كتاب المفهوم

المفهوم على ضربين

مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة

فأما مفهوم الموافقة فهو متفق عليه عند العلماء وهو كقوله تعالى(فلا تقل لهما أف) فهو منه تحريم الضرب قطعا وكقوله عز وجل(ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يوده إليك) فهم منه أداء الدينار قطعا على وجه غريب بيناه في كتاب التمحيص

وكقوله(إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة موجودة فالقول بما قال البائع أو يترادان فهو منه إن ذلك مع هلاك السلعة

وأما مفهوم المخالفة فهو ما اختلف فيه الناس فقال به الشافعي ومنعه أبو حنيفة ونسب أهل المقالات إلى مالك أنه يقول به

فأما الشافعي فاحتج له أصحابه فإنه منقول عن أئمة اللغة كأبي عبيدة وغيره وذكروا أيضا آيات من القرآن لا متعلق فيها وأخبار محتملة بخلاف ما رأوا منها ولا بد من تحقيقه أولا

فنقول ذكر القائلون به أن مفهوم المخالفة هو تعليق الحكم على أحد وصفي الشيء فيدل على الأخذ بخلافه كقوله في سائمة الغنم الزكاة فيقتضي ذلك أن المعلوفة بخلافه وكذلك التخصيص بالمكان والزمان والعدد فيدل على أن ما عداه بخلافه أيضا وقال القاضي أبو بكر إذا قلت الصفة أغناك من الزمان والمكان والعدد لأنها كلها أوصاف للأعيان والمقصود منها لا يتبين إلا بذكر أمثلة فنقول إن الحكم المنوط بالصفة لا بد أن يعلق بشرط كقوله إن جاءك أخاك فأكرمه فهذا مما يظهر فيه تعلق افكرام بالمجيء وقد قال يعلى بن أمية لعمر رضي الله عنه إن الله سبحانه يقول(فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم) وها نحن فقد آمنا فما بالنا نقصر فقال له عمر سألت رسول الله كما سألتني فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذه الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم وهو أعيان الفصحاء قد فهموا تخصيص الحكم المعلق على الشرط بوصف الشرط وأما الحكم المعلق بالتعليل كقولك أكرمه لإكرامه لك فلا خلاف فيه

فأما الحكم المعلق بالوصف كقوله الغنم الزكاة كقوله تعالى(من فتيتكم المؤمنت ) فلا نقول إن الحكم هاهنا فهم من دليل الخطاب وإنما أخذ من عموم الشريعة وهو قوله في سائمة الغنم الزكاة وخص السائمة لأنها الأكثر في موضع آخر

وقال الله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) فثبت التحريم في كل كافرة ثم جاء قوله تعالى ( والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم) فثبتت الرخصة بهذا النص في حرائر الكتابيات وبقي التحريم في بقية الكافرات على ظاهره وأما اللقب المجرد كقوله في الغنم الزكاة فلم يقل أحد أن البقر بخلافها من هذا اللفظ إلا الدقاق من أصحاب الشافعي وهو محجوج بالإجماع قبله مع إن اللغة لا تدل عليه

مسألة

قال الله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) الآية فخص الخلع بحالة الشقاق واتفق العلماء أنه جائز مع الألفة وألزما من قال بدليل الخطاب ومن نفاه قالوا وكانت الحكمة في ذكر الشقاق مع جواز الخلع مع عدمه أنه الغالب من أحواله فجرى الكلام على الغالب وألحق به النادر لأنه مثله في توقع التقصير عن إقامة حدود الله تعالى

مسألة

قال رسول الله تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم فقال علماؤنا لا يجوز التعظيم ولا التسبيح بدلا من التكبير وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز افتتاح الصلاة بكل ذكر لأن ذكر التكبير لا يقتضي أن غيره بخلافه وحمل علماؤنا هذا الحديث على طريقين

أما أحدهما فقالوا إنه دليل الخطاب وردوا المسألة إليه

الثاني أنهم قالوا هذه عبادة وقد عينت للتكبير وعين لها فإلحاق غيره به من باب القياس ولا مدخل له في العبادات

والمختار عندي أنه من باب الحصر وإنما كان يكون من باب دليل الخطاب على خلاف أيضا لو قال التكبير تحريهما وسنضرب لذلك مثالا لغويا صناعيا يستروح إليه الناظر فنقول إذا تعاوض قوم مع رجل في الآخوة والصداقة فيه وإذا قال لهم زيد صديقي وهو قد علموا زيدا فإنما فائدة إعلامهم بصداقته زيد المعلوم لديهم ولو حصر الصداقة فيه

مسألة قال رسول الله لأصحابه رضي الله عنهم وقد بال أعرابي في المسجد صبوا عليه ذنوبا من ماء فقال بعض علمائنا ذكره للماء دل على أن الخل بخلافه وقال أصحاب أبي حنيفة إن الخل في معناه فباطل جدا لأن الخل ليس في معنى الماء لا صورة ولا معنى لأن الماء ينظف والخل يلوث وكذلك يستنكف ثوبا فيه خل طبعا كما يستنكف ثوبا فيه بول شرعا

والدليل القاطع على ذكره ذلك افتراقهما في الورود فإن النجاسة إذا وردت على الماء الكثير غلبها وإذا وردت على الخل الكثير غلبته

وأما قول من قال من أصحابنا ذكره للماء يدل على أن الخل بخلافه فقد بينا فساده لأن الماء لقب ولا دليل للألقاب وإنما اختلف الناس في الأوصاف كما بيناه

باب حمل المطلق على المقيد

حمل المطلق على المقيد مما جازت عادة علمائنا بذكره في تخصيص العموم وليس منه وهو على ثلاثة أقسام

أحدهما أن يختلفا ذاتا وسببا كسائر أنواع الشريعة فهذا ممالا يختلف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر

الثاني أن يتفقا ذاتا ويختلفا سببا ككفارة القتل والظهار

الثالث أن يتفقا سببا ويختلفا ذاتا كالوضوء والتيمم إلى المرافق

ومنهم من قال يكون كل واحد منهما على إطلاقه وتقييده حتى يدل الدليل على إلحاق أحدهما بالآخر وهو أظهر قول المالكية ولا يلقى في الشريعة دليل على وجوب حمل المطلق على المقيد حتى يكون مطلقا ولا يتصور ذلك فيه وإنما يحمل كل واحد منهما على صاحبه بدليل يقتضيه ولهذا خالف الخاص العام فإنهما إذا تعارضا حمل العام على الخاص من غير نظر في دليل سواهما وقد بسطنا هذا الغرض في التمحيص وهذا محصوله والله أعلم