في ذكر نسبه عليه الصلاة والسلام: ذكر صفة الإنساء

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

ذكر صفة الإنساء

روى الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق، عن الكلبي في الخبر الذي فيه ما سبق ذكره في أول من نسأ الشهور، قال: والذي ينسأ لهم إذا أرادوا ألا يحلوا المحرم، قام بفناء الكعبة يوم الصدر، فقال الذي ينسأ: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم؛ فإني أجاب ولا أعاب لقول قلته؛ فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام، وكان الجاهلية يسمون المحرم: صفر الأول، وصفر: صفر الآخر، ويقولون: صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة؛ فكان ينسأ الإنساء سنة، ويترك سنة، فيحلوا الشهور المحرمة، ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة، وكان ذلك من فعل إبليس - لعنه الله تعالى - ألقاه على ألسنتهم فرأوه حسناً، فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم ويخطب بفناء الكعبة، ويجمع الناس إليه يوم الصدر، فيقول: أيها الناس، إني قد أنسأت العام صفر الأول، يعني: المحرم، فيطرحونه من الشهور ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة بعده، فيقولون لصفر شهر ربيع الأول: صفران ويقولون لشهر ربيع الآخر وجمادي الأولى: شهرا ربيع، ويقولون لجمادي الأخرى ورجب: جماديان، ويقولون لشعبان: رجب، ولشهر رمضان: شعبان، ويقولون لشوال: شهر رمضان، ولذي الفطرة: شوال، ولذي الحجة: ذو القعدة، ولصفر الأول، وهو المحرم الشهر الذي أنسأه: ذو الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، فيبطل من هذه السنة شهراً ينسأه.

ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة - أيضاً - فيقول: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب لقول قلته، اللهم، إني قد أحللت دماء المحلين طيئ وخثعم في الأشهر الحرم من بين العرب، فيغزونهم ويطلبون بثأرهم ولا يقفون عن حرمات الناس في الأشهر الحرم؛ كما تفعل غيرها من العرب، وكان سائر العرب من الحلة والحمس لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد ولو لقي أحدهم قاتل أبيه وأخيه، ولا يستاقون إعظاماً للشهور الحرم، إلا خثعم وطيىء، فإنهم كانوا يعدون في الأشهر الحرم؛ فهنالك يحرمون من تلك السنة الشهر المحرم، وهو صفر الأول، ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول، فيحجون في كل سنة حجتين، ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه، وهو صفر الآخر في العدة المستقيمة حتى تكون حجتهم في صفر أيضاً، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدءوا منه الإنساء، يحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين، فلما جاء الله بالإسلام، أنزل الله في كتابه العزيز: " إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... " الآية التوبة انتهى.

وقال السهيلي: وأما نسؤهم للشهر الحرام، فكان على ضربين: أحدهما: هذا الذي ذكره ابن إسحاق من تأخير المحرم إلى صفر؛ لحاجتهم إلى شن الغارات، وطلب الثارات.

والثاني: تأخير الحج عن وقته؛ تحرياً منهم للسنة الشمسية؛ فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة؛ فيعود إلى وقته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ فكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته الأصلي، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة، وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة - والله أعلم - إذ كانت مكة في حكمهم حتى فتحها الله على نبيه، عليه الصلاة والسلام.

ثم ولي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقام لقومه وللحجاج ما كانت آباؤه تقيمه من قبله، وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه، فأحبه قومه وعظم خطره فيهم، وكان أكبر أولاده الحارث، لم يكن أول أمره غيره، وكان يكنى به، فيقال: يا أبا الحارث، فقال له ابن عمه عدي بن نوفل بن عبد مناف: يا عبد المطلب، أتستطيل علينا وتتعاظم وأنت فذ لا ولد لك؟ فقال له عبد المطلب: أو بالقلة تعيروني؟ فو الله نذر علي، لئن آتاني الله عشرة من الولد، لأنحرن أحدهم عند الكعبة. فلما كمل له عشرة من الولد، جمعهم فأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه، وقالوا له: أوف بنذرك، وافعل ما شئت، قال: ليأخذ كل واحد منكم قدحاً فليكتب اسمه عليه، ثم ائتوني، ففعلوا، فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على هؤلاء بقداحهم - والقدح: سهم لا نصل له ولا ريش - فأعطى كل واحد منهم قدحه، وكان عبد الله هو أصغرهم سناً وأحبهم إلى والده، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج السهم على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل على أساف - وهو صنم على الصفا - ليذبح عنده، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل والده حتى أثر في وجهه شجة لم تزل ترى في وجه عبد الله إلى أن مات، فقامت قريش عن أنديتها، وقالوا: لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟! ولكن اعذر فيه إلى ربك، فنفديه بأموالنا، وكان بالحجاز عرافة كاهنة لها تابع من الجن، فانطلقوا حتى قدموا عليها، وقص عليها عبد المطلب قصته وخبر نذره.

ويقال: إن نذره لذلك لم يكن سببه تعيير عدي بن نوفل له، فأجابه بقوله: أو بالقلة تعيروني، لئن رزقني الله عشرة من الولد... إلى آخر ما تقدم، بل إنما كان النذر: لما رأى في المنام زمزم، وأرشد إلى مكانها بعلامة أريها فيه، فقال عند ذلك: لئن رزقني الله عشرة من الولد حتى يعينوني على حفرها لأنحرن أحدهم.

وعلى كل حال: فالمنذور هو نحر أحد أولاده العشرة، والاختلاف في سبب عقد النذر هل هو التعيير له بقلة الولد وهي الرواية الأولى، أو حصول الإرشاد إلى محل زمزم وحفرها، والإعانة على ذلك، وذلك أنه بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحجر إذ أتى فأمر بحفر زمزم، قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد، جئت إلى مضجعي - ، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر المصونة قلت: وما المصونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد، نمت كذلك فجاءني، فقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل، وهي شرف لك ولولدك، وكان هناك غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم.

فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أن المنام قد صدق، غدا بالمعول، ومعه ابنه الحارث ليس معه يومئذ ولد غيره، فجعل يحفر ثلاثة أيام حتى بدا له الطي، فعرفت قريش أنه أدرك حاجته، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا؛ فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فافعلوا، بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفازة، قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز، فني ما كان عند عبد المطلب وأصحابه من الماء، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما تخوفوا منه، قال لقومه: ما ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفل كل رجل منكم حفرة لنفسه بما بكم الآن من بقية الرمق والقوة، فكلما مات رجل على شفير حفرته، ألقاه فيها من بقي مه رمق منكم، قالوا: نعم ما أمرت به، فقعدوا ينتظرون عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله، لنضربن في الأرض؛ فلعل الله يرزقنا ماء ببعض البلاد، فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت عين ماء عذب من تحت خفها، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب هو وأصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه المفازة لهو الذي سقاك، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه.

ويقال: إن عبد المطلب قام يحفر هنالك، فجاءت قريش فقالوا: لا تحفر في مسجدنا، فقال: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها، فطفق يحفر هو وابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فسعت إليهما ناس من قريش ونازعوهما، حتى إذا اشتد عليه الأذى، نذر لئن ولد له عشر بنين، ثم بلغوا معه حتى منعوه عمن يريد منعه، وسهل الله عليه حفر زمزم - لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما بلغوا عشرة وأراد ذلك، وقع ما تقدم ذكره. انتهى وورد أن عبد المطلب كان نائماً في الحجر إذ رأى مناماً، فانتبه فرقاً مرعوباً، وأتى كهنة قريش وقص عليهم رؤياه، فقالوا: تأويل رؤياك: ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض، وليكونن في الناس علماً مبيناً. فتزوج ابنة عمرو بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وحملت في ذلك الوقت بعد الله الذبيح. وقصة ذبحه سببها نذر أبيه عبد المطلب ذبح أحد أولاده إذا رزقه الله عشرة ذكور؛ كما تقدم آنفاً.

وكانت زمزم مجهولة الموضع، إلى أن رفع عنها الحجاب برؤيا منام رآها عبد المطلب دلته على حفرها بأمارات عليها، وقد كان مضاض بن عمرو الجرهمي، أو عمرو بن الحارث الجرهمي لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله إياداً فأخرجوهم من مكة، عمد عمرو هذا إلى ذخائر الكعبة - من الغزالين والأسياف وغير ذلك - وأخرجها من الجب الذي كان بالكعبة معداً لوضع ذلك، فأخذ جميع ذلك، وجعله في زمزم، وطمها وعفى أثرها، وفر إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رآها عبد المطلب، فأراد ذبح ولده عبد الله فمنعه أخواله بنو مخزوم، وفي الرواية الأولى منعه العباس فاجتذبه من تحت رجل ولده، ولا مانع من وقوع السببين، ويكون المنع منهم بعد الاجتذاب من العباس، ثم احتفرها وكانت له فخراً وعزاً.

فذهبوا، فقالت لهم العرافة: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي، فرجعوا من عندها، ثم عادوا إليها، فقالت لهم: كم الدية فيكم؟ فقالوا: عشر من الإبل، فقالت لهم: قربوا عن ولدكم عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه، واستمروا كذلك إلى أن يخرج السهم عليها فانحروها، فقد رضي ربكم ونجى ولدكم، فخرجوا حتى قدموا مكة، فقربوا عشراً من الإبل، وضربوا بالقداح، فخرج السهم على عبد الله، واستمروا في كل مرة يزيدون عشراً فعشراً حتى بلغت الإبل مائة فخرج السهم عليها، فأعادوها ثانية وثالثة فخرج السهم على الإبل، فنحروها، وتركت لا يمنع من لحمها آدمي ولا وحش ولا طير.

قال الزهري: كان عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل، فجرت في قريش، ثم في العرب، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.

وذكر الحافظ النيسابوري بسنده عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب الأحبار؛ أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى عبد المطلب ونام في الحجر، فانتبه مكحولاً مدهوناً قد كسى حلة البهاء والجمال، فبقي متحيراً لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه هاشم بيده، ثم انطلق به إلى كهنة قريش، فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السموات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه أبوه قيلة، فولدت له الحارث وهو أكبر أولاده، وبه كان يكنى؛ كما تقدم ذكر ذلك. ثم ماتت فزوجه بعدها هنداً بنت عمرو، وكان عبد المطلب تروح منه رائحة المسك الإذفر، ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضىء في غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط تأخذ بيده، فتخرج به إلى جبل ثبير، فيتقربون به إلى الله تعالى ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور محمد صلى الله عليه وسلم غيثاً عظيماً.

وعند الحاكم في مستدركه: عن معاوية بن أبي سفيان: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسة والماء يابساً، هلك المال وضاع العيال، فعد على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه. ويعني بالذبيحين: عبد الله، وإسماعيل بن إبراهيم، وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق.

قال ابن القيم: ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل: أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة، وكذلك جعلت القرابين يوم النحر كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمى الجمار تذكيراً بشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه.

ثم قال: ولو كان الذبح بالشام - كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم - لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وروى عن عمر بن عبد العزيز: أنه سأل رجلاً أسلم من علماء اليهود: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم يا معشر العرب أن يكون أباً لكم للفضل الذي ذكره الله تعالى عنه، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم؛ كذا في المواهب اللدنية.

وقد استشكل أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة.

قال السهيلي: ولا إشكال في هذا؛ فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه - عليه الصلاة والسلام - اثني عشر؛ وهو قول الأكثر. وإن صح قول من قال: إنهم عشرة لا يزيدون، فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقةً لا مجازاً، فكأن عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين الوفاء بنذره. وقد تقدم أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب، وهو غير معروف، فلعل الرواية أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس كان أصغر من حمزة، فكيف يستقيم أن يكون عبد الله أصغر أولاد عبد المطلب؟! وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام ونحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، وجعل النساء يقلن لي: قبل أخاك، فقبلته، فكيف يصح أن يكون عبد الله أصغر أولاد بنيه؟! لكن يحتمل وجه لصحته أن تكون الرواية أصغر بني أمه، أو تكون الرواية لذلك أصغر بني أبيه، ويكون المراد أنه أصغر بني أبيه حين أريد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة والعباس. انتهى قلت: يعكر على هذا التوجيه الرواية السابقة التي فيها اجتذاب العباس لعبد الله من تحت رجل عبد المطلب؛ إذ هي مصرحة بوجوده؛ بل ببلوغه حد الرجولية رأياً وفعلاً؛ فليتأمل ولينظر وجه التوفيق.

وقيل لعبد المطلب في صفة زمزم: لا تنزف أبداً ولا تذم، وهذا برهان عظيم؛ لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي، فنزحت من أجله، فوجدوا ماءها. يفور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود، ذكر هذا الحديث الدارقطني.

وقوله: لا تذم فينظر، فقد كان خالد بن عبد الله القسري عامل الوليد بن عبد الملك على مكة يذمها ويسميها أم جعلان، واحتفر بئراً خارج مكة باسم الوليد ابن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله وقلة حياء منه، وهو الذي كان يفصح بلعن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - على المنبر هناك، وإنما ذكرنا هذا ليعلم أنها قد ذمت، لكن من الرمل

لا يضرّ البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه سفيهٌ بحجر

وأول من اتخذ للكعبة باباً من حديد عبد المطلب، ضربه من تلك الأسياف التي وجدها في زمزم حين احتفرها، وهي التي أودعها مضاض بن عمرو الجرهمي باطن زمزم وطمها، واتخذ حوضاً لزمزم يسقي منه؛ فكانوا يخربونه بالليل حسداً له، فلما غمه ذلك، قيل له في المنام: قل: لا أحلها لغسل، وهي لشارب حل وبل، وقد كفيتهم. فلما أصبح قال ذلك، فكان بعد ذلك من أرادها بمكروه، رمى بداء في جسده حتى انتهوا عنه.

فائدة: كانت قريش قبل حفر زمزم، اتخذت أبياراً بمكة، فذكروا أن قصياً كان يسقي الحجيج في حياض من أدم، فكان ينقل الماء إليها من آبار خارجة عن مكة، منها بئر ميمون الحضرمي، وكان ينبذ لهم الزبيب، ثم احتفر قصي العجول في دار أم هانىء بنت أبي طالب، وهي أول سقاية حفرت بمكة، فلم تزل العجول قائمة حياة قصي وبعد موته حتى كبر عبد مناف بن قصي، فسقط فيها رجل من بني جعيل، فعطلوها واندفنت واحتفرت كل قبيلة بئراً. واحتفرت سجلة. وأما خم: فهي بئر مرة، وهي من خممت البيت: إذا كنسته.

وأما غدير خم الذي عند الجحفة: فسمى بغيضة عنده، يقال لها: خم.

وأما زم: فبئر بني كلاب بن مرة.

وأما شغية: فبئر بني أسد.

وأما سنبلة: فبئر بني جمح، وهي بئر بني خلف بن وهب بن جمح.

وأما الغمر: فبئر بني سهم.

قلت: البئر التي يقال لها: العجول في دار أم هانىء، قد حفرت بعد أن دفنت واستمرت إلى أن دفنها المستنجد العباسي لما وسع المسجد الحرام، وأدخل دار أم هانىء فيه، واحتفر عوضها البئر التي عند باب الحزورة على يسار الخارج من المسجد المعروفة في زماننا بالشرشورة يغسل فيها الموتى غالباً. انتهى. والحديث شجون، يجر الفن منه إلى فنون.

ولنرجع إلى ما كنا، ونتم ما عنه أبنا، من ذكر عبد المطلب، فنقول: ولما قدم أبرهة ملك اليمن من قبل النجاشي لهدم بيت الله الحرام، وذلك أنه بنى كنيسة، وأراد صرف الحاج إليها، فأصبح ذات يوم وإذا هو بالكنيسة قد تبرز فيها رجل من كنانة، فحلف ليهدمن بيت عز العرب، وهو الكعبة، فسار بجيش كالليل، يسير كالسيل، وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصل إلى هدم البيت؛ لأن للبيت رباً يحميه.

ثم جاء مقدم خيل لأبرهة، فاستاق إبلاً لقريش فيها أربعمائة ناقة لعبد المطلب، فركب عبد المطلب في قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستنارت دائرة غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبينه كالهلال، فانتشر شعاعها على البيت الحرام مثل ضوء السراج. فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش، ارجعوا، قد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين، ثم قصد عبد المطلب إلى خباء أبرهة، فإذا هو على سرير الذهب، فلما وقع نظر أبرهة على عبد المطلب، أكبره أن يقعده تحته، ولم يرض أن يقعد معه على السرير، فنزل على الأرض وأعظمه وأجله، وسأله ما الذي أتى بك؟ فقال: إبل لي استاقها بعض جيشك، فقال أبرهة للترجمان: قل له: لقد عظمت أولاً في عيني، فلما تكلمت انحطت رتبتك عندي، قال عبد المطلب: ولم ذاك؟ قال: لأنك قد علمت أني إنما أتيت لهدم هذا البيت، وهو عزك وعز آبائك، فلم يكن لك هم إلا الإبل وردها عليك، فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فشأنك وإياه، ثم أمر بردها عليه.

وروى أنه لما حضر عبد المطلب إلى أبرهة، أمر سائس فيله الأبيض العظيم - الذي كان لا يسجد لأبرهة كما تسجد الفيلة - أن يحضر بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخر ساجداً وأنطقه الله، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب؛ كذا رواه في المنظوم والمفهوم.

ثم قام عبد المطلب حتى أتى البيت، وأخذ بحلقتي الباب، وقال: من مجزوء الكامل

لاهمّ إنّ المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك

وانصر على آل الصّلي ... ب وعابديه اليوم آلك

إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمرٌ ما بدا لك

ولما وصل الجيش ومعهم الفيل، وكان فيلاً عظيماً لم ير مثله عظماً اسمه محمود، فلما كان بالمغمس، برك، فضربوه في رأسه بالمعاول ضرباً شديداً فأبى، فوجهوه إلى جهة اليمن، فقام مسرعاً. ثم أرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر، مع كل طائر ثلاثة أحجار كل حجر زنة طسوج حجر في منقاره، وحجران في رجليه كأمثال العدس، هيئة تصيب الفارس في قنة رأسه، فتقطع أمعاءه، وتخرج من دبره، فخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق، فكان الحجر يغوص في الأرض من شدة وقعه، وأصيب أبرهة بداء في جسمه، فتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى اندع قلبه. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ... " السورة الفيل ثم قام عبد المطلب منشداً لما بدد الله شملهم وهدهم، وخيب أمالهم وصدهم: من الرمل

أيّها الدّاعي الّذي أسمعتني ... ثمّ ما بي عن نداكم من صمم

إنّ للبيت لربّاً مانعاً ... من يرده بأثامٍ مصطلم

رامه تبّع فيما حشدت ... حميرٌ والحيّ من آل قدم

فانثنى عنه وفي أوداجه ... خارجٌ أمسك عنه بالكظم

قلت والأشرم ترمي خيله ... إنّ ذا الأشرم غرٌّ بالحرم

نحن آل الله فيما قد مضى ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم

نحن دمّرنا ثموداً عنوةً ... ثمّ عاداً قبلها ذات الإرم

نعبد الله وفينا سنّةٌ ... صلة القربى وإيفاء الذّمم

لم تزل لله فينا حجّةٌ ... يدفع الله بها عنّا النّقم

وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك: من الخفيف

إنّ آيات ربّنا بيّناتٌ ... لا يماري بهنّ إلاّ كفور

حبس الفيل بالمغمّس حتّى ... ظلّ يحبو كأنّه معقور

وفي تاريخ الخميس: أن الحجر كان أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة.

عن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ خرزات مخططةً كالجذع الظفاري.

فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها يسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من نقمة: من الرجز

أين المفرّ والإله الطّالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضاً: من الوافر

ألا حيّيت عنّا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه ... لنا جنب المحصّب ما رأينا

إذن لعذرتني وحمدتّ أمري ... ولم تأسى على ما قلت مينا

حمدت اللّه إذ أبصرت طيراً ... وخفت حجارةً تلقى علينا

وكلّ القوم يسأل عن نفيلٍ ... كأنّ عليّ للحبشان دينا

قال العلامة ابن الجوزي: ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض ويقول: هلك القوم، فخرج عبد المطلب وأصحابه وغنموا أموالهم. انتهى وفي الكشاف: ودوي أبرهة - أي: مرض - فتساقطت أنامله وآرابه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فهلك.

وعن عكرمة: أصابته جدرية، وهو أول جدري ظهر في الأرض.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عقبة؛ أنه حدثه أنه أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.

قال مقاتل: إن السبب الذي جر أصحاب الفيل أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي، فدنوا من ساحل البحر - وثمة بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل - فنزلوا فأججوا ناراً، فاشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح فاضطرم الهيكل ناراً، فانطلق الصريخ إلى النجاشي، فأسف غضباً للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة.

وقال فيه - يعني مقاتل - : إنه كان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي، وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلاً لعبد المطلب، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك؟ هذا اليوم لا نستغني عن رأيك، فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعهد إلى مائة من الإبل، فاجعلها لله، وقلدها نعلاً، ثم بثها في الحرم، لعل بعض هذه السود أن يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطلب، فعهد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها وعقروا بعضها، وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت رباً يمنعه، وقد نزل تبع اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه، فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك، رجع عن نيته وكساه القباطي البيض وعظمه ونحر له الجزائر فانظر كيف جهته؟ فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطىء البحر، فقال أبو مسعود: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها تدور على رءوسنا، قال: هل تعرفها؟ قال عبد المطلب: لا والله ما أعرفها، فما هي بنجدية ولا تهامية ولا غربية ولا شامية، قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب، في مناقيرها حصى كأنها حصى الخذف، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً، أمام كل فرقة طير يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فجاءت حتى إذا حاذت معسكر القوم، كرت فوق رءوسهم، فلما توافت الرجال كلها، أهالت ما في مناقيرها وأرجلها على من تحتها، على كل حجر مكتوب اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت، فلما أصبحنا انحطا من ذروة الجبل، فمشيا رتوة، فلم يؤنسا أحداً، ثم دنوا رتوة، فلم يسمعا حساً، فقالا: بات القوم ساهرين فأصبحوا نياماً، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هو خامدون، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فئوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر، وحفر لصاحبه فملأه، ثم قال له أبو مسعود: اختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب: إني لم آل أجعل أجود المتاع إلا في حفرتي فهو لك، وجلس كل منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً، وساد عبد المطلب بذلك وبغيره قريشاً وأعطته المقادة.

فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال، ودفع الله عن كعبته.

وفي الكشاف: أن أهل مكة احتووا على أموالهم، وإلى هذه القصة أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: إن الله حبس عن أهل مكة الفيل وسلط الله عليهم رسوله والمؤمنين. قيل: كان أبرهة هذا جد النجاشي الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ومات وصلى عليه.

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين بمكة مقعدين يستطعمان. وروى أن الله أرسل سيلاً فذهب بهم موتى إلى البحر.

فلما هلك أبرهة، ومزق الحبشة كل ممزق، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثرت السباع حولها والحيات، فلا يستطيع أحد أن يأخذ مما فيها شيئاً إلى زمن السفاح أبي العباس، فذكروا له أمرها، فبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن ومعه أهل الحزم والجلادة، فخربوها وحصلوا منها مالاً كثيراً.

ثم بعد ذلك: عفى رسمها وانقطع خبرها؛ كذا في حياة الحيوان.

وقال في سيرة ابن هشام: فلما هلك أبرهة، ملك الحبشة ملك بعده ابنه يكسوم بن أبرهة، ثم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة، فلما طال البلاء على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجه عنهم ويليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم، فلم يشكه، فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة، فبعثه النعمان مع وفده إلى كسرى، فدخل عليه فقال: أيها الملك، غلبنا على بلادنا الأغربة، قال كسرى: أي الأغربة، الحبشة أم السند؟ قال: الحبشة، فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلاد لك، قال كسرى: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشاً من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم وكساه كسوة حسنة، فلما قبض ذلك سيف، خرج فجعل ينثر ذلك الورق للناس، فقال: وما أصنع بهذا؟ ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها، فجمع مرازبته، فقال: ماذا ترون في أمر هذا الرجل؟ فال قائل: أيها الملك، إن في سجونك رجالاً قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا، كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا، كان ملكاً ازددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه - وكانوا ثمانمائة رجل - واستعمل عليهم وهرز، وكان ذا سنة فيهم وأفضلهم حسباً وبيتاً. فخرج سيف في ثمان سفائن، فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه، وقال له: رجلي ورجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر، قال وهرز: أنصفت، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده، فأرسل إليه وهرز ابناً له ليقاتلهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقاً عليهم، فلما تواقف الناس على مصافهم، قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا له: أترى رجلاً على الفيل عاقداً تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم، قالوا: ذاك ملكهم، قال: اتركوه، فوقف طويلاً، ثم قال: علام هو؟ قال: على البغلة، قال وهرز: بئست الحمالة، ذل وذل ملكه، إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أوذنكم؛ فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاذوا به؛ فإني قد أصبته، فاحملوا عليهم، فأمر بحاجبيه فعصبا له، ثم رماه، فشك الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته، فاستدارت الحبشة ولاذت به، وحملت عليهم الفرس، فانهزموا وقتلوا، وهربوا في كل وجه. وأقبل وهرز ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبداً، اهدموا الباب، فهدم ثم دخلها ناصباً رايته.

قال ابن إسحاق: فأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين من اليمن اليوم.

قال ابن هشام: طاوس اليماني من هؤلاء الأبناء.

ثم مات وهرز، فأمر ابنه المرزبان على اليمن، ثم عزل وأمر باذان، فلم يزل عليها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وكان ملك الحبشة لليمن قبل ذلك أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم، ثم مسروق، الذي قتله وهرز.

قال: وسبب ملك الحبشة لليمن أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريبة من نجران - ونجران القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها ميمون الراهب، ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة، أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم ووحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال: يا بن أخي، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر؛ كما يختلف إليه الغلمان، فلما رأى عبد الله أن ميمون قد ضن بالاسم الأعظم عليه، وتخوف ضعفه عنه، عمد إلى قداحه فجمعها ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه حتى كتبها في القداح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً حتى إذا مر بالاسم الأعظم، قذف فيها بقدحه، فوثب القدح من النار حتى خرج منها لم تضره النار شيئاً، فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه عنه، فقال له: ما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: أي ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضراء إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله، وتدخل في ديني، وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضراء إلا أتاه فاتبعه على أمره فدعا له فعوفي، فرفع أمره إلى ملك نجران فقال له: أفسدت علي أهل مدينتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، فقال عبد الله: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه نجران - بحور لا يقع فيا شيء إلا هلك - فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه ذلك، قال له عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإن فعلت ذلك استطعت ذلك، فسلطت علي فتقتلني، قال: فوحد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده، فشجه شجة غير كبيرة، فقتله وهلك الملك مكانه.

واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى - عليه الصلاة والسلام - من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هناك كان أصل النصرانية بنجران، هذا حديث محمد بن كعب القرظي برواية محمد بن إسحاق عنه، والله أعلم.

وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل نجران، عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم؛ أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حفر خربة من خرائب نجران ليقضي حاجته؛ فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا تأخرت يداه عنها انبعث دماً، وإذا أرسلت يداه ردهما عليه، فأمسك دمه، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله؛ فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - يخبره، فكتب إليهم عمر أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، ففعلوا.

وفي أنوار التنزيل: روى أن ملكاً كان له ساحر، فضم إليه غلاماً ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب، فسمع الغلام من الراهب، ومال قلبه إليه، فرأى الغلام ذات يوم في طريقه حية قد حبست الناس، فأخذ حجراً، وقال: اللهم، إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها بالحجر، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفى من البلاء، وعمى جليس الملك، فأبرأه، فسأله الملك عمن أبرأه، فقال: ربي، فغضب فعذبه، فدل الغلام على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقد بالمنشار، وأبى الغلام الرجوع عن دينه، فأرسل به إلى جبل ليطرحه من ذروته، فرجف بالقوم، فهلكوا ونجا، فأجلسه في سفينة ليغرق، وقال في المدرك: فذهب به إلى قرقور، فلججوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأت السفينة بمن معه، فغرقوا ونجا، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد، وتصلبني على جذع نخلة، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: باسم رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع السهم في صدغه، فأمسك بيده عليه فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد أوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع عنهم عن دينه، طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي رضيع، فتقاعست، فقال الصبي: يا أماه، قفي ولا تقاعسي؛ فإنك على الحق. فألقى الصبي وأمه في النار.

وفي سيرة ابن هشام: لما تنصر أهل نجران، سار إليهم ذو نواس اليهودي، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخدد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تبارك وتعالى قوله: " قُتِلَ أَصْحَب الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ... " الآيات البروج.

قلت: سمعت من إملاء شيخنا العلامة، الذي لم يحتج لبيان فضله إلى علامة، مولانا الشيخ محمد بن علاء الدين البابلي نظماً عزاه للعلامة السيوطي فيعد من تكلم في المهد، فبلغ بهم عشرة أنفس هو قوله: من الطويل

تكلّم في المهد النّبي محمّدٌ ... ويحيى وعيسى والخليل المكرّم

ومبري جريج ثمّ شاهد يوسفٍ ... وطفلٌ لدى الأُخدود يرويه مسلم

وطفلٌ عليه مرّ بالأمة الّتي ... يقال لها تزني ولا تتكلّم

وماشطةٌ في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم

وبعضهم زاد مريم - عليها السلام - ولم يثبت.

وقول: المبارك يريد الصحابي المشهور والد عبد الله بن المبارك التابعي المشهور. انتهى.

قال ابن إسحاق: وأفلت منهم بعد وقوع التحريق رجل يقال له: ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرميل، فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر، فاستنصره على ذي نواس المحرق لهم صاحب الأخدود وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك، ولكني أكتب لك إلى ملك الحبشة؛ فإنه على هذا الدين - يعني النصرانية - وهو أقرب إلى بلادك.

فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأر قومه، فقدم ذو ثعلبان على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاً منهم يقال له: أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن، ومعه ذو ثعلبان، وسار ذو نواس الحميري في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا، انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس وأصحابه ما نزل به وبقومه، وجه فرسه في البحر، ثم ضربه، فدخل وخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها، فكان آخر العهد به.

ودخل أرياط اليمن، فملكها، وأقام سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي الذي كان من جملة جيشه، فتفرقت الحبشة بينهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما على الآخر، فلما تقارب الناس، أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع إلا أن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً بعد شيء، فابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط يقول: أنصفت، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلاً حكيماً قصيراً - وكان على دين النصرانية - وخرج إليه أرياط، وكان رجلاً جميلاً طويلاً وفي يده حربة له، وخلف أبرهة غلام له يقال له: عيودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة، فضرب بها أبرهة يريد يافوخه، فوقعت على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فلذلك سمى أبرهة الأشرم، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.

فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضباً شديداً، وقال: عدا على أميري، فقتله من غير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فلما بلغ ذلك أبرهة، حلق رأسه وملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعثه إلى النجاشي، وكتب معه: أيها الملك، إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك وكل طاعة لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي؛ ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه في. فلما انتهى ذلك إلى النجاشي، رضي عنه، وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري. فأقام أبرهة باليمن حتى كان ولد ولده أبرهة الذي قصد إلى تخريب الكعبة، فإن أبرهة المذكور جد أبرهة الآتي لتخريب الكعبة، فأصابه ما أصابه مما تقدم ذكره.

ولما استقر سيف بن ذي يزن الحميري باليمن بعد أن دخلها صحبة وهرز الذي أنفذه معه كسرى، وقتل أبرهة الآتي لتخريب الكعبة، واستقر في تخت ملكه، ونزل بقصر غمدان في صنعاء اليمن - أتته وفود العرب من كل صوب للتهنئة، فكان من أعظمهم عبد المطلب في جماعة من وجوه قومه، وكان خروج عبد المطلب ومن صحبه إلى سيف ذي يزن في السنة السادسة من مولده - عليه الصلاة والسلام - قاله ابن الأثير في نهايته، فبشره بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسله.

وذكر العلامة ابن الجوزي في المنتظم في أخبار الأمم العرب والعجم، حديث قدوم سيف بني ذي يزن الحميري فقال: لما ظهر جد سيف على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، أتته وفود العرب ووجوهها وأشرافها وشعراؤها للتهنئة، ثم أتته وفود قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقصي بن عبد الدار بن قصي، وسيف في صنعاء في رأس قصر له يقال له: غمدان.

وغمدان هو القائل فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح سيف بن ذي يزن المذكور قوله: من البسيط

لا يطلب الثّأر إلاّ كابن ذي يزنٍ ... تيمّم البحر للأعداء أحوالا

أتى هرقلاً وقد ساءت إجابته ... فلم يجد عنده النّصر الذي سالا

ثمّ انثنى عند كسرى بعد تاسعةً ... من السّنين يهين النّفس والمالا

حتّى أتى ببني الأحرار يحملهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا

للّه درّهم من فتيةٍ صبرٍ ... ما إن رأيت لهم في النّاس أمثالا

أرسلت أُسداً على وسد الكلاب فقد ... أضحى شديدهم في البأس فلاّلا

فاشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا

هذي المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا

هذي المكارم لا ثوبان من عدنٍ ... خيطا زماناً فعادا بعد أسمالا

أقول: قوله: شالت نعامتهم هو كناية في كلام العرب عن تفرق القوم وتبددهم وذهابهم قتلاً أو موتاً أو غيرهما، والأصل فيه استعماله لتفرقهم بالارتحال خاصة عن منهلهم المورود لهم في محلتهم، فإذا ارتحلوا يقال: شالت نعامتهم، أي: ارتفعت بكرتهم عن النعامة، وهي الخشبة المعترضة على شفير البئر على الزرنوقين، وهما المسميان اليوم قرني البئر، فما دام الحي مجتمعين تكون نعامتهم تلك على منهلهم يستقون بها الماء، فإذا ارتحلوا، رفعوا النعامة فنقلوها إلى منهل آخر؛ فيكون شولها - أي: ارتفاعها - كناية عن رحيلهم، ثم توسع فيه بما ذكر.

وفي القاموس: غمدان - كعثمان - : قصر باليمن بناه يشرخ بن الحارث بن صيفي بن سبأ بن كهلان جد بلقيس - بأربعة وجوه أحمر وأصفر وأبيض وأخضر، وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً انتهى.

فلما وصلوا إليه إذا هو متضمخ بالعنبر ينطف ويبص المسك في مفرق رأسه، وعليه رداءان أخضران متزر بأحدهما مرتد بالآخر، عن يمينه وشماله الملوك وأبناء الملوك والأقيال، فأخبر بمكانهم فأذن لهم فدخلوا عليه، فدنا عبد المطلب واستأذنه في الكلام، فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فتكلم. فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً، باذخاً شامخاً منيعاً، وأنبتك نباتاً طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله وبسق فرعه، في أطيب موطن، وأكرم معدن، وأنت - أبيت اللعن - ملك العرب ونابها، وربيعها الذي به تخصب، ورئيسها الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منه خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ول يمد ذكر من سلفك سلفه، أقدمنا الذي أفرحنا، فنحن وفد التهنئة، لا وفد الترزئة.

فقال له الملك: من أنت أيها المتكلم؟ فقال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن أختنا؟ قال: نعم.

قلت: قول سيف: ابن أختنا يشير به إلى أن عبد المطلب أمه سلمى بنت عمرو من بني النجار، وهم يرجعون إلى حمير.

ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، فأرسلها مثلاً، وكان أول من تكلم بها: ومناخاً سهلاً، وملكاً ربحلاً، يعطى عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف مكانتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، وانهضوا إلى دار الضيافة والفود، فنهضوا، وأجرى عليهم الأنزال، فأقاموا كذلك شهراً لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف، ثم إن الملك انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك يكون لم أبح له به، ولكن رأيتك موضعه، فأطلعتك طلعه، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله - عز وجل - فيه إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي أخذناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبراً عظيماً، وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الممات، للناس كافة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال عبد المطلب: لقد أتيت بخبر أيها الملك، ما سر بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله لسألته عن بشارته إياه ما أزداد به سروراً، فقال الملك: هذا حين الذي يولد فيه ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، والله عز وجل باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداء، ويضرب بهم الناس عن عرضن ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، تخمد به النيران، ويعبد به الرحمن، ويدحر به الشيطان، وتكسر به الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله، فقال له عبد المطلب: عز جارك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك مفصح عنه مزيد إفصاح، فقد وضح بعض الاتضاح، فقال له سيف: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرته لك؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ابن وكنت به معجباً، وعليه رفيقاً، وبه شفيقاً، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت منه بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، فقال له الملك: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة في أن تكون لك الرياسة، فينصبون لك الحبائل، ويبتغون لك الغوائل، وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم من غير شك، ولولا ني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت إليه بخيلي ورجلي حتى أجعل يثرب دار ملكي؛ فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق: أن يثرب دار استحكام أمره، وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات، لأعليت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب كعبه، ولكن صار إليك ذلك ممن معك.

ثم دعا بالقوم فدخلوا، فأمر لكل منهم بعشرة أعبد، وعشرة إماء، وحلتين من حلل البرود، وخمسة أرطال من الذهب، وعشرة أرطال من الفضة، وكرش مملوء عنبراً، ومائة من الإبل، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا جاء الحول، فائتني بما يكون منه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فمات سيف قبل أن يحول عليه الحول، هذا حديث مشهور، ومن أولاد سيف بحمص وعقبهم بها. انتهى.

ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، واسمها قيلة بنت نوفل - وقيل: رقية - وهي أخت ورقة بن نوفل، وذكر البرقي، عن هشام بن الكلبي؛ أن اسمها: فاطمة بنت مر الخثعمية، كانت من أجمل النساء، وكانت قرأت الكتب فرأت النور في وجهه، وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش، فقالت له: هل لك في أن تقع علي ولك مثل الإبل التي نحرت عنك؟ فقال لها: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه، ثم قال لها: من الرجز

أمّا الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه

فكيف بالأمر الّذي تنوينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه

ثم مضى به أبوه حتى أتى وهب بن عبد مناف وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً، فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين من أيام منى في شعب أبي طالب، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها، فأتى المرأة، فقال لها: هل لك فيما قلت بالأمس جلاً؟ قالت: كان ذلك بالأمس، وأما اليوم فلا، فقالت: إني امرأة والله لست بصاحبة ريبة، وإنما رأيت النور الذي كان معك بالأمس، فأردت أن يكون فيّ، فأبى الله أن يجعل إلا حيث شاء إلا حيث شاء، إلا حيث شاء.

فهو محمد رسول الله، ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن نبت - أو نابت - بن إسماعيل بن إبراهيم - هذا على قول من قال: إن عمود النسب المحمدي من نبت أو نابت.

وقال غيره: إن عمود النسب المحمدي قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم؛ وهو الذي رجحه السهيلي؛ كما تقدم - : ابن تارح بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك - أو لامك - ابن متوشلخ بن أخنوخ - أو خنوخ - ابن يرد - أو يارد - ابن مهيائيل - أو مهلائيل - ابن قينان - أو قاين - ابن أنوش بن شيث بن آدم صلوات الله وسلامه عليه.

انتهى المقصد الأول