سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
الباب الثالث من المقصد الثاني
في ذكر أعمامه عليه الصلاة والسلام وأولادهم، وعماته وأولادهن
قال العلامة ابن الجزري في التلقيح: كان عليه الصلاة والسلام له اثنا عشر عماً بنو عبد المطلب، أبوه عبد الله ثالث عشرهم: عبد الله، أبو طالب، الزبير، حمزة، حجل، المقوم، العوام، ضرار، العباس، الحارث، قثم، أبو لهب، مصعب. وقيل: نوفل الملقب بالغيداق. وقال العلامة شمس الدين عبد الدائم بن شرف الدين موسى العسقلاني البرماوي رحمه الله: اثنا عشر فعدهم: الحارث أول أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى فيقال: يا أبا الحارث، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوم، وحجل - واسمه المغيرة - والغيداق، وقثم مات صغيراً، وضرار، وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وحمزة، والعباس، وهما اللذان أسلما من أعمامه.
وقال العلامة الطبري في كتابه ذخائر العقبى، في مناقب ذوي القربى: أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر: عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحارث، وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير، وحمزة، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، وقثم، وعبد الكعبة، وجحل بتقديم الجيم وهو السقاء الضخم. وقال الدراقطني: بتقديم الحاء مكسورة قبل الجيم الساكنة، وهو القيد والخلخال، ويسمى المغيرة. وقيل: كانوا اثنى عشر فأسقط المقوم، وقيل: هو لقب عبد الكعبة. وقيل: كانوا أحد عشر فأسقط الغيداق وحجل، وقيل: عشرة، وقيل: تسعة، كلهم ماتوا قبل البعثة إلا أربعة: أبو طالب وأبو لهب والحمزة والعباس، أسلم الأخيران بلا خلاف واختلف في إسلام أول الأولين. وست عمات: البيضاء بنت عبد المطلب تكنى بأم حكيم، ودرة، وعاتكة، وأروى، وأمية، وصفية. وسيأتي ذكرهن وذكر من ولدن، بعد ذكر الذكور من أبنائه وأبنائهم قريباً.
ولنذكر أعمامه جميعاً، ونبدأ بتقديم حمزة والعباس على غيرهما، وإن كان أكبر كالحارث بن عبد المطلب، فإنه - كما تقدم - أكبر أولاد عبد المطلب، لأن الإسلام قدمهما فنقول: أما حمزة فأمه هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، أسلم في السنة الثانية من البعث بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، وقبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة، فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلاً من أذاها، فقال حين أسلم هذه الأبيات: من الوافر
حمدتّ الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدّين الحنيف
لدينٍ جاء من ربّ عزيزٍ ... خبيرٍ بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمع ذي اللبّ الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآياتٍ مبيّنة الحروف
وأحمد مصطفىً فينا مطاعٌ ... فلا تغشوه بالقلب العنيف
فلا والله نسلمه لقومٍ ... ولمّا نقض فيهم بالسّيوف
وشهد بدراً وقتل بها شيبة بن ربيعة مبارزة. وأول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم كانت لحمزة في أول سرية بعثها؛ أرسله يعترض عيراً لقريش فيها أبو جهل بن هشام، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، كما سيأتي ذكر ذلك في باب: الحوادث من سنة هجرته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: خير أعمامي حمزة رواه الحافظ الدمشقي.
وقصة سبب إسلامه ذكرها صاحب تاريخ الخميس وغيره، وهي أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً عند الصفا، فمر به أبو جهل - لعنه الله - فشتمه وآذاه، وقال فيه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان القرشي التيمي في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف أبو جهل عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنصه، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من أندية قريش إلا وقف وسلم. فلما مر بالمولاة - وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته - قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت اليوم ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم بن هشام، وجده فآذاه وسبه، وبلغ به ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله تعالى به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف على أحد مغذاً لأبي جهل أن يوقع به فعلاً.
فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة عظيمة فقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فاردد علي ذلك إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبا جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وتم حمزة على إسلامه ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم، وأنشد حمزة تلك الأبيات السابقة.
وكان إسلام حمزة يوم ضرب أبو بكر، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الأرقم وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر، إنا قليل، فلم يزل يلح عليه حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نواحي المسجد، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله، فثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ووطىء أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه عتبة بن ربيعة وأدخل إصبعه في عينه، وجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما بوجهه، وأثر ذلك على وجه أبي بكر رضي الله عنه حتى صار لا يعرف.
وجاءت بنو تيم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحمل أبو بكر في ثوب حتى أدخلوه بيته ولا يشكون في موته، فرجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن قتل أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، ورجعوا إلى أبي بكر، وجعل أبوه أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم آخر النهار فقال: ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا لأم الخير: انظري تطعمينه شيئاً أو تسقينه إياه. فلما خلت به وألحت عليه جعل يقول: ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما لي علم بصاحبك. قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت إلى أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمداً، وإن تحبى أن أمضى معك إلى ابنك. فقالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فرنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينقم الله لك.
قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قالت: هو صالح سالم. قال: فأنى هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله على ألا أذوق طعاماً ولا شراباً أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلنا حتى هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجنا به يتكىء حتى أدخلناه على النبي صلى الله عليه وسلم. فأكب عليه فقبله وأكب عليه المسلمون، ورق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه رقة شديدة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه امرأة برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله تعالى، وادع لها عسى أن يستنقذها الله بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله عز وجل فأسلمت.
وأقاموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً وهم تسعة وثلاثون رجلاً فأسلم حمزة ذلك اليوم ورجع، وكان له من الولد ذكران وأنثى: عمارة وبه يكنى، ويعلى. وكان - أيضاً - يكنى به قليلاً ولم يعقبا، والأنثى: فاطمة، تزوجها عمرو بن سلمة المخزومي، ربيبه عليه الصلاة والسلام، ابن أم سلمة زوجته عليه الصلاة والسلام، وأمها زينب بنت عميس، أخت أسماء بنت عميس واستشهد حمزة رضي الله عنه في وقعة أحد؛ قتله وحشي، غلام لجبير بن مطعم بن عدي، وعده العتق على قتله حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي، فقتله غيلة لا مبارزة.
وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة؛ كيف ينجو حتى أنه مات غريقاً في الخمر رواه الدارقطني على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغني أن وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان. وكان عمر يقول لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. ولما رأى صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلاً بكى، فلما رأى ما مثل به شهق. وذلك أن هند ابنة عتبة بن ربيعة لما قتل أباها وعمها وأخاها: أبو عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي مبارزة لم تزل هي والنسوة اللاتي كن معها يوم أحد يجدعن آناف القتلى وآذانهم، ونظمت من ذلك أساور ومخانق وخلاخل، وأعطت أساورها ومخانقها وخلاخلها لوحشي، ثم عمدت إلى بطن حمزة فشقتها وأخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع سيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة ثم أنشدت: من الرجز
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشيّ غليل صدري
فشكر وحشيّ عليّ عمري ... حتّى ترمّ أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت: من الرجز
خزيت في بدرٍ وبعد بدر ... يا ابنة وقّاعٍ عظيم الكفر
صبّحك الله غداة الفجر ... في الهاشمّيين الطّوال الغرّ
بكلّ قطّاعٍ حسامٍ يفرى ... حمزة ليثي وعليٌّ صقري
إذ رام شيبٌ وأبوك غدري ... فخضّبا منه ضواحي النّحر
ونذرك السّوء ... فشرّ نذر
وقد ذكرها صلى الله عليه وسلم بذلك حين أسلمت وبايعت يوم فتح مكة فقال: أنت هند؟ فبايعته بيعة النساء المشار إليها في الآية " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً " الممتحنة إلى آخر هذه الآية كما تقدم ذكر جميع ذلك. وعن أبي هريرة: وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة وقد قتل ومثل به، فلم ينظر منظراً كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمرو وصاحب الصفوة.
وعن ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على عمه حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: يا حمزة، يا عم رسول الله وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف البركات، يا ذاباً عن وجه رسول الله - والنشغ: الشهيق - حتى بلغ به الغشى. ثم قال: لئن أمكنني الله تعالى لأمثلن بسبعين من قريش. فأنزل الله تعالى عليه آخر سورة النحل " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ " النحل إلى آخر السورة. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أصبر وأحتسب عندك مصيبتي.
وقوله تعالى في الآية " وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ " النمل قيل: لا تحزن على هؤلاء القتلى؛ فإنهم شهداء الدارين، أو: لا تحزن على عدم إيمان قريش؛ فيكون الضمير لهم، قيل: وهو الأولى؛ لأنه هو الذي يقتضيه ما بعده وهو " وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ " النمل لعدم تفرق الضميرين على الثاني دون الأول. قاله بعض محشي البيضاوي.
وصلى عليه فكبر سبعين تكبيرة، رواه البغوي في معجمه. وقد روى أنس بن مالك: أن شهداء أحج لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم، أخرجه أحمد وأبو داود، فيحمل أمر حمزة على التخصيص.
وكان سن حمزة يوم قتل تسعاً وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد في سفح أحد حيث الوقعة، رضي الله عنه، وكان له من الولد عمارة، أمه خولة بنت قيس بن فهر النجاري، ويعلى. قال مصعب: لم يعقب واحد منهما، ولم يحفظ عن أحد منهما رواية. وولد ليعلى خمسة رجال وماتوا عن غير عقب. وابنة اسمها فاطمة - وقيل اسمها أمامة - من زينب بنت عميس الخثعمية، تزوجها عمر بن أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن زوجته أم سلمة، وهي التي اختصم في حضانتها علي وجعفر وزيد: فقال علي: ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي كذلك، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم، وفيه دلالة على أن من نكحت لا يسقط حقها من الحضانة. وعن علي: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج ابنة حمزة؛ فإنها أحسن فتاة في قريش؟ فقال: أليس قد علمت أنها ابنة أخي من الرضاعة، وأن الله عز وجل قد حرم بالرضاعة ما حرم من النسب أخرجه البغوي في معجمه. انتهى وأما العباس بن عبد المطلب وكنيته أبو الفضل، فأمه نثلة ويقال نثيلة بنت جناب ابن كلب بفتح الجيم وتشديد النون بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت بالديباج. وسبب الكسوة أن العباس ضل وهو صبي، فنذرت إن وجدته لتكسون البيت. وكان العباس جميلاً وسيماً أبيض، له ضفيرتان، معتدلاً، وقيل: كان طوالاً.
ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، وكان رئيساً في قومه، وإليه عمارة المسجد الحرام. وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصار، وكان عليه الصلاة والسلام يثق به في أمره كله، ولما شدوا وثاقه في أسرى بدر سهر صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، فقيل ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: أنين العباس. فقام رجل فأرخى من وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة.
وقيل: كان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال عليه الصلاة والسلام: من لقى منكم العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرهاً. فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة. وروى من حديث أبي اليسر: أنه أسر العباس. وقيل للعباس - وكان جسيماً - كيف أسرك وهو دميم الخلقة، ولو شئت لجعلته في كفك؟ فقال: ما هو إلا أن لقيني فظهر في عيني كالخندمة. انتهى. قلت: الخندمة، بالخاء المعجمة، جبل من جبال مكة معروف، قاله في القاموس.
وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك - عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث - وحليفك عقبة بن عمرو. وقال: إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني. قال: صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما تقول، إن يك ما تقول حقاً فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وذكر موسى ابن عقبة: أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهباً. وفي رواية من حديث ابن عباس: أنه جعل على العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين. فقال العباس. القرابة صنعت هذا. فأنزل الله تعالى " يَأَيُهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ " الأنفال فقال العباس بعد ذلك: وددت لو كنت أخذ مني أضعافها لقوله تعالى " يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ".
وكان العباس - فيما قاله أهل العلم بالتاريخ - قد أسلم قديماً وكان يكتم إسلامه. وقيل: إنه أسلم يوم بدر. وسبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى عليه الصلاة والسلام وقال: أما شيء خرجت تعين به علينا فلا نتركه كذلك. فقال العباس: تركتني فقيراً أتكفف الناس. وفي رواية: قريشاً. فقال عليه الصلاة والسلام: فأين الذهب الذي دفنته أنت وأم الفضل تحت رجل السرير وقت خروجك من مكة؟ فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني ربي. فقال العباس: أشهد أنك صادق؛ فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ثم أقبل إلى المدينة مهاجراً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء، وكان أبو اليسر معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة.
وقال عمرو: أسلم قبل فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله به على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنيناً والطائف وتبوك. ويقال - أيضاً - : إن إسلامه كان قبل بدر أيضاً، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: إن مقامك بمكة خير لك. وذكر السهيلي في الفضائل: أن أبا رافع لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه.
خبر أبي رافع: اسمه أسلم. وقال ابن معين: اسمه إبراهيم. وقيل هرمز. كان عبداً قبطياً فوهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه لما بشره بإسلام العباس، فكان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر إلى مكة سأله أبو لهب - وكان قد تخلف عن الخروج إلى الحرابة فلم يشهد بدراً - عن خبر قريش فقال له أبو سفيان: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا. وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء. قيل: وكان جلوسهما للمحادثة بهذا الأمر عند خباء العباس جنب زمزم. قال: فلما سمع ذلك أبو رافع وكان في الخباء ينحت أقداحاً له، قال: وكان الإسلام قد دخلنا، فرفعت طرف الخباء فقلت: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي، ثم احتملني فضرب بي الأرض. فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به رأس أبي لهب، وقالت: استنقصته أن غاب عنه سيده:! فقام منكسراً، فوالله ما عاش سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة، وهي قرحة كانت العرب تتشاءم بها، وأنها تتعدى أشد العدوى؛ فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله بها، وبقي بعد موته ثلاثاً لا تقرب جنازته ولا تدفن. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، ثم قذفا عليه بالحجارة من بعيد، كذا. ورواه كذا في الروض الأنف. قلت: في حفظي عن كبار مشايخي أن محل الحفرة التي ألقى فيها أبو لهب هي الآن محطة العجم من سوق المعلاة. والله أعلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه صلى الله عليه وسلم فقال: أجود الناس وأحناهم عليهم. رواه الفضائلي. في معجم البغوي: العباس عمي، وصنو أبي، من آذاه فقد آذاني. وذكر السهيلي في الفضائل: أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قام إليه وقبل بين عينيه ثم قال: هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه فقال العباس: نعم القول يا رسول الله قلت. قال ولم لا أقول هذا وأنت عمي، وصنو أبي وبقية آبائي، ووارثي خير من أخلف من أهلي.
وقال عليه الصلاة والسلام: يا عم، لا ترم منزلك أنت وبنوك غداً حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة. فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من الناس كستري إياهم بملاءتي هذه قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت. رواه ابن غيلان والسهمي، ورواه ابن السري، ورواه ابن الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ: فألبسنا كساء ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً. اللهم احفظه وولده وقال: حسن غريب.
وعن ابن عبد الباقي من حديث أبي هريرة: اللهم اغفر للعباس وولد العباس ولمن أحبهم. وروى البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: لك يا عم من الله حتى ترضى وروى السهمي في الفضائل: أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس، إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحداً من ولدك ! وفي المناقب للإمام أحمد - رضي الله عنه - أن العباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة قال: هل ترى في السماء؟ قلت: نعم، قلت: الثريا. قال: أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صلبك. وروى السهمي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا أبشرك يا عم؟ قلت: بلى، بأبي أنت وأمي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء.
ومن حديث أبي هريرة: فيكم النبوة والمملكة ومن حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا بكر، هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض، وسيلبس ولده من بعده السواد وعن جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن من ولد العباس ملوك يكونون أمراء أمتي يعز الله بهم الدين. قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر خرجه الأصفهاني.
وتوفي رضي الله عنه في خلافة عثمان قبل مقتله بسنتين بالمدينة الشريفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة - وقيل: لأربع عشرة - ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وثلاثين من الهجرة، بعد أن كف بصره وهو ابن ثمان وثمانين سنة، أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابنه عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما.
وفي البخاري: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة الشريفة قال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر وهذا يؤيد معنى ما روى: نية المرء خير من عمله فإن نية هؤلاء أبلغ من أعمالهم؛ فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم، فالمسابقة إلى الله وإلى الدرجات العلى بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال. ولما أشرف عليه الصلاة والسلام على المدينة قال: هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه.
ولما دخل قال العباس: يا رسول الله قد امتدحتك فائذن لي. قال: قل لا يفضض الله فاك. فقال: من المنسرح
من قبلها طبت في الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثمّ هبطت البلاد لا بشرٌ ... أنت ولا مضغةٌ ولا علق
بل نطفةٌ تركب السّفين وقد ... ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالبٍ إلى رحمٍ ... إذا مضى عالمٌ بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء دونها النّطق
وردت نار الخليل مكتتماً ... في صلبه أنت كيف يحترق
وأنت لمّا أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأُفق
فنحن في ذلك الضّياء وفي الن ... نور وسبل الرّشاد نخترق
وعالياً قدرك الرّفيع وفي ... معناك حسنا يميلها النّسق
قدّاً تثنّيك والقوام إذاً ... غصناً رطيباً قوامك الرّشق
ووجهك البدر إذ يضىء ومن ... شعرٍ لك الّليل يحلك الغسق
أضاء منك الوجود نور سناً ... وفاح مسكاً نسيمك العبق
قوله من قبلها إضمار قبل الذكر لظهور المعنى، وهو وارد في كلامهم كثيراً، والمراد بها الدنيا أو الأرض، أي: كنت طيباً في صلب آدم حيث كان في الجنة. وقوله: تركب السفين يريد به: حال كونه في صلب أبيه نوح؛ فإنه الراكب السفين. وقوله ألجم نسراً يريد به: الذي كان يعبده قوم نوح. والنطق: جمع نطاق، وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض، أي: نواحي وأوساط منها، شبهت بالنطق التي تشد في الأوساط، ضربه مثلاً في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال. قوله حتى احتوى بيتك أراد به: شرفه ومجده صلى الله عليه وسلم الشاهد على فضله، أي: احتوى أعلى مكان من نسب خندف؛ إشارة إلى القبيلة. وهذا الاسم - أعني خندف - لزوجة إلياس بن مضر، واسمها سلمى بنت عمران بن الحاف بن قضاعة، وله قصة تقدمت، سميت القبيلة بها فقيل خندف ومنها ما هنا. انتهى.
وكان له من الذكور تسعة، وقيل: عشرة، ومن الإناث ثلاث: الفضل وبه كان يكنى، وعبد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، وأم حبيب. والثانية والثالثة: صفية، وأمينة من أمة. وأم هؤلاء - ما عدا صفية وأمينة - لبابة الكبرى، الهلالية، أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، روى أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة. وكثير وتمام شقيقان أمهما أم ولد، والحارث بمفرده من أم هذلية، وعون هو العاشر على الرواية الثانية. وروى صبيح ومسهر ولم يتابع عليهما ابن الكلبي قتل هذا الحارث سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وقيل: مات في طاعون عمواس، وهو أول طاعون في الإسلام بالشام سنة ثمان عشرة في خلافة عمر، وقيل: قتل يوم اليرموك في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه.
أما الفضل بن العباس فكان أكبر أولاد العباس وبه كان يكنى، لم يزل اسمه جاهليةً وإسلاماً، وكان أجمل الناس وجهاً. ولما دفع عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى أردفه فمر ظعن يجرين، فجعل الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر، فحول النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الشق الآخر. أخرجه مسلم. وفي رواية غيره: قال العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله. قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما.
شهد الفضل فتح مكة، وغزا حنيناً وثبت يومئذ، وشهد حجة الوداع. وهو الذي كان يصب الماء في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية، وعلي يغسله. استشهد بأجنادين، بلد من نواحي دمشق، في وقعة بين المسلمين والروم، أميرها عمرو ابن العاص وأبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، كل منهم على طائفة. وقيل: بطاعون عمواس. ولم يخلف غير ابنة تزوجها بعد الحسن بن علي أبو موسى الأشعري فولدت له موسى، ومات عنها فتزوجها عمر بن طلحة بن عبيد الله. ويقال: خلفت أيضاً ابناً اسمه عبد الله، ولم يثبت ذلك. انتهى.
وأما عبد الله فهو الحبر، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه، ودعا له: اللهم بارك فيه وانشر منه - أو أكثر - وعلمه الحكمة وسماه ترجمان القرآن. وروى أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقيل: وأنا ابن خمس عشرة. وكان طويلا، أبيض مشرباً بالشقرة، جسيماً وسيماً صبيح الوجه، شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان، وقالت أمه: لما وضعته أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وحنكه من ريقه، وسماه عبد الله. ثم ناولنيه فقال: اذهبي بأبي الخلفاء. رواه ابن حبان وغيره.
وقد ملأ عقبه الأرض، حتى قيل: إنهم بلغوا في زمن المأمون ستمائة ألف واستبعد. كذا في المواهب.
توفي - رضي الله عنه - بالطائف سنة ثمان وستين - أيام ابن الزبير - وهو ابن أربع وسبعين سنة، وقيل: سبعين، وقيل: إحدى وسبعين. وصلى عليه محمد بن الحنفية وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، وضرب على قبره فسطاطاً.
قال العلامة جمال الدين محمد الشامي في سيرته: أخرج الطبراني عن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: بدت لنا معشر الأنصار حاجة إلى الوالي - وكان الذي طلبنا إليه أمراً صعباً - فمشينا إليه برجال من قريش وغيرهم فكلموه، وذكروا له وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فذكر لهم صعوبة الأمر، فعذره القوم، وألح ابن عباس عليه، فوالله ما وجد الوالي بداً من قضاء حاجته. فخرجنا فإذا القوم أندية. قال حسان: فضحكت وأنا أسمعهم، إنه والله كان أولاكم بها، إنه والله صبابة النبوة، ووراثة أحمد، وتهذيب أعراقه، وأسرع شبه طباعه. فقال القوم: أجمل بها حسان، فقال ابن عباس: صدقوا فأجمل. فأنشأ حسان يمدح ابن عباس رضي الله عنهم: من الطويل
إذا ما ابن عبّاس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ معمعةٍ فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بملتقطاتٍ لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربةٍ في القول جدّاً ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّةٍ ... ونلت ذراها لا دنيّاً ولا وغلا
خلقت طبيعا للمروءة والنّدى ... مليحاً ولم تخلق كهاماً ولا جبلا
فقال الوالي: ما أراد بالكهام غيري، والله بيني وبينه. انتهى مروياته رضي الله عنه ألف وستمائة وستون حديثاً.
وكان له من الولد سبعة: خمسة ذكور، والسادس والسابع أنثيان: العباس، وعلي، والفضل، ومحمد وعبيد الله، ولبابة، وأسماء. وأما عبيد الله فقيل: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، استعمله علي بن أبي طالب على اليمن، وأمره على الموسم فحج بالناس سنة ست وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وأربعين بعثه أيضاً على الموسم، وبعث معاوية ذلك العام يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج. فلما اجتمعا سأل كل منهما صاحبه أن يسلم له فأبى، واصطلحا على أن يصلي بالناس شيبة بن عثمان الحجبي.
وروى أن معاوية بعث بسر بن أرطأة العامري إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس هذا من قبل علي، فتنحى عبيد الله، واستولى بسر عليه، فبعث علي - رضي الله عنه - جارية بن قدامة السعدي؛ فهرب بسر، ورجع عبيد الله بن عباس فلم يزل عليها حتى قتل علي. وكان عبيد الله هذا أحد الأجواد المشهورين، كان يقال: من أراد الجمال والعفة والسخاء فليأت ولد العباس: الجمال للفضل، والعفة لعبد الله، والسخاء لعبيد الله. مات عبيد الله بالمدينة سنة ثمان وخمسين.
وأما عبد الرحمن بن عباس ومعبد فولدا على عهده صلى الله عليه وسلم، وقتلا شهيدين بإفريقية في خلافة عثمان مع عبد الله بن أبي سرح سنة خمس وثلاثين، واستعمل الثاني منهما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه على مكة. ويقال: ما من إخوة أشد تباعد قبور من بني العباس: الفضل بدمشق، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، وعبد الرحمن ومعبد بإفريقية، وقثم بسمرقند.
وأما قثم فهو أحد السبعة المشبهين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو لدة الحسن بن علي ورضيعه. وعن ابن عباس: أنه كان له ابن يقال له: قثم، يضعه على صدره وهو يقول: من الرجز
خير البنين ذا قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم
نبيّ ربٍ ذي نعم ... برغم أنف من رغم
وقثم هذا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر من خرج من قبره من نزل فيه. وقيل: إن المغيرة بن شعبة آخر من خرج من قبره عليه الصلاة والسلام ممن نزل فيه؛ لأنه ترك خاتمه في القبر فلما خرج قال: نسيت خاتمي، فنزل ثانياً فكان آخر الناس عهداً به عليه الصلاة والسلام. وأنكر كونه آخراً ابن عباس فقال: آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم أخي قثم بن العباس. وولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكة زمن معاوية وأبي قتادة الأنصاري فلم يزل عليها حتى قتل علي رضي الله عنه وكرم وجهه، ثم خرج إلى سمرقند مع سعيد بن عثمان زمن معاوية - فاستشهد بها وقبره في قبة عالية تعرف بمزار شاه زنده يعني السلطان الحي - خارج سور سمرقند.
وأما كثير بن عباس: فأمه أم ولد، رومية اسمها سبا، وقيل: حميرية. ولد قبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - بأشهر - وكان فقيهاً فاضلاً ذكياً، روى عنه الأعرج وابن شهاب الزهري.
وأما تمام: فأمه وأم أخيه قبله واحدة وهي سبا الرومية أو الحميرية. روى عنه عليه الصلاة والسلام: لا تدخلوا علي قلحاً، استاكوا، فلولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولاه علي رضي الله عنه المدينة، وكان قد استخلف قبله سهيل بن حنيف حين توجه إلى العراق، ثم عزله واستجلبه لنفسه، ووفي تماماً ثم عزله، وولي أبا أيوب الأنصاري ثم أشخص أبا أيوب الأنصاري واستخلفه، فلم يزل تمام والياً فيها إلى أن قتل علي. وكان تمام أشد الناس بطشاً، وله عقب.
قال أيوب بن بكار: كان للعباس عشرة بنين ستة منهم من أم الفضل، لبابة الهلالية، فيهم يقول يزيد الهلالي: من الرجز
ما ولدت نجيبةٌ من فحل ... كستّةٍ من بطن أُمّ الفضل
أكرم بها من ... كهلةٍ وكهل
وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن. وقد تقدم أنهم أشقاء، وهم ستة سابعتهم أم حبيبة شقيقتهم.
وأما عون: فقال ابن عمرو: لم أقف على اسم أمه، وأصغرهم سناً تمام. وكان العباس أبوه يحمل ويقول: من الرجز
تمّوا بتمّام فصاروا عشره ... يا ربّ فاجعلهم كراماً برره
واجعل لهم ذكراً ... وأنم الشّجرة
وأما الإناث من أولاد العباس فثلاث: أم حبيب، وقد روى من حديث أمها أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو بلغت أم حبيب بنت العباس وأنا حي لتزوجتها فتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ، فتزوجها الأسود بن عبد الأسد، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، فولدت له رزق بن الأسود. ولبابة وصفية وأمينة، تزوج أمينة عباس بن عيينة بن أبي لهب؛ فولدت له الفضل الشاعر، ولا رواية لها ولا لصفية، وهي الثالثة من بنات العباس.
وروى الطبري في ذخائر العقبى ابنة رابعة للعباس تسمى أم كلثوم، وروى عنها وعن أختها أم حبيب محمد بن إبراهيم التيمي.
وأما أبو طالب فاسمه عبد مناف. ولما مات جده عبد المطلب كافله، كان له عليه الصلاة والسلام من العمر ثمان سنين، كفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب؛ لكونه شقيق والده عبد الله. وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة عن عطرفة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب وألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه - وما في السماء قزعة - فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي وفي ذلك يقول أبو طالب: من الطويل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
وهو من قصيدة نحو ثمانين بيتاً، قالها لما تولت عنه وتمالأت عليه قريش، ونفروا عنه عليه الصلاة والسلام. وأولها: من الطويل
ولمّا رأيت القوم لا ودّ عندهم ... وقد قطّعوا كلّ العرى والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ ... وأبيض عضبٍ من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعبد منافٍ انتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمرنا كلّ واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل
أعوذ بربّ النّاس من كلّ طاعن ... علينا بسوءٍ أو ملحٍّ بباطل
وثورٍ ومن أرسى ثبيراً مكانه ... وراق ليرقى في حراءٍ ونازل
وبالبيت حقاً حلّ في بطن مكّةٍ ... وبالله إنّ الله ليس بغافل
لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّبٌ ... لدينا ولا يعنى بعوراء باطل
كذبتم وبيت اللّه نُبزي محمّداً ... ولمّا نطاعن عنده ونناضل
ونسلمه حتّى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قومٌ في الحديد إليكم ... نهوض الرّوايا تحت ذات الصّلاصل
وينهض قومٌ نحوكم غير عزّلٍ ... ببيضٍ حديثٍ عهدها بالصّياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاّك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في رحمةٍ وفواضل
لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمدٍ ... وإخوته دأب المحبّ المواصل
فمن مثله في النّاس أيّ مؤمّلٍ ... إذا قاسه الحكّام عند التّفاضل
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائشٍ ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
وميزان حقٍّ ما يعول شعيرةً ... ووزّان حقٍّ وزنه غير عائل
فوالله لولا أن أجىء بسبّةٍ ... تجرّ على أشياخنا في المحافل
لكنّا اتّبعناه على كلّ حالةٍ ... من الدّهر جدّاً غير قول التّهازل
فأصبح فينا أحمدٌ ذا أرومةٍ ... تقصّر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دوهه وحميته ... ودافعت عنه بالذّرا والكلاكل
جزى الله عنّا عبد شمسٍ ونوفلاً ... عقوبة شرٍّ عاجلٍ غير آجل
قلت: لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام فنقلتها منه ولله الحمد.
وقوله: ذات الصلاصل: رأيت في تاريخ التقي الفاسي رحمه الله ما نصه: بئر صلاصل في الجانب الذي يكون على يمين الصاعد إلى منى، ولعل ذلك نسبتها إلى صلصل بن أوس بن مجاسر بن معاوية بن شرف من بني عمرو بن تميم؛ لأن الفاكهي روى بسنده عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، قال: كانت العرب في أشهر الحج على ثلاثة أهواء: منهم من يفعل المنكر، وهم المحلون الذين يحلون الأشهر الحرم فيغتالون فيها ويسرقون، ومنهم من كان يكف عن ذلك، ومنهم أهل هوى شرعه لهم صلصل بن أوس بن مجاسر المذكور، في قتال المحلين. ثم قال بعد أن ذكر المحرمين: وكانوا يسمونهم الصلاصل؛ لأن صلصل شرع ذلك لهم، وكانوا ينزلون على بئر قرب منى ثم يتفرقون على الناس منها، وكانت البئر تسمى بئر صلصل، انتهى.
قلت: قول أبي طالب تحت ذات صلاصل يعنيها؛ كأنه يريد تشبيه القوم الثائرين للمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك القوم النازلين عند البئر، ويكون وجه الشبه الجرأة والإقدام إن كانت الرواية بالزاي المعجمة في الزوايا جمع زوية للجماعات الكامنين هناك. وإن كانت الرواية بالراء المهملة فيها فيكون وجه التشبيه الثقل بالحديد والسلام كثقل الروايا بالماء القراح. وهذه البئر هي المسماة الآن عند العامة بئر صراصر، براءين مهملتين، وهي معروفة، انتهى. ومعنى نناضل هنا: نناظر ونجادل ونخاصم. ونبزى، بضم النون والباء ساكنة، أي: نقهره ونغلب عليه.
وأنشأ أبو طالب أبياتاً منها قوله من الطويل
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
فقال حسان وضمن ذلك: من الطويل
ألم تر أنّ الله أرسل عبده ... بآياته والله أعلى وأمجد
أغرّ عليه للنّبوّة خاتمٌ ... من الله مشهورٌ يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ ... من الدّين والأوثان في الأرض تعبد
وأرسله ضوءاً منيراً وهادياً ... يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
قال العلامة ابن التين: في شعر أبي طالب دلالة على أنه كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره بحيرا الراهب وغيره من شأنه. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر كان بعد البعث، ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه الصلاة والسلام جاءت في كثير من الأخبار.
قال الذهبي: قال محمد بن إسحاق: أتت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أعز فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه لك ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك؛ فقد أفسد أحلامنا وعاب آلهتنا، وخالف دينك ودين آبائك نقتله، فإنما رجل كرجل. فقال: والله بئسما تأمرونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً. فقال: والله ما أنصفوا، ولكنك قد أجمعت على خلافي ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم. فقال أبو طالب: من الطويل
ألا قل لعمرو والوليد ومطعمٍ ... ألا ليت حظّي من حياطتكم بكر
من الخور صخّابٌ كثيرٌ رغاؤه ... يرشّ على السّاقين من بوله قطر
أرى أخوينا من أبينا وأُمّنا ... إذا سئلا قالا: إلى غيرنا الأمر
أخصّ خصوصاً عبد شمس ونوفلاً ... هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر
وفي حياة الحيوان: مات أبو طالب في نصف شوال من السنة العاشرة من البعثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن سبع وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً، وأبو طالب ابن بضع وثمانين سنة. وقال ابن الجوزي: قبل هجرته بثلاث سنين.
روى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أخاه العباس وعبد الله بن أمية وأبا جهل بن هشام، فقال: يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه. ويقول له أبو جهل: أترغب.... إلى آخره، فلما رأى حرص النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي، والله لولا مخافة قريش أن تقول إني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها. فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه فسمعه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها. فقال صلى الله عليه وسلم: لم أسمعه. كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت.
ورواه البيهقي في الدلائل من طريق يونس بن بكير، لكن قال: إنه منقطع. والحديث أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه حتى قال: آخر ما كلمهم به أبو طالب قوله: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك. فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: " مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى " التوبة وأنزل الله في أبي طالب: " إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ " القصص وفي مسند الإمام أحمد من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبة العرنى، قال: رأيت علي بن أبي طالب ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه. ثم سئل بعد فقال: ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن والله لا تعلوني استى أبداً. فذكرت ذلك فضحكت تعجباً من قول أبي. انتهى. ذكره الذهبي في تاريخه وفي الصحيح: إن ابن عباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح منها. وروى البخاري حديث الضحضاح، ولفظه: ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، في ضحضاح من نار، منعل نعلين من حديد يغلي منهما دماغه. قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أبا طالب بعد موته بيده الشريفة وأنسى باطن قدميه فلم يمسحهما، فكان مس العذاب لهما وذلك أنه لما ثبت قدماه ثبوتاً معنوياً على الشرك كان العقاب عليهما. قال ابن عباس رضي الله عنهما: عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وصلتك رحم وجزاك الله خيراً يا عم.
وفي معالم التنزيل: الكفر أربعة أنواع: كفر الإنكار، وكفر الجحود، وكفر النفاق، وكفر العناد. أما كفر الإنكار فهو ألا يعرف الله بالقلب ولا يعترف باللسان. وأما كفر الجحود فهو أن يعرف الله بقلبه، ولكن لا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل. قال تعالى: " فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ " البقرة أي: جحدوا وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب. وأما كفر العناد فهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه، ولكن لا يدين به ولا يكون منقاداً مطيعاًن ككفر أبي طالب؛ فإنه قال في شعر له: من الكامل
ولقد علمت بأنّ دين محمّدٍ ... من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذاري سبّةٍ ... لوجدتّني سمحاً بذاك مبينا
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتذى أُوسّد في التّراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةٌ ... واجهر وقرّ بذاك منك عيونا
وجميع الأنواع الأربعة سواء في أن الله تعالى لا يغفر لأصحابها إذا ماتوا عليها، نعوذ بالله منها.
وحكى عن هشام بن السائب الكلبي - أو أبيه - أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه، وإني أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به. وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر، والأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره؛ فخاض بهم غمرات الموت؛ فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، فإذا أعظمهم إليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده. قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطت له قيادها. يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحرمه حماة، والله لا يسألك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سع. ولو كان لنفسي مدة، ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي ثم هلك، ودفن بصدر الشعب أعلى الحجون.
وجملة أولاده أربعة ذكور وأنثيان، أكبرهم طالب وبه كان يكنى، ثم ولد له بعد عشر سنين عقيل، ثم بعد عشر سنين جعفر، ثم بعد عشر سنين علي. والأنثيان هند أو فاختة، وتكنى بأم هانىء؛ بابن كان لها اسمه هانئ، والأخرى جمانة. وأما طالب فهو القائل: من الرجز
لاهمّ إمّا يغزونّ طالب ... في عصبةٍ مخالفٌ محارب
في مقنبٍ من تلكم المقانب ... فليكن المسلوب غير السّالب
وليكن المغلوب ... غير الغالب
قال هذا الشعر عند خروج قريش لمنع العير في وقعة بدر، ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي وقعة بدر الكبرى. وكان بين طالب في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد صلى الله عليه وسلم. فرجع طالب إلى مكة فقال هذه الأبيات.
قلت: لم أفهم معنى هذه الأبيات، وهي كما تراها، نقلتها من نسخة قديمة من سيرة ابن هشام، تاريخ كتبها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، مصححة مقروءة، فلا غلط في اللفظ ولا تصحيف، إلا أن المعنى يحتاج إلى تبيين وتوقيف، إذ المغلوب غير الغالب، والمسلوب غير السالب، ولم يظهر لي وجه في صحة المعنى. إلا أن تكون لفظة غير مصحفة من لفظة عين؛ فيكون هكذا: فليكن المسلوب عين السالب بنصب المسلوب على أنه خبر كان متوسطاً واسمها عين، فيكون دعاء منه على قريش بالسلب لهم والغلبة عليهم انتهى.
قال المحب الطبري في الرياض النضرة، في مناقب العشرة: عن أبي الحجاج مجاهد بن جبير قال: كان من نعم الله تعالى على علي بن أبي طالب، ومما أراد الله به من الخير، أن قريشاً أصابتهم شدة ومجاعة، وكان أبو طالب في مبدأ أمره مقلاً ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، فآخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ رجلاً فنكفيهما عنه. قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا لا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. وفي رواية: وطالباً. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله رسولاً؛ فآمن به علي وصدقه، وأخذ العباس جعفراً، ولم يزل جعفر عند الناس انتهى. ولكل من علي وجعفر وعقيل عقب، وأكثرهم عقباً علي رضي الله عنه، وسيأتي ذكرهم عند ذكر خلافته رضي الله تعالى عنه.
وأما عقيل بن أبي طالب فلم يزل اسمه جاهلية وإسلاماً عقيلاً، ويكنى أبا يزيد، وكان قد خرج مع كفار قريش مكرهاً يوم بدر، فأسر ففداه عمه العباس، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل الحديبية، وشهد غزوة مؤتة. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال له: يا أبا يزيد، إني أحبك حبين: حباً لقرابتك، وحباً لما كنت أعلم من حب عمي إياك. وكان أعلم قريش بأنسابها وأعرفهم بأيامها، وكان مبغضاً إليهم؛ لأنه كان يعد مساويهم، وكانت له قطيفة تفرش في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليها، ويجتمع عليه في علم النسب وأيام العرب. وكان أسرع الناس جواباً، وأحضرهم مراجعة في القول وأبلغهم في ذلك.
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عقيلاً جاء إلى علي بالعراق فسأله، فقال له علي رضي الله عنه: إن أحببت أن أكتب لك إلى مالي بينبع فأعطيك منه. فقال له عقيل: لأذهبن إلى رجل أوصل لي منك. فذهب إلى معاوية. وقال أبو عمرو: غاضب عقيل علياً وخرج إلى معاوية وأقام عنده، فزعموا أن معاوية قال يوماً بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد، لولا علمه بأني خير له من أخيه ما أقام عندي وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي، وأسأل الله خاتمة خير.
وتوفي عقيل في خلافة معاوية. يروي أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال له: غلبك أبو تراب على الثروة والعدد. فقال عقيل: نعم وسبقني وإياك إلى الجنة. فقال الوليد: أما والله إن شدقيك لمتوضمتان من دم عثمان. فقال له عقيل: مالك ولقريش؟ إن أنت فيهم إلا كمنيح الميسر. فقال الوليد: والله إني لأرى أهل الأرض لو أشركوا في قتله لوردوا صعوداً. فقال له عقيل: كلا، أما ترغب لهم عن صحبة أبيك. وذكر أنه حضر ومعه كبشر له إلى مجلس علي - كرم الله وجهه - فقال علي يمازحه بعد أن استقر بهما المجلس: أحد الثلاثة أحمق. فقال عقيل: أما أنا وكبشي فلا. فتضاحكا طويلاً. كذا في دول الإسلام للعلامة الذهبي.
ومن أولاد عقيل: مسلم بن عقيل، الذي قتله أهل الكوفة حين سيره الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين إليهم برسالة قبله، وجميعهم من فاطمة بنت أسد بن هاشم.
وأما جعفر بن أبي طالب فيكنى أبا عبد الله، أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ومعه زوجته أسماء بنت عميس، وولدت له ثمة ابنيه عبد الله ومحمداً، فحصلت له الهجرتان، وقد تقدم ذكر جواره بأرض الحبشة، وما جرى له هو وأصحابه مع النجاشي؛ بسبب ما قاله عمرو بن العاص للنجاشي، وقراءة جعفر سورة الكهف بين يدي النجاشي.
وأما أم هانىء فتزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وولدت له أولاداً، وهرب إلى نجران ومات بها مشركاًن وهو القائل يوم أحد يذكر قومه ويفتخر: من البسيط
ما بال همّ عميدٍ بات يطرقني ... بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني ... والحرب قد شغلت عنّي مواليها
مهلاً فلا تعذليني إنّ من خلقي ... ما قد علمت وما إن لست أُخفيها
مساعفٌ لبني كعب بما كلفوا ... حمّال عبءٍ وأثقال أُعانيها
وقد حملت سلاحي فوق مشترف ... ساطٍ سبوحٍ إذا يجري يباريها
كأنّه إذ جرى عيرٌ بفدفدةٍ ... مكدّمٌ لاحقٌ بالعون يحميها
من آل أعوج يرتاح النّديّ له ... كجذع شعراء مستعلٍ مراقيها
أعددتّه ورفاق الحدّ منتخلاً ... وما رنا لخطوبٍ قد أُلاقيها
هذا وبيضاء مثل النّهي محكمةٌ ... لظّت عليّ فما تبدو مساويها
سقنا كنانة من أطراف ذي يمنٍ ... عرض البلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة أنّى تذهبون بنا ... قلنا النّخيل فأمّوها ومن فيها
نحن الفوارس يوم الجرّ من أُحدٍ ... هابت معدٌّ فقلنا نحن نأتيها
هابوا ضراباً وطعناً صارماً خذماً ... ممّا يرون وقد ضمّت قواصيها
ثمّت رحنا كأنّا عارضٌ برد ... وقام هام بني النّجّار يبكيها
كأنّ هامهم عند الوغى فلقٌ ... من قيض ربدٍ نفته عن أداحيها
أو حنظلٌ زعزعته الرّيح في غصنٍ ... بالٍ تعاوره منها سوافيها
قد نبذل المال سحّاً لا حساب له ... ونطعن الخيل شزراً في مآقيها
وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرها ... يختصّ بالنّفر المثرين داعيها
في ليلةٍ من جمادي ذات أنديةٍ ... جربا جماديّةٍ قد بتّ أسريها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ ... من القريس ولا تسري أفاعيها
أوقدتّ فيها لذي الضّرّاء جاحمةً ... كالبرق ذاكية الأركان أُحميها
أورثني ذاكم عمرٌو ووالده ... من قبله كان بالمثنى يغاليها
كانا يبارون أنواء النّجوم فما ... دنت عن السّورة العليا معاليها
فأجابه حسان بن ثابت - رضي الله عنه - فقال: من البسيط
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم ... إلى الرسول فجند اللّه مخزيها
أوردتموها حياض الموت ضاحيةً ... فالنّار موعدها والقتل لاقيها
جمّعتموهم أحابيشاً بلا حسبٍ ... أئمّة الكفر غرّتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت ... أهل القليب ومن ألقينه فيها
كم من أسيرٍ فككناه بلا ثمنٍ ... وجزّ ناصيةٍ كنّا مواليها
وإنما أوردتها وجوابها لاشتمالها على المباني الراسخة والمعاني الشامخة.
وأم هانئ هذه هي التي صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيتها يوم الفتح صلاة الضحى ثمان ركعات في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه، فروت ذلك، وقالت: وكان قد التجأ إليها بعض أصهارها من بني مخزوم - قيل: هو الحارث بن هشام وآخر معه - فقالت: يا رسول الله، إن أخي علياً لا تأخذه في الله لومة لائم، وإني أخاف أن يعلم بمن لجأ إلي فيقتله، فاجعل من دخل دار أم هانئ آمناً حتى يسمع كلام الله. وفي رواية: إن أخي أراد قتلهما، وإني قد أجرتهما. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. ثم قال: هل عندك من طعام نأكله؟ فقالت: ليس عندي إلا كسر يابسة، وإني لأستحي أن أقدمهن إليك. قال: هلمي بهن. فكسرهن في ماء وملح فقال: هل من إدام؟ فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل. فقال: هلميه. فصبه على طعامه فأكله، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يفقر بيت فيه خل. أخرجه الطبراني بهذا السياق.
ومن أولادها من هبيرة جعدة بن هبيرة، وقد استعلمه علي رضي الله عنه حين أفضت إليه الخلافة، وهو القائل: من الطويل
أنا من بني مخزوم إن كنت سائلاً ... ومن هاشم أُمّي لخير قبيل
فمن ذا الّذي يبأى علّى بخاله ... وخالي عليٌّ ذو النّدى وعقيل
قلت: لعل قبيلاً مضاف إلى ياء المتكلم تخلصاً من الوقوع في الضرورة أو ورطة عيب الإقواء. والله أعلم.
وأما جمانة بنت أبي طالب فتزوجها ابن عمها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وولدت له، ولم يسند عنها شيء، ذكر ذلك الدارقطني. وأما أبو عمرو فلم يذكرها؛ فلعله لم يثبت إسلامها عنده؛ لأنه لا يذكر إلا من أسلم، فلم يذكرها لذلك، وذكرها ابن قتيبة وأبو سعد في شرف النبوة في جملة أولاد أبي طالب.
وأما الحارث فهو كما سبق أكبر أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى. مات قبل البعثة. وله من الأولاد خمسة ذكور: أبو سفيان، ونوفل، وربيعة، والمغيرة، وعبد شمس. وأنثى واحدة وهي أروى. أما أبو سفيان بن الحارث، وهو الأول من أولاد الحارث ذكراً، وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة؛ أرضعتهما حليمة السعدية، وكان ترب رسول الله صلى الله عليه وسلم يألفه إلفاً شديداً قبل النبوة، فلما بعث عليه الصلاة والسلام عاداه وهجاه وهجا أصحابه، وكان شاعراً. قال الذهبي: وعن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبل. وأرسل إلى عبد الله بن رواحة فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرضه عليه الصلاة والسلام هجوه، فأرسل إلى كعب بن مالك كذلك فهجاهم فلم يرضه، ثم أرسل إلى حسان فلما دخل قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم به فري الأديم. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تعجل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، فأته حتى يخلص لك نسبي فأتاه حسان ابن ثابت، ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد أخلص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال: من الطويل
لقد علم الأقوام أنّ ابن هاشمٍ ... هو الغصن ذو الأفنان لا الواحد الوغد
وأنّ سنام المجد من آل هاشمٍ ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يلحق عجائزك المجد
ولست كعبّاسٍ ولا كابن أُمّه ... ولكن لئيمٌ لا يقوم له زند
وما لك فيهم محتد غير ملصق ... فدونك فالصق مثل ما لصق القرد
وإنّ امرأً كانت غزيّة أُمه ... وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد
وأنت زنيمٌ ليط في آل هاشمٍ ... كما ليط خلف الرّاكب القدح الفرد
وقال حسان: عدمت بنيتي - تصغير بنت - ورأيت في نسخة: ثنيتي، وفي أخرى: نشيتي، وكلها يقع به القسم بينهم، وفي رواية: عدمنا خيلنا: من الوافر
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع مطلعها كداء
يبارين الأعنّة مسرجاتٍ ... تلطّمهنّ بالخمر النّساء
فإمّا تعرضوا عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلاّ فاصبروا لجلاد يومٍ ... يعزّ الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبداً ... يقول الحقّ ليس به خفاء
وقال اللّه قد سيّرت جنداً ... هم الأنصار عرضها اللقاء
لنا في كلّ يومٍ من معدٍّ ... سبابٌ أو قتالٌ أو هجاء
وجبريلٌ رسول الله فينا ... وروح الله ليس له كفاء
وصرح بخطاب أبي سفيان خاصة فقال:
هجوت محمّداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً برّاً حنيفاً ... رسول الله شيمته الوفاء
أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشرّكما ليخركما الفداء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإنّ أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمّدٍ منكم وقاء
لساني صارمٌ لا فلّ فيه ... وبحري لا تكدّره الدّلاء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله.
قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى وأشفى. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه غير هذه الأبيات الهمزية قبل فتح مكة.
وفي مغازي ابن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالداً أن يدخل من أسفل مكة، ونهاه عن القتال، فلما دخل من أسفلها قاتل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ قال خالد: هم بدءونا بالقتال، ووضعوا فينا السلاح وأشعروا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال عليه الصلاة والسلام: ما قضى الله خير. ويقال: قال أبو بكر يومئذ: يا رسول الله، إني أراني في المنام وأراك دنونا من مكة، فخرجت إلينا كلبة تهر، فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب كلبهم وأقبل درهم. ثم التفت إلى أبي بكر مبتسماً حين رأى الخيل يلطمن بالخمر، أي: ينفضن الغبار عن الخيل، فاستنشده هذه الأبيات لحسان، فأنشده إياها.
أقول تحتاج هذه السبعة الأبيات الدالية إلى تفسير مبناها وتفصيل معناها. أما قوله بنو بنت مخزوم فأراد بهم عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، والزبير بن عبد المطلب، وأبا طالب بن عبد المطلب، والبيضاء بنت عبد المطلب، ومرة، وعاتكة، وأروى، وأميمة؛ فهؤلاء الثلاثة الذكور والخمس الإناث أشقاء؛ أمهم جميعاً فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وهي المرادة بقوله بنو بنت مخزوم.
وأما قوله ومن ولدت أبناء زهرة منهم فيريد بذلك حمزة، والمقوم، وحجل، وصفية؛ فهم أشقاء أيضاً؛ أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة.
وأما قوله ولست كعباس ولا كابن أمه يعني أخاه ضراراً، وهما شقيقان أيضاً أمهما نثلة بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط. وأما الحارث بن عبد المطلب فهو مفرد، وأمه سمراء بنت جندب بن هجير بن عامر بن صعصعة، وابنه أبو سفيان هذا المقصود بالهجاء كذلك مفرد لا شقيق له، وأمه غزية بنت قريش بن طريف من ولد فهر بن مالك، وقيل له شقيق يسمى قثم بن الحارث مات صغيراً.
والمعنى أن حساناً جعل تفرد أبي سفيان من غزية أمه تفرد أبيه من سمراء أمه غمزاً في نسبه مضمراً، ثم أفصح بإخراجه أصالة من النسب في قوله في البيت الأخير: وأنت زنيم... إلى آخره، كما أفحش في قوله في البيت الثاني ووالدك العبد لعله أراد معنى العبودية لله، وروى عنه بالمعنى الذي يقتضيه هجاؤه. وعلى الجملة فلله در حسان فيما أتى به في هجاء هذا السيد الكريم ذي النسب الصريح اللباب الصميم؛ إذ هو من أكبر أولاد عبد المطلب ومن به كان يكنى فيقال: يا أبا الحارث، كما تقدم ذكر ذلك، لكن يستحق العزيز المذلة بتطاوله على الأعز، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكنه ولله الحمد أسلم؛ فإنه لما كان عام الفتح ألقى الله في قلبه الإسلام، فخرج متنكراً فتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه، فتحول إلى الجانب الآخر فأعرض عنه، قال أبو سفيان: فقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه، وذلك بطريق الأبواء مقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة، فأسلم وحسن إسلامه.
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء منه، وأسلم معه ابنه جعفر فأسلما قبل دخول مكة. وقيل: بل لقيه هو وابنه بين السقيا والعرج فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فقالت له أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لا يكن ابن عمك أشقى الناس بك. وقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: يا أبا سفيان، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: " تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ " يوسف فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل ذلك أبو سفيان رضي الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام " الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ " يوسف.
قال أبو سفيان: وسرت معه حتى شهدت فتح مكة وحنيناً، فلما لقينا العدو بحنين اقتحمت فرسي وبيدي السيف صلتا، والله يعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إلي، فقال له العباس: يا رسول الله، أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه. فقال: قد علت فغفر الله كل عداوة عادانيها. ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري. فقبلت رجله في الركاب.
وكان أبو سفيان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر، ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الذين يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عامر ابن عمته البيضاء المكناة أم حليمة، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وأبو سفيان بن الحارث هذا رضي الله عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أبا سفيان بن الحارث وشهد له بالجنة، فقال: أبو سفيان بن الحارث من شبان الجنة، وقال: أبو سفيان خير أهلي أو: من خير أهلي.
ولما حضرت أبا سفيان الوفاة قال لأهله: لا تبكوا علي، فإني لم ألمم بخطيئة منذ أسلمت. ومات رضي الله عنه بالمدينة بعد استخلاف عمر سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليه عمر رضي الله عنه، ودفن قيل: بالبقيع، وقيل: بدار عقيل بن أبي طالب، وحفر قبر نفسه قبل أن يموت بثلاثة أيام، فكان له من الأولاد جعفر الذي أسلم معه وشهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي في خلافة معاوية، وعبد الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وأبو الهياج قيل: اسمه عبد الله أو علي، فهم ثلاثة وابنة رابعة واسمها عاتكة تزوجها معتب بن أبي لهب، وولدت له.
وأما نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو الثاني من أولاد الحارث ذكراً - وكان أسن من إخوته ومن جميع من أسلم من بني هاشم، فأسر يوم بدر؛ ففداه العباس، أو هو فدى نفسه، وذلك أنه لما أسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افد نفسك برماحك التي بجدة، قال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحاً بعد الله، أشهد أنك رسول الله. وفدى نفسه بها وكانت ألف رمح. ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف، وكان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أرى رماحك تقصف أصلاب المشركين. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين العباس بن عبد المطلب، وكانا شريكين في الجاهلية متفاوضين في المال متحابين، توفي بالمدينة في خلافة عمر، وصلى عليه وشيعه للبقيع، ووقف على قبره حتى دفن.
وكان له من الولد: الحارث، وعبد الله، وعبيد الله، والمغيرة، وسعيد، وعبد الرحمن، وربيعة؛ فهم سبعة؛ فأما الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فهو الذي يقال له: ببة؛ لأن أمه هند ابنة أبي سفيان بن حرب بن أمية كانت ترقصه وهو طفل فتقول: من الرجز
لأُنحكنّ ببّة ... جاريةً خدبّه
مكرمةً محبّه ... تحبّ أهل الكعبه
والخدبة: العظيمة السمينة، والخدب: العظيم السمين الجافي.
وكان الحارث هذا قد اصطلح عليه أهل البصرة حين توفى يزيد بن معاوية، وخرج ابن الأشعث، فلما هزم هرب إلى همذان فمات بها.
وقال الواقدي: كان الحارث بن نوفل على عهده عليه الصلاة والسلام، ولد له عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه ودعا له. وكانت تحت الحارث هذا درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، واستعمله عليه الصلاة والسلام على بعض أعماله بمكة، واستعمله أبو بكر أيضاً، وقيل: إنه مات بالبصرة بعد أن اختطها داراً في ولاية عبد الله بن عامر بن كريز، فمات بها آخر خلافة عثمان رضي الله عنهما.
وأما المغيرة بن نوفل بن الحارث فيكنى أبا يحيى، بابن له من أمامة بنت الربيع التي أمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان المغيرة تزوجها بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، شهد صفين مع علي، وولاه القضاء عثمان بن عفان. ولد المغيرة المذكور بمكة قبل الهجرة وقيل: بعدها، ولم يدرك من حياته عليه الصلاة والسلام غير ست سنين، وهو الذي تلقى عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله حين ضرب علياً، فلما علم الناس به حمل عليهم بسيفه فأفرجوا له، فتلقاه المغيرة هذا بقطيفة فرماها عليه، واحتمله وضرب به الأرض، وقعد على صدره، وانتزع السيف من يده، وكان أسداً وافراً.
وأما عبد الله بن نوفل فكان جميلاً يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي القضاء بالمدينة لمعاوية وهو أول قاضٍ له بها.
وأما عبيد الله بن نوفل، وسعيد بن نوفل، فقد روى عنهما العلم.
وأما عبد الرحمن بن نوفل، وربيعة بن نوفل، فذكر الدارقطني: أن لا لقيا لهما ولا رواية.
وأما ربيعة بن الحارث، وهو الثالث من أولاد الحارث بن عبد المطلب ذكراً، ويكنى أبا أروى، فكانت له صحبة، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أنا واضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث، وذلك أنه كان قتل لربيعة بن الحارث المذكور ابن سمي آدم، وقيل: تمام، وأبطل عليه الصلاة والسلام الطلب به في الإسلام، ولم يجعل لربيعة في ذلك تبعة، وأطعمه عليه الصلاة والسلام مائة وسق من خيبر كل عام، وكان أسن من العباس بنحو سنة، وكان شريك عثمان في التجارة، توفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. وله من الولد العباس بن ربيعة وعبد المطلب بن ربيعة وعبد الله بن ربيعة، وشهد العباس وعبد الله صفين مع علي، وللعباس واقعة غريبة سأذكرها في وقعة صفين إن شاء الله تعالى.
والحارث بن ربيعة وأمية بن ربيعة وعبد شمس بن ربيعة، ذكر هؤلاء الثلاثة الدارقطني، وآدم بن ربيعة - وكان هذا ذا قدر عظيم - أقطعه عثمان داراً بالبصرة، وأعطاه مائة ألف درهم، وله أولاد من أم فراس بنت حسان بن ثابت، وكذلك عدة بنات لم تذكر أسماؤهن، منهن: أروى بنت ربيعة، وهند تزوجها حيان بن منقذ الأنصاري النجاري، فولدت له يحيى بن حيان. قال المحب الطبري: ولم أظفر بأسمائهن ولا بعددهن، وإنما ذكرن على سبيل الإجمال.
وأما المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب - وهو الرابع من أولاد الحارث الستة - فله صحبة، قيل: إن المغيرة اسم لأبي سفيان فهو عينه، والصحيح أنه أخوه فهو غيره.
وأما عبد شمس بن الحارث بن عبد المطلب، فهو الخامس من أولاد الحارث بن عبد المطلب، سماه عليه الصلاة والسلام عبد الله، ومات بالصفراء في حياته عليه الصلاة والسلام فكفنه في قميصه، وقال سعيد: أدركته السعادة، وله عقب بالشام يقال لهم المنازرة لقلتهم، لا يكادون يزيدون على ثلاثة أشخاص. وفي معجم البغوي: لا عقب له.
وأما أبو لهب بن عبد المطلب، واسمه عبد العزى، فقد كناه أبوه بذلك لحسنه وإشراق وجهه، وله من الأولاد ثلاثة ذكور وأنثيان: عتبة، وعتيبة، ومعتب، ودرة، وسبيعة - إن كانت غير درة - وإلا فالأربعة، أسلم الأول والثالث من الذكور - وهما من أم جميل حمالة الحطب ابنة حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب - أسلما يوم الفتح، وكانا قد هربا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قدم مكة عليه الصلاة والسلام قال: يا عباس، أين ابنا أخيك عتبة ومعتب لا أراهما؟ قال العباس: فقلت: يا رسول الله، تنحيا فيمن تنحى من مشيخة قريش. فقال: اذهب إليهما فائتني بهما. قال العباس: فركبت إليهما بعرفة فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما. فركبا معي فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلما وبايعهما، وسر بإسلامهما، وشهدا معه حنيناً والطائف. وفقئت عين معتب بحنين، وكان فيمن ثبت ولم ينهزم. ولم يخرجا بعد من مكة، ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب.
وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لما نزلت " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ " الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه: ! قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قيل: محمد. فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من خلف هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " المسد كذا في صحيح مسلم.
وروى ابن عيينة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: لما نزلت سورة تبت أقبلت أم جميل بنت حرب زوجة أبي لهب ولها ولولة وبيدها فهر وهي تقول: من الرجز
مذمّماً قليناودينه أبيناوأمره عصينا والنبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد وأبو بكر معه، فقال: يا رسول الله، قد أقبلت هذه، وإنها امرأة بذيئة، فلو قمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لن تراني. فجاءت فلم تره، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد أخبرت أنه هجاني، فوالله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة. فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب البيت ما هجاك، وإنه لا يقول الشعر. فقالت: أنت عندي مصدق. فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني ابنة سيدها. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها لم ترك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: لم يزل عندي ملك يسترني منها بجناحه.
قال أبو الزناد: عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انظروا قريشاً كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون مذمماً ويعلنون مذمماً، وأنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم كذا في التلقيح للعلامة ابن الجوزي رحمه الله.
ولما نزلت سورة تبت قال أبو لهب لولديه عتبة وعتيبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد. وكانتا تحتهما: رقية تحت عتبة، وأم كلثوم تحت عتيبة، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما، فصانهما الله تعالى عنهما. ولما فارقاهما جاء عتيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك. ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجراً، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. وأبو طالب حاضر، فوجم لها. فقال له: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي. فخرج في تجر من قريش حتى نزلوا مكاناً بالشام يقال له: البلقاء ليلاً، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي، هو والله آكلي كما دعا علي محمد، أقاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام؟ روى أنهم جمعوا متاعهم وقصدوه وناموا حوله وعليه، فجاء الأسد فجعل يشم وجوههم، ثم ألقى ذنبه فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلني. ومات. وفي رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه. ذكره الدولابي. كذا في الذخائر.
قلت: قول عتيبة أقاتلي ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله عليه وسلم، هو كقول أبي سفيان بن حرب، وهو عند ملك الروم لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأل أبا سفيان عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ورأى أبو سفيان ما رأى من خوف هرقل - : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حين أصبح يخافه ملك بني الأصفر. وكقول غيره من كفار قريش: قال ابن أبي كبشة، وفعل ابن أبي كبشة.
ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيها أقوال؛ قيل: إنها كنية أبيه لأمه وهب بن عبد مناف، وقيل: كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى، وقيل: إن سلمى أم عبد المطلب كان أبوها عمرو بن لبيد يكنى أبا كبشة، والأشهر من هذه الأقوال كلها عند الناس أنهم شبهوه برجل كان يعبد الشعري وحده دون العرب، فشبهوه بخروجه عن دين قومه كخروج المشبه به، ونسبوه إليه بسبب هذه المشابهة. وذكر الدارقطني اسم أبي كبشة هذا في المؤتلف والمختلف فقال: اسمه وخز بن غالب، وهو خزاعي. انتهى. كذا في الروض الأنف للعلامة السهيلي.
وأما درة بنت أبي لهب فأسلمت، تزوجها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له أبا سلمة والوليد وعقبة، وروت عن أبي هريرة أن أختها سبيعة بنت أبي لهب شكت إليه عليه الصلاة والسلام أذى الناس لها بقولهم لها بنت حطب النار: وقيل: إن سبيعة لقب لدرة فهي عينها لا غيرها، وزيد عليهما فروى: خالدة، ولا رواية لهما. قاله الدارقطني.
وأما الزبير بن عبد المطلب فله ثلاثة أولاد: ذكر واحد وهو عبد الله، وابنتان: أم حكيم، وضباعة أم عبد الله بن الزبير، فأمه عاتكة بنت أبي وهب، أخت هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب، أدرك الإسلام وثبت معه عليه الصلاة والسلام يوم حنين، شهد أجنادين في خلافة أبي بكر، واستشهد بها، بعد أن قتل جماعة من الروم وجدوا حوله قتلى، ثم أثخنته الجراحة فمات. وذكر الواقدي فقال: كان أول قتيل من الروم بطريق معلم برز ودعا إلى البراز، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب هذا فقتله عبد الله ولم يتعرض لسلبه، ثم برز آخر يدعو إلى البراز فبرز إليه أيضاً عبد الله فاقتتلا بالرمحين ثم صارا إلى السيفين، فضربه عبد الله على عاتقه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب، فقطع سيفه وأسرع في منكبه. ثم ولى الرومي منهزماً، فعزم عليه عمرو بن العاص ألا يبارز، فقال عبد الله: إني والله ما أجد أني أصبر، فلما التحمت السيوف وأخذ بعضها بعضاً وجد في ربضة من الروم عشرة حوله قتلى وهو بينهم قتيل، وكانت سنه نحواً من ثلاثين سنة ولم يعقب.
وأما ضباعة بنت الزبير، وهي التي أمرها عليه الصلاة والسلام بالاشتراط في الحج - يعني اشتراط التحلل بوقوع المرض - فكانت تحت المقداد بن الأسود الكندي، وأما أم حكيم فكانت تحت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، قاله ابن قتيبة.
وأما الغيداق، والمقوم، وحجل، وضرار، والعوام، وقثم - على العدة المصدرة التي عدها ابن الجوزي - فلم يذكر القسطلاني وابن هشام لهم عقباً.
والحاصل أن جملة بني أعمامه صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون: اثنان منهم لم يسلما: طالب بن أبي طالب، وعتيبة بن أبي لهب أكيل السبع، والباقون أسلموا ولهم صحبة، وأما أولاد أبي طالب: فعقيل وجعفر وعلي. وأما بنو العباس فعشرة: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحيم، وقثم، ومعبد، وكثير، والحارث، وعون، وتمام. وأما بنو الحارث بن عبد المطلب فخمسة: أبو سفيان، ونوفل، وربيعة، والمغيرة، وعبد شمس. كذا عدهم صاحب تاريخ الخميس.
قلت: وليس منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب كما توهم بعضهم فعدهم به ستة؛ إذ الكلام في بني الحارث بن عبد المطلب، لا في أبناء المطلب؛ فهو ابن ابن عم أبيهم لا أخوهم، وعبارته في ترجمة عبيدة بن الحارث هي: عبيدة بن الحارث ابن المطلب، كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وأسلم قبل دخوله دار الأرقم، ثم شهد بدراً وجرح بها، وتأخرت وفاته حتى وصل وادي الصفراء فدفن بها وهو ابن ثلاث وستين سنة. انتهى قلت: وهو المبارز لعتبة بن ربيعة يوم بدر؛ فإنه صرع عتبة، وعتبة ضربه في نصف ساقه فقطعها، فذلك هو الجرح الذي مات به. وأما بنو لهب فثلاثة عتبة وعتيبة ومعتب. وأما بنو حمزة فعمارة ويعلى. وأما بنو الزبير بن عبد المطلب فواحد: عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب. فهؤلاء خمسة وعشرون رجلاً. وإن جملة بنات أعمامه صلى الله عليه وسلم عشر: اثنتان لأبي طالب: أم هانىء وجمانة، وثلاث للعباس: أم حبيبة وصفية وأمينة. وواحدة لأبي لهب اسمها درة، وواحدة لحمزة اسمها فاطمة.
وأما عماته وأولادهن: فعماته ست: البيضاء، وعاتكة، وأروى، وبرة، وأميمة، وصفية. أما البيضاء، وتكنى أم حليم، فهي توأم عبد الله، والد النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجا كريز بن ربيعة بن عبد شمس فولدت له عامراً، وهذا عامر هو الذي ينسب إليه الشعب بمكة المعروف بشعب عامر، كذا رأيته في شفا الغرام للعلامة الفاسي، وهو والد عبد الله بن عامر الذي تفل في فمه النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل فتسوغها وازدردها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لمسقى، وهو أحد السبعة المشابهين له صلى الله عليه وسلم في الخلقة، وقد تقدم ذكرهم، وهو الذي شق نهر البصرة حين كان عاملاً عليها لعثمان رضي الله عنه، ولي العراق وخراسان وهو ابن أرع وعشرين سنة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد شمس، هو من صلبكم، وهو بنا أشبه منه بكم. ثم ولدت البيضاء المذكورة لكريز بعد عامر أختاً له اسمها أروى، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعامر خال عثمان، وابنه عبد الله بن عامر ابن خاله، وعثمان ابن عمة عبد الله بن عامر المذكور.
وأما عاتكة ابنة عبد المطلب، فتزوجها أبو أمية المخزومي، فأنجب منها عبد الله وزهيراً. فأما عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي فأسلم، وكان قبل إسلامه شديد العداوة له - عليه الصلاة والسلام - وللمسلمين، وهو الذي قال: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ثم إن خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق بين السقيا والعرج مريداً مكة عام الفتح فتلقاه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، ثم تلقاه فأعرض عنه مرة أخرى، حتى دخل على أخته لأمه، أم سلمة، وسألها أن تشفع له، فشفعها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة مسلماً وحنيناً والطائف، فرمى يوم الطائف بسهم فقتل فمات شهيداً، وهو الذي قال له المخنث في بيت أم سلمة: يا عبد الله، إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فإني أدلك على بادية بنت غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، إن مشت تثنت، وإن قعدت تبنت، وإن تحدثت تغنت، وإن لبين فخذيها لكالعقب المكفى. قال: فدخل عليه الصلاة والسلام على أم سلمة حينئذ فسمعه يتكلم بهذا الكلام، فقال: اخرج فقد غلغلت النظر يا عدو الله.
وفي رواية من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يدخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنث. قالت: وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا يدخل عليكم هذا بعد اليوم، فحجبوه. وقوله تقبل بأربع... إلى آخر ما قال سيأتي بيانه في المقصد الرابع قبل الخاتمة إن شاء الله تعالى، فالأليق تأخيره عن ذكره في معرض ذكر أعمامه وعماته عليه الصلاة والسلام.
وأما زهير بن أمية فأسلم وعد من المؤلفة قلوبهم، وهو أحد القائمين في نقض الصحيفة القاطعة المتقدم ذكرها، والإشارة إليها في قول الإمام أبي سعيد البوصيري وزهير والمطعم بن عدي... إلى آخره. وأبو أمية هذا هو والد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مشيرة الحديبية بالحلق، التي كانت زوجة أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
وعاتكة هذه هي صاحبة الرؤيا في قصة بدر. قال ابن هشام: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام بتجارات لقريش قال: هذه عير قريش فيها تجارتهم وأموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها. فانتدب الناس. فخف بعضهم وثقل بعضهم. وذلك أنه لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان في العير، وكان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان والرجلان عن أمر الناس، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استفز أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً ويستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة ابنة عبد المطلب قبل قدوم ضمضم بثلاث رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: والله يا أخي، لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت الليلة راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار منها إلا دخلها فلقة من تلك الصخرة.
قال العباس: والله إنها لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لابنه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش، يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة. فقلت: وما رأت؟ فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئاً. قال: ثم تفرقنا. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة لشيء! قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه كبير أمر، وايم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفيكنه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأق به، وكان رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر.
قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال: قلت في نفسي: ماله - لعنة الله عليه - أكل هذا فرقاً من أن أشاتمه؟ قال: فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره قد جع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أدري أن تدركوها، الغوث الغوث ! قال: فشغله عني، وشغلني عنه ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعاً فخرجوا إلى بدر، وكانت القتلة في أشرافهم ورءوسهم وصناديدهم، وأعز الله الإسلام وأهله. فهذه رؤيا عاتكة المشار إليها بقوله: وهي صاحبة الرؤيا في قصة بدر.
وأما أروى ابنة عبد المطلب فكانت تحت عمير بن وهب بن عبد بن قصي بن كلاب، أسلم رضي الله عنه، ولإسلامه قصة، هي أنه لما كانت وقعة بدر وقتل من قتل من أشرافهم وصناديدهم، منعت قريش النياحة على من قتل إظهاراً للجد والثبات، فاجتمع صفوان بن أمية وعمير ابن وهب وكان هذا عمير في الجاهلية شيطاناً من الشياطين، وهو الذي حرز لقريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، فضرب بفرسه بطن الوادي ثم قال: القوم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون. وهم كذلك كانوا في الحقيقة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. ثم رجع واستبطن الوادي وقال: توهمت أن للقوم كميناً، فلم أجد، ولكني - يا معشر قريش - رأيت المنايا على البلايا، نواضح يثرب تحمل السم الناقع، لا ملجأ لهم ولا منعة إلا سيوفهم، والله لئن أصابوا منا كما نصيب منهم لبطن الأرض خير من ظهرها. فاجتمع هو وصفوان بعد وقعة بدر، فقال عمير: لولا أن لي صبية وأهلاً لذهبت حتى أغتال محمداً، أصل إليه بالمدينة في طلب ابني. وكان له ابن أسر يوم بدر، فضمن له صفوان كفاية أولاده وأهله، وأن يجعلهم أسوة أهله، ويقوم عليهم بما يحتاجون، فاتفقا على ذلك وأن يعطيه ما يعطيه، فخرج عمير حتى قدم المدينة المشرفة وأناخ بباب المسجد، فأقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذ بمجامع ثوبه في صدره وحمائل سيفيه، ودخل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً كذلك قال: أرسله يا عمر؟ ادن يا عمير. فدنا إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما الذي أقدمك؟ قال: لهذا الأسير الذي في أيديكم. فقال له عليه الصلاة والسلام: فما بال هذا السيف معك؟ فقال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا يوم بدر شيئاً؟ ثم قال له: إنما أتيت من أجل فداء ابني. قال عليه الصلاة والسلام: ألم تجلس أنت وصفوان بن أمية بالحجر فتذاكرتما مصاب قريش، فقلت ما قلت، وشكوت خوف ضيعة صبيتك وأهلك فضمن لك صفوان القيام بالنفقة عليهم والكفاية لهم؟ قال: من أخبرك بهذا؟ فلم يكن أحد معنا. قال: أخبرني الله عز وجل. قال: صدق الله وصدقت، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
هذا وصفوان بعد ذهاب عمير كان يقول: سيأتيكم يا أهل مكة أمر يسر كل ذي حزن. فلما طالت المدة، وجاء الخبر بإسلام عمير غضب صفوان، ومنع النفقة على أولاد عمير وأهله، فهذا سبب إسلامه رضي الله عنه.
فولدت له طليب بن عمير، أسلم طليب وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وقتل بأجنادين، وكان سبباً في إسلام أمه كما ذكره الواقدي. ثم خلف عليها بعد موت عمير كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، أمها غزية بنت جندب أم الحارث ابن عبد المطلب؛ فهي شقيقته، وكأن حساناً لما جعله فذاً في السبعة الأبيات المتقدم ذكرها لم يعتبرها شقيقة له للأنوثة التي ليست موضعاً للفخر، فنبذ ابنه أبا سفيان بانفراده من سمراء، وبتره بانفراده من غزية.
وكيفية سببيته في إسلام أمه أروى هي أنه لما أسلم طليب في دار الأرقم ثم خرج، دخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: تبعت محمداً وأسلمت لله عز وجل. فقالت: إن أحق من واددت وعضدت ابن خالك، والله لو قدرنا على ما تقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه. فقال لها طليب: ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه؟ فقد أسلم أخوك حمزة. قالت: أنظر ما يصنع أخواتي، ثم أكون إحداهن. قال: فقلت: إني أسألك بالله إلا أتيته فسلمت عليه وصدقتيه، وشهدت أن لا إلا الله. قال: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم كانت تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض على نصرته والقيام بأمره.
وقال الزبير بن بكار: كان طليب من المهاجرين الأولين، وقتل بأجنادين شهيداً ولا عقب له، وقيل: قتل يوم اليرموك. والله أعلم.
وأما برة بنت عبد المطلب فكانت عند أبي رهم بن عبد العزى العامري، فولدت له أبا سبرة بن أبي رهم، ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبي سلمة عبد الله، أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى المدينة، وهو أيضاً أول من هاجر إليها، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة، لما آذته قريش حين قدم من الحبشة، وقد بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، فخرج مهاجراً إليها، وشهد بدراً، وجرح جرحاً اندمل، ثم انتقض عليه فمات منه.
وتزوج عليه الصلاة والسلام زوجته أم سلمة بعده، قالت أم سلمة: دخل علي أبا سلمة وقد شق بصره فأغمضه، وقال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فصاح ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين. اللهم افسح له في قبره ونوره له. أخرجه البخاري ومسلم. ثم قال لها: قولي اللهم إني أحتسب عندك مصيبتي واخلف علي خيراً منه. فقالت: وهل خير من أبي سلمة؟ فأخلف الله علي منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان هو خيراً. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأما أميمة بنت عبد المطلب فكانت تحت جحش بن رئاب، فولدت له عبد الله، وعبيد الله، والبصير الملقب أبا أحمد، وزينب، وأم حبيبة، وحمنة. أما عبد الله بن جحش فهو ابن أخت حمزة، مثل به كما مثل بحمزة، وعبد الله هذا يعرف بالمجدع في الله؛ جدع أنفه وأذناه يومئذ.
وكان سعد بن أبي وقاص يحدث أنه لقيه يوم أحد أول النهار فخلا به وقال له عبد الله: يا سعد، هلم فلندع الله، وليذكر كل منا حاجته وليؤمن الآخر. قال سعد: فدعوت الله أن ألقى فارساً شديداً جريئاً من المشركين فأقتله فآخذ سلبه. فقال عبد الله: آمين. ثم استقبل عبد الله القبلة وقال: اللهم لقني اليوم فارساً شديداً بأسه شديداً جرده فيقتلني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً تقول لي: يا عبد الله، فيم جدع أنفك؟ فأقول: فيك يا رب وفي رسولك فتقول لي: صدقت. قل يا سعد: آمين، فقلتها. ثم مررت به آخر النهار قتيلاً مجدع الأنف والأذنين، وإن أنفه وأذنيه معلقتان في خيط، ولقيت أنا فلاناً من المشركين فقتلته وأخذت سلبه.
وذكر الزبير بن بكار: أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً فعاد في يده سيفاً صقيلاً فقاتل به، وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل حتى بيع من بغا التركي بمائة دينار، والذي قتل عبد الله بن جحش هو الأخنس بن شريق، وكان عبد الله حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة رضي الله عنهما.
وأما عبيد الله بن جحش فأسلم وهاجر بزوجته رملة بنت أبي سفيان إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى، ومات هناك، وسيأتي ذكر زينب في زوجاته عليه الصلاة والسلام.
وأما حمنة فكانت تحت مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، فلم يولد له منها، ثم تزوجها طلحة بن عبيد الله التيمي فولدت له محمداً وعمران، وهي التي استحيضت وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها في باب الاستحاضة مشهور.
وأما أم حبيبة - ويقال: أم حبيب - فكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت تستحاض أيضاً، وأهل السير يقولون: المستحاضة حمنة، والصحيح أنها استحيضت، وقد قيل: إن زينب أيضاً كانت استحاضت.
وأما أبو أحمد الملقب بالبصير، فكان سلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانت تحته الفارعة بنت أبي سفيان، مات بعد وفاة أخته زينب في سنة عشرين.
وكان عبد الله بن جحش أول من سن الخمس في الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفرض، ثم افترض بعد ذلك. واستشاره وأبا بكر النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فأشارا بالفداء، وأشار عمر بالقتل. وكان أول لواء عقد له، وقيل: لحمزة، وقيل: لعبيدة ابن الحارث.
وأما صفية ابنة عبد المطلب، فأمها هالة بنت وهب بن عبد مناف، وشهدت الخندق، وقتلت رجلاً من اليهود، وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، وروت عنه حديثاً رواه عنها الزبير. وقتلها لليهودي هو أنه لما كانت في النساء والذراري رأت يهودياً يدور حول الحصن يريد اغتيالاً، فقالت لحسان بن ثابت - وكان مع النساء والذراري فيه - ألا تتسور له تقتله؟ فقال: ما لي وله يا ابنة عبد المطلب؟ ثم إنها احتزمت وأخذت بيدها عموداً فضربت به اليهودي فقتلته، ثم قالت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه؛ فإني امرأة وهو رجل، فقال حسان: ما لي ولسلبه يا بنة عبد المطلب؟ قال السهيلي عند ذكر حسان حين جعل في الآطام مع النساء والذراري ما نصه: قيل إن حساناً كان جباناً شديد الجبن؛ وقد دفع هذا بعض العلماء وقال: إنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان؛ فإنه كان يهاجي فحول الشعراء كضرار وابن الزبعري وغيرهما، وكانوا يناقشونه ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن ولا وصمه به؛ فدل ذلك على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حساناً كان معتلاً في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال. انتهى ما قاله السهيلي.
قلت: ورأيت في كتب السير: إن حساناً أصابته علة أحدثت فيه الجبن، ولم يكن أول أمره جباناً وإلا لعير به كما قاله السهيلي، وقد سألت بعض حذاق الأطباء عن هذا فقال: نعم، ذلك مذكور عندنا. والله أعلم.
وكانت في الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية، فولدت له صيفي بن الحارث، ثم هلك عنها فخلف عليها العوام بن خويلد أخو خديجة، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة. فأما الزبير فأسلم قديماً وهو ابن ثمان سنين أو ست عشرة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، ولم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم في غزاة، وقتل يوم الجمل غيلة، وسيأتي ذكره عند ذكر وقعته. وأما عبد الكعبة فهو مذكور من أولاد صفية.
توفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع.
فهؤلاء عماته صلى الله عليه وسلم وأولادهن، أسلم منهن صفية بيقين، واختلف في إسلام عاتكة وأروى. والأشقاء من أولاد عبد المطلب: عبد الله والزبير وأبو طالب، والخمس الإناث ما عدا صفية؛ كلهم من فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم. وحمزة وحجل والمقوم وصفية أشقاء أمهم هالة بنت وهب، وكذلك بقيتهم أشقاء كالعباس وضرار وقثم؛ فإنهم من نثلة بنت جناب، ما عدا أكبر أولاد عبد المطلب وهو الحارث؛ فإنه فذ أمه سمراء بنت جندب كما تقدم عند ذكر أبيات حسان بن ثابت رضي الله عنه في أبي سفيان.
وأما أولاد عماته صلى الله عليه وسلم فأحد عشر رجلاً وثلاث بنات عرفن، أما الرجال: فعامر بن البيضاء بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس، وعبد الله وزهير ابنا عاتكة بن أبي أمية المخزومي، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعبد الله وعبيد الله والبصير الملقب أبا أحمد - بنو أميمة بنت عبد المطلب من جحش بن رئاب، وطليب بن أروى من عمير بن وهب المخزومي، والزبير السائب وعبد الكعبة بنو صفية من العوام بن خويلد، كلهم أسلموا وثبتوا على الإسلام إلا عبيد الله بن جحش، كما تقدم؛ فإنه ارتد وتنصر بالحبشة ومات بها.
وأما الإناث فزينب وأم حبيبة وحمنة بنات أميمة من جحش، وذكر للبيضاء بنات ولم يذكر عددهن ولا أساميهن سوى أروى من كريز المذكور، وهي أم عثمان بن عفان، فهن بها أربع. وذكر لبرة ابن من أبي رهم فيكون ثاني عشر أبناء العمات.
وأما جداته عليه الصلاة والسلام من جهة أبيه؛ فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب - فاطمة بنت عمر بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه، وله - أو لأبيه - القصيدة المرثية البليغة التي يستشهد أهل المعاني منها بقوله: من المنسرح
ألألمعيّ الّذي يظنّ بك الظ ... ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا
وقبله قوله:
إنّ الّذي جمع السّماحة والس ... سؤدد والمجد والتُّقى جمعا
وهي طويلة. مطلعها:
أيّتها النّفس أجملي جزعا ... إنّ الّذي تحذرين قد وقعا
ولعلي أن أظفر إن شاء الله تعالى بها فألحقها بما هنا.
وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بني سليم، وأم عبد مناف عاتكة البيضاء بنت فالح بن مالك بن ذكوان من بني سليم، وأم قصي فاطمة بنت سعد بن سبل من أزد السراة، وأم كلاب نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهم، وأم كعب سلمى بنت فهر - أو فهم - وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وأم غالب سلمى بنت سعد بن هذيل، وأم فهر جذلة ابنة الحارث الجرهمي، وأم مالك هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وأم النضر برة أخت تميم بن مر، ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف. فالجدة الأولى مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سلمية، والرابعة سلمية أيضاً، والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية، والثامنة فهرية أو فهمية؛ لإيهام الخط فيها، والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشرة جرهمية، والثانية عشرة قيسية من قيس عيلان، والثالثة عشرة مرية.
وأما جداته من جهة أمه فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب - برة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب، وأم أبيها وهب عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من سبي سليم، وأم مرة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وأم أم حبيب برة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن كعب بن لؤي، وأم برة قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان بن هذيل، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف؛ فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات، والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام علقة نسب.
وأما إخوته من الرضاعة فحمزة عمه، وأبو سلمة بن عبد الأسد؛ أرضعتهما معه ثويبة جارية عمه أبي لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، وعبد الله وأنيسة وحذافة وتعرف بالشيماء، الثلاثة أولاد حليمة. وقد روى أن خيلاً له عليه الصلاة والسلام أغارت على هوازن فأخذوا هذه الشيماء في جملة السبي، فقالت: أنا أخت نبيكم - أو صاحبكم - فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه وقال لها: إن أحببت أقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك. قالت: بل أرجع إلى قومي؛ فأسلمت وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعماً وشيئاً ذكره ابن قتيبة. ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال لها حين قالت: أنا أختك: ما آية ذلك؟ قالت: عضة في ظهري منك خفيفة إذ كنا نروح في البهم. والله تعالى أعلم. وإلى هذا الإشارة في قول البوصيري رحمه الله تعالى: من الخفيف
وأتى السّبي فيه أُخت رضاعٍ ... وضع الكفر قدرها والسّباء
بسط المصطفى لها من رداءٍ ... أيّ فضلٍ حواه ذاك الرّداء