في بيان أحواله عليه الصلاة والسلام: في أولاده عليه الصلاة والسلام، وما اتفق عليه منهم، وما اختلف فيه

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب الخامس من المقصد الثاني

في أولاده عليه الصلاة والسلام، وما اتفق عليه منهم، وما اختلف فيه

جملة ما اتفق عليه ستة: ذكران: القاسم، وإبراهيم. وأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهم. وكلهن أدركهن الإسلام، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم واختلف فيما سواهن. فقيل: لم يكن له عليه الصلاة والسلام سواهم، والمشهور خلافه. قال ابن إسحاق: كان له الطيب، والطاهر أيضاً. فيكون على هذا جملتهم ثمانية: أربعة ذكور، وأربع إناث. وقال الزبير بن بكار فيما رواه الطبراني برجال ثقات: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم - غير إبراهيم والقاسم عبد الله، وهو قول أكثر أهل النسب. وقال الدارقطني: وهو لا يثبت. وصححه الحافظ عبد الغني المقدسي. وسمي عبد الله بالطيب والطاهر؛ لأنه ولد بعد النبوة، فتكون على هذا جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور وأربع إناث. وقيل: كان له عليه الصلاة والسلام الطيب والمطيب ولدا في بطن، والمطهر والطاهر ولدا في بطن. فيكون على هذا جملتهم أحد عشر.

قال ابن إسحاق: ولد أولاده كلهم - غير إبراهيم - قبل الإسلام، ومات البنون قبل الإسلام وهم يرضعون. وهو مأخوذ من قول غيره: إن عبد الله ولد بعد النبوة، ولذلك يسمى بالطيب الطاهر. والأصح قول الجمهور إنهم ثلاثة ذكور القاسم، وعبد الله، وإبراهيم. والبنات المتفق عليهم كلهن من خديجة بنت خويلد الأسدية، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.

قال محمد بن عمر: كانت سلمى، مولاة صفية بنت عبد المطلب، هي قابلة خديجة في أولادها، وكانت خديجة تعق عن كل غلام بشاتين، وعن الجارية بشاة. وكان بين كل ولدين لها سنة. وكانت تسترضع وتعد - بضم التاء وكسر العين - ذلك قبل ولادها.

وأكبر بناته صلى الله عليه وسلم زينب، كما ذكره الجمهور، وقال الزبير بن بكار وغيره: أكبر بناته رقية، والأول أصح. وقال الزبير فيما نقله أبو عمرو عنه: ولد له صلى الله عليه وسلم القاسم وهو أكبر ولده، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. هكذا الأول فالأول. وقيل: رقية أكبر من أم كلثوم وهو الأشبه؛ لأن عثمان رضي الله عنه تزوجها أولاً في أول إسلامه، وهاجرت معه، وماتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عزوة بدر، وجاء بشيره إلى المدينة بالنصر وقد نفضوا أيديهم من دفنها. وبسبب تمريضها تخلف عثمان عن شهود وقعة بدر، ثم أم كلثوم بعدها بعد وقعة بدر.

والظاهر أن الكبيرة تزوج أولاً وإن جاز خلافه، والأكثر على أن فاطمة أصغرهن سناً، ولا خلاف أن أكبرهن سناً زينب، قاله في الخميس. ثم مات القاسم بمكة وهو أول ميت مات من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات عبد الله أيضاً بمكة. وقال ابن إسحاق: ولدت خديجة رضي الله عنها زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم القاسم ثم الطاهر ثم الطيب. فأما القاسم والطيب والطاهر فماتوا في الجاهلية. وأما بناته فأدركهن الإسلام كلهن وهاجرن معه.

قال أبو عمرو وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني: أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم: القاسم وهو أكبر أولاده، ثم زينب. وقال ابن الكلبي: زينب، ثم القاسم، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد الله. هكذا ذكره على سبيل الإجمال، وسيأتي ذكرهن على التفصيل. والمتحصل من مجموع الأقوال الأصح منها أنهم سبعة، ثلاثة ذكور: القاسم وإبراهيم وعبد الله المسمى بالطيب والطاهر، وأربع بنات متفق عليهن، وكلهم من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم كما تقدم.

روى الهيثم بن عدي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى وعبد مناف. قال الذهبي في الميزان والحافظ في اللسان: هذا من افتراء الهيثم على هشام. وقال أبو الفرج بن الجوزي: الهيثم كذاب لا يلتفت إلى قوله. قال شيخنا ابن ناصر: لم يسم عليه الصلاة والسلام عبد مناف ولا عبد العزى قط، والهيثم كذبه البخاري وأبو داود والعجلي والساجي. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. وقال في المورد: ولا يجوز لأحد أن يقول: إن هذه التسمية وقعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئن قيل: إن هذه التسمية وقعت - يعني على فرض صحة رواية الهيثم - فيكون من غيره صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون ولد هذا المولود والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بعبادة ربه أو بغير ذلك من شئونه، وسماه بعض أهل خديجة بذلك، ولم يسمعه عليه الصلاة والسلام ولم يره، أو يكون أحد من شياطين الإنس والجن اختلق ذلك لما ولد أحد أولاده المذكورين؛ ليدخل في ذلك لبساً في قلب ضعيف الإيمان، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك غيّره، أو يكون ذلك مما الله تعالى عالمه. وأورد الطحاوي في مشكل الحديث، والبيهقي في السنن، وأبو سعد النقاش، والجوزقاني في الموضوعات، وغيرهم - ما نقله الهيثم عن هشام بن عروة، ولم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام. كذا في سيرة الشامي.

قال الإمام العلامة، شيخ الأطباء، علاء الدين بن نفيس - رحمه الله: لما كان مزاجه صلى الله عليه وسلم شديد الاعتدال لم يكن أولاده إناثاً فقط؛ لأن ذلك إنما يكون لحرارة المزاج، ولما كان مزاج النبي صلى الله عليه وسلم معتدلاً فيجب أن يكون له بنون وبنات، وبنوه يجب ألا تطول أعمارهم، وإذا طالت بلغوا إلى سن النبوة، وحينئذ فلا يخلوا إما أن يكونوا أنبياء أو لا يكونوا كذلك، ولا جائز أن يكونوا أنبياء، وإلا لما كان هو خاتم النبيين، ولا يجوز أن يكونوا غير أنبياء وإلا كان نقصاً في حقه وانحطاطاً عن درجة كثير من الأنبياء؛ فإن كثيراً من الأنبياء كان أولادهم أنبياء أيضاً. وأما بنات هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تطول أعمارهن؛ لأن النساء لسن بأهل للنبوة. انتهى.

أما سيدنا القاسم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكبر أولاده عليه الصلاة والسلام كما تقدم، وبه كان يكنى، وهو أول من مات منهم بمكة قبل النبوة، مات صغيراً، عاش حتى مشى، وقيل: عاش سنتين، وقيل: عاش سبل ليال: قاله مجاهد، وخطأه الملا وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهراً. وقال ابن فارس: بلغ أن يركب الدابة وأن يسير على النجيب. وقال السهيلي: بلغ المشي، غير أن رضاعته لم تكمل. وروى يونس بن بكير عن أبي عبد الله الجعفي عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: كان القاسم بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيب، فلما قبض قال العاص بن وائل: لقد أصبح محمد أبتر، فنزلت " إِنَّا أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ " الكوثر أي: عن مصيبتك يا محمد. قال العلامة محمد الشامي: فهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة، خلاف ما تقدم أنهم ماتوا قبلها، يعني البنين الثلاثة.

وروى الطيالسي وابن ماجه والحربي عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها رضي الله عنهما، قالت: لما هلك القاسم قالت خديجة: يا رسول الله، درت لبينة القاسم، فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه، قال عليه الصلاة والسلام: إن تمام رضاعه في الجنة. زاد ابن ماجه فقالت لو أعلم ذلك لهون علي. قال: إن شئت دعوت الله فأسمعك صوته. فقالت: بل أصدق الله ورسوله. قال الحفاظ الذهبي: وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام بعد البعثة، لكن في السند ضعف. وروى البخاري في تاريخه الأوسط من طريق سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة: أن القاسم مات قبل الإسلام، وهذا يؤيد الأول السابق أنهم درجوا صغاراً قبل البعثة.

وأما سيدنا عبد الله ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات صغيراً بمكة كما تقدم، ويقال له: الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء، وهو قول أكثر أهل السير والعلم، قاله أبو عمرو. وقال الدارقطني: هو الأثبت، ويسمى عبد الله بالطيب والطاهر؛ لأنه ولد بعد النبوة، أي: على خلاف في ذلك كما تقدم ذكره، فبه كانت جملتهم سبعة: ثلاثة ذكور وأربع إناث كما تقدم.

وأما سيدنا إبراهيم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من مارية القبطية، وقد تقدم ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام. ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة بالعالية، قاله مصعب بن الزبير. وروى ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معجباً بمارية القبطية وكانت بيضاء جميلة، فأنزلها عليه الصلاة والسلام على أم سليم بنت ملحان، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فوطئها بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية، وكان من أموال بني النضير، وكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك، وكانت حسنة الدين، وولدت له عليه الصلاة والسلام غلاماً فسماه إبراهيم، وعق عنه بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض. وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته بان مارية قد ولدت غلاماً، فجاء أبو رافع إليه عليه الصلاة والسلام فبشره فوهب له عبداً. وغار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، واشتد عليهم حين رزق منها الولد، كذا في سيرة الشامي. قلت: سلمى هي مولاة صفية بنت عبد المطلب، وقد تقدم أنها قابلة خديجة على أولادها منه صلى الله عليه وسلم، ووصفها هنا بمولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء فيه؛ إذ مولاة عمة الشخص مولاته.

وروى ابن سعد والزبير بن بكار، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: لما ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنافس فيه نساء الأنصار؛ أيتهن ترضعه، وأحببن أن يفرغن مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمن من ميله إليها، فدفعه عليه الصلاة والسلام إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن النجار وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن النجار، وكانت ترضعه، فكان يكون عند أبويه في بني النجار ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بردة فيغتسل عندها ويؤتى بإبراهيم، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل.

وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه: أنه عليه الصلاة والسلام دفع إبراهيم إلى أم سيف وهو قين، أي: حداد بالمدينة يقال له: أبو سيف، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته حتى انتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت في المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهيت في المشي إلى أبي سيف، فقلت: يا أبا سيف، أمسك؛ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمسك، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول.

وروى - أيضاً - عن أنس رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أرحم بعياله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ابنه إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان يأتيه ونحن معه فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظئره قيناً فيأخذه فيقبله.

مات إبراهيم سنة عشر من الهجرة، قاله الواقدي جازماً به وقال: يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول.

وكسفت الشمس يوم موته فقالوا: كسفت لموته، فقام خطيباً عليه الصلاة والسلام فقال فيها: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بهما عباده. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة والدعاء والاستغفار.

وفي صحيح البخاري: عاش سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر. عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى النخل الذي فيه إبراهيم، فدخل وإبراهيم يجود في نفسه، فوضعه عليه الصلاة والسلام في حجره، فلما مات دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن بن عوف: تبكي يا رسول اله، أو لم تنه عن البكاء؟ قال: إنما نهيت عن النوح، وعن صوتين أخنعين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجه وشق جيب ورنة الشيطان. وفي رواية إنما نهيت عن النياحة، وأن ينعت الميت بما ليس فيه ثم قال: وإنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، ويوم جامع - وفي رواية - لولا أنه أجل محدود، ووقت صادق - لحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. وروى ابن ماجه والحكيم الترمذي عن أنس: لما قبض إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه. فأتاه فانكب عليه وبكى.

واختلف هل صلى عليه، فروى الإمام أحمد وابن سعد من طريق جابر الجعفي وهو ضعيف عن البراء، والبيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه، وأبو داود والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح مرسلاً أنه عليه الصلاة والسلام صلى على ابنه إبراهيم، زاد البيهقي: في القاعة وهو موضع الجنائز، زاد أنس وكبر عليه أربعاً، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً.

وعن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على شفير قبر ابنه إبراهيم فرأى فرجة في اللحد فناول الحفار مدرة، وقال: إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي بأصبعه ويقول: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه. قلت: هو معنى الحديث المتقدم الذي روته سيرين أخت مارية، وقد ذكرته في ذكرها عند ذكر أختها. وروى ابن سعد عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أمه سيرين أخت مارية، قالت: حضرت موت إبراهيم فرأيته - عليه الصلاة والسلام - كلما صحت أنا وأختي مارية ما ينهانا، فلما مات نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن عباس ورسول الله، والعباس جالس إلى جنبه، ونزل في حفرته الفضل بن عباس وأسامة بن زيد. ولما دفن إبراهيم رش على قبره وأعلم بعلامة، قال: وهو أول قبر رش.

وروى ابن سعد عن رجل من آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفن إبراهيم قال: هل من أحد يأتي بقربة؟ فأتى رجل من الأنصار بقربة ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: رشها على قبر إبراهيم.

وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعة في الجنة، ولو عاش لكان صديقاً نبياً، ولو عاش لتعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي قط.

وروى العلامة محمد بن يوسف الشامي في سيرته: اشتهر على الألسنة أنه عليه الصلاة والسلام لقن ابنه إبراهيم بعد الدفن قال: قل الله ربي، ورسولي أبي. وهذا شيء لم يوجد في كتب الحديث، وإنما ذكره المتولي في تتمته بلفظ: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال: قل: الله ربي، ورسولي أبي، والإسلام ديني، فقيل: يا رسول الله، أنت تلقنه، فمن يلقننا؟ فأنزل الله: " يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ " إبراهيم الآية. - والأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى بالنظامي. وروى ابن سعد عن الزهري مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ملكتم القبط فأحسنوا إليهم؛ فإن لهم ذمة وإن لهم رحماً. وعن ابن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً وروى الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم فيكونوا لكم عدة وأعواناً في سبيل الله.

وأما السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، إنما الخلاف فيها وفي القاسم: أيهما ولد أولاً؟ قال ابن إسحاق: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي يقول: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام، وأدركت الإسلام وهاجرت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محباً فيها، وتزوجها ابن خالتها أبو العاص - واسمه لقيط - على الأكثر، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم - بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، أمه هالة بنت خويلد، فلذا كان ابن خالة زينب.

روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالاً وتجارة وأمانة، فقالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه زينب رضي الله عنها. فلما أكرم الله نبيه بنبوته آمنت خديجة وبناتها فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بأمر الله تعالى ودينه أتوا أبا العاص بن الربيع هذا فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة شئت، فقال: لا والله لا أفارق صاحبتي، وما يسرني أن لي بها أفضل امرأة من قريش.

وفي الخميس: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الإسلام فرق بين زينب وبين أبي العاص، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يفرق بينهما، وكان مغلوباً عليه بمكة، قال أبو محمد، عبد الملك بن هشام في سيرته بعد أن ذكر مثل ما تقدم فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب في الأسارى يوم بدر، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا. قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردوا عليها الذي كان لها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه العهد - أو هو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم ذلك أن يخلي سبيل زينب إليه، أو كان شرط ذلك عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو، إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها. فخرجا إلى مكانهما ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز.

قال: قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب فقالت: يا بنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: فقلت: ما أردت ذلك. قالت هند: أي ابنة عم، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بما تصلين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك وتجهزت.

فلما فرغت من جهازها قدم لها حموها، كنانة بن الربيع، أخو زوجها لقيط بن الربيع، المكنى أبا العاص - بعيراً فركبته، وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهاراً يقود بها وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش، فأخذوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى الفهري، فروعها بالرمح وهي في هودجها، وقيل: نخس بعيرها، فقمص بها فسقطت على صخرة، وكانت المرأة حاملاً فيما يزعمون، فلا ريعت طرحت ما في بطنها، وبرك حموها على ركبتيه، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا منها رجل إلا وضعت فيه سهماً، فتكركر الناس عنه، وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا بما دخل علينا من محمد؛ فيظن الناس، إذ أخرجت بنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذل أصحابنا من مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك بنا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثورة. ولكن ارجع بالمرأة، حتى إ ذا هدأت الأصوات، وتحدثت الناس أن قد رددناها، فسلها سراً وألحقها بأبيها.

فرجع بها كنانة. فاستخبر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقالت بنو أمية: نحن أحق بها - لكونها تحت ابن عمهم أبي العاص - فكانت عند هند بنت عتبة بن الربيع، فكانت هند تقول لها: هذا في سبب أبيك. قال: فأقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلاً حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل زيد بن حارثة وصاحبه قال لزيد: خذ خاتمي فأعطها. فانطلق زيد فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً فقال: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص. فقال: لمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال: هل لك إن أعطيتك شيئاً فتعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم. فأعطاه الخاتم. فانطلق الراعي فأدخل الغنم وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا. فسكتت حتى إذا جاء الليل أخبرت زوجها، فتجهزت، فأخرج بها أخاه كنانة بن الربيع حتى أسلمها إلى زيد وصاحبه كما تقدم.

فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يدي على بعيري، فقالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة قال عروة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت فيّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدثه تنقص به حق فاطمة؟ قال عروة: ما أحب أن لي بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها، وإنما بعد فلك عليّ ألا أحدث به. أخرجه الدولابي.

قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فقال أبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف في الذي كان من أمر زينب: من الطويل

أتاني الّذي لا تقدر النّاس قدره ... لزينب فيهم من عقوقٍ ومأثم

وإخراجها لم يخز فيه محمّدٌ ... على مأقط وبيننا عطر منشم

وأمسى أبو سفيان من حلف ضمضمٍ ... ومن حربنا في رغم أنفٍ ومندم

قرنّا ابنه عمراً ومولى يمينه ... بذي حلقٍ جلد الصّلاصل محكم

فأقسمت لا تنفكّ منّا كتائبٌ ... سراة خميس في لهام مسوّم

نروع قريش الكفر حتّى نعلّها ... بخاطمةٍ فوق الأُنوف بميسم

نُنزّلهم أكناف نجدٍ ونخلةٍ ... وإن يتهموا بالخيل والرّجل نُتهم

مدى الدّهر حتّى لا يعوج سربنا ... ونلحقهم آثار عادٍ وجرهم

ويندم قومٌ لم يطيعوا محمّداً ... على أمره وأيّ حين تندّم

فأبلغ أبا سفيان إمّا لقيته ... لئن أنت لم تخلص سجوداً وتسلم

فأبشر بخزيٍ في الحياة معجّلٍ ... وسربال نارٍ خالدا في جهنّم

وقوله قرنا ابنه عمراً ومولى يمينه يريد به عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي؛ لأنه أسر يوم بدر هو وعمرو بن أبي سفيان بن حرب؛ لأن حلف الحضرمي وذويه كان إلى حرب بن أمية ومن بعده إلى أبي سفيان بن حرب.

ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب ليردوها إلى مكة عند خروجها أول مرة مع كنانة بن الربيع، لقيتهم هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت لهم: من الطويل

أفي السّلم أعياراً جفاءً وغلظةً ... وفي الحرب أشباه النّساء العوارك

وقال كنانة بن الربيع المذكور في أمر زينب: من الطويل

عجبت لهبّارٍ وأوباش قومه ... يريدون إخفاري ببنت محمّد

ولست أُبالي ما حييت فديدهم ... وما استجمعت قبضاً يدي بالمهنّد

قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها فقال لنا: إن ظفرتم بهبار بن الأسود والرجل الذي سبق معه إلى زينب - قال ابن هشام: وقد سمى ابن إسحاق الرجل بعينه فقال: هو نافع بن عبد قيس - فحرقوهما بالنار. قال: فلما كان الغد بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما.

قال ابن إسحاق: فأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق بينهما الإسلام بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام - وكان رجلاً مأموناً - بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما خرج من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ما معه وأعجزهم هرباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج عليه الصلاة والسلام إلى صلاة الصبح - كما حدثني به يزيد ابن رومان - فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صف النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم عليه الصلاة والسلام من الصلاة أقبل فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت قالوا: نعم. قال: أما والله الذي نفسي بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم.

ثم انصرف عليه الصلاة والسلام فدخل على ابنته فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك؛ فإنك لا تحلين له. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية التي أصابت مال أبي العاص فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذي أفاء لكم فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه. قال: فردوه عليه. حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الآخر بالشنة والإداوة، حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ، حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئاً. ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله وما كان أبضع معه. ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً. قال إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدها الله سبحانه إليكم وفرغت منها أسلمت.

ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم إليه زينب عن النكاح الأول لم يحدث شيئاً بعد ست سنين.

قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنهما هي أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئسما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.

قال في المواهب: ردها له عليه الصلاة والسلام بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل: بعد ست سنين، وقيل: قبل انقضاء العدة فيما ذكره ابن عقبة، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ردها له بنكاح جديد سنة سبع من الهجرة.

ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة ثمان من الهجرة فغسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم سلمة، وصلى عليها عليه الصلاة والسلام، ونزل في قبرها ومعه أبو العاص وجعل لها نعشاً، فكانت أول من اتخذ لها ذلك.

وعن أبي عمر: لما دفن عليه الصلاة والسلام ابنته زينب جلس عند القبر، فتربد وجهه ثم سرى عنه، فسئل عن ذلك، فقال: ذكرت ابنتي زينب وضعفها وعذاب القبر؛ فدعوت الله ففرج عنها. وايم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين. أخرجه سعيد بن منصور في سننه. وروى الطبراني عن رجال الصحيح عن عروة ابن الزبير: أن زينب لم تزل وجعة مما وقع من الإسقاط بسبب فعل هبار بن الأسود حتى ماتت، فكانوا يرون أنها شهيدة.

ولدت زينب من أبي العاص غلاماً يقال له: علي، توفي وقد ناهز الحلم، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح، ومات في حياته عليه الصلاة والسلام. وولدت له جارية يقال لها: أمامة، أخت علي المذكور، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت السيدة فاطمة بوصية منها، ولم تلد له، وقيل: ولدت له محمداً وعليه كثيرون، وقتل عنها.

وكان عليه الصلاة والسلام يحب أمامة هذه، وكان يحملها على عاتقه في الصلاة، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رأسه من السجود أعادها.

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة من جزع معلمات بالذهب، ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن، وأمامة بنت أبي العاص جارية تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيف ترين هذه؟ فنظرنا إليها فقلنا: يا رسول الله، ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب. فقال: ارددنها إلي، فوالله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي. قالت عائشة: فأظلمت علي الأرض بيني وبينه؛ خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن، ولا أراهن إلا أصابهن مثل الذي أصابني، ووجمنا جميعاً سكوتاً، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص، فسرى عنا.

وكان تزوجها علي بن أبي طالب - كما تقدم - من الزبير بن العوام؛ لأنه كان أبوها أبو العاص أوصى بها إلى الزبير، فكان وصيه عليها، فزوجها بعلي رضي الله عنهما. فلما قتل علي رضي الله عنه وكرم وجهه تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وكان علي قد أمره بذلك بعده؛ لأنه خاف أن يتزوجها معاوية. وولدت له يحيى وبه كان يكنى، وقيل لم تلد فلا عقب لزينب، وماتت عنده سنة خمسين من الهجرة. روى أن علياً رضي الله عنه قال لها حين حضرته الوفاة: إني لا آمن أن يخطبك معاوية؛ فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيراً.

فلما انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان يأمره أن يخطبها ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل: إن هذا - تعني معاوية - أرسل يخطبني؛ فإن كان لك بنا حاجة فأقبل. وخطبها إلى الحسن بن علي فزوجها منه. خرج ذلك أبو عمر. وذكر الدولابي: أن علياً لما أصيب وأرسل معاوية إلى مروان يخطبها له، قال لها المغيرة: اجعلي أمرك إلي فأنا خير لك منه، ففعلت، فدعا رجالاً فقال: اشهدوا أني قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا. وعاش بعد زينب زوجها أبو العاص وتزوج بنت سعيد بن العاص إلى أن هلك بالمدينة في خلافة عثمان، وأوصى إلى الزبير بن العوام كما تقدم. رضي الله عنهم أجمعين.

ذكر السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وسماها رقية، وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعته حين بايعه النساء.

قال قتادة بن دعامة ومصعب بن الزبير فيما رواه ابن أبي خيثمة عنهما: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم تحت عتيبة، فلما نزلت سورة تبت قال لهما أبوهما: رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقها ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا قد دخلا بهما؛ كرامة من الله لهما وهواناً لابني أبي لهب. فتزوج رقية عثمان بن عفان، وهاجر بها الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وتوفيت عنده. وكان زواجه بها في الجاهلية. قاله الدولابي. والذي ذكره غيره أنه كان بعد إسلامه.

وعن عائشة رضي الله عنها: أتت قريش عتبة بن أبي لهب فقالوا: طلق ابنة محمد، ونحن نزوجك أي امرأة شئت، فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ففارقها. وقد تقدم في ذكر الأعمام كيفية هجرتها مع زوجها عثمان إلى الحبشة، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها المرأة من قريش كيف رأتها، وقوله عليه الصلاة والسلام: صحبهما الله، إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط.

وكانت رقية ذات جمال رائع فكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان مع زوجها. قال محمد بن قدامة: روينا أن فتيان أهل الحبشة كانوا يعرضون لرقية ينظرون إليها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك، فدعت عليهم فهلكوا جميعاً.

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان. خرجه الطبراني في معجمه.

قال مصعب الزبيري: توفيت رقية عند عثمان بالمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى، وتخلف عثمان بسبب مرضها عن غزوة بدر فلم يشهدها، وكان تخلفه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهمه وأجره. عن ابن شهاب: أن مرضها هو أنه أصابتها الحصبة فمرضت، وماتت بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة، وجاء بشيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنصرة بدر - وهو زيد بن حارثة - وعثمان قائم على قبر رقية قد نفض هو ومن معه أيديهم من دفنها.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لما عزي عليه الصلاة والسلام برقية قال: الحمد لله، دفن البنات من المكرمات.

ولدت رقية لعثمان ولداً بالحبشة سماه عبد الله. قال مصعب: بلغ ست سنين، وقيل: سنتين، فنقره في عينه ديك فورم وجهه ومرض فمات، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل أبوه عثمان في حفرته. وقيل: إنه مات وهو رضيع. وقال قتادة: لم تلد رقية لعثمان شيئاً، وغلطوه، والأول أصح كما تقدم، رضي الله عنهما.

ذكر السيدة أم كلثوم رضي الله عنها: هي أكبر من فاطمة، سماها - عليه الصلاة والسلام - أم كلثوم ولم يعرف لها اسم؛ إنما تعرف بكنيتها. أسلمت حين أسلم أخواتها، وبايعت معهن، وهاجرت حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان بن عفان في ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وبنى بها في جمادي الآخرة.

وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها.

وقد تقدم قبل هذا أنها كانت تحت عتيبة بن أبي لهب، ثم فارقها قبل دخوله بها فخلف عليها عثمان بن عفان بعد موت أختها رقية.

وعن قتادة أن عتيبة فارق أم كلثوم، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه وشق قميصه وتفل، فرجع التفل في وجه التافل فاحترق مكانه في وجهه، وكان خارجاً إلى الشام تاجراً فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. فأكله السبع. والقصد قد تقدمت في ذكر أعمامه عليه الصلاة والسلام بما أغنى عن الإعادة هنا.

قال في الخميس: روي عن سعيد بن المسيب قال: آم عثمان بن عفان رضي الله عنه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمت حفصة بنت عمر من زوجها خنيس بن حذافة السهمي، فمر عثمان بعمر رضي الله عنهما، فقال عمر له: هل لك في حفصة؟ فلم يجب. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أدلك على خير من ذلك؟ أتزوج أنا حفصة، وأزوج عثمان خيراً منها أم كلثوم. خرجه أبو عمر، ثم قال: حديث صحيح.

وإنما كان امتناع عثمان رضي الله عنه؛ لأنه سمع أنه عليه الصلاة والسلام يذكر حفصة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان ابنتي. وقالت عائشة في ذلك: كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى عليه الصلاة والسلام خرج يلتمس ناراً، فرجع بالنبوة. خرجه إلى الحسن أبو نعيم البصري. قلت: عقد هذا الأثر عن عائشة بعض الأدباء شعراً في أبيات أربعة هي قوله: من الخفيف

كُن لما لا يرجى من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راجي

إنّ موسى مضى ليقبس ناراً ... من شهابٍ يلوح والليل داجي

فانثنى راجعاً وق كلّم الل ... ه وناجاه، وهو خير مناجي

وكذا الكرب حين يشتدّ بالمر ... ء فأدنى لسرعة الإنفراج

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عثمان: لما ماتت امرأتي، رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيت بكاء شديداً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك؟ قلت: أبكي على انقطاع صهري منك. قال: فهذا جبريل يأمرني بأمر الله أن أزوجك أختها. والذي نفسي بيده، لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى بعد المائة شيء. هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجك أختها، وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها. أخرجه الفضائلي الرازي.

ماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها أبوها صلى الله عليه وسلم، وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، فروت قوله عليه الصلاة والسلام: اغسليها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك - إن رأيتن ذلك - بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن آذنني. فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه وقال: أشعرنها إياه. قالت: ومشطناها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. وعنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ابدأن بميامنها ومواضع السجود منها.

وعن ليلى بنت قائف الثقفية قالت: كنت ممن غسل أم كلثوم، فكان أول ما أعطانا عليه الصلاة والسلام الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الآخر قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على الباب معه كفنها، فناولنا ثوباً ثوباً. خرجه الدولابي.

وعن أنس: شهدنا مدفن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على شفير القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة أهله؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. فقال: انزل في قبرها. فنزل. خرجه البخاري. وروى أنه نزل في حفرتها علي والفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وأن أبا طلحة استأذنه عليه الصلاة والسلام في النزول معهم فأذن له، ذكره أبو عمر. ولا تضاد بين هذا وما قبله المخرج في البخاري؛ إذ يجوز أن يكون استأذن أولاً فقال عليه الصلاة والسلام ذلك ليثبت لأبي طلحة موجب اختصاصه بالنزول. وقد رويت هذه القصة في رقية وهو وهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حال دفن رقية حاضراً، بل كان في غزوة بدر كما تقدم، وإنما كان حاضراً في وفاة هذه أم كلثوم ودفنها.

قال السهيلي في شرح سيرة ابن هشام: ما الحكمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن ابنته أم كلثوم: أيكم لم يقارف الليلة أهله؟ فقال أبو طلحة: أنا، وقد كان عثمان أحق بذلك من؛ لأنه كان بعلها؟ قال ابن بطال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها، وقد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها وفقد منهم علقاً لا عوض له؛ لأنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم أيكم لم يقارف الليلة أهله سكت عثمان ولم يقل أنا؛ لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة؛ فحرم بذلك ما كان حقاً له، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره، وهذا بين في معنى الحديث، ولعله عليه الصلاة والسلام قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً؛ لأنه فعل فعلاً حلالاً، غير أن المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح، ولم يكن لعثمان رضي الله عنه من أم كلثوم شيء من الولد رضي الله عنها.

ذكر السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال في الصفوة: ولدت فاطمة وقريش تبني الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم، وولدت الحسن ولها إحدى وعشرون سنة، بعد الهجرة بثلاث سنين، وقال أبو عمر ولدت فاطمة سنة إحدى وأربعين من مولده عليه الصلاة والسلام. وهو مغاير لما تقدم من رواية ابن إسحاق من أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم بالاتفاق، وإلا عبد الله على قول ادعى قائله أن ذلك سبب تلقيبه بالطيب الطاهر.

روى مرفوعاً: إنما سميت فاطمة لأن الله تعالى قد فطمها وذريتها من النار. أخرجه الحافظ الدمشقي. وروى النسائي: لأن الله فطمها ومحبيها من النار. وسميت بتولاً - والبتل: القطع - لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وديناً وحسناً، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى، وكذا قاله ابن الأثير.

وعن أبي جعفر قال: دخل العباس على علي وفاطمة رضي الله عنهم، وأحدهما يقول للآخر أينا أكبر؟ فقال العباس: ولدت أنت يا علي قبل بناء قريش البيت بسنوات، وولدت أنت يا فاطمة وقريش تبني البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة، قبل النبوة بخمس سنين. أخرجه الدولابي.

وكان عليه الصلاة والسلام يحب فاطمة حباً شديداً، فتزوجت بعلي رضي الله عنه في السنة الثالثة من الهجرة، وقيل: بعد أحد، وقيل: بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وكان العقد في رجب، وقيل: في رمضان، وقيل: تزوج بها في صفر من السنة الثانية من الهجرة وبنى بها في ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان سنها حال تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وسن علي رضي الله عنه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. ولم يتزوج عليها رضي الله عنها حتى ماتت.

عن أنس رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت ولم يرجع إليهما شيئاً. فانطلقا إلى علي يأمرانه بطلب ذلك، قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي. كذا في المواهب. وفي سيرة الشامي: روى الطبراني وابن أبي خيثمة وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن يعلى الأسلمي، والبزار من طريق محمد بن ثابت بن أسلم - وهما ضعيفان - عن أنس بن مالك، وابن أبي خيثمة والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن ثابت: إن عمر ابن الخطاب أتى أبا بكر فقال: ما يمنعك أن تتزوج فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا يزوجني، قال: إذا لم يزوجك فمن يزوج؟ إنك من أكرم الناس عليه وأقدمهم في الإسلام. قال: فانطلق أبو بكر إلى بيت عائشة فقال: يا عائشة، إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس وإقبالاً عليك فاذكري له أني ذكرت فاطمة فلعل الله عز وجل أن ييسرها لي. قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأت منه طيب نفس وإقبالاً فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر ذكر فاطمة وأمرني أن أذكرها، فقال صلى الله عليه وسلم: حتى ينزل القضاء. فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه، وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت.

وقال يحيى: إن أبا بكر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مني صحبتي وتقدمي في الإسلام، وأني وأني، فقال عليه الصلاة والسلام: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فسكت عنه أو قال فأعرض عنه. فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكت وأهلكت. قال عمر رضي الله عنه: وما ذاك؟ قال أبو بكر: خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عني. وقال ابن ثابت فانطلق عمر إلى حفصة ابنته فقال لها: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقبالاً عليك فاذكري له أني ذكرت فاطمة، لعل الله أن ييسرها إلي. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفصة قالت حفصة: وجدت منه إقبالاً وطيب نفس، فذكرت له أن عمر يذكر فاطمة رضي الله عنها. فقال: حتى ينزل القضاء. وقال ابن ثابت: فأتى عمر رسول الله فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله، قد علمت مني صحبتي وقدمي في الإسلام وأني وأني. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فأعرض عنه. فرجع عمر إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: إنه ينتظر أمر الله تعالى فيها.

فانطلق عمر إلى علي رضي الله عنه. وقال يحيى بن يعلى: إن أبا بكر وعمر قالا: انطلق بنا إلى علي حتى نأمره أن يطلب منه مثل الذي طلبنا. فقال علي: فأتياني وأنا في سبيل، فقالا: ابنة عمك تخطب. فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي، طرف على عاتقي وطرف آخر في الأرض، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بن ثابت: ولم يكن لعلي مثل عائشة ولا مثل حفصة، فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أتزوج فاطمة، قال: فافعل. قال: ما عندي إلا درعي الخطمية... الحديث.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني من طريق يحيى بن العلاء قال: كانت فاطمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يذكرها أحد إلا صد عنها حتى يئسوا منها، فلقى سعد بن معاذ علياً رضي الله عنه فقال له: إني والله ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسها إلا عليك، فقال له علي: هل ترى ذلك؟ ما أنا بأحد الرجلين، ما أنا بصاحب دنيا يلتمس ما عندي، وقد علم ما لي بيضاء ولا صفراء، وما أنا بالكافر الذي يترفق بها عن دينه، يعني يتألفه. إني لأول من أسلم. فقال له سعد بن معاذ: إني أعزم عليك لتقر بها عيني فإن لي في ذلك فرحاً. قال علي رضي الله عنه: أقول ماذا؟ قال سعد تقول: جئت خاطباً إلى الله ورسوله فاطمة بنت محمد. فانطلق علي رضي الله عنه فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثقيل حضر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان لك حاجة يا علي؟ قال: أجل جئت خاطباً إلى الله تعالى وإلى رسوله بنت محمد. فقال له: مرحباً. كلمة ضعيفة. فرجع علي إلى سعد فقال له: قد فعلت الذي أمرتني به فلم يزد على أن مرحب بي كلمة ضعيفة. فقال سعد: أنكحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث بريدة عند البزار والطبراني برجال ثقات غالبهم رجال الصحيح، والنسائي والدولابي: أن نفراً من الأنصار قالوا لعلي: لو خطبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: لو كانت عندك فاطمة. فدخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حاجة ابن أبي طالب؟ فقال: يا رسول الله، ذكرت فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحباً وسهلاً. لم يزجه عليهما. فخرج على أولئك الرهط من الأنصار وهم ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ قال: لا أدري غير أنه قال لي: مرحباً وأهلاً. قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والرحب.

وفي حديث ابن عباس: فقال سعد: أنكحك والذي بعثه بالحق، إنه لا خلف ولا كذب عنده. أعزم عليك لتأتينه غداً فتقول: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ فقال علي: هذه أشد من الأولى، أولاً أقول: يا رسول الله، حاجتي؟ قال سعد: قل كما أمرتك. فانطلق علي فقال: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال: الليلة إذا شاء الله.

قال في التنقيح: روى عن علي نفسه أنه قال: قالت لي مولاتي: هل علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قالت: خطبت، فما ينعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك. قلت: ما عندي شيء أتزوج به. قالت: فإنك إن جئته يزوجك فما زالت ترغبني حتى دخلت عليه - عليه الصلاة والسلام - وكانت له - عليه الصلاة والسلام - جلالة وهيبة، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما قدرت أتكلم فقال: ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت، فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة. قلت: نعم. قال: فهل عندك شيء تستحلها به؟ فقلت: لا والله. فقل: ما فعلت بالدرع التي أسلحتكها؟ فقلت: عندي والذي نفسي بيده، إنها الحطمة، ما ثمنها إلا أربعمائة درهم. قال: قد زوجتك بها، فابعث إلينا بها فإن كانت لصداق بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن إسحاق.

وعن علي رضي الله تعالى عنه، قال: كان مما أصبت يوم بدر شارفاً، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى، فكنت آتي عليهما بالآجر فأبيعه وأجمعه لأدفع ما يتحصل من ثمن ذلك في مهر فاطمة رضي الله عنها، فكانتا معلقتين بالفناء، وكان حمزة رضي الله عنه في حجرة قريباً منهما في شرب من الأنصار يشربون الخمر قبل تحريمها، وقينتان تغنيانهم، فقالتا في غنائهما هذه الأبيات: من الوافر

ألا يا حمز للشُّرف النّواء ... وهنّ معقّلاتٌ بالفناء

ضع السكّين في اللبات منها ... وخضبهنّ حمزة بالدّماء

وعجّل من أطايبها لشربٍ ... قديداً من طبيخٍ أو شواء

فلما سمع حمزة اخترط سيفه وخرج إلى الشارفين فشق بطنهما وأخرج من أكبادهما، ثم اجتب أسنمتهما وأتى بذلك علي رضي الله عنه، فأتاني الخبر فأتيت، فلما رأيتهما لم أملك عيني، فدخلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجال من المهاجرين والأنصار فأخبرته، فقام يجر رداءه وقاموا معه، حتى دخل على حمزة وهو ثمل وعيناه جمرتان، فوقف على رأسه وقال: ما هذا الذي فعلته يا حمزة؟ فصعد حمزة النظر في النبي صلى الله عليه وسلم وصوبه ثم قال: إن أنتم يا بني عبد المطلب إلا بعيد أبي، فرجع عنه صلى الله عليه وسلم، ومشى القهقري حتى خرج.

قلت: لم يكن بكاء علي رضي الله تعالى عنه حرصاً منه على الدنيا، حاشاه من ذلك، وإنما هو حزن لتوهم فوات ما هما وسيلة في تحصيله من تزوجه بفاطمة رضي الله تعالى عنها، ولذا قال رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال: هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: لا والله. هذا والشرف جمع شارف، وهي الناقة الشابة، والنواء - بكسر النون مشددة - جمع ناوية، وهي السمينة الممتلئة شحماً، والني بالفتح: الشحم. قال أبو الطيب في وصفها: من الكامل

فتبيت تُسئد مسئداً في نيّها ... إسآدها في المهمه الإنضاء

وهذا في البيت مما تدور فيه أفهام الرواة، ولا يشفى داء معناه إلا أطباء النحاة. والله أعلم.

وقال يحيى بن يعلى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندك يا علي؟ فقال: فرسي وبدني، ودرعي، يعني الحطمة. فقال عليه الصلاة والسلام: أما فرسك فلا بد لك منه، وأما بدنك فبعها. فبعتها بأربعمائة وثمانين درهماً. فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال، ابتع لنا بها طيباً، والباقي ادفعه إلى أم أيمن. وقال: يكون فيما يصلح المرأة، وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال العلامة ابن الجوزي في تلقيحه: قال أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أنس، اخرج فادع لي أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، وعدة من الأنصار. قال أنس: فدعوتهم، فلما اجتمعوا عنده وأخذوا مجالسهم - وكان علي غائباً في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم خاطباً خطبة العقد: الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع سلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. إن الله سبحانه، وتبارك اسمه، وتعالت عظمته، جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمداً مفترضاً أوشج به الأرحام، وألزم الأنام، فقال عز من قائل: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً " الفرقان فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب " يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثّبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ " الرعد إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي ابن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي علي بذلك. ثم دعا عليه الصلاة والسلام بطبق من بسر فوضع بين أيدينا ثم قال: انتهبوا. فانتهبنا. فبينا نحن ننتهب إذ دخل علي رضي الله عنه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ثم قال: إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة بنت محمد على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت. فقال علي: قد رضيت بذلك يا رسول الله.

قال في المواهب: والعقد لعلي وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر، أو على تخصيصه بذلك، جمعاً بينه وبين ما ورد مما يدل عل اشتراط القبول على الفور. قلت: لا حاجة إلى هذا الحمل؛ إذ قد صرح في الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الإيجاب عند حضور علي رضي الله عنه بقوله: إن الله زوجك فاطمة بنت محمد إلى آخره، ووقع القبول من علي على الفور، وهو ما ذكره صاحب المواهب في الحمل الثاني. والله أعلم.

ثم أمرهم أن يجهزوها، فجعل لها شريط مشرط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وروى الإمام أحمد في المناقب عن علي رضي الله عنه، قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميلة وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف. وروى أبو بكر بن فارس، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وكان فراش علي وفاطمة ليلة عرسهما إهاب كبش.

وروى الطبراني من طريق مسلم بن خالد الزنجي حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه، قال: حضرنا عرس علي بن أبي طالب على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأينا عرساً أحسن منه، هيأ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم زبيباً وتمراً فأكلنا. وروى عن أسماء بنت عميس - بسند ضعيف - قالت: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على درع ممشق بمغرة ونصف قطيفة بيضاء وقدح، وإن كانت تستر بكم درعها ومالها خمار، رضي الله عنها. وقالت - يعني أسماء - أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم آصعاً من تمر ومن شعير فقال: إذا دخلن عليك نساء الأنصار فأطعميهن منه.

وروى الطبراني من طريق عون بن محمد ابن الحنفية عن أسماء بنت عميس أيضاً قالت: أهديت جدتك فاطمة إلى جدك علي رضي الله عنه، فما كان حشو فراشهما ووسادتهما إلا ليف. ولقد أولم عليها فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر من شعير. ورواه الدولابي عن أسماء بنت عميس: كان وليمتها آصعاً من شعير وتمر وحيس. وفي حديث ابن عباس: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فقال: يا بلال، إني قد زوجتك ابنتي ابن عمي، وأنا أحب أن يكون من سنة أمتى إطعام الطعام عند النكاح، فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة، فاجعل لي قصعة لعلي أدعو عليها المهاجرين والأنصار، فإذا فرغت منها فآذني بها. فانطلق ففعل لما أمره به، ثم أتاه بالقصعة فوضعها بين يديه، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسها ثم قال: أدخل على الناس دفعة دفعة، فجعل الناس يردون، كلما فرغت دفعة وردت أخرى حتى فرغ الناس، ثم مد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى ما فضل منها فتفل فيه وبرك وقال: يا بلال، احملها إلى أمهاتك وقل لهن يأكلن منها ويطعمن من يعتريهن.

وعند الطبراني برجال الصحيح في حديث أسماء بنت عميس، قالت: لما أهديت فاطمة إلى علي - رضي الله عنهما - لم تجد في بيته إلا رملاً مبسوطاً، أي سعفاً، مرمولاً منسوجاً، ووسادة حشوها ليف وجرة وكوزاً، فجاءت السيدة فاطمة مع أم أيمن، وقعدت في جانب البيت، وأم أيمن في جانب، وأرسل عليه الصلاة والسلام لعلي: لا تقرب أهلك حتى آتيك، فجاء عليه الصلاة والسلام فقال: ههنا أخي؟ فقالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك ! قال: إنه أخي. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فقال لفاطمة: ائتي بماء، فقامت إلى قعب في البيت فأتت فيه بماء، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت فنضح بين ثدييها ورأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بماء، فعلمت الذي يريد، فملأت القعب ماء فأخذه ومج فيه، وصنع بعلي مثل ما صنع بفاطمة، ثم قال: اللهم بارك فيهما وبارك لهما في أبنائهما. وفي لفظ: بارك لهما في نسلهما. ثم قال: ادخل بأهلك، فباسم الله والبركة. وفي رواية: فدعا بإناء فسمى، ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم مسح صدر علي ووجهه به، ثم دعا فاطمة فقامت إليه تعثر في مرطها من الحياء، فنضح عليها من ذلك الماء ثم قال لها: أما إني لم آل أن أنكحتك أحب أهلي إلي. ثم قال: اللهم بارك... إلى آخر ما تقدم.

وأورد الضياء المقدسي في صحيحه قال: قالت أسماء بنت عميس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواداً من وراء الستر أو من وراء الباب فقال: من هذا؟ قلت: أسماء. قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم يا رسول الله، جئت كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الفتاة يبنى بها الليلة ولا بد لها من امرأة تكون قريباً منها إن عرضت لها حاجة أفضت بها إليها. قالت أسماء: فدعا لي بدعاء، إنه لأوثق عملي عندي، ثم قال لعلي: دونك أهلك. ثم خرج، فما زال يدعو لهما حتى توارى في حجره.

تنبيه: تقدم أن علياً رضي الله عنه أصدقها درعاً وأنه باع الدرع وأصدقها أربعمائة درهم، قال أبو جعفر: يشبه أن يكون العقد وقع على الدرع كما دل عليه حديث علي رضي الله عنه، وبعث بها علي ثم ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبيعها، فباعها وأتاه بثمنها من غير أن يكون بين الحديثين تضاد. وقد ذهب إلى مدلول كل واحد من الحديثين قائل، فقال بعضهم: كان مهرها رضي الله عنها الدرع، ولم يكن هناك بيضاء ولا صفراء، وقال بعضهم: كان مهرها رضي الله عنها أربعمائة وثمانين درهماً أو مثقالاً من فضة.

تنبيه آخر: قد تضمن حديث ابن عباس، وحديث علي رضي الله عنهما، وحديث أنس - أن الذي حثه على تزويج فاطمة متضاد ولا تضاد بينها؛ لاحتمال أن تكون مولاته حثته أولاً، ثم أبو بكر وعمر أو بالعكس، ثم خرج لذلك فلقيه الأنصار فحثوه على ذلك من غير أن يكون أدهم علم بالآخر.

تنبيه آخر: يحتمل أن تريد أسماء بما روته في حديثها عن وليمته رضي الله عنه - ما قام به هو نفسه غير ما جاء به الأنصار من الحيس والتمر؛ جمعاً بين الحديثين، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع لها مع ذلك الآصع من التمر والشعير، وأن يكون ما جاء به الأنصار وليمة الرجال، وما دفعه لها وليمة النساء كما دل عليه حديثها. والله أعلم.

روى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة وعلي عندها وهما يضحكان، فلما رأياه سكتا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتما؟ فبادرت فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، قال هذا: أنا أحب إلى رسول الله منك، فقلت: بل أنا أحب إلى رسول الله منك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنت ابنتي ولك رقة الولد، علي أعز علي منك. وفي رواية أبي داود الطيالسي والطبراني والحاكم والترمذي والبغوي، عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب أهلي إلي فاطمة.

وروى الطبراني عن أبي هريرة: أن علي بن أبي طالب قال: يا رسول الله، أينا أحب إليك أنا أم فاطمة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فاطمة أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها. وروى الطبراني وابن السني وأبو سعد النيسابوري في شرف النبوة، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك.

وروى الطبراني عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - قالت: خطبني علي - رضي الله عنه - فبلغ ذلك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أسماء متزوجة علي بن أبي طالب. فقال: ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله.

وعن ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمعت ذلك أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل. فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: أما بعد فإني لست أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً، ولكن إن كنت متزوجها فرد علينا بنتنا، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً. زاد المسور في روايته: إن بني هاشم وبني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. أخرجه الشيخان والترمذي. وابنة أبي جهل هذه اسمها جويرية، أسلمت وبايعت، تزوجها عتاب بن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاص.

قلت: أخبرني الثقة أنه حضر مجلس الإمام المرحوم المقدس، السيد الشريف الإمام الحق، والقائم الصدق، أمير المؤمنين، المتوكل على الله، إسماعيل بن القاسم، الإمام الداعي بقطر اليمن كأسلافه الطاهرين، نور الله ضريحه، وجعل الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، وكان يقرئ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري، والمجلس غاص بالسادة العلماء، والقادة الفضلاء، وكان إلى جنبه العلامة، المستغنى عن التعريف، والعلامة، مجمع بحري المعقول والمنقول، منبع نهري الفروع والأصول، مولانا وشيخنا، الفقيه، صالح ابن المرحوم المهدي، عرف بالمقبلي - فقرأ القارئ قطعة من هذا الحديث كما هو شأن البخاري في اقتطاعه بعض الحديث شواهد لأبواب يترجم لها هي قوله: فاطمة بضعة مني... إلى آخره، فبين له المرحوم الإمام المعنى من ذلك، فإذا بشخص من الحاضرين هو القارئ عينه قال: يا مولانا، أين عمر بن الخطاب عن هذا الحديث وقد أغضبها وآذاها؟ فقال الإمام رحمه الله: ما أغضبها ولا آذاها عمر، ولكن هذا والله وأشباهه من أكاذيب الروافض على عمر رضي الله عنه. ثم التفت الإمام إلى الفقيه صالح وقال: ما تقولون؟ فقال الفقيه: هذا الحديث له أول، وهو وارد عنه عليه الصلاة والسلام بسبب وقصة. وأورد الحديث وقصته هذه المذكورة. فرحم الله من سلف، وأبقى لنا الفقيه فهو خير خلف. انتهى.

وروى الإمام أحمد، والبيهقي في الشعب عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر: آخر عهده إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة. وروى أبو عمر عن أبي ثعلبة: كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم من سفر أو غزو بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم أتى فاطمة رضي الله عنها، ثم أتى أزواجه. وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا هدياً ولا حديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة. وروى ابن حبان عنها أيضاً: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها، إذا دخل صلى الله عليه وسلم عليها قامت إليه فقبلته، وأخذت بيده وأجلسته مكانها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فأسر إليها فبكت، ثم أسر إليها فضحكت. فقلت: كنت أحسب أن هذه المرأة على النساء، فإذا هي امرأة منهن، بينا هي تبكي إذا هي تضحك. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن ذلك فقالت: أسر إلى أنه ميت فبكيت، ثم أسر إلى أني أول أهله لحوقاً به فضحكت. وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ملكاً في السماء لم يكن زارني فاستأذن ربه في زيارتي، فبشرني وأخبرني أن فاطمة سيدة نساء أمتي. وروى عن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها. وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن عائشة أيضاً قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة رضي الله عنها إلا أن يكون والدها.

وروى أبو يعلى برجال الصحيح، وابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال: قلت لأمي فاطمة بنت أسد: أكفي فاطمة بنت محمد سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك خدمة الداخل، الطحن والعجن. وروى الطبراني عن عمران ابن الحصين رضي الله عنه قال: إني جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة. ثم قال: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة. ثم قال: ادني يا فاطمة. فدنت حتى قامت بين يديه. قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها وذهب الدم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، ثم وضع كفه بين ترائبها ورفع رأسه فقال: اللهم مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الضيقة، لا تجع فاطمة بنت محمد. قال عمران: فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك.

وروى الإمام أحمد بسند جيد عن علي رضي الله عنه: أنه قال لفاطمة رضي الله عنها ذات يوم: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أباك سبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يدي. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك، أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك. فاستحيت أن تسأله ورجعت. فقال لها علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتيا جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم لله فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يدي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا. فقال: والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، فرجعا، فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطيت رءوسهما تكشف أقدامها، وإذا غطيت أقدامهما تكشف رءوسهما، فقال: مكانكما. ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتما؟ قالا: بلى. قال: كلمات علمنيهن جبريل قال: تسبحان دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين.

وروى الطبراني بسند حسن عن فاطمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاها فقال: أين ابناي؟ يعني حسناً وحسيناً. قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق. فقال علي: أذهب بهما فإني أخاف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فأخذهما فذهب بهما إلى فلان اليهودي. فتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما في مربد بين أيديهما فضل من تمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر؟ قال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول حتى أجمع لفاطمة تمراً. فكان يجمع لها بعمله فيكل دلو يمتحه تمرة. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمع لفاطمة شيء من التمر، فجعله علي في حجزته. ثم أقبل فحمل النبي - صلى الله عليه وسلم أحدهما، وحمل علي الآخر حتى أقبلا بهما.

وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن بلالاً - رضي الله عنه - أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسك؟ قال: مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي فقلت: إن شئت كفيتك الرحى وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحى. فقالت: أنا أرفق بابني منك، فذاك الذي حبسني.

وروى البزار، وتمام في فوائده، والطبراني، وابن عدي، والعقيلي، والحاكم، عن ابن مسعود، وابن شاهين، وابن عساكر من طريق آخر عنه، والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة أحصنت فرجها فحرمها الله عز وجل وذريتها على النار زاد العقيلي: قال أبو كريب: هذا للحسن والحسين ولمن أطاع الله منهم وفي لفظ: إن الله عز وجل غير معذبك ولا ولدك. وروى الخطيب البغدادي أن الإمام علي بن موسى الرضا سئل عن هذا الحديث فقال: هذا خاص بالحسن والحسين. قال العلامة محمد الشامي: الصواب أن هذا الحديث سنده قريب من الحسن، والحكم عليه بالوضع غلط. وروى تمام والحاكم والطبراني عن علي رضي الله عنه، وأبو بكر الشافعي عن أبي هريرة، وتمام عن أبي أيوب، وأبو الحسين بن بشران والخطيب عن عائشة والأزدي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنهم بأسانيد ضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض أفاد قوة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يأيها الناس - وفي لفظ: يأهل الجمع - غضوا أبصاركم ونكسوا رءوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجنة. وفي لفظ: حتى تمر على الصراط، فتمر وعليها ريطتان خضراوتان.

ذكر أولادها رضي الله تعالى عنها وعنهم: قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى: تزوج علي.

فاطمة رضي الله تعالى عنهما فولدت له حسناً وحسيناً ومحسناً - بميم مضمومة فحاء مهملة فسين مشددة مكسورة - وزينب وأم كلثوم ورقية وقال: ماتت صغيرة دون البلوغ.

وسيأتي ذكر الحسن في خلافته، وذكر الحسين في خلافة يزيد بن معاوية إن شاء الله تعالى. وأما محسن فمات صغيراً. وكلهم ولدوا قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.

وتزوجت زينب بنت فاطمة ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وماتت عنده، وقد ولدت له علياً وعوناً وجعفراً وعباساً وأم كلثوم. قال الشامي في سيرته: أولاد زينب المذكورة من عبد الله بن جعفر موجودون بكثرة، العقب منه في علي وأخته أم كلثوم، ابني عبد الله بن جعفر، ويقال لمن ينسب لهؤلاء: جعفري.

ولا ريب أن لهؤلاء شرفاً، وتكلم عليهم من عشرة أوجه: الأول: أنهم من آل النبي وأهل بيته بالإجماع، لأن آله هم المؤمنون من بني هاشم والمطلب. الثاني: أنهم من ولده وذريته بالإجماع. الثالث: أنهم يشاركون الحسن والحسين وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفرق بين من يسمى ولد النبي وبين من ينسب إليه.

الرابع: هل يطلق عليهم أشراف؟ والجواب الشرف على اصطلاح أهل مصر يطلق على أنواع: عام لجميع أهل البيت وخاص بالذرية، فيدخل في الأول الزينبيون، والثاني وهو أخص منه شرف النسبة، وهو مختص بالحسن والحسين.

الخامس: تحرم عليهم الصدقة بالإجماع لأن بني جعفر من الآل. السادس: يستحقون سهم ذوي القربى بالإجماع.

السابع: يستحقون من وقف بركة الحبش بالإجماع لأن نصفها وقف على الأشراف، وهم أولاد الحسن والحسين، ونصفها على الطالبيين، وهم ذرية علي بن أبي طالب: محمد ابن الحنفية وإخوته جعفر بن أبي طالب وذرية عقيل بن أبي طالب، وثبت هذا الوقف على هذا الوجه عند قاضي القضاة بدر الدين بن يوسف السنجاري ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، ثم اتصل ثبوته عند شيخ الإسلام العز بن عبد السلام في تاسع عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم اتصل ثبوته عند قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ذكر ذلك ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتأمل.

الثامن: هل يلبسون العلامة الخضراء؟ الجواب: لا يمنع منها من أرادها من شريف أو غيره، يعني من المذكورين، ولا يؤمر بها من تركها من شريف أو غيره؛ لأنها إنما حدثت سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بأمر الملك الأشرف شعبان بن حسن ابن محمد بن قلاوون ملك مصر، أقصى ما يكون أنه أحدث التميز بها لهؤلاء من ذرية الحسن والحسين عن غيرهم، وقد يستأنس لأختصاصها بهم بقوله تعالى: " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل أَزَوجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ " الأحزاب: فقد استدل بها بعض العلماء على تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل وإدارة طيلسان ونحو ذلك ليعرفوا فيجلوا تكريماً للعلم ويسألوا ويمتثل قولهم؛ إذ عظم الهيئة له دخل أي دخل، وهذا وجه حسن والله أعلم.

التاسع: هل يدخلون في الوصية على الأشراف أم لا؟.

العاشر: هل يدخلون في الوقف على الأشراف أم لا؟ الجواب: إن وجد من الموصي والواقف نص يقتضي دخولهم أو خروجهم اتبع، وإلا فقاعدة الفقه أن الوصية والوقف ينزلان على عرف البلد، وعرف مصر - من عهد الخلفاء الفاطميين إلى الآن - أن الأشراف لقب لكل حسني وحسيني فلا يدخلون على مقتضى هذا العرف، وإنما دخلوا في وقف بركة الحبش لأن واقفها نص على أن نصفها على الأشراف ونصفها على الطالبيين.

ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنها، فانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط، ويقال للمنسوب لأولهما حسني ولثانيهما حسيني، وقد يضم للحسيني من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الإسحاقي، فيقال: الحسيني الإسحاقي، وإن إسحاق هذا هو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، ويقال: بنت زيد بن الحسن، فالحسن أخوها لا أبوها والأكثرون على الأول، ولد له منها القاسم وأم كلثوم ولم يعقب.

وأما الجعافرة المنسوبون إلى عبد الله بن جعفر، فلهم - أيضاً - شرف لكنه يتفاوت، فمن كان منهم من زينب بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنها فهو الشرف، ومن كان من ولده من غيرها، مع كون من كان من زينب لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما. وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بني هاشم. قال الحافظ ابن حجر في الألقاب: وقد لقب به - يعني الشرف - كل عباسي ببغداد وعلوي بمصر. وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له: الشريف العباسي.

وأما أم كلثوم فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت صغيرة دون البلوغ حال خطبتها، روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى علي - رضي الله عنه وكرم وجهه - في عدة من المهاجرين والأنصار يخطب ابنته أم كلثوم فقال: أما والله ما بي من توق إلى شهوة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري؛ فأحببت أن آخذ بمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له علي رضي الله عنه: إنها صغيرة. فقال: قد قبلت. فزوجه بها. فأرسلها علي رضي الله عنه ذات يوم إلى عمر رضي الله عنه بقطيفة فقالت له: يقول لك أبي انظر إلى هذه القطيفة. فلما أقبلت إلى عمر وأخبرته بما قال لها أبوها وأرته القطيفة، قال عمر: قولي لأبيك قد رأينا وقبلنا. ثم إنه لمس ساقها فنهرته، وأتت إلى أبيها غضبى وقالت: أرسلتني إلى شيخ مجنون لمس ساقي، والله لولا أنه أمير المؤمنين لهشمت أنفه. فقال لها: إنه زوجك، فقد زوجتك إياه. وأرسل لها عمر أربعين ألفاً مهراً وبنى بها رضي الله عنه، وقتل عنها بعد أن ولدت له زيداً الأكبر ورقية. فأما زيد الأكبر فعاش إلى أن ارتحل، فرمى في حنين بحجر مات به، أصابه به خالد بن أسلم مولى أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطأ، ولم يترك عقباً. كذا في الجمع الغريب.

وأما رقية فتزوجها إبراهيم بن نعيم النحام وماتت عنده وليس لها عقب. قال في وسيلة المآل قال ابن إسحاق: حدثني والدي إسحاق، حدثني بشار، عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط قال: لما تأيمت أم كلثوم من عمر بن الخطاب دخل عليها أخواها الحسن والحسين فقالا لها: أنت كما عرفت بنت سيدة نساء العالمين، وإنك والله إن أمكنت علياً لينكحنك بعض أبنائه، وإن أردت أن تصيبي بنفسك مالاً عظيماً لتصيبنه. فوالله ما قاما حتى دخل علي رضي الله عنه علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صدقت رحمك الله وجزاك عنا خيراً. ثم قال: أي بنية، إن الله قد جعل أمرك بيدك، فأنا أحب أن تجعليه بيدي. فقالت: أي أبت، إني والله امرأة أرغب فيما ترغب فيه النساء، وأحب أن أصيب ما تصيب النساء من الدنيا، وإني أريد أن أنظر في أمر نفسي. فقال: لا والله يا بنتي ما هذا من رأيك، ما هو إلا رأي هذين. ثم قام فقال: والله لا أكلم أحداً منهما أو تفعلين. فأخذا بثيابه وقالا: اجلس يا أبت، فوالله ما على هجرتك من صبر، اجعلي أمرك بيده. فقالت: قد جعلت. فقال: قد زوجتك من عون بن جعفر - يعني ابن أخيه - وإنه لغلام. ثم رجع علي رضي الله عنه إلى بيته وبعث إليها بأربعة آلاف درهم، وبعث إلى ابن أخيه عون فأدخلها عليه. قال راويه الحسن بن الحسن: فوالله ما سمعت بمثل عشق منها له منذ خلقني الله عز وجل، فهلك عنها، فزوجها والدها علي رضي الله عنه من أخي عون بن جعفر، محمد بن جعفر، فولدت له جارية ماتت صغيرة ثم هلك عنها، ثم زوجها من أخيهما عبد الله بن جعفر، فماتت عنده ولم تلد له شيئاً فلا عقب لها.

وكان موتها هي وولدها من عمر المسمى زيداً الأكبر، المقتول خطأ بيد خالد بن أسلم مولى زوجها عمر - رضي الله عنه - في وقت واحد، وصلى عليهما ابن عمر، قدمه الحسن بن علي، وكان فيهما سنتان: إحداهما عدم توريث أحدهما من الآخر، والأخرى تقديم زيد على أمه مما يلي الإمام، حكاه أبو عمر. قلت: لا يشكل على قوله صلى عليهما ما تقدم من أن زيداً رمى في حنين خطأ؛ لجواز تأخر موته به إلى وقت موت أمه. والله أعلم.

رأيت في تاريخ ابن السبكي في حوادث سنة ست وخمسين وثلاثمائة قال: استهلت والخليفة المطيع لله العباسي والسلطان معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وعملت الروافض في يوم عاشوراء بدعتهم الشنعاء وداهيتهم الصلعاء، من تغليق الدكاكين، وتعليق المسوح السود، ونثر النتن في الأسواق والجيف، وخروج النساء حاسرات عن وجوههن وصدورهن ينحن على الحسين. ولما كان ثالث عشر ربيع الأول توفي معز الدولة بعلة الذرب، وصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، ولما أحس بالموت أظهر التوبة عن سب الشيخين، وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من أمواله وأعتق خلقاً كثيراً من مماليكه، وعهد إلى ابنه بختيار عز الدولة بن معز الدولة، وسببه أنه كان قد اجتمع بعض العلماء فكلمه في السنة والترضي، وأخبره أن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: والله ما سمعت بهذا قط ! ورجع إلى السنة والترضي ومتابعة الأمة بذلك.

ذكر وفاة فاطمة رضي الله عنها: روى بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: توفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة، ودفنها علي بن أبي طالب ليلاً. وروى الطبراني برجال الصحيح - إلا أن جعفراً لم يدرك القصة ففيه انقطاع - عن جعفر بن محمد بن علي - رضي الله عنهم - قال: مكثت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، وما رؤيت ضاحكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم امتروا في طرف نابها. وروى الطبراني عن عبد الله بن محمد بن عقيل منقطعاً - لأن عبد الله لم يدرك القصة - أن فاطمة رضي الله تعالى عنها لما حضرتها الوفاة أمرت علياً فوضع لها، فاغتسلت وتطهرت، ودعت بثياب أكفانها ثياب غلاظ خشن، فلبستها ومست من حنوط، ثم أمرت علياً ألا تكشف إذا قبضت، وأن تدرج كما هي. وروى الإمام أحمد بسند فيه من لا يعرف عن أم سلمة قالت: اشتكت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواها التي قبضت فيها فكنت أمرضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها، قالت: وخرج علي لبعض حاجة فقالت: يا أمه، اسكبي لي غسلاً فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل. ثم قالت: يا أمه، أعطيني ثيابي الجدد فأعطيتها فلبست. ثم قالت: يا أمه، قدمي فرشي وسط البيت ففعلت، فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمه، إني مقبوضة الآن وقد تطهرت فلا يكشفني أحد. فقبضت مكانها. فجاء علي فأخبرته بالذي قالت وبالذي أمرتني، فقال علي رضي الله تعالى عنه: والله لا يكشفها أحد، فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك ولم يكشفها ولا غسلها أحد.

وروى أبو نعيم عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إني قد استقبحت هذا الذي يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب فيصفها. قالت أسماء: يا بنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجريد رطب فحتته ثم ألقت عليه ثوباً فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله؛ تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد، ثم اصنعي بي هكذا. فلما توفيت صنع بها ما أمرت به بعد أن غسلتها أسماء وعلي.

وروى أنها لما توفيت - رضي الله عنها - جاءت عائشة - رضي الله عنها - تريد أن تدخل على غسلها فقالت لها أسماء: لا تدخلي. فرجعت إلى أبيها أبي بكر فشكت إليه وقالت: إن هذه الخثعمية - تعني أسماء بنت عميس - تحول بيني وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمنع النساء أن يدخلن على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت لها مثل هودج العروس، فقالت أسماء: أمرتني ألا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعته وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها. فقال أبو بكر رضي الله عنه: اصنعي ما أمرتك به. ثم انصرف. قلت: حديث أسماء هذا مضاد لحديث أم سلمة وفيه من لا يعرف كما ذكره الأئمة النقاد. والله أعلم.

وتوفيت وسنها ثمان وعشرون سنة، كذا في الصفوة. وفي ذخائر العقبى: تسع وعشرون سنة. وقال عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب: ابنة ثلاثين سنة. وقال الكلبي: ابنة خمس وثلاثين سنة. ومنشأ هذا الاختلاف الاختلاف في مولدها: هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ وقد علمت أن الأصح من مولدها أنه كان قبل النبوة بخمس سنين حال بناء قريش الكعبة وسنه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك خمس وثلاثون سنة، وماتت سنة إحدى عشرة من الهجرة في رمضان كما تقدم، فتكون سنها حين ذلك تسعاً وعشرين على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى.

وعن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وضعت ليصلي عليها قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلي عليها غيرك. فصلى عليها أبو بكر، ودفنت ليلاً. أخرجه البصري، وابن السمان في الموافقة.

وهذا مغاير لما جاء في الصحيح أن علياً لم يبايع أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وجريان هذا مع عدم المبايعة يبعد في الظاهر والغالب. وإن جاز أن يكونوا لما سمعوا بموتها حضروها، فاتفق ذلك ثم بايع بعده، كذا في الرياض النضرة. وأما موضع قبرها رضي الله عنها فذكره الحافظ أبو عمر بن عبد البر: أن الحسن لما توفي دفن إلى جانب أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر الحسن معروف بجنب قبر العباس. ويذكر لفاطمة ثمة قبر، فتكون على هذا مع الحسن في قبة العباس، فينبغي أن يسلم عليها هنالك. وروى أن أبا العباس المرسي كان إذا زار البقيع وقف أمام قبة العباس، وسلم على فاطمة رضي الله عنها. ويذكر أنه كشف له عن قبرها ثمة. وعن عبد الرحمن بن جعفر بن محمد أنه كان يقول: قبر فاطمة بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد.

مروياتها في كتب الأحاديث ثمانية عشر حديثاً، المتفق عليه منها واحد، والباقي في سائر الكتب. رضي الله تعالى عنها.