كتاب العموم

وفيه اثنا عشر مسألة

المسألة الأولى القول في حقيقة العموم

وقد قدمنا في الكلام وبينا أنه معنى قائم بالنفس والعموم قسم من اقسامه وهو كل قول في النفس شمل اثنين فصاعدا ودليل هذه المسألة دليل المسألة السابقة

المسألة الثانية القول في صيغة العموم

كما اختلف علماؤنا في صيغة الأمر كذلك اختلفوا في صيغة العموم وكان الذي مال بعلمائنا الأصوليين رحمهم الله إلى نفي القول بالعموم وحداهم إلى إنكار صيغة إلحاح الوعيد به عليهم بكل آية عامة وحديث مطلق يقتضيان معاقبة العصاة وجزاء المذنبين

والذي ندين الله به أن العموم لها صيغ معلومة وألفاظ معروفة وما تعلق به الوعيدية ساقط لهم مع مساعدتهم لهم مع مساعدتهم على ألفاظ العموم بالأدلة المعلومة في تلك المسألة

وصيغة العموم على ضربين

أحدهما ادوات الشرط وهي من ومتى وما فإذا ربط بها العربي حكما اقتضى الاستغراق وكذلك الظروف المتضمنة لمعنى الشرط كقولك حيث وأين وما أشبه وكذلك ألفاظ الجموع وهي على قسمين جمع سلامة وهو ما سلم فيه بناء الواحد

وجمع تكسير وهو ما يتغير فيه بناء الواحد وهو على قسمين في اللغة

أحدهما جمع القلة والثاني جمع الكثرة كقولهم فلس وأفلس ووقت وأوقات فإذا أرادوا جمع الكثرة قالوا فلوس ووقوت فهذه مقدمات تمهد لك صيغ العموم

قال علماء الكلام على ما بينا هي موقوفة على ما يقترن بها من القرائن وقال الشافعي رضي الله عنه هي نص

فأما التوقيف بها فلا لظهور الحكم بالاستغراق فيها فإن من قال من دخل الدار فأعطه(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات) (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) فلا إشكال في إدارة العموم فيها لغة وشرعا وإنكار ذلك قريب من البهت والوعيدية لا حجة لهم في شيء من ذلك كما تقدم بيانه

وأما قول الشافعي إنه نص فهو ضعيف لأن النص هو ما وقع البيان فيه إلى غايته والعموم لم يرتفع فيه البيان إلى الغاية وأيضا فإنه لو كان العموم نصا لكان التخصيص نسخا وهذا ما لا جواب عنه

أما كونها نصا في المستقبل فلأن رفع الكل رفع لفائدة اللفظ وذلك لا يجوز وأما كونها ظاهرا فيما فوقه فلغلبة الاستعمال فيه حتى يخص الدليل بأخص منه وقد بينا ذلك كله في التحميص

المسألة الثالثة النساء يندرجن تحت خطاب الرجال بحكم العموم

خلافا لمن قال أنهن لا يدخلن تحته إلا بدليل لأنه إذا ثبت القول بالعموم وثبت صلاح اللفظ للذكور والإناث لم يكن لامتناع تناول اللفظ لهم وجه وكذلك

القول في العبيد وهي المسألة الرابعة

وإنما أخرج العبيد من هذا اللفظ رؤية بعض الناس لهم يشذون عن أحكام كالحج ويخرجون عن معان كالحد وليس لهم في آية الحج لأن اللفظ لا يحتمل العبيد وكذلك آية الحد أخرجتهم عنها آية أخرى وهي قوله تعالى(فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )

المسالة الخامسة

اللفظ المشترك الذي قدمنا بيانه إذا ورد مطلقا قال الشافعي رحمه الله يعمم على جميع متناولاته وكذلك الحقيقة والمجاز

وقال القاضي وأبو المعالي لا يصح حمله على أنواع المشترك ولا على الحقيقة والمجاز لأن الحقيقة ضد المجاز واللون مشترك من الضدين أيضاً فلا يجوز الجمع بينهما وهذا لا يصح لأن الضدين إنما يتضادان في محل واحد فأما في اللفظ أو في قصد القائل فلا يستحيل اجتماعهما فضعف ما قاله القاضي رحمه الله

وما قاله الشافعي لا يصح لأن العربي إذا أخبر عن اللفظ المشترك بقضية تخص بعض متناولاته أو تحتمل لم يقصد عموم الإرادة في الكل وكذلك العرب لا تطلق لفظ الأسد وهي تريد الشجاع والبهيمة إلا أن يأتي بلفظ يدل على إرادتهما معا وقد بينا أن هذا الأصل إنما أنشأه خلافا في فروع كقول العلماء عن اللمس ينقص الطهر كما ينقصه الجماع

لقوله الله عز وجل ( أولمستم ) وقال أبو حنيفة لا يصح أن يراد بقوله(أولمستم النساء) الجماع والملامسة لأنه جمع بين الحقيقة والمجاز فهذه المسألة وأشباهها أنشأت هذا الأصل وليس يمتنع أن يريد الشارع باللمس الوطء والقبلة وجس اليد وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ونكتته في كتاب أحكام القرآن ولو كان ذلك عند العرب أمراً منكوراً لما قال سادتها من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إن قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة

المسالة السادسة

اختلف الناس قديما وحديثا في أقل الجمع وقد ذكرنا ذلك في التمحيص وبينا ما وقع من الخلاف بين ابن عباس وعثمان رضي الله عنهما وهما رؤساء الشريعة واللغة والمحصول من ذلك أنك إذا نظرت إلى لفظ الجمع فالاشتقاق يعطي أن الإثنين جمع وإذا نظرت إلى إفراد العرب كل واحد بلفظه علمت أن أقله ثلاثة ولم يبق بعد هذا إلا قول الله سبحانه(فإنه كان له إخوة فلأمة) والأم محجوبة بالاثنين

فالجواب عن هذه الآية وأمثالها أن حجب الثلاثة وأمثالها كان قرآنا وحجب الاثنين كان سنة بدليل خلاف ابن عباس فيه رضي الله عنه

فالواجب عنها في التمحيص موجود ولكن مع أن للجمع لفظا يختص به وللواحد لفظا يختص به فالمختار عندنا أن جمع الإناث مختص بهم

لا يدخل فيه الذكور بحال وجمع الذكور تدخل فيه الإناث وبينا ذلك إذا كان الخطاب صالحا لهن وهذا أمر ثابت في اللغة والشريعة قطعاً في أمثلة الجهتين جميعاً قطعا ويقينا

وأما اللفظ المشترك إن ورد كما قدمنا معلقا بحكم يحتمل المتناولات كلها أو بعضها فهو عندنا مجمل وقد بينا ذلك كله في التمحيص

المسألة السابعة ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الاحتمال تتنزل منزلة العموم في المقال

لحديث غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يستفصله عليه السلام عن الأوائل والأواخرة بل أطلق الأمر بالاختيار إطلاقا فكان ذلك قولا بالعموم ونصا فيه خلافا لأبي حنيفة حيث يقول إن لا يختارهن إلا على ترتيب نكاحهن وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

المسألة الثامنة إذا ورد خطاب على سبب

اختلف الناس فيه فمنهم من قال يقصره عليه ولا يتعجى به غيره وقال بعضهم يحمل اللفظ على عمومه من غير اعتبار بالسبب

وقال علماؤنا الذي يقتضيه مذهب مالك أن الألفاظ الواردة على الأسباب على ضربين

الأول أن يكون اللفظ مستقلا بنفسه لا يحتاج إلى معرفة المراد منه إلى سببه

الثاني لا يعرف المراد منه إلا بعد معرفة سببه

فأما الأول فيحمل على عمومه وأما الثاني فيقصر على سببه ولا يعم بدليل وهذا التقسيم صحيح والظن فيه أنه لو عرض على سائر المخالفين لم يأبوه لأن ذكره كاد أن يكون دليله من غير افتقار إلى عضده بدليل

ومثال ذلك أن النبي سئل عن بئر بضاعة قيل له يا رسول الله إن بئر بضاعة تلقى فيها الحيض والجيف وما ينجي الناس فقال النبي خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء وفي رواية إلا ما غير لونه أو طعمه فهذا لفظ مستقل بنفسه مفهوم من ذاته نشأ بسبب لا يفتقر في بيانه إليه فهذا محمول على عمومه

ومثال الثاني ما روى أن النبي سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذا فهذا الجواب لا يفهم المراد به من لفظه حتى يعرض على سببه ويناط به

المسألة التاسعة

عزي إلى أبي حنيفة أنه قال

السبب الذي وردت الآية أو الخبر لا يتناوله بيانهما وهذا إنما أخذوه من مسألتين له وهما قوله

إن الحامل لا تلاعن مع أن امرأة العجلاني التي ورد اللعان فيها كانت حاملا وكذلك قال إن ولد المغربية يلحق بالمشرقي مع عدم احتمال اللقاء ولا يلحق ولد الأمة الحاضرة بالسيد وإن أقر السيد بوطئها لقول النبي الولد للفراش وللعاهر الحجر وإن كان الخبر إنما ورد في أمة وهذه مسألة غريبة المأخذ جدا لأن الخروج جدا لأن خروج السبب عن اللفظ الوارد عليه بعيد وأبو حنيفة لم يقل بهاتين المسألتين قصداً لما عزي إليه وإنما خرجتا بدليل آخر بين في مسائل الخلاف

المسألة العاشرة

إذا قال رجل أفطر فلان في رمضان فقال النبي يكفر تعلقت الكفارة بكل مفطر لأن ذلك السبب في الحكم تعليل

قال الله تعالى(الزانية والزاني فاجلدوا) ( والسارق والسارقة فاقطعوا) معناه لزناهما وسرقتهما وروي أن النبي سها فسجد معناه لجل سهوه وهذا ما لا خلاف فيه

فإن قال رجل للنبي جامعت فقال النبي كفر فهل يلحق بالجماع إفطار الأكل أم لا

اختلف العلماء فيه على قولين

فقالت طائفة لا تلحق به لأنه ليس في معناه وقالت طائفة هو مثله لأنه إفطار على وجه الحرمة فوجبت فيه الكفارة كالجماع والمسألة مشهور في الخلاف

وقال الشافعي ليس شيء في معنى الجماع ولا يلحق به

وهي المسألة الحادية عشر

المسألة الثانية عشر اللفظ العام إذا خص في بعض متناولاته

قالت المعتزلة يكون مجملا لا يتعلق به وقال القاضي هو مجاز وقال الشافعي هو حقيقة على أصله

والصحيح جواز التعليق به إذا نسخ بعض الحكم جاز التعليق به فكيف فيما خص ولو صرح المتلفظ بالتخصيص مقرونا باللفظ ما كان ذلك مجاز يضعفه ولا إجمالاً يبطله فكذلك إذا جاء بعد حين

وبعد نجاز هذه المسائل نخوض في التخصيص المنفصل وهو القول في

الاستثناء

وفيه ست مسائل

المسألة الأولى في حروفه

وهي خمسة

إلا وخلا وعدا وسوى وغير

وأمها إلا وهي تأتي بعد الإثبات والنفي

فأما إثباتها بعد الإثبات فعملها النصب نقول جاء القوم إلا زيدا وقد قال بعض الناس إن عملها الرفع والصحيح الأول

وما احتج به من الشعر قد تكلمنا عليه في التمحيص

وأما إثباتها بعد النفي فقد تأتي والفعل بعدها كقولك ما جاءني أحد إلا زيد وفيها لغتان والقول في سائر الحرف معلوم

المسألة الثانية من شروط الاستثناء

أن يكون متصلاً بالكلام بخلاف التخصيص فإنه يجوز أن يرد بعد سنة

وعزى إلى حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه أن الاستثناء كالتخصيص واحتجوا له بقوله تعالى(والذين لا يدعون مع الله إلها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) نزلت هذه الآية فلما كان بعد سنة نزل قوله تعالى(إلا من تاب) وذلك بعيد والرواية غير صحيحة

والدليل على صحة ذلك بعيد والرواية غير صحيحة

والدليل على صحة ذلك القواعد الشريعة من الأيمان والعهود فلو كانت منحلة بالاستثناء بعد عام وأكثر منه لما كان لعقد اليمين محل ولا كان لأخذ العهود موضع ولا كان للكفارة إجزاء ومثل هذه القاعدة لا تنهدم بما احتجوا به من تأخير الاستثناء عن الآية لأنها كانت موصولة في أم الكتاب وفي العلم الأول وفصلت في إعلامنا لحكمة بالغة ومثاله لو أن رجلا كتب يمينه مستثناه وأشهد عليها ثم إنه أخبر بها مفصولة عن ما كتبها لم يضره ذلك

المسألة الثالثة من شرط الاستثناء ألا يرجع إلى جميع الكلام السابق

فإن رجع إلى معظمه قال القاضي لا يجوز

والصحيح جوازه وأما رجوعه إلى الجمع فمحال لأنه تناقص في الكلام

وقال القاضي رجوعه إلى المعظم مثله وليس بصحيح لأنه قد أبقى ما استقل بالخبر بلى إنه قبيح لكن أمر قبحه لا يمنع جوازه كقوله عندي عشرة إلا خمسة وربع ثمن وثمن سدس عشر ثمن سدس وما أشبه ذلك من التجزئة الركيكة وذلك قببيح لكنه جائز

المسالة الرابعة الاستثناء من الاستثناء جائز

خلافا لبعض الناس وهو إبقاء على الحالة الأولى ورد الكلام إلى أوله كقوله عندي عشرة إلا أربعة اثنين وكقوله لزوجته أنت طالق ثلاثا إلا اثنين إلا واحدة فتكون ثنتين وقد اخبر الله تعالى في القرآن فقال(إلا الوط إلا امرأته )

المسألة الخامسة من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس

فإن كان من غير الجنس لم يفهم لغة ولا جاز حكما

وقد روي عن الشافعي أنه قال في رجل قال له عندي مائة دينار إلا ثوب فإنه يقبل منه ويفسر قيمة الثوب ويحط من جملة المائة لأن المالية تجمعهما وهذا ضعيف فإن الاستثناء إنما هو مأخوذ من التثنية وهو التكرار تقول ثنيت كذا إذا جعلته اثنين وكيف يصح أن يكون ذلك في غير الجنس ولو سمعت العرب استثناء من غير الجنس لما عدته من كلامها ولا راجعت عليه مخاطبها

المسألة السادسة

الاستثناء إذا عقب جملا اختلف الناس فيها من قال إنها ترجع إلى الجمل كلها وهم الأكثر ومنهم من قال ترجع إلى آخر جملة وهو أبو حنيفة وأصحابه

ويظهر ذلك في مسألتين

أحدهما شهادة القاذف إذا تاب قال الله تعالى : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) الآية ثم قال ( إلا الذين تابوا )

وكذلك أيضا لو قال في الوصية ثلث مالي للفقراء بني بكر وتغلب وزهرة إلا من كان ملحفا في مسألته رجع هذا الاستثناء عندنا إلى الجميع ورجع عنده إلى زهرة خاصة وهي مسألة نحوية لا حظ لغير النحو فيها وذلك إنه لا خلاف أن المعطوف يشرك المعطوف عليه فيما وقع الخبر به عنه وظن أبو حنيفة أن ذلك بمنزلة الضمير الذي يرجع إلى اقرب مذكور فيختص به ومنها ما يحتمل الرجوع إلى ما تقدم فيحكم كذلك به وباب العطف بخلافه لأنه لا احتمال فيه لغير الاشتراك