سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
حوادث السنة التاسعة
فيها غزوة تبوك - وهي العسرة والفاضحة - في رجب، لما بلغه أن الروم تجمعت في الشام مع هرقل، وقد اشتملت على أمور للمنافقين فضحوا بها؛ وفيها تاب الله على الثلاثة الذين خُلفوا: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة وانصرف ولم يلق كيداً.
قال في المواهب: وكانت يوم الخميس، في رجب، سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكرُ البخاري لها بعد حجة الوداع لعله خطأ من النساخ. وكان يومئذ حر شديد وجدب؛ فلذلك لم يُوَر عنها كعادته في سائر الغزوات. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر قال: خرجوا في قلة من الظهر، وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء، وفي الظهر، والنفقة فسميت غزوة العسرة.
وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة - أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل، فندب صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وروى الطبراني من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة قد أصابتهم سنون، فهلكت أموالهم فبعث رجلاً من عظمائهم، وجهز معه أربعين ألفاً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد عير إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها، وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعدها. وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير، وسبعين فرساً. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فرأيته صلى الله عليه وسلم يقبلها فى حجره، ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعند الفضائلي، والملا في سيرته كما ذكره الطبري في الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان - يعنى في جيش العسرة - بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم، يقول بيده ويقلبها ظهراً ببطن ويقول: " غفر الله لك يا عثمان، ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها " .
ولما تأهب صلى الله عليه وسلم للخروج، قال قوم من المنافقين؛ لا تنفروا في الحر، فنزل قوله - تعالى - " لا تنَفِرُوا في الحر قُل نَارُ جَهم أشَدُّ حَراً لَو كانوُا يَفقَهُونَ " التوبة: 81 وأرسل - عليه الصلاة والسلام - إلى مكة، وقبائل العرب، يستنفرهم، وجاء البكاءون يستحملونه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : لا أجد ما أحملكم عليه، وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عتمة، وعبد الله ابن مغفل، وعبد الله ابن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام، ومغفل المزني، وحضرمي بن مازن، والنعمان، وسويد، ومعقل وعقيل، وسنان، وعبد الرحمن، وهند، بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: " تَوَلوَا وأعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ آلدَّمعِ حَزَناً ألا يجدو مَا ينُفِقُونَ " التوبة: 92، قاله مغلطاي.
وفي البخاري عن أبي موسى قال: " أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك؛ لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، فرجعت حزيناً من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: خذ هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين - لستة أبعرة ابتاعها حيتئذ من سعد - فانطلق بهما إلى أصحابك، فقل: إن الله وإن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن... " الحديث. وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل، وبكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق فليقم، فأقوم إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: " أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " . رواه يونس كما ذكره السهيلي في الروض والبيهقي في الدلائل.
وجاء المعذرون من الأعراب، ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلاً، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطي: وهو عندنا أثبت ممن قال غيره انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي - في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب - : لم يتخلف عن المشاهد إلا في تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال له يومئذ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، ورجحه ابن عبد البر، وقيل: استخلف سباع بن عرفطة.
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية، وفيهم نزل " وَعلى الثلاثةِ الذين خلفُوا " التوبة: 118، وأبو ذر، وأبو خيثمة، ثم لحقاه بعد ذلك، ولما رأى - عليه الصلاة والسلام - أبا ذر الغفاري وكان - عليه الصلاة والسلام - نزل في بعض الطريق، قال: " يمشي وحده، ويعيش وحده، ويموت وحده " ، فكان كذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية، وكان معه - عليه الصلاة والسلام - ثلاثون ألفاً، وعند أبي زرعة سبعون ألفاً، وفي رواية عنه - أيضاً - أربعون ألفاً، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.
ولما مر - عليه الصلاة والسلام - بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - بديار ثمود قال: لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس، إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجة، وخرج الآخر لطلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته، فخنق على مذهبه، وأما الذي خرج لطلب بعيره، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيئ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم؟! ثم دعا للذي خنق على مذهبه، فشفي، وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي حميد: انطلقت حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهب الليلة عليكم ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد رحله، فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيىء. وروى الزهري: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سَجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته، ثم قال: " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون، خوفاً أن يصيبكم ما أصابهم " . رواه الشيخان.
ولما كان صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ضلت ناقته، فقال زيد بن لصيب، وكان منافقاً: أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رجلاً يقول مقالة، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فانطلقوا فجاءوا بها. رواه البيهقي وأبو نعيم.
وفي صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل " أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض بشيء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء، ثم غسل صلى الله عليه وسلم وجهه، ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت بماء كثير فاستقى الناس... " الحديث.
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة، فصالحه، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جربا بالجيم وأذرح بالذال المعجمة، والراء والحاء المهملة - بلدين بالشام بينهما ثلاثة أيام - فأعطوه الجزية وكتب لهم صلى الله عليه وسلم كتاباً، ووجد هرقل بحمص فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصراني وكان ملكاً عظيماً ب " دومة الجندل " في أربعمائة وعشرين فارساً في رجب سرية، وقال له - عليه الصلاة والسلام - : إنك ستجده ليلاً يصيد البقر، فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها هو وأخوه حسان، فشدت عليه خيل خالد فاستأسر أكيدر، وقتل أخوه حسان، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد أكيدر من القتل؛ حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة فرس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح.
وفي هذه كتب صلى الله عليه وسلم كتاباً في تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب، رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس. وفي مسند أحمد: أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب، هو على نصرانيته. وفي كتاب الأموال لأبي عبيدة بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحوه ولفظه: فقال كذب عدو الله، ليس بمسلم.
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد أن أقام بضع عشرة ليلة، وقال الدمياطي - ومن قبله ابن سعد - عشرين ليلة، يصلي بها ركعتين، ولم يلق بها كيداً، وبنى في طريقه مساجد. وأقبل - عليه الصلاة والسلام - حتى إذا نزل ب " ذى أوان " بفتح الهمزة بلفظ الأوان للحين، وبينها وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء، فدعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي العجلاني، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، وحرقاه، فخرجا فحرقاه وهدماه، وذلك بعد أن أنزل الله فيه " وَالذينَ اتخذوا مَسجداً ضِرَاراً وَكُفراً " التوبة: 107، الآية.
قال الواحدي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: إن الذين اتخذوا مسجد الضرار قالوا: نقيل فيه فلا نحضر خلف محمد، قال المفسرون: ولما بنوا ذلك؛ لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: قالوا: يا رسول الله بنينا مسجداً، لذي العلة، والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة فقال - عليه الصلاة والسلام - إني على جناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه - فلما قفل من غزوة تبوك، سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية.
ولما دنا صلى الله عليه وسلم خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء، والصبيان، والولائد يقلن: من مجزوء الرمل:
طَلَعَ البَدرُ علينَا ... منْ ثَنِياتِ الوَدَاع
وَجَبَ الشكرُ عَلَينَا ... مَا دَعَا للهِ دَاع
وقد وهم بعض الرواة - كما قدمته - إذ قال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام.
وفي البخاري لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فدنا من المدينهَ قال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر، وهو يؤيد معنى ما روى " نية المرء خير من عمله " فإن نية هؤلاء أبلغ من عملهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم، والمسابقة إلى الله - تعالى - إلى الدرجات العلا بالنيات، والهمم، لا بمجرد الأعمال.
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على المدينة، قال: هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا، ونحبه. ولما دخل قال العباس: يا رسول الله، ائذن لي أمتدحك، قال: " قل لا يفضض الله فاك " . وقد تقدم ذكرها، وتبيين غريب ألفاظها، ومعانيها.
وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه، فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب، وصاحبيه حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: " لَقَد ئاب اللهُ عَلىَ النبيِ والمهاجرينَ وَالأنصارِ " إلى " إنَ اللهَ هُو التوَاب الرَحَيم " التوبة: 117، 118، والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة.
وعند البيهقي في الدلائل من مرسل سعيد بن المسيب، " أن أبا لبابة لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه، أنه الذبح فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك. فلبث حيناً، ورسول الله عاتب عليه، ثم غزا تبوكاً، فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاء أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة فارتبط بسارية التوبة سبعاً، وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي... " الحديث. وعنده - أيضاً - من حديث ابن عباس من قوله تعالى: " وآخَرُونَ اعتَرَفوُا بِذُنوبِهِم خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سيئاً " التوبة: 102، قال: " كانوا عشرة تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فقال: من هؤلاء؟ قالوا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم، وتعذرهم، قال: أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو، فأنزل الله تعالى: " وَآخَرون اعتَرَفوُاْ بِذُنوُبِهِم " التوبة: 102، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقوا، وعذروا... " الحديث.
قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر العجلاني امرأته حبلى؛ فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما.
وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال حسان بن ثابت، يعدد أيام الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه: من البسيط:
ألسْتَ خَيرَ مَعَدٍ كلهَا نفراً ... ومَعشَراً إن هُم عُمُّوا وإنْ حُصِلُوا
قَومَ هُمُ شَهِدُوا بَدراً بأجمَعِهِمْ ... مَعَ الرَسُولِ فَمَا ألَوْأ وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُث بِهِ أحَدْ ... منهُمْ وَلَمْ يَكُ في إِيمَانِهِمْ دَخَلُ
ويومَ صَبحَهُم في الشعبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضرب رَصِينٌ كَحَر النارِ مُشْتَعِلُ
ويوم ذي قَرَدٍ يومَ استثَارَ بهم ... عَلَى الجِيادِ فَمَا خَامُوا وما نَكَلُوا
وذَا العُشَيرةِ جاسُوها بخَيلِهمُ ... مَعَ الرسولِ عليهَا البيضُ والأسَلَ
ويومَ ودانَ أجْلَوا أهلَهُ رَقَصاً ... بالخَيل حتى نَهَانا الحزنُ والجبلُ
وليلَةَ طلَبُوا فيها عدُوهُمُ ... لله واللهُ يجزِيهمْ بِمَا عَمِلُوا
وغزوةَ يَومَ نَجْدٍ ثم كانَ لَهُم ... مَعَ الرسول بهَا الأسْلابُ والنفلُ
وليلةً بحنينٍ جَالدُوا معهُ ... فيها يعلهم بالحْربِ إذْ نهَلُوا
وغَزوةَ القَاعِ فرقنَا العدو بهِ ... كَمَا تَفرَق دون المشربِ الرَسَلُ
ويومَ بُويعَ كانُوا أهلَ بيعَتِهِ ... عَلى الجِلادِ فآسَوهُ ومَا عَدَلُوا
وَغزوةَ الفتحِ كانُوا في سريتِهِ ... مُرَابطِينَ فَمَا طاشُوا ومَا عَجِلُوا
ويومَ خَيبرَ كانُوا في كَتيبَتِهِ ... يَمشُونَ كلُهُمُ مسْتبسِل بَطَلُ
بالبيضِ تُرعَشُ في الأيمَانِ عَارِيةً ... تعوجُ في الضَربِ أحياناً وتعتَدلُ
ويومَ سارَ رَسول الله محتَسِباً ... إلى تبوكَ وهمْ راياتُهُ الأولُ
وسَاسَةُ الحربِ إن حربٌ بدَت لهمُ ... حتَى بَدَا لهُمُ الإقْبَالُ والقَفَلُ
أولئكَ القومُ أنصَارُ النبي وهم ... قَومِي آصِيرُ إليهم حينَ أتصِلُ
ماتُوا كِراماً ولم تُنكَث عهُودُهمُ ... وقَتلُهم في سبيل الله إِذْ قتلُوا
وقال حسان بن ثابت أيضاً: من الطويل:
وكنا ملوكَ الناسِ قبلَ محمدٍ ... فلفا أتى الإسَلامُ كانَ لنَا الفضْلُ
وأكرمنَا الله الذي ليسَ غيرُه ... إله بأيامٍ مَضَتْ مَا لها شَكلُ
بنصرِ الإلَهِ والرسولِ ودينِهِ ... وألبسنَاهُ اسماً مَضَى مَا له مثلُ
أولئك قومِي خيرُ قَومٍ بأسرِهم ... فَمَا عُدَ من خَيرٍ فقومِي لهُ أهلُ
يَرُبونَ بالمعروفِ معروفَ من مَضَى ... وليسَ عليهم دُونَ معروفِهم قفلُ
إِذا اختُبطُوا لم يفحِشُوا في نديهم ... وليسَ عَلَى سُؤالهم عِندهم بخلُ
وإن حَارَبُوا أو سَالموا لَم يشبهُوا ... فحربُهُمُ حتف وسَلمُهُمُ سَهلُ
وَجَارهُمُ موفِ بعليَاء بَيتُهُ ... لَهُ ما ثوى فينَا الكَرامةُ والبَذْلُ
وحامِلُهم موفٍ بكل حَمَالةٍ ... تحمل لا غرمٌ عليه ولا خَذلُ
وقائلُهم بالحق إن قَال قَائِل ... وحِلمُهُمُ عَود وحكمُهُمُ عَدلُ
ومنا أمينُ المسلِمينَ حياتَهُ ... وَمن غسلتهُ من جَنَابَتِهِ الرّسلُ
وقال أيضاً: من المتقارب:
قَومي أولئِكَ إِن تَسألِي ... كرام إذا الضيفُ يوماً ألَم
عِظَامُ القُدُورِ لأيسَارِهم ... يكبونَ فيها السمينَ السَّنِمْ
يُواسُونَ جَارهُمُ في الغِنَى ... ويَحمُونَ مَولاهُمُ إن ظُلِم
فكَانُوا مُلُوكاً بَأرضيهِمُ ... ينادونَ غُضباً بِأمر غشم
مُلوكاً عَلَى الناسِ لَم يُملَكُوا ... مِنَ الدهرِ يَوماً كحِل القَسَم
فَأنبَوا بِعَادِ وأشيَاعها ... ثَمُود وبعض بَقَايَا إرَم
بيثربَ قَدْ شيدُوا في النخِيل ... حُصوناً ودُجنَ فيها النعَم
نَواضِحَ قَذ علَّمَتهَا اليهو ... دُ عل إليكَ وَقَوْلاً هَلم
وفيها اشتَهوا من عصِير القِطَافِ ... وعيش رخى عَلَى غيرِهم
فَسِرنَا إِليهِم بأثقَالِنَا ... عَلَى كلِّ فَحلٍ هِجَانٍ قِطم
جَنَبنَا بهن جِيَادَ الخيو ... لِ والزحفُ من خَلفِهم قَد دهَم
فَطَارُوا سَراعاً وقَد أُفزِعُوا ... وجئنَا إليهِم كَأُسدِ الأجَم
عَلَى كُل سَلْهَبَةِ في الصِّيَا ... ن لا تستَكينَ لطُولِ السأمْ
وكل كميت مُطَارِ الفُؤَاد ... أمينِ الفُصوصِ كمِثل الزُّلم
عَلَيهَا فوارسُ قَد عودُوا ... قِرَاعَ الكمَاةِ وضربَ البُهَم
ملوك إِذَا غَشَمُوا في البِلا ... دِ لا يَنكلُونَ ولكِنْ قُدُم
فأُبنَا بِسَادَاتهم والنسَاء ... وَأولادهُم فيهمُ تقتَسمْ
ورِثنا مسَاكنهُم بعدَهُم ... وكنا ملوكاً بِهَا لم نرِم
فلما أتانَا الرسول الرشي ... دُ بالحق والنورِ بعْدَ الظلَمْ
فَقُلنَا صَدَقتَ رَسُولَ المليكِ ... هلُم إلينا وفينَا أقِم
فَنَشْهَدُ أنكَ عبدُ الإِل ... ه أرسِلتَ نوراً بدِينِ قيمْ
فَإِنا وَأْولادنَا جُنةٌ ... نَقِيكَ وفي مَالِنَا فاحْتَكِمْ
فَنَحنُ ولاتكَ إِنْ كذبُوك ... فناد نِدَاء ولا تَحتشِم
ونادِ بمَا كنتَ أخفَيْتَهُ ... نداءً جهاراً ولا تَكتتِمْ
فَسَار الغواةُ بأسيَافِهم ... إليه يظنُّونَ أن يخْتَرمْ
فقمْنَا إليهم بأسيَافِنَا ... نجالدُ عنه بُغَاةَ الأممْ
بكل صقيلٍ لهُ مَيْعَةٌ ... رقيق الذُّبابِ عَضُوضٍ خَذِمْ
إذا مَا يصادفُ صم العظَا ... مِ لَمْ ينبُ عَنْهَا ولم ينثَلِم
فَذلك مَا ورثَتنَا القرو ... مُ مَجْدَاً تليدَاً وعزُّا أشم
إذا مرَ نَسْل كَفَى نسلَهُ ... وغَادَرَ نَسْلاً إذا مَا انفصمْ
فَمَا إِن من الناسِ إلا لَنَا ... عليه وإنْ خَاسَ فضل النعَمْ
وفيها بنى صلى الله عليه وسلم في طريقه مساجد حين رجع من تبوك، وقدم في رمضان وأمر بمسجد الضرار أن يحرق، واشترى صلى الله عليه وسلم جمل جابر مرجعه، فلما قدموا إلى المدينة أعطاه الجمل والثمن، كما تقدم ذكر ذلك.
وفيها بعث المصدقين لأخذ الصدقات: عيينة بن حصن إلى بني تميم كغيرهم، والوليد بن عقبة إلى بني المصطلق؛ ليأخذ الصدقة، فخرجوا بالسلاح، فرحاً به، فولى راجعاً، وأخبر بمنعهم فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث لهم جيشاً، فنزل " إِن جَاءَكمُ فَاسِق بِنَبَأ فَتَبَينوا " الحجرات: 6.
وفيها سرية عبد الله بن عوسجة إلى بني حارثة، مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فرقعوا بالصحيفة أسفل دلوهم، وأبوا الإجابة، فدعا صلى الله عليه وسلم عليهم بذهاب عقلهم فهم إلى اليوم في رعدة، وعجلة، واختلاط كلام.
وقطبة بن عامر إلى خثعم بناحية بيشة من مخاليف مكة في صفر في عشرين رجلاً، فقتلوا منهم، وغنموا.
وعلقمة بن محرز المدلجي إلى الحبشة في ثلاثمائة، لما تراءى أهل جدة ناساً من الحبشة، فخاض إليهم فهربوا، فلما رجعوا، وكان أمره على من تعجل في الرجوع ومعه عبد الله بن حذافة السهمي، أو هو الأمير كما في بعض الروايات، فأجج ناراً وأرادهم على الوثوب، ثم كف عن ذلك، فبلغه صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: " من أمركم بمعصية فلا تطيعوه " .
وعلياً إلى القلس صنم لطيئ في مائة وخمسين، أو مائتين، فهدمه، وغنم غنائم من آل حاتم، ثم لما ظفروا بهدمه هرب عدي بن حاتم إلى الشام، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم أخت عدي سفانة بنت حاتم أن يمن عليه فمن عليه، ثم قدم وأسلم.
وعكاشة بن محصن إلى الحباب أرض عذرة، وبلي، وغطفان، أو فزارهَ، وكلب، ولعذرة فيها شركة.
وأبا سفيان، والمغيرة؛ لهدم الطاغية، وغيرها، فهدماها وأخذا مالها.
وفيها قدم وفد بني أسد فقالوا: جئنا قبل أن ترسل إلينا فنزل " يمُنُّونَ عَليك أن أسلمُوا " الحجرات: 17، لآية. وتتابعت الوفود: تميم، وعبس، وفزارة، وغيرهم مما لا ينحصر.
وفيها حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس في ثلاثمائة رجل، ومعه عشرون بدنة. وبعث علياً خلفه بسورة براءة، لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأدركه علي بالعرج مبلغاً لا أميراً، وكان حجهم في ذلك العام في ذي القعدة.
وفيها مات النجاشي، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، والناس معه، فصلوا عليه، ومات عبد الله بن أبي، المنافق، فصلى عليه فنزل " ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهُم مَاتَ أبداً " التوبة: 84، وآلى من نسائه شهراً. ولاعن بين عويمر العجلاني، أو هلال ابن أمية، وامرأته خولة بنت عاصم، أو بنت قيس، أو غير ذلك - على الاختلاف - لما رماها بشريك بن السحماء في شعبان عند قدومه من تبوك فوجدها حبلى ونزلت حينئذ آية اللعان.
قال في المواهب: حجة أبي بكر الصديق سنة تسع في ذي القعدة، كما ذكره ابن سعد، وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في الإكليل، وقال قوم: في ذي الحجة، وبه قال الداودي والثعلبي والماوردي؛ ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك رمضان، وشوالاً، وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجه في ذي الحجة على هذا، والله أعلم. وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة.
وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر إلا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معلناً في أهل منى ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع - مشرك، فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين " يا أيُهَا الذَينَ آمَنوُا إِنَمَا المُشركوُن نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذا " التوبة: 28 الآية. وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك يعنى نجاسة اعتقاده، وأما نجاسة بدنه: فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن، والذات، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجدُ الحرام، وغيره من المساجد، فالمراد نجاسة الخبث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر، وخبث الباطن بالعداوة، قاله مقاتل.
وروى النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج، ثوَّب بالصبح، فلما استوى للتكبير، سمع الرغوة وراء ظهره، فوقف عن التكبير فقال؛ هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه، فإذا علي عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول؟ قال: رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، أقرأها على الناس في مواقف الحج. فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ، قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. ثم إذا كان يوم النحر، فأفضنا، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم عن إفاضتهم، وعن نحرهم، وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر، فأفضنا، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون، ويعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فإنما كان سنة تسع، واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة. وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض، بل كان تطوعاً قبل فرض الحج، ولا يخفي ضعفه.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي ابن سلول، فجاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله !صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر - رضي الله عنه - فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال صلى الله عليه وسلم إنما خيرني الله عز وجل قال: " أستَغفِر لَهُم أو لا تستَغْفِر لهُم إن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مرة " التوبة: 80، وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " وَلا تُصلِّي عَلى أحَدٍ مِّنْهُم ماتَ أبداً ولا تَقُم عَلىَ قَبرهِ إنَّهُم كفروا باللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتوُا وَهُم فاسِقُون " التوبة: 84 رواه الشيخان.
وفيها آلى من نسائه صلى الله عليه وسلم شهراً.
وجحش شقه أي خدش، وجلس في مشربة له لها درج من جذوع، فأتاه أصحابه؛ يعودونه، فصلى بهم جالساً وهم قيام، فلما سلم قال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً؛ فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع " .
ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهراً فقال: " إن الشهر يكون تسعاً وعشرين " .
حوادث السنة العاشرة
فيها سرية خالد في ربيع الأول إلى بني عبد المدان بنجران، فأسلموا، وجرير ابن عبد الله البجلي في رمضان في مائة وخمسين إلى ذي الخلصة - بيت أصنام لدوس، وخثعم، وبجيلة، ومن ببلادهم - وحديثه في البخاري، قالى جرير: فكسرناه، وقتلنا من وجدناه عنده، فدعا صلى الله عليه وسلم لنا، ولأحمس.
وفيها حجة الوداع، وتسمى: حجة البلاغ، وحجة الإسلام، خرج يوم الخميس لست بقين - أو يوم الجمعة، أو يوم السبت لخمس بقين - من ذي القعدة، ومعه صلى الله عليه وسلم تسعون ألفاً أو مائة وأربعة عشر ألفاً، ووقف فيها يوم الجمعة، ونزل " اليومَ أكمَلتُ لَكم دِينكَم " المائدة: 3، الآية.
ورجع من حجة الوداع لثلاث بقين من ذي الحجة، وفيها نزل " تاأيُّهَا الذَيَن آمنوا لِيسَتئذنكم الذينَ مَلَكَت أيماَنكُم " النور: 58 الآية، وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك.
وقدم وفد نجران في اثني عشر راكباً، أميرهم العاقب عبد المسيح، والسيد إمامهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة أسقفهم، صالحوه عن أهل نجران.
قال في المواهب: وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحي كل عام، ويغزو المغازي، فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة - أجمع الخروج إلى الحج. قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى.
وفي البخاري عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، وهي حجة الوداع. قال ابن إسحاق: وبمكة أخرى، قيل: حج بمكة حجتين، هذا بعد النبوة، وقبلها لا يعلمه إلا الله. فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر؛ لأن أول في الحجة كان يوم الخميس قطعاً، لما ثبت، وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة. لكن ثبت في الصحيحين عن أنس: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة. ويحمل قول من قال لخمس بقين، أي: إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعاً وعشرين، فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال، لا خمس، وبها الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة، أو أربع، وصرح به الواقدي: بأن خروجه - عليه الصلاة والسلام - كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وكان خروجه من المدينة بين الظهر، والعصر، وكان دخوله مكة صبح رابعه، كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى، وخرج معه - عليه الصلاة والسلام - تسعون ألفاً، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ويقال: أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي، ورجع - عليه الصلاة والسلام - من حجة الوداع لثلاث بقين من ذي الحجة.
حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة
فيها سرية أسامة بن زيد إلى أهل أُبنى بالسراة ناحية البلقاء، يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفرة لغزو الروم، مكان قتل أبيه زيد، ومعه أبو بكر، وعمر، وغيرهما. فمرض صلى الله عليه وسلم، فعوقهم ذلك، وثقل صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، ودخل عليه أسامة يوم الاثنين، وقد أصبح مفيقاً، فقال له: اغد على بركة الله، فودعه، وخرج، ثم تأخر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حتى وصل إلى أهل أبنى في عشرين ليلة، فشن عليهم الغارة، وكان شعارهم: يا منصور أمت. فقتل، و حرق، و غنم.
وقبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - بسبع ليال، أو ثلاث ليال، أو ثلاث ساعات، أو بأحد وثمانين يوماً، أو عشرين، أو غير ذلك على الخلاف - نزل قوله تعالى: " وَاتقُوا يوماً ترُجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله " البقرة: 281، فهي آخر آية نزلت.
وفي البخاري عن ابن عباس: إن آية الربا آخر آية نزلت. والجمع ممكن، وفي آخر ما نزل أقوال غير ذلك. وأما أول ما نزل " اقرَأ بِاسمِ رَبك الذي خَلَقَ " العلق: ا، الآيات الخمس. قال القشيري: ثم نون والقلم، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم تبت، ثم كذا إلى آخر ما ذكر من الترتيب، ولبسط ذلك، وتمييز المدني من المكي تأليف مخصوصة لسنا بصددها.
فصل في صفاته الحسية صلى الله عليه وسلم:
كان ربعة، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مشرباً بحمرة، رجل الشعر أسوده، يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، ونصف ذلك إذا قصر، لم يبلغ الشيب في رأسه، ولحيته عشرين شعرة، واسع الجبين، أزج الحواجب، في غير قرن، أدعج العينين، أقنى العرنين، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، حلو المنطق، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله، عريض الصدر، موصول ما بين لبته وسرته بشعر يجري كالخط، أشعر الذراعين، والمنكبين، وأعالي الصدر، عالي اليدين، والبطن فيما سوى ذلك، أجل الناس، وأبهاه من بعيد، وأحسنه، وأحلاه من قريب، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما، وعلاه البهاء، بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، لونه لون جسده عليه خيلان، روى أنه مكتوب في باطنه: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهره: توجه حيث شئت، فإنك منصور. ويروى - أيضاً - أن المكتوب فيه: محمد رسول الله، وقيل: غير ذلك. يقول واصفه صلى الله عليه وسلم: لم أر قبله مثله، ولا بعده مثله.
فصل في صفاته المعنوية وأخلاقه صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة: كان خلقه القرآن؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
وكان أحلم الناس، قيل له: ألا تدعو على المشركين؟ قال: إنما بعثت رحمة، ولم أبعث عذاباً.
وكان أشجع الناس، قال علي: كنا إذا حمي البأس، والتقى القوم - اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعدل الناس، القريب والبعيد، والقوي والضعيف عنده سواء.
وأعف الناس، وأسخاهم، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، لا يبيت عنده دينار، ولا درهم، فإن فضل، ولم يجد من يعطيه، وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما أعطاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود على قوت عامه، فيؤثر منه.
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يثبت نظره في وجه أحد، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظ، وأكثر تواضعاً: يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفليه - قلت: معنى يفليه ليس من القمل كما هو المتبادر؛ لأن القمل لا يلحق جسمه الشريف، وإنما المراد بالتفلية: التنقية من نحو قشة، أو غبار، وما أشبهها - ويخيطه، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، ويجيب دعوة الحر، والعبد، ويقبل الهدية وإن قلت، ويكافىء عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة.
تستتبعه الأمة والمسكين فيتبعهما حيث دعواه، ويجيب الفقراء، والمساكين، ويجالسهم، ويواكلهم، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، وأرحمهم، يصغي الإناء للهرة فما يرفعه حتى تروى؛ رحمة لها. وأشدهم إكراماً لأصحابه، لا يمد رجله بينهم، ويوسع عليهم إذا ضاق المجلس، ويتفقدهم ويسأل عنهم: من مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع، وأتبع ذلك بالدعاء له، ومن تخوف أنه وجد في نفسه انطلق حتى يأتيه في منزله.
ويقبل معذرة المعتذر، ويخرج إلى بساتين أصحابه، ويأكل من ضيافتهم، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول: " خلوا ظهري للملائكة " ، ولا يدع أحد يمشي معه، وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: " تقدمني، إلى المكان الذي تريد " .
وأمر في سفره باصلاح شاة فقال رجل: علي ذبحها، وآخر عليَّ سلخها، وآخر عليَّ طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: " وعليَّ جمع الحطب " ، فقالوا: نحن نكفيك، قال: " قد علمت، ولكن اكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبد أن يراه متميزاً بين أصحابه " ، وقام بجمع الحطب.
يخدم من خدمه، ما ضرب قط خادمه، ولا امرأة، ولا شيئاً إلا في جهاد، ولا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل، ولا ملبس. قال أنس: خدمته عشر سنين، فما قال لي قط أف، ولا لِمَ فعلت، ولا ألا فعلت.
أكثر الناس تبسماً، وأحسنهم بشراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، لا يحقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، يلبس ما وجد من مباح، ويركب ما تيسر من فرس، أو بعير، أو بغلة، أو حمار، ويردف خلفه عبده، أو غيره، وقد روى فيمن أردفه أكثر من ثلاثين، يمسح وجه فرسه بطرف كمه أو طرف ردائه، يحب الفأل، ويكره الطيرة. إن جاء ما يحب قال: " الحمد لله رب العالمين " ، أو ما يكره قال: " الحمد لله على كل حال " . يحب الطيب، ويكره الرِيح الرديئة، يمزح، ولا يِقول إلا حقاً، يبدأ من لقيه بالسلام، لا يجلس، ولا يقوَم إلا على ذكر، يجلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ولا يقوم عمن يجالسه حتى يقوم إلا أن يتعجله، أو يستأذنه. ولا يقابل أحداً بما يكره، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. لا يذم شيئاً قط، وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، يحفظ جاره، ويكرم ضيفه، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم؛ فيكون أبعد الناس منه.
أكثر جلوسه للقبلة، آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فلم يقبل، واختار الآخرة.
يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يبيت هو وأهله الليالي طاوين، ولم يشبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً، ولا من خبز الشعير حتى لقي الله - عز وجل - إيثاراً على نفسه لا فقراً، ولا بخلاً. يأتي على أهله الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، ولا يأكل متكئاً، ولا على خوان. فراشه من أدم حشوه ليف. يلبس الصوف، وينتعل المخصوف. أحب اللباس إليه الحبرة من برود اليمن فيها حمرة وبياض، يلبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه، ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم، وكان يلبس خاتماً فضة، نقش فصه " محمد رسول الله " في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، ويكثر دهن رأسه، ولحيته، ويتبخر بالعود، والكافور، ويكتحل بالإثمد، ويتطيب بالغالية، والمسك أو بالمسك وحده.
فصل في خصائصه صلى الله عليه وسلم:
فمن الواجبات: المشاورة في الأمور، وتخيير نسائه بين أن يبقين في عصمته أو لا، ومصابرة العدو الكثير، وتغيير المنكر من غير قيد عدم الخوف، وقضاء دين الميت المعسر المسلم، وليس منها وجوب الضحى، ولا الأضحى، ولا الوتر، ولا السواك، ولا التهجد، ونحو ذلك خلافاً لمن زعمه.
ومن المحرمات: أخذ الصدقة واجبة كانت أو تطوعاً، والشعر، والخط والأكل متكئاً، وأكل كل ذي ريح كريه في رأي قوي، ونزع لأمته إذا لبسها حتى يلقى العدو، ومدّ عينيه لما متع به الناس، وخائنة الأعين؛ بأن يومئ إلى مباح على خلاف ما يظهر، والمن ليستكثر، وإمساك من كرهت نكاحه.
ومن المباحات: مواصلة الصوم، واصطفاء ما يختار من الغنيمة كأخذه صفية، وسيفه ذا الفقار، وكان له خمس الخمس من الفيء، والغنيمة، وأربعة أخماس من الفيء، ودخول مكة بلا إحرام، وإن اختلف في غيره، وأبيح له القتال بها ساعة يوم الفتح، وكانت من ضحوة إلى بعد العصر، ويقضي بعلمه قطعاً، ولنفسه ولو كره، ويشهد أيضاً لنفسه وولده، ويقبل من يشهد لهما، ويحيى الموات لنفسه، ويأخذ الطعام، والشراب من المالك المحتاج لهما، ويمكث بالمسجد جنباً، ومن يختاره معه في ذلك كما أشركه معه في ذلك، ولا ينتقض وضوؤه بنومه: من البسيط:
......... ... فالعين نائمة والقلب يقظان
وله أن يزوج من نفسه، وممن شاء بلا إذن، ويتولى الطرفين، ويزيد على أربع زوجات، بل وعلى تسع اللاتي اتفق اجتماعهن وهو العدد الذي مات عنه - أيضاً - وينكح بلا ولي، ولا شهود، وفي حالة إحرامه، وبلفظ الهبة من المرأة، وبلا مهر لا حالاً ولا مآلاً. وأكثر المباح له لم يقع منه صلى الله عليه وسلم.
ومن الفضائل والكرامات: تحريم أزواجه اللاتي دخل بهن، وفارقهن بموت، أو غيره على من سواه، وإنما هن أمهات المؤمنين في ذلك، وفي احترامهن لا في نحو نظر وخلوة، وتحريم بناتهن، وأخواتهن، وكذا من لم يدخل بهن على ما نص عليه الشافعي؛ لظاهر القرآن. ونساؤه أفضل النساء، وأفضلهن خديجة وعائشة.
وأمته خير الأمم، ولا تجتمع على ضلالة، وصفوفهم كصفوف الملائكة.
وأصحابه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وشرعه مؤبد ناسخ لما خالفه من الشرائع، وكتابه معجز يحفظ من التحريف والتبديل، مستمر بعد نبوته، ومعجزات غيره من الأنبياء انقرضت، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت له الغنائم وأعطي الشفاعة، والمقام المحمود، وله خمس شفاعات، وأكثر منها: فله الشفاعة العظمى في فصل الموقف، وهي الأولى، فيفزع الكل إليه بعد دلالة الرسل عليه، ولو بتوسط الدلالة على من دل عليه إظهاراً لعلو مقامه، وانفراده بتمامه؛ والشفاعة في قوم يدخلون النار؛ فلا يدخلونها، وهي الثالثة؛ وفي ناس دخلوها، فيخرجون منها، وهي الرابعة، وفي رفع الدرجات في لجنة وهي الخامسة.
وله غيرهن شفاعته لمن مات بالمدينة، وفي جمع من صلحاء المؤمنين أن يتجاوز عنهم ما لعلهم قصروا فيه، وفي تخفيف العذاب عن بعض أهل النار كما في عمه أبي طالب، وفي تخفيف عذاب القبر كما في حديث غرز الجريدتين في القبرين؛ وفي فتح باب الجنة والجواز على الصراط وغير ذلك.
وأرسل إلى الناس كافة، وهو سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وأكثر الناس تبعاً، وأعطي جوامع الكلم. وكان لا ينام قلبه، ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه، وتطوعه بالصلاة قاعداً كتطوعه قائماً وإن لم يكن له عذر. ولا يحل لأحد رفع صوته فوق صوته، ولا نداؤه من وراء الحجرة، ولا باسمه، بل يا نبي الله، يا رسول الله، ونحو ذلك، ومخاطبة المصلي بالسلام عليك أيها النبي، ولو خاطب غيره، بطلت، ويجب على المصلي إجابته إذا دعاه، ولا تبطل صلاته، وتحل له الهدية دون غيره من الحكام، ولا يجوز عليه، ولا على غيره من الأنبياء جنون، ولا احتلام. ومن استهان بأحد منهم كفر.
ولا يورث أحد منهم، بل ماله صلى الله عليه وسلم صدقة على المسلمين، وأولاد بناته ينسبون إليه، ويجب بذل المهج لسلامة مهجته، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن رغب فيها وهي مزوجة، وجب على زوجها طلاقها.
وفاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر ثم واظب عليهما، وقال: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فقال الشافعي: ليس لأحد أن يكنى بأبي القاسم، وحمل نصه على حال حياته صلى الله عليه وسلم. ومن رآه في المنام فقد رآه حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، والأرض لا تأكل لحمه، ولا لحم أحد من الأنبياء. وكل نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبه، وسببه، وصهره، وله غير ذلك مما لا ينحصر.
فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم:
منها - وهو أعظمها - القرآن العظيم، الذي عجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله، بل بعشر سور منه، بل بسورة، بل بحديث مثله، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه؛ فشرب منه أهل العسكر، وتوضئوا، كل ذلك من قدح، ولا ماء فيه؛ فجاش بالماء حتى شرب الجيش، ورووا وهم ألوف وفاضت إلى اليوم، وبالحديبية مرة بالبئر فأروتهم، وهم ألف وأربعمائة أو أكثر، وأطعم جيش الخندق، وهم ثلاثة آلاف من تمرٍ أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها لم يملأ كفيه، فأكلوا منه حتى شبعوا، وفضلت فضلة.
ورمى يوم حنين جيش الكفار بقبضة من تراب فعميت عيونهم، وحن إليه الجذع الذي كان يخطب إليه حين عمل له المنبر، وكلمه الذراع المسموم بالشاة، كما سبق، وكان يخبر بالغيوب كقوله: " إن عمارا تقتله الفئة الباغية؛ وإن عثمان تصيبه بلوى تكون بعدها الجنة؛ وإن الحسن بن علي سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ، فكان كذلك؛ وكان إخباره بقتل الأسود العنسي الكذاب، وهو بصنعاء وبمن قتله؛ وبموت النجاشي بالحبشة؛ وبترتيب المقتولين في غزوة مؤتة كما مضى؛ وإخباره بقتل ابن خلف، ومصارع صناديد قريش، فكان كما قال.
وخرج وعلى بابه قوم ينتظرونه؛ ليؤذوه، فوضع التراب على رؤوسهم، فلم يروه، ودعا شجرتين فأتتاه، فاجتمعتا، ثم أمرهما؛ فافترقتا، وزويت له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها، وأخبر ببلوغ ملك أمته ما زوى له منها، فكان كذلك، فبلغ ملكهم من أول المشرق إلى آخر المغرب، ولم يتسعوا في الجنوب، والشمال كما أخبر سواء بسواء، ومسح ضرع شاة لم ينز عليها الفحل؛ فدرت، وندرت عين قتادة فسقطت، فردها بيده الكريمة؛ فكانت أصح عينيه، وأحسنهما، وأحدهما، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه، والحصى بيديه، وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث وغيرهما.
وكلمته الحيوانات: البعير، وغيره في حاجاتها. ومنها إنبات النخلة في سنام البعير، وإدراك ثمرها في الحال، ففرقه على الحاضرين، فمن علم الله أن سيؤمن - كانت التمرة في فمه تمرة كما هي؛ ومن علم عدم إيمانه - عادت التمرة في فيه حجراً، ذكر ذلك البيهقي، وغيره من أئمة الحديث، وغير ذلك مما لا يحصى. وقد بلغ بمعجزاته - عليه الصلاة والسلام - بعض الأئمة ثلاثة آلاف وزيادة، غير القرآن العظيم؛ إذ كل حرف منه معجز، فمعجزاته ! لا يدرك حصرها.
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، فحدثني عبد الله بن أبي بكر، وحسين بن عبد الله، وغيرهما من أصحابنا أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين تولوا غسله؛ وأن أوس بن خولى أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر، قال: ادخل، فدخل وجلس، وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس، والفضل، وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد، وشقران مولياه اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره، وعليه قميص يدلكه به من ورائه، ولا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً. ولم يُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه. قالت: فلما اختلفوا؛ ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه، والقميص دون أيديهم.
قال: فلما فرغ من غسل رسول الله كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين، وبردة حبرة أدرج فيه إدراجاً كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن حسين، وحدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي كان يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد - فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال للآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه - في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً: فدخل الرجال حتى إذا فرغوا، دخل النساء، حتى إذا فرغن، دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد؛ ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء.
قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أوس بن خولى لعلي بن أبي طالب: أنشدك بالله، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: انزل، فنزل مع القوم. وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وبنى عليه قد أخذ قطيفة قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها، ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً. فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكر بدء مرضه - عليه الصلاة والسلام - في أول خلافة الصديق - رضي الله تعالى عنه - .
ومما قيل من الرثاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: من الوافر:
أجدكَ ما لعينِكَ لا تنامُ ... كأن جفونَهَا فيها كلامُ
بوقعِ مصيبةِ عظُمَت وجلت ... فدمعُ العينِ أهونُهُ انسجامُ
فُجعنا بالنبي وكان فينا ... مقدمنا وسيدنا الإمامُ
وكان قوامنا والرأس فينا ... فنحنُ اليومَ ليس لنا قوامُ
ننوحُ ونشتكِى ما قد لَقِينا ... ويشكُو فقدَهُ البلدُ الحرامُ
كأن أنوفنا لاقينَ جدعاً ... لفقدِ محمدٍ فيها اصطلامُ
لفقدِ أغر أبيض هاشمي ... إمام نبوَّةٍ وبه الختامُ
أمين مصطفًى للخيرِ يدعو ... كضوءِ البدرِ زايله الظلامُ
سأتبعُ هديهُ ما دمتُ حياً ... طوالَ الدهرِ ما سجع الحمامُ
كأن الأرضَ بعدك طارَ فيها ... فَأشعَلَهَا لساكنها ضرامُ
وفقد الوَحى إذ وليت عنا ... وودعنا مِنَ الله الكلامُ
سوَى أن قد تَرَكت لنا سراجاً ... تواريه القراطيسُ الكرامُ
لقد ورثتنا مِرآة صدقٍ ... عليكَ به التحيةُ والسلامُ
من الرحمنِ في أعلَى جنانٍ ... من الفردوسِ طابَ بها المقامُ
رفيق أبيكَ إبراهيمَ فيه ... وما في مِثل صحبتِهِ ندامُ
وإسحاق وإسماعيل فيه ... بما صَلوْا لربهمُ وصاموا
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله - يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:من الكامل:
ما زلتُ مذ وضع الفِرَاشَ لجنبه ... وَثوَى مريضاً خائفاً أتوقعُ
شفقاً عليه أن يزولَ مكانه ... عنا فنبقَى بعْدَهُ نتوجعُ
وإذا تحدثنا الحوادثُ منْ لَنَا ... بالوحيِ من رب رحيمِ يسمعُ
ليتَ السماءَ تفطَرَت أكنافُهَا ... وتناثَرَت فيها النجومُ الطلعُ
لما رأيتُ الناسَ هد جمعيهم ... صوت ينادي بالنعِي فيسمعُ
وسمعتُ صوتَا قبلَ ذلك هدني ... عباس ينعاه بصوتٍ يقطع
فليبكِهِ أهلُ المدائنِ كلّها ... والمسلمونَ بكُل أرضٍ تجدعُ
وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : من الطويل:
ألا طرق الناعِي بلَيل فراعَنِي ... وأرقني لما استقل منادياً
فقلتُ له لما رأيتُ الذي أتى ... أغَيرَ رسولِ اللهِ إنْ كنتَ نَاعِيا
فحقفت ما أشفقتُ منهُ ولم ينل ... وكان خليلي عدَةً وجماليَا
فواللهِ ما أنساكَ أحمَدُ ما مَشَت ... بِىَ العيسُ في أرضٍ وجاوزْتَ واديَا
وكنتُ متى أهبطْ من الأرضِ بقعة ... أرَى أثراً منه جديداً وعافيَا
مِنَ الأسدِ قد أخفى العرين مخافةً ... تهادي سباعُ الطيرِ مِنْهُ تَعَاديا
شديد حوى الصدرِ مِنهُمْ مشددٌ ... هو المَوْتُ معدياً عليه وَعَادِيا
وقال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - : من الطويل:
بِطَيْبَةَ رَسم لِلرَسُولِ وَمَعْهَدُ ... منِير وَقَدْ تَعْفُو الرُسُومُ وَتَهْمُدُ
ولا تَنْمَحي الآيَاتُ مِنْ دَارِ حرمَةٍ ... بِهَا مِنبَرُ الْهَادِي الذِي كَانَ يَصْعَد
وَوَاضِحُ آثَار وَبَاقِي مَعَالِم ... وَرَبعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلى وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَها ... مِنَ الله نُور يُسْتَضَاءُ وُيوقَدُ
مَشَاهِدُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِ آيهَاأتَاهَا الْبِلَى فَالآىُ مْنهَا تَجَدَدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَسُولِ وَعَهْدَهُوَقَبْراً بِهَا وَارَاهُ في التُرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلتُ بِهَا أبْكِي الرَسُولَ فَأسْعَدَت ... عُيُون وَمِثْلاهَا مِنَ الْجَفْن تُسْعِدُ
يُذَكرْنَ آلاءَ الرسُولِ وَمَا أرَى ... لَهَا مُحْصِيا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَدُ
مُفَجعَة قَدْ شَفهَا فَقْدُ أحمَدٍ ... فَظَلتْ لآلاءِ الرسُولِ تُعددُ
وَمَا بَلَغَت مِنْ كُل أمْرٍ عشيرهُ ... وَلكِنْ لِنَفسِي بَعْدُ مَا قَدْ تَوَجدُ
أطَالَتْ وُقُوفاً تَذْرِفُ الْعَيْن جَهْدَهَاعَلَى طَلَلِ الْقَبرِ الَذِي فِيهِ أحْمَدُ
فَبُورِكتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَت ... بِلاد ثَوَى فِيهَا الرَشِيدُ المُسَدَدُ
وَبُورِكَ لحد مِنْكَ ضُمنَ طَيبا ... عَلَيهِ بِنَاء من صَفِيحٍ مُنَضَدُ
تَهِيلُ عَلَيهِ التُرْبَ أيْدٍ وَأعين ... عَلَيهِ وَقَد غَارَتْ بِذَلِكَ أسْعُدُ
لَقَدْ غَيبوا حِلماً وَعِلْماً وَحكْمَةً ... عَشِيةَ عَلوْهُ الثرَى لا يُوَسَدُ
وَرَاحُوا بِحُزنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيهُم ... وَقَد وَهَنَت منهم ظُهُور وَأعضُدُ
يُبَكونَ مَنْ تَبكِي السمواتُ يَومَهُ ... وَمَن قَد بَكَتهُ الأزضُ فَالناسُ أكمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوماً رَزِيةُ هَالِكٍ ... رَزِيةَ يَومٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمدُ
تَقَطعَ فِيهِ منزل الوَحيِ عَنهُمُ ... وَقَد كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنجِدُ
يَدُل عَلَى الرحمنِ من يَقتَدِي بِهِ ... وَيُنقِذ من هَولِ الخَزَايَا وَيُرْشِد
إمَام لَهُم يَهدِيهِمُ الحَق جَاهِداً ... مُعَلمُ صِدقِ إِن يُطِيعُوهُ يَسْعَدُوا
عَفُوٌّ عنِ الزلاتِ يَقبَلُ عُذرَهُم ... وَإن يُحسِنوا فَالله بِالخَيرِ أجوَدُ
وَإنْ نَابَ أمر لَم يَقُومُوا بِحَملِهِ ... فَمِن عِندِهِ تَيسِيرُ مَا يَتَشَدَدُ
فَبَنينَا هُمُ في نِعمَةِ الله بَينَهُم ... دَلِيل بِهِ نَهجُ الطرِيقَةِ يُقصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيهِ أن يَزيغُوا عَنِ الهُدَى ... حَرِيص عَلَى أن يَستَقِيمُوا ويَهتَدوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِم لا يُثَنِّي جَنَاحَهُ ... إِلَى كَنَفٍ يَحنُو عَلَيهِمْ وَيَمهَدُ
فَبَينَا هُمُ في ذلِكَ النورِ إِذ غَدَا ... إلَى نُورِهِم سَهمً من المَوتِ مُقصِدُ
فَأصبَحَ مَحْمُوداً إِلَى الله رَاجِعا ... يُبَكيهِ جَفنُ المُرسَلاتِ وَيَحمَدُ
وَأمسَت بِلادُ الحُرمِ وَحشاً بِقَاعُهَا ... لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنَ الوَحي تعْهَدُ
قِفَارا سِوَى مَعمُورَةِ اللحْدِ ضَافَهَا ... فَقِيد يبَكيهِ بَلاط وَغَرقَدُ
وَمسجِدُهُ فَالمُوحِشَاتُ لِفَقده ... خَلاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَام وَمَقعَدُ
وَبِالجَمرَةِ الكُبرَى لَهُ ثَم أوحَشَت ... دِيَار وَعَرصَاتْ وَرَبْعٌ وَمَولِد
فَبَكى رَسُولَ الله يَا عَين عَبرَةً ... ولا أعرِفَتكِ الدهرَ دمعُكِ يَجمُدُ
وَمَالَكِ لا تَبكِينَ ذَا النعمَةِ التِي ... عَلَى الناسِ مِنهَا سَابغ يَتَغَمَدُ
فَجودِي عَلَيهِ بِالدُّمُوعِ وَأعوِلِي ... لِفَقدِ الذِي لا مِثلُهُ الدهرَ يُوجَد
وَمَا فَقَدَ المَاضُونَ مِثْلَ مُحَمدِ ... ولا مِثلُهُ حَتى القِيامَة يُفقَدُ
أعَف وَأوفَى ذِمَّة بَغد ذِمة ... وَأقرَبَ مِنهُ نَائِلاً لا يُنَكَدُ
وَأبذَلَ مِنهُ للطرِيفِ وَتَالِدِ ... إذَا ضَن مِعطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتلِدُ
وَأكرَمَ صِيتاً في البيوتِ إِذَا انتَمَى ... وَأكرَمَ جَداً أبطَحِياً يُسَودُ
وَأمنَعَ ذروَاتٍ وَأثبتَ في العُلا ... دَعَائمَ عِز شَامِخَاتٍ تُشَيدُ
وَأثبَتَ فَرعاً في الفُرُوعِ وَمَنبِتاً ... وَعُودَاً غَذاهُ المزنُ فَالعُودُ أغيَدَ
رَبَاهُ وَليداً فَاستَتَم تَمَامُهُ ... عَلَى أكرَمِ الخَيرَاتِ رَب مُمَجدُ
تَنَاهَت وَصَاةُ المُسْلِمِينَ بِكَفًهِ ... فَلا العِلم مَحبُوس ولا الرَأي يُفنَدُ
أقُولُ ولا يلفَي لِقَولِيَ عَائِب ... مِنَ الناسِ إلا عَازِبُ الْعَقلِ مُبعَدُ
وَلَيسَ هَوَاي نَازِعاً عَن ثَنَائِهِ ... لَعَلي بِهِ في جَنةِ الخلدِ أخلدُ
مَعَ الْمُصطَفَى أرجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ ... وفي نَيل ذَاكَ اليَومِ أسعَى وأجهَدُ
وقالت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - : من الكامل:
ماذا علَى من شم تُربَةَ أحمَدٍ ... ألا يشَم من الزمَانِ غَوَالِيَا
صُبت على مَصَائب لو أنهَا ... صُبت عَلَى الأيامِ عُدنَ ليالِيَا
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - : من البسيط:
عينيَّ جُودَا طوالَ الدهرِ وانهَمِرَا ... سَكباً وسَحا بدمعٍ غيرِ تَقديرِ
يا عينُ واستَحسِرِي بالدمعِ واحتَفِلِي ... حتَى الممَاتِ بسَجْلٍ غيرِ مَنْزورِ
يا عين وانهملِي بالدمعِ واجتهِدِي ... للمصطفَى دونَ خَلقِ الله بِالنورِ
بمستهل من الشؤبُوب ذي سبَلٍ ... فقد رُزِئت نبي العدلِ والخيرِ
وكنت من حَذَرٍ للمَوتِ مشفقةَ ... وللذي خُطَ مِن تلكَ المقاديرِ
من فَقدِ أزهَرَ ذي خلقٍ وذي فخر ... صافٍ من العَيبِ والعاهاتِ والزورِ
فاذهَب حَمِيدَا جزَاكَ الله مَغفرةً ... يومَ القيامةِ عِندَ النفخِ في الصورِ
وقالت أروى - أختها - بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - : من الوافر:
ألا يَا عينُ ويحَكِ أسعِدِينِي ... بدمعٍ ما بقيتُ وطَاوِعِينِي
ألا يا عَين ويحكِ واستَهِلي ... على غيثِ البلادِ وأسعِدِينِي
فَإن عَذَلَتكِ عَاذِلةٌ فقولِي ... عَلامَ وفيمَ ويحَكِ تعذليني
عَلى نُور البِلادَ معاً جميعاً ... رَسُولِ الله أحمَد فاتْرُكِينِي
وإنْ لا تَقصرِي بالعَدلْ عني ... فَلُومي ما بَدَا لَكِ أو دَعِينِي
لأمرٍ هَدنِي وأدَك رُكْنِي ... وشَيّبَ بَعْدَ جِدَّتها قُرُوني
وقالت صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها: من الخفيف:
لهفَ قَلْبِي وبتُ كالمسلوبِ ... أرق اللَيلُ مقلَةَ المحرُوب
من هموِم وحَسْرةٍ وَقَذَتْنِي ... ليتَ أني سبقْتُهَا لِشَعُوبَ
حينَ قالوا إن الرسولَ قد أمْسَى ... وافَقَتهُ مَنِيةُ المكتوبِ
إذْ رأينا أن النبيَّ صَرِيعْ ... فأشَابَ القَذَالَ أي مَشِيبِ
إذ رأينا بيوتَهُ مُوحِشَاتٍ ... ليس فيهنَّ بعد عَيْش حبيبِ
أورَثَ القلبَ ذاكَ حزناً طويلاً ... خالَطَ القلبَ فَهْوَ كالمرعُوبِ
ليتَ شِعرِي وكْيفَ أُمسي صحيحَاً ... بعد أنْ بِينَ بالرسُولِ القريبِ
أعظم الناسِ في البريةِ حَقاً ... سيدُ الناسِ حبه في القُلُوب
فَإلى الله ذاك أشكُو وحَسبيّ ال ... لهُ مولى وحَوْبتِي ونَحِيبِي
وقالت - أيضاً - : من المتقارب:
أفاطمُ فابْكِي ولا تَسْأمِي ... بصَحبِكِ ما طَلَعَ الكوكَبُ
هو المرءُ يبكي بحق البكا ... هو الماجِد السيّدُ الطيبُ
فأوحشَتِ الأرضُ من فقْده ... وإن البريةَ لا تنكبُ
فَمَا ليَ بَعْدَك حتى المما ... ت إلا الجَوَى الدَاخِل المُنْصِبُ
فَبَكى الرسولَ وحقَّتْ له ... شُهُودُ المدينةِ والغُيَّبُ
لِتَبْكِكَ شَمطاءُ مَضْرورةٌ ... إذا حُجِبَ الناسُ لا تحجَبُ
ليبكِكَ شيخ أبو ولدة ... يطوفُ بعقوتِهِ أشْهَبُ
ويبكك رَكب إذا أرمَلُوا ... فلم يكْفِ ما طلبِ المطلبُ
وتبكي الأباطحُ مِنْ فقده ... وتبكيه مَكةُ والأخْشَبُ
وتبكي وُعَيْرَةُ مِنْ فَقْدهِ ... بُحزْن ويُسْعِدُهَا المِثيبُ
أعْيَنيّ ما لَكِ لا تَدْمَعِين ... وحق لدمْعِكِ ما يَسْكُبُ
صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه إلى يوم الدين، وسلم.
وقال أبو الفتح: فيا له - في مثل ذلك - خطب جل عن الخطوب؛ ومصاب عَلم دمع العين كيف يصوب؛ ورزء غربت له النيرات، ولا تعلل بشروقها بعد الغروب.
وجاءت هجمة الموت؛ فلا نجاء منه لهارب، ولا فرار منه لمطلوب، ولا صباح له؛ فيجلو غياهبه الملمة ودياجيه المدلهمة، ولكل ليل إذا دجى صباح يئوب، ومن سر أهل الأرض، ثم بكى، سأبكي بعيون سرها، وقلوب.
فإنا لله، وإنا إليه راجعون من نار طويت عليها الأضالع، لا تخبو ولا تخمد، ومصيبة تستك منها المسامع، فلا يبلى على مر الجديدين حزنها المجدد.