سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
حوادث السنة السابعة
فيها غزوة خيبر في جمادى الأولى، وقاتل بها صلى الله عليه وسلم أشد القتال، وقتل من أصحابه خمسة، ومن اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها الله عليه حصناً حصناً.
وفيها حرم لحوم الحمر الأهلية، ونهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاً توطأ جارية حتى تستبرأ، وعن متعة النساء. ووضعت له السم في الشاة زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، فأخبرته الذراع بذلك.
وفتح وادي القرى في جمادى الآخرة بعد ما حاصرهم أربعاً أو أكثر، وصالحه أهل تيماء على الجزية.
قال في المواهب: هي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
قال ابن إسحاق: خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق.
ويمكن الجمع: بأن من أطلق سنة ست، بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي، وهو ربيع الأول.
وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة، فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن؛ لكنه خطأ، ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت.
وتوجيهه: بأن غزوة خيبر كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزماً.
قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه - عليه الصلاة والسلام - ألف وأربعمائة راجل، ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
وفي البخاري: من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، هل تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامرٌ رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهُمً لولا أنتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاً تَصَدقْنَا ولا صَلَيْنَا
فَاغفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أبقينَا ... وَثَبت الأقدامَ إِنْ لاقَيْنَا
وَألقِيق سَكِينةً عَلَينَا ... إِنا إِذَا صِيحَ بِنَا أتَيْنَا
وَبالصيَاح عَولُوا عليْنَا
وفي رواية إياس بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أحمد في هذا الرجز زيادة:
إِن الذِينَ قَد بَغُوا عَلَيْنَا ... إِذَا أرادُوا فِتنَةً أبَينا
وَنَحنُ عَن فضلِكَ مَا استغنَيْنَا
فقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية البخاري: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الاكوع، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به... الحديث 21.
وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوقُ الركابَ، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير، ينزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال. وقوله: " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن لاهم، أو تَالله، كما في الحديث الآخر.
وقوله: " فداء لك " قال المازني: هذه اللفظة مشكلة؛ فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص؛ فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه.
قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه؛ كما يقال: قاتله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله - عليه الصلاة والسلام - : تربتْ يداك، وتربت يمينُكَ. وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادِيَ مبالغ في طلب رضا المفادَى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه؛ فكأن مراد الشاعر: إني أبذل نفسي في رضاك. وعلى كل حالٍ فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة - فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: " فداء لكَ " رجلاً يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى تمام الأول، فقال: ما أبقينا.
قال: وهذا تأويل يصحُ معه اللفظ والمعنى، لولا أن فيه تعسفاً اضطررنا إليه لتصحيح الكلام. انتهى.
فقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك؛ وعلى هذا فقوله: " اللهم " لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام، والمخاطب بقول الشاعر: " لولاً أنت " النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يعكرُ عليه بعد ذلك:
فَأنزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وثَبتِ الأقدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون: فاسأل ربك أن ينزل ويثبت، والله أعلم.
وقوله: " إذا صيح بنا أتينا " أي: إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره، وفي رواية: " أبينا " بالموحدة بدل المثناة، أي: أبينا الفرار.
وقوله: " وبالصياح عولوا علينا " أي: استغاثوا بنا، واستفزعونا للقتال، وقيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.
وقوله: " من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبَت " أي: ثبتت له الشهادة، وستقع قريباً، وكان معلوماً عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في هذا الموطن استشهدَ، فقالوا: هلاً أمتعتنا به؟ أي: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت اخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفي البخاري من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يغزهم حتى يصبح، فلما أصبح، خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد، والله محمد والخميسُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خربت خيبرُ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المننَرِينَ. وفي رواية: " فرفع يده، وقال: الله أكبر، خربت خيبر " . والخميس: الجيش، سمى به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، ومحمد: خبر مبتدأ، أي: هذا محمد.
قال السهيلي: ويؤخذ من هذا الحديث التفاؤُلُ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لما رأى آلة الهدم، تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى.
ويحتمل كما قاله في فتح الباري: أن يكون قال: خربت خيبر بطريق الوحي؛ ويؤيده قوله بعد ذلك: " إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذَرين. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريباً من خيبر بغلس، ثم قال: اللّه أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين " .
وقال مغلطاي وغيره: وفرق - عليه الصلاة والسلام - الرايات، ولم تكنِ الراياتُ إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
وقال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة.
وفي البخاري وكان علي بن أبي طالب تخلَفَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رمداً فلحق، فلما بتنا الليلة، قال: " لأعطين الراية غداً - أو ليأخذن الراية غداً - رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه " . فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فأرسل إليه، فأتى به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكق به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: " اتئذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم... " الحديث.
ولما أن تصاف القوم، كان سيف عامر قصيراً، فتناول ساق يهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه، فلما قفلوا، قال سلمة: قلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبطَ عمله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " كذب من قال، وإن له أجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد " . رواه البخاري أيضاً.
وعن يزيد بن أبي عبيدة قال: رأيت ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابنيها يوم خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة. أخرجه البخاري.
وعنده - أيضاً - عن أبي هريرة: شهدنا خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعِي الإسلام: " هذا من أهل النار " ، فلما حضر القتال، قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت فيه الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخوج منها سهماً، فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، صدَّقَ الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: " قُم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .
وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة " .
وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها الله عليه حصناً حصناً، وهي النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبي، وحصن البراء، والقموص، والوطيح، والسلالم، وهو حصن بني الحقيق الذي كان لهم به كنز في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة؛ فدل الله رسوله عليه فاستخرجه، وقلع علي باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلاً إلا بعد جهد.
وفي رواية ابن إسحاق سبعة، وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل، ورواه الحاكم وعنه البيهقي من جهة ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، عن جابرة أن علياً حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك، ولم يحمله أربعون رجلاً، وليث ضعيف.
وفي رواية البيهقي: أن علياً لما انتهى إلى الحصن، اجتبذ أحد أبوابه فألقاه في الأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلاً، وكان جهداً أن أعادوا الباب مكانه.
قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى.
وفي البخاري: وتزوج - عليه الصلاة والسلام - بصفية بنت حُيي بْنِ أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانهْ بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت عروساً، فذكر له جمالها فاصطفاها لنفسه، فخرج بها حتى إذا بلغت سد الضهباء، حلت له، يعني: طهرت من الحيض، فبنى بها - عليه الصلاة والسلام - فصنع حيساً في نطع صغير، ثم قال لأنس: آذن من حولك؛ فكانت وليمته على صفية.
قال: ثم خرجنا إلى المدينة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها، وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبتيه حتى تركب، وفي رواية: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو ما ملكَت يمينه؟ قالوا: إن حجبها، فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها، فهي ما ملكت يمينه، فلما ارتحل، وطأ لها ومد الحجاب.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها، وفي رواية: فأعتقها، وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: " خذ جارية من السبي غيرها " . وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترَى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله: " بسبعة أرؤس " ما ينافي قوله في رواية البخاري: " خذ جارية من السبي غيرها " ؛ إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة. والله أعلم.
وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية؛ لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية؛ لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها، لأمكن تغير خاطر بعضهم؛ فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصُهُ - عليه الصلاة والسلام - بها، فإنَّ في ذلك رضا الجميعِ، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.
وقال مغلطاي وغيره: كانت صفية قبل، رأتْ أن القمَرَ سقَطَ في حجرها؛ فتؤول بذلك.
قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.
وفيها حرم صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية كما في البخاري: ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم - يعنى: خيبر - أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذه النيران، على أي شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم، قال: " على أي لحم؟ " قالوا: لحم الحمر الأنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهريقوها واكسروها " ، فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: " أو ذاك " ؛ والمشهور في الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، وحكى ضم الهمزة ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون - أيضاً - مصدر: أنست به آنس أنساً وأنسة.
وفي رواية: " نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، ورخص في الخيل " ، قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها؛ لأنها لم تخمس.
وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة؛ لأنها كانت تأكل العذرة.
قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها؛ لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة.
وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " اكسروها " فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها. قال: " أو ذاك " . فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها، ثم تغير اجتهاده، وأوحى إليه بغسلها.
وأما لحوم الخيل: فاختلف العلماء في إباحتها: فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر.
وفي صحيح مسلم عنها: " نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلناه ونحن بالمدينة " .
وفي رواية الدارقطني: " فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم " .
قال في فتح الباري: ويستفاد من قولها: " ونحن بالمدينة " أن ذلك بعد فرض الجهاد فيرد على من استدل في منع أكلها لعلة أنها من آلة الجهاد. وقولها: " وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظنَ بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه؛ لشدة اختلاطهم به - عليه الصلاهَ والسلام - وعدم مفارقتهم له، وهذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله - عليه الصلاة والسلام - عن الأحكام؛ ومن ثم: كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي، فكيف بآل أبي بكر؟!.
وقال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة: إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى.
وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقاً من غير استثناء أحد؛ فأخرج ابن أبي شيبة، بسند صحيح على شرط الشيخين، عن عطاء، قال: لم يزلْ سلفك يأكلونها، قال ابن جريج: قلت: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس - من كراهتها - فأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بسندين ضعيفين.
وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل. فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي. وصحح أصحاب المحيط والهداية، والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.
وقال القرطبى في شرح مسلم؛ مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة. والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الدليل على الجواز مطلقاً واضح؛ لكن سبب كراهة مالك لأكلها كونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعمالها، ولو كثر لأفضى إلى فنائها، فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: " وَمِن رِبَاطِ آلخَيل تُرهِبُونَ بِه " الأنفال: 60.
فعلى هذا: فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه؛ فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور، لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه انتهى.
وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالاً، لجازت الأضحية بها فمنتقض بحيوان البر؛ فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به.
وأما حديث خالد بن الوليد، عند أبي داود والنسائي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير " فإنه ضعيف، ولو سلم لا ينهض معارضاً لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء، وقد ضعف حديث خالد بن الوليد أحمد، والبخاري، والدارقطني، والخطابى، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون.
وزعم بعضهم؛ أن حديث جابر دال على التحريم لقوله: رخص؛ لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع؛ فدل على أنه رخص. لهم بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر؛ فلا يدل ذلك على الحل المطلق.
وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفي رواية له: " أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل " ؛ فدلَ على أن المراد بقوله: " رخص " أذن.
ونوقض - أيضاً - بالإذن في أكل الخيل، ولو كانت رخصة لأجل المخمصة، لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك؛ لكثرتها وعزة الخيل حينئذ؛ فدلَ على أن الإذن في كل الخيل إنما كان للإباحة لا لخصوص الضرورة.
وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: " والخيلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتركَبُوهَا وَزِينة " النحل: 8، وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل؛ فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير؛ فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم؛ فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل.
ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان؛ فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم وبترك أعلاها، لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها، لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة: وأجيب: بأن آية النحل مكية اتفاقاً، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع، لما أذن في الأكل.
وأيضاً: فآية النحل ليست نصاً في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه.
وأيضاً: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة؛ فإنه ينتفع بالخيل في غيرها وفي الأكل اتفاقاً، وإنما ذكر الركوب والزينة؛ لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين، خاطبت راكبها، فقالت: " لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث " ؛ فإنه مع كونه أصرح في الحصر ما يقصد به إلا الأغلب، وإلاً فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقاً.
وقال البيضاوي: واستدل بها - أي بآية النحل - على حرمة لحومها، ولا دليل فيها؛ إذ لا يلزم من تعليل العقل بما يقصد منه غالباً إلا يقصد منه غيره أيضاً. انتهى.
وأيضا: فلو سلم الاستدلال، للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به.
وأما عطف البغال والحمير: فدلالة العطف إنما هي وضعية، وهي ضعيفة.
وأما أنها سيقت مساق الامتنان: فالامتنان إنما قصد به غالب ما يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم؛ بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان بحمل الأثقال والأكل؛ فاقتصر في كل من إلصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضرَّ.
وأما قولهم: " لو أبيح أكلها؛ لفاتت المنفعة بها... " إلى آخره. فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى، للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.
وإنما أطلت في ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم.
وفيها - أيضاً - نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاً توطأ جارية حتى تستبرأ.
وفيها: سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم؛ كما في البخاري من حديث أبي هريرة، ولفظه: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنت صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، قال: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا فيها، والله، لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سُماً؟ فقالوا: نعم، فقال: ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذاباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك.
وفي حديث جابر عند أبي داود: أن يهوديةَ من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم، وأرسل إلى اليهودية فقال: سممت هذه الشاة؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: أخبرتني هذه في يدي - للذراع - قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلم يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة.
واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة. وفي رواية: جعلت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون الذراع، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يطني، يعني؛ لا يلبث أن يقتل من ساعته، وقد شاورت يهود في سموم، فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمَت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع، وانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عظماً آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته ازدرد بشر بن البراء ما في فيه وأكل القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم؛ فإن هذا الذراع تخبرني أنها مسمومة، وفيه أن بشر بن البراء مات، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء، فقتلوها. رواه الدمياطي.
وقد اختلف، هل عاقبها صلى الله عليه وسلم؟ فعند البيهقي، من حديث أبي هريرة: فما عرض لها، ومن طريق أبي نضرة، عن جابر: نحوه، قال: فلم يعاقبها، وفيه قول صاحب الهمزية: من الخفيف:
وبخلقٍ من النبِي كريم ... لم تُقَاصَص بجُرْحِهَا العَجْمَاءُ
وقال الزهري: أسلمت فتركها. قالً البيهقي: يحتمل أنَه تركها أولاً، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلي، وزاد؛ أنه تركها؛ لأنه كان لاينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشرقصاصاً.
ويحتمل أن يكون تركها؛ لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.
وفي مغازي سليمان التيمي: أنها قالت: إن كنت كاذباً أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. قال: فانصرف عنها حين أسلمت، وفيه موافقة الزهري على إسلامها. فالله أعلم.
وفيها - أيضاً - نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر لما وكل به بلالاً؛ كما في حديث أبي هريرة عند مسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: اكلاً لنا الليل، فصلى بلال ما قدر له، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجة الفجر، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستقيظ صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً فقال: أي بلال، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: اقتادوا، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الفجر، فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها. فإن الله تعالى قال: " وَأًقِمِ الصلاةَ لِذِكرِي " طه: 14.
وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.
واختلف في فتح خيبر، هل كان عنوة أو صلحاً؛ وفي حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: التصريحُ بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال: فتحت صلحاً، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحاً بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما؛ لتحقن دماؤهم، وهو ضرب من الصلح؛ لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال.
وفيها سرية أبي بكر إلى بني كلاب، فسبى منهم وقتل.
وبشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، في شعبان، في ثلاثين فقتلوا، وارتث بشير.
وأيضَا إلى يمن وجبار في شوال، ومعه ثلاثمائة فهربوا، وغنم منهم، وأسر رجلين فأسلما.
والأخرم بن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي الحجة، ومعه خمسون رجلاً، فأحدق بهم الكفار فقتلوهم.
وخرج ابن أبي العوجاء، وغالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة ناحية نجد في رمضان، فقتل أسامة نهيك بن مرداس بعد قوله؛ لا إله إلا الله، وقيل: إنما كان ذلك سنة ثمان، استاقوا نعماً وشاء إلى المدينة.
وفيها عمرة القضية، ويقال: القضاء والقصاص هلال ذي الحجة، ومعه صلى الله عليه وسلم ألفان، وأقام بمكة ثلاثة أيام، وبنى بميمونة بسرف.
قال في المواهب؛ وتسمى عمرة القضاء؛ لأنه قاضى فيها قريشاً، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدوا عمرة الحديبية في العمر؛ لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.
وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه.
وعن أبي حنيفة عكسه. وعن أحمد: رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء، وأخرى: يلزمه القضاء والهدي.
فحجة الجمهور: قوله تعالى: " فَإنْ أحصرتُم فما أستَيسَرَ مِنَ الهديَ " البقرة: 196، وحجة أبي حنيفة؛ أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا حصر صار له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبها ما وقع للصحابة؛ فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا، فاعتمروا من قابل وساقوا الهدي، وحجة من لم يوجبها؛ أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحره، ومن ليس معه هدي أن يحلوا. انتهى.
قالى الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة - يعني سنة سبع - أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألاً يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.
وخرج معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق - عليه الصلاة والسلام - ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة، قدم الخيل أمامه عليها محمد ابن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشر بعد، وأحرم صلى الله عليه وسلم، ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفراً من قريش، فسألوه فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبحُ هذا المنزل غداً - إن شاء الله تعالى - فأتوا قريشاً فأخبروهم ففزعوا. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج صلى الله عليه وسلم على راحلته القصوى، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون. وابن رواحة آخذ بزمام راحلته. وفي رواية الترمذي، من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: من الرجز:
خَلوا بني الكُفار عَن سَبِيلِهِ
أليَومَ نَضرِبكُم عَلَى تَنزِيلِهِ
ضَرباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
ويُذهِلُ الخَلِيلَ عَن خَلِيلِهِ
فقال له عمر: يا بن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله، تقول شعزاً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: خَلِّ عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل. ورواه عبد الرزاق من حديث أنس - أيضاً - من وجهين بلفظ: من الرجز:
خَلُوا بني الكُفارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَدْ أنزَلَ الرحمَنُ في تَنزِيلِهِ
بِأن خَيْرَ القَتلِ في سَبِيلِهِ
نَحْنُ قَتَلنَاكُمْ عَلَى تنْزيلِهِ
ضَرباً يُزِيلُ الهَامَ عَن مَقِيلِهِ
ويُذهِلُ الخَلِيلَ عن خَلِيلِهِ
يَا رب إِني مُؤمِنٌ بِقِيلِهِ
وعند ابن عقبة في المغازي بعد قوله:
قَدْ أنزَلَ الرَحمنُ في تَنزِيلِهِ
فِى صُحُفٍ تُتلَى عَلَى رَسُولِهِ
وزاد ابن إسحاق بعد قوله: من الرجز:
يَا رَب إِني مُؤْمِن بِقِيلِهِ
إِني رَأيتُ الحَق في قَبُولِهِ
وقال ابن هشام: إن قوله: " نحن ضربناكم على تنزيله " إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر؛ قاله يوم حنين.
قالوا ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه، وقد اضطبعوا بثيابهم.
وفي البخاري، عن ابن عباس: قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي رواية قال: ارملوا؛ ليرى المشركون قوتكم. والمشركون من قبل قعيقعان. ومعنى قوله؛ الإبقاء عليهم أي: لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الأوقات إلا الرفق بهم والإشفاق عليهم.
ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر، فنحر عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً منهم إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون، فيقضوا نسكهم، ففعلوا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً.
وفي البخاري، من حديث البراء: فلما دخلها - يعنى مكة - ومضى الأجل، أتوا علياً، وقالوا: قل لصاحبك يخرج عنا، فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك بنت عمك، فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال " الخالة بمنزلة الأم " . الحديث.
وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين إلا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج؛ لأنهم لم يطلبوها.
وقوله: " الخالة بمنزلة الأم " أي: في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنية والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد.
ويؤخذ منه: أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب من العصبات من النساء، فهي مقدمة على غيرها.
ويؤخذ منه: تقديم أقارب الأم على أقارب الأب. انتهى.
قال ابن عباس؛ وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال. وقد استدرك ذلك على ابن عباس، وعُدَ من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وَهِلَ ابن عباس، وإن كانت خالته، ما تزوَجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري. وَهِلَ - بكسر الهاء - أي غلط. وقال يزيد بن الأصم، عن ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم.
وسيأتى في الخصائص: أن له صلى الله عليه وسلم النكاحَ في حالِ الإحرام؛ على أصح الوجهين عند الشافعية.
وفي هذه السنة: قدم حاطب من عند المقوقس ملك مصر جريح بن مينا، ومعه الهدايا.
وفيها: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وأخرج عمارة - أو فاطمة أو غير ذلك على الخلاف في اسمها - بنت حمزة من عند المشركين - أو على بإذنه، فاختصم فيها زيد وجعفر وعلي في الحديث المشهور. وأرسل الرسل إلى الملوك أول المحرم، وقيل: آخر سنة ست: عبد الله ابن حذافة السهمي إلى كسرى، فمزق كتابه فدعا عليه بتمزيق ملكه، فملكهم لا يزال ممزقاً، وعمرو بن العاص إلى ملكَي عُمَان عبد وجيفر ابني الجلندي، فأسلما، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء، والعلاء الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بالبحرين فأسِلم، وأبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن، وعمراً الضمري إلى مسيلمة، وعياش بن الربيعة إلى الحارث، ومسروح ونعيم بن عبد كلال، ودحية الكلبي بكتابه إلى هرقل ليدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل، وحديثه الصحيح مشهور، إلى جماعة كثيرة.
وفيها: لبس الخاتم، أو في آخر السادسة.
حوادث السنة الثامنة
فيها: غزوة مُؤْتَةَ، بضم الميم وسكون الواو، بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهري وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين، وهي من عمل البلقاء بالشام، في جمادى الأولى، وهي سرية أمر فيها صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف رجل، وقال: إن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رَواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون برجل منهم. فقتلوا كذلك، فأخذ الراية ثابت بن أقرم العجلاني إلى أن اصطلحوا على خالد، ففتح الله به، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذ غنيمة كثيرة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة، عرض له شرحبيل الغساني، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف، وقال: إن قتل... إلى آخر ما تقدم.
وفي حديث عبد الله بن جعفر: عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: إن قتل زيد فأميركم جعفر... الحديث.
قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلاً استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف فودعهم، فلما ساروا، نادى والمسلمون: دفع الله عنكم، وردكم سالمين غانمين، فقال ابن رواحة: من البسيط:
لَكنّنِي أسألُ الرحْمَنَ مَغْفِرَةَ ... وَضَرْبَةَ ذَاتَ فَرغ تَفذِفُ الزبَدَا
فلما فصلوا من المدينة، سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل ابن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون مَعَان - بفتح الميم - موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين، فأقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي، فمضوا إلى مؤتة، ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قِبَلَ لأحد به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
والتقى المسلمون والمشركون، فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعناً بالرماح، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء، وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحاً، وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح، قال في رواية البخاري: ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية، وفي رواية: أن ابن عمر وَقَفَ على جعفر يومئذ وهو قتيل، قال: فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس فيها شيء في دبره.
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبي داود من طريقه، عن رجل من مرة قال: والله، لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها ثم تقدَم، فقاتل حتى قتل.
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل، فأخذ اللواء ابن أقرم العجلاني، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء وانكشف الناس فكانت الهزيمة، فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد، فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة.
ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم.
وعن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة - قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فرأيت جعفراً حين التحم القتال، اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، وقاتل القوم حتى قتل. خرجه البغوي في معجمه، وقطعت في تلك الوقعة يداه جميعاً، ثم قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء " خرجه أبو عمرو. وفي البخاري، عن عائشة - رضي الله عنها - : لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبي طالب، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف منه الحزن... الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد حسن، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هنيئاً لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء " . وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة " أخرجه الترمذي والحاكم، وفي إسناده ضعف؛ لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مرّ بي جعفر الليلة في ملاً من الملائكة. وهو مخضب الجناحين بالدم " أخرجه الترمذي والحاكم بإسناده على شرطه.
وأخرج - أيضاً - هو والطبراني، عن ابن عباس مرفوعاً: " دخلت البارحة الجنة، فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة " . وفي طريق أخرى عنه: أن جعفراً يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه. وإسناد هذا جيد. فقد عوّضه الله عن قطع يديه في هذه الوقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل.
قال السهيلي: له جناحان ليس كما يسبق إلى الفهم كجناحي الطير وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور كلها، فالمراد بالجناحين: صفة ملكية وقوة روحانية.
وقال العلماء في أجنحة الملائكة: إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة. فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلاً عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها، فنؤمنُ بها من غير بحث عن حقيقتها.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي حكاه عن العلماء ليس صريحاً في الدلالة على ما ادعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد، وهو ضعيفٌ، وكون الصور البشرية أشرف الصور لا يمنعُ من حَمْلِ الخبر على ظاهره؛ لأن الصور باقية. وقد روى البيهقي في الدلائل من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن جناحي جعفر من ياقوت، وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة. وذكر موسى بن عقبة في المغازي: أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ فأخبرني، وإن شئتَ فأخبرتك، قال: أخبرني فأخبره خبرهم، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركتَ من حديثهم حرفاً لم تذكره. وعند الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري؛ أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.
وفيها: فتح مكة في رمضان، لنقض قريش العهدة فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف، يوم الأربعاء بعد العصر لعشر مضين من رمضان، ففتحها صلحاً أو عنوة على الخلاف.
وخرج سادس شوال إلى حنين، فهزمهم وقتل من المشركين أكثر من سبعين واستشهد من المسلمين أربعة، ونادى مناديه: من قتل قتيلاً فله سلبه. وأخذ منها غنائم فقسمها بالجعرانة.
وهو كما قال في زاد المعاد: الفتح الأعظم المبين، الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرَقَ به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً. خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن، لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية؛ لأنه كان قد وقع الشرط أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام. فلما كانت الهدنة، خرج نوفل بن معاوية الديلي، من بني بكر، في بني الديل، حتى بيَّتَ خزاعة، وهم على ماء لهم يقال له: الوتير، فأصاب منهم رجلاً يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم، ولم يتركوا القتال. وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلاً في خفية. وخرج عامر الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه، فقام وهو يجر رداءه ويقول: " لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي " .
وفي المعجم الصغير للطبراني، من حديث ميمونة: أنها سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه ليلاً: " لبيك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً " ، فقالت: كأنك تكلم إنساناً، فهل كان معك أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا راجز بني كعب يستصرخني، ويزعم أن قريشاً أعانَتْ عليهم بني بكر.
ثم خرج - عليه الصلاة والسلام - فأمر عائشة أن تجهزه ولا تُعْلِم أحداً قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: ما أدري، فقال: والله، ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي، قالت: فأقمنا ثلاثاً، ثم صلى الصبح، بالناس، فسمعت الراجز ينشد من الرجز:
يَا رَبّ إِني نَاشِدٌ مُحَمدا
حِلْفَ أبِينَا وَأبِيهِ الأتلَدَا
إِنا وَلَدنَاكَ فَكُنْتَ الوَلَدَا
ثُمّتَ أسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِع يَدَا
إِنّ قُرَيْشَاً أخلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المؤَكَّدَا
وزعَمُوا أنْ لَسْتُ أدْعُو أحَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نصْراً أيدَا
وادع عِبَادَ الله يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ الله قَدْ تَجَرَّدَا
أبْيَضَ كالْبَدرِ تَنَمَّى صعُدَا
إِن سِيمَ خَسفاً وَجْهُهُ تَرَبّدَا
قال في القاموس: وتربد بالراء تغير. انتهى.
وزاد ابن إسحاق:
همْ بَيَّتُونَا بالْوَتيرِ هُجَّدَا
وقتلونا رَكّعا وسَجّدا
وَزَعَمُوا أنْ لَستَ تَدْعُو أحَدَا
وَهمْ أذَلُ وَأقَل عَدَدَا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم " ، فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبي هريرة بعض الأبيات.
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة، فدخل على ابنته رملة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مكانك، فطوته عنه، وقالت: إنك رجس، فقال لها: لقد أصابك بعدي شَر يا بنية، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأله فيما جاء لصدده، فأبى عليه ولم يجبه، فكلم أبا بكر، ثم عمر، ثم علياً، فلم يجبه أحد منهم، فدخل بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: يا بنة محمد، إني داخل على ابنك الحسن أن يجير بين الناس، فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس، فقال لعلي: إنك أمسُ القوم بي رحماً فما تشير به علي؟ فقال له علي: إنك سيد كنانة، وما أرى لك إلا أن تقوم فتجير بين الناس، وما أراه مجديَاً شيئاً. فغدا على الناس في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب ناقته فعاد إلى مكة، فقالوا: ماذا صنعت؟ فأخبرهم بما كان، فقالوا: أفأجاز ذلك محمد وأبو بكر وعمر؟ فقال: لا، فقالوا: ما زدت على أن لعب بك ابن أبي طالب.
وتجهزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك، فكتب حاطب كتاباً، وأرسله إلى مكة يخبر بذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي بن أبي طالب والزبير والمقداد: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ: فإن بها ظعينةً معها كتاب فخذوه منها، قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا حاطب، ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجَل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش - يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها - وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رِضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه قد صدقكم " ، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: " إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، فأنزل الله تعالى: " ياًيُهَا الذِينَ آمنَوا لا تَنخذُوا عَدوي وَعَدُوكُم أوَلياءَ تُلقُون إلَيهِم بِالمَوَدةِ " - إلى قوله - " فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَبِيلِ " الممتحنه: ا، قال في فتح الباري: وإنما قال عمر - رضي الله عنه - : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم استحق القتلَ، لكنه لم يجزم بذلك فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقَاً؛ لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره؛ فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه.
وعند الطبري، من طريق الحارث، عن على في هذه القصة: فقال: أليس قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأرشد إلى علة ترك قتله.
وعند الطبري - أيضاً - عن عروة: فإني غافر لكم؛ وهذا يدل على أن المراد بقوله: " غفرت: أغفر على طريق التعبير عن الآتي بالواقع مبالغةً في تحققه. قال: والذي يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، وقد أظهر الله صدق رسوله في كل ما أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم، لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى؛ يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم؛ قاله القرطبي.
وذكر بعض أهل المغازي - وهو في تفسير يحيى بن سلام - أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب: أما بعد، يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده، لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم. كذا حكاه السهيلي.
وروى الواقدي بسند مرسل؛ أن حاطبَاً كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذنَ في الناس بالغزو، لا أراه يريد غيركم، فأحببت أن تكون لي عندكم يد. انتهى.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم؛ فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق؛ فكان المسلمون في غزوة الفتح عشرة آلاف، وفي الإكليل وشرف المصطفى: اثنا عشر ألفاً، ويجمع بينهما بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وقيل: أبا رهم الغفاري.
وخرج - عليه الصلاة والسلام - يوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان، بعد العصر، في ثمان من الهجرة. قاله الواقدي.
وعند أحمد بإسناد صحيح، عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، لليلتين خلتا من شهر رمضان. فما قاله ليس بقوي لمخالفته ما هو أصحُ.
وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر، منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: ثماني عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة، والذي في المغازي لابن عقبة لتسع عشرة مَضَتْ، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر. ووقع في أخرى: تسع عشرة، أو سبع عشرة على الشك.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكدِيد - بفتح الكاف - الماء الذي بين قديد وعسفان، أفطر، فلم يزل مفطراً حتى انسلخ الشهر. رواه البخاري. وفي أخرى له: أفطر وأفطروا... الحديث.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، وكان ممن لقيه بالطريق أبو سفيان بن الحارث ابن عمه - عليه الصلاة والسلام - وأخوه من إرضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان، وكان أبو سفيان، يألفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث، عاداه وهجاه، وكان لقاؤهما له - عليه الصلاة والسلام - بالأبواء، وأسلما قبل دخول مكة، وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما؛ لما كان يلقى منهما من شدة الأذَى والهَجوِ، فقالت له أم سلمة: لا يكنِ ابن عمك وابن عمتك أشقى الناسِ بك، وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه ابن عمرو وصاحب ذخائر العقبى: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: " تَاللهِ لَقَد آثَرَكَ الله علينَا وَإن كُنَا لَخَاطِئين " يوسف: 91، فإنه لا يرضى أن يكون أحَدٌ أحسنَ منه قولاً، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تثريب عَلَيكمٌ اليوَمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُم وَهُوَ أرحم الرَّاحِمِينَ " يوسف: 92، ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم؛ حياء منه.
قالوا: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بقديد، عقد الألوية والرايات، ودفعها إلى القبائل، ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار. ولم يبلغ قريشاً مسيره، وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب، وقالوا: إن لقيت محمداً، فخذ لنا منه أماناً. فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم، قال البخاري: فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؛ ك! أنها نيران عرفة؟! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقَل من ذلك، فرآهم ناس من حَرَسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار، قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال: يا عباس، من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمَار. بالمعجمة المكسورة، أي: الهلاك.
قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم.
وقيل: هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم ممن قدر عليه.
وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعداً قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، ما آمنُ أن يكون لسعد في قريش صولة، فقال لعلي: أدركه، فخذ الراية منه، فكنْ أنْتَ الذي تدخلُ بها.
وقد روى الأموي في المغازي: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرتَ بقتل قومك؟ قال: لا، فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده الله والرَحِمَ، فقال: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم يوم يعز الله قريشاً. وأرسل إلى سعد، فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وعند ابن عساكر، من طريق أبي الزبير، عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك، عارضت امرأة من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: من الخفيف:
يا نبيَ الهُدَى إليك لَجَا ... حَيّ قُرَيشٍ، وَلاتَ حِينَ لجاءِ
حِينَ ضَاقَت عَلَيهمُ سعَةُ الأر ... ضِ وَعَادَاهُمْ إلهُ السَّمَاءِ
التقَت حَلقَتَا البِطَانِ عَلَى القَو ... مِ ونُودُوا بالصيْلَمِ الصَلْعَاءِ
إن سَعداً يُرِيدُ قاصمة الظه ... رِ بأهلِ الحجُونِ والبطحاءِ
خَزرَجِي لَو يَستَطِيعُ مِنَ الغَي ... ظِ رَمَانَا بِالنسْرِ والعواءِ
وَغِرُ الصَّدرِ لا يَهِم بِشيء ... غَيْرِ سَفْكِ الدما وسَبْيِ النًسَاءِ
قد تلظى عَلَى البِطَاحِ وجاءَتْ ... عِنْدَ هِندِ بالسوْأةِ السوْدَاءِ
إِذ يُنَادِي بِذُلً حَتى قُريشٍ ... وابنُ حَرب بِذَا مِنَ الشُهَدَاءِ
فَلَئِنْ أقحَمَ اللوَاء ونَادَى ... يا حمَاةَ اًللواءِ أهْلَ اللواءِ
ثم ثابَتْ إِليه مَنْ بهمُ الخَزْ ... رجُ والأوسُ أنجُمُ الهَيْجَاءِ
لتَكُونن بالبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... فقعة القَاعِ في أكف الإِمَاءِ
فَانْهَيَنْهُ فإِنهُ آسَدُ الأُس ... د لَدَى الغَابِ والغاً في الدِّمَاءِ
إِنهُ مُطْرِقٌ يُديِرُ لَنَا الأم ... رَ سكوناً كالحيةِ الصمَاءِ
قلت: وفي سيرة ابن سيد الناس عزوا هذا الشعر لضرار بن الخطاب الفهري. فلما سمع هذا الشعر، دخلته رأفة لهم ورحمة، فأمر بالراية، فأخذَتْ من سعد، ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبي يعلى، من حديث الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه، فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جداً.
لكنْ جزم موسى بن عقبة في المغازي، عن الزهري: أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد.
والذي يظهر في الجمع: أن علياً أرسل بها لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد، فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعداً خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه، فأخذها الزبير حينئذ.
قال في رواية البخاري: ثم جاءَتْ كتيبة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة. قال: ما قال. قال: قال كذا وكذا، فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال: وقال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاء بالفتح والمد، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كُدى بالضم والقصر، فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشقر، وكرز بن جابر الفهري. قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالداً دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، يعنى: حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفاً أسامة بن زيد، وحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، وغيرهما قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقاً واضحاً فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمرهن يدخلنَ من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُلَيم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش، الذين استنصرت بهم قريش فقاتلوا خالداً، فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلاً، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: منا دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالت له زوجته هند بنت عتبة وأخذت بشاربه: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش، قُبحتَ من طليعة قوم، وما تغني دارك؟ ثم قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن. قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة، فقال: ما هذا، وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالداً قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتلهم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن اطمأن - لخالد بن الوليد: لم قاتلتَ، وقد نهيتك عن القتال؟ فقال: هم بدءونا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعتُ، فقال: قضاء الله خير.
وعند ابن إسحاق: فلما نزل صلى الله عليه وسلم مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلاً راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يجد أحداً؛ فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه - فلما بلغ الأراك، سمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يتناجيان، فقال العباس: أبا حنظلة؟ فقال أبو سفيان: أبا الفضل؟ فتلاقيا، فقال أبو سفيان: واصباح قريش، إن دخلها عليهم عنوة، فأردف أبا سفيان خلفه، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف الآخران؛ ليعلما أهل مكة.
روى أن عمر بن الخطاب لما رأى أبا سفيان رديف العباس، قال: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد ولا عهد. قال العباس: ثم عدا، فركضتُ البغلة، فسبقته بما تسبق البغلة الرجل البطيء فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فَأتني به، فذهب فلما أصبح، غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف عمر بن الخطاب على رأسه، وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال العباس: أما إنه لو كان من آل الخطاب لما قُفتَ هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَكَ وأكرمك وأوصَلَكَ، قال: ويحك، يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَكَ وأكرمَكَ وأوصَلَكَ، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق، وفي رواية: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: فما أصنع بالعُزى؟ فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : تخرأ عليها، فقال له أبو سفيان: إنك يا بن الخطاب رجل فاحش، ولم أخاطبك إنما أخاطب ابن عمي، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: نعم، وأمر صلى الله عليه وسلم فنادى مناديه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، إلا المستثنين، وهم كما قاله مغلطاي وغيره: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وابن خَطَلٍ قتله أبو برزة، وقينتاه، وهما: فَرتَنَا، بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والمثناة الفوقية والنون، وقُلَيبَة، بالقاف والموحدة مصغراً، أسلمت إحداهما، وقتلت الأخرى، وسَارَة مولاة لبني المطلب، ويقال: كانت مولاة عمر بن ضبع بن هشام، وأرْنَب علم امرأة، وقرينة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل أسلم، والحارث بن نفيل قتله علي، ومقيس بن صُبَابة، بمهملة مضمومة وموحدتين، الأولى خفيفة، قتله نميلة الليثي، وهبار بن الأسود أسلم، وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بعيرها حتى سقطَت على صخرة، وأسقطت جنينها، وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب أسلم. انتهى.
وابن خَطَلٍ: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، وابن نُقَيدٍ: بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره عال مهملة.
وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح، وأمر بقتل عشرة أنفس: ستة رجال، وأربع نسوة. روى أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على إحدى المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسر - بضم المهملة وتشديد السين المهملة - أي: الذين بغير سلاح، فقال لي: يا أبا هريرة، اهتف لي بالأنصار، فهتفت بهم، فجاءوا فطافوا به، فقال لهم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، فقال - بإحدى يديه على الأخرى - احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا، قال أبو هريرة: فانطلقتا فما نشاء أن نقتل أحداً منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أُبيحت خضراء قريش، لا قّريشَ بعد اليومِ، فقال صلى الله عليه وسلم: من أغلق بابه فهو آمن.
قال في فتح الباري: وقد تمسك به من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعي - وهو رواية عن أحمد - إنها فتحت صلحاً لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها؛ لأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه بخالد بن الوليد، وبتصريحه - عليه الصلاة والسلام - بأنها أحلتْ له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك، وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم القسمة، وقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم. قال: وأما قول النووي: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على مر الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظرة لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ كما تقدم، وكذا من دخل المسجد؛ كما عند ابن إسحاق؛ فإن ذلك لا يسمى صلحاً إلا إذا التزم من أشار إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشاً لم يلتزموا ذلك؛ لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوعَ عقده، فهذا لم ينقل، وما أظنه عنى إلا الاحتمال الأول، وفيه ما ذكرته. انتهى.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملكٍ، ولكنها النبوة، قال: نعم.
روى أنه صلى الله عليه وسلم ضع رأسه تواضعاً لله، لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه ليكاد يمسُّ مقدم رحله، شكراً وخضوعاً لعظمته؛ إذ أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وفي البخاري، من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المِغْفَرُ - بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء - زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. وفي المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة.
فلما نزعه، جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتله، وفي حديث سعيد بن يربوع عند الدارقطني والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربعة لا نؤمنهم لا في حل ولا في حرم: الحويرث بن نُقيد، وهلال بن خطل، ومقيس بن صُبَابة، وعبد الله بن أبي سرح، قال؛ فأما هلال بن خطل فقتله الزبير... " الحديث، وحديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه، قال: أربعة نفر وامرأتان، وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل، بدل هلال، وقال: عكرمة، بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين، وقال فأما عبد الله بن خطل، فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله، الحديث، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي؛ أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وإسناده صحيح مع إرساله. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل الأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله، وكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا فيه.
وإنما أمر بقتل ابن خطل؛ لأنه كان مسلماً، فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقاً - يعنى لأخذ الصدقات - وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً ونزل منزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجمع بين الأقوال في اسمه: أنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال: هلال، فألبس عليه بأخ له اسمه هلال. وفي رواية أبي داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، فذكرهم. ثم قال: وأما ابن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه، فقال: " أما كان رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته يقتله؟ " فقالوا: يا رسول الله، ما ندري ما في نفسك ألا أومأت إلينا؟ قال: " إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين... " الحديث.
قال مالك - كما في رواية البخاري - : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ محرماً. انتهى.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك جازماً به. أخرجه الدارقطني في الغريب؛ ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداءُ بغير إحرامِ.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن طاوس، قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرماً، إلا يوم فتح مكة.
وقد اختلف العلماء هل يجبُ على من دخل مكة الإحرام أم لا؟.
فالمشهور من مذهب الشافعي: أن من قصدها لغير النسك لا يجبُ عليه الإحرام مطلقاً. وفي قول: يجب إن لم يتكرر دخوله؛ كحطاب وحشاش وصياد.
والمشهور عن الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم به الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات. والله أعلم.
وقد زعم الحاكم في الإكليل: أن بين حديث أنس في المغفر، وبين حديث جابر في العمامة السوداء مُعَارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه؛ ويؤيده: أن في حديث عمرو بن حريث: أنه خطب الناس، وعليه عمامة سوداء. أخرجه مسلم أيضاً. وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول؛ وهذا الجمع للقاضي عياض.
وقال غيره: يجمع: بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه الشريف من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهباً للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفي البخاري: عن أسامة بن زيد، أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل بنا غَداً؟ قال صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عَقِيلٌ من منزل؟! وفي رواية: هل ترك لنا عَقِيلٌ من رباع أو دور؟! وكان عقيلٌ ورث أبا طالب وطالباً، ولم يرثْ علي ولا جعفر شيئاً؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرينِ إذ ذاك، فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن، ولا المؤمن الكافر.
وفي رواية أخرى له قال - عليه الصلاة والسلام - : منزلنا إن شاء الله - إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر، يعنى به: المحصب؛ وذلك أن قريشاً وكنانة خالفت على بني هاشم والمطلب - ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.
وفي رواية أخرى له: أن يوم فتح مكة، اغتسل في بيت أم هانئ ثم صلى الضحى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود. وأجارَتْ أم هانئ حموين لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ.
والرجلان الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة؛ كما قال ابن هشام. وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقتْ عليهما باب بيتها، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الغد من يوم الفتح، قام - عليه الصلاة والسلام - خطيباً في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرضَ، فهى حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يَعضُدَ بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أحلَّتْ لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، أي: الذين أطلقوا؛ فلم يسترقوا ولم يؤسروا، والطليق: الأسير إذا أطلق.
والمراد بالساعة التي أحلتْ له - عليه الصلاة والسلام - : ما بين أول النهار ودخول العصر كذا قاله في فتح الباري.
قال في المواهب: ولقد أجاد العلامة أبو محمد السرقسطي حيث يقول في قصيدته المشهورة: من البسيط:
ويوم مكة إذ أشرقتَ في أممِ ... يضيقُ عنها فِجَاجُ الوَعْثِ والسهلِ
خوافقْ ضَاقَ ذَرْعُ الخافقَين بهَا ... في قائمٍ من عَجَاجِ الخيلِ والإِبلِ
وَجَحفَلٍ قَذَفَ الأرْجَاءَ ذي لَجَبِ ... عَرَمرَمٍ كَزُهَاءِ الليلِ مُنْسَحِلِ
وأنتَ صلى عليكَ الله تقدمُهُم ... في بَهوِ إشراقِ نورٍ منك مُكْتَمِلِ
تنيرُ فوقَ أغر الوجهِ منتجبٍ ... متوجٍ بعزيزِ النصْرِ مُقْتبلِ
تسمو أمامَ جنودِ الله مُرتدياً ... ثوبَ الوَقَارِ لأمرِ الله ممتثلِ
خَشَعْتَ تختَ بهاء العز حين سمَت ... بكَ المهابةُ فعلَ الخائفِ الوَجِلِ
وقد تباشرْنَ أملاكُ السماءِ بما ... مَلَكتَ إذ نلتَ منه غايةَ الأملِ
والأرضُ تَرجُفُ من زَهْوٍ ومن فَرَقٍ ... والجوُ يُزْهِرُ إشراقاً من الجَذَلِ
والخيلُ تَخْتَالُ زهواً في أعِنتها ... والعيشُ يَنثَالُ زَهوَاً في ثنى الجدلِ
لولا الذي خطتِ الأقلامُ من قدرٍ ... وسابقٍ مِن قضاءِ غيرِ ذي حولِ
أهل ثهلانُ بالتهليلِ من طربٍ ... وذابَ يذبلُ تهليلاً من الذبلِ
المُلكُ لله، هذا عز من عقدَت ... له النبوةُ فوقَ العرشِ في الأزلِ
شعبتَ صدْعَ قريشِ بعد ما قذفَت ... بهمْ شعوب شعابَ السهلِ والقللِ
قالوا محمدُ قد زارَت كتائبهُ ... كالأسدِ تزأرُ في أنيابِهِ العصلِ
فويلَ مكَةَ من آثارِ وطأتِهِ ... وويلَ أم قريشٍ من جوى الهبلِ
فجدت عفواً بفضلِ العفوِ منكَ ولمْ ... تلمم ولا بأليمِ اللومِ والعذل
ضربتَ بالصفحِ صفحاً عن غوائِلهِم ... طولاً أطالَ مقيل النومِ في المقلِ
رحمتَ واشج أرحام أتيحَ لها ... تحتَ الوشيجِ نسيج الروعِ والوجلِ
عاذوا بظل كريمِ العفو ذي لطفٍ ... مباركِ الوجهِ بالتوفيقِ مشتملِ
أزكى الخليقةِ أخلاقاً وأظهرها ... وأكرَم الناسِ صفحاً عن ذوى الزلل
وطفْت بالبيت محبوراً وطافَ به ... مَن كانَ عنه قبيل الفتحِ في شغلِ
والجحفل: الجيش العظيم، قذف الأرجاء، أي: متباعدها، واللجب - بالجيم - الضجة من كثرة الأصوات، والعرمرم: الضخم الكثير العدد، وقوله: كزهاء الليل شبهه بالليل في سده الأفق، واسوداده بالسلاح، والمنسحل - بالحاء المهملة - : الماضي في سيره يتبع بعضه بعضاً. قوله: " في بهو إشراق نور " شبه الذي يغشاه - عليه الصلاة والسلام - ببهو أحاط به، والبهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه، والمنتجب: المتخير من أصل نجيب كريم، المقتبل: المستقبل، ترجف: تهتز، والزهو: الخفة من الطرب، يعني: أن الأرض اهتزت فرحاً بهذا الجيش، وفرقاً من صولته، أي: كادت تهتز؛ قال تعالى: " إِذ جَاءُوكم مِن فَوقكِم وَمِن أسفَلَ مِنكُم وإذ زَاغتِ الأبصاَرُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ " الأحزاب: 10، أي: كادت تبلغ، الجدل: جمع جديل، وهو الزمام المضفور، وثني الجدل ما انثنى على أعناق الإبل، أي: انعطف. وثهلان، جبل معروف، وأهَلَ: رفع صوته. ويذبلُ: جبل أيضاً، والذبل: الرماح الذوابل، وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت، أي: جفت ويبست، وتهليلاً، أي: جبناً وفزعاً، يعني: لولا ما سبق من تقدير الله أن الجبال لا تنطق، لرفع ثهلان صوته، وهلل من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.
وقوله: شعبت أي: جمعت وأصلحت. وقذفت، أي: فرقت بهم مخافة شعوب، وشعوب: اسم للمنية؛ لأنها تفرق الجماعات؛ من شعبت، أي: فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب الطرق في الجبال. والسهل: خلاف الجبل، والقلل: رءوس الجبال. يعني أنه صلى الله عليه وسلم، عفا عنهم بعدما تصدعوا أي: تفرقوا، وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر في أنيابها العصل أي: المعوجة. والله أعلم.
ولما فتح الله مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الأنصار فيما بينهم: أتَرَوْنَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيمُ بها. وكان - عليه الصلاة والسلام - يدعو على الصفا، رافعاً يديه، فلما فرغ من دعائه، قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله، المحيا محياكم، والمماتُ مماتكم " . وهَم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضالة؟! قال: نَعَمْ يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدَّثُ به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله، ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه.
وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان.
وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فكلما مر بصنم، أشار إليه بقضيبه، وهو يقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " ؛ فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقي.
وفي رواية أبي نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
وفي تفسير العلامة ابن النقيب المقدسي: أن الله تعالى لما أعلمه بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة، وإعلائه كلمة دينه، أمره إذا دخل مكة أن يقول: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " ؛ فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل " ، فيخر الصنم ساقطاً، مع أنها كانت كلها مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنماً بعدد أيام السنة.
قال: وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال: قال قتادة: جاء الحق: القرآن، وذهب الشيطان.
وقال ابن جريج: جاء الجهاد، وذهب الشرك.
وقال مقاتل: جاءت عبادة الله، وذهبت عبادة الشيطان.
وقال ابن عباس: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى، فقال: أي ربِّ، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟! فأوحى الله إليه إني سأحدث لك نوبةً جديدةً يدفُّونَ إليك دفوف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية، قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل - عليه الصلاة والسلام - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها. فجعل يأتي الصنم، فيطعن في عينه أو بطنه بمخصرته، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل " ، فينكب الصنم لوجهه، حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال: يا علي، ارمِ به، فحمله علي حتى صعد ورمَى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون منه انتهى.
وعن ابن عباس قال: لما قدم صلى الله عليه وسلم، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجَتْ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام - يعني: القداح التي كانوا يستقسمون بها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " . فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل، رواه الترمذي.
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القَصْوَاء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: ائتني بالمفتاح، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب. رواه مسلم.
وروى الفاكهي من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضاً قال: كان بنو طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده.
وعثمان المذكور هو: عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي، ويقال له: الحَجَبي بفتح المهملة والجيم، وبنوه يعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا وَلَدَ له، وله صحبة ورواية، واسم أم عثمان: سُلآفَة، بضم السين المهملة، وتخفيف الفاء.
وفي الطبقات لابن سعد: عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له ونلت منه، فحلم علي، ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئتُ، فقلت؛ لقد هلكَتْ قريش يومئذ وذلَتْ، قال: بل عمرت وعزت يومئذ، ودخل الكعبة، فوَقعت كلمته مني موقعاً ظننت أن الأمر يومئذ سيصير إلى ما قال، فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان، ائتني بالمفتاح، فأتيته به، فأخذه منى ثم دفعه إلي وقال: خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف، فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال: ألم يكن الذي قلت لك. قال: فذكرت قوله لي بمكة قبيل الهجرة: " لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت " قلت: بلى، أشهد أنك رسول الله.
وفي التفسير: أن هذه الآية " إنً اللهَ يَأمُرُكُم أن تُؤَدُوا الأماناتِ إلى أهلِهَا " النساء: 58، نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي، أمره - عليه الصلاة والسلام - أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح، وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه. فلوى علي يده، وأخذ منه المفتاح، وفتح الباب.
قلت: يتعين أن يكون المراد بالبيت في: وأغلق باب البيت بيتَ نفسِهِ؛ إذ لو كان المراد بالبيت الكعبة لا يمكن علياً - كرم الله وجهه - لَيُ يده. وأما في بيت نفسه، فيمكن ذلك بنحو قلع الباب أو كسره، والله أعلم.
فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج، سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله الآية. وأمر صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي فقال: " أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق"، فقال علي: لقد أنزل الله في شأنك... وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمداً رسول الله، فجاء جبريل فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان، فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة.
قال ابن ظفر في ينبوع الحياة: قوله: " ولو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه " ، هذا وهم؛ لأنه كان ممن أسلم، فلو قال هذا كان مرتداً. وعن الكلبي: لما طلب - عليه الصلاة والسلام - المفتاح من عثمان، مد به يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله، اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال له صلى الله عليه وسلم: " إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته " . فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه، ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقبول.
وفي رواية لمسلم: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد، وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقوا عليهم الباب، قال ابن عمر: فلما فتحوا، كنت أول من ولج، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول! الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين، وذهب عني أن أسأله كم صلى. وفي روايات البخاري: جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه. وليس بين الروايتين مخالفة؛ لكن قوله في الرواية الأخرى: " وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " كأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا أعقبه البخاري برواية إسماعيل بن أبي أويس التي قال فيها عمودين عن يمينه.
ويمكن الجمع بين الروايتين: بأنه حيث ثَنَّى، أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم، وحيث أفرد، أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إليه قوله: " وكان البيت يومئذ... " ؛ لأن فيه إشعاراً بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت، والثالث على غير سمتهما ولفظ المتقدمين في إحدى روايات البخاري مشعر بذلك.
وفي رواية لمسلم: " جعل عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه " عكس رواية إسماعيل. وكذلك قال الشافعي وبشر بن عمرو في إحدى الروايتين عنهما.
وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين: باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد؛ لاتحاد مخرج الحديث.
وقد جزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليه ابن العربي، والقعنبي، وأبو مصعب، ومحمد بن الحسن، وأبو حذافة؛ وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصاً من فتح الباري.
وقد بين موسى بن عقبة في روايته، عن نافع؛ أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريب من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك، عن نافع فيما أخرجه الدارقطني في الغزو، ولفظه: " وصلى بينه وبين القبلة ثلاثة أذرع". وفي كتاب مكة للفاكهي والأزرقي: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول صلى الله عليه وسلم؟. فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة؛ فعلى هذا: ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع؛ فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كان ثلاثة سواء، وتقع ركبتاه أو يداه أو وجهه في محلهما إن كان أقل من ثلاثة أذرع. والله أعلم.
وفي رواية، عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة أنه - عليه الصلاة والسلام - لما دخل البَيتَ، دعا في نواحيه كلها، ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج، ركع قبل البيت ركعتين، فقال: هذه القبلة. رواه مسلم. والجمع بينه وبين حديث ابن عمر: أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة؛ كما رواه أحمد والطبراني بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه؛ لكونه لم يره حين صلى، وبكون ابن عمر ابتدأ بلالاً بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضاً.
وقال النووي: قد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال؛ لأنه مثبت، فمعه زيادة علم؛ فوجب ترجيحه.
قال: وأما نفي أسامة: فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة، أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت، والنبيُ صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريبٌ منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، وكانت صلاته - عليه الصلاة والسلام - خفيفة؛ فلم يرها أسامة؛ لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملاً بظنه. وأما بلال: فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره، وأقرب ما قيل في الجمع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة؛ لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي؟ كانت في الكعبة؛ فأثبت الصلاة بلال؛ لرؤيته لها، ونفاها أسامة؛ لعدم رؤبته.
ويؤيده: ما رواه أبو داود والطيالسي، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورة، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل صلى الله عليه وسلم يمحوها، ويقول: " قاتل الله قوماً يصورُونَ ما لا يخلقون " ورجاله ثقات. وأفاد الأزرقي في تاريخ مكة: أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه صلى الله عليه وسلم الناس.
وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمس عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة، وفي رواية أبي داود: سبع عشرة، وعند الترمذي: ثماني عشرة، وفي الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسي في تاريخ مكة: كان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان، وكان مما قيل من الشعر في ذلك قول حسان بن ثابت الأنصاري: من الوافر:
عَفَت ذَاتُ الأصابِعِ فَالْجِوَاء ... إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلاءُ
دِيَار مِنْ بني الْحَسحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفيهَا الرَوَامِسُ وَالسَّمَاءُ
وَكَانَتْ لا يَزَالُ بِهَا آنِيسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِن مَن لِطَيْفٍ ... يُؤَرقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاء التِي قد تَيمتُه ... فَلَيسَ لِقَلْبِه منْهَا شِفَاءُ
كَأن سَبِيئَةً مِنْ بَيتِ رَأسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلْ وَمَاءُ
عَلَى أنيابها أو طعم غض ... من التفاحِ هصره الجناء
إِذَا مَا الأشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً ... فَهُن لِطَيبِ الراحِ الْفِدَاءُ
نوليهَا الْمَلامَةَ إِن ألَمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْث أوْ لِحاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكنَا مُلُوكاً ... وَأُسداً مَا يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَم تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعنَ الأعِنةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أكتَافِهَا الأسَل الظمَاءُ
تَظَل جِيَادُنَا مُتَمَطرَاتٍ ... يُلَطمُهُن بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإمَّا تُغرِضُوا عَنا اعتَمَرنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وإلاَّ فَاصْبِروا لِجِلادِ يَومٍ ... يُعِز الله فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجبرِيل رَسُولُ الله فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ الله: قَد أرْسَلتُ عَمداً ... يَقُولُ الحَق إِن نَفَعَ الْبَلاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدقُوهُ ... فَقُلتُمْ: لا نَقُومُ ولا نَشَاءُ
وَقَالَ الله: قَدْ يَسرْتُ جُنْداً ... هُمُ الأنصَارُ عُرْضَتُهَا اللقَاءُ
لَنَا في كُل يَوْمٍ مِنْ مَعَد ... سِبَاب أوْ قِتَال أوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدمَاءُ
ألا بلغ أبَا سُفْيَانَ عَني ... مُغَلْغَلةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأن سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبدَاً ... وَعَبدُ الدَارِ سَادَتُهَا الإمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمداً وَأجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِندَ اللِه في ذَاكَ الْجَزَاء
أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفء؟؟! ... فَشَركُمَا لِخَيركُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مبَاركاً بَراً حَنِيفاً ... أمِينَ الله شِيمَتُه الْوَفَاءُ
أمَن يَهْجُو رَسُولَ الله مِنكُم ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟!
فَإِن أبي وَوَالِدهُ وَعِرْضِي ... لِعِرضِ مُحَمَدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمْ لا عَيْبَ فِيهِ ... وبحري لا تُكَدره الدلاء
قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح، وبلغني عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى النساء يلطمنَ الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر الصديق.
قال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم الديلي يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي من الطويل:
أأنتَ الَذِي تُهدي مَعَد بِأمرِهِ ... بَلِ الله يَفدِيهِم وَقَالَ لَكَ اشهَدِ
وَمَا حَمَلَت مِن نَاقَةِ فَوقَ رَحلِهَا ... أبرَّ وَأوفَى ذِمَةً مِن مُحَمَدِ
أحَثَّ عَلَى خَيرٍ وَأسبَغَ نَائِلاً ... إِذَا رَاحَ كَالسيْفِ الصَقِيلِ الْمُهَندِ
وَأكسَى لِبُرْدِ الخَالِ قَبل ابتِذَالِهِ ... وَأعطَى لِرَأسِ السابِقِ المُتجَردِ
تَعَلم رَسُولَ الله أنكَ مدرِكِي ... وَأنَ وَعِيداً مِنْكَ كَالأخذِ بِالْيَدِ
تَعَلم رَسُولَ الله أنَكَ قَادر ... عَلَى كُل صِرم مُتْهِمِينَ ومُنْجِدِ
تَعَلَمْ بِأن الرَكبَ رَكبَ عُوَيمرٍ ... هُمُ الكَاذِبُونَ المُخْلِفُو كُل مَوْعِدِ
وَنَبوا رَسُولَ الله أني هَجَوتُهُ ... فَلاً حَمَلَتْ سَوطِي إِلَى إِذَن يَدِي
سِوَى أننِي قَد قُلتُ وَيلُ أم فِتيَةِ ... أُصِيبُوا بِنَخسٍ لا بِطَلقٍ وَأسْعُدِ
أصَابَهُمُ مَن لَم يَكُن لِدِمَائِهِم ... كِفَاء فَعَزت عَبرَتِي وَتَبَلُدِي
فَإِنكَ قَد أخفَرتَ إِن كُنتَ سَاعِياً ... بِعَبدِ بنِ عَبْدِ الله وَابنَةِ مَهْوَدِ
ذُوَيب وَكُلْثُوم وَسَلمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعاً فَإِلاَّ تَدمَعِ الْعَيْن أكمَدِ
وَسَلمَى وَسَلمَى لَيسَ حَي كَمِثلِهِ ... وَإخْوتهُ وَهَل مُلُوك كَأعْبُدِ؟!
فَإني لا دِيناً فَتَقتُ ولا دَماً ... هَرَقتُ تَبَين عَالِمَ الحَق وَاقْصدِ
فأجابه بُدَيل بن عبد مناف بن أم أصرم فقال من الطويل:
بَكَى أنس رَزناً فَأعوَزَهُ البُكَا ... فَألاَّ عَدِيا إِذ تُطَلُّ وَتَبْعُدُ
بَكَيتَ أبا عَبسٍ لِقُربِ دِمَائِهَا ... فَتُعذِرَ إِذ لا يُوقِدُ الحَربَ مُوقِدُ
أصَابَهُم يَومَ الخَنَادِمِ فِتيَة ... كِرام فَسَل، مِنهُم نُفَيلٌ وَمَعبَدُ
هُنَالِكَ إن تُسفَح دُمُوعُكَ لا تُلَم ... عَلَيهِم وإن لَم تَدمَع الْعَين فَاكمَدُوا
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال بُجَيرُ بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح: من الوافر:
نَفى أهل الحَبلق كُل فَج ... مُزَينَةُ غُدوَةً وَبَنُو خُفَافِ
ضَرَبنَاهُم بمَكةَ يَؤمَ فَتح الن ... بِي الخَيْرِ بِالبِيضِ الخِفَافِ
صَبحنَاهُم بِسَبعٍ مِن سُلَيم ... وَألفٍ مِنْ بني عُثْمَانَ وَافي
نَطَا أكتَافَهُم ضَرباً وَطَعْنَاً ... وَرَشْقاً بِالْمُرَيشَةِ اللِّطَافِ
تَرَى بَين الصُفُوفِ لَهَا حَفِيفاً ... كَما انصَاعَ الْفُواقُ مِنَ الرصَافِ
فَرُحنَا وَالْجيَادُ تَجُولُ فِيهِم ... بِأرمَاحٍ مُقَوَمَةِ الثقَافِ
فَأُبنَا غَانِمِينَ بِمَا اشتَهَينَا ... وَآبَوا نَادمِينَ عَلَى الْخِلافِ
وَأعطَينَا رَسُولَ الله مِنا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حسنِ التصافِي
وَقَد سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَموا ... غَدَاةَ الرَوْعِ مِنا بِانْصِرافِ
وفيها: غزوة حُنَين بالتصغير، وهو واد فوق ذي المجاز، وقيل: بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف، وتسمى: غزوة هوازن؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا، وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال في اثني عشر ألفاً من المسلمين: عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفان ممن أسلم من أهل مكة، وهم الطلقاء: يعني: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة، وأطلقهم فلم يسترقَهم، واحدهم: طليق، فعيل: بمعنى مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله كما تقدم.
واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد، وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال، فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا إليه وقد تفرقَت أوصالهم من الرعب.
ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به، وجاء بخبرهم.
وفي حديث سهل بن الحنظلية عند أبي داود، بإسناد حسن: أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين إن شاء الله تعالى.
وقوله: عن بكرة أبيهم كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرَتْ هنا.
وقوله: بظعنهم أي: بنسائهم، واحدتها: ظعينة، وأصل الظعينة: الراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها حيث ما ظعن، أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت.
وقيل: الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة: ظعينة. انتهى.
روى يونس بن بكير في زيادة المغازي، عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين: لن نُغلب اليوم من قِلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبَ صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء الدلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قَط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة والناس، فقال أخو صفوان بن أمية: غلبت هوازن، لا يرد هاربهم إلا البحر. فقال له صفوان أخوه: بفيكَ الكِثْكِثُ، لأنْ يَرُبني رجل من قريش خير لي من أن يربني رجل من هوازن رئيسهم مالك بن عوف، ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العباس: وأنا آخذ لجام بغلته أكُفها مخافة أن تصل إلى العدو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل - عليه الصلاة والسلام - يقول للعباس: ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمُرَةِ، يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعوه تحتها إلا يفروا عنه، فجعل ينادي تارة: يا أهل السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة، وكان العباس رجلاً صيتاً، فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبيك يا لبيك، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع، انحدر عنه وأرسله، فرجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم، فقال؛ الآن حَمِيَ الوَطِيسُ، وهو التنورُ، ولم تسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم. وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض، ثم قال: شاهت الوجوه، أي: قبحت، ورمى بها في وجه المشركين، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه من تلك القبضة. وفي رواية مسلم: قبضة من تراب من الأرض.
فيحتمل أنه رمى بذا مرة، وبالأخرى أخرى، ويحتمل أن يكون أخذ قبضةً واحدةً مخلوطة من حصى وتراب.
ولأحمد وأبى داود والدارمي، من حديث أبي عبد الرحمن الفهري، في قصة حنين: فولى المسلمون مدبرين؛ كما قال الله تعالى: " ثُمَ وَليتُم مُّدبِرِين " التوبة: 25، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله، أنا عبد الله ورسوله. ثم اقتحَمَ عن فرسه، وأخذ كَفاً من تراب، قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فهزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء، راوية عن أبي همام، عن أبي عبد الرحمن الفهري، فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأتْ عيناه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلةَ من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد - بالجيم - قال في النهاية: وصف الطست وهي مؤنثة بالجديد، وهو مذكر: إما لأن تأنيثها غير حقيقي، فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلاً يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث؛ كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل. انتهى.
ولأحمد والحاكم، من حديث ابن مسعود: فحادَت به صلى الله عليه وسلم بغلته، فمال السرج، فقلت: ارتفعْ رفعَكَ الله، فقال: ناولني كَفاً من تراب، فضرب وجوههم، وامتلأت أعينهم تراباً، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، فولى المشركون الأدبار.
وروى أبو جعفر بن جرير، بسنده عن عبد الرحمن مولى أم برثن، عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم، جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.
وفي سيرة الدمياطي: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراء أرخَوهَا بين أكتافهم.
وفي البخاري، عن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كان هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها يوكلها فيدفعها في نحر العدو، وهو يقول: من مجزوء الرجز:
أنَا النبِيُ لا كَذِب ... أنا ابنُ عَبدِ المُطلِب
وهذا إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبيُ والنبيُ لا يكذب، فلستُ بكاذب فيما أقول حتى انهزموا، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار.
وأما ما في رواية مسلم، عن سلمة بن الأكوع من قوله: فارجع منهزماً، إلى قوله: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً فقال العلماء: قوله: " منهزماً حال من ابن الأكوع؛ كما صرح أولاً بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزَمَ. وقد قالت الصحابة كلهم: إنه - عليه الصلاة والسلام - ما انهزم، ولم ينقل أحد قط: أنه انهزم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يُعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يَكُفَّانها عن إسراع التقدم إلى العدو.
وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط من المالكية مما حكاه القاضي عياض في الشفاء؛ أن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم - يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن العلامة البساطي تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة - يعني حكم الساب - فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته، فمشكل. انتهى.
قال بعضهم: وقد كان ركوبه - عليه الصلاة والسلام - البغلة في هذ المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب - تحقيقاً لنبوته؛ لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة؛ وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة ولا يصلح لموطن الحرب في العادة إلا الخيل؛ فبين - عليه الصلاة والسلام - أن الحرب عنده كالسلم قوةَ قلب، وشجاعة نَفسِ، وثقة وتوكلاً على الله تعالى. وقد ركبت الملائكة في الحرب معه - عليه الصلاة والسلام - على الخيل لا غير؛ لأنها بصدد ذلك عرفاً دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يُسْهَمُ في الحرب إلا للخيل، والسر في ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى.
وعند ابن أبي شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق معه - عليه الصلاة والسلام - إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجلاً من غيرهم: علي، والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالركاب، وابن مسعود من الجانب الآخر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولون وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل.
وفي شرح مسلم للنووي: إنه ثبت معه - عليه الصلاة والسلام - اثنا عشر رجلاً، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق. ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب: أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط، وذلك لقوله: من الطويل:
نَصَرْنَا رَسُولَ الله في الحَرْب تِسْعَةًوَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَ عَنْهُ فَأقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا لاقَى الحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسهُ في الله لا يَتَوَجعُ
وقد قال الطبراني: الانهزام المنهيُّ عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكرة فهو كالتحيز إلى فئة.
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : من مجزوء الرجز:
أنَا النبِيُ لا كَذِبْ ... أنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطلِبْ
فقال العلماء: إنه ليس بشعر؛ لأن الشاعر إنما سمي شاعراً؛ لوجوه: منها: أنه شعر المقول وقصده واهتدى إليه وأتى به كلاماً موزوناً على طريقة العرب مقفُّى، فإن خلاً من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعراً ولم يكن قائله شاعراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصدْ بكلامه ذلك الشعر ولا أراده، فلا يعد شعراً وإن كان موزوناً.
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: أنا ابن عبد الله: فأجيب بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه؛ لأن أباه توفي في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده - عليه الصلاة والسلام - وكان عبد المطلب مشهوراً شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد قريش، وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطلب؟ وقيل غير هذا.
وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون في القتل إلى الذرية فنهاهم - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك، وقال: " من قتل قتيلاً له عليه بينة، فله سلبه " ، واستلبَ طلحة وحده ذلك اليومَ عشرينَ رجلاً.
قال ابن القيم في الهدي النبوي: كان الله تعالى وعد رسوله إذا فتح مكة، دخل الناس في دين الله أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها. فلما تم الفتح المبين، اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يتجمعوا ويتألبوا لحربه - عليه الصلاة والسلام - ليظهر أمره تعالى وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعدُ أحَد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهْم وعددِهْمِ وقوة شوكتهم ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل - عليه الصلاة والسلام - واضعاً رأسه منحنياً على مركوبه؛ تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته؛ أن أحل له بلده ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده؟ ليبينَ سبحانه لمن قال؛ " لن نُغلب اليوم من قلة " : أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأنه من ينصره فلا غالبَ له، ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لن تغني عنكم شيئاً، فوليتم مُدبرين. فلما انكسرَتْ قلوبهمِ، أرسلت خلِع الجبر من بريد: " أنزَلَ اللهُ سَكيِنتَه عَلىَ رَسُوله وَعَلىَ المؤمنِينَ وَأنزلَ جُنوداً لم تَروْهَا " التوبة: 26، وقد اقتضت حكمته تعالى أن خِلَعَ النصرِ وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار: " وَنرُيد أن نمُنَّ عَلَى الَذِينَ أستُضعِفُوا فيِ الأرضِ " القصص: 15.
قال: وبهاتين الغزاتين - أعني حنيناً وبدراً - قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه المشركين فيهما - انتهى.
وأمر صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس اسم مكان، وقتل من المشركين أكثر، من سبعين قتيلاً.
ومما قيل من الشعر في غزوة حنين قول العباس بن مرداس، يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت: من الوافر:
ألا من مُبلِغ غَيلانَ عَني ... وَسَوفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الخَبِيرُ
وَعُروَةَ إنمَا أُهدِي جَوَاباً ... وقَولاً غَيرَ قَولِكُمَا يَسِيرُ
بِأن مُحَمدَاً عَبْد رَسُول ... لِرَب لا يَضل ولا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِياً مِثْلَ مُوسى ... فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الأمْرُ أمْرُ بني قَيس ... بِوَج إِذْ تقُسمتِ الأُمُورُ
أضَاعُوا أمْرَهُمْ وَلِكُل قَوْمِ ... أمِيرٌ وَالدوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتِ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ الله ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمعَ بني قَسيّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأقْسِمُ لَوْ هُمُو مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إٍلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ ولَمْ يَغُورُوا
فَكُنا أُسْدَ لِيةَ ثَم حَتَى ... أبَحْنَاهَا وأُسْلمتِ النصُورُ
وَيَوم كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأقْلَعَ وَالدمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنَ الأيامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْم ... وَلَمْ يَسمعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلنَا في الغُبَارِ بني حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْل يُعَاتبُ أوْ نَكِيرُ
أقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لمبْصِرِهَا الأمُورُ
فَأفلَتَ مَن نَجَا مِنهُمْ جَرِيضاً ... وَقُتِّلَ مِنهُمُ بَشَر كَثِيرُ
ولا يُغْنِي الأُمُور أخُو التَوَانِي ... ولا الْغَلِقُ الصُّرَيرَةُ الْحَصُورُ
أحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَملكُوهُ ... أُمُورَهُمُ وَأفْلَتَتِ الصقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِم جِيَاد ... أُهِينَ لهَا الْفَصَافِصُ وَالشَعِيرُ
فَلَوْلا قَاربْ وَبَنُو أبِيه ... تُقُسمّتِ الْمَزَارعُ وَالْقُصُورُ
وَلكِن الريَاسَةَ عُممُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ أشَارَ بهِ الْمُشِيرُ
أطَاعُوا قَارِباً وَلَهُمْ جُدُود ... وَأحْلام إلَى عِزَّ تَصيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الإسْلامِ يُلْفَوا ... أُنُوفَ الناسِ مَا سَمَرَ السمِيرُ
وَإنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أذَان ... بِحَرْبِ الله لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكَت بني سَعْدِ وَحَرْب ... بِرهْطِ بني غَزِيةَ عَنْقَفِيرُ
كَأن بني مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكرٍ ... إِلَى الإِسْلامِ صائِنَة تَخُورُ
فَقُلْنَا: أسْلِمُوا إِنا أخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصدُورُ
كَأن الْقَومَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السلْمِ عُورُ
قال ابن هشام: غيلان: غيلان بن سلمة الثقفي، وعروة: عروة بن مسعود الثقفي.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعةُ بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة ابن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس - وكان يقال له ابن الدغنة، وهي أمه، فغلبت على اسمه، ويقال: ابن لذغة فيما قاله ابن هشام - دُرَيْد بن الصمةِ، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار له فإذا هو برجل، فأناخ به فإذا شيخ كبير، فإذا هو دريد بن الصمة، فتعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بى؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه، فلم يُغْنِ فيه شيئاً، فقال: بئسما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ؛ فإني كذلك كنت أضرب الرجال. ثم إذا أتيت أمك، فأخبرها أنك قد قتلت دريد بن الصمة، فَرُب يوم قد منعت فيه نساءك. فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل إعراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه، أخبرها بقتله إياه، فقالت: أما والله لقد أعتَقَ أمهاتٍ لكَ ثلاثاً.
وقالت عمرة بنت دريد في قتل ربيعة دريداً: من الوافر:
لَعَمرُكَ مَا خَشيِتُ عَلَى دُرَيدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيرَةٍ جَيشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عنه الإلهُ بني سُلَيم ... وَعَقتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقِ
وَأسقَانَا إِذَا قُدْنَا إِلَيْهِم ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التَلاقِي
فَرُب عَظِيمَة دَافَعْتَ عَنْهم ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التراقِي
وَرُب كَريمَةٍ أعتَقتَ مِنهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْتَ مِن الْوَثَاق
وَرُب مُنَوهٍ بِكَ من سُلَيمِ ... أجَبْتَ وَقَدْ دَعَاكَ بِلا رِمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقاً ... وَهَما مَاعَ مِنْهُ مُخ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيلِكَ بَعدَ أيْنٍ ... بذي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النهاقِ
وقال عباس بن مرداس: من الطويل:
تَقَطعَ بَاقِي وَصلِ أُم مُؤَملٍ ... بِعَاقِبَةٍ وَاستَبدَلَت نِيةً خُلْفَا
وَقَد حَلَفَت بِالله لا تَقطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ ولا بَرَتِ الْحَلْفَا
خُفَافِيةْ بَطنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَل في الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فإِن تَتْبَعِ الْكُفارَ أمُ مُؤَملٍ ... فَقَدْ زَوَدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأيِهَا شَغْفَا
وَسَوْفَ يُنَبيهَا الخَبِيرُ بأننَا ... أبَينَا وَلَم نَطْلُبْ سِوَى رَبنَا حِلْفَا
وَأنا مَعَ الْهَادِي النبِي مُحَمدٍ ... وَفَينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَر ألْفَا
بِفِتيَانِ صِدقٍ من سُلَيمٍ أعِزةٍ ... أطَاعوا فمَا يَعصُونَ مِنْ أمرِهِ حَرفَا
خُفَاف وَذَكْوَانٌ وَعَوْفْ تَخَالُفهم ... مَصَاعِبَ زَافَت في طَرُوقَتِهَا كُلفَا
كَأن النسِيجَ الشهْب وَالبِيضَ مُلْبَسٌ ... أُسُوداً تلاقَتْ في مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزَّ دِينُ الله غَيرَ تَنَحُلٍ ... وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَذي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكةَ إِذ جِئنَا كَأن لِوَاءَنَا ... عُقَاب أرَادَت بَعدَ تَحلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخصِ الأبصَارِ تَحسِبُ بَينَهَا ... إِذَا هي جَالَت في مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئنَا الْمُشرِكِينَ وَلَم نَجِد ... لأمْرِ رَسولِ اللِه عَدلاً ولا صِرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لا يَسْمَعُ الْقومُ وَسطَهُ ... لَنَا زحمَةً إلا التذَامُرَ والنقْفَا
بِبِيضِ نُطِيرُ الهَامَ عَن مُسْتَقَرهَا ... وَنَقْطِفُ أعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
وَكَائِنْ تَرَكنَا من قَتِيلٍ ملحبٍ ... وَأرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعلِهَا: لَهْفَا
رِضَا الله نَنْوي لا رِضَا الناسِ نَبْتَغِي ... وَللِّه مَا يَبدُو جَمِيعاً وَمَا يَخْفَى
وقال مالك بن عوف يعتذر من فراره يومئذ: من الكامل:
مَنَعَ الرقَادَ فَمَا أُغَمِّضُ سَاعَةً ... نَعَم بِأجْزَاعِ الطَرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِل هَوَازِنَ هَل أضُزَ عَدُوَهَا ... وَأُعِينُ غَارِمَهَا إذَا ما يَغْرَمُ؟
وَكَتِيبَةٍ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِر وَمُلأمُّ
وَمُقَدمٍ تَعْيَا النفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدمْتُهُ وَشُهُودُ قَوْمِي أعْلَمُ
فَوَرَدتُه وَتَرَكتُ إِخوَاناً لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وغَمْرَتُهُ الدَمُ
فَإِذَا انجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أورَثنَنِي ... مَجدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمٍ يُقْسَمُ
كَلفتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمًدٍ ... والله أعلَمُ مَنْ أعَق وَأظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إِذْ أُقَاتِلُ وَاحِداً ... وَخَذَلْتُمُونِي إِذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيتُ المَجْدَ يَهدِمُ بَعْضُكُم ... لا يَسْتَوِي بَانِ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأقَب مِخْمَاصِ الشتَاءِ مُسَارع ... في الْمَجْدِ يُنمَي لِلْعُلا مُتَكَرم
أكرَهتُ فِيهِ ألَّةً يَزَنِية ... سَحمَاءَ يَقدُمُهَا سِنَان سَلْجَمُ
وَتَرَكْتُ حَنتَهُ تَرُدُ وَليهُ ... وَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَى فُلآنَهَ مُقْدَمُ
وَنَصَبْتُ نَفسِي لِلرمَاح مُدَججاً ... مِثْلَ الدريئَةِ تُسْتَحَل وَتُشْرَمُ
وفيها: غزوة الطائف، خرج صلى الله عليه وسلم في شوال فحاصرهم ثمانية عشر يوماً أو ثلاثين، بل في مسلم عن أنس: حاصرهم أربعين ليلة، ونصب عليهم المنجنيق، واستشهد من المسلمين اثنا عشر، وقاتل بنفسه، ولم يؤذن له في فتحه، فرجع إلى المدينة بعد غيبة شهرين وستة عشر يوماً، فقدم عليه بَعْدُ وفْدُهُمْ، فأسلموا.
ولما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى الطائف حين فرغ من حنين، قال كعب بن مالك: من الوافر:
قَضَينَا من تِهَامَةَ كُل رَيبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُم أجْمَمْنَا السيُوفَا
نخَبًرُهَا وَلَو نَطَقَت لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُن دَوساً أوْ ثَقِيفَا
فَلَستُ لِحَاضِنٍ إن لَم تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دارِكُمْ مِنا أُلوفا
وَنَتتَزعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَج ... وَتُصبِحُ دُورُكُم مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأتيكُم لَنَا سَزعَانُ خَيل ... يُغَادِرُ خَلفَهُ جَمْعاً كَثِيفَا
إِذَا نَزَلوا بسَاحَتِكُم سَمِعتُم ... لَهَا مِما أناخَ بهَا رَجيفَا
بِأيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَات ... يُزِرْنَ الْمُسْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأمْثَالِ العقَائِقِ أخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيةَ الأبطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزحْفِ جَادِيَّاً مَدُوفَا
أجَدهُم ألَيْسَ لهُمْ نَصِيح ... مِنَ الأقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبرُهُمْ بِأنا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنجُبَ الطُرُوفَا
وأنا قَدْ آتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمُ صُفُوفَا
رئيسُهُمُ النَبِيُّ وَكَانَ صُلْباً ... نَقِيَّ الْقَلْبِ مُصطَبِراً عَزُوفَا
رَشيدَ الأمرِ ذَا حُكْم وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقاً خَفِيفَا
نُطيعُ نَبِينَا وَنُطِيًعُ رَباً ... هُوَ الرَحْمنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فإِنْ تُلْقُوا إِلَيْنَا السلْمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُداً وَرِيفَا
وإنْ تَابَوا نُجَاهدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... ولا يَكُ أمْرُنَا رَعِشاً ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أوْ تُنِيبُوا ... إلَى الإسْلامِ إذعَاناً مُضِيفَا
نُجَاهِدُ ما نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أأهلَكْنَا التلادَ أمِ الطَّرِيفَا
وَكَم مِنْ مَعشَرِ ألَبُوا عَلَينَا ... صَمِيمَ الجِذمِ منهم وَالْحلِيفَا
أتَونَا لا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدَعْنَا الْمَسَامِعَ وَالأنوفَا
بكُل مُهَندٍ لَين صَقِيلٍ ... نَسُوقُهُمُ بِهَا سَوْقاً عَنِيفَا
لأمْر اللٌه وَالإسْلامِ حَتَى ... يَقُومَ الدينُ مُعْتَدِلاً حَنِيفَا
وتنسى اللاتُ وَالعُزى وَوَد ... وَنَسْلُبهَا الْقَلائد وَالشُّنُوفَا
فَأمْسَوْا قَدْ أقرُوا وَاطْمَأنوا ... وَمَنْ لا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
قال في المواهب بعد ذكر أن الطائف على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق كثير الأعناب والفواكه، قيل: إن أصلها أن جبريل اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها هناك فسمى الموضع بها، وكانت أولاً بنواحي صنعاء. واسم الأرض وج بتشديد الجيم.
وسار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين، وحبس الغنائم بالجعرانة، وقدَم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس؛ دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم؛ بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة وتهيئوا للقتال.
ولما سار صلى الله عليه وسلم مرَ في طريقه بقبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف فيما يقال، فاستخرج منه غصناً من ذهب، ونزل قريباً من الحصن وعسْكَرَ هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً كأنه رَجل جراد؛ حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، فيهم عبد الله بن أبي أمية، ورمى عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ بجرح، فاندمل، ثم نقض عليه بعد ذلك؛ فمات منه في خلافة أبيه.
وارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة، وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، ويقال خمسة عشر يوماً، ونصب عليهم المنجنيق، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين، ووضع المسلمون الرايات بأصل الحصن، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة وهي أخشاب متسعة الأجواف، تدفع في جدار الحصون، فيدخلها الرجال؛ لنقب جدارها - فرمتهم ثقيف بالنبل؛ فقتل منهم رجال، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إني أدعها؛ لله وللرحم، ثم نادى مناديه - عليه الصلاة والسلام - : أيما عبد نزل من الحصن، وخرج إلينا، فهو حر، قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلاً، منهم أبو بكرة، وعند مغلطاي: ثلاثة وعشرون عبداً.
وفي البخاري عن عثمان النهدي قال: سمعت سعداً، وأبا بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عاصم: " لقد شهد عندي رجلان: أما أحدهما: فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر: فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف... " الحديث.
وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه؛ فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، وأمر عمر بن الخطاب؛ فأذن في الناس بالرحيل؛ فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال؛ فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً - إن شاء الله - فسروا بذلك، وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قال النووي؛ قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم، والرفق بالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام، والجهاد أقام وجدّ في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولاً من الرفق، وفرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم؛ تعجباً من تغير رأيهم، وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - وهي في يده - : أيهما أحب إليك: عين في الجنة، أو أدعو الله أن يردها عليك. فقال: بل عين في الجنة، فرمى بها، وشهد اليرموك فقاتل، وفقئت عينه الأخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب.
وقال صلى الله عليه وسلم للصحابة: قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا قال: قولوا آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
فانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع الصحابة، واتخاذ الخيل، والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الجهاد، والسفر، ثم إذا رجع - عليه الصلاة والسلام - يتعرى من ذلك، ويرد الأمر كله لمولاه - عز وجل - لا لغيره؛ لقوله: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وانظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وهزم الأحزاب وحده " فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة؛ لأن الإنسان وفعله خلق لربه - عز وجل - فهو لله - سبحانه وتعالى - الذي خلق، ودبر، وأعان، وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر من غير قتال - لفعل، قال تعالى: " ذَلِك وَلَو يشاءُ اللهُ لانتصَرَ مِنهُم وَلَكِن ليبلُوَا بَعضَكم بِبَعض " محمد: 4، ليثبت الصابرين ويجزي الثواب للشاكرين، قال تعالى: " وَلَنَبلُوَنكُم حَتى نَعلَمَ المجاَهِدِينَ مِنكم وَالصابرِينَ وَنَبلُوا أخباركم " محمد: 31، فعلى المكلف الامتثال في الحالتين، أي امتثال تعاطى الأسباب؛ تأدباً مع الربوبية، كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم أولاً؛ تأدباً مع الربوبية، وتشريعاً لأمته، ثم يظهر الله ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له - عليه الصلاة والسلام - قاله ابن الحاج في المدخل. ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف، قال: " اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم " .
وكان - عليه الصلاة والسلام - قد أمر أن يجمع السبي، والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين، فجمع ذلك كله إلى الجعرَانة، فكان بها إلى أن انصرف - عليه الصلاة والسلام - من الطائف، وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، واستأنى صلى الله عليه وسلم ب " هوازن " أي انتظر - وتربص أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة، ثم بدأ يقسم الأموال.
وفي البخاري: وطفق صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل، منهم: أبو سفيان، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابي التميمي، وأعطى العباس بن مرداس السلمي ستين، فسخطها، ثم أتى إليه - عليه الصلاة والسلام - فأنشد: من المتقارب:
أتجْعَلُ نَهْبِى ونَهبَ العَبِي ... دِ بين عُيَيْنَةَ والأقْرعَ
فَمَا كَانَ حِصْنْ ولا حَابس ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَع
ومَا كُنْتُ دُون امرِئٍ مِنهُمَا ... ومَن تَضَعِ اليَومَ لا يُرْفَعِ
فقال - عليه الصلاة والسلام - : لعلي " اقطع لسانه عني " ؛ فأكمل له مائة؛ فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله، يعطى قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ثم قال لهم: أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، والشاء، والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: يا رسول الله قد رضينا.
وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلون من حنين، علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب حتى اضطرته إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف صلى الله عليه وسلم فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني: بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً. رواه ابن جرير في تهذيبه.
وذكر محمد بن سعد - كاتب الواقدي - عن ابن عباس أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة، فقسم الغنائم، ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال، قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف.
والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً، فأحرم بعمرة، ودخل مكة وفي تاريخ الأزرقي عن مجاهد أنه - عليه الصلاة والسلام - أحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة. وعند الواقدي من المسجد الأقصى، الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، فكانت صلاته - عليه الصلاة والسلام - إذا كان بالجعرانة به، والجعرَانة موضعَ بينه وبين مكة بريد - يعني اثني عشر ميلاً - كما قاله الفاكهي، وقال الباجي: ثمانية عشر ميلاً، وسمي بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلي، أخذها السيل، فوصل بها إلى هذا المحل، فوجدت ثمة، فسمى المحل بها.
قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوماً.
قال ابن هشام: ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى في قريش، وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئاً، قال حسان بن ثابت، يعاتبه في ذلك: من البسيط:
زار الهُمُوم فماءُ العَين مُنحَدرُ ... سَحا إنا حَفلَتهُ عَبْرةْ دررُ
وجداً بِشَيماءَ إذْ شَيماءُ بَهكَنَة ... هَيفَاءُ لا دَنَسٌ فِيهَا ولا خَوَرُ
دَع عَنكَ شيماء إِذ كَانَت مَوَدتُهَا ... نَزراً وَشَرُ وِصَالِ الوَاصِلِ النزرُ
وائتِ الرسُولَ فَقَل يَا خَيرَ مؤْتَمن ... للمُؤمنينَ إِذَا مَا عُدِّدَ البَشَرُ
عَلامَ تُدعَى سُلَيم وفي نَازِحَة ... قُدامَ قَومِ هَمُ آووا وَهُم نَصَرُوا؟!
سماهُمُ الله أنصَاراً بِنَصرِهِمُ ... ديِنَ الهُدَى وعَوَانُ الحَربِ تَستَعِرُ
وسَارَعُوا في سَبيلِ الله واغتَرفُوا ... للنائباتِ ومَا خَامُوا ومَا ضَجرُوا
والناسُ إلب علينَا فيكَ لَيسَ لَنَا ... إلا السيوف وأطرَافُ القَنَا وزرُ
نجالد الناسَ لا نُبقِي عَلَئ أحَدِ ... ولا نُضَيعُ مَا توحِي بِهِ السوَرُ
وَلاً تهرُ جُنَاةُ الحربِ نادينَا ... ونحنُ حينَ تلظى نَارُهَا سعر
كَمَا رَدَدنَا ببدرِ دَونَ مَا طَلَبُوا ... أهلَ النفَاقِ وَفينَا يَنزِلُ الظفَرُ
ونَحنُ جُندُكَ يوم النعفِ من أُحُدٍ ... إِذ حَزبَت بَطَراً أحزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَينَا ومَا خمنَا وما خبرُوا ... منا عثَارا وكل الناسِ قَد عَثَرُوا