في الحوادث: حوادث السنة الخامسة والسادسة

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

حوادث السنة الخامسة

فيها غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق ثاني شعبان، خرج صلى الله عليه وسلم ومعه كثير بشر، وثلاثون فرساً، فحملوا على القوم حملة واحدة، فما انفك منهم إنسان، بل قتل عشرة وأسر سائرهم، وغاب ثمانية وعشرين يوماً، وكان فيها قصة الإفك، والنهي عن العزل.

قال في المواهب: والمُصْطَلِق: بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء المشالة المهملة، وكسر اللام بعدها قاف، وهو لقب، واسمه جذيمة بن سعد ابن عمرو بطن من خزاعة. وكانت يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس. وفي البخاري: قال ابن إسحاق: سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع انتهى.

وسببها: أنه بلغه - عليه الصلاة والسلام - أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابوه وتهيئوا للمسير، فبعث - عليه الصلاة والسلام - بريدة بن الخصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار، فكلَمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج - عليه الصلاة والسلام - مسرعاً في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قَط مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرساً، وخرجت عائشة وأم سلمة. وبلغ الحارث ومن معه مسيره - عليه الصلاة والسلام - فسيء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفاً شديداً، وتفزَقَ عنهم من كان معهم من العرب، وبلغ - عليه الصلاة والسلام - المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، وتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر - عليه الصلاة والسلام - فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة، وأسروا سائرهم، وسبوا النساء والرجال والذرية، والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. كذا ذكره ابن إسحاق.

والذي في صحيح البخاري، من حديث ابن عمر: يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم؛ ولفظه: أغار على بني المصطلق، وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبى ذراريهم وهم على الماء فيحتملُ أن يكون حين الإيقاع بهم سبوا قليلاً، فلما كثر عليهم القتال، انهزموا بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء، وتصافوا، ووقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.

قيل: وفي هذه الغزوة نزلت آية التَيَمُمِ، قال في فتح الباري قوله: في بعض أسفاره، قال ابن عبد البر في التمهيد: يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان.

وغزوة المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها كانت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضاً، فإن كان ما جزموا به ثابتاً، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين؛ لاختلاف القصتين؛ كما هو بين في سياقهما.

قال: واستبعد بعض شيوخنا ذلك: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قُديد والساحِل: وهذه القصة كانت من ناحية خيبر؛ لقولها في الحديث: " حتى إذا كنا في البيداء، أو بذات الجيش " وهما بين المدينة وخيبرح كما جزم به النووي.

قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين؛ فإنه قال: " البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة " . وقال أبو عبيد البكري في معجمه: أدني إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد، قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين.

وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، ومنهم: محمد بن حبيب الإخباري، فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق.

واختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولاً، قال الداودي: كانت قصة التيمم في غزاة الفتح. ثم تردد في ذلك. وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدرِ كيف أصنعُ فهذا يدلُ على تأخرها عن غزوة بني المصطلق: لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها بلا خلاف، وكان البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدلُ على تأخر القصة - أيضاً - عن قصة الإفك: ما رواه الطبراني، من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنية، في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس؟! فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال.

وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. انتهى.

وفي هذه الغزوة قال ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: " إذا جاءكَ اَلمُنافِقُونَ... " المنافقون: ا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله صدقك يا زيد " رواه البخاري.

وكانت غيبته في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً. ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة - رضي الله عنها - : من الطويل:

حَصَان رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافلِ

عَقِيلَةُ حَي مِنْ لُؤَي بْنِ غَالِب ... كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ

مُهَذَّبَةْ قد طَيبَ الله خِيمَها ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُل سُوءٍ وَبَاطِلِ

فَإِنْ كُنتُ قد قُلْتُ الذِي قَدْ زَعَمْتُمُ ... فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَىَ أَنَامِلِي

وَكَيف وَوُدي مَا حَيِيتُ وَنُصرَتِي ... لآلِ رَسُولِ الله زَيْنِ المحافِلِ

لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى الناسِ كُلهِم ... تَقَاصر عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ

فَإِن الذِي قد قِيلَ لَيْسَ بِلاَئِطٍ ... وَلَكِنهُ قَوْلُ امْرِئٍ بِيَ مَاحِلِ

قال ابن هشام: بيته عقيلة حي، والبيت الذي بعده، وبيته: له رتب عال عن أبي زيد الأنصاري.

وحدثني أبو عبيدة: أن امرأة مدحت بنت - أو ببيت - حسان بن ثابت عند عائشة، فقالت: من الطويل:

حَصَانْ رَزَانٌ مَا تُزَن برِيبَةٍ ... وَتُصبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ الغَوَافِلِ

فقالت عائشة: لكن أبوها.

فمن روى ببيت حسان يقول: أبوها، أي: أبوا هذه الصفة أن يقولوها حينئذ، ومن روى بنت حسان فمعنى أبوها أنه ليس مثلها.

قال ابن إسحاق: وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه في فريتهم على عائشة: من الطويل:

لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمنَةُ إِذ قَالُوا هَجِيراً وَمِسْطَحُ

تَعَاطَوْا بِرَجمِ الغَيبِ زَوْجَ نَبِيهِمْوَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الكَرِيمِ فَأُبْرِحُوا

وَآذَوْا رَسُولَ الله فِيهَا فَجُلًلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى عَمَّمُوهَا وَفُضحُوا

وَصُبتْ عَلَيهِمْ مُحْصَدَاتْ كَأَنهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى المُزْنِ تَسْفَحُ

وفيها غزوة الخندق وهي الأحزاب في ذي القعدة. كان المسلمون ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف مع أبي سفيان، فحفر صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق بإشارة سلمان الفارسي على عادة بلاده، وتداعوا للبراز نحو أربعة عشر يوماً، فأرسل الله ريحاً هزمت الكفار.

فلما انصرف، جاءه جبريل، فقال: إن الملائكة ما وضعت السلاح بعدُ، وإن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فمضى فحاصرهم خمسة عشر يوماً، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكان ضعيفاً، فحكم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: حكمت فيهم بحكم الله. وفرغ من ذلك خامس ذي الحجة.

وفيها فرض الحج، أو في السادسة، ورجح أو في الثامنة، أو التاسعة، أو العاشرة، أو قبل الهجرة، أو غير ذلك: أقوال.

وفيها نزلت آية الحجاب.

قال في المواهب: هي الأحزاب، جمع حزب، أي طائفة، فأما تسميتها بالخندق، فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره - عليه الصلاة والسلام - ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسي، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حُصِرْنَا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين.

فأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش وغطفان واليهود ومن معهم، وقد أنزل الله فيه هذه القصة صدراً من سورة الأحزاب.

واختلف في تاريخها، فقال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع وقال ابن إسحاق: في شوال سنة خمس وبذلك صرح غيره من أهل المغازي، ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة؛ فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة، فأجازه؛ فيكون بينهما سنة واحدة. وأُحدٌ كانت سنة ثلاث: فيكون الخندق سنة أربع، ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة؛ وبهذا أجاب البيهقي، وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة.

وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفراً من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فاجتمعوا لذلك، واستعدوا له، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤوا غَطَفَانَ من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه - عليه الصلاة والسلام - وخبروهم أنهم سيكونون معهم عليهم، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عُيينة بن حصن في فَزَارَةَ، والحارث بن عوف المريّ في مرة، وكانت عدتُهُم فيما ذكره ابن إسحاق عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.

وذكر ابن سعد: أنه كان مع المسلمين ست وثلاثون فرساً.

ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه - عليه الصلاة والسلام - ترغيباً للأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا، وأَبطَأَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناسٌ من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل.

وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اللهُمَّ لاَ عَيشَ إِلا عَيشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِر للأنْصَارِ والمهَاجِرَهْ

والأكتاد - بالمثناة الفوقية - : جمع كَتِد، بفتح أوله وكسر المثناة، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به ما يلي الكبد من الجنب.

وفي البخاري - أيضاً - عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

اللهم لاَ عَيْشَ إِلا عَيشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِر للأنْصَارِ والمهَاجِرَهْ

فقالوا مجيبين له: من الرجز:

نحنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّداً ... عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَداً

قال ابن بطال: وقوله: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " هو من قول ابن رَوَاحَةَ تمثل به - عليه الصلاة والسلام - وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زياة في آخر الرجز: من الرجز:

وَالعَنْ إِلَهِي عُضَلاً والقَاره ... هُم كَلَفُونَا ثِقَلَ الحجَارَهْ

وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشَّعْرِ، فسمعته يرتجز بشعر ابن رَواحة وهو ينقل التراب ويقول: من الرجز:

اللهم لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَينَا

وَلاَ تَصَدقْنَا ولاَ صَليْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا

وَإنْ أَرَادُوا فِتْنَةً آَبيْنَا

قال: يمد بها صوته. وفي رواية له أيضاً:

إِن الأُلى قد بَغَوا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَة أَبَيْنَا

وفي حديث سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أنه حين ضرب في الخندق، قال:

بِسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا

وَلَو عَبَدنَا غَيْرَهُ شَقِينَا

حَبَّذَا رَبا وَحَبذَا دِينَا

قال في النهاية: يقال: بَدِيت بالشيء - بكسر الدال - أي: ابتدأتُ به، فلما خففت الهمزة كُسِرَت الدال فانقلبت الهمزة ياءً، وليست من بنات الياء انتهى.

وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته - عليه الصلاة والسلام - .

منها: ما في الصحيح عن جابر، قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة - وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهي: القطعة الصلبة - فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنُه مشدود بحجر، ولنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب، فعاد كثيباً أهيل، أو: أهيم: كذا بالشك من الراوي.

وفى رواية الإسماعيلي باللام من غير شك.

والمعنى: أنه صار رملاً يسيل فلا يتماسك، وأهيم: بمعنى أهيل، وقد قيل في قوله: " فَشَاربوُنَ شُرب اَلهِيم " الواقعه: 55، المراد: الرمال التي لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائي، في هذه القصة، زيادة بإسناد حسن، من حديث البراء قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرهً لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فأخذ المعول فقال: " باسم الله " ، فضرب ضربة فنثر ثلثها، وقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة! " ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، وإني والله لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ضرب الثالثة فقال: " باسم الله " ، فقطع بقية الحجر فقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة " .

ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم: ما ثبت في الصحيح في حديث جابر، من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق: كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.

وقد وقع عند موسى بن عقبة، أنهم أقاموا في عمل الخندق قريباً من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعاً وعشرين، وفى الروضة للنووي: خمسة عشر يوماً، وفى الهدي النبوي، لابن القيم: أقاموا شهراً.

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجمع السيول، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة بن حصن في غَطَفان، ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، وضرب هنالك عسكره، والخندقُ بينه وبين القوم: وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة: وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة خوفاً على الذراري من بني قريظة.

قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حُيي بن أخطب، حتى أتى كعبَ بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وَادَعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمداً؛ فلستُ بناقض ما بيني وبينه: فإني لم أر منه إلا وفاءً وصدقاً. فقال: ويلك افتح! فلم يزل به حتى فتح له، فقال: يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونهم غطفان، وقد عاهدوني على ألا يبرحوا؛ حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. فلم يزل به حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن الزبير، قال: كنتُ يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبي سلمة، مع النساء في أطم حسان، فنظرتُ فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً، فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف. قال: رأيتني يا بني؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم " ، فانطلقتُ، فلما رجعتُ جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: " فداك أبي وأمي " أخرجه الشيخان وقال الترمذي: حديث حسن.

وفي رواية أصحاب المغازي: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادهَ، ومعهما ابن رواحة وخوّات بن جبيرة ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم: نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرءُوا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان، ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدرهما بأصحاب الرجيع، فعظم عند ذلك البلاءُ واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم: حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: " وإذ يقُولُ اَلمناقُونَ وَاَلّذَينَ فِي قُلوُبِهِم مَّرَض ما وعَدَنَا اَللهُ وَرَسُوله إلا غرورا الأحزاب: 12 الآيات، وقال رجال ممن معه: " يا أهلَ يَثرِبَ لا مُقامَ لَكم فَاَرجِعُوا " الأحزاب: 13، وقال أوس بن قيظي: إن بيوتنا عورة من العدو؛ فَأذَنْ لنا نرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة.

قال ابن عائذ: وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له؛ ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله، وكَبُر ذلك على المشركين، فأرسلوا إني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم صلى الله عليه وسلم: " إنه خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أَرَبَ لنا في ديته " .

وأقام - عليه الصلاة والسلام - والمسلمون، وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال؛ إلا مراماة بالنبل؛ لكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر معه، بخيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه علي فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير، وقيل: قتله علي، ورجعت بقية الخيول منهزمةً، ورُمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل وهو - بفتح الهمزة والمهملة، بينهما كاف ساكنة - : عِرق في وسط الذراع؛ قال الخليل: هو عرق الحياة، يقال: إنني كل عضو منه شعبة، فهو في اليد: الأكحل، وفى الظهر: الأبهر، وفى الفخذ: النسا؛ إذا قطع لم يرقأ الدم. وكان الذي رَمَى سعداً ابنُ العرقة أحد بني عامر بن لؤي، قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ فأبقني لها؛ فإني لا قَوْمَ أحب إلي أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه.

وأقام - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه بضع عشرة ليلة، فمشى نعيم بن مسعود الأشجعي وهو مخف إسلامه، فثبط قوماً عن قوم، وأوقع بينهم شراً؛ لقوله له - عليه الصلاة والسلام - : " الحرب خدعة " فاختلفت كلمتهم.

وروى الحاكم عن حذيفة، قال: لقد رأيتنا - ليلة الأحزاب - وأبو سفيان ومن معه من قومنا وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحاً منها، فجعل المنافقون يستأذنون، ويقولون: بيوتنا عورة؛ فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جاثٍ على ركبتي، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: " اذهب فَأتِني بخبر القوم " . قال: فدعا لي: فأذهبَ الله عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه تجاوز شبراً، فلما رجعت رأيت فوارسَ في طريقى، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.

وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله - عليه الصلاة والسلام - ليأتيه بالخبر، سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم - والله - ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكُراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده إلا وهو قائم.

ووقع في البخاري: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال يوم الأحزاب: " من يأتينا بخبر القوم " فقال الزبير: أنا. ثم قال: " من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا؛ قالها ثلاثاً.

وقد أشكل ذكر الزبير في هذه، فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب، والمشهور: أنه حذيفة بن اليمان.

قال الحافظ ابن حجر: هذا الحصر مردود؛ فإن القصة التي ذهب الزبير، لكشفها، غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها؛ فقصة الزبير كانت لكشف بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشاً على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليه الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة فانتدب - عليه الصلاة والسلام - من يأتيه بخبر قريش؛ فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلبَ ذلك، وقصته في ذلك مشهورة، لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم.

وفى البخاري، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: دعا رسولُ صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " .

وروى أحمد عن أبي سعيد، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء تقوله؛ فقد بلغت القلوبُ منا الحناجر؟ قال: نعم " اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا " قال: وضرب الله وجوهَ أعدائنا بالريح.

وفي ينبوع الحياة لابن ظفر: قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: " يا صريخَ المكروبين، يا مجيبَ المضطرين، اكشف هَمي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي " فأتاه جبريل فبشره بأن الله يرسل عليهم ريحاً وجنوداً، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلاً: " شكراً شكراً " . وهبت ريح الصبا ليلاً، فقلعت الأوتاد، وألقت عليهم الأبنية، وكفأت القدور، وسفت عليهم التراب، ورمتهم بالحصباء، وسمعوا في أرجاء عسكرهم التكبير وقعقعة السلاح؛ فارتحلوا هرباً في ليلتهم، وتركوا ما استثقلوه من متاعهم قال: فذلك قوله تعالى: " فَأَرسَلنا عَليهِم رِيحاً وَجُنوداً لم تروها... " الأحزاب: 9.

وفى البخاري: عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: " ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً؛ كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " ومقتضى هذا: أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس.

ويعارضه ما في صحيح مسلم لما عن ابن مسعود، أنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شغلونا عن الصلاة الوسطى... " الحديث. ومقتضى هذا: أنه لم يخرج الوقت بالكلية.

قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - مشيرا إلى الجمع بين ما في البخاري وما في مسلم - : فلا تعارض، الحبس انتهى ذلك الوقت إلى الحمرة ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب، انتهى.

وفى البخاري: عن عمر بن الخطاب، أنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، وقال: ما كدتُ أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما صليتها " . فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان،فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة وغيرها.

ومقتضى هذه الرواية المشهورة: أنه لم يفت غير العصر، وفي الموطأ: الظهر والعصر، وفي الترمذي لما عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، وقال: ليس بإسناده بأس؛ إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله فمال ابن العربي إلى الترجيح وقال: الصحيح أن التي، اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي العصر.

وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات: أن وقعة الخندق بقيت أياماً، فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها.

قال: وأما تأخيره - عليه الصلاة والسلام - صلاة العصر حتى غربت الشمس، فكان قبل نزول صلاة الخوف.

قال العلماء: يحتمل أنه آخرها نسياناً لا عمداً؛ وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو. ويحتمل أنه آخرها عمداً للاشتغال بالعدو؛ فكان هذا عذراً في تأخير الصلاة قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال: بل يصلي صلاة الخوف على حسب الحال.

وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى، وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفاً مفرداً سماه كشف المغطى، عن الصلاة الوسطى " فبلغ تسعة عشر قولاً، وهى: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، أو جميع الصلوات - وهو يتناول الفرائض والنوافل، واختاره ابن عبد البر - والجمعة - وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقته - والظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة، والعشاء؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، والصبح والعشاء، أو الصبح والعصرة لقوة الأدلة: فظاهر القرآن: الصُبْح، ونص السنة: العصر، وصلاة الجماعة، أو الوتر وصلاة الخوف، أو صلاة عيد الأضحى، أو الفطر، أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد، وهو غير القول السابق، أو التوفيق، انتهى.

وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق، يوم الأربعاء، لسبع ليال بقين من ذي القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوماً، وقيل: أربعة وعشرين يوماً، وقال - عليه الصلاه والسلام - : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا " وفى ذلك علم من أعلام النبوة؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - اعتمر في السنة السادسة فصدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، وكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال - عليه الصلاة والسلام - وسيأتى ذلك، إن شاء الله تعالى.

وقد أخرج البزار من حديث جابر، بإسناد حسن، شاهداً لهذا، ولفظه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب - وقد جمعوا له جموعاً كثيرة - : " لا يغزونكم بعدها أبداً، ولكن أنتم تغزونهم " ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه، ووضعوا السلاح، جاءه جبريل - عليه السلام - معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة ديباج، وفي البخاري، من حديث عائشة: " أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح، اغتسل، وأتاه جبريل، فقال: " قد وضعت السلاح؟! " والله ما وضعناه؛ اخرج إليهم وأشار إلى بني قريظة " وعند ابن إسحاق: " إن الله يأمرك، يا محمد، بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزلَ بهم " ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذّن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة.

وعند ابن عائذ: " قم فشد عليك سلاحك؛ فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا " . وبعث يومئذ منادياً ينادي: يا خيل الله، اركبي.

وعند الحاكم والبيهقي: وبعث علياً على المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره.

وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرساً. قال: وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، على ما قاله ابن هشام، ونزل - عليه الصلاة والسلام - على بئر من آبار بني قريظة، وتلاحق به الناس، فأتى رجال بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصرح لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفى البخاري، عن ابن عمر: أعرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم.

كذا وقع في جميع النسخ من البخاري أنهَا العَضرُ، واتفقَ جميع أهل المغازي، ووقع في مسلم أنهَا الظهرُ، مع اتفَاقِ البخاري ومسلم على روايته عن شيخِ واحد بإسناد واحد؛ ووافق مسلماً أبو يعلى وآخرون.

وجمع بين الروايتين: باحتمال أن يكون بعضهم - قبل الأمر - كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها: لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.

وجمع بعضهم: باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر وللطائفة التي بعدها: العصر، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحاصرهم - عليه الصلاة والسلام - خمساً وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار وعند ابن سعد: خمس عشرة وعند ابن عقبة: بضع عشرهَ ليلة - وقذف الله في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض إليكم خلالاً ثلاثاً؛ فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم فأبوا.

قال: فإذا أبيتم علئ هفه، فَهَلُم نقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلاً؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلِك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه. فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟!.

قال:فإن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من، محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟!.

وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة - وهو رفاعة بن عبد المنذر - نستشره في أمرنا؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده أنه الذبح.

قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما، حتى عرفت أني خنت الله ورسوله!.

ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا، حتى يتوب الله علي مما صنعت. وعاهد الله: أَلا يطأ بني قريظة أبداً، ولا أرى في بلد خنتُ الله ورسوله فيه أبداً.

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرُه - وكان قد استبطأه - قال: " أما لو جاءني لاستغفرتُ له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه " . قال: وأقام أبو لبابة.

وقال أبو عمر: وروى وهب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر: أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه فكاد لا يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاله: فإذا فرغ أعادته.

وعن عبد الله بن قسط أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، قالت: فقلت: ممَّ تضحك، أضحك الله سنك؟! قال: " تيب على أبي لبابة " . قالت: أفلا أبشره، يا رسول الله! قال: " بلى، إن شئت " . قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب الحجاب - فقالت: " يا أبا لبابة، أبشر! فقد تاب الله عليك " . قالت: " فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.

وروى البيهقي في دلائله، بسنده عن مجاهد، في قوله تعالى: " اعتَرَفوُا بِذُنوبِهِم... " التوبة: 102، قال: هو أبو لبابة: إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمداً يذبح إن نزلتم على حكمه.

وقد روينا عن ابن عباس، ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد، كان بتخلفه عن غزوة تبوك - كما قال ابن المسيب - قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية.

ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكَم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمةٍ في المسجد الشريف لامرأة من أسلم، يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكَمه أتاه قومُه فحملوه على حمارة وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال - عليه الصلاة والسلام - " قوموا إلى سيدكم " . فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " والرقيع: السماء، سميت بذلك لأنها رُقعت بالنجوم.

ووقع في البخاري قال: " قضيتَ فيهم بحكم الله " . وربما قال: " بحكم الملِكِ " بكسر اللام.

وفى رواية محمد بن صالح: " لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات " .

وفى حديث جابر، عن ابن عائذ فقال: " احكم فيهم يا سعد " . فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال: " قد أمرك الله أن تحكم فيهم" .

وفى هذه القصة جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه، والمختار: الجواز، سواء كان في حضرته أم لا؛ وإنما استبعد المانعُ وقرعَ الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك. لأنه بالتقرير يصير قطعياً وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم: كما في هذه القصة وغيرها.

وانصرف صلى الله عليه وسلم - يوم الخميس لسبع ليال - كما قاله الدمياطي أو لخمس، كما قاله مغلطاي - خلون من ذي الحجة.

وأمر - عليه الصلاة والسلام - ببني قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق، وجلس - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، وأُخرجوا إليه فضربت أعناقهم، فكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة.

وقال السهيلي: المكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة.

وفى حديث جابر، عند الترمذي والنسائي وابن حبان، بإسناد صحيح: إنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل - في طريق الجمع - أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعاً، واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها، وقيل: كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت فأخرج الخمس من المتاع والسبي، ثم أمر بالباقي فبيع ممن يريده، وقسمه بين المسلمين فكانت على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق منه ويهب ويُخدم منه من أراد، وكذلك بما صار إليه من الرثة، وهو: السقط من المتاع.

وأنفجر جرحُ سعد بق معاذ، فمات شهيداً. وفى البخاري: أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك، من قوم كذبوا رسولك، اللهم إِني أظن أنك قد وضعتَ الحرب، فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من ليلته، فلم يرعهم إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا جرح سعد يغذو - أي: يسيل، يقال إذا الجرح: إذا سال ما فيه دماً - فمات منها.

وقد كان ظن سعد مصيباً، ودعاؤه في هذه القصة مجاباً؛ وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش - من بعد وقعة الخندق حربٌ يكون ابتداء القصد فيها من المشركين: فإنَّه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع: كما قال تعالى: " وهُوَ اَلذي كَفَّ أيديَهُم عَنكم وَأَيدِكُم عنهُم بِبَطنِ مَكَةَ من بَعدِ أَن أَظْفَرَكم علَيهِم " الفتح: 24. ثم وقعت الهدنة واعتمر - عليه الصلاة والسلام - من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازياً ففتحت مكة فعلى هذا فالمراد بقوله: " أظن أنك قد وضعت الحرب " أي: لن يقصدونا محاربين، وهو كقوله - عليه الصلاة والسلام-: " لا تغزونهم ولا يغزونكم " كما تقدم.

وقد بين سبب انفجار جرح سعد، في مرسل حميد بن هلال عند ابن سعد، ولفظه: أنه مرت به عنز وهو مضطجع، فأصاب ظلفُها موضعَ النحر، فانفجرت حتى مات وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن؛ رواه الشيخان.

قال النووي: اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش: تحركه فرحاً بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزاً حصل به هذا، ولا مانع منه: كما قال تعالى: " وَإن مِنهَا لَمَا يهبِطُ من خَشْيَة الله " البقرة: 74، وهذا القول هو ظاهر الحديث، وهو المختار.

قال المازري: قال بعضهم: وهو على حقيقته وإن العرش تحرك لموته؛ قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل: لأن العرش جسم من الأجسام؛ يقبل الحركة والسكون، قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك؛ إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.

وقال آخرون: المراد بالاهتزاز: الاستبشار والقبول، ومِنْهُ قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون: اضطرابَ جسمه وحركته، وإنما يريدون: ارتياحه إليها وإقباله عليه.

قال الحربي: وهو كناية عن تعظيم شأنِ وفاته، والعرب تنسبُ الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.

وقال جماعة: المراد: اهتزاز سرير الجنازة، وهو النعش، وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم، والله أعلم، انتهى وقيل: المراد باهتزاز العرش: اهتزاز حَمَلة العرش، وصحح الترمذيُ من حديث أنس، قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكةَ كانت تحمله " .

وعن البراء قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من لين هذه؟ لمَنَاديلُ سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين " هذا لفظ رواية أبي نعيم في مستخرجه على مسلم.

والمناديل: جمع منديل - بكسر الميم في المفرد - وهو معروف.

قال العلماء: هذه إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل منه، انتهى.

وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر، عن محمد بن شرحبيل بن حسنة، قال: قبض إنسان يومئذ من تراب قبره قبضة، فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله سبحان الله " حتى عُرِفَ ذلك في وجهه. فقال: " الحمد لله! لو كان أحد ناجياً من ضمة القبر لنجا منها، ضُم ضَمّة ثم فرج الله عنه " .

وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد، قال: كنت فيمن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا.

قال الحافظ مغلطاي، وغيره: في هذه السنة فُرِضَ الحج. وقيل: سنة ست، وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة ثمان، ورجحه جماعة من العلماء، وسيأتي البحث في ذلك، إن شاء الله تعالى.

حَوَادِثَ السنَةِ السَّادِسَةِ

فيها غزوة بني لحيان في ربيع الأول انتهى فيها صلى الله عليه وسلم إلى غران - وادٍ عند عسفان - في مائتي رجل فهربوا، فأقام يوماً أو يومين، يبعث السرايا لكل ناحية فلم يجدوا أحداً، فرجع للمدينة بعد تسعة عشر يوماً قائلاً: " آيبون تائبون لربنا حامدون " .

وفى المواهب: لحيان؛ بكسر اللام وفتحها؛ لغتان - في ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق في جمادى الأولى في رأس ستة أشهر من قريظة.

قال ابن حزم: الصحيح أنها في الخامسة.

قالوا وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وَجْداً شديداً، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر في مائتي رجل، ومعهم عشرون فرساً، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم أسرع المسيرة حتى انتهى إلى بطن غران، - واد بين أمج وعسفان - وبينها وبين عسفان خمسة أميال، حيث مصاب أصحاب الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم، فسمعت به بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوماً أو يومين يبعث السرايَا في كل ناحيةِ، ثم خرج: حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في عشرة فوارس؛ لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا، ولم يلقوا أحداً، وانصرف ولم يلق كيداً: وهو يقول: " آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون " .

وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.

وقيل: سبع عشرة ليلة.

وفيها غزوة الغابة؛ وهي غزوة ذي، قَرَدٍ في ربيع الأول في خمسمائة؛ غاب خمس ليال، وصلى صلاة الخوف أيضاً.

وقَرَد بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، وهو ماء على بَرِيد من المدينة، قبل الحديبية.

وعند البخاري: أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه.

قال مغلطاي: وفى ذلك نظرة لإجماع أهل السير على خلافها. انتهى.

قال القرطبي شارح مسلم: لا يختلف أهل السيرة أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية.

وقال الحافظ ابن حجر: ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير. انتهى وسببها: أنه كان لرسول الله عشرون صلى الله عليه وسلم لقحة؛ وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة؛ ترعى بالغابة، وكان ابن أبي ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن الفِزَاري ليلة الأربعاء في أربعين فارساً، فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر.

وقال ابن إسحاق: كان فيهم رجل من غفار وامرأة، فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فركبت ناقة ليلاً حين غفلتهم تريد النبي صلى الله عليه وسلم، ونذرت؛ لئن نجت، لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال: " لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك " .

ونودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها.

وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة، وقد كان عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه، وقال له: " امض؛ حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك " ، فأدرك أخريات العدو، وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه، وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.

وأدرك سلمة بن الأكوع القوم؛ وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل، ويقول: من الرجز:

خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع

يعني: يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع؛ أي: رضع اللؤم في بطن أمه.

وقيل: معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب بها، ويعرف غيره.

ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول عشاء.

قال سلمة: فقلت: يا رسول الله؛ إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل؛ استنقذتُ ما في أيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: " ملكتَ فأسجح " ؛ وهي بهمزة قطع، ثم سين مهملة، ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة؛ أي: فارفق وأحسن، والسجَاحة السهولة؛ أي: لا تأخذ بالشدة، بل ارفق، فقد حصلت النكاية في العدو، ولله الحمد. ثم قال: " إنهم الآن ليقرون في غطفان " . وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، وعلى الإبل؛ حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ب " ذي قرد " ، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي؛ وهي عشر، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ب " ذى قرد " صلاة الخوف، وأقام يوماً وليلة، ورجع وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جَزوراً ينحرونها.

وفيها غزوة الحديبية؛ هلال ذي القعدة في ألف وأربعمائة، وبايع بيعة الرضوان، تحت الشجرة على الموت؛ حين أرسل عثمان، فحبسوه في مكة ثلاثة أيام، ثم جاء سهيل بن عمرو في الصلح، فواعدهم صلى الله عليه وسلم في عشر سنين، فأقام بضعة عشر يوماً هناك؛ وهو معتمر، فتحلَل من عمرته ورجع، فنزلت عليه في الطريق سورة الفتح.

وفي المواهب: الحديبية - بتخفيف الياء، وتشديدها - : بئر سمي المكان بها.

وقيل: شجرة وقال المحب الطبري: قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم، وهي على تسعة أميال من مكة، خرج - عليه السلام - من المدينة يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: وخمسمائة، وقيل: ألف وثلاثمائة، والجمع بين هذه الأقوال أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة، جبر الكسر، ومن قال: وأربعمائة، ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر، واعتمد على هذا الجمع النووي.

وأما رواية:ألف وثلاثمائة؛ فيمكن حَمْلُها على ما اطلع عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين؛ لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة.

وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة؛ فلم يوافقه أحد عليه؛ قاله استنباطاً من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة؛ وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلاً.

وجزم موسى بن عقبة؛ أنهم كانوا ألفاً وستمائة.

وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة.

وحكى ابن سعد ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاحِ، إلا سلاح المسافر؛ السيوف في القرب. وفي البخاري في المغازي: عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان ب " ذي الحليفة " قلد الهدى وأشعر، وأحرم منها.

وفي رواية: أحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إِذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، فقال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادُوك عن البيت ومانعوك. فقال: " أشيروا علي أيها الناس؛ أترون أن أميل إِلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ خرجت عامداً لهذا البيت؛ لا تريد قتال أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه، قاتلناه. قال: " امضوا على اسم الله " .

وروى أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين " . فوالله ما شعر بهم خالد؛ حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثَّنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت، يعني: تمادتْ على عدم القيام، فقالوا: خلأت القصوى، خلأت القصوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلأت القصوى، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ؛ أي: حبسها الله عن دخول مكة؛ كما حبس الفيل عن دخولها.

ومناسبة ذلك: أن الصحابة لو دخلوا مكة، على تلك الصورة، وصدهم قريش - لوقع بينهم القتال المفضي إِلى سفك الماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم خَلْق كثير، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياهَا " . ثم زجرها، فوثبت.

قال: فعدل عنهم؛ حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء - يعني: حفرة فيها ماء قليل - يتبرضه الناس تبرضاً؛ أي: يأخذونه قليلاً قليلاً، فلم يلبث الناس؛ حتى نزحوه، وشُكِيَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري؛ حتى صدروا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نَفَرٍ من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية " معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادُوك عن البيت. والعُوذ - بالذال المعجمة - : جمع عائذ؛ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالُهَا؛ يريد: أنهم خرجوا لهم بذوات الألبان من الإبل؛ ليرووا بألبانها، ولا يرجعوا؛ حتى يمنعوه، أو كني بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم؛ لإِرادة طول المقام؛ ليكون أدعى إِلى عدم الفرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نأت لقتال أحدٍ، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب، فأضرت بهم، فإِن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإِن أظهر؛ فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، وإلاً فقد جموا - يعنى: استراحوا - وإن أبوا، فوالذي نفسي بيده؛ لأقاتلنهم على أمري؛ حتى تنفرد سالفتي - أي: صفحة العنق؛ كنى بذلك عن القتل - أو لينفذن الله أمره " . فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق؛ حتى أتى قريشاً، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإِن شئتم أن نعرضه عليكم، فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. فقال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون؛ أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ - أي: تمنعوا من الإجابة - جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد - أي: خصلة خير وصلاح - اقبلوها، ودعوني آته. فأتاه؛ فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد؛ أرأيت إن استأصلتَ قومك، هل سمعتَ بأحدٍ من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وِإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً - يعنى: أخلاطاً - من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدَعوك. فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - : امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه، أو ندعه؟ قال العلماء: وهذا مبالغة من أبي بكر في سَب عروة، فإِنه أقام معبود عروة؛ وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نِسبته الفرار إِليهم.

والبَظر - بالموحدة المفتوحة، والظاء المعجمة الساكنة - : قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: اسم صنم؛ والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. انتهى.

فقال عروة: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر. فقال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي؛ لم أجزك بها، لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي ص، فكلما تكلم، أخذ بلحيته ص - والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي، ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ص ضرب يده بنعل السيف، وقال: اكفف يدك عن لحية النبي ص.

قال العلماء: وقد كانت عادةُ العرب؛ أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب إِنما يصنع ذلك النظير بالنظير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضي لعروة؛ استمالةً وتأليفاً، والمغيرة يمنعه؛ إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً.

قال: فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غُدَر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه؛ فيرى أنهم ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعتْ في يد رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم أمراً، ابتدروا لأمره، وإِذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إِليه النظر تعظيماً له.

قال في فتح الباري: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم؛ فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أنه يفر عنه، وشحلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطاً به وبدينه ونصره. من هذه القبائل التي تداعى بعضها لمجرد الرحم. والله أعلم. انتهى.

قال: فرجع عُروة إِلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإِذا أمرهم، ابتدروا أمره، وإذا توضَأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُون إِليه النظر تعظيماً له، وِإنه قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدنَ، فابعثوها له. فبعثوها له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد أعلمت، وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له: مِكرَزُ بن حفص - بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء بعدها زاي - فقال: دعوني آته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا مكرز، وهو رجل فاجر " . فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه؛ إذ جاء سهيلُ بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة؛ أنه لما جاء سهيل قال النبي ص: " إنه قد سهل من أمركم ما صعب " .

وفي رواية ابن إسحاق: فأرسلت قريش سهيل بن عمرو، فقالت: اذهب إِلى هذا الرجل، فصالحه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا " . فلما انتهى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول؛ حتى وقع بينهما الصلحُ على أن توضع الحربُ بينهم عشر سنين، وأن يأمن بعضهم بعضاً، وأن يرجع عنهم عامهم هذا.

وقال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً، وقال: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم؛ فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم؛ كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: " باسمك اللهم " . ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.

وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم: فكتب: هذا ما صالح محمد رسولُ الله أهل مكة... الحديث.

فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صددناك، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والله إني لرسول الله، وِإن كذبتموني " . وفي رواية له - يعنى: البخاري ولمسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: " امحه " ، فقال: ما أنا بالذي أمحاه؛ وهي لغة في أمحوه.

قال العلماء: وهذا الذي فعل علي من باب الأدب والمستحب؛ لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو علي نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه، لم يجز لعلي تركه. انتهى. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أرني مكانها " . فأراه مكانها، فمحاها، وكتب: " ابن عبد الله " .

وفي رواية البخاري في المغازي: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن أن يكتب، فكتب مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " .

قال في فتح الباري: وقد تَمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي، وادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يُحْسن أن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن؛ حتى قال قائلهم شعراً: من البسيط:

بَرِئتُ مِمن شَرَى دُنيَا بِآخِرَةٍ ... وَقَالَ: إِن رَسُولَ الله قَدْ كَتَبَا

فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ أنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن. قال تعالى: " وَمَا كنتَ تَتلُوا مَن قَبله مِن كِتابِ ولا تَخُطهُ بيمِينِك " العنكبوت: 48، وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك - لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم؛ فتكون معجزة أخرى.

وذكر ابن دحية: أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي على ذلك؛ منهم شيخه: أبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وآخرون من علماء إفريقية.

واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق مُجَالد، عن عون بن عبد الله: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب، وقرأ.

قال مجاهد: فذكرته للشعبي، فقال: صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.

وقال القاضي عياض: وردت آثارٌ تدل على معرفته حروف الخط، وحسن تصورها؛ كقوله لكاتبه: " تضع القلم على أذنك، فإنه أذكر لك " وقوله لمعاوية: " ألق الدواة، وحرف القلم، وفرق السين ولا تعور الميم " إلى غير ذلك.

قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإِنه أوتي علم كل شيء.

وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة، والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة؛ بأن علياً هو الذي كتب؛ فيحمل على أن النكتة في قوله: " فأخذ الكتاب، وليس يحسن أن يكتب " ؛ لبيان أن قوله: " أرني إياها " أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليّ من محوها؛ لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب، أو أطلق كتب بمعنى: أمر بالكتابة؛ وهو كثير؛ كقوله: كتب إِلى كسرى وقيصر.

وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم؛ وهو لا يحسن الكتابة؛ أن يصير عالماً بالكتابة، ويخرج عن كونه أميَّاً؛ ككثير من الملوك.

ويحتمل أن يكون جرب يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسن، فخرج المكتوب على وفقِ المرادة فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصاً، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً.

وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة، وتبعه ابن الجوزي، وتعقب ذلك السهيلي وغيره؛ بأن هذا وإن كان ممكناً، ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أمياً لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك، لعادت الشبهة.

وقال المعاند: كان يحسن يكتب، لكنه كان يكتم ذلك، قال السهيلي: والمعجزات يستحيلُ أن يدفع بعضها بعضاً، والحق أن معنى قوله: فكتب أمر علياً أن يكتب. انتهى.

قال: وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة يستلزم مناقضة المعجزة، ويثبت كونه غير أمي - نظر كبير. والة أعلم. انتهى.

وأما قوله: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " ، وقوله: " أما الرحمن الرحيم، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم... " إلى آخره - فقال العلماء: وافقهم - عليه الصلاة والسلام - في ترك كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في: محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله؛ للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح؛ مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة، وباسمك اللهم فمعناهما واحدْ، وكذا قوله: محمد بن عبد الله هو أيضاً رسوله، وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم، ونحو ذلك. انتهى.

قال في رواية البخاري: فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم: " على أن يخلوا بيننا وبين البيت؛ فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدَث العرب؛ أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل؛ وإن كان على دينك، إلا رددته إِلينا. قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ الضغطة - بالضم - قال في القاموس: الضيق والإكراه. انتهى.

فإن قلت: ما الحكمة في كونه - عليه الصلاة والسلام - وافق سهيلاً على أنه لا يأتيه منهم رجل؛ وإن كان على دين الإسلام، إلا يرده إِلى المشركين؟.

فالجواب؛ أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده الظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس في دين الله أفواجَاً، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصَّلة، فلما حصل صلح الحديبية، اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إِلى مكة، وخلوا بأهليهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك، فمالت نفوسُهم إِلى الإيمان؛ حتى بادر خلق كثير منهم إِلى الإسلام قبل فتح مكة؛ فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلاً إِلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح، أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب غير قريش في البوادي؛ قال الله تعالى: " إِذَا جَاءَ نصرُ الله وَالفَتحُ وَرَأيت الناسَ يَدخلوُنَ في دِينِ الله أفوَاجاً " النصر: 1، 2، فالله ورسوله أعلم. انتهى.

قال في رواية البخاري: فبينماهم كذلك؛ إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده؛ قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه: بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إِليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نمض الكتاب بعد " ، قال: فوالله إِذن لا أصالحك على شيء أبداً. قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: " فأجزه إِلي " ، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعلِ. قال مكرز: بلى، قد أجزنا ذلك.

قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَدُ، إِلى المشركين، وقد جئت مسلماً؛ إلا ترون ما قد لقيت؟ وكان عُذبَ في الله عذاباً شديداً.

زاد ابن إسحاق: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا جندل، اصبر، واحتسب؛ فإِنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً " . ووثب عمر يمشي إِلى جنبه، ويقرب منه قائم السيف، ويقول: اصبر؛ فإِنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم الكلب. يعرض له بقتل أبيه، فلما لم يفعل، قال عمر: ضنَّ الرجل بأبيه.

قال الخطَابي: تأوَّل العلماءُ ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم؛ إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإِيمان، إن لم يمكنه التورية، فلم يكن رده إِليهم إسلاماً لأبي جندل إِلى الهلاك مع وجود السبيل إِلى الخلاص من الموت بالتقية.

والوجه الثاني: أنه إنما رده إِلى أبيه، والغالب أن أباه لم يبلغ به إِلى الهلاك، وإن عذبه، أو سجنه، فله مندوحة بالتقية أيضاً.

وأما مايخاف عليه من الفتنة: فإِن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين.

واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين؛ على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل، وأبي بصير.

وقيل: لا وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث: " أنا بريء من مسلم بين المشركين " ؛ وهو قول الحنفية.

والشافعية تفصل بين العاقل، والمجنون والصبي؛ فلا يُرَدان.

وقال بعض الشافعية: مناط جواز الرد أن يكون المسلم؛ بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم.

قال في فتح الباري: قال في رواية البخاري: فقال عمر بن الخطَاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: " بلى " . قلت: ألستَ على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى " . قلت: فلم نعطي الدَنية في ديننا إذن؟ قال: " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري " . قلت: أو لست كنت تحدثنا؛ أنا نأتي البيت، فنطوف به؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال؛ فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل؛ إنه رسول الله ص وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه؛ فوالله إنه على الحق. قلت؛ أو ليس كان يحدثنا؛ أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال؛ بلى، أفأخبرك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: إنك آتيه فمطوف به.

قال العلماء: لم يكن سؤال عمر - رضي الله عنه - وكلامه المذكور شَكاً، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إِذلال الكفار، وإظهار الإِسلام؛ كما عرف في خلقه، وقوته في نصرته الدين، وإِذلال المبطلين. وأما جواب أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما - بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله، وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه وزيادته في كل ذلك على غيره.

وكان الصلح بينهم مدة عشر سنين؛ كما في السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.

ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار: كانت أربع سنين؛ وكذا أخرجه الحاكم في البيع من المستدرك، والأول أشهر.

وكان الصلح على وضع الحرب؛ بحيث يأمن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وألاً يدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح؛ وهو القراب بما فيه. والجلبان - بضم الجيم، وسكون اللام - : شبه الجراب؛ من الأدم؛ يوضع فيه السيف مغموداً.

ورواه القتيبي: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هي أوعية السلاح بما فيها. وفي بعض الروايات: إلا بجلبان السلاح: السيف، والقوس وِإنما اشترطوا ذلك؛ ليكون علماً وأمارة السلم؛ إذ كان دخولهم صلحاً.

وقال مكي بن أبي طالب القيرواني في تفسيره: وبعث - عليه الصلاة والسلام - بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان، وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان، فغضب المسلمون.

وقال مغلطاي: فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت.

وقيل: على إلا يفروا. انتهى.

ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه، وقال: هذه عن عثمان.

وفي البخاري: فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: " هذه بيعة عثمان " ؛ فضرب بها على يده... " الحديث.

ولما سمع المشركون بهذه، خافوا فبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين. وفي هذه البيعة نزل قوله تعالى: " إنَ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِم " الفتح: 10 وقوله تعالى: " لقد رضي اللهُ عَنِ المُؤمنِينَ " الآية الفتح: 18.

وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحروا هداياهم بالحديبية.

قال مغلطاي: وأرسل الله ريحاً، فحملت شعورهم، فألقتها في الحرم، وأقام صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، وقيل: عشرين يوماً، ثم قفل، وفي نفوس بعضهم شيء؛ فأنزل الله تعالى سورة الفتح يسليهم بها، ويذكرهم نعمة الله، فقال تعالى: " إنّا فَتحَنَا لَكَ فَتحاً مُبِيناً " الفتح: 1، قال ابن عباس، وأنس، والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً؛ أي: حسبوا إلا يرجعوا، بل يقتلون كلهم.

وأما قوله تعالى: " وَأثابهُم فَتحُاً قَرِيباً " الفتح: 18، فالمراد فتح خيبر؛ على الصحيح؛ فإنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.

وقد روى أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن مجمع بن حارثة؛ قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند كراع الغميم، وقد جمع الناس قرأ عليهم: " إنَا فَتحَنَا لَكَ فَتحاً مُبينَاً " الفتح: 1، الحديبية، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله.

وأما قوله تعالى: " إذَا جَاءَ نصَرُ الله وَالفَتحُ " النصر: 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: " لاً هجرة بعد الفتح " ففتح مكة بالاتفاق.

قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإِشكال، وتجتمع الأقوال، والله أعلم. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

وفي هذه السنة: كسفت الشمس، وظَاهَرَ أوس بن الصامت من امرأته خَولَةَ.

وفيها: استسقى في رمضان، ومطر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبح من الناس: مؤمن بالله، وكافر بالكواكب " قاله مغلطاي.

وجزم الدمياطي في سيرته؛ بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية، وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أحد؛ وذلك سنة أربع؛ على الراجح.

وفيه نظر؛ لأن أنساً كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها، بادر فأراقها، ولو كان سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك.

وأخرج النسائي والبيهقي بسندٍ صحيحٍ، عن ابن عباس: إِنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم، عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا، جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول: صنع هذا أخي فلان؛ وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول: والله لو كان بي رحيماً ما صنع بى هذا؛ حتى وقعت في قلوبهم الضغائن؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية " يأيُهَا الذِينَ آمَنُوا إنما الخمرُ وَالميسِرُ " إلى " فَهَل أنتم مُنتَهُونَ " المائدة: 90، 91، فقال ناس من المتكلفين: هي رجس؛ وهي في بطن فلان وفلان، وقد قتل يوم أحد؛ فأنزل الله: " لَيسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالحاتِِ جناح فِيمَا طَعمُوا " إلى " المحسنين " المائدة: 93، وآية تحريم الخمر نزلت في عام الفتح قبل الفتح. والله أعلم.

وفيها: سرية محمد بن مَسلمة في ثلاثين راكباً إِلى القرظاء من بني بكر بن كلاب بضرية، وهي على سبع ليال من المدينة، عاشر المحرم، فلما أغاروا عليهم، هربوا فغنم، وجاء آخر المحرم، ومعه ثمامة بن أثال أسيراً.

وعكاشة بن محصن الأسدي في ربيع الأول إلى ماء لبني أسد؛ يقال له: عمرة مرزوق، في أربعين، فغنم، ولم يلق كيداً.

ومحمد بن مسلمة أيضاً إلى ذي القصَة في ربيع الأول معه عشرة إِلى بني ثعلبة، وهم مائة فقتلوا، إلا ابن مسلمة. فبعث إليهم أبا عبيدة في ربيع الآخر بأربعين رجلاً، فغنموا نعماً وشاءً، وأسروا رجلاً فأسلم.

وزيد بن حارثة في ربيع الآخر إِلى بني سليم بالجموع، فغنموا نعماً وشاء.

ثم إِلى العيص في جمادى الأولى، ومعه مائة وسبعون راكباً يعترض عيراً لصفوان بن أمية، فأسر منهم ناساً، منهم أبو العاص بن الربيع، فأجارته زوجته: زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إِلى الطَرَف، ماء على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة في جمادى الآخرة بخمسة عشر لبني ثعلبة، فأصاب نعماً وشاء.

ثم إلى حسمى وراء وادي القرى في جمادى الآخرة إِلى قوم من جذام، قطعوا الطريق على دحية، فقتل منهم قتلاً ذريعاً، وأصاب مغانم كثيرة، ثم ردها عليهم صلى الله عليه وسلم جميعها لما جاءه زيد بن رفاعة، وسأله في ذلك، وأسلم.

ثم إلى وادى القرى في رجب، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد.

ثم إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة الفزارية بناحية وادي القرى، فربطها بين بعيرين حتى ماتت.

وفي مسلم: أن أمير هذه السرية أبو بكر.

وعبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان يدعو أهلها إلى الإسلام، فأسلم كثير بن الأصبغ بن عمر الكلبي، وكان نصرانياً، فتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر، فولدت له أبا سلمة بن عبد الرحمن. وضرب الجزية على من لم يسلم. وعلي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك، فغنم نعماً وشاء.

وعبد الله بن عتيك لقتال أبي رافع عبد الله - أو سلام - ابن أبي الحقيق، على الخلاف فيه، في رمضان، ومعه أربعة نفر، فقتلوه في داره بخيبر.

وعبد الله بن رَواحة في ثلاثين رجلاً إلى أسير بن رزام اليهودي بخيبر، فقتل، وقتل معه نحو الثلاثين.

وكرز بن جابر في عشرين رجلاً إلى العرنيين الذين اجتووا المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من لقاحه ويتداووا، فلما أصبحوا، قتلوا راعِي النبي صلى الله عليه وسلم يساراً النوبي، واستاقوا اللقاح، فأتى بهم فقطع أيديهم وسمل أعينهم وكانوا ثمانية، ونزل: " إِنمَا جَزؤوا الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ رَرَسُولَهُ... " الآية المائدة: 33.

وعمرو بن أمية الضمري، انظر ومعه سلمة بن أسلم؛ ليصادفا غرة من أبي سفيان بن حرب، فيقتلاه، ففطن لذلك وهرب.

وسبب ذلك: أن أبا سفيان أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يقتله غدراً، فأقبل الرسول ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا ليريدُ غدراً، فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره، فإذا بالخنجر فسقط في يده، فقال صلى الله عليه وسلم: " اصدقنى ما أنت؟ " قال: وأنا آمن؟ قال: " نعم " ، فأخبره بخبره، فخلى عنه صلى الله عليه وسلم.

وبعث عمرو بن أمية، ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه.

ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلاً، فرآه معاوية بن أبي سفيان، فأخبر قريشاً بمكانه، فخافوا وطلبوه، وكان فاتكاً في الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا، فهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك التميمي فقتله وقتل آخر، ولقي رسولَين لقريش بعثا يتجسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو - عليه الصلاة والسلام - يضحك.