في بيان أحواله عليه الصلاة والسلام: في ذكر أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وسراريه

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب الرابع من المقصد الثاني

في ذكر أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وسراريه

لا خلاف بين أهل السير والعلم بالأثر أن أزواجه عليه الصلاة والسلام اللاتي دخل بهن إحدى عشرة امرأة: ست من قريش، وأربع عربيات، وواحدة من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران، وهي صفية بنت حيي بن أخطب. وكونهن أمهات المؤمنين إنما هو في تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في جواز النظر إليهن والخلوة بهن، لا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن ولا أمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين، ولا إخوتهن وأخواتهن أخوال وخالات المؤمنين.

قال البغوي: هن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قضية: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم، وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال. وقال: وكان صلى الله عليه وسلم أباً للرجال والنساء، ويجوز أن يقال: أبو المؤمنين في الحرمة، وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعف، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء الحجاب، وأفضلهن خديجة وعائشة، ويأتي تحقيق ذلك قريباً. انتهى ولنذكرهن على ترتيب تزوجه بهن عليه الصلاة والسلام:

فأولهن خديجة، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم زينب بنت خزيمة، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية بنت الحارث، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب، ثم صفية بنت حيي، ثم ميمونة بنت الحارث العامرية.

أما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنه فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وكانت قد ذكرت وهي بكر لورقة بن نوفل فلم يقض بينهما نكاح. وفي السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين قال ابن شهاب: تزوجت خديجة قبله عليه الصلاة والسلام رجلين: الأول منهما: عتيق ابن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فولدت له جارية اسمها هند فأسلمت وتزوجت. وفي سيرة مغلطاي: ولدت له عبد الله، وقيل: عبد مناف، ثم خلف عليها بعده أبو هالة النباش بن زرارة التميمي، أخو حاجب بن زرارة، ويقال له: هند، فولدت له رجلاً يقال له: هند، وامرأة يقال لها: هالة، ويكنى بها. وفي رواية: المتزوج لها أولاً أبو هالة، ثم بعده عتيق، ولم يذكر ابن قتيبة غير الأول، فأما هند بن أبي هالة المسمى هنداً - أيضاً - فهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، عاش مسلماً إلى أن قتل مع علي يوم الجمل، وقيل: بالبصرة في الطاعون، فازدحم الناس على جنازته وتركوا جنائزهم وقالوا: ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فصيحاً بليغاً وصافاً؛ وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن وأتقن.

قلت: وعلى نعته غالب أحاديث الكتاب المسمى بالشمائل وروايته، وكان يقول: أنا أكرم الناس أماً وأباً وأخاً وأختاً، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي خديجة، وأخي القاسم بن محمد، وأختي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. وأما الجاريتان - وهما هند التي من عتيق وهالة التي من النباش بن زرارة - فقال ابن قتيبة وأبو سعيد وأبو عمرو: لم نظفر من أخبارهما بشيء.

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ خمساً وعشرين سنة قال له عمه أبو طالب: أنا رجل معيل لا مال لي، وقد اشتد الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في تجارتها، فلو ذهبت إليها وقلت لها في ذلك لعلها تقبل، وبلغ خديجة ذلك فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالت: أعطيك ضعف ما أعطى رجلاً من قومك. وفي رواية: أتى إليها أبو طالب فقال لها: هل لك أن تستأجري محمداً؟ فقد بلغنا أنك استأجرت ببكرين ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟! فقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا رزق ساقه الله إليك. فخرج عليه الصلاة والسلام مع غلامها ميسرة، ووقعت له القصة مع نسطور الراهب... إلى آخر ما هو مذكور في محله من كتب السير المفردة لذلك.

ولما رجع عليه الصلاة والسلام بالتجارة من الشام، وربحت التجارة الدرهم أربعة دراهم؛ قالت نفيسة بنت منية: أرسلتني خديجة دسيساً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال عليه الصلاة والسلام: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: علي، فأنا أفعل. فذهبت إلى خديجة فأخبرتها، فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ائت ساعة كذا وكذا. وصنعت طعاماً وشراباً ودعت أباها - والصحيح أنه عمها وهو عمرو أخو خويلد، والعرب تسمى العم والداً؛ فإن أباها خويلد مات قبل حرب الفجار، وحرب الفجار كانت وسنه عليه الصلاة والسلام عشرون عاماً كما تقدم ذكره - ونفراً من قريش فطعموا وشربوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجها منه عليه الصلاة والسلام، فخلقته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يصنعون إذا زوجوا نساءهم، والضمير في خلقته ورديفه إلى عمها المزوج لها عمرو بن خويلد المذكور لا إليه عليه الصلاة والسلام.

قال في السمط الثمين للمحب الطبري: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به رجل إلا رجح به؛ فإن كان في المال قلة فإن المال ظل مائل وأمر حائل، ومحمد قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل جسيم.

فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا علي معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار. ثم سكت ورقة. فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها عمرو بن خويلد: اشهدوا علي يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد. وشهد على ذلك صناديد قريش.

وفي السمط الثمين: أصدقها عشرين بكرة. وفي المواهب عن الدولابي: أصدقها اثنتي عشرة أوقية ذهباً ونشاً. قالوا: وكل أوقية أربعون درهماً والنش: نصف أوقية. ولا منافاة بين هذا وبين من قال أصدقها أبو طالب لقوله في الخطبة من مالي كذا؛ لجواز كون أبي طالب أصدقها، وزاد عليه الصلاة والسلام في صداقها، فكان الكل صداقاً.

وذكر الملا في سيرته: لما تزوج عليه الصلاة والسلام خديجة ذهب ليخرج، فقالت له خديجة: إلى أين يا محمد؟ اذهب فانحر جزوراً أو جزورين وأطعم الناس، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وقالت: يا محمد، مر عمك أبا طالب أن ينحر بكراً من بكارك، وأطعم الناس على الباب، وهلم فقل مع أهلك. فأطعم الناس ودخل، فقال مع أهله خديجة، فأقر الله عينه. وفرح أبو طالب بذلك فرحاً شديداً وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الهموم.

وأم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم، تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة ولها من العمر أربعون سنة وبعض أخرى، وله خمس وعشرون سنة، وقيل: إحدى وعشرون سنة، والأول عليه الأكثرون. وكانت مدة إقامتها معه عليه الصلاة والسلام أربعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام، خمس عشر سنة منها قبل الوحي والباقيات بعده، إلى أن توفيت وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلي على الجنائز.

ولا خلاف في أنها أول امرأة تزوج بها عليه الصلاة والسلام، ولم يتزوج قبلها ولا عليها. وكانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت بالحجون، وولدت له عليه الصلاة والسلام أولاده كلهم، ما عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية، وسيأتي ذكرها آخر الباب. قال حكيم بن حزام بن خويلد: توفيت عمتي خديجة بنت خويلد فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبرها. وفي المواهب اللدنية: وكانت خديجة أول من آمن من الناس. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام وإدام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. والمراد بالقصب: اللؤلؤ المجوف.

قال ابن إسحاق: كان عليه الصلاة والسلام لا يسمع شيئاً من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرجا لله عنه بخديجة إذا رجع إليها؛ تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت. وعن عبد الرحمن بن يزيد: قال آدم عليه الصلاة والسلام: إني لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلاً من ذريتي نبياً من الأنبياء يقال له: أحمد؛ فضل علي باثنتين: زوجته عاونته فكانت له عوناً وكانت زوجتي عوناً علي، وأعانه الله على شيطانه فأسلم وكفر شيطاني. أخرجه الدولابي كما ذكره الطبري. وخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنة عمران، وآسية امرأة فرعون.

قال الشيخ ولي الدين العراقي: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح بهجة الحاوي المسمى بالغرر البهية، في شرح البهجة الوردية: أفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضليتهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين قالت له: لا تزال تلهج بذكر خديجة، إن هي إلا عجوز من عجائز قريش، كأني أنظر إلى حمرة شدقيها ودردرها، وقد رزقك الله خيراً منها. فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله ما رزقني خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس. وسئل ابن داود: أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام عن جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أفضل.

وقيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنة عمران. واحتج من فضل عائشة بما احتجت به هي من أنها في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة، وفاطمة مع علي فيها.

وسئل العلامة السبكي عن ذلك فقال: الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أمها خديجة، ثم أمها خديجة، ثم عائشة. ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه. وأما خبر الطبراني: خير نساء العالمين مريم بنة عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم آسية امرأة فرعون فأجاب عنه ابن العماد بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومه لا باعتبار السيادة، واختار السبكي أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر للاختلاف في نبوتها.

وقال ابن النقاش: إن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها في الدين لله بمالها ونفسها لم يشركها فيه أحد لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام في حمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأمر ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميز به عن غيرها. وفي مسيرة الشامي: روى الطبراني برجال الصحيح عن الزهري، قال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت بعد أن مكثت عنده صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين سنة وأشهراً.

وروى الطبراني بسند فيه من لا يعرف، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول: اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت صديقة لخديجة رواه ابن حبان والدولابي. وفي رواية: فإنها كانت تحب خديجة، وفي رواية: جاءت عجوز إليه صلى الله عليه وسلم فقال لها من أنت؟ فقالت: جثامة المزنية. فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

وعن عائشة رضي الله عنها: كانت عجوز تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيبش لها ويكرمها. وفي لفظ: كانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقلت: يا رسول الله، من هذه؟ وفي لفظ: بأبي أنت وأمي؛ إنك لتصنع بهذه العجوز ما لم تصنع بأحد، وفي لفظ: فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. وفي لفظ: فإن كرم العهد من الإيمان. انتهى

وأما أم المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية، فأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن لبيد ابن أخي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد أم عبد المطلب، فأسلمت قديماً وبايعت، وكانت تحت ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن عامر بن لؤي أخي سهيل بن عمرو وسهل بن عمرو وسليط وحاطب، أسلم السكران زوجها معها قديماً وهاجراً جميعاً إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: إنه مات بالحبشة، وولدت له ابناً اسمه عبد الرحمن، قتل في حرب جلولاء - اسم قرية من قرى فارس، وقعت تلك الحرب فيها - وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة بأيام في السنة العاشرة من النبوة قبل أن يعقد على عائشة، وهذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة، روى القولان عن ابن شهاب. ويجمع بين القولين بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل من العقد والدخول، وإن كان المتبادر إلى الفهم الأول.

وللبخاري: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين، أو قريباً من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين بتقديم التاء. قال في السيرة الشامية: قال ابن كثير: والصحيح أن عائشة عقد عليها قبل سودة، ولم يدخل بعائشة إلا في السنة الثانية من الهجرة. وأما سودة فإنه دخل بها بمكة. وسبقه إلى ذلك أبو نعيم، وجزم به الجمهور ومنهم قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى والزهري.

قال في تاريخ الخميس: روى أنه لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة مظعون فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب الخلق إليك أبي بكر. قال: ومن الثيب؟ قالت سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول. قال: فاذهبي فاذكريهما علي. فدخلت بيت أبي بكر وقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة: قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فقالت له: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له؛ إنما هي ابنة أخيه !. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك قال ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي. فرجعت فذكرت ذلك له. قال: انظري.

قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد وعداً قط فأخلفه - تعني: أبا بكر - فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك تصبي صاحبنا، تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك. قال أبو بكر لمطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج أبو بكر من عنده وقد أذهب الله ما في نفسه من عدته التي وعده بها، فخرج فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعته فزوجه إياها، وعائشة يومئذ بنت ست سنين كما مر. ثم خرجت خولة حتى دخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه. قالت: وددت ذلك، ادخلي على أبي واذكري له ذلك، وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن، وقد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فذكرت له، فقال: كفؤ كريم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها، فجاء أخوها عبد الله بن زمعة، فجعل يحثو التراب على رأسه أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة. فلما أسلم قال: إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أختي. رواه الطبراني برجال ثقات، والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها بسند جيد.

قال العلامة محمد الشامي: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت سودة بنت زمعة تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري، فرأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وضع رجله على رقبتها، فأخبرت زوجها بذلك فقال: لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك محمد، ثم رأت في المنام ليلة أخرى أن قمراً انقض عليها وهي مضجعة، فأخبرت زوجها فقال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت، وتتزوجين من بعدي. فاشتكى السكران من يومه، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات، وتزوجها عليه الصلاة والسلام.

وروى أبو عمر عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسنت سودة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بطلاقها فقالت: لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات عنها مع سائر من توفى عنهن من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر. قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة هذه، فكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماتت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه. هذا هو المشهور في وفاتها. ونقل ابن سعد عن الواقدي: أنها توفيت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية. أصدقها عليه الصلاة والسلام أربعمائة دينار، قال هذا الشمس البرماوي في مختصر سيرته.

وأما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، القرشية، التيمية، فأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، روى أبو بكر بن خيثمة، عن علي بن زيد عن القاسم بن محمد: أن أم رومان، زوج أبي بكر، أم عائشة، لما دليت في قبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان، ولدت عائشة بعد البعثة بأربع سنين أو خمس.

وروى ابن الجوزي في الصفوة عنها رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أتكنيني؟ قال: تكنى بابنك. يعني عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء بنت أبي بكر.

وروى ابن حبان عنها قالت: لما ولد عبد الله بن الزبير - ابن أختها أسماء - أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريقه عليه الصلاة والسلام، وقال: هو عبد الله وأنت أم عبد الله. وقيل: إنها ولدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولداً مات طفلاً. وهذا غير ثابت، والصحيح الأول.

وروى الإمام أحمد والشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريتك في المنام قبل أن أتزوجك مرتين، وفي لفظ: ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن من عند الله يمضه. وروى الترمذي وحسنه ابن عساكر عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاءني بك جبريل في خرقة خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.

وروى الطبراني برجال ثقات، والإمام أحمد في المناقب والمسند، والبيهقي بإسناد حسن، عن أبي سلمة بن عبد الله بن حاطب، عن عائشة قالت: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم، امرأة عثمان بن مظعون - فذكر الحديث المتقدم في خطبة سودة - وتمام: فقالت لخولة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها. قالت عائشة: فتزوجني، ثم لبثت سنتين فلما قدمنا المدينة نزلنا بالسنح في دار بني الحارث بن الخزرج، قالت: فإني لأترجح بين عذقين وأنا ابنة تسع، فجاءت بي أمي من الأرجوحة ولي جميمة، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت عند الباب وأنا أنهج، فمسحت وجهي بشيء من ماء، وفرقت جميمتي، ودخلت بي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال ونساء، فأجلستني في حجرة، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك. قالت: فقام الرجال والنساء، فبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله ما نحرت على من جزور، ولا ذبحت من شاة، ولكن جفنة كان يبعث بها سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن حبان زيادة بعد قولها: وأنا أنهج فقلت: هه هه حتى ذهب نفسي، فأخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي، ثم دخلت بي الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحوا شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، فأسلمتني إليه، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا. ثم ذكرت قولها: فما نحرت... إلى آخر الحديث.

وروى مسلم والنسائي عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست، وبنى بي وأنا ابنة تسع، وكنت ألعب بالبنات، وكن جوار يأتيني، فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقنعن منه، وكان صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي.

وروى ابن سعد عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب بالبنات فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان. فضحك عليه الصلاة والسلام.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: كنت صاحبة عائشة رضي الله عنها التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة، فوالله ما وجدنا عندها قرى إلا قدحاً من لبن، قالت: فشرب منه صلى الله عليه وسلم ثم ناوله عائشة فاستحيت الجارية. فقلت لا تردن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذته على حياء فشربت منه، ثم قال: ناولي صواحبك. فقلن: لا نشتهيه. فقال: لا تجمعن جوعاً وكذباً. فقلت: يا رسول الله، إنا إذا قلنا لشيء نشتهيه لا نشتهيه يعد ذلك كذباً؟ قال: إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة.

وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟ قال أبو عبيدة، معمر بن المثنى: تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة بسنتين - قلت: يعني عقد عليها، كما تقدم التنبيه عليه - في شوال وهي ابنة ست سنين، فكانت تستحب أن يبتنى بنسائها في شوال. قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن تدخل النساء في شوال لطاعون وقع في شوال في الزمن الأول. وروى أبو بكر ابن أبي خيثمة عن الزهري قال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غير عائشة. وروى ابن حبان وأبو بكر عنها: تزوجني عليه الصلاة والسلام وأنا ابنة ست، ودخلت عليه وأنا ابنة تسع. ومكث عندها تسع سنين، ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة.

وروى الترمذي وصححه عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: سمعت عماراً يقول: هي زوجته في الدنيا والآخرة. قال أبو الحسن الخلعي عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، إنها ليهون على الموت أني قد رأيتك زوجتي في الجنة. وروى ابن عساكر بلفظ: ما أبالي الموت منذ علمت أنك زوجتي في الجنة. وروى الطبراني بإسناد حسن عن عمرو بن العاص، قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها.

وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: سبتني فاطمة. فقال: يا فاطمة أسببت عائشة؟ قالت: نعم. قال: أليس تحبين من أحب؟ قالت: بلى. وتبغضين من أبغض؟ قالت: بلى. قال: فإني أحب عائشة فأحبيها. قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً. وروى النسائي عنها: ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبك إذا قلبت لك بنت أبي بكر ذريعتيها ثم أقبلت علي فأعرضت عنها. حتى قال لي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري. فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبست ريقتها في فمها ما ترد على شيئاً، فرأيته صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.

وروى البخاري في الأدب عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت، والنبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها، فأذن لها فدخلت فقالت: إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في بنت أبي قحافة. قال: أي بنية أتحبين ما أحب؟ قالت بلى. قال: فأحبي هذه. فقامت فخرجت فحدثتهن. فقلن: ما أغنيت عنا شيئاً، فارجعي إليه. فقالت: والله لا أكلمه فيها أبداً.

وروى ابن أبي خيثمة أن النساء قلن لأم سلمة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الناس تأتيك هداياهم يوم عائشة، فقل للناس يهدوا إليك حيث ما كنت، فإنا نحب الخير كما تحبه عائشة. فلما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له ذلك، فأعرض عنها. فلما ذهب جاء النساء إلى أم سلمة يقلن: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: قد قلت له، فأعرض عني. فقلن لها: عودي فقولي له أيضاً. فلما دار إليها قالت له مثل ذلك، فقال لها: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فوالله ما منكن امرأة ينزل علي الوحي في ثوبها إلا عائشة.

وروى أبو عمرو بن السماك أن عائشة قالت: إني لأفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأربع: ابتكرني ولم يبتكر امرأة غيري، ولم ينزل عليه القرآن منذ دخل علي إلا في بيتي، ونزل في عذري قرآن يتلى، وأتاه جبريل بصورتي مرتين قبل أن يملك عقدي.

وروى الطبراني والبزار برجال ثقات، وابن حبان عنها، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس، فقلت: يا رسول الله، ادع لي. فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت. فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسرك دعائي؟ فقالت: ما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: فوالله إنها لدعوتي لأمي في كل صلاتي. وروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها.

وروى ابن عساكر عنها: أنه كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام، فقال لها: من ترضين بيني وبينك، أترضين بعمر بن الخطاب؟ قالت: لا، مر فظ غليظ. قال عليه الصلاة والسلام: أترضين بأبيك بيني وبينك؟ قالت: نعم. فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذه من أمرها كذا ومن أمرها كذا. قالت فقلت: اتق الله ولا تقل إلا حقاً. قالت: فرفع أبو بكر يده فرثم أنفي وقال: أنت لا أم لك يا ابنة أم رومان، تقولين الحق أنت وأبوك ولا يقوله صلى الله عليه وسلم؟ فابتدرني منخراي كأنهما عزلاوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم ندعك لهذا. قالت: ثم قام إلى جريدة في البيت، وجعل يضربني بها، فوليت هاربة منه، فلزقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقسمت عليك لما خرجت، فإنا لم ندعك لهذا. فلما خرج قمت فتنحيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادني مني. فأبيت أن أفعل، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: لقد كنت من قبل شديدة اللصوق لي بظهري.

وروى مسلم والنسائي والدارقطني عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنت علي راضية وإذا كنت علي غضبى. قالت: فقلت: بم تعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قلت: صدقت يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك.

وروى الترمذي والنسائي وابن عدي والإسماعيلي عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا الحبشة يزفنون ويلعبون بحرابهم في المسجد والصبيان حولهم، فقال: يا عائشة، تعالي فانظري. وفي رواية النسائي: يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم، فوضعت خدي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسترني بردائه، فجعلت أنظر بين المنكب إلى رأسه، فجعل يقول يا عائشة، أما شبعت، أما شبعت؟ وفي رواية: حسبك. قلت: يا رسول الله، لا تعجل. فقام ثم قال: حسبك. قلت: لا تعجل يا رسول الله، إني أحب النظر إليهم. تقول عائشة: قد بلغت القصد من النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه. وفي لفظ: فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده. ولقد رأيته يزاوج بين قدميه، إذ طلع عمر فارفض الناس عنهم والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر.

وروى البرقاني عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأقبل عليه - عليه الصلاة والسلام - فقال: دعها. فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وقالت: كان يوم عيد تلعب السودان بالدف والحراب... إلى آخر الحديث الأول.

وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: زارتنا سودة يوماً، فجلس عليه الصلاة والسلام بيني وبينها، إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فحملت له حريرة - أو قالت خزيرة - فقلت: كلي، فأبت، فقلت: كلي أو لألطخن وجهك، فأبت، فأخذت من القصعة شيئاً فلطخت به وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع رجله عن حجرها لتبعد مني، وقال: الطخي وجهها. فأخذت من القصعة شيئاً ولطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.

وروى ابن أبي شيبة عن قيس بن وهب، قال: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: أو ما تقرأ القرآن " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ " نون. قالت: جاءني عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فصنعت لهم طعاماً وصنعت له حفصة طعاماً، فسبقتني حفصة، فقلت للجارية: انطلقي فاكفئي قصعتها. فلحقتها وقد هوت أن تضع بين يديه عليه الصلاة والسلام فكفأتها، فانكسرت القصعة وانتثر الطعام، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها من الطعام على الأرض، وبعث بقصعتي فدفعها إلى حفصة فقال: ظرفاً مكان ظرف. قالت: فما رأيت في وجهه تغيراً. وروى النسائي عن أم سلمة: أنها أتت بطعام في صحفة لها.

وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن الله عز وجل أنزل الخيار، فبدأ بعائشة وقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى يأتي أبو بكر. قالت: ما هو؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا.... " الأحزاب إلى آخر الآية، فقالت: أفيك أستأمر أبي؟! بل أختار الله ورسوله.

وروى أبو طاهر عن الشعبي والطبراني بإسناد حسن، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق، قال: بعث زياد بن أمية مع عمرو بن الحارث بهدايا وأموال إلى أمهات المؤمنين، ففضل عائشة عليهن، فجعل رسوله يعتذر إلى أم سلمة وصفية، فقلن: يعتذر إلينا زياد، فقد كان يفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زياد: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: فضلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بخصال عشر. قيل وما هن يا أم المؤمنين؟ قالت: لم ينكح بكراً غيري، ولم ينكح امرأة أبوها مهاجر غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وجاءه جبريل بصورتي من السماء في حريرة وقال: تزوجها فإنها امرأتك، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من نسائه، وقبضه الله وهو بين سحري ونحري، ودفن في بيتي، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه.

وروى الترمذي وصححه وابن أبي خيثمة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وروى الطبراني عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو جمع نساء هذه الأمة فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كان علم عائشة أكثر من علمهن. وروى الحكم بسند حسن عن مسروق أنه كان يحلف بالله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض. وروى الطبراني عن موسى بن طلحة: ما رأيت أحداً كان أفصح من عائشة. وروى أبو عمر وابن عساكر عن عروة بن الزبير قال: ما رأيت أحداً أعرف بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال ولا بحرام، ولا بفقه، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا بنسب من عائشة.

وروى عن عروة - وقد قيل له: ما أرواك - وكان أروى الناس للشعر - فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً. وروى الإمام أحمد عن عروة - أيضاً - أنه كان يقول لعائشة: يا أماه، لا أعجب من فقهك؛ أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس؛ أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم - أو من أعلم - الناس بأيام العرب وأنسابها، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو؟ فضربت على منكبه وقالت: أي عرية - تصغير عروة - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم - وفي لفظ: كثرت أسقامه - آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فكانت تنعت له الألعاق، وكنت أعالجها، فمن ثم.

وروى الحاكم وأبو عمر وابن الجوزي، عن الزهري، قال: لو جمع علم الناس كلهم، ثم علم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانت عائشة أوسعهم علماً.

وروى الإمام أحمد في الزهد والحاكم عن الأحنف بن قيس، قال: سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلفاء وهلم جرا، فما سمعت لكلام مخلوق منهم أفخم ولا أحسن من في عائشة.

وروى ابن أبي خيثمة عن سفيان بن عيينة قال: قال معاوية بن أبي سفيان: يا زياد، أي الناس أعلم؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين. قال: أعزم عليك. قال: أما إذا عزمت علي فعائشة. وروى البلاذري عن القاسم بن محمد، قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وهلم جرا إلى أن ماتت.

وعنها رضي الله عنها قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، واضعة ثوبي عني وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر والله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر.

وروى أبو يعلى وأبو الشيخ ابن حيان - وسنده حسن - عن عائشة قالت: كان متاعي فيه خفة، وكان على جمل قارح، وكان متاع صفية فيه ثقل، وكان على جمال ثفال بطىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولوا متاع عائشة على جمل صفية، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة. فلما رأيت ذلك قلت: يا لعباد الله، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم عبد الله، إن متاعك فيه خف، ومتاع صفية فيه ثقل، فأبطأ بالركب، فحولنا متاعها على بعيرك، وحولنا متاعك على بعيرها. فقالت عائشة: ألست تزعم أنك رسول الله؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو فيّ شك؟ فقلت: ألست تزعم أنك رسول الله، فهلا عدلت؟ فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب - أي حدة - فأقبل علي ولطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا أبا بكر. فقال: يا رسول الله، أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغيرة لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.

وروى ابن أبي خيثمة عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت له: إذا أنا مت فادفني مع صواحبي بالبقيع وكانت وفاتها في رمضان ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت منه على الصحيح عند الأكثرين، سنة ثمان وخمسين من الهجرة، وصلى عليها أبو هريرة خليفة مروان بالمدينة.

روى لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد الأول بأربعة وخمسين حديثاً والثاني بمائة وسبعين. وروى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فأمها زينب بنت مظعون، أسلمت وهاجرت، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة السهمي، هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر، فلما تأيمت ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحه إياها في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تطليقة واحدة ثم راجعها؛ نزل عليه الوحي راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين.

وفي تاريخ الخميس: توفي عنها زوجها خنيس - أو حبيش - بن حذافة بالمدينة بعد شهوده بدراً معه عليه الصلاة والسلام، فعرضها عمر أبوها على أبي بكر فلم يجبه بشيء، ثم عرضها على عثمان فلم يجبه بشيء، فشكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عرضت على عثمان حفصة فأعرض عني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك في خير من ذلك أتزوج أنا حفصة وأزوج عثمان أم كلثوم أخرجه أبو عمر وقال: حديث صحيح.

وعن ربعي بن حراش عن عثمان أنه خطب إلى عمر ابنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فلما راح إليه عمر قال له: أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك، قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي. أخرجه الخجندي. قلت: ما رواه الخجندي يخالف ما تقدم عن تاريخ الخميس؛ فإنه ذكر فيه أن عمر رضي الله عنه عرض ابنته على عثمان وأعرض عمان عنه، وما رواه الخجندي خطب عثمان إلى عمر ابنته فرده، فلينظر وجه الوفاق. والله أعلم.

وتزوج عثمان أم كلثوم بعد رقية، تزوج عليه الصلاة والسلام حفصة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام طلقها، فأتاها خالاها قدامة بن مظعون وعثمان بن مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شبع. روى أنه لما بلغ خبر طلاقها أباها عمر حثا على رأسه التراب وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا. فنزل جبريل من الغد وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبريل أتاني فقال لي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.

وفي رواية: هم بطلاقها ولم يطلق. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فمن ذلك سكت عنك وأعرضت، فكانت عند النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من ثمان سنين.

قال العلامة الشامي: كان زوجها خنيس - بالخاء المعجمة بعدها نون ثم ياء وسين، ممن شهد بدراً، فعاد إلى المدينة فمات بها من جراحات أصابته يوم بدر.

توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة في خلافة معاوية، وبكى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة، وحمل سريرها بعض الطريق، ثم حمل أبو هريرة إلى قبرها، فنزل في قبرها عبد الله وعاصم ابنا عمر رضي الله عنهم، وسالم وعبد الله وحمزة أبناء عبد الله بن عمر، وقد بلغت ستين سنة. وقيل: ماتت سنة ثنتين وأربعين، وأوصت إلى عبد الله أخيها بما أوصى إليها أبوها عمر، وتصدقت بمال لها وقفته بالغابة.

مروياتها سبعون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة، وانفرد مسلم بستة، والباقية في سائر الكتب.

وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف ابن هلال الهلالية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام في رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، تكنى أم المساكين لإطعامها إياهم، كانت تحت عبد الله بن جحش في قول الزهري، قتل عنها يوم أحد فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ولم تلبث عنده عليه الصلاة والسلام إلا شهرين أو ثلاثة أشهر.

توفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وقيل: مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي. قال الشامي في سيرته: قال قتادة بن دعامة: كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ولما خطبها عليه الصلاة والسلام جعلت أمرها إليه فتزوجها، وأشهد وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً. روى الطبراني برجال الصحيح عن ابن إسحاق: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، كانت قبله عند الحصين - أو عند الطفيل - بن الحارث بالمدينة وهي أول نسائه موتاً.

قال ابن الكلبي: كانت عند الطفيل بن الحارث فطلقها، فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقتل عنها يوم بدر شهيداً، ثم خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج أختها لأمها ميمونة. قال ابن أبي خيثمة: كانت تسمى أم المساكين في الجاهلية، وأرادت أن تعتق جارية لها سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تفدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم.

وأما أم المؤمنين أم سلمة هند - وقيل: رملة والأول أصح - بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن نقطة بن مرة بن كعب بن لؤي، واسم أبي أمية سهيل، ويقال له: زاد الراكب وقال أبو عمرو: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع في شوال، كذا في السمط الثمين. قال في المواهب: تزوجها في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث، وكانت أم سلمة سمعت منه - عليه الصلاة والسلام - يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها قال: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، وكانت قبله - عليه الصلاة والسلام - تحت أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكانت هي وزوجها المذكور أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة.

وقيل: هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة. ولما مات زوجها أبو سلمة خطبها عمر رضي الله عنه فأبت، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إن فيّ خلالاً ثلاثاً: أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية، وأنا امرأة ليس هنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك، فما أحد منهم يكرهني فقالت لابنها عمر: زوجني عليه. قلت: لعل هذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛ إذ قواعد مذهبنا أن الابن لا يزوج أمه إلا إن كان ابن ابن عم لها، والله سبحانه أعلم، فيزوج بجهة العصوبة حينئذ لا بجهة البنوة. انتهى قال صاحب السمط الثمين: رواه بهذا السياق هدبة بن خالد وصاحب الصفوة. وخرج أحمد والنسائي طرفاً منه، ومعناه في الصحيح، وفيه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه، وعندنا أن إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن ابن عمها، لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهل ابن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن من عصبتها أحد حاضراً غيره.

وكانت أم سلمة من أجل الناس، روى عن عائشة أنها قالت: لما تزود رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لي من جمالها، فاطلعت حتى رأيتها - والله - أضعاف ما ذكرت لي في الحسن، فذكرت ذلك لحفصة - وكانتا يداً واحدة - فقالت: لا والله إن هذا إلا لغيرة، ما هي كما يقولون. فتلطفت بها حفصة حتى رأتها فقالت: رأيتها، لا والله، ما هي كما يقولون ولا قريباً مه وإنها لجميلة. قالت عائشة فرأيتها بعد، فكانت كما قالت حفصة، ولكن كنت غيراء.

وفي السمط الثمين، في مناقب أمهات المؤمنين: أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني لم أنقصك عما أعطيت فلانة، يعني زينب بنت خزيمة، وكانت قد ماتت قبلها، قيل لأم سلمة: ما أعطى فلانة؟ قالت: أعطاها جرتين تضع فيهما حبها ورحى ووسادة من أدم حشوها ليف. ثم انصرف حاطب، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها، فلما رأته وضعت زينب أصغر ولدها في حجرها، فرجع عليه الصلاة والسلام، ثم عاد مرة ثانية ففعلت ذلك أيضاً، ففطن عمار فأقبل مسرعاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أخاها لأمها - وانتزعه من حجرها، وقال: هاتي هذه المقبوحة المشقوحة التي منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرها في حجرها فقال: أين زناب؟ قالت: أخذها عمار. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فكانت أم سلمة في النساء كأنها لم تكن منهن، ولا تجد ما يجدن من الغيرة.

قلت: هذا لا يخالف ما تقدم من قولها له عليه الصلاة والسلام في ابتداء الخطبة: أنا امرأة شديدة الغيرة؛ لأنها كانت كذلك قبل الدعوة بإذهاب غيرتها، وما هنا بعدها. انتهى. قال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة على متاع قيمته عشرة دراهم. وروى أنه لما تزوجها نقلها إلى بيت زينب بنت خزيمة بعد موتها، فدخلت فرأت جرة فيها شعير ورحى وبرمة فطحنته ثم عجنته ثم عصدته في البرمة فأدمته بإهالة، وروى عن هند بنت الحارث الفراسية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لعائشة مني شعبة ما نزلها مني أحد فلما تزوج أم سلمة قيل: يا رسول الله ما فعلت تلك الشعبة؟ فسكت، فيوجب أن أم سلمة نزلتها.

قال في السيرة الشامية: مات زوجها أبو سلمة سنة أربع، شهد بدراً وأحداً، ورمى به بسهم في عضده فمكث شهراً يداويه ثم برأ الجرح. بعثه - عليه الصلاة والسلام - هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من مهاجره، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً إلى قطن جبل بنجد، فغاب تسعاً وعشرين ليلة، ثم رجع إلى المدينة فانتقض جرحه فمات منه لثمان خلون من جمادي الآخرة سنة أربع، فاعتدت أم سلمة وحلت لعشر بقين من شوال من السنة المذكورة، فتزوجها عليه الصلاة والسلام في ليال بقين من شوال المذكور. ولو لم يكن من فضلها إلا مشورتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلق في قصة الحديبية لما امتنع منه أكثر أصحابه - لكفاها.

وروى أبو الحسين الخلعي عن عمرو بن شعيب: أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة فحدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة فجعل حسناً من شق، وحسيناً من شق، وفاطمة في حرجه، وقال: " رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " هود، وأنا وأمي أم سلمة جالسان، فبكت أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك من أهل البيت.

وروى عمر الملا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دخل على نسائه واحدة واحد، يبدأ بأم سلمة؛ لأنها أكبرهن، ويختم بعائشة.

وروى الإمام أحمد عن موسى بن عقبة عن أمه عن أم كلثوم قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: يا أم سلمة، إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة فهي لك، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وردت إليه هديته، فأعطى كل واحدة منهن أوقية، وأعطى أم سلمة المسك والحلة.

وروى عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فتطهري.

وروى الإمام أحمد والشيخان عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة، وكتب كتاب الصلح بينه وبينهم، فلما فرغ قال للناس: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاثاً، فلما فرغ قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا ترى أحداً منهم يفعل ذلك حتى تنحر بدنك، وتدعو الحلاق فيحلقك، فخرج ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا حتى كادوا يقتتلوا على الحلاق، وجعل بعضهم يحلق بعضاً.

توفيت أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين على الصحيح - واستخلف يزيد سنة ستين - بعد ما جاءها الخبر بقتل الحسين بن علي رضي الله عنه، ولها من العمر أربع وثمانون سنة على الصواب.

وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن الهيثم بن عدي قال: أول من مات من أزواجه عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش، وآخرهن موتاً أم سلمة هذه.

وكان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم وعمر وزينب أصغرهم، ربوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.

واختلف فيمن زوجها من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقيل: ولدها عمر كما تقدم، وقيل: غيره، وعليه الأكثرون. وزوج سلمة هذا النبي صلى الله عليه وسلم أمامة، وقيل: فاطمة بنة حمزة بن عبد المطلب. وعاش سلمة إلى خلافة عبد الملك بن مروان ولم تحفظ له رواية. وأما أخوه عمر بن أبي سلمة فله رواية، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله تسع سنين، ومولده كان بالحبشة، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس والبحرين، وتوفي بالمدينة سنة ثلاثة وثمانين في خلافة عبد الملك.

وأما زينب بنت أبي سلمة فولدت بأرض الحبشة وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل؛ فنضح في وجهها شيئاً من الماء؛ فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت. قال العطاف: قالت أمي: رأيت وجه زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء، تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدي وولدت له، وكانت من أفقه أهل زمانها رضي الله عنها.

ولما ماتت أم سلمة دفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، وكان عمرها أربع وثمانين سنة.

وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش، وأمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها، فلما انقضت عدتها منه قال صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: اذهب فاذكرني لها، فقال زيد: فذهبت فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله تعالى: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَكَهَا " الأحزاب فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، أخرجه مسلم. وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ " الأحزاب الآية. فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، رواه الترمذي وصححه. وكان اسمها برة فسماها عليه الصلاة والسلام زينب.

وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو صلى الله عليه وسلم كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت لأدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: " يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيّ " الأحزاب الآية. تزوجها صلى الله عليه وسلم هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة وهي بنت خمس وثلاثين سنة يومئذ، كذا في مختصر سيرة البرماوي. وقال في المواهب: سنة خمس، وقيل: سنة ثلاث، وهي أول من مات من أزواجه بعده.

وروى ابن أبي شيبة وابن منيع بسند صحيح عن أنس قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج فصنع كما كان يصنع إذا تزوج، فأتى أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن، ثم رجع وأنا معه.

وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت زينب هي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حسن المنزلة عنده - عليه الصلاة والسلام - وما رأيت امرأة قط خيراً من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة.

وروى أبو يعلى بسند حسن عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع من النساء، فقال يوماً: خيركن أطولكن يداً فقامت كل واحدة تضع يدها على الجدار، فقال: ليس أعني هذا، أصنعكن يدين. وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولكن لحاقاً بي أطولكن يداً قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، قالت: وكانت أطولنا يداً زينب؛ أنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وفي لفظ البخاري: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش. وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة.

وروى الطبراني عن راشد بن سعد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله ومعه عمر بن الخطاب، فإذا هو بزينب تصلي وهي تدعو في صلاتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لأواهة. وقالت عائشة: لقد ذهبت زينب حميدة فقيدة مفزعاً لليتامى والأرامل. وروى ابن الجوزي عن عبد الله بن رافع، عن برزة بنت رافع، قالت: لما جاءنا العطاء بعث عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فلما أدخل عليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي أقدر مني على قسم هذا. قالوا: هذا كله لك. قالت: سبحان الله، واستترت منه بثوب وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت: أدخلي يدك، فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان - من أهل رحمها وأيتامها - فغرفته حتى ما بقي منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة بنت رافع: غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: لكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، فرفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فماتت قبله.

قال في الروض الأنف: زينب بنت جحش كان اسمها برة بضم الباء وتخفيف الراء فسماها عليه الصلاة والسلام زينب اسم أبيها جحش بن رياب فقالت: يا رسول الله، لو غيرت اسم أبي، وإن البرة ضفيرة. فقال لها: لو كان أبوك مسلماً سميته باسم من أسمائنا أهل البيت، ولكن قد سمى جحشاً، والجحش أكبر من البرة. ذكر هذا الحديث مسنداً في كتاب المؤتلف والمختلف أبو الحسن الدارقطني. قلت: أصل البرة حلقة تجعل في أنف البعير ليذل بها فينقاد، تكون من فضة أو حديد، وقد تجعل للذلول لقصد الزينة كما كانت في جمل أبي لهب الذي غنمه عليه الصلاة والسلام، فأهداه إلى الكعبة عام الحديبية ليغيظ المشركين حين يرونه. والله أعلم.

توفيت سنة ستة وعشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعاشت ثلاثاً وخمسين سنة.

وأما أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء، المصطلقية - فكانت تحت سافع بن مسافع، بالسين المهملة والفاء، ابن صفوان المصطلقي؛ كانت وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري في غزوة المريسيع - وهي غزوة بني المصطلق - سنة خمس، وقيل: ست، وكاتبت ثابتاً على نفسها، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث، وكان من أمري ما لا يخفى عليك، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، وإني كاتبت على نفسي فجئت أسألك في كتابتي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك في فيما هو خير لك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أوفي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: قد فعلت.

وتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية فأرسلوا ما بأيديهم من السبي فأعتقوهم وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق، أخرجه أبو داود من حديث عائشة. وقال ابن هشام ومقاتل: اشتراها عليه الصلاة والسلام من ثابت وأعتقها وتزوجها، وأصدقها أربعمائة درهم. وعن ابن شهاب: سباها صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع فحجبها وقسم لها وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها برة فحوله صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية، كما تقدم في زينب بنت جحش.

وروى ابن سعد عن أبي قلابة قال: جاء أبو جويرية فقال: لا يسبى مثلها فخل سبيلها. فقال عليه الصلاة والسلام: بل أخيرها. قال: قد أحسنت، فأتى أبوها إليها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا. قالت: إني أختار الله ورسوله.

وروى الطبراني مرسلاً برجال الصحيح عن الشعبي، قال: كانت جويرية ملك النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وأعتق كل أسير من بني المصطلق.

وروى الطبراني برجال الصحيح عن مجاهد، قال: قالت جويرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أزواجك يفخرن علي ويقلن: لم يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألم أعظم صداقك؟ ألم أعتق أربعين من قومك؟ توفيت في ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين، وصلى عليها مروان ابن الحكم وهو أمير المدينة، وقد بلغت من السن سبعين سنة.

وأما أم المؤمنين، أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وقيل: اسمها هند، والأول أصح - فأمها صفية بنت أبي العاص، وكانت تحت عبيد الله بن جحش، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى - فمات على النصرانية، وكان يقول للمسلمين: صأصأتم وأبصرنا، وثبتت زوجته أم حبيبة هذه على الإسلام.

واختلف في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه، فزوجه إياها، وأصدقها النجاشي عنه - عليه الصلاة والسلام - أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. وروى أن النجاشي أرسل إليها جارية أبرهة فقالت لها: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه، فأرسلت أم حبيبة إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلت، وأعطت جارية أبرهة سوارين وخواتم من فضة سروراً بما بشرتها به، فلما كان العشى أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد فقد أجبت ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها أربعمائة دينار ذهباً، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.

فتكلم خالد بن سعيد بن العاص فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفعت الدنانير إلى خالد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا، فقال النجاشي: اجلسوا، فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.

وكان ذلك في المحرم سنة سبع، على ما قاله الشمس البرماوي. وقد قيل إن عقد النكاح عليها بالمدينة بعد رجوعها من الحبشة، والمشهور الأول. وكان أبوها أبو سفيان حال نكاحها بمكة مشركاً محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لما بلغه تزوجه صلى الله عليه وسلم بها: مثل ذلك الفحل لا يقرع أنفه توفيت سنة أربع وأربعين.

وأما أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية، بفتح السين وسكون العين المهملة وبالمثناة تحت، ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأمها ضرة، بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء، ابنة السموأل، فكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، بضم الحاء وفتح القاف وسكون المثناة التحتية، فقتل يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة. قال أنس: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي جاءه دحية بن خليفة الكلبي فقال: يا رسول الله، أعطني جارية، فقال: اذهب فخذ جارية. فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك. قال: ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها. قال فأعتقها وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة - يعني أنس بن مالك؛ فإنه كان يكنى بأبي حمزة، وهو الراوي - ما أصدقها؟ قال: نفسها؛ أعتقها وتزوجها. ثم نادى: من كان عنده شيء فليجىء به. قال فبسط نطعاً فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: فقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأة، وإن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها. ورجعنا إلى المدينة فرأيته عليه الصلاة والسلام يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيرها فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، ثم انطلقت حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليه فرفعنا مطايانا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرع وصرعت، قال: فليس أحد من الناس ينظر إليه وإليها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها. قال فدخلنا المدينة، فخرجن جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها رواه الشيخان. وهذا لفظ مسلم.

وروى جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى بصفية يوم خيبر وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالاً مر بهما بين المقتولين، وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله. أخرجه في الصفوة. وأخرج تمام في فوائده من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: هل لك فيّ؟ قالت: يا رسول الله، لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك، فكيف إذ أمكنني الله منه في الإسلام. وأخرج أبو نعيم من حديث ابن عمر: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة فقال: ما هذه الخضرة؟ فقالت: كان رأسي في حجر أبي الحقيق وأنا نائمة فرأيت قمراً وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب.

وبنى بها صلى الله عليه وسلم لما بلغ سد الصهباء، فصنع حيساً في نطع. قال أنس: وأمرني فدعوت له من حوله فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عن صفية رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: يا ابنة حيي ما يبكيك؟ قالت: بلغني أن حفصة وعائشة ينالان مني ويقولان: إنا نحن خير منها، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: ألا قلت لهن: كيف تكن خيراً مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم.

وروى أبو يعلى بأسانيد رجال الصحيح عن صفية رضي الله عنها قالت: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من الناس أحد أكره إلي منه، قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إلي ويقول: يا صفية إن أباك ألب علي العرب، وفعل وفعل، حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إلي منه.

قلت: حديث أبي يعلى هذا يشكل على الحديث الذي أخرجه تمام؛ إذ صريح حديثه تمنيها النبي صلى الله عليه وسلم لمحبتها إياه، ومفهوم هذا صريح الكراهة وتبيين سببها، والله أعلم، فلينظر وجه التوفيق بينهما. وفي رواية عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلاً، فجعلت أنعس فضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيقول يا هذه مهلاً يا بنت حيي، حتى إذا جاء سد الصهباء قال: أما إني أعتذر يا صفية مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا.

وروى أبو عمر الملا في سيرته عنها قالت: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسائه. فلما كان ببعض الطريق برك جملي، وكنت من أحسنهن ظهراً فبكيت، فجاء عليه الصلاة والسلام فجعل يمسح دموعي بردائه وبيده، وجعلت لا أزداد إلا بكاء، وهو صلى الله عليه وسلم ينهاني، فلما أكثرت زبرني.

وروى أبو عمر أن جارية لصفية قالت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر فسألها، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها. ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة.

توفيت رضي الله عنها في رمضان سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع مع صواحباتها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن أبي خيثمة: بلغني أنها ماتت زمن معاوية، وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أخيها بالثلث، وكان يهودياً.

وأما أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث من ولد حماطة بن حمير، فتزوجها عليه الصلاة والسلام لما كان بمكة معتمراً سنة سبع بعد غزوة خيبر، وكانت أختها الثانية أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث تحت العباس بن عبد المطلب، وأختها لأمها الثالثة أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى أختها الرابعة بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس زوج أختها فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف حلالاً. ذكره أبو عمر.

وفي الصحيح من أفراد مسلم عنها: أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو حلال. زاد البرقاني بعد قوله تزوجها: وبنى بها حلالاً. فيحمل قوله وهو محرم على أنه داخل في الحرم، ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج منه إلى سرف وابتنى فيه وهو على عشرة أميال من مكة. قلت: وهو محل على يمين الداخل إلى مكة. كان داثراً فعمره الشيخ العلامة المرحوم محمد بن سليمان المغربي فيما عمر من المآثر، رحمه الله تعالى.

كانت ميمونة قبله عليه الصلاة والسلام تحت أبي رهم بن عبد العزى، وقيل: بل تحت أخيه عبد الله، وقيل: بل تحت حويطب بن عبد العزى، ويقال: إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام جاءتها وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها. وكان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد.

وأخواتها أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب أم ابن عباس، ولبابة الصغرى بنت الحارث، كانت تحت أبي بن خلف الجمحي فولدت له علياً بن أبي، وعزة بنت الحارث، كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك الهلالي، فهؤلاء إخوتها لأبيها وأمها.

ولها أخوات من أمها، الأولى: أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب فولدت له عبد الله ومحمداً وعوناً، ثم لما قتل في غزوة مؤتة - اسم لمكان - خلف عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثم خلف عليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فولدت له يحيى. الثانية: سلمى بنت عميس، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، وقيل: أمامة بنت حمزة، ثم خلف عليها شداد بن أسامة بن الهادي الليثي، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن. الثالثة: سلامة بنت عميس، كانت تحت عبد الله بن كعب ابن منبه الخثعمي. الرابعة: زينب بنت خزيمة، كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد فتزوجها صلى الله عليه وسلم، وهي المسماة أم المساكين كما تقدم ذكر ذلك في ترجمتها، وكان يقال: أكرم أصهار عجوز في الأرض هند بنت عوف بن زهير بن الحارث أم ميمونة المذكورة، وأم أخواتها أصهارها العباس وحمزة ابنا عبد المطلب، الأول: على لبابة الكبرى بنت الحارث منها، والثاني: على سلمى بنت عميس منها، وجعفر وعلي ابنا أبي طالب كلاهما على أسماء بنت عميس الأول قبل أبي بكر والثاني بعد أبي بكر، وشداد بن أسامة بن الهادي الليثي على سلمى بنت عميس منها بعد وفاة حمزة بن عبد المطلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بنتها زينب بنت خزيمة، كذا في السمط الثمين، في مناقب أمهات المؤمنين بتصرف حسن يسير.

زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة عمه العباس بن عبد المطلب - كما تقدم ذكره - وأصدقها عنه أربعمائة درهم. قال ابن إسحاق: كان صداق نسائه عليه الصلاة والسلام أربعمائة درهم، وروى مسلم عن عائشة قالت: كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثر نسائه اثنى عشر أوقية ونشاً. قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية. فذلك خمسمائة درهم، فذلك صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في تاريخ الخميس: وهذا أولى بالصحة؛ لأنه متفق على صحته، ولأن راويه معه زيادة علم، كذا في السمط الثمين.

وروى ابن أبي خيثمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء، وأقام بمكة ثلاثاً، وكان قد شرطت عليه قريش حين صدره أن يأتي معتمراً في العام القابل السيوف في القرب، وألا يعتمر غير ثلاث، فلما جاء خطب ميمونة وأقام بمكة ثلاثاً. وأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا بطعامك فاخرج، فخرج بميمونة بنت الحارث حتى أعرس بها بسرف ماتت رضي الله عنها بسرف أيضاً - وهو الموضع الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه - ودفنت في موضع قبتها التي ضربها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين البناء بها، وذلك سنة إحدى وستين، وروى الطبراني برجال ثقات عن محمد بن إسحاق قال: ماتت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحرة سنة ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس، ودخل في قبرها رضي الله عنهما وعنهن أجمعين.

فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن، لا خلاف في ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر وماتت خديجة وزينب بنت خزيمة منهن في حياته عليه الصلاة والسلام، وتوفى عن التسع البواقي بلا خلاف، وعن أم ولد هي مارية بنت شمعون القبطية، أم ابنه إبراهيم.

وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام عقد على نسوة لم يدخل بهن، وخطب نسوة ولم يعقد عليهن. أما اللاتي عقد عليهن ولم يدخل بهن، فذكر في تاريخ الخميس، والمواهب، وذخائر العقبى أن عدتهن اثنتا عشرة امرأة: الأولى: الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم، واختلف من هي، فقيل: أم شريك القرشية العامرية، اسمها غزية - بضم الغين وفتح الزاي وشد الياء - بنت دودان، وقيل: بنت جابر بن عون، وكان ذلك بمكة، وكانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت أبي العسكر بن تميم بن الحارث الأزدي، فولدت له شريكاً. وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان: أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي، ويجوز أن تكونا وهبتا نفسيهما من غير تضاد، وعن عروة بن الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت " تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ " الأحزاب قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. رواه الشيخان.

وهذه خولة هي زوج عثمان بن مظعون، ويجوز أن يكون ذلك منها قبل عثمان، ولذلك قال الفضائلي: فلما أرجأها تزوجها عثمان. ويجوز أن يكون ذلك وقع منهما بعد وفاته. وفي الكشاف وغيره من التفاسير: واختلف في أنه أهل اتفق أن تهب امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ولم تطلب مهراً أم لا؟ فعن ابن عباس: لم يكن عنده أحد منهن، وآية " وَامْرَأَةً مُؤمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ " الأحزاب بيان حكم في المستقبل، والقائل باتفاق ذلك ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بن خزيمة بن الحارث الهلالية، وأم شريك المذكورة، وخولة بنت حكيم.

الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، تزوجها عليه الصلاة والسلام، فيما ذكره الجرجاني في نسائه، وهلكت في الطريق قبل وصولها إليه، ذكره أبو عمرو وأبو سعيد.

الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عقد بها؛ إذ الباب معقود لمن عقد عليها ولم يدخل، وهو معنى التزوج في جميع هذا الباب، فتعوذت منه، فقال لها: لقد عذت بمعاذ؛ فطلقها، وأمر أسامة بن زيد فمتعها ثلاثة أثواب. وقال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة. وقال قتادة: كان ذلك في امرأة من سليم، وقال أبو عبيدة: إنما كان ذلك في امرأة يقال لها: أسماء بنت النعمان بن الجون، ويقال في عمره هذه: إن أباها وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال في وصفها: وأزيدك أنها لم تمرض قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لهذه عند الله من خير، ثم طلقها.

الرابعة: بنت النعمان بن الجون - بفتح الجيم - بن شراحيل، أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: سببه أنه لما دعاها قالت له: أنت تعال، وأبت أن تجيبه: وقيل: قالت: أعوذ بالله منك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد عذت بمعاذ؛ وقد أعاذك الله مني. وفي رواية: قد أعذتك؛ الحقي بأهلك. قيل: إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك؛ فإنها كانت من أجمل النساء فخفن أن تغلبهن عليه؛ فقلن لها: إنه يحب إذ دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك. وقيل: قلن لها: إذا أردت أن تحظي عنده تعوذي بالله منه. فلما دنا منها قالت ذلك، فقال لها ما قال؛ فطلقها ثم سرحها إلى أهلها، فكانت تسمي نفسها الشقية، فخلف عليها المهاجر بن أبي أمية المخزومي، فأراد عمر أن يحده فقالت: لم يدخل بي، وأقامت البينة على ذلك. وقيل المتعوذة غيرها. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا. وقال آخرون: وجد بها وضحاً، فقال: الحقي بأهلك. وقيل في اسمها: أميمة، وقيل: أمامة.

الخامسة: مليكة بنت كعب الليثية، وقال بعضهم: هي المستعيذة، وقيل: دخل بها، والأول أصح، أي: إنه لم يدخل بها. ومنهم من ينكر تزويجها منه أصلاً، عليه الصلاة والسلام.

السادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي، تزوج بها بعد وفاة ابنته زينب، وخيرها حين نزلت آية التخيير فاختارت الدنيا، ففارقها. فكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية، اخترت الدنيا. هكذا رواه ابن إسحاق، لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروي عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها، فاختارت الله ورسوله، وتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقال قتادة وعكرمة: كان عنده صلى الله عليه وسلم عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتي توفى عنهن. وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام تزوجها سنة ثمان، وقيل: إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال عليه الصلاة والسلام: لا حاجة لي بها. قلت: وقد تقدم نظير هذا القول في شأن المرأة الثالثة من هذا الصنف، وهي عمرة بنت يزيد، فلعل الأصح الأولى أو التالية أو كلتاهما.

السابعة: العالية - بعين مهملة - بنت ظبيان - بظاء مشالة فموحدة فتحتية - ابن عمرو بن عوف، تزوجها عليه الصلاة والسلام، وكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها، وقل من ذكرها. قال أبو عرم: ومقتضى ذلك أن تكون ممن دخل بهن. وقال أبو سعد: طلقها حين دخلت عليه صلى الله عليه وسلم وروى أبو القاسم الطبراني، عن الزهري، عن أبي أمامة بن حنيف، فذكر حديثاً طويلاً وفيه: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان، وفارق أخت بني عمرو بن الجون الكندية من أجل بياض كان بهما. قال الزهري: وبلغنا أنها تزوجت قبل أن يحرم على الناس نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام، ونكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم.

الثامنة: قتيلة - بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون الياء التحتية - بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجها منه أخوها في سنة عشر من الهجرة، ثم انصرف إلى حضرموت فحملها، فقبض عليه الصلاة والسلام سنة إحدى عشرة قبل وصلوها إليه. وقيل: تزوجها قبل وفاته بشهرين. وقال قائلون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة ابن أبي لهب بحضرموت. فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها. فقال له عمر رضي الله عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ما دخل عليها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب. وقال بعضهم: لم يوص فيها - عليه الصلاة والسلام - بشيء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها الأشعث بن قيس. وبذلك احتج عمر على أبي بكر - رضي الله عنهما - بأنها ليست من أمهات المؤمنين بارتدادها، لا بسبب عدم دخول عليه الصلاة والسلام.

التاسعة: سبأ بنت أبي الصلت السلمية، تزوجها عليه الصلاة والسلام ومات قبل أن يدخل بها. وقال ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها.

العاشرة: شراف - بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء - بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم فماتت قبل دخوله عليه الصلاة والسلام بها.

الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم - بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء - ابن عدي ابن عمرو بن سوار بن ظفر - بالظاء المشالة والفاء - الأنصارية، أخت قيس بن الخطيم. روى ابن أبي خيثمة وأبو سعد من طريق هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبيه، فقال: من هذا؟ أكله الأسود - وكان كثيراً ما يقولها - فقالت: أنا بنت مطعم الطير ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي فتزوجني. قال: قد فعلت. فرجعت إلى قومها فقالت: قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: بئسما فعلت؛ أنت امرأة غيرى والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب نساء تغايرن عليه؛ فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أقلني. قال: قد أقلتك فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له، فبينما هي في حائط من حيطان المدينة تغتسل إذ وثب عليها الذئب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكله الأسود، فأكل بعضها فأدركت فماتت.

الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بكشحها بياضاً فقال: الحقي بأهلك، ولم يأخذ مما آتاها شيئاً. أخرجه الإمام أحمد وروى ابن عساكر عن قتادة: أنها لما دخلت عليه وجردها رأى بها وضحاً فردها، وأوجب لها المهر، وحرمت على من بعده.

قلت: زاد العلامة محمد الشامي في عدتهن، فذكر أنهن ست وعشرون، فذكر الاثنتي عشرة المذكورة، ثم زاد فذكر أم حرام، كذا في حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه - عند الطبراني.

وذكر سلمى بنت نجدة - بالنون والجيم - كما في الإشارة والزهري بخط مغلطاي، وقال في المورد: بنت بحيرة بن الحارث الليثية. ونقل عن أبي سعد عبد الملك النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحها فتوفى عنها، وأبت أن تتزوج بعده.

وذكر سبأ بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب فقال: ذكرها ابن سعد عن نافع عن ابن عمر، وهي بالموحدة بعد السين المهملة.

وذكر سناء - بفتح السين المهملة - بنت أسماء بن الصلت بن حبيب بن جابر بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرئ القيس، من بني حرام بن سليم، السلمية، ذكرها أبو جيدة فيما رواه ابن أبي خيثمة عنه، وابن حبيب فيمن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها قبل أن يدخل بها. وحكى الوشاطي عن بعضهم أن سبب موتها أنه لما بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها سرت بذلك حتى ماتت من الفرح.

ثم ذكر الشاة بنت رفاعة. ثم ذكر الشنباء - بشين معجمة فنون فموحدة - بنت عمر الغفاري. روى ابن عساكر من طريق سيف بن عمر التميمي، والمتفضل بن غسان القلابي، في تاريخه من طريق عثمان، ابن مقسم، عن قتادة: لما دخلت عليه - عليه الصلاة والسلام - لم تكن إلا مدة يسيرة، ومات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بقية من ذلك فقالت: لو كان نبياً لما مات أحب الناس إليه وأعزهم عليه، فطلقها وأوجب لها المهر، وحرمت على الأزواج، ذكر هذا ابن رشد في السيرة النبوية. ثم ذكر ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية، ثم ذكر مليكة بنت كعب الكنانية.

روى ابن سعد عن محمد بن عمر، وعن أبي معشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد، فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها، فجاء قومها فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة، وإنها لا رأي لها، وإنها خدعت، فارتجعها. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذونه أن يزوجوها قريباً لها من بني عذرة فأذن لهم. قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانية قط.

ثم ذكر آخرهن هند بنت يزيد المعروفة بابنة البرصاء سماها أبو عبيدة معمر ابن المثنى في أزواجه عليه الصلاة والسلام. وقال أحمد بن صالح: هي عمرة بنت يزيد المتقدمة.

تنبيه: قد تقدم أن المراد بعد الدخول عليها الوطء؛ فإن من هؤلاء من مات قبل الدخول، وهي أخت دحية بن خليفة الكلبي باتفاق، واختلف في مليكة وسناء: أماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على عدم دخوله بهما. وفارق عليه الصلاة والسلام بعد الدخول بالاتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان، وقبله باتفاق عمرة وأسماء والغفارية واختلف في أم شريك: هل دخل بها مع الاتفاق على الفرقة. والمستقيلة التي جهل حالها. والمفارقات باتفاق سبع، واثنتان على خلف، والميتات في حياته أربع: خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة بعد الدخول، وأخت دحية، وبنت الهذيل قبله باتفاق. ومات عليه الصلاة والسلام عن عشر: واحدة لم يدخل بها. فهن ثلاث وعشرون امرأة.

قلت: يشكل قوله: فارق عليه الصلاة والسلام بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان على إيرادهما في هذا الباب المعقود لمن عقد عليها ولم يدخل بها، وإن قلنا في التوجيه: لعله على رواية في ذلك منع من ذلك قوله بالاتفاق، فليتأمل.

وذكر في شرف النبوة أن جملة أزواجه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرون امرأة، طلق منهن ستاً، ومات عنده منهن خمس، وتوفي عن عشر: واحدة لم يدخل بها.

وكان يقسم لتسع، في الصحيحين عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة. قال عطاء بن أبي رياح: هي صفية بنت حيي بن أخطب. قلت: هذا على رواية من روى أنه لم يعقد عليها ولم يحجبها المتقدم خلافها وعدها في أمهات المؤمنين انتهى. ولقوله تعالى " تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ " الأحزاب ترجى، بالهمز وتركه: تؤخر. وتؤوي، بضم، يعني: تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء منهن. روى أنه أرجأ منهم سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء. وأوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش. أرجأ خمساً وآوى أربعاً. كذا ذكره المنذري.

وأما اللاتي خطبهن ولم يعقد عليه فعدة نسوة: الأولى منهن: امرأة من بني عمرو بن عوف بن سعد بن دينار، قال أبو اليقظان: خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فقال: إن بها برصاً - وهو كاذب - فرجع فوجدها برصاء، ويقال: إن ابنها هو المسمى شبيب بن البرصاء بن الحارث بن عوف المزني، ذكره ابن قتيبة. وقال ابن الأثير جازماً: هي أم شبيب البرصاء الشاعر.

الثانية: امرأة قرشية يقال لها: سودة، خطبها عليه الصلاة والسلام، وكانت مصبية فقالت: إن لي صبية أكره أن يتضاغوا عند رأسك بكرة وعشية. فقال عليه الصلاة والسلام: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش؛ أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن لبعل في ذات يده وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم، فدعا لها صلى الله عليه وسلم وتركها.

الثالثة: امرأة تدعى صفية بنت شامة، كان عليه الصلاة والسلام أصابها في السبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها فاختارت زوجها.

الرابعة: امرأة لم يذكر اسمها، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام خطبها فقالت: أستأمر أبي. فلقيت أباها وأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: قد التحفنا غيرك.

الخامسة: أم هانئ بنت أبي طالب، خطبها عليه الصلاة والسلام فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه فعذرها. عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني. قال العلامة الشامي: خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب، وخطبها هبيرة المخزومي، فزوجها أبو طالب هبيرة، فعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب: يا بن أخي إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وهبيرة، فخطبها عليه الصلاة والسلام فقالت: كنت أختك في الجاهلية فكيف في الإسلام، وإني امرأة مصبية.

وروى الطبراني برجال ثقات قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن ما أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش... إلى آخر ما تقدم في شأن سودة القرشية. وفي رواية عن أبي صالح عن أم هانئ، قالت قبل نزول هذه الآية " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَجَكَ " الأحزاب الآية: أراد أن يتزوجني فخطبني فنهى عني أني لم أهاجر. وفي رواية الترمذي: فلم أكن أحل له لأني لم أكن من المهاجرات، كنت من المطلقات يعني كان إسلامها بعد فتح مكة.

السادسة: الجندعية امرأة من جندع، وهي ابنة جندب بن ضمرة، وأنكرها بعض الرواة.

السابعة: ضباعة - بالضاد المعجمة وتخفيف الموحدة والعين المهملة - بنت مام ابن قرط - بفتح القاف والطاء المهملة - ابن سلمة، خطبها عليه الصلاة والسلام من ابنها سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أسلمت قديماً وهاجرت، ذكرها ابن الجوزي وابن عساكر في هذا الباب، وكانت من أجمل نساء العرب وأعظمهن خلقاً، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئاً كثيراً، وكانت تغطي جسدها مع عظمه بشعرها، وكانت تحت هوذة - بفتح الهاء وسكون الواو والذال المعجمة - ابن علي الحنفي، فمات عنها، فتزوجها عبد الله بن جدعان، فلم يلق بخاطرها فسألته طلاقها ففعل، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكان من خيار عباد الله، فلما هاجرت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة فقال: يا رسول الله، ما عنك مدفع. قال: فاستأمرها. قال: نعم، فأتاها فأخبرها فقالت: إنا لله، أفي رسول الله تستأمرني؟ ارجع إليه فقل له: نعم. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذهاب ابنها: إن ضباعة ليست كما تعهد، قد كثرت غضون وجهها، وسقطت أسنانها من فيها. فلما رجع ابنها سلمة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالت سكت عنه.

الثامنة: نعامة، لم يذكر اسم أبيها، وهي من سبي بني العنبر، فكانت جميلة، عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فلم يلبث أن جاء زوجها، ذكره في ذيل الاستيعاب.

وعرض عليه صلى الله عليه وسلم امرأتان فردهما لمانع شرعي: الأولى: أمامة، وقيل: فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، فقال صلى الله عليه وسلم: هي ابنة أخي من الرضاع، والثانية: عزة - بفتح العين المهملة والزاي المشددة - بنت أبي سفيان بن حرب، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تحل لي لمكان أختها أم حبيبة المسماة رملة بنت أبي سفيان، وحديثهما في الصحيح.

وأما سراريه فروى ابن أبي خيثمة عن أي عبيدة معمر بن المثنى قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولائد: مارية، وريحانة، وجميلة، ونفيسة.

أما مارية القبطية فهي بنت شمعون - بفتح الشين المعجمة - أم ولده إبراهيم، أهداها له المقوقس القبطي: صاحب مصر والإسكندرية سنة سبع من الهجرة، وبعث معها أختها سيرين بنت شمعون وخصياً يقال له: مأبور، وألف مثقال ذهب، وعشرين ثوباً من قباطي مصر، وبغلة شهباء وحماراً أشهب، وهو الذي يقال له: يعفور، وعسلاً من عسل بنها - بباء مكسورة فنون ساكنة - قرية من قرى مصر بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها لما أعجبه، والناس اليوم يفتحون الباء. فأسلمت وأسلمت أختها، وكانت مارية بيضاء جميلة أنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعالية، وكان يختلف إليها إلى أن ماتت في المحرم سنة عشر.

وروى البزار والضياء المقدسي في صحيحه عن علي رضي الله عنه، قال: كثر على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها، هو مأبور المذكور، كان يزورها فيختلف إليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ هذا السيف فانطلق به، فإن وجدته عندها فاقتله. قال قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يسبقني شيء حتى أمضي لما أمرتني به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: فافعل. فأقبلت متوشحاً السيف ووجدته عندها فاخترطت السيف، فلما رآني أقبلت نحوه عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقاها ثم رمى بنفسه. قال قتادة: ثم شغر برجله فإذا هو أجب أمسح ما له قليل ولا كثير. فغمدت السيف، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت.

وروى البزار بسند جيد عن أنس قال: لما ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية جاريته وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم.

ووهب عليه الصلاة والسلام أختها سيرين بنت شمعون لحسان بن ثابت فهي أم ولده عبد الرحمن بن حسان كذا في سيرة الشامي، إلا قوله وهب ففي المواهب. وقال في الروض الأنف: أعطى عليه الصلاة والسلام حسان جاريته سيرين بضرب صفوان بن المعطل له. قلت: كان السبب في ضرب صفوان بن المعطل حساناً بالسيف في وجهه ما كان من حسان من الخوض في حديث الإفك؛ لأنه المرمي به عائشة. وفي ذكرى أن حساناً عمى آخر عمره، وكان سببه تلك الضربة من صفوان. فأعطاه عليه الصلاة والسلام سيرين أخت مارية هذه، وهي أم عبد الرحمن بن حسان الشاعر، وكان عبد الرحمن يفخر بأنه ابن خالة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روت سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً قالت: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خللاً في قبر ابنه إبراهيم فأصلحه وقال: إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه.

وأما ريحانة فهي بنت شمعون أيضاً؛ من سبي بني قريظة، وقيل: من سبي بني النضير، والأول أظهر، وكانت متزوجة فيهم رجلاً يقال له: الحكم، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيرها بين الإسلام ودينها فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وأعرس بها في المحرم سنة ست في بيت سلمى بنت قيس النجارية بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها تطليقة فأكثرت البكاء، فدخل عليها وهي على تلك الحال فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وقيل: كانت موطوءة له بملك اليمين، وهذا جزم به خلائق. قال في المواهب: وكان صلى الله عليه وسلم يطؤها بملك اليمين، وقيل: أعتقها وتزوجها.

وأما جميلة فأصابها من السبي، فأكدنها نساؤه وخفن أن تغلب عليه.

وأما نفيسة فوهبتها له زينب بنت جحش، وكان هجرها - يعني زينب - في صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر، فلما كان في شهر ربيع الأول الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم رضى عن زينب ودخل عليها فقالت: ما أدري ما أجزيك به، فوهبتها له. كذا ذكره الشامي ناقلاً لكلام أبي عبيدة معمر بن المثنى. انتهى.