كتاب الأقسام

لما سلف من القول في مقدمات أصوله الفقه ما يغني فيما يستأنف وجب الأخذ في بيان أصول الفقه المختصة به المضافة له

وذلك القول في الأوامر النواهي والبيان للعموم والخصوص والنظر في المحكم والمتشابه واتباع ذلك المفهوم وفصله عن المنطوق في الخطاب خاصة واتباع ذلك بالأفعال وبيان الأخبار وإيضاح منازل التنزيل للتأويل والكلام على الإجماع وكيفية وجوهه وإتباع ذلك بالقول في القياس وأقسامه وبيان وجوه الاعتراض عليه وإتمام الكتاب بالقول في القياس وأقسامه وبيان وجوه الاعتراض عليه وإتمام الكتاب بالقول في الناسخ والمنسوخ وإيضاح ذلك ببيان الترجيح الذي هو معضلة الأصول وخاتمة الفصول ولا بد من ذكر مراتب الاجتهاد وكيفية مراتب الفتوى وبذلك يتم العرض المصمود وتحصيل الفائدة والمقصود

القول في الأوامر

وفيها خمس عشرة مسألة

المسألة الأولى في حقيقة الأمر

وقد جرت عادة علمائنا رضي الله عنهم بتصدير هذا الباب بالقول في أقسام الكلام وأنواعه وقد طال بينهم في ذلك القراع وكثر النزاع وذهب المحققون إلى أن أقسامه خمسة والصحيح إنها قسمان حسب ما كشفه التمحيص في كتابنا وهما الطلب والخبر

فأما الكلام فقد جهله أكثر الناس وهو عندنا المعنى القائم بالنفس فأما العبارات فاختلف علماؤنا فيها فقال شيخنا أبو الحسن رحمه الله إنها كلام حقيقة وجعل حقيقة الكلام جنسين وسائر الأصحاب رحمهم الله يقولون إن العبارة تسمى كلاماً مجازاً وبه أقول وقالت المعتزلة وجماعة من المبتدعة إن الكلام فعل من الأفعال كالحركة والسكون وأنه ضرب من اصطكاك الأجسام وقد دللنا على فساده في كتاب المقسط والمتوسط والذي يهدم قاعدتهم إنه يعلم المتكلم متكلما من لا يدري كونه فاعلا للكلام ولو كان حقيقة المتكلم من فعل الكلام ما علمه متكلما إلا من علمه فاعلا ولا جواب لهم عنه

إذا ثبت هذا وفهمتم أن الكلام معنى قائم بالنفس يجده المرء ويحس به العاقل فينبني على هذا

المسألة الثانية وهي أن الأمر لا صيغة له

وقد اختلف في ذلك أهل الأصول فصار الفقهاء ممن تكلم فيها إلى أن له صيغة وإلى ذلك مالت المعتزلة بأسرها لاعتقادهم الفاسد

فأما الفقهاء فإنما قالوا ذلك جهل بحقيقة الأمر لا عن اقتحام البدعة

وأما المعتزلة فإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم الفاسد أن الكلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة وقد بينا فساده من قبل

واتفق أهل الحق من أرباب الكلام على أن الأمر لا صيغة له وذلك لأنه الكلام معنى الشبهات قائم بالنفس من الإرادة والعلم والمعاني النفسية لا صيغة لها وهذا أبين من الشبهات فيه

ومع هذا فنقول إن وراء هذا تحقيقا لا بد من شرحه وهو إن الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام الذي هو معنى قائم بالنفس هل وضعت له العرب صيغة تدل عليه على اختصاص أم لا فالفقهاء يرون أن له صيغة دالة عليه على الاختصاص وهو قولك افعل

وأما أهل الحق من المتكلمين فصاروا إلى أن لفظه افعل محتملة للأمر وضده وهو النهي ولخلافة وقد وردت في الشريعة على نحو من خمسة عشر وجها فإذا جاءت مطلقة وجب التوقف فيها حتى يقوم الدليل على تعيين معنى من معانيها

واحتج الفقهاء بأن الله تعالى أمر أبليس بالسجود فلما توقف واعترض استحق الذم وقال تعالى(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن نصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم)  

وأجاب عن ذلك أصحابنا بأن هذا وأمثاله لا يصح الاحتجاج به أما قصة إبليس فإن الله تعالى قرن أمره بالسجود لآدم بقرينة فهمتها جميع الملائكة ولذلك سجدت وهي فضل العلم على المتعلم واعترض فيها إبليس لا من الوجه المختلف فيه ولكن من جهة تسفيه الأمر وذلك كفر

وأما قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) فلم يختلف أحد في أن مخالفة الأمر لا يحل وإنما اختلفوا في أمرين

أحدهما إن الأمر يحتمل أن يكون بمعنى الفعل ويحتمل أن يكون بمعنى القول خاصا أو عاما

الثاني أنهم أنما اختلفوا في الصيغة التي تنبئ عن الأمر وليس في ذلك ظاهر ولا نص لما يحاولون فيها

والمختار أن الأعلى إذا قال للأدنى افعل فالمفهوم منه طلب جازم لا مثنوية فيه ولا تردد

فإن قيل فالأمر من المثل للمثل هل يتصور

قلنا يتصور بوجهين إما ببقاء المساوي فيكون على المكافأة وإما بالحاجة فيكون طلبا فتذهب المماثلة

فأما التعرض للعقاب عند الترك فليس للأمر فيه حظ سواء كان المعنى القائم بالنفس أو العبارة الدالة عليه وإنما يوجد العقاب على الترك من دليل آخر

فإن قيل اقتحمتم عظيما فإنكم جعلتم الأمر في اللغة عريا عن عبارة تدل عليه

قلنا عن هذا جوابان أحدهما أننا نقول إن فعلنا ذلك فإن لها لأخوات

الثاني إن العبارة المختصة به أوجبت وألزمت وفرضت ونحو ذلك إن صح ايضا ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى

المسألة الثالثة في مطلق لفظة افعل

قال بعض الناس هي محمولة على الإباحة لأنه متيقن وغير ذلك مشكوك

وقال آخرون محملها الوجوب لأنه هو الظاهر منه

وقال أهل الحق يتوقف فيه أو لا يصح دعوى بشيء فيه لأن من تعلق بالإباحة فهو من فرع الاستصحاب الفقهي هو من أصعب الأدلة ولأنه ادعى الأقل ولا أقل في مسألتنا بل كل معنى منها مستقل

وأما من تعلق بالوجوب فلا يخلو أن يدعي ذلك نظرا أو خبرا والنظر لا طريقة له في مسألتنا لأن النظر العقلي لا مجال له فيه والنظر الشرعي وهو القياس لا يسوغ إثباته

وأما الخبر فلا يخلو أن يدعو ذلك أو شرعا أو آحاداً أو تواتراً وشيء من القسمين لم يوجد في واحد من القسمين ولو وجد فيه الآحاد لم تستقل بإثباتها فوجب التوقف وآل الأمر إلى العقد الذي عقدنا في المسألة التي قبلها والمختار فيها

المسألة الرابعة

في اشتراط العلم بالتمكن من الأمر قبل الفعل قال أبو هاشم من المعتزلة لا يجوز وقال القاضي رحمه الله يجوز والمسألة مترددة من عبارتهم وعلى كل حال هي راجعة إلى الأصل السابق وهو تكليف ما لا يطاق

والقاضي رحمه إنما صار عدم اشتراطه خوفا من التكاسل والتواني في تحصيل العلم له فيؤول ذلك إلى اخترام المنية للمكلف قبل الفعل فإذا قدرنا بذل المجهود في تحصيل العلم وتوقي الأسباب المعرضة للذهول عنه فيكاد يرتفع هذا الخلاف ويبقى الخلاف في

المسألة الخامسة

وهي أن التمكن من الفعل هل هو شرط في إلزم الأمر أم لا

فذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المأمور به يثبت في ذمة المكلف قبل التمكن من الفعل وقد فاوضت في ذلك علماءه فقال لي الشيخ من أهل مذهبه في وقتنا أبو الوفاء بن عقيل وأبو سعد الفرذاني إن هذه المسألة صحيحة من مذهبنا ولكنها غير مذكورة الدليل لأنها لا تجري عندنا في سنن تكليف ما لا يطاق وإنما هي من باب إلزام المغمى عليه قضاء ما فاته م الصلوات في حال إغمائه فما لم يدرك شيئا من وقته فترجع المسألة فقهية وهي في مسائل الخلاف مذكورة

المسألة السادسة

إذا ثبت من مطلق الأمر الوجوب والإلزام فهل يحمل ذلك على التكرار أم تلغى منه فعلة واحدة

اختلف في ذلك أرباب الأصول على قولين

فمنهم من قال إنه يقتضي التكرار وأجلهم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله بمسلكين

أحدهما أن قال إن النهي محمول على التكرار فكذلك الأمر وعضد هذا بأن قال الأمر بالشيء نهي عن ضده فوجب أن يكون حكمه حكم النهي

المسلك الثاني قال إن المكلف إذا علم بالأمر توجهت عليه ثلاثة فروض

الأول اعتقاد الوجوب

والثاني العزم على الامتثال

والثالث فعل المأمور به

وقد ثبت وتقرر أن اعتقاد الوجوب والعزم على فعل فرضان متكرران فكذلك يجب أن يكون وهو فعل المأمور به متكرراً ايضا

الجواب :إن هذا ما لا يصح التمسك به في مسألتنا لأنه قياس ولا يثبت مثلها بالقياس

وأما قوله إن الأمر بالشيء نهي عن ضده فباطل على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى

وأما المسلك الثاني فالتعلق به ضعف لأنه قياس أيضا والقياس قدمنا فرع لا يثبت به اصل

جواب آخر :وذلك أن اعتقاد الوجوب إنما وجب فيه الدوام لأنه مبني على صدق الرسول الذي يجب أن نعتقد دائماً

وأما العزم على الامتثال فلا نسلم أن التكرار فيه واجب بدليل أنه لو ذهل لم يأثم والمختار أن مطلق الأمر يقتضي فعله يقينا في الوجوب وبها تحصيل الامتثال وسائر الأفعال محتمل شأنها موقوف على الدليل بيانها

المسالة السابعة :مطلق الأمر محمول على الفور عند جماعة من الناس

وقال آخرون إن التراخي فيها جائز وغلط آخرون فقالوا إنه يقتضي التراخي

ووجه الكلام في هذه المسألة أنه من قال يقتضي التراخي فوجه غلطه بين لأن معناه إن من بادر الامتثال لا يجزئه وذلك محال شرعا

وإما من قال إنه محمول على التكرار أبدا حتى يثبت التعيين فلا يتصور معه المسألة

وأما من قال يقتضي فعلة واحدة فها هنا يتصور الخلاف

فقالت طائفة إن المبادرة إلى الامتثال واجب لوجهين

أحدهما إن في التأخير تهاونا بالحرمة

والثاني إن في التأخير تغريراً بالعبادة لأنه ربما فاجأته المنية أمد التأخير وهو لم يمتثل فيتعرض للعقاب بترك الفعل وعضدوا ذلك بظواهر كثيرة كقوله تعالى جده(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكقول النبي بادروا بالأعمال في نظائر يكثر تعدادها والذي نعتقده إن التأخير جائز وإن المبادرة حزم لأن الأمر ورد مطلقا بإلزام الامثتال ونسبة الزمان إليه كنسبة المكان والتعيين فيهما مفتقر إلى دليل

فأما ما تعلقوا به من إن فيه تركا للحرة فيعارضه إن فيه أخذا بالرخصة وعملاً بالدليل لا سيما والحرمة إنما تثبت بالاعتقاد أولاً فإن اعتقد الفوركان التأخير تهاونا بالحرمة وإن اعتقد التأخير فما تهاون بهل بل امتثل الواجب

وأما قولهم إن فيه تعرضا للعقاب وتسيبا إلى التعصية فهو فصل حاد اختلف فيه جواب القائلين بالتراخي فكان شيخنا أبو حامد وإمام الحرمين يقولان إن التراخي إنما جاز بشرط سلامة العاقبة كالرامي إلى الهدف وإذا فرض رمي الجمار وهذا مما لا نرضاه فإن إلزام المكلف الفعل مؤخراً بشرط سلامة العاقبة وهو لا يعلمها ولا يقدر عليها هدم لركن التكليف في باب الإضافة والعلم وعلى هذا الأصل يخرج ما ألزموا ونظائره

وأما الرمي إلى الهدف فمباح ليس بتكليف وأما الرمي إلى الصف أو في الجمار فلا شيء عليه فيه والحكم به لا يفتقر إلى القصد ولا يشترط فيه العلم

وأما الظواهر التي ذكروها فلا حجة لهم فيها من وجهين

أحدهما إن هذه المسألة في أمثالها لا يثبت إلا بالأدلة القطعية لا بالظواهر الشرعية

الثاني إنها مقترنة بقرائن اقتضت حملها على البدر لأن المغفرة تحصل باجتناب المعاصي واجتناب المعاصي يكون على الفور

المسألة الثامنة

قال علماؤنا رحمة الله عليهم الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا يمتد إلى آخره

وقال أهل العراق تجب الصلاة في آخر الوقت

وهذه المسألة فرع من فروع التي قبلها وقد عظم الخطب بين العلماء فيها وتشعب القول في معانيها والضابط لنشر رواية كلامهم إن العبادات المأمور بها على ثلاثة أقسام في تعلقها بالوقت

وقد تستغرق العبادة جميع الوقت لها وكأنه جعل حداً فيها وذلك كالصوم

والثاني عبادة ربطت بوقت يتقرر بامتثالها ويسع أعدادا لها وذلك كالصلاة

والثالث عبادة لم ترتبط بوقت ولا نيطت بمدة في مطلق الأمر كالكفارات وقضاء الصلوات والحج على اختلاف في هذين

فأما الصوم فلا كلام فيه لأن طرفيه مضبوطان بوقته

وأما الصلاة فقال أصحاب أبي حنيفة لا تجب إلا في آخر الوقت لأن جواز التأخير مع خيرة المكلف بين الفعل والترك يضاد الوجوب

أجاب عن ذلك علماؤنا بجوابين

أحدهما أن قالوا إنما جاز التأخير بشرط العزم على الفعل وبهذا فارق النوافل

الثاني إن جواز التأخير إنما يضاد وجوب الضيق فأما الوجوب الموسع فلا

وصوروا له مسألة عقلية وهي لو قال لعبده ألزمتك خياطة هذا الثوب في هذا الشهر وهو شغل يوم فإن الوجوب ثابت في الذمة والأمد أضعاف الوظيفة وهذا الذي قال علماؤنا في الجواب فيه نظر

أما قولهم إن الزم بدل عنه ففيه أربعة أجوبة لهم أقواها أنهم لا يسلمون أن العزم بدل بدليل تصور الذهول ووقوع الغفلة ولا يقال إن ذلك إخلال بفرض وأما ما صوروه نم ضرب المثل بخياطة الثوب فالخلاف أيضاً فيه متصور لأنهم يقولون الوجوب لا يتحقق في الخياطة إلا في آخر المدة

وبالجملة إن المسألة مع تباعد أكتافها عسرة علينا جدا ولا عمدة لنا فيها إلا جواز الفعل في أول الوقت ويكون ممتثلاً إجماعاً ولولا تحقق الوجوب في أول الوقت ويكون ممثلاً إجماعاً ولولا تحقق الوجوب في أول الوقت لما كان الامتثال فيه مجزيا فدارت المسألة على حرفين:

أحدهما جواز الفعل وهو لنا ويعتضد ويتضح بامتناعه قبل الوجوب ووجوب إعادته أن وقع حينئذ غلطا أو قصداً ولهم جواز التأخير وينقضها الحج عندهم والكفارات إجماعاً فصارت عمدتنا معتضدة بنظائر وصارت عمدتهم بنظائر أيضاً فكان الترجيح لنا

المسألة التاسعة

الأمر بالشيء لا يكون نهياً عن ضده والنهي عن الشيء لا يكون أمراً بأحد أضداده من غير تعيين عند الجمهور ومعظم علمائنا رحمهم الله

ومن الناس من قال إن الأمر عن بالشيء يكون نهياً عن ضده والنهي عن الشيء يكون أمرا بأحد أضداده من غيره تعيين وأجلهم الأستاذ أ و إسحاق رحمه الله

وعمدتنا في المسألة إن الآمر بالشيء قد يذهل عن الأضداد حتى لا يتعلق قصده بواحد منها وإنما مقصوده متعلق بالأمر

فالقائل قم إنما مطلوبة القيام وما ضاده قد لا يشعر به حالة الأمر فلا يصلح ان يقال إنه دخل تحت قصده ولا يتعلق به أمره

والدليل القاطع على ذلك أن التصوير والتقدير لو تعلق بالجمع بين القيام فجمع بينهما ما كان ذلك قدحاً في الأمر وهذا قاطع مقتض للعلم وتمسك الأستاذ بأن الأمر بالقيام لا يتصور إلا مع ترك القعود فلما تلازما تضمن الخطاب ظتهراً ومضمراً

أما الظاهر فهو القيام وأما المضمر فهو ترك القعود فلما تلازما اتحدا وعضد ذلك بأمرين

أحدهما العلم بالسواد مع العلم بالعلم به فإنه لما تلازما اتحدا

الثاني علم الله المتعلق بكل معلوم إلى غير نهاية لما لازمها اتحد فكان علمه واحداً

أجاب علمؤنا رحمهم الله عن ذلك بأن قالوا

أما قوله بأن ترك العقود مضمر في الأمر ملازم له فقد بينا فساده من قبل جواز تقدير الذهول أو غيره وأما ما اعتضد به من اتحاد العلم بالسواد مع العلم بالعلم به فقد منعه علماؤنا

وأما ما تعلق به من اتحاد علم الله فليس كما زعم إذ لو كان ذلك للملازمة لاتحد علم الباري سبحانه وقدرته لتلازمهما

والمعمول في اتحاد علم الباري تعالى عند القاضي على الشرع

وبعد فإن المسألة دائرة عندي على حرف وهو أن الأمر بالشيء هل هو أمر بما لا يتم إلا به أم لا وهي

المسألة العاشرة

وجرت عادة علماؤنا بذكر هذه المسألة فقالوا إن الأمر بالشيء هل هو أمر بما لا يتم إلا به أم لا

وليس لها عندي معنى لأن ما لا يتم به لا يخلو أن يكون شرعا أو ضرورة في الفعل عقلا فإن كان شرعا كالصلاة مع الطهارة فإنها وجبت بأمر آخر بالأمر بالصلاة وإن كان ضروريا في الفعل عقلا فهو من فن المسألة التي قبلها فلا تقول إن الأمر تناوله لكن لما كان المكلف لا يؤمر إلا بما يستطيع وكانت الاستطاعة في المأمور لا تتحصل إلا به قيل له امتثل كيف قدرت

المسألة الحادية عشر

اتفق العلماء على انقسام أحكام أفعال المكلفين إلى الأقسام الخمسة التي منها المباح حتى جاء الكعبي فقال لا مباح في الشريعة وإنما هي كلها فروض قال لأنه ما من مباح يستعمل إلا وفيه ترك المحرم

وهذا باطل من وجهين

أحدهما إن فيه قولا بافتراض النوافل وذلك يهتك حجاب الإجماع فيها

الثاني إنه يلزمه القول بوجوب الزنى من جهة إنه ترك لمعصية أخرى فيصير منه وصف الزنى بأنه واجب محرم وذلك محال

المسألة الثانية عشر

لا خلاف بين المحصلين أن الأمر بالفعل المؤقت إذا فات ليس فيه تعرض لقضائه بعد ذلك خلا أن الفقهاء شغفوا بأن يقولوا إن القضاء بعد فوات الوقت يجب الأمر الأول

وهذا لا تشهد له اللغة ولا تقتضيه أدلة العقول

فأما الشريعة فإن جاءت به لزم وإن سكت عنه سقط وكل ما يتعلق به في ذلك من الظواهر فهو حجة لنا لأنه أمر ثاني

فأما ثبوت الإثم مع سقوط الفعل فثابت إجماعا الفرقان بينهما لأن الأمة أجمعت على وجوب التأثيم وانحتام التعصية

المسألة الثالثة عشر

إذا ورد الأمر بوجوب واحد من الآحاد على غير التعيين وفوض التعيين فيها إلى خيرة المكلف فإن الواجب منها واحد غير معين

ونقل أصحاب المقالات عن أبي هاشم أنه قال إن جميعها واجب والظن به أنه خلاف في عبارة لأنا اتفقنا على أنه إذا تركها أثم بترك واحد و إذا فعلها كلها سقط الفرض بواحد والباقي تطوع فلا يبقى لتعيين الخلاف موضع

ونكتة الباب أن الخطاب الوارد بالتخيير بين الأشياء لا يخلو من قسمين

أحدهما أن يكون خطاب تكليف او خطاب إباحة وإذا كان خطاب تكليف فلا يخلو من قسمين

أحدهما أن يكون خطاب أمر

والثاني أن يكون خطاب نهي

وفي الأقسام خطاب طويل وتفصيل لبابه عند علمائنا أن الخطاب على ذها الوجه ينتظم بخمسة شروط

الأول أن يتعلق بما يصح اكتسابه

الثاني أن تتسوى الأشياء في وجهة التخيير ولا يبالى بعد ذلك كانت متصلة أو مختلفة

الثالث أن تكون متميزة وذلك ينفي تساويها من كل وجه إذ لا يصح التخيير بين متساويين من جميع الوجوه

الرابع أن تكون معلومة للمخاطب

الخامس أن يكون وقتها واحداً

والصحيح أن الشرط المختص بوجه التخيير واحد وهو أن يتساوى الأشياء المخير فيها كواجبين أو ندبين أو مباحين فإن سائر الشروط لا تختص بخطاب التخيير وإنما هي مشتركة في جهة الخطاب

فأما فصل اتحاد الأوقات ففيه نظر عندي فإن الحكم لو قال قم اليوم أو غدا كان تخييراً وقد ورد الشرع به في الصوم في السفر ما ينفي أن يكون هذا شرطا فيه واتحد شرط التخيير كما قدمناه

المسألة الرابعة عشر المندوب

قال القاضي رحمه الله إنه مأمور به قال لأنه مطلوب مقتضى

والصحيح أنه غير مأمور به لأنه ليس بمطلوب طلباً جازما حسب ما هي حقيقة الأمر

وإنما حقيقته التحريض والتحضيض كأنه يقول إن فعلت أثبتك وإن تركت لم أعاقبك وهذا ينفي حقيقة الأمر به

المسألة الخامسة عشر

إذا ورد الأمر باجتناب شيء من أشياء فلا يخلو أن يكون في اجتناب الجميع مشقة أو لا يكون فيه مشقة

فإن لم تكن فيه مشقة فلا يخلو أن يكون مختلطاً أو مميزاً فهذه ثلاثة أقسام

مثال الأول اختلاط اخته بنسب أو رضاع وتشبهها بنساء مصر من الأمصار فهاهنا لا يجب عليه اجتناب الجميع اتفاقا

مثال الثاني حظه من الجارية المشتركة فهاهنا يجب عليه الاجتناب اتفاقا

ومثال الثالث اختلاط إناء وقعت فيه نجاسة بماء طاهر وهذان أيضاً قسمان أحدهما أن يختلط الطاهر بالنجس المباح الأصل أو يختلط بالنجس الحرام الأصل

فمثال الأول من الأخير هو مثال الثالث فيه بعينه وهو إذا اختلطت آنية ماء بآنية بول فأما إناء ماء طاهر بإناء ماء وقعت فيه نجاسة فلا يخلو أن يكون عدد الأواني الطاهرة أكثر أو عدد الأواني النجسة فلا يخلو أن يكون الأواني الطاهرة كثر فلا خلاف بين العلماء في وجوب الاجتهاد فيها والعمل بموجب الاجتهاد وإن كان عدد الأواني النجسة أكثر فاختلف العلماء فيه فمنهم من قال يطرح الكل ومنهم من قال المسألتان الصواب وهو أصل من أصول الدين

والمسألة كثيرة الفروع عظيمة التشعيب والتركيب وقد استوفيناه في كتاب الإنصاف بينا وتفصيلا ومهدناه في كتاب أمهات المسائل تفريعاً وتفصيلا

وقد نجز الوعد السابق في كتاب الأوامر وهذا