في الحوادث: حوادث السنة الثالثة والرابعة

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

حوادث السنة الثالثة

فيها غزوة غَطَفان، وهي غزوة ذي أمر بفتح الهمزة والميم، وسماها الحاكم: غزوة أنمار، وهي بناحية نجد، وكانت لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة.

وسببها: أن جمعاً من ثعلبة ومحارب، تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربي - وسماه الخطيب: غورث، وغيره غورك - وكان شجاعاً: فندب صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين فارساً، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم هربوا في رؤوس الجبال، فأصابوا رجلاً منهم من بني ثَعلَبة، فأُدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام وضمه إلى بلال.

وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم مطر؛ فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة: ليجفّا، واضطجع تحتها وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف، حتى قام على رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " الله " . فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من يمنعك منى؟ " قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، وأنزل الله: " يا أَيُهَا اَلَذِين آمَنُوا اَذكُرُوا نِعمَتَ الله عليكم إِذ هَم قَوم أَن يبسُطوا إِلَيكُم أَيديَهُم... " المائدة: 11 الآية.

ويقال: كان ذلك في ذات الرقاع، ثم رجع صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.

وفيها غزوة نجران، وتسمى: غزوة بني سُليم من ناحية الفرَع: بفتح الفاء والراء؛ كما قيده السهيلي وقال في القاموس: ونجران وتضم: موضع بناحية الفرع، كما رأيته بخطه، بضم الفاء لا غير.

وسببها: أنه بلغه - عليه الصلاة والسلام - أن بها جمعاً كثيراً من بني سُليم، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدوهم قد تفرقوا في مياههم، فرجعوا ولم يلق كيداً، وكان قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم؛ كما قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال.

وفيها سرية زيد بن حارثة إلى القَرْدة بفتح القاف وسكون الراء؛ كما ضبطه ابن الفرات، اسم ماء من مياه نجد وسببها - كما قال ابن إسحاق - : أن قريشاً خافوا من طرقهم التي يسلكون منها إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق، فخرج معهم تجار منهم أبو سفيان بن حرب، ومعهم فضة كثيرة وعند ابن سعد بعثه صلى الله عليه وسلم لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهراً من الهجرة، في مائة راكب؛ يعترض عيراً لقريش فيها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية، فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم، وذكرها ابن إسحاق قبل قتل ابن الأشرف.

ومن حوادثها: سرية محمد بن مَسْلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودي، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة روى أبو داود والترمذي، من طريق الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف كان شاعراً يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ أن يبعث رهطاً ليقتلوه. وفى رواية قال - عليه الصلاة والسلام - : " من لنا بابن الأشرف؟ " وفي أخرى: " من لكعب بن الأشرف؟ " أي: من ينتدب لقتله؛ فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش، وجمعهم إلى قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك. ثم قرأ على المسلمين: " أَلم تَرَ إِلَى اَلذينَ أُوتُوا نصَيباً مِّنَ اَلكتاب يُؤمِنوُنَ باَلجِبتِ والطاغوتِ وَيَقُولوُنَ لِلَذِينَ كَفَرُوا هؤلاءِ أَهدىَ مِنَ اَلَذِينَ آمَنوُا سَبيلاً أُؤلَئكَ اَلذينَ لَعَنَهُمُ الله " ُ النساء: 51، 52 وفي الإكليل: فقد آذانا بشعره وقوى المشركين.

وفى رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك، قال: يا رسول الله، إنه لا بدَ لنا أن نقول، قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة - بنون وبعد الألفِ تحتانية - سلكان بن سلامة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعبادة بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، وهؤلاء الخمسة من الأوس وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كَبروا، وقد قام عليه السلام تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم، كبر وعرف أنهم قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: أفلحت الوجوه، قالوا: وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله.

وفي كتاب شرف المصطفى: إن الذين قتلوا كعباً حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام.

وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس، فجرح ونزفه الدم، فتفل عليه الصلاة والسلام على جرحه، فلم يؤذه بعد.

وفيها غزوة أحد يوم السبت تاسع شوال حين جمعت قريش لقتاله ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فارس، وثلاثة آلاف بعير، وخمس عشرة امرأة، والمسلمون ألف رجل، وقال صلى الله عليه وسلم لِلرُماة: " لا تتغيروا " ، فلما تغيروا انهزموا، وقتل من المسلمين سبعون، ومنهم حمزة، وشج جبينه صلى الله عليه وسلم، وكسرت رَبَاعيته، ودخل في وجنته حلقتان من المغفر، وشقت شفته، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وثبت ومعه أربعة عشَرَ رجلاً، ونصره الله عليهم، فرجع من يومه آخر النهار.

وكان سببها؛ كما ذكره ابن إسحاق، عن شيوخه، وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأبو الأسود، عن عروة وابن سعد، قالوا: ومن قال منهم ما حاصله: إن قريشاً لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بِعيره، قال عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وجماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه - يعنون عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة - لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوه لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفيهم - كما قال ابن إسحاق وغيره - أنزل الله تعالى: " إن اَلَذين كَفَرُوا ينفِقُونَ أَموالَهُم ليصدوا عَن سَبيلِ الله فَسَيُنفقُونَهَا ثُمَ تَكوُنُ عليهم حَسرة ثُمً يُغلبَوُن " ، الأنفال: 36.

واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب العباس بن عبد المطلب كتاباً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزل بهم ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وأري صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: والله، لقد رأيت خيراً، رأيت بقراً تذبحُ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت إني أدخلت يدي في درع حصينة، فأما البقر: فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي: فهو رجل من أهل بيتي يقتل.

وقال ابن عقبة: ويقول رجال: كان الذي بسيفه ما قد أصاب وجهه؛ فإن العدو أصابوا وجهه الشريف يومئذ، وكسروا رَباعيته، وجرحوا شفته.

وفى رواية قال - عليه الصلاة والسلام - : " وأولت الدرع الحصينة بالمدينة، فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم، ورُمُوا من فوق البيوت " فقال أولئك القوم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل - عليه الصلاة والسلام - بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر - فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه - عليه الصلاة والسلام - فقال لهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته - وهي بالهمز، وقد يترك تخفيفاً، الدرع - وتقلد سيفه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنَعْ ما شئت، فقال: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " .

وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني وصححه الحاكم نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ يبرحوا من المدينة، وإيثارهم بالخروج لطلب الشهادة، ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله: " لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " ، وفيه: " إني رأيت إني في درع حصينة... " الحديث وعقد - عليه الصلاة والسلام - ثلاثة ألوية: لواء للأوس بيد أسيد بن الحضير، ولواء للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وقيل: بيد مصعب بن عمير، ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عبادة، وفي المسلمين مائة دارع، وخرج السعدان أمامه يعدوان، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مَسلمة، وأدلج - عليه الصلاة والسلام - في السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والنعمان ابن بشير قال مغلطاي: وفيه نظر.

وكان المسلمونَ ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير، وخمس عشرة امرأة، ونزل - عليه السلام - بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكانٍ يقال له الشوطُ، ويقال: بأحد، ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.

قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وجعل على الرماة - وهم خمسون رجلاً - عبد الله بن جبير، وقال: لو رأيتمونا يتخطفنا الطير؛ فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنَا القومَ ووطئناهم؛ فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم؛ كذا في البخاري من حديث البراء.

وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: " احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقْتَلُ فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا " .

وقال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يأخذ هذا السيف بحقه؟ " فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟. قال: " أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني " ، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه - عليه الصلاة والسلام - يتبختر قال: " إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن " قال الزبير بن العوام - فيما قال ابن هشام - : فقلت: والله، لأنظرن ما يصنع أبو دجانة، فاتبعته، فأخذ عصابة حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت، فخرج وهو يقول: من الرجز:

أنا الذي عاهدَنِي خليلِي ... ونحْنُ بالسفْحِ لدى النخِيلِ

ألا أقومَ الدَهْرَ في الكَيولِ ... أَضْربْ بسيفِ الله والرَسولِ

فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله.

وقوله: الكَيول - بفتح الكاف، وتشديد المثناة التحتية - : مؤخر الصفوف، وهو فيعول من كالَ الزند يكيلُ كيلاً: إذا كبا، ولم يخرج ناراً، فشبه مؤخر الصف به، لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا في هذا الحديث.

وقتل شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف، والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان، فضربه شداد بن أوس فقتله، فقال: " إن حنظلة لتغسله الملائكة " ، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي، فقالت: خرج وهو جُنُب. فقال: - عليه الصلاة والسلام - : " لذلك غسلته الملائكةُ " وبذلك تمسك من قال من العلماء: بأن الشهيد يغسل إذا كان جنبَاً.

وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان ابن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة، فقطع يده وكتفه، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم ووقعوا ينهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم.

وفي البخاري: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: والله لنأتينَّ الناسَ فلنصيبن من الغنائم، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين.

وفي حديث عائشة عند البخاري - أيضاً - : لما كان يوم أحد، هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم.

وعند أحمد والحاكم، من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا، اختلطوا بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض.

وفي رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكَر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل، فحملوا على من بقي من النفر الرماة، فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.

وفي البخاري: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع، فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فشد عليه فكان كأمس الذاهب، وكان وحشي كامناً تحت الصخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجَت من بين وركيه، فكان آخر العهد به انتهى.

وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذي قتله ابن قمئة، وهو يظنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح ابن قمئة: إن محمداً قتل، ويقال: كان ذاك أزب العقبة ويقال: بل إبليس لعنه الله، تصوَر في صورة جعال، وقال: أي عباد الله، أخراكم أي: احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون وقتل بعضهم بعضاً، وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع القتل فيهم.

وقال ابن عقبة: ولما فقد - عليه الصلاة والسلام - قال رجل منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم فإنهم داخلوا البيت، وقال رجل منهم: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أفلا تقاتلون على دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم، حتى تلقوا الله عز وجل شهداء، منهم أنس بن مالك بن النضر، شهد له بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، قال في عيون الأثر: كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.

وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكَشفُوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلاً من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق وسبعة من الأنصار.

وفي البخاري: لم يبق معه - عليه الصلاة والسلام - إلا اثنا عشر رجلاً، فأصابوا منا سبعين. وكان - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيراً وسبعينَ قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء، فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبتَ يا عدُو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك فقال: يوم بيوم.

وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فرموا وجهه، فأدموه وكسروا رباعيته، والذي جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد هو الذي كسر رباعيته؛ ومن ثم لم يولد له ولد من نسله فيبلغ الحنث، إلا وهو أبخر أو أهشَمُ، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه.

وقال ابن هشام، في حديث أبي سعيد الخدري: إن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلَى، وجرح شفته السفلى، وإن عبد الله بن هشام الزهري شجه في جبهته، وإن ابن قمئة جرح وجنتة، فدخلَتْ حلقتان من المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها للمسلمين.

وفي رواية: وهشموا البيضة على رأسه - أي: كسروا الخوذة - ورموه بالحجارة حتى سقَطَ في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائمَاً، ونشبتْ حلقتا المغفر في وجنته، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، ثم ازدرده، فقال - عليه الصلاة والسلام - من أصاب دمي دمه، لم تصبه النار؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه، عليه السلام.

وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن أبي قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقمأك الله " - وهو يمسح الدم عن وجهه - فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.

وروى ابن إسحاق، عن حميد الطويل، عن أنس قال: كسرتْ رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجه، وجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟! فأنزل الله تعالى: " لَيسَ لَك مِنَ اَلأمرِ شَيء أَوْ يَتوبَ عَلَيهِم أَوْ يُعَذِبَهُم فإنهم ظالِمُونَ " آل عمران: 128 ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طريق حميد.

وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما جرح صلى الله عليه وسلم يوم أحد، أخذ شيئاً ينشف دمه وقال: " لو وقع منه شيء على الأرض، لنزل عليهم العذاب من السماء " ، ثم قال: " اللهم، اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون " .

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: ضُرِبَ وجهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها، قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة. انتهى.

وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد فيما قاله ابن هشام، فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقصت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراحة، إلى أن أصابني ابن قمئة - أقمأه الله - لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوتُ إن نجا. قالت: فاعترضْتُ له فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته ضرباتٍ على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان، قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور.

وتَرّسَ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما قاله ابن إسحاق - أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك.

ورمى سعد بن أبي وقاص دولن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: " ارم سعد، فداك أبي وأمي " ، حتى إنه يناولني السهم ما له نصل، فيقول: " أرم به " ، فيعود منصلاً.

وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعتْ على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها، وقال: " اللهم، اكسه جمالاً " ، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً. ورواه الدار قطني بنحوه.

ورمى أبو رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم، فوقع في نحره، فبصق عليه صلى الله عليه وسلم فبرئ.

وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجوناً، فعاد في يده سيفاً فقاتل به، وكان ذلك السيف يُسَمَّى العرجون ولم يزل يتوارثُ حتى بيع من بُغا التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار. وهذا نحو حديث عكاشة السابق في غزوة بدر، إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العَوْن.

واشتغَلَ المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوه، نهضوا ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبيّ بن خلف وهو قول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " دعوه " ، فلما دنا، تناول - عليه الصلاة والسلام - الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها - عليه الصلاة والسلام - انتفض بها انتفاضَةَ تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله - عليه الصلاة والسلام - فطعنه طعنة - وقع عن فرسه، ولم يخرج له دم، فكسر ضلعاً من أضلاعه، فلما رجع إلى قريش قال: قتلني محمد والله، قالوا: ليس عليك يا أبا علي من بأس، فقال: أليس كان قد قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله، لو بصق على لقتلني.

قلت: نعم قد كان أبي هذا يلاقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول له: إن معي فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فيقول - عليه الصلاة والسلام - له: " بل أنا أقتلك عليه " ، فذلك قول أبيّ: أليس قد قال لي... إلى آخره - فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. رواه البيهقي وأبو نعيم، ولم يذكر: فكسر ضلعاً من أضلاعه.

قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هويّ من الليل إذ نار تأجج لي فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول: لا تسقه؛ فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبيُّ بن خلف. ورواه البيهقي.

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، ملأ علي بن أبي طالب درقته من المهراس - وهو صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء. فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وصلى النبي - عليه الصلاة والسلام - يومئذ الظهر قاعداً من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.

قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلنَ بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخلعنَ الآذان والأنوف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

ولما أراد أبو سفيان الانصرافَ، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال؛ إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعْلُ هبل، اعلُ هبل، وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم:، نعم، وعلى الآخر: لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم، نعم، فخرج إلى أحد، ولما قال: اعل هبل، أي: زد علواً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أجبه " ، فقال: الله أعلى وأجل، لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال: إن لنا عُزى ولا عُزى لكم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم " . ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال: - عليه الصلاة والسلام - لرجل من أصحابه: قل له: " نعم، هو بيننا وبينكم موعد " .

وذكر الطبراني: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم، اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك، أخذت شيئاً من حصير، فأحرقته بالنار، وكمدته به حتى لصق بالجرح، فاستمسك الدم، ثم أرسل - عليه الصلاة والسلام - محمد بن مَسلمة - كما ذكره الواقدي - فنادى في القتلى: يا سعد بن الربيع - مرة بعد أخرى - فلم يجبه، حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت؟ فأجاب بصوتٍ ضعيف، فوجدته جريحَاً في القتلى وبه رمق، فقال سعد: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلامَ وقل له: يقول لك: جزاك الله عنا خَيرَ ما جزى نبيُّاً عن أمته، وأبلغْ قومك عنى السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات.

وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه، أي: أصابعه، وقيل: أطرافها، وأحدها بنانة.

وخرج رسول الله يلتمسُ حمزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه وأذناه، فنظر - عليه الصلاة والسلام - إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، فقال: " رحمة الله عليك، لقد كنت فعولاً للخير، وصولاً للرحم، أما والله، لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل: " وَإِن عَاقَبتم فَعَاقِبوُا.... " إلى آخر الآية النحل: 126، فصبر، وكفَّر عن يمينه، وأمسك عما أراد.

وممن مثل به كما مثل بحمزة: عبد الله بن جحش ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدَّع في الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة في قبر واحد.

ولما أشرف - عليه الصلاة والسلام - على القتلى قال: أنا شهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.

وفي رواية عبد الله بن ثعلبة: قال - عليه الصلاة والسلام - لقتلى أحد: زملوهم بجراحهم.

وروى أبو بكر بن مردويه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا جابر، ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً فقال: سلني أعطك، قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عر وجل: إنه سبق مني أنهمِ لا يرجعون إلى الدنيا، قال: أي رب، فأبلغ من ورائي " ، فأنزل الله: " وَلا تحسَبَنَ الَذِينَ قُتِلوا في سبِيلِ الله أَتموتَاً بَل أحيَاءٌ.... " الآية آل عمران: 169.

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخوانَنَا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم " ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآيات: " وَلا تَحسَبَنَ اَلذَينَ قُتِلوا... " آل عمران: 169، رواه أحمد.

قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله ثَم: " تأوي إلى قناديل " مصداقه قوله: " والشهداء عِندَ رَبهن لَهُم أرُهُم وَنوُرُهُم " الحديد: 19، وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلاً، وتسرح نهاراً، وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في البرزخ.

وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمار الجنة. وقد ورد هذا القول؛ ويشهد له: ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشهداء بنهر - أو على نهر - يقال له: بارق، عند باب الجنة في قباب خضر، يأتيهم رزقهم منها بكرةً وعشياً.

قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدي عليهم برزقهم هناك ويراح.

قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة - أيضَا - وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة. قال: وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه غير واحد من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتسعة؛ فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك، عن أبيه يرفعه: " نسمة المؤمن طائر تعلقُ في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " وقوله تعلق أي: تأكل؛ وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائرٍ في الجنة. وأما أرواح الشدهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها؛ فنسأل الله الكريم المنمان أن يميتنا على الإيمان.

وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون؛ فيما قاله مغلطاي وغيره، وقيل: خمسة وستون أربعة من المهاجرين، وروى ابن منده من حديث أبي بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، وصححه ابن حبان من هذا الوجه.

وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلاً، وقَتل - عليه السلام - بيده أبيَّ بن خلف، وحضرت المَلائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه: أنه رأَى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، قال: ما رأيتهما قبل ولا بعد - يعني جبريل وميكائيل - يقاتلان كأشد القتال وفيه كما قدمناه في غزوة بدر أن قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم لا يختصُّ بيوم بدرة خلافاً لمن زعمه؛ كما نص عليه النووي في شرح مسلم كما قدمته، والله أعلم.

ولما بكى المسلمون على قتلاهم سُر المنافقون وظهر فسق اليهود.

تنبيه: ذكر القاضي عياض في الشفاء، عن القاضي أبي عبد الله بن المرابط من المالكية؛ أنه قال: من قال: " إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هزم " يستتاب، فإن تاب وإلا قتل لأنه تنقصه؛ إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته؛ إذ هو على بصيرة من أمره ويقين عصمته انتهى. وهذا موافق لمذهبنا، لكن قال العلامة البساطي من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة - أعني: حكم التائب - فله وجه، وإن وافق على أن التائب لا تقبل توبته، فمشكل. انتهى وقد كان في قصة أحد: وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤْمَ ارتكاب المنهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَ يبرحوا منه.

ومنها عادة الرسل أن تبتلي وتكون لهم العاقبة، والحكمة أن لو انتصروا دائماً، لدخل في المسلمين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين؛ ليتميز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروا من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحَاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم.

ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هَضْماً للنفس وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المسلمون، صَبَرُوا وجزع المنافقون.

ومنها: أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازلَ في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسبابَ الابتلاءِ والمحنِ ليصلوا إليها.

ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كُفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين.

وكان مما قيل من الشعر في يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عبد بن عمران، بن مخزوم، قال ابن هشام: عائذ بن عمران، بن مخزوم: من البسيط:

مَا بَالُ هَم عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي ... بِالْوُد من هِنْدَ إِذْ تَعْدُو عَوَادِيهَا

بَاتَتْ تُعَاتِبُنِي هِنْدٌ وَتَعْذِلُنِي ... وَالحَربُ قَدْ شُغِلَت عَني مَوَالِيهَا

مَهْلاً فَلاَ تَعذِلِينِي؛ إِن مِنْ خُلُقِيمَا قَد عَلِمتِ، وَمَا إِنْ لَسْتُ أُخْفِيهَا

مُسَاعِف لِبَنِي كَعبٍ بِمَا كَلِفُوا ... حَمّالُ عِبْء وأَثقَالٍ أُعَانِيهَا

وَقَدْ حَمَلْتُ سِلاَحِي فَوْقَ مُشتَرِفٍ ... سَاطٍ سَبُوحٍ إِذَا يَجْرِي يُبَارِيهَا

كَأنهُ إِذْ جَرَى عَير بِفَدفَدَةِ ... مُكَدم لاَحِقٌ بِالْعُونِ يَحْمِيهَا

مِن آلِ أَعْوَجَ يَرْتَاحُ الندىُ لَهُ ... كَجِذْعِ شَعْرَاءَ مُسْتَعْلٍ مَرَاقِيهَا

أَعددتُهُ وَرُقَاقَ الحَدِّ مُنتَخَلاًَ ... وَمَارِنَا لِخُطُوب قَدْ أُلاَقِيهَا

هَذَا وَبَيضَاءَ مِثلَ النهى مُحكَمَةً ... لُطت عَلَيَّ فَمَا تَبدُو مَسَاوِيهَا

سُقنَا كِنَانَةَ من أَطرَافِ ذِي يَمَنٍ ... عُرْضَ البِلاَدِ عَلَى مَا كَانَ يُزجِيهَا

قالَت كِنَانَةُ: أَنّى تَذهَبُونَ بنَا؟ ... قُلنَا: النخِيلَ؛ فَأَموهَا وَمَنْ فِيهَا

نَحنُ الْفَوَارِسُ يَوَمَ الْجَر من أُحُدِ ... هَابَتْ مَعَد، فَقُلنَا: نَخنُ نَأْتِيهَا

هَابُوا ضِرَاباً وَطَعناً صَادِقاً خَذِماً ... مِمّا يَرَونَ وَقَد ضُمتْ قَوَاصِيهَا

ثُمتَ رُحْنَا كَأَنا عَارِضٌ بَرِد ... وَقَامَ هَامُ بَنِي النجارِ يَبكِيهَا

كَأَن هَامَهُمُ عِنْدَ الوَغَى فِلَق ... من قَيْضِ رُبد نَفَتْهُ عَنْ أَدَاحِيهَا

أَوْ حَنظَل زَعزَعَتْهُ الريحُ فِي غُصُنٍ ... بَالِ تَعَاوَرُهُ مِنهَا سَوَافِيهَا

قَد نَبذُلُ الْمَالَ سَحّا لاَ حِسَابَ لَهُ ... وَنَطعُنُ الْخَيلَ شَزْراً فِي مَآقِيهَا

وَلَيلَةٍ يَصْطَلِي بِالفَرثِ جَازِرُهَا ... يَخْتَص بِالنقَرَى الْمُثرِينَ دَاعِيهَا

وَلَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَندِيَةٍ ... جَرْبَا جُمَادِيةِ قد بِتُ أَسرِيهَا

لاَ يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدةٍمِنَ الْقَرِيسِ وَلاَ تَسْرِي أَفَاعِيهَا

أَوْقَدْتُ فِيهَا لِذِي الضراءِ جاحمة ... كَالْبَرقِ ذَاكِيَةَ الأَرْكانِ أَحْمِيهَا

أَورَثَنِي ذَاكُمُ عَمْرٌو وَوَالِدُهُ ... مِنْ قَبلِهِ كَانَ بِالْمَثْنَى يُغَالِيهَا

كَانُوا يبَارُونَ أَنوَاءَ النجُومِ فَمَا ... دَنّتْ عَنِ السورَةِ الْعلْيَا مَسَاعِيهَا

فأجابه حسان بن ثابت فقال: من البسيط:

سُقتُم كِنَانَةَ جَهلاً مِنْ سَفَاهَتِكُمٍ ... إِلَى الرَسُولِ فَجُنْدُ الله مُخْزِيهَا

أَوْرَدتُمُوهَا حِيَاضَ المَوتِ ضاحِيَة ... فَالنارُ مَوعِدُهَا وَالْقَتْلُ لاَقِيهَا

جَمَعتُمُوهُمْ أَحَابِيشاً بِلا حَسَب ... أَئِمةَ الْكُفْرِ غَرتكُمْ طَوَاغِيهَا

أَلا اعتَبَرْتُم بِخَيْلِ الله إِذْ قَتَلَت ... أَهلَ القَلِيبِ وَمَن أَلقَينَهُ فِيهَا؟!

كَمْ من أَسِيرٍ فَكَكنَاهُ بِلا ثَمَن ... وَجَز نَاصِيَةِ كُناً مَوَالِيهَا

قال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك، قال: وبيت هبيرة ابن أبي وهب وهو: من البسيط:

وَلَيلَةٍ يَصطَلِي بِالفَرثِ جَازِرُهَا ... يَخْتَصُ بِالنقَرَى المُثرِينَ دَاعِيهَا

يروى لجنوب أخت عمرو ذي الكلب الهذلي في أبيات لها في غير يوم أحد.

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب: من الطويل:

أَلاَ هَل أَتَى غَسانَ عَنَا وَدُونَهُم ... مِنَ الأَرضِ خَرق سَيرُهُ مُتَنَعنِعُ؟

صَحَارٍ وَأَعلاَم كَأن قَتَامَهَا ... مِنَ البُعدِ نَقع هَامِد مُتَقَطعُ

تَظَل بِهِ البُزْلُ العَرَامِيسُ رُزحاً ... وَيَخلُو بِهِ غَيثُ السنِينَ فَيُمرعُ

بِهِ جِيَفُ الْحَسرَى يَلُوحُ صَلِيبُهَا ... كَمَا لاَحَ كَتانُ التجَارِ الْمُوَضعُ

بِهِ العِينُ وَالآرَامُ يَمشِينَ خِلفَةً ... وَبِيضُ نَعَامِ قَيضُهُ يَتَفَلعُ

مَجَالِدُنَا عَن دِينِنَا كُل فَخْمَةِ ... مُذربةٍ فِيهَا القَوَانِسُ تَلمَعُ

وَكُل صَمُوتٍ فِي الصوَانِ كَأَنًهَا ... إِذَا لُبِسَتْ نَهيٌ مِنَ المَاءِ مُتْرَعُ

وَلَكِنْ بِبَدرٍ سَائِلُوا من لَقِيتُمُ ... مِنَ الناسِ، وَالأَتبَاءُ بِالغَيب تَنفَعُ

وَإِنا بِأَرضِ الخَوفِ لَو كَانَ أَهْلُهَا ... سِوَانَا لَقَد أَجلَوا بِلَيْل فَأَقشَعُوا

إِذَا جَاءَ مِنا رَاكِبٌ كَانَ قَولُهُ ... أَعِدوا لِمَا يُزجِي ابنُ حَربٍ وَيَجْمَعُ

فَمَهمَا يُهِم الناسَ مِمَا يَكيِدُنَا ... فَنَحنُ لَهُ من سَائِرِ الناسِ أَوسَعُ

فَلَو غَيرُنَا كَانَتْ جَمِيعَاً تَكِيدُهُ ال ... بَرِيةُ قد أَعطَوا يَدَاً وَتَوَرعُوا

نُجَالِدُ لاَ تَبغِي عَلَينَا قَبِيلَة ... مِنَ الناسِ إِلأ أَن يُهَانُوا وَيُفظَعُوا

وَلَمَا ابتَنَوا بِالْعِرضِ قَالَ سَرَاتُنَاعَلاَمَ إِذَا لَم نَمنَع العِرضَ نَزرَعُ؟!

وفِينَا رَسُولُ الله نَتبَعُ أَمرَهُ ... إِذَا قَالَ فِينَا الَقَولَ لاَ نَتَظَلَعُ

تَدَلى عَلَيهِ الرُوحُ من عِنْدِ رَبهِ ... يُنَزلُ من جَو السمَاءِ وَيُرفَعُ

نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصرُنَا ... إِذَا مَا اشتَهَى أَنَّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ

وَقَالَ رَسُولُ الله لَمَّا بَدَوا لَنَا:ذَرُوا عَنكُمُ هَولَ الْمَنِياتِ وَاطْمَعُوا

وَكُونُوا كَمَن يَشرِي الحيَاةَ تَقَرُباً ... إِلَى مَلِكِ يُحيَا لَدَيهِ وَيُرْجَعُ

وَلَكِن خُذُوا مِيثَاقَكُم وَتَوَكَّلُوا ... عَلَى الله؛ إِن الأَمْرَ لله أَجْمَعُ

فَسِرنَا إِلَيهِمْ جَهرَةً فِي رِحَالِهِم ... ضُحَياً عَلَينَا الْبيضُ لاَ نَتَخَشعُ

بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السنَوَرُ وَالْقَنَا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورع

فَجئنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ ... أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثَلاَثَةُ آلاف وَنَحْنُ نصيةً ... ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

نُغَاوِرُهُمْ تَجْرِي الْمَنِيةُ بَينَنَا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع

تَهَادَى قِسِيُّ النبْعِ فِينَا وَفِيهِم ... وما هو إلا اليثربي المقطع

وَمَنْجُوفَة حِرْمِية صَاعِدِيةً ... يذر عليها السم ساعة تصنع

تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرجَالِ وَتَارَةً ... تمر بأعراض البصار تقعقع

وَخَيْل تَرَاهَا بِالْفَضَاءِ كَأَنهَا ... جراد صبا في قرة يتريع

فَلَمَا تَلاَقَيْنَا وَدَارَت بِنَا الرَحَا ... وليس لأمر حمُّه الله مدفع

ضَرَبْنَاهُمُ حَتَى تَرَكْنَا سَرَاتَهُم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع

لَدُنْ غُدْوَةً حَتَى اسَتَفَقْنَا عشيةً ... كأن ذكانا حر نار تلفع

وَرَاحُوا سِرَاعاً مُوجَعِينَ كَأَنهُمْ ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع

وَرُحْنَا وَأُخْرَانَا بِطَاء كَأَننَا ... أسود على لحم ببيشة ضلع

فَنِلْنَا وَنَالَ الْقَوْمُ مِنا وَرُبمَا ... فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع

وَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمُ ... وقد جعلوا كل من الشر يشبع

وَنَحْنُ أُنَاس لاَ نَرَى الْقتْلَ سُبة ... على كل من يحمي الدمار ويمنع

جِلادٌ عَلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ لاَ نَرَى ... على هالك عيناً لنا الدهر تدمع

بَنُو الْحَرْبِ لاَ نَعْيَا بِشَيْءٍ نَقُولُهُ ... ولا نحن مما جرت الحرب نجزع

بَنُو الْحَرْبِ إِنْ نَظْفَرْ فَلَسنَا بِفُحَّشٍ ... ولا نحن من أظفارنا نتوجع

وَكُنَّا شِهَاباً يَتَقِي الناسُ حَرَهُ ... ويفرج عنه من يليه ويسفع

فَخَرْتَ عَلَىَ ابْنَ الزبَعْرَي وَقَدْ سَرَى ... لكم طلب من آخر الليل متبع

فَسَلْ عَنْكَ في عَلْيَا مَعَد وَغَيْرِهَا ... من الناس من أخزى مقاماً وأشنع؟!

ومَنْ هُوَ لَمْ تَتْرُكْ لَهُ الحَرْبُ مَفْخَراً؟! ... ومن خده يوم الكريهة أضرع؟!

شدَدْنَا بِحَوْلِ الله وَالنصرِ شَدَةً ... عليكم وأطراف الأسنة شرع

فَكُرُ الْقَنَا فِيكُمْ كَأن فُرُوعَهَا ... عَزَالَى مَزَادٍ مَاؤُهَا يَتَهَزع

عَمَدْنَا إِلَى أَهْلِ اللوَاءِ وَمَنْ يَطِرْبذِكْرِ اللوَاءِ فَهْوَ فِي الْحَمْدِ أَسْرَعُ

فَخَانُوا وَقَدْ أَعْطَوْا يَداً وَتَخَاذَلُواأبى الله إِلاَّ أَمْرَهُ وَهْوَ أَصنَعُ

قال ابن هشام: وكان كعب قد قال: مجالدنا عن جذمنا كل فخمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيصلح أن تقول: مجالدنا عن ديننا؟ " فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فهو أحسن " فقال كعب: مجالدنا عن ديننا.

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد: من الرمل:

يَا غُرَابَ الْبَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ ... إِنمَا تَنْطِقُ شيئاً قَدْ فعِلْ

إِن لِلْخَيْرِ وَللشَر مَدَى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ

والْعَطِيَّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَنَا ... وَسَوَاء قَبْرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ

كُلُّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِل ... وَبَنَاتُ الدَّهْرِ يَلْعَبْنَ بِكُلّ

أَبْلِغَا حَسانَ عَني آيَةً ... فَقَرِيضُ الشّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ

كَمْ تَرَى بالْجَر مِنْ جُمْجُمَةٍ ... وَأَكُفٍّ قَدْ أُتِرَّتْ وَرِجِلْ

وسرابِيلَ حِسَانٍ عَرِيَتْ ... عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي الْمُنْتَزَلْ

كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيدٍ ... مَاجِدِ الجَدَيْنِ مِقْدَام بَطَلْ

صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارعٍ ... غَيْرِ ملْتَاثِ لَدَى وَقْعِ الأَسَلْ

فَسَلِ الْمِهْرَاسَ مَا سَاكِنُهُ ... بَيْنَ أَقْحَافٍ وَهَامِ كَالْحَجَلْ

لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرِ شَهِدُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ

حِينَ حَكَتْ بِقُبَاءِ بَرْكَهَا ... واسْتَحَزَ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الأَشَلْ

ثُم خَفُّوا عِنْدَ ذَاكُمْ رُقَّصاً ... رَقَصَ الْحَفَّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ

فَقَتَلْنَا الضعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ ... وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ

لاَ ألُومُ النفْسَ إِلا أَنَّنَا ... لَوْ كَرَرْنَا لَفَعَلْنَا الْمُفْتَعَلْ

بسُيُوفِ الهِندِ تَغلُو هَامَهُم ... عَلَلاً تَعلُوهُمُ بَعدَ نَهَل

فأجابه حسان بن ثابت: من الرمل:

ذهبَت يَابنَ الزبَعرَي وَقعَةٌ ... كَانَ مِنا الفَضلُ فِيهَا لَو عَدَل

ولَقَد نِلتُنم وَنلنَا مِنكُمُ ... وَكَذَاكَ الحَربُ أَحيَاناً دُوَل

نَضَعُ الأَسيَافَ فِي أَكتَافِكُم ... حَيثُ نَهوَى عَللاً بَعدَ نَهَل

نُخرِجُ الأَصبَحَ من أَستَاهِكُم ... كَسُلاحِ النيبِ يَأكُلنَ العَصَل

إِذ تُوَلونَ عَلَى أَعقَابِكُم ... هَرَباً فِي الشعبِ أَشبَاهَ الرّسَل

إِذ شددنَا شَدة صَادِقَةً ... فَأَجَأناكُم إِلَى سَفحِ الجَبَل

بِخَنَاطِيلَ كَأَشدَافِ المَلاَ ... من يُلاَقُوهُ مِنَ الناسِ يُهَل

ضَاقَ عَنا الشِّعبُ إِذ نَجزَعُهُ ... وَمَلأَنَا الفُرطَ مِنهُ وَالرِّجل

بِرِجَالِ لَستُمُ أَمثَالَهُم ... أُيدُوا جِبرِيلَ نَصراً فَنَزَل

وَعَلَونَا يَومَ بَدرِ بِالتقَى ... طَاعَة الله وَتَصدِيق الرُسُل

وَقَتَلنا كُل رَأس مِنهُم ... وَقَتَلنا كُل جَحجَاحٍ رفل

وَتَرَكنَا فِي قُرَيش عَورةً ... يَومَ بَدر وَأَحَادِيثَ المثل

وَرَسُولُ اللهِ حَقاً شَاهِد ... يَومَ بَدرٍ والتنَابِيلُ الهُبَل

في قريش من جُمُوعِ جَمعُوا ... مِثل ما يُجمَعُ في الخِصبِ الهمَلْ

نَحنُ لا أَمثَالُكُم ولد استهَا ... نَحضُرُ البَأسَ إِذَا البَأسُ نَزَل

قال ابن هشام: وأنشدني أبو زيد الأنصاري: وأحاديث المثل، والبيت الذي قبله. وقوله: " في قريش من جموع جمعوا " عن غير ابن إسحاق قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكي حمزة بن عبد المطلب وقتلى أحد من المسلمين: من المتقارب:

نَشَجْتَ وَهَلْ لَكَ من مَنشَجِ ... وَكُنتَ مَتَى تَذكِر تلجَجِ

تَذَكرَ قَومِ أَتَانِي لهم ... أَحَادِيثُ فِي الزمَنِ الأَعوَجِ

فَقَلبُكَ مِنْ ذِكْرِهِمْ خَافِق ... مِنَ الشوقِ والحُزُنِ المنضَجِ

وَقَتلاَهُمُ في جِنَانِ النعِيمِ ... كِرَامُ المدَاخِلِ والمخرَجِ

بِمَا صَبَرُوا تَختَ ظِلً اللوَاءِ ... لواءِ الرسُولِ بذي الأَضْوُجِ

غَدَاةَ أَجَابَت بأسيافها ... جميعاً بَنُو الأًوْس والخزرجِ

وأشياع أحْمَدَ إذْ شايعوا ... عَلَى الحق ذِي النورِ والمنْهج

فَمَا بَرِحُوا يَضربُونَ الكُمَاةَ ... وَيَمْضُونَ في القَسْطَلِ المُرهَجِ

كَذَلِكَ حَتَى دَعَاهُم مَلِيكٌ ... إِلَى جَنةٍ دَوْحَةِ المَولجِ

فَكُلهُمُ مَاتَ حُرَّ البَلاَءِ ... عَلَى مِلةِ الله لَمْ يَحرَجِ

كَحَمزَةَ لمّا وَفَى صَادِقاً ... بِذِي هَبةٍ صَارِم سَلجَجِ

فَلاَقَاهُ عَبْدُ بَنِي نَوْفَلِ ... يُبَربِرُ كالجملِ الأَدْعَجِ

فأَوجَرَهُ حَربَةً كَالشهَابِ ... تَلَهبُ في الهب المُوهَجِ

وَنُعمانُ أوفى بميثَاقِهِ ... وَحَنظَلَةُ الخيرِ لم يُحنَجِ

عن الحَق حَتى غَدَت رُوحُهُ ... إِلَى مَنْزِلِ فَاخِرِ الزبْرج

أولئكَ لاَ مَنْ ثوى مِنْكُمُ ... مِنَ النارِ في الدرَكِ المُرْتَجِ

فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري: من المتقارب:

أيجْزَعُ كَعْب لأشياعِهِ ... ويبكي من الزمن الأعوج؟!

عَجِيجَ المُذَكِّي رَأَى إِلفَهُ ... تَرَوحَ فِي صَادِرٍ مُحنَجِ

فراحَ الروَايَا وَغادَرْنَهُ ... يُعَجْعِجُ قَسْراً وَلَم يُحْدَجِ

فَقُولاَ لِكَعْب: يُثَن البُكَا ... وَللنيءِ مِنْ لَحمِهِ ينضجِ

لمصرَعِ إِخوانِهِ في مَكَر ... مِنَ الخيل ذِي قَسطَلِ مُرهجِ

فَيَا لَيْتَ عَمراً وَأَشيَاعَهُ ... وَعُتبَةَ في جَمعِنَا السورَجِ

فيشفُوا النفُوسَ بِأَوتَارِهَا ... بِقَتلَى أُصيبَت مِن الخَزرَجِ

وَقَتْلَى من الأوْسِ في مَعْرَكٍ ... أُصيبوا جميعاً بِذِي الأضْوُجِ

وَمَقْتلِ حَمْزَةَ تَحْتَ اللوَاءِ ... بِمُطَّرِدٍ مَارِنٍ مُخْلَجِ

وَحَيْثُ انَثَنى مُصْعَب ثَاوياً ... بِضَرْبَة ذي هَبةٍ سَلْجَجِ

بِأُحْدِ، وأَسْيَافُنَا فِيهمُ ... تَلَهَبُ كَاللَهَبِ المُوهِجِ

غَدَاةَ لقينَاكُمُ في الحَديدِ ... كَأُسْدِ البَرَاحِ فَلَمْ نُعنَجِ

بِكُل مُجَلَحَةٍ كَالعُقَابِ ... وَأَجْرَدَ ذِي مَيْعَةٍ مُسْرَج

فَدُسْنَاهُمُ ثَم حَتَّى انثَنَوْا ... سِوَى زَاهِقِ النفْسِ أَوْ مُحْرَجِ

قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرُ هذا لضرار، وقول كعب: ذي النور والمنهج عن أبي زيد الأنصاري.

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد: من الطويل:

ألاَ ذرَفَتْ مِنْ مقلَتَيْكَ دُمُوعُ ... وَقَدْ بَانَ مِنْ حَبْلِ الشَبَابِ قُطُوعُ؟!

وشَط بِمَنْ تَهْوَى المزَارُ وَفَرَّقَتْ ... نَوَى الحي دَار بِالحَبِيبِ فَجُوعُ

وَلَيْسَ لِمَا وَلى عَلَى ذي حَرَارَة ... وإِنْ طَال تَذْرَافُ الدُمُوع رُجُوعُ

فذَرْ ذَا، وَلَكِنْ هَلْ أَتَى أُمَ مَالِكٍ ... أَحَادِيثُ قَوْمِي، والحدِيثُ يشيعُ

وَمَجْنَبُنَا جُرْداً إِلَى أَهْلِ يثْرِب ... عَنَاجيجَ مِنْهَا مُتْلَدٌ وَنَزِيعُ

عَشيةَ سِرْنَا فِي لهامٍ يَقُودنَا ... ضَرُورُ الأَعَادِي للصدِيقِ نَفُوعُ

نَشُدُ عَلَيْنَا كُل زَغْفٍ كَأَنهَا ... غَدِير بِضَوْجِ الوَادِبَيْنِ نَقِيعُ

فَلَمَا رَأَوْنَا خَالَطَتْهُمْ مَهَابَة ... وَعَايَنَهمْ أمْر هُنَاكَ فَظِيعُ

وَوَدُّوا لَوَ أن الأَرْضَ يَنْشَق ظَهْرُهَا ... بِهِمْ وَصَبُورُ القَوْمِ ثَم جَزُوعُ

وَقَدْ عُريَتْ بِيض كَأَن وَميضَهَا ... حَرِيق تَرَقى فِي الأَباءِ سَرِيعُ

بِأَيْمَانِنَا نَعْلُو بِهَا كُلَّ هَامَةٍ ... وَمِنْهَا سِمَام لِلْعَدُو ذَرِيعُ

فَغَادرْنَ قَتْلَى الأَوْسِ عَاصِبَةً بِهِمْ ... ضِبَاعٌ وَطَيْر يَعتَفِينَ وقُوعُ

وَجَمْعُ بَنِي النجارِ فِي كُل تَلْعَةٍ ... بِأَبْدَانِهِمْ مِنْ وَقْعِهِن نَجِيعُ

وَلَوْلاَ عُلُوُّ الشعْبِ غَادَرْنَ أَحْمَداً ... وَلَكِنْ عَلاَ، والسمهَرِيُ شَرُوعُ

كَمَا غَادَرَتْ في الكر حَمْزَةَ ثَاوِياً ... وفِي صَدرِهِ مَاضِي الشَبَاةِ وَقِيعُ

وَنُعْمَانَ قَدْ غَادرْنَ تَحْتَ لِوَائِهِ ... عَلَى لَحْمِهِ طَيْر يَحِفْنَ وُقُوعُ

بِأُحْدٍ وَأَرْمَاحُ الكُمَاةِ يَرُدْنَهُمْ ... كَمَا غَالَ أَشْطَانَ الدِّلاَءِ نُزُوعُ

فأجابه حسان بن ثابت فقال. من الطويل:

أَشَاقَكَ مِنْ أم الولِيدِ ربُوعُ ... بلاقِعُ مَا مِنْ أَهْلِهِنَّ جَمِيعُ؟

عَفَاهُنَّ صَيْفِيُّ الريَاحِ وَوَاكِف ... مِنَ الدلْوِ رَجاف السَّحَابِ هَمُوعُ

فَلَمْ يَبْقَ إلا مَوْقِدُ النارِ حَوْله ... رَوَاكِدُ أَمثَالُ الحمام كنوعُ

فَدَعْ ذِكْرَ دَارٍ بددتْ بَيْنَ أَهْلِهَا ... نَوى لِمَتينَاتِ الحبَالِ قَطُوعُ

وَقُلْ إنْ يَكُنْ يَوم بِأُحْدٍ يَعُدُّه ... سَفِيه فَإن الحَقَّ سَوْفَ يَشيعُ

فَقَدْ صَابَرَتْ فِيهِ بَنُو الأَوْسِ كُلهُم ... وَكَانَ لَهُمْ ذِكْر هُنَاكَ رَفِيعُ

وَحَامى بَنُو النَجَّارِ فِيهِ وَصابروُا ... وَمَا كَانَ مِنْهُمْ في اللقَاءِ جزوعُ

أمام رسُولِ الله لا يخذلُونه ... لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ ربهِمْ وَشَفِيعُ

وَفَوْا إذْ كَفَرْتُمْ يا سَخِينَ بِرَبكُموَلاَ يَسْتَوِي عَبْدٌ وَفَى وَمُضيعُ

بِأَيْدِيهمُ بِيض إِذَا حَمِشَ الوَغَى ... فَلاَ بُدَّ أنْ يَرْدَى لَهُنَّ صرِيع

كما غَادَرَتْ في النقْعِ عُتْبَةَ ثَاوِيَاً ... وسَعْدَاً صَرِيعاً، والوشِيجُ شُروعُ

وَقَدْ غَادَرَتْ تَحْتَ العَجَاجةِ مُسْنَداً ... أُبيَّا وَقَدْ بَل القَمِيصَ نَجِيعُ

بكف رَسُولِ الله حَيْثُ تَنَصَبَتْ ... عَلَى القَومِ مِمَّا قَدْ يُثِرْنَ نُقُوعُ

أُولئِكَ قَوْمٌ سَادَة مِنْ فُرُوعِكُمْ ... وَفِي كُل قَوْمٍ سَادَةٌ وَفُرُوعُ

بِهِن نُعِزُّ الله حَتَى يُعِزّنَاوَإِنْ كَانَ أَمْر يَا سَخِينَ فظيعُ

فَلاَ تَذْكُرُوا قَتْلَى وَحَمْزَةُ فِيهِم ... قَتِيل ثَوَى لِلَّهِ وَهْوَ مُطِيعُ

فَإِن جِنَانَ الخُلْدِ مَنْزِلَة له ... وَأَمْرُ الَّذِي يَقْضِي الأُمُورَ سَرِيعُ

وَقَتْلاَكُمُ فِي النَّارِ أَفْضَلُ رِزْقِهِم ... حَمِيم مَعَاً في جَوْفِهَا وضَرِيعُ

قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن العاص في يوم أحد: من الطويل:

خَرَجْنَا مِنَ الفيفا عليهم كأنَّنَا ... مَعَ الصبْحِ مِنْ رَضْوى الحبيكُ المنطقُ

تَمَنَّتْ بَنُو النَّجَّارِ جَهْلاً لِقَاءنَالَدَى جَنْبِ سَلْعٍ، وَالأمَانيُّ تَصْدُقُ

فَمَا رَاعَهم بِالشر إِلاَ فُجَاءة ... كَرَادِيسُ خَيل فِي الأَزِقةِ تَمرُقُ

أَرَادوا لِكَيمَا يَستبِيحُوا قِبَابَنَا ... وَدُونَ القِبَاب اليَومَ ضَرب مُحَرقُ

وكانَت قِبَاباً أومنَت قبل مَا تَرَى ... إذَا رَامَهَا قوم أُبِيحُوا وأُخنِقُوا

كأن رؤوس الخزرجيين غُدوَة ... وَأَيمَانَهُم بِالمشَرفِيةِ بَزوَقُ

فأجابه كعب بن مالك فيما ذكر ابن هشام فقال: من الطويل:

ألا أبلغا فهراً عَلَى نَأيِ دَارِهَا ... وعندَهُمُ من عِلمنَا اليَومَ مَصدَقُ

بِأَنا غَدَاةَ السفحِ من بَطنِ يَثرِبٍ ... صَبَرنَا، وَرَايَاتُ المَنيةِ تَخفِقُ

صَبَرْنَا لهم والصبر مِنا سَجِية ... إِذَا طَارَتِ الأَبرَامُ نَسمُو وَنَرتُقُ

عَلَى عَادة تِلكُم جَرَينَا بِصَبرِنَا ... وَقِدماً لَدى الغَايَاتِ نَجرِي فَنَسبِقُ

لَنَا حَومَةً لاَ تُستَطَاعُ يَقُودُهَا ... نَبِي أتى بِالحَق عَف مُصَدقُ

أَلاَ هَل أتى أَفنَاءَ فِهرِ بن مَالِكٍ ... مُقَطعُ أَطرَافٍ وَهَام مُفَلقُ؟!

وقال عمرو بن العاص: من مجزوء الكامل:

لَما رَأَيتُ الحربَ يَن ... زو شَرهَا بِالرضفِ نَزوَا

وَتَنَازَلَت شَهبَاءُ تَل ... حُو الناسَ بِالضراء لحوَا

أَيقَنتُ أَن الموتَ حَق ... ق، وَالحياةُ تَكُونُ لغوَا

حَملتُ أَثوَابي عَلَى ... عَتَدِ يَبُذُّ الخيلَ رَهوَا

رَبِذ كَيَعفُورِ الصرِي ... مةِ رَاعَهُ الرامُونَ دَحوَا

شَنِجِ نَسَاهُ ضَابِطِ ... لِلخَيل إرخَاءً وَعَدوَا

فَفِدى لهم أُمي غَدَا ... ة الرَوعِ إِذ يَمشُونَ قَطوَا

سَيراً إِلَى كَبشِ الكَتي ... بَةِ إِذ جَلَتهُ الشَمسُ جَلوَا

قال ابن إسحاق: فأجابه كعب بن ى فقال: من البسيط:

أَبلِغ قُرَيشاً وَخَيرُ القولِ أَصدَقهُ ... وَالصدقُ عِندَ ذَوِي الألبَابِ مَقبُولُ

أن قد قَتَلنَا بِقَتلاَنا سَرَاتَكُمُ ... أَهلَ اللًوَاءِ فَفِيمَا يَكثُرُ القِيلُ

وَيَومَ بَدرٍ لقينَاكُم لَنَا مَدَد ... فِيهِ مَعَ النصرِ مِيكالَ وَجِبرِيل

إن تَقتُلُونَا فَدِينُ الحق فِطرَتُنَا ... والقتلُ في الحق عِندَ اللهِ تَفضِيلُ

وإن تَرَوا أمرَنَا فِي رَأيِكُم سفَهاً ... فَرَأى من خَالَفَ الإسلاَمَ تَضلِيلُ

فَلاَ تَمَنوا لِقَاحَ الحربِ واقتَعِدُوا ... إِن أَخَا الحربِ أَصدى اللوْنِ مَشغُولُ

إِن لكم عِندنَا ضَرباً تُرَاحُ لَهُ ... عُرجُ الضبَاعِ لَهُ خَذم رَعَابِيلُ

إنا بَنُو الحربِ نَمرِيهَا وَنَنتُجُهَا ... وَعِندَنَا لِذوِي الأضغَانِ تَنكِيلُ

إن يَنجُ مِنهَا ابنُ حَرب بَعدَ مَا بَلَغَت ... مِنهُ الترَاقِي وَأَمرُ الله مَفْعُولُ

فَقَد أَفَادَت لَهُ حلماً وَمَوعظةَ ... لِمَن يكُونُ لَهُ لُبٌّ وَمَعقُولُ

وَلَو هَبَطتُم بِبَطنِ السيل كَافَحَكُم ... ضَرب بِشَاكِلَةِ البَطحَاءِ تَرعيلُ

تَلقَاكُمُ عُصَب حَولَ النبِي لهم ... مِمَا يُعِدونَ لِلهَيجَا سَرَابِيلُ

من جِذمِ غَسانَ مسترخٍ حَمَائِلُهُم ... لاَ جُبَنَاءُ وَلاَ ميل مَعَازِيلُ

يَمشُونَ تَحتَ عَمَايَاتِ القِتَالِ كَمَا ... تَمشِي المصَاعِبةُ الأُدمُ المَرَاسِيلُ

أَو مِثل مشي أُسُود الطلِّ أَلثقَهَا ... يَومُ رَذَاذٍ مِنَ الجَوزَاء مَشمُولُ

فِي كُل سَابِغَةٍ كَالنهي مُحكَمَةٍ ... قِيَامُهَا فَلَج كَالسيفِ بُهلُولُ

تَرُدُ حَدَّ قِرَانِ النبلِ خَامسئَةً ... وَيَرجِعُ السيفُ عَنهَا وَهوَ مَفْلُولُ

وَلَو قَذَفتم بِسَلع عَق ظُهُورِكُمُ ... وَللحَيَاةِ وَدَفعِ الموتِ تَأْجِيلُ

مَا زَالَ فِي القَومَ وَتر منكُمُ أبداً ... تَعفُو السلاَمُ عَلَيهِ وَهُوَ مَطْلُولُ

عَبد وَحُر كَرِيم مُوثَق قَنَصاً ... شَطرَ المَدينةِ مَأسُورٌ وَمَقْتُولُ

كُنا نُؤملُ أُخرَاكم فَأَعجَلَكُم ... مِنا فَوَارِسُ لاَ عُزلٌ وَلاَ مِيلُ

إِذَا جَنَى فِيهِمُ الجَانِي فَقَد عَلِمُوا ... حَقاً بِأَن الذِي قَدْ جَرَّ مَحمُولُ

مَا يَجنِ لاَ يَجنِ من إِثمٍ مُجَاهَرَةً ... وَلاَ مَلُوم وَلاَ فِي الغرمِ مَخْذُولُ

وقال حسان بن ثابت يذكر عدة أصحاب اللواء يوم أحد من الخفيف:

مَنَعَ النومَ بِالعشاءِ الهُمُومُ ... وخَيَال إِذَا تَغُورُ النجُومُ

من حبيب أصاب قلبك منه ... سَقَمٌ فَهوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُ

يَا لَقَوْمي هَلْ يَقتُلُ المرءَ مِثْلي ... وَاهِنُ البَطش والعِظامِ سَئُومُ؟

لَوْ يَدِب الحولِيُّ من وَلَدِ الذرْ ... رِ عَلَيْهَا لأَنْدَبَتْهَا الكُلومُ

شَأْنُها العِطْرُ والفِراشُ وَيَعْلُو ... هَا لجينٌ وَلُؤلؤٌ مَنْظُومُ

لَم تَفُتْهَا شَمْسُ النهَارِ بشيء ... غَيْرَ أن الشبَابَ لَيْسَ يَدُوم

إن خَالِي خَطِيبُ جَابيَة الجو ... لاَنِ عِنْدَ النعْمَانِ حِينَ يَقُومُ

وأنا الصقْرُ عِنْدَ بَابِ ابْنِ سَلْمَى ... يَومَ نُعْمَانُ في الكُبُولِ سَقيِمُ

فَأُبى وَوَاقِد أُطْلقَا لِي ... يَوْمَ رَاحَا وَكَبْلُه مَحْطومُ

وَرَهَنْت اليَدَين عَنْهُم جميعاً ... كُل كَف جُزءٌ لَهَا مَقْسُومُ

وَسَطَتْ نِسْبَتِي الذوَائِبَ مِنْهُمْ ... كُل دَارٍ فِيهَا أَب لِي عَظِيمُ

وَأَبِي في سُمَيْحَة القَائِل الْفَا ... صِلُ يَوْمَ الْتَقَتْ عَلَيهِ الْخُصُومُ

تِلكَ أَفْعَالُنَا وَفِعْلُ الزبَعْرَي ... خَامِل فِي صَدِيقِهِ مَذْمُومُ

رُب حِلْمِ أَضَاعَهُ عَدَمُ المَا ... لِ، وَجَهْلٍ غَطَى عَلَيْهِ النَّعِيمُ!

إِن دَهْراً يَبُورُ فِيهِ ذَوُو الْعِل ... م لَدَهْز هُوَ الْعَتُوُّ الزنِيمُ

لاَ تَسُببنِي فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إن سِبي مِنَ الرجَالِ الْكَرِيم

مَا أبالِي أنب بِالْحَزْنِ تَيْس ... أمْ لَحَانِي بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئِيمُ

وَليَ الْبَأسُ مِنْكُمُ إِذْ رَحَلْتُم ... أُسْرَة مِنْ بَنِي قُصَي صَمِيمُ

تِسْعَة تَحْمِلُ اللوَاءَ وَطَارَتْ ... فِي رعَاعٍ مِنَ الْقَنَا مَخْزُومُ

وَأَقَامُوا حَتَى أُبِيحُوا جَمِيعاً ... فِي مَقَامٍ وَكُلُهُمْ مَذْمُومُ

بِدَمٍ عَانِكٍ وَكَانَ حِفَاظاً ... أَنْ يُقيمُوا إن الْكَرِيمَ كَرِيمُ

وَأَقَامُوا حَتَى أُزِيرُوا شَعُوباً ... وَالْقَنَا فِي نُحُورِهِمْ مَحْطُومُ

وَقُرَيْش تَفِرُّ مِنا لِوَاذَاً ... أَنْ يُقِيِمُوا وَخَف مِنْهَا الْحُلُومُ

لَمْ تطِقْ حَملَهُ العَوَاتِقُ مِنْهُمْ ... إِنَّمَا يَحْمِلُ اللوَاءَ النُّجُومُ

قال ابن هشام: وأنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار صاحب لواء المشركين يوم أحد: من الكامل:

لله أَيُّ مذَنب عَنْ حُرْمَةٍ ... أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعِم الْمُخْوِلاَ

سَبَقَت يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... تَرَكتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلاَ

وَشَدَدْتَ شَدَةَ بَاسِلٍ فَهَزَمْتَهُمْ ... بِالْجَر إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب، ومن أصيب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من مجزوء الكامل:

يَامَيُّ قُومِي فَاندُبِن ... نَّ بِسُحْرَةٍ شَجْوَ النَّوَائِحْ

كَالْحَامِلاَتِ الوَقرَ بِالْث ... ثقْلِ الْمُلحَاتِ الدَوَالِحْ

أَلْمُعْولاَتِ الْخَامِشَا ... تِ وُجُوهَ حُرَاتٍ صَحَائِحْ

وَكَأن سَيْلَ دُمُوعِهَا الْ ... أَنْصَابُ تُخْضَبُ بِالذبَائِحْ

يَنْقضْنَ أَشْعَاراً لَهُنْ ... نَ هُنَاكَ بَادِيَةَ الْمَسَائِحْ

وَكَأَنهَا أَذْنَابُ خَي ... لٍ بالضُحَى شُمْسِ رَوَامِحْ

مِنْ بَيْنِ مَشْرُورِ ومَج ... زورٍ يُذَعْذَعُ بِالْبَوَارِحْ

يَبْكِينَ شَجوَ مُسَلبَا ... تٍ كَدَحَتْهن الكَوَادِحْ

وَلَقَدْ أَصَابَ قلُوبَهَا ... مَجل لَهُ جُلَب قَوَارِح

إِذ أَقْصَدَ الْحِدْثَانُ مَنْ ... كُنا نُرجي إِذْ نُشَايِحْ

أَصْحَابَ أُحدِ غَالَهُمْ ... دَهْر أَلَمَّ لَهُ جَوَارحْ

مَنْ كَانَ فَارِسَنَا وَحَا ... مِيَنَا إِذَا بُعِثَ الْمَسَالِح

يَا حَمْزَ، لاَ وَالله لاَ ... أَنسَاكَ مَا صُرَّ اللقَائِح

لِمُنَاخِ أَيتَامٍ وَأَضْ ... يَافٍ وَأَرْمَلَةٍ تلاَمِحْ

وَلمَا يَنُوبُ الدَهْر فِي ... حَرْبٍ لحَربٍ وهي لاَقِحْ

يَا فَارِساً يَا مِدْرَهاً ... يَا حَمْزَ قَدْ كُنْتَ المُصَامِحْ

عَنا شَدِيدَاتِ الْخُطُو ... بِ إِذَا يَنُوبُ لَهُن فَادِحْ

ذَكَرْتَنِي أَسَدَ الرسُو ... لِ وَذَاكَ مِدْرَهُنَا المُنَافِح

عَنا وَكَانَ يُعدُ إذ ... عُدَ الشَرِيفُونَ الْجَحَاجِح

يَعْلَو القَماقِمَ جَهرَة ... سَبط اليَدَينِ أغر وَاضِح

لاَ طَائِش رَعِش وَلاَ ... ذو عِلًةٍ بِالحملِ آنِح

بَحْر فَلَيسَ يُغِب جَا ... راً مِنهُ سَيب أَو مَنَادِح

أَوْدىَ شَبَابُ أُولي الحَفَا ... ئِظِ وَالثًقِيلونَ المَراجِح

أَلمُطعِمُونَ إِذَا المَشَا ... تِي مَا يسفقوهُن نَاضِح

لَحْمَ الجِلاَدِ وَفَوقَهُ ... من شَحمِهِ شُطَب شَرَائح

لِيُدَافِعُوا عَن جَارِهِم ... مَا رَامَ ذوُ الضغنِ المُكَاشِح

لَهفي لشبانٍ رُزِئ ... نَاهُم كَأَنهم المَصَابِح

شُم بَطَارِقَةٍ غَطَا ... رِفَة خَضَارِمَةٍ مسَامِح

أَلْمُشْتَرُونَ الحَمدَ بِال ... أموَالِ إِن الحَمدَ رَابِح

وَالْجَامِزُونَ بِلُجْمِهِم ... يَوماً إِذَا مَا صَاحَ صَائِح

مَنْ كَانَ يُرمَى بِالنوَا ... قِرِ من زَمَانٍ غَيرِ صَالِح

مَا إِنْ تَزَالُ رِكَابُةه ... يَرسِمن فِي غُبرٍ صَحَاصِح

رَاحَت تَبَارَي وَهوَ فِي ... رَكْب صُدُورُهم رَوَاشِح

حَتَى تَئُوبَ له الْمَعَا ... لِي لَيسَ من فَوزِ السفَائِح

يَا حَمزَ، قد أَوْحَدْتَنِي ... كَالعُودِ شَذَّبَهُ ألكَوَافِح

أَشكُو إِلَيكَ وَفَوقَك الت ... تُربُ المُكَوَرُ وَالصَّفَائِح

مِنْ جنْدَلٍ يلْقِيهِ فَوْ ... قَكَ إِذ أَجَادَ الضرحَ ضَارح

فِي وَاسِع يَحثُونَه ... بِالتربِ سَوّته المَمَاسِح

فَعَزَاؤُنا أَنا نَقُو ... لُ وَقَولنَا بَرح بَوارح:

مَنْ كَانَ أَمسَى وَهوَ عَم ... مَا أَوقَعَ الحِدثَانُ جَانِح

فَلْيأَتِنَا فَلْتَبك عَيْ ... نَاهُ لِهَلكَانَا النوافِح

أَلْقَائِلِينَ الْفَاعِلِي ... نَ ذَوِي السمَاحَةِ وَالمَمَادِح

مَنْ لاَ يَزَالُ نَدى يَدَي ... ه لَهُ طِوَالَ الدهر مَائِح

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان، وبيته: المطمعون إذا المشاتي، وبيته: والجامزون بلحمهم، وبيته: من كان يرمي بالنواقر عن غير ابن إسحاق.

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت - أيضَاً - يبكي حمزة بن عبد المطلب: من السريع:

أتعرِفُ الدارَ عَفَا رَسمَهَا ... بعد صوبَ المسبلِ الهاطِلِ

بَين السرَادِيحِ فأُدمَانَة ... فَمدفَعِ الروحَاءِ فِي حَائِلِ

سَأَلتُهَا عَن ذَاكَ فَاستَعجَمَت ... لَم تَدرِ مَا مَرجُوعَة السائِلِ

دَع عَنكَ داراً قد عَفَا رَسمُها ... وابكِ عَلَى حَمزَةَ ذِي النائِلِ

ألمَالِئ الشيزَى إِذا أَعصَفَت ... غَبرَاءُ في ذِي الشبِمِ المَاحِلِ

والتارِكِ القِرنَ لَدَى لِبدةٍ ... يَعثُرُ فِي ذِي الخُرُصِ الذابِلِ

وَاللاّبِسِ الخَيلَ إِذا أخجَمت ... كَالليثِ فِي غَابَتِهِ الْبَاسِلِ

أَبيَضُ فِي الذروَةِ من هَاشِم ... لَم يَمرِ دونَ الحَق بِالْبَاطِلِ

مَال شهِيداً بَين أَسيَافِكُم ... شلَت يَدا وَحشِي مِنْ قَاتِلِ

أَي امرِئ غَادرَ فِي أَلةِ ... مَطرورَةٍ مَارِنَةِ العَامِلِ

أَظلَمَتِ الأَرضُ لِفِقدانِهِ ... وَاسوَدّ نُورُ القمَرِ الناصِلِ

صلى عَلَيهِ الله فِي جَنةٍ ... عَالِيَةٍ مُكرَمَةِ الداخِلِ

كُنا نَرَى حَمزَةَ حِرزاً لَنَا ... في كُل أَمرٍ نَابَنَا نَازِلِ

وَكَانَ فِي الإسلاَمِ ذَا تُدرإ ... يكفِيكَ فَقدَ القَاعِدِ الْخَاذِلِ

لاَ تَفرَحِي يَا هِندُ وَاستَجلِبي ... دمعاً وَأَذرِي عَبرَةَ الثاكِلِ

وَابكِي عَلَى عتبَةَ إِذ قَطه ... بالسيفِ تَحتَ الرهَجِ الْجَائِلِ

إِذ خَر فِي مَشيَخَةٍ مِنكُمُ ... من كُلِّ عَاتٍ قَلْبُهُ جَاهِلِ

أَردَاهُمُ حَمزَةُ فِي أُسرةٍ ... يمشُونَ تَحتَ الحَلَقِ الْفَاضِل

غَدَاةَ جِبرِيلُ وَزِيرٌ لَهُ ... نِعمَ وَزِيرُ الفَارِسِ الْحَامِلِ

وقال كعب بن مالك يبكي حمزة بن عبد المطلب: من الكامل:

طَرَقَت هُمُومُكَ فَالرقَادُ مُسَهدُ ... وَجَزِعتَ أن سُلِخَ الشَبَابُ الأَغيَدُ

وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضمْرِية ... فَهَوَاكَ غَوْرِي وَصَحْبُك منْجِدَ

فَدَعِ التَّمَادي فِي الْغَوَايَةِ سَادِراًقَدْ كُنْتَ فِي طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ

وَلَقَدْ أنى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعاً ... أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ

وَلَقَدْ هُدِدْت لِفَقدِ حَمْزَةَ هَدَّةَ ... ظَلَتْ بَنَاتُ الْجَوْفِ مِنْهَا تُرْعَدُ

وَلَوَ انهُ فُجِعَتْ حِرَاءُ بِمِثْلِهِ ... لَرَأَيْتَ رَاسيَ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ

قِرْم تمَكَّنَ فِي ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... حَيْثُ النبُؤَةُ وَالندَى وَالسؤْدَدُ

وَالْعَاقِرُ الْكُوَمِ الْجِلاَدِ إِذَا غَدَتْ ... رِيح يَكَادُ الْمَاء مِنْهَا يَجْمُدُ

وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَلاً ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ وَالْقَنَا يَتَفَصَدُ

وَتَرَاهُ يَرْفُلُ فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُ ... ذُو لِبدَةٍ شَثْنُ الْبَرَاثِنِ أَرْبَدُ

عَم النَّبِي مُحَمَدِ وَصَمِيُّهُ ... وَرَدَ الحِمَامَ فَطَابَ ذاًكَ الْمَوْرِدُ

وَأَتَى الْمَنِيةَ مُعْلَماً فِي أُسْرَةٍنَصَرُوا النًبِيَّ وَمِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ

وَلَقَدْ إِخَالُ بِذَاكَ هِنْداً بُشرَتْ ... لِتُمِيتَ دَاخِلَ غُصَّةٍ لاَ تَبْرُدُ

مِما صَبَحْنَا بِالْعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا ... يَوْماً تَغَيَّبَ فِيهِ عَنْهَا الأَسْعَدُ

وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُد وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَدُ

حَتَّى رَأيْتُ لَدَى النبِيِّ سَرَاتَهُمْ ... قِسْمَيْنِ: نَقْتُلُ مَنْ نَشَاءُ ونَطْرُدُ

فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَنِ مِنْهمُ ... سَبْعونَ عُتْبَةُ مِنْهُمُ وَالأَسْوَدُ

وَابْنَ الْمُغِيرَةِ قَدْ ضَرَبنَا ضَرْبَة ... فَوْقَ الْوَرِيدِ لَهَا رَشَاش مُزْبِدُ

وَأُمَية الْجُمَحِيُ قوم مَيْلَهُ ... عَضْبٌ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُهَندُ

فأَتَاكَ فَلُّ الْمُشْرِكِينَ كَأَنهُم وَالْخَيْلُ تَثْفُنُهُمْ نًعَام شُرَدُ

شَتٌانَ مَن هُوَ فِي جَهَنمَ ثَاوِياً ... أَبَدَاً وَمَنْ هُوَ فِي الجِنَانِ مُخَلَّدُ

وقال كعب - أيضا - يبكي حمزة عبد المطلب: من المتقارب:

صَفِية قُومِي وَلاَ تَعْجِزِي ... وَبَكِّي النسَاءَ عَلَى حَمْزَةِ

وَلاَ تَسْأَمِي أَنْ تُطِيلى البُكا ... عَلَى أَسَدِ الله فِي الْهِزةِ

فَقَدْ كَانَ عِزاً لأَيْتَامِناَ ... وَلَيثَ الْمَلاَحِمِ فِي الْبِزةِ

يُرِيدُ بِذَاكَ رِضَا أَحْمَدٍ ... وَرِضْوَانَ فِي الْعَرشِ وَالْعِزةِ

وقال كعب - أيضا - في يوم أحد: من المتقارب:

إِنكِ عَمْرَ أَبِيكِ الْكَرِي ... م إِنْ تَسْأَلِي عَنْكِ مَنْ يَجْتَدِينَا

فَإنْ تَسْأَلِي ثُم لاَ تُكْذَبِي ... يُخَبرْكِ مَنْ قَدْ سَأَلْتِ الْيَقِينَا

بِأًنا لَيَالِيَ ذَاتِ الْعِظَا ... مِ كُنا ثِمَالاً لِمَنْ يَعْتَرِينَا

تَلُوذُ النَّجُودُ بِأَذْرَائِنَا ... مِنَ الضر فِي أَزَمَاتِ السّنِينَا

بِجَدوَى فَضُولِ أُولِي وُجْدِنَا ... وَبِالصَبْرِ وَالْبَذْلِ فِي الْمُعْدمِينَا

وَأَبقَت لَنَا جَلَمَاتُ الْحُرُو ... بِ مما نُوَازِي لَدُنْ أَنْ برِينَا

مَعَاطِنَ تَهْوِي إِلَيْهَا الْحُقُو ... قُ يَحْسَبُهَا مَنْ رَآهَا الْفَتِينَا

تُخَيسُ فِيهَا عِتَاقُ الجما ... لِ صُحْماً دَوَاجِنَ حُمْراً وَجُوناً

وَدفاعَ رَجْلٍ كَمَوْجِ الْفُرَا ... تِ يَقْدُمُ جَأْوَاءَ جُولاً طَحُونَا

تَرَى لَوْنَهَا مِثْلَ لَوْنِ النجُو ... مِ رَجْرَاجَةً تُبْرِقُ الناظِرِينَا

فَإِن كُنْتَ عَنْ شَأْنِنَا جَاهِلاً ... فَسَلْ عَنْه ذَا الْعِلْمِ مِمَنْ يَلِينَا

بنَا كَيْفَ نَفعَلُ إِن قَلَّصَتْ ... عَوَاناً ضَرُوساً عَضُوضاً حَجُونَا

أًلَسْنَا نَشُدُ عَلَيْهَا الْعِصا ... بَ حَئَى تَدر وَحَتَى تَلِينَا؟!

وَيَوْمِ لَهُ رَهَجْ دَاِئم ... شَدِيدِ التَهَاوُلِ حَامِي الإِرِينَا

طَوِيلٍ شَدِيدِ أُوَارِ الْقِتَا ... لِ تَنْفِي قَوَاحِزُهُ الْمُقْرِفِينَا

تَخَالُ الكُمَاةَ بِأًعْرَاضِهِ ... ثِمَالاً عَلَى لَذةٍ مُتْرَفِينَا

تَعَاوَرُ أَيْمَانهُمْ بَيْنَهُمْ ... كُئُوسَ الْمَنَايَا بحَد الظبِينَا

شهِدْنَا فَكُنا أُولي بَأْسِهِ ... وَتَحْتَ الْعَمَايَةِ وَالْمُعْلَمينَا

بِخُرْسِ الحَسِيسِ حِسَانِ رِوَاءٍ ... وَبُصْريَّةٍ قَدْ أَجِمنَ الْجُفُونَا

فَمَا يَتفَلِلْنَ وَمَا ينحَنِينَ ... وَمَا يَنْتَهيِنَ إِذَا مَا نُهِينَا

كَبَرقِ الْخَرِيفِ بِأَيدِي الكُماًةِ ... يُفَجعْنَ بِالظل هَاماً سُكُونَا

وَعَلًمَنَا الضربَ اَبَاؤُنَا ... وَسَوْفَ نُعَفمُ أيضاً بَنِينَا

جِلاَدَ الكُمَاةِ وَبَذلَ التلاَ ... دِ عَنْ جُل أَحْسَابِنَا مَا بَقِينَا

إِذَا مَر قِرن كَفَى نَسْلُهُ ... وَأَورَثَهُ بَعدَهُ آخَرِينَا

نَشِب وَتَهلِكُ آبَاؤُنَا ... وَبَينَا نُرَبي بَنِينَا فَنِينَا

سَأَلتُ بِكَ اننَ الزبَعرَي فَلَم ... آُنبأكَ فِي القَومِ إِلا هَجِينَا

خَبِيثاً تُطِيفُ بِكَ المُندِيَاتُ ... مُقِيماً عَلَى اللؤمِ حِيناً فَحِينَا

تَبَجستَ تَهجُو رَسُولَ المَلي ... كِ قَاتَلَكَ الله جِلْفاً لَعِينَا

تَقُولُ الخَنَا ثُم تَرْمِي بِهِ ... نَقِي الثيَابِ تَقِيا أَمِينَا

قال ابن هشام: أنشدني بيته: بنا كيف نفعل، والبيت الذي يليه، والبيت الثالث منه، وصدر الرابع منه، وقوله: نشب وتهلك آباؤنا، والبيت الذي يليه، والثالث منه - أبو زيد الأنصاري: قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك - أيضاً - في يوم أحد: من البسيط:

سَائلْ قُرَيشاً غَدَاةَ السفحِ من أحُدٍمَاذَا لَقِينَا وَمَا لاَقَوْا مِنَ الهَرَبِ؟!

كُنا الأُسُودَ وَكَانُوا النمْرَ إِذْ زَحَفُوا ... ما إن نُرَاقِبُ من إِل وَلاَ نَسَبِ

فَكَمْ تَرَكْنَا بِهَا مِنْ سَيد بَطَل ... حَامِي الذمَارِ كَرِيمِ الْجَد وَالْحَسَبِ

فِينَا الرسُولُ شِهَاب ثَم نَتبَعُهُ ... نُور مُضِيء لَهُ فَضْل عَلَى الشُهُبِ

أَلْحَقُّ مَنْطِقُهُ وَالْعَدْلُ سِيرَتُهُفَمَنْ يُجِبْهُ إِلَيْهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ

نَجدُ المُقَدَمِ مَاضِي الْهَم مُعْتَزِم ... حِينَ القُلُوبُ عَلَى رَجْفٍ مِنَ الرعُبِ

يَمْضِي وَيَذْمُرُنَا مِنْ غَيْرِ مَعصِيَةٍكَأَنهُ الْبَدرُ لَم يُطْبَعْ عَلَى الْكَذِبِ

بَدَا لَنَا فَاتبَعنَاهُ نُصَدقُهُ ... وَكَذبوه فَكُنا أَسْعَدَ العَرَبِ

جَالُوا وَجُلْنَا فَمَا فَاءُوا ولا رَجَعُواوَنَحْنُ نَثفِنُهُم لَمْ نَأْلُ فِي الطلَبِ

لَيسَا سَوَاءً وَشَتى بَيْنَ أَمرِهِمَا ... حِزبُ الإِلَهِ وَأَهلُ الشركِ وَالنصُبِ

قال ابن هشام: أنشدني من قوله: نمضي ويذمرنا إلى آخرها - أبو زيد.

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن رَواحة يبكي حمزة بن عبد المطلب - قال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك - : من الوافر:

بَكَت عَينِي وحق لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغنِي البُكَاءُ وَلاَ العَوِيلُ

علَى أَسَدِ الإلَهِ غَدَاةَ قَالُوا ... أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَجُلُ القَتِيلُ؟!

أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعاً ... هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرسُولُ

أبا يَعْلَى لَكَ الأَرْكَانُ هُدت ... وَأَنتَ الْمَاجِدُ البَرُ الْوَصُولُ

عَلَيْكَ سَلاَمُ رَبكَ فِي جِنَانٍ ... مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لاَ يَزُولُ

أَلاَ يَا هَاشِمُ الأخيَار صَبْراً ... فَكُل فعَالِكُمْ حَسَنْ جَمِيلُ

رَسُولُ الله مُصْطَبِر كَرِيم ... بِأَمْرِ الله يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ:

أَلاَ مَنْ مُبلِغ عَني لُؤَياً ... فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَة تَدُولُ

وَقَبْلَ الْيَومِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ

نَسِيتُمْ ضرْبَنَا بِقَلِيبِ بدر ... غَدَاةَ أَتَاكُمُ الْمَوتُ الْعَجِيلُ

غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلِ صَرِيعاً ... عَلَيْهِ الطيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ

وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرا جَمِيعاً ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السيْفُ الصَقِيلُ

وَمَتْرَكُنَا أُمَيةَ مُجْلَعِبا ... وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ

وَهَام بَنِي رَبِيعَةَ سَائِلُوهَا ... فَفِي أَسْيَافِنَا مِنْهَا فَلُولُ

أَلاَ يَا هِنْدُ لاَ تُبْدِي شَمَاتاً ... بِحَمْزَةَ إِن عِزكُمُ ذَلِيلُ

أَلاَ يَا هِنْدُ فَابْكِي لاَ تَملي ... فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَي الْهَبُولُ

قال ابن إسحاق: وقال كعب أيضاً من المتقارب:

أَبْلِغْ قُرَيْشاً عَلَى نأْيِهَا ... أَتَفْخَرُ مِناً بمَا لَمْ تَلِ؟!

فَخَرْتُمْ بِقَتْلَى أَصَابَتْهُمُ ... فَوَاضِلُ مِنْ نِعَمِ الْمُفْضِلِ

فَحَلُوا جِنَاناً وَأَبْقَوْا لَكُمْ ... أُسُوداً تُحامِي عَنِ الأَشْبُلِ

تُقَاتِلُ عَنْ دِينِهَا وَسْطَهَا ... نَبِي عَنِ الْحَقً لَمْ يَنْكُل

رَمَتهُ مَعَد بِعُورِ الْكَلاَمِ ... وَنَبْلِ الْعَدَاوَةِ لاَ تأْتَلِي

قال ابن إسحاق: وقال ضرار بن الخطاب في يوم أحد: من البسيط:

مَا بَالُ عينك قَدْ أَزْرَى بِهَا السهُدُ ... كَأَنمَا جَالَ فِي أَجْفَانِهَا الرَمَدُ

أَمِنْ فِرَاقِ حَبِيبِ كُنْتَ تَأْلَفُهُقَدْ حَالَ مِنْ دُونهِ الأَعْدَاءُ والْبُعُدُ؟!

أَمْ ذَاكَ مِنْ شَغْبِ قَوْمٍ لاَ جَدَاءَ بِهِمْإِذَا الْحرُوب تَلَظت نَارُهَا تَقِدُ؟!

مَا يَنْتَهُونَ عَنِ الْغَي الَذِي رَكِبُوا ... وَمَا لَهُمْ مِنْ لُؤَي وَيْحَهُمْ عَضُدُ

وَقَدْ نَشَدْنَاهُم بِالله قَاطِبَةً ... فَمَا تَرُدُهُم الأَرْحَامُ وَالنشَدُ

حَتَى إِذَا مَا أَبَوْا إِلا مُحَارَبَةًوَاسْتَحصَدَتْ بَيْنَنَا الأَضْغَانُ والْحِقَدُ

سِرنَا إِلَيْهِم بِجَيْش فِي جَوَانِبِهِ ... قَوَانِسُ الْبيض وَالْمَحبُوكَةُ السردُ

وَالْجرْدُ تَرْفُلُ بِالأَبْطَالِ شَازِبَةً ... كأنهَا حِدَأ فِي سَيْرِهَا تُؤَدُ

جَيْش يَقُودُهُمُ صَخْر وًيرْأَسُهُمْ ... كأَنهُ لَيْثُ غَابٍ هَاصِرْ حَرِدُ

فأَبْرَزَ الْحَينُ قَوْماً مِنْ مَنَازِلِهِمفَكَانَ مِنَّا وَمِنْهُمْ مُلْتَقَى أُحُدُ

فَغُودِرَتْ مِنْهُمُ قَتْلَى مُجَدَلَةً ... كَالْمَعْزِ أَصرَدَهُ بِالصَرْدَحِ الْبَرَدُ

قَتْلَى كِرَام بَنُو النجارِ وَسطَهُمُ ... وَمُصعَبٌ مِنْ قَنَانَا حَوْلَهُ قِصَدُ

وَحَمْزَةُ الْقَرْمُ مَصرُوعٌ تُطِيفُ بِهِثَكْلَى وَقَد حُز مِنهُ الأَنْفُ وَالْكَبِدُ

كَأَنهُ حِينَ يَكْبُو فِي جَدِيتِهِ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَفِيهِ ثَعْلَب جَسِدُ

حُوَارُ نَاب وَقَدْ وَلَى صَحَابَتُهُ ... كَمَا تَوَلَى النعَامُ الْهَارِبُ الشُردُ

مُجَلحِينَ وَلاَ يَلْوُونَ قَدْ مُلِئُوا ... رُعْباً فَنَجتْهُمُ العَوْصَاءُ والكُؤُدُ

تَبْكِي عَلَيْهِمْ نِسَاء لاَ بُعُولَ لَهَا ... مِنْ كُل سَالِبَةٍ أَثْوَابُهَا قِدَدُ

وَقَدْ تَرَكْنَاهُمُ لِلطيْرِ مَلْحَمَة ... وَلِلضبَاعِ إِلَى أَجْسَادِهِم تَفِدُ

وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب من الطويل:

أَسَائِلَة أَصحَابَ أُحْدٍ مَخَافَةً ... بَنَاتُ أَبِي مِنْ أَعجمٍ وَخَبِيرِ

فَقَالَ الْخَبِيرُ: إِنَّ حَمْزَةَ قد ثَوَى ... وَزِيرُ رَسُولِ الله خَيرُ وَزِيرِ

دَعَاهُ إِلَهُ الْحَق ذُو الْعَرْشِ دَعوَةَ ... إِلَى جَنَةٍ يَحْيَا بِهَا وَسُرورِ

فَذَلِكَ مَا كنَا نُرَجي وَنَرْتَجِي ... لَحمزَةَ يَوْمَ الْحَشرِ خَيْرَ مَصِيرِ

فَوَالله لاَ أَنْسَاكَ مَا هَبتِ الصبَا ... بُكَاءً وَحُزْناً مَحضَرِي ومَسِيرِي

عَلَى أَسَدِ الله الَذِي كَانَ مِدرَهاً ... يَذُودُ عَنِ الإسلامِ كُل كَفُورِ

فَيَا لَيتَ شِلوِي عِندَ ذَاكَ وَأَعظُمِي ... لَدَى أَضْبُع تَعتَادُنِي وَنُسُورِ

أَقُولُ وَقَد أَعلَى النعِيَ عَشِيرَتِي: ... جَزَى الله خيراً من أَخٍ وَنَصِيرِ

قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قولها: بكاء وحزنا محضري ومسيري.

وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكي شماساً، وأصيب يوم أحد، فقالت من البسيط:

يَا عَين جُودِي بِفَيض غَيرِ إِبسَاسِ ... عَلَى كَرِيم مِنَ الفِتيَانِ لَباسِ

صَعبِ الْبَدِيهَةِ مَيمُونِ نَقِيبَتُهُ ... حَمالِ أَلوِيَةِ رَكابِ أَفرَاسِ

أَقُولُ لَما أَتَى الناعِي لَهُ جَزَعاً: ... أَودى الجَوَادُ وَأَودى المطعِمُ الكَاسِي

وَقُلتُ لَما خَلَت مِنهُ مَجَالِسُهُ: ... لاَ يُبعِد الله عَنا قُربَ شَمَاسِ

فاْجابها أخوها وهو أبو الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال: من البسيط:

إِقنَى حَيَاءَكِ فِي سِترٍ وَفِي كَرَمٍ ... فَإِنمَا كَانَ شَمَاس مِنَ الناسِ

لاَ تَقتُلِي النفسَ إِذ حَانَت مَنِيتُهُ ... فِي طَاعَةِ الله يَومَ الروعِ وَالْبَاسِ

قَد كَانَ حَمزَةُ لَيثَ الله فَاصطَبِرِي ... فَذَاقَ يَؤمَئِذٍ مِنْ كَأسِ شَماسِ

وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد: من الطويل:

رَجَعتُ وَفِي نَفسِي بَلابِلُ جَمةٌ ... وَقَد فَاتَنِي بَعضُ الذِي كَانَ مَطلَبِي

مِنَ أصحَابِ بَدرٍ من قُرَيشٍ وَغَيرِهِم ... بَنِي هَاشِم مِنهُم وَمِن أَهلِ يثرب

وَلَكِنني قد نِلتُ شيئاً وَلَم يَكُن ... كَمَا كُنتُ أرجُو فِي مَسِيري ومَركَبِي

قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قولها: وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي وبعضهم ينكرها لهند.

ومنها: غزوة حمراء الأسد:

أقام بها يطلب العدو الاثنين والثلاثاء، ورجع بعد خمس للمدينة، وهي على ثمانية أميال عن المدينة عن يسار الطريق إذا أردت الحليفة، وكانت صبيحة يوم أحد لست عشرهَ مضت، أو لثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة: لطلب عدوهم بالأمس، ونادى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، أي: من شهد أحداً. وإنما خرج - عليه السلام - مرهباً للعدو؛ ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليِظنوا به قوَة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم، وظفر - عليه الصلاة والسلام - في مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، فأمر بضرب عنقه صبراً.

قال الحافظ مغلطاي: وحرمت الخمر في شوال، ويقال: سنة أربع. انتهى.

قال أبو هريرة، فيما رواه أحمد: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما. فأنزل الله: " يَسئَلوُنَكَ عَنِ الخمرِ وَاَلمَيسِر قُل فِيهِمَا إِثمِ كبير وَمَناَفِعُ لِلنَّاسِ... " إلى آخر الآية البقرة: 219، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام، صلى رجل من المهاجرين أمَ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلَظَ منها: " يأَيُّهَا اَلذَّينَ آمَنوُا لا تَقرُبوا اَلصَّلَوةَ وَأنتُم سُكاَرَى حَتَّى تعلَمُوا مَا تقولونَ " النساء:43، وكان الناس يشربون، ثم نزلت اَية أغلظ من ذلك: " يا أَيُهَا الذَينَ آمَنُوا إنمَا اَلخمُر وَاَلْمَيسِرُ... " ، إلى: " لَعَلكم تُفلِحُون " المائدة: 90، قالوا: انتهينا ربنا والميسر: القمار وغيره.

وولد الحسن بن على في هذه السنة.

ومنها: سرية محمد بن مَسْلمة في أربعة إلى كعب بن الأشرف اليهودي الشاعر رابعَ عَشَرَ ربيع، فقتله الله في داره ليلاً.

وسرية زيد بن حارثة هلال جمادى الآخرة في مائة راكب إلى القَردة؛ يعترض عيراً لقريش، فيها صفوان بن أمية، فأصابوها، فبلغ خمسها عشرين ألف درهم.

حوادث السنة الرابعة

فيها غزوة بني النضير - بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة المبسوطة - : قبيلة كبيرة من اليهود، في ربيع الأولى سنة أربع، وذكرها ابن إسحاق في الثالثة.

قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر؛ لما روى عقيل بن خالد وغيره، عن الزهري قال: كانت غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلاً بقوله تعالى: " وَأَنزَلَ اَلَذِينَ ظاهَرُوهُم من أَهلِ اَلكِتاب مِن صياصهم " لأحزاب: 26، قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلالْ واهٍ؛ فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة: فإنهم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير، فلم يكن لهم في الأحزاب ذِكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما ذكر من إجلائهم؛ فإنه كان من رؤوسهم حيي بن أخطب، وهو الذي حَسّنَ لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزاب، حتى كان من هلاكهم ما كان؛ فكيف يصير السابقُ لاحقاً؟! انتهى.

وقد تقدم أن عامر بن الطفيل أعتَقَ عمرو بن أمية، لما قتل أهل بئر معونة، عن رقبة عن أمه، فخرج عمرو إلى المدينة، فصادف رجلين من بني عامر معهما عَقد وعهد من رسول الله ص لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظَن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله ص بذلك، فقال: لقد قتلتَ قتيلين لأَدِيَنهُمَا.

قال ابن إسحاق: وخرج - عليه الصلاة والسلام - إلى بني النضير يستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية للجوار الذي كان صلى الله عليه وسلم عقده لهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم - عليه السلام - يستعينهم في ديتهما، قالوا: يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببتَ مما استعنتَ بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إِنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - قالوا: مَن رجل يعلو هذا البيتَ، فيلقي هذه الصخرة عليه، فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم لليهود لا تفعلوا، والله ليُخبَرَن بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.

قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخَبَرُ من السماء بما أراد القوم، فقام - عليه الصلاة والسلام - مظهراً أنه يقضي حاجة، وترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعاً إلى المدينة. واستبطأ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقاموا في طلبه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما أرادت اليهود من الغدر به.

قال ابن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: " يا أيها اَلَذِين آمَنُو اَذكُرُوا نعمةَ آلله عليّكم إذ هَمَّ قَوم أَن يَبسُطوا إِلَيكم أَيدِيَهُم... " الآية المائدة: 11، قال ابن إسحاق: فأمر - عليه الصلاة والسلام - بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فحاصرهم ست ليال.

قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه بالحصون، فقطع النخل وحرقها وخرب، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهَى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتخر يبها؟!.

قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله: " مَا قَطَعتُم مِن لينَةٍ... " الآية الحشر: ه، واللينة أَلْوَانُ التمر ما عدا العجوة والبرني؛ ففي هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقطع من نخلهم إلا ما ليس بقوت للناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وفي الحديث: " العجوة من الجنة، وتمرها يغذو أحسن غذاء " والبرنيُ - أيضاً - كذلك: ففي قوله تعالى: " مَا قَطعتُم مِن لينَةٍ... " الحشر: ه، - ولم يقل: من نخلة على العموم - : تنبيه على كراهة قطع ما يقتات، ويغذو من شجر العدو إذا رجى أن يصل إلى المسلمين.

قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم، خرجنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن أرضهم، ويكف عن دمائهم.

وعن ابن سعد: أنهم حين همُّوا بغدره صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بذلك بعث إليهم محمد ابن مَسلمة أن اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم من الغدر، وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي منكم بعد ذلك، ضربت عنقه، فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون، وتكاروا من الناس إبلاً، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإن معي أَلفين من قومي من العرب يدخلون حصنكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فطمع حُيَي بما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأظهر صلى الله عليه وسلم التكبير وكَبر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم - عليه الصلاة والسلام - في أصحابه، فصلى العصر بفِناء بني النضير، وعلي يحمل رايته. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبي ولم يعنهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، وقال لهم - عليه السلام - : " اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملَتِ الإبلُ إلا الحلْقَةَ " - وهي بإسكان اللام - قال في القاموس: الدرع. فنزلت اليهود على ذلك.

وكان حاصرهم خمسة عشر يوماً، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ثم أجلاهم عن المدينة.

قال محمد بن مسلمة: وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فلحقوا بخيبر، وحزن المنافقون عليهم حزناً شديداً، وقبض صلى الله عليه وسلم الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً، وكانت بنو النضير صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبساً لنوائبه، ولم يسهمْ منها لأحد من المسلمين؛ لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف الله في قلوبهم الرعب، وجلوا من منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم، فقسمها - عليه الصلاة والسلام - بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قد قاسموهم الأموال والديار، غير أنه أعطَى أبا دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما وفي الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيفَ ابن أبي الحقيق، وكان سيفاً له ذِكرٌ عندهم.

غزوة بدر الأخيرة:

وهى الصغرى، وتسمى: بدر الموعد، وكانت في شعبان بعد ذات الرقاع؛ كذا في المواهب.

قال الحافظ شرف الدين البرماوي: هلال ذي القعدة: وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعدُ بيننا وبينكم رأس الحول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فخرج، ومعه ألف وخمسمائة، فأقاموا بها ثلاثة أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمَيْنِ، وخرج أبو سفيان إلى مَر الظهران، فرجع؛ لأنه كان عام جدب، فنزل في حق المؤمنين: " فَاَنقَلَبُوا بِنِعمَة مِنَ اَللهِ وَفَضلٍ... " الآية آل عمران: 174.

قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم رجع في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، ويقال: كانت في هلال ذي القعدة، فخرج - عليه السلام - ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رَواحة، وأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان، وخرج أبو سفيان حتى نزل مَجَنة من ناحية مر الظهران، ويقال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصبٌ ترعونَ فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، لأن عامكم هذا عامُ جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتهم تشربون السويق، وأقام - عليه الصلاة والسلام - ببدرٍ ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين، وأنزل الله في المؤمنين: " اَلَذِينَ اَستَجَابوُا لِلهِ وَاَلرًسُولِ... " إلى قوله: " فَاَنقَلَبوُا بِنِغمَة مِنَ الله وَفضلٍ لَم يمسسهم سوءٌ... " الآية آل عمران: 172: 174، والصحيحُ أن هذه الآية نزلت في حمراء الأسد؛ كما نصَّ عليه العماد بن كثير.

وفيها غزوة ذات الرقاع عاشر المحرم؛ لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن أنمار جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة، فوجدوا أعراباً هربوا في الجبال، وغاب خمسة عشر يوماً، وصلى بها صلاة الخوف.

واختلف فيها متى كانَت؟ فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير، سنة أربع، في شهر ربيع وبعض جمادى وعند ابن سعد وابن حبان في المحزم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها بعد بني قريظة في ذي القعدة سنة خمس، فتكونُ ذات الرقاع في آخر السنة وأول التي تليها.

وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر؛ واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر؛ فلا أدري هل تعمد ذلك: تسليماً لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، وأشار إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسماً لغزوتَين مختلفتين: كما أشار البيهقي إليه على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانَتْ قبل خيبر مختلفون في زمانها. انتهى.

والذي جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها، أو قبل أحد أو بعدها. وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ إذ صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في ذات الرقاع فدل على تأخيرها بعد الخندق.

ثم قال عند قول البخاري: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، لزم أنها كانت بعد خيبر، قال: وعجيب من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، قال: وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك. انتهى كلام ابن سيد الناس.

قال: وهذا النفي مردود، والدلالة من ذلك واضحة.

قال: وأما الدمياطى، فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد تقدم أنهم مختلفون في زمانها، فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح.

وأما قول الغزالي: إنها آخر الغزوات، فهو غلطٌ واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره، وقال بعض من انتصر للغزالي: لعلَه أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف،وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى.

وأما تسميتها بذات الرقاع: فلأنهم رقعوا فيها راياتهم قاله ابن هشام.

وقيل: الشجرة في ذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.

وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض؛ كأنها مرقعة برقاعٍ مختلفةٍ، فسميتْ ذات الرقاع لذلك، وقيل: إن خيلهم كان بها سوادٌ وبياض؛ قاله ابن حبان.

وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل. قال: وأغرب الداودي، فقال: سميت ذات الرقاع: لوقوع صلاة الخوف فيها؛ فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى.

قال السهيلي: وأصحُّ من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع: لما نعصب من الخرق على أرجلنا.

وكان من خبر هذه الغزوة - كما قاله ابن إسحاق - أنه صلى الله عليه وسلم غزا نجداً، يريد: بني محارب وبني ثعلبة - بالمثلثة - من غطفان بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - بلغه أنهم جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: أبا ذر الغفاري، حتى نزلَ نخلاً - بالخاء المعجمة، موضعاً من نجد من أراضي غطفان - قال ابن سعد: فلم يجد في محالهم إلا نسوة فأخذهن. وقال ابن إسحاق: فلقي جمعاً منهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.

قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها، وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة - وسيأتي الكلام، إن شاء الله تعالى، على ما تيسر منها - وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة.

وفي البخاري: عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه - يعني: سَلَهُ من غمده - فقال: تخافني؟ قال: " لا " ، قال: من يمنعك مني؟ قال: " الله " ، وفي رواية أبي اليمان عند البخاري في الجهاد قال: من يمنعك مني. ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد، وكان الأعرابي قائماً على رأسه والسيف في يده والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا سيف معه.

ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام: أن الله سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " الله يمنعني منك " إشارة إلى ذلك؛ ولذلك لما أعادها الأعرابي، لم يزده على ذلك الجواب. وفي ذلك غاية التَهَكُمِ وعدم المبالاة به.

وذكر الواقدي في نحو هذه القصة: أنه أسلم، ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمي بالزُلَّخة حين هم بقتله صلى الله عليه وسلم، فندر السيف من يده، وسقط إلى الأرض. والزُلَّخَة - بضم الزاي المشددة، وتشديد اللام، والخاء المعجمة-: وجع يأخذ في الصلب.

وقال البخاري: قال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث أي: على وزن جعفر. وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير، وقد تقدم في غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجلِ اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " الله " . ودفع جبريل صدره، فوقع السيف من يده، وأنه أسلم.

قال في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحدٌ. وقال غيره من المحققين: والصواب أنهما قصتان في غزوتين.

وفي هذه القصة فرط شجاعته، وقوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال.

وفي انصرافه صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله، فنخسه - عليه الصلاة والسلام - فانطلق متقدماً بين يدي الركاب، ثم قال: أتبيعنيه؟ فابتاعه منه، وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصلها، أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل. والحديث أصله في البخاري؛ ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط؛ لما وقع فيه من الاضطراب، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره.

وفيها غزوة دومة الجندل لخمس بقين من ربيع الأول؛ لما بلغه أن بها جمعاً كثيراً يظلمون الناس، فلم يجدوا بها إلا نعماً وشاءً، فأصاب من ذلك وأقام أياماً. وهي بضم الدال، مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبُعدها من المدينة خمس عشرة، أو ست عشرة ليلة.

قال أبو عبيدة والبكري: سُمِّيَتْ بدوم بن إسماعيل كان نزلها وكانت على رأس تسعة وأربعين شهراً من الهجرة.

وكان سببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً كثيراً يظلمون من مرَ بهم، فخرج - عليه الصلاة والسلام - لخمس ليال بقين من ربيع، في ألف من أصحابه: فكان يسير الليل، ويكمن النهار، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فلما دنا منهم لم يجد إلا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دُومة، فتفزَقوا. ونزل - عليه الصلاة والسلام - بساحتهم، فلم يلق بها أحداً، فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد.

ودخل المدينة في العشرين من ربيع الآخر.

وفيها سرية أبي سلمة هلال المحرم إلى قطن في مائة وخمسين، يطلب طليحة، وسلمة ابني خويلد، فلم يجدوهما ووجدوا إبلاً وشاء، فأصابوا منها، ولم يلق كيداً.

وعبد الله بن أنيس وجهه إلى سفيان بن خالد الهذلي بعرنة وهو وادي عرفة، خامس المحرم لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه يجمع لحربه، فقال له عبد الله: جئتك لأكون معك. ثم اغترهُ فقتله.

والمنذر بن عمرو إلى بئر معونة في صفر ومعه القراء، وهم سبعون، فقتلهم رِعل وذكوان وعُصَية فقنت صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم شَهراً.

ومرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى الرجيع بين مكة وعسفان في صفر في عشر أو ستة على الخلاف، لما سأله عضل والقارة أن يرسل معهم من يعلمهم شرائع الإسلام، فأرسل مرثداً، وعاصم بن ثابت، وخبيب ابن عدي، وزيد بن الدثنة، وخالد بن أبي البكير، وعبد الله بن طارق، وأخاه لأمه مغيث بن عبيد، فغدروا بهم فقتلوهم، إلا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فأسروهما وباعوهما في مكة، فقتلوهما، وصلى خبيب قبل أن يقتل ركعتين، فهو أول من سن ذلك.

وفيها رجم اليهودي واليهودية اللذين زنيا.

وقصرت الصلاة إن قلنا: كان فرضها أربعاً.

وفرض التيمم: لكن نص الشافعيُ في الأم أنه في المصطلق، وذلك إما في الخامسة أو السادسة أو الرابعة.

وخسف القمر، وزلزلت المدينة، وسابق بين الخيل.