجرد بل يثيب الذاكر وإن كان قلبه غافلا ولكن ثواب دون ثواب   قال القشيري وسمعت الأستاذ أبا علي يقول في قول النبي في مبايعته فرسا من أعرابي وأنه استقاله فأقاله فقال له الأعرابي عمرك الله فمن أنت فقال له النبي امرؤ من قريش فقال له بعض الحاضرين كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك قال أبو علي فإنما قال امرؤ من قريش غيرة وإلا كان واجبا عليه التعرف إلى كل أحد أنه من هو ثم إن الله أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي فيقال من العجب أن يقال إن النبي غار أن يذكر أنه رسول الله للأعرابي الذي لا يعرفه وهو كان دائما يذكر ذلك لأعدائه من الكفار سرا وجهرا ليلا ونهارا ولا يغار من ذلك فكيف يظن به أنه غار أن يعرف ذلك المسكين أنه رسول الله هذا من خيالات القوم وترهاتهم وإنما ستر عنه ذلك الوقت معرفته له لحكمة لطيفة فهمها الصحابي فصرح بها للأعرابي وهي أن هذا الأعرابي كان جافيا جلفا فأحب النبي أن يعرفه جفاءه وجلافته بطريق لا يبكته بها ويعرف من نفسه أنه أهل لذلك فكأنه يقول بلسان الحال كفاك جفاء أن تجهلني فتسألني من أنا فلما فهم الصحابي ذلك بلطف إدراكه ودقة فهمه فبادأه به وقال كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك   ثم ذكر القشيري كلام الشبلي أنه قال غيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله وهذا كلام حسن   قال القشيري والواجب أن يقال الغيرة غيرتان غيرة الحق على العبد وهو أن لا يجعله للخلق فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق وهو أن لا يجعل شيئا من أحواله وأنفاسه لغير الحق سبحانه فلا يقال أنا أغار على الله ولكن يقال أنا أغار لله قال فإذا الغيرة على الله جهل وربما تؤدي إلى ترك الدين   والغيرة لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال له فمن سنة الحق مع أوليائه أنهم إذا ساكنوا غيرا أو لاحظوا شيئا أو صالحوا بقلوبهم شيئا يشوش عليهم ذلك فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة كآدم عليه السلام لما وطن نفسه على الخلود في الجنة أخرجه من الجنة وإبراهيم الخليل عليه السلام لما أعجبه إسماعيل أمره بذبحه حتى أخرجه من قلبه فلما أسلما وتله للجبين وصفى سره منه أمره بالفداء عنه وقال بعضهم احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه وقيل الحق تعالى غيور ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقا سواه   وقال السري لرجل عارف بي علة باطنة فما دواؤها قال يا سري الله غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه فهذه غيرة صحيحة 

 فصل :  وها هنا أقسام آخر من الغيرة مذمومة منها غيرة يحمل عليها سوء الظن فيؤذى بها المحب محبوبه ويغري عليه قلبه بالغضب وهذه الغيرة يكرهها الله إذا كانت في غير ريبة ومنها غيرة تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقه كما ذكر عن جماعة أنهم قتلوا محبوبهم وكان ديك الجن الشاعر له غلام وجارية في غاية الجمال وكان يهواهما جميعا فدخل المنزل يوما فوجد الجارية معانقة للغلام تقبله فشد عليهما فقتلهما ثم جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلا ثم قال  

يا طلعة طلع الحمام عليها  وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما  روى الهوى شفتي من شفتيها

وأجلت سيفي في مجال خناقها  ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعليها فما وطىء الثرى  شيء أعز علي من نعليها

ما كان قتليها لأني لم أكن  أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن بخلت على سواي بحسنها  وأنفت من نظر الغلام إليها

ثم جلس عند رأس الغلام فبكى وأنشأ يقول

أشفقت أن يرد الزمان بغدره  أو أبتلى بعد الوفاء بهجره

قمر أنا استخرجته من دجنه  بمودتي وجنيته من خدره

فقتلته وله علي كرامة  ملء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتا كأحسن نائم  والدمع ينحر مقلتي في نحره

لو كان يدري الميت ماذا بعده  بالحي منه بكى له في قبره

غصص تكاد تفيض منها نفسه  ويكاد يخرج قلبه من صدره 

فصل :  وقد يغار المحب على محبوبه من نفسه وهذا من أعجب الغيرة وله أسباب   منها خشية أن يكون مفتاحا لغيره كما ذكر أن الحسن بن هانىء وعلي بن عبدالله الجعفري اجتمعا فتناشدا فأنشد الحسن  

ولما بدا لي أنها لا تودني  وأن هواها ليس عني بمنجلي

تمنيت أن تبلى بغيري لعلها  تذوق حرارات الهوى فترق لي

   فأنشده علي

ربما سرني صدودوك عني  في طلابيك وامتناعك مني

حذرا أن أكون مفتاح غيري  فإذا ما خلوت كنت التمني 

 وكان بعضهم يمتنع من وصف محبوبه وذكر محاسنه خشية تعريضه لحب غيره له كما قال علي بن عبسى الرافقي   

ولست بواصف أبدا خليلا أعرضه لأهواء الرجال

وما بالي أشوق قلب غيري  ودون وصاله ستر الحجال 

  وكثير من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره فكان ذلك سبب فراقها له واتصالها به  

فصل :   ومنها أن يحمله فرط الغيرة على أن ينزل نفسه منزلة الأجنبي فيغار على المحبوب من نفسه ولا ينكر هذا فإن في المحبة عجائب وقد قال أبو تمام الطأبي

بنفسي من أغار عليه مني  وأحسد أهله نظري إليه

ولو أني قدرت طمست عنه  عيون الناس من حذري عليه

حبيب بث في جسمي هواه  وأمسك مهجتي رهنا لديه

فروحي عنده والجسم خال  بلا روح وقلبي في يديه

 وقال آخر

يا من إذا ذكر اسمه في مجلس  لذ الحديث به وطاب المجلس

إني لمن نظري أغار وإتي  بك عن سواي من الأنام لأنفس

نفسي فداؤك ولو رأيت تلددي  خضل المدامع مطرقا أتنفس

لعلمت أني في هواك معذب  ومن الحياة وروحها مستيئس

 وقال علي بن نصر

أفاتك أنت فاتكة بقلبي  وحسن الوجه يفتك بالقلوب

أصونك عن جميع الناس يامن  بليت بها فأضحت من نصيبي

وعن نفسي أصونك ليت نفسي  تقيك من الحوادث والخطوب

وما حق الحسان علي إلا  صيانتهن من دنس الذنوب 

 فصل :   ومنها شدة الموافقة للحبيب والحبيب يكره أن ينسب محبته إليه وأن يذكر ذلك فهو لموافقته لمحبوبه يغار عليه من نفسه كما يسره هجر محبوبه إذا علم أن فيه مراده قال الشاعر   سررت بهجرك لما علمت أن لقلبك فيه سرورا   ولولا سرورك ما سرني  ولا كنت يوما عليه صبورا 

 فصل :   وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره وأن يأنس بسواه  وغيرته على حرمته أن يتطلع إليها غيره فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة وما عداها فإما من خدع الشيطان وإما بلوى من الله كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها فإن قيل فمن أي الأنواع تعدون غيرة فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما عزم على نكاح ابنة أبي جهل وغيرة رسول الله لها قيل من الغيرة التي يحبها الله ورسوله وقد أشار إليها النبي بأنها بضعة منه وأنه يؤذيه ما آذاها ويريبه ما أرابها ولم يكن يحسن ذلك الاجتماع البتة فإن بنت رسول الله لا يحسن أن تجتمع مع بنت عدوه عند رجل فإن هذا في غاية منافرة مع أن ذكر النبي صهره الذي حدثه فصدقه ووعده فوفى له دليل على أن عليا رضي الله عنه كان مشروطا عليه في العقد إما لفظا وإما عرفا وحالا أن لا يريب فاطمة ولا يؤذيها بل يمسكها بالمعروف وليس من المعروف أن يضم إليها بنت عدو الله ورسوله ويغيظها بها ولهذا قال النبي إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنة أبي جهل والشرط العرفي الحالي كالشرط اللفظي عند كثير من الفقهاء كفقهاء المدينة وأحمد بن حنبل وأصحابه رحمهم الله تعالى على أن رسول الله خلف عليها الفتنة في دينها باجتماعها وبنت عدو الله عنده فلم تكن غيرته لمجرد كراهية الطبع للمشاركة بل الحامل عليها حرمة الدين وقد أشار إلى هذا بقوله إني أخاف أن تفتن في دينها والله أعلم بالصواب