في ذكر الخلفاء الأربعة: خلافة أمير المؤمنين أبي الحسنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة أمير المؤمنين أبي الحسنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً يجتمع معه - عليه الصلاة والسلام - في عبد المطلب الجد الأدنى، وينسب إلى هاشم، فيقال: القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه، وأخوه بالمؤاخاة، وصهره على ابنته، وأبو السبطين، وأول هاشمي ولد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربانيين، والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، والسابقين إلى الإسلام، لم يسجد لصنم قط، وبات ليلة الهجرة على فراشه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه، وخلفه بمكة؛ ليرد الودائع التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى في القتال فيتقدم بها في نحر العدو، وشهد معه المشاهد كلها وأبلى فيها بلاءً حسناً، وبايعه على الموت، وكان أشجع الناس ما بارز أحداً قط إلا قتله، وكان إذا ورد عليه مال لم يترك منه شيئاً حتى يقسمه، وكان يكنس بيت المال ليصلى فيه، ولا يخص بالولايات إلا أهل الديانات، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا لم يغز بنفسه لم يعط سلاحه إلا علياً، وشهد له - عليه الصلاة والسلام - بالشهادة في تحريك حِراء.

روى أن معاوية قال لضرار يا ضرار، صف لي علياً. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال معاوية: لتصفنه. قال ضرار: أما إذ لابد من وصفه: كان - والله - بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، وتتفجر ينابيع العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس إلى الليل ووحشته، كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا ولربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مرافقه - وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه - قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: " يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت، يا صفراء اصفري، ويا بيضاء بيضي، هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك حقير،، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق " . قال: فبكى معاوية، وقال: " رحم الله أبا حسن كان - والله - كذلك، فكيف حزنكم عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.

أخرج الدولابي وأبو عمرو قال ابن عباس: أعطى علي تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر الباقي، وإذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.

روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل امرأة أفولدت له غلاماً لستة أشهر، فاتهمها؛ فأمر عثمان برجمها فبلغ ذلك علياً - رضي الله عنه - فأتاه فقال له: ما تصنع. قال عثمان ولدت غلاماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟! فقال له علي: أما سمعت الله يقول: " وَحَملهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً " الأحقاف: 15، وقال: " حولين كامِلَين لِمَن أرادَ أن يُتِمَ الرضاعَةَ " البقرة: 233، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، وكان من قولها لأختها: يا أخية لا تحزني، فوالله ما كشفت ثوبي لأحد قط غيره. وقال: فشب الغلام بعد فاعترف به الرجل، وكان أشبه الناس به قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً عياذاً بالله.

قال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أول من أسلم وأول من صلى، وأجمعوا أنه صلى إلى القبلتين، وهاجر، ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام علياً، وكان يكنى أبا حسن، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً، وكان يكنى أبا قثم وأبا تراب كناه النبي صلى الله عليه وسلم بهما، وكانت أحب الكنى إليه. وما أحسن قول بعضهم من الوافر:

إِذا ما رَمِدَتْ عَيني فَكُحلي ... تُرابٌ مَس نَعلَ أبي تُرابِ

هُوَ البَكاءُ في المِحرابِ لَيلاً ... هُوَ الضحاكُ في يَومِ الضرابِ

أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. قال أبو عمرو: هي أول هاشمية ولدت هاشمياً، أسلمت ودفنت بالمدينة، وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى دفنها، وأشعرها قميصه، وأضجعها في قبرها.

وروى الطبراني في الكبير والأوسط برجال الصحيح عن أنس بن مالك قال: ماتت فاطمة بنت أسد: أم علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - فَدَخَل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود؛ يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج ترابه، ثم لما فرغ اضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين، وكبر عليها أربعاً، وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق قال ابن عباس فلما سوى عليها التراب قيل: يا رسول الله، رأيناك صنعت شيئاً لم نرك صنعته لأحد، فقال: إني ألبستها قميصي؛ لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها؛ لأخفف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله إلي صنعاً بعد أبي طالب.

ولد - رضي الله عنه - وأبوه غائب، فسمته أمه حيدرة: وهو اسم الأسد، فلما قدم أبوه كره هذا الاسم، وسماه: علياً.

صفته - رضي الله عنه - : كان رضي الله تعالى عنه فوق الربعة من الرجال، أدعج العينين عظيمهما، حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، ضخم البطن، عظيم المشاش، ضخم الذراعين، عظيم اللحية قد ملأت صدره، إن عاينته من قريب قلت أسمر، أصلع شديد الصلع.

عن أبي سعيد الرسمي قال: كنا نبيع الثياب على عواتقنا في السوق، فإذا رأينا علياً قد أقبل قلنا بُزُرك شكم فيقول علي: ما تقولون؟ قلنا نقول: عظيم البطن قال أجل، أعلاه علم وأسفله طعام.

وكان عظيم المنكبين لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده قد أدمج إدماجاً، شئن الكفين، عظيم الكراديس، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه.

وعن أبي لبيد قال: رأيت علي بن أبي طالب يتوضأ، فحسر العمامة عن رأسه، رأيت رأسه مثل راحتي، عليه مثل خط الأصابع من الشعر.

وعن الشعبي أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب ورأسه ولحيته قطنة بيضاء، وكان إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه، فلم يستطع أن يتنفس، وهو قريب إلى السمن، شديد الساعد واليد، وإذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، ما صارع قط أحد إلا صرعه، ما اعتلى ضريبة إلا قد، ولا اعترض إلا قط، شجاع منصور على من لاقاه رضي الله عنه.

عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن: أنه بلغه أن علي بن أبي طالب والزبير أسلما، وهما ابنا ثمان سنين.

وقال ابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين، وعن الحسن أسلم علي، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة، وهو يختلف إلى الكتاب له ذؤابة. حكاه الجندري.

عن عاصم بن عمر قال: لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب، فقال: يا أبا الحسن، نشدتك بالله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك الأمر؟ قال: إن قلت لك، فماذا تصنع أنت وصاحبك؟ فقال: أما صاحبي فقد مضى، وأما أنا فوالله لأخلعنها من عنقي في عنقك، فقال علي: جدع الله أنف من أبعدك من هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني عَلماً، فإذا أنا مت فمن خالفني ضل. أخرجه السمان في الموافقة.

عن محمد ابن الحنفية قال: أتى رجل وعثمان محصور، فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً، فقال: حل لا أم لك، قال فأتى على الدار وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا على الباب ودخلوا، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من خليفة، وإنه لم نَرَ أحداً أحق بها منك، فردد، فأبوا. قال: فإذا أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن ائتوا المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه الناس.

وعن المسور بن مخرمة قال: قتل عثمان وعلي في المسجد، فمال الناس إلى طلحة، قال: فانصرف علي يريد منزله، فلقيه رجل من قريش عند موضع الجنائز، فقال: انظروا إلى رجل قتل ابن عمه وسلب ملكه، قال: فولى علي راجعاً لرقي المنبر، فقيل: ذاك علي على المنبر، فمال الناس إليه، فبايعوه وتركوا طلحة. أخرجه في المناقب وغيره.

ولا تضاد بين هذا وما قبله، بل يحمل على أن طائفة من الناس أرادوا بيعة طلحة، والجمهور أتوا علياً في داره، وسألوه فأجابهم على ما تقدم تقريره، فخرج بعد انصرافهم عنه في بعض شئونه، فلما سمع كلام ذلك الرجل خشي الخلف بين الناس، فصعد المنبر في وقته ذلك وبادر إلى البيعة لهذا المعنى لا لحب المملكة، وخشية فواتها؛ فإنه الزاهد فيما سوى الله، ولا قيمة لسماع كلام ذلك الرجل.

قال ابن إسحاق: إن عثمان لما قتل بويع علي بن أبي طالب بيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع أهل البصرة، وبايع له أهل اليمن وبالمدينة طلحة والزبير، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر، فسئل عنهم، فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل.

بويع - رضي الله تعالى عنه - يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة الحرام من سنة خمس وثلاثين من الهجرة.

قال العلامة الحافظ الذهبي: روى عن أبي حارثة، وأبي عثمان النهدي قالا: لما أتى معاوية الخبر أرسل إلى حبيب بن مسلمة الفهري، فقال: أشر علي برجل ينفذ بأمري ولا يقصر، قال: ما أعرف لذلك غيري. قال: أنت لها، وجعل على مقدمته يزيد بن شجعة الحميري في ألف، وقال: إن قدمت يا حبيب، وقد قتل فلا تدعن أحداً أشار إليه ولا أعان عليه إلا قتلته، وإن أتاك الخبر قبل أن تصل فأقم حتى أنظر، وبعث يزيد بن شجعة في ألف على البغال، يقودون الخيل معهم الإبل عليهم الروايا، فأغذ السير فأتاه خبر قتله بقرب خيبر، ثم أتاه النعمان بن بشير معه القميص الذي قتلوه فيه بالدماء، وأصابع نائلة امرأة عثمان قد قطعها السيف حين أرادت الدفاع عنه، والخصلة الشعر من لحية عثمان، أرسلت ذلك أم حبيبة بنت أبي سفيان ابن حرب زوجته عليه الصلاة والسلام، فرجعوا، فلفه معاوية في القميص على منبر دمشق والأصابع معلقة فيه، فآلى رجال من أهل الشام لا يأتون النساء، ولا يمسِون الغسل إلا من حلم، ولا ينامون على فراش حتى يقتلوا قتلة عثمان أو تفنى أرواحهم، وبكوه سنة فلما كانت سنة ست وثلاثين، كانت فتنة الجمل.

قال العلامة المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب ومعادن الجوهر: قال ابن عباس: قدمت من مكة إلى المدينة بعد قتل عثمان بخمسة أيام، فجئت لأدخل على علي، فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة، فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة علي، وقال: متى قدمت؟ قلت: الساعة، فدخلت عَلَى علي، فسلمت عليه، فقال لي: أين لقيت الزبير وطلحة؟ قلت: بالمراصف، وكانا قد استأذنا عليّاً في العمرة، فقال لهما: لعلكما تريدان البصرة أو الشام، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة للعمرة، وكانت عائشة بها قد خرجت من قبل حاجة، ثم قال علي: ومن معهما؟ قلت: أبو مسعود بن الحارث بن هشام المخزومي في فتية من قريش، فقال علي: أما إنهم لن يدعوا أن يخرجوا يقولون: نطلب بدم عثمان، والله يعلم إنهم قتلة عثمان، فقلت له: أخبرني عن شأن المغيرة ودخوله عليك، فقال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين، فقال: إنني ناصح لك، وإني أشير عليك بإبقاء عمال عثمان، فأكتب إليهم بإبقائهم على أعمالهم، فإذا بايعوك، واطمأن أمرك - عزلت من كرهت، وأبقيت من أحببت، فقلت: والله لا أداهن في ديني، ولا أعطي الرياء في أمري.

قال فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت، وأثبت معاوية فإن له جرأة وهو في أهل الشام مسموع منه، ولك حجة في إبقائه فقد كان عمر ولاه الشام كلها، وعثمان بعده، فقلت: والله لا أستعمل معاوية يومين، فخرج من عندي على إشارته، ثم عاد إلي بعد يوم، فقال: إني أشرت عليك بما علمت، فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون لك فيه دلسة.

قال ابن عباس، فقلت لعلي: أما أول ما أشار به عليك: فقد نصحك، وأما الآخر: فقد غشك. وإني أشير عليك بتثبيت معاوية فإن بايع لك فلك على أن أنقله من منزله.

فقال علي: والله لا أعطي معاوية إلا السيف حتى يدخل في الحق، وتمثل بقول القائل: من الطويل:

فَما مِيتَةٌ إن مِتها غَيرَ عاجِزٍ ... بِعارِ إِذا ما غالَتِ النفسُ غَولَها

فقلت: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلب بباطله حقك، قال علي: وكيف ذاك؟؟! قلت: إنك تطاع اليوم، وتعصى غداً، وإنه يطاع، ولا يعصى.

فلما انتشر علي على أصحابه وكان ابن عباس إذ ذاك بالبصرة قال علي - كرم الله وجهه - : لله در ابن عباس!! كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.

وفي رواية: فقلت له بعد تمثله بالبيت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع، أما سمعت قوله صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة " ؟ قال: بلى، فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدرن لهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في أدبار الأمور كما لا يدرون ما كان وجهها في غير نقض ولا إثم، فقال لي: يا بن عباس، لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء، تشير علي برأي فيه فإذا عصيتك، فأطعني، فقلت فأنا أفعل، وأيسر ما لك عندي الطاعة، فقال: سر إلى الشام فقد وليتكها. قلت:؟ ما هذا برأي، يضرب عنقي بعثمان؟ وأدنى ما هو صانع أن يخلصني. قال علي: ولمَ.؟ قلت: لقرابتي منك، فإن كل من حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية: فمنه، وعِدهُ، فأبى علي، وقال: والله لا كان هذا أبداً، ثم تلا " وَما كنُتُ مُتخَذَ المُضِلِينَ عضداً " الكهف: 51.

وروى الواقدي عن رجاله قال: كان يعلى بن منية التميمي عامل عثمان على اليمن، فوافى الموسم عام قتل عثمان، فجاء إلى عائشة وهي بمكة للحج، فقال: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرصين عليه، فقالت: برئت إلى الله من قاتله.

وعن الوليد بن عبد الله قال: قال يعلى بن منية: أيها الناس، من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه، وكان معهم بمكة عبد الله بن عامر بن كريز عامل عثمان على البصرة، فهرب منها لما أخذ البيعة بها لعلي على الناس جارية بن قدامة السعدي، وأعطى يعلى بن منبه عائشة أربعمائة ألف درهم، وقال: هذه من عين ما لي أقوى بها من طلب بدم عثمان، فبلغ علياً قوله، فقال: من أين له، سرق اليمن، ثم جاء وأعطاها كراعاً وسلاحاً، والجمل الذي عليه هودجها واسمه عسكر، فلما انكشفوا يوم الجمل هرب يعلى المذكور.

قال الذهبي: لما قتل عثمان سقط في أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعوا علياً رضي الله عنه، ثم إن طلحة، والزبير، ومروان، وعائشة، ومن تابعهم من بني أمية - رأوا أنهم لا يخلصهم مما وقعوا فيه من توانيهم في نصرة عثمان إلا أن يقوموا في الطلب بدمه، والأخذ بثأره ممن قتله، فسار طلحة والزبير من المدينة، واستأذنا علياً في العمرة، فقال لهما ما تقدم، فأقسما أنهما يريدان مكة للعمرة، وكانت عائشة بمكة حاجة، فاجتمعوا ومعهم يعلى بن منية عامل اليمن، وعبد الله بن عامر عامل البصرة، فأرادوا الشام، فصدهم عبد الله بن عامر، وقال: إن معاوية لا ينقاد إليكم ولا يعطيكم من نفسه الظنة، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدة، فجهزهم بألف ألف درهم، وسار القوم نحوها في نحو ستمائة راكب، فانتهوا بالليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب، فعوت كلابه على الركب، فسألت عائشة عن اسم هذا الماء، فقيل لها: الحوأب فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لنسائه وعائشة معهن: " أيتكن صاحبة الجمل الأدب أو الأدبب تنبحها كلاب الحوأب تنجو بعد ما كادت " ؛ فاسترجعت، وقالت: ردوني إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حاجة لي في المسير هذا، فقال لها الزبير: تالله ما هذا بالحوأب وأشار إلى جبل هناك، ولقد غلط من أخبرك.

فأتوا إلى البصرة، فخرج إليهم عثمان بن حنيف الأنصاري عامل على عليها، فمانعهم، وجرى بينهم قتال، ثم اصطلحوا على ترك الحرب إلى قدوم علي، فلما كان بعض الليالي أسروا عثمان، ونتفوا لحيته، وقتلوا سبعين رجلاً، فهم أول من قتل في الإسلام ظلماً.

وتشاح الزبير وطلحة في الصلاة بالناس، ثم اتفقوا لهذا يوم وللآخر يوم، وسار علي - رضي الله عنه - من المدينة بعد أربعة أشهر معه أربعة آلاف، حتى انتهى إلى الربذة، وفاته طلحة والزبير، وكان أرادهم، فانصرف حين فاتوه إلى العراق وأرسل ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة؛ يستنفران له الناس، وكتب من الربذة إلى أبي موسى الأشعري - وكان ولاه على الكوفة - فقال أبو موسى: إنما هي فتنة، فثبط الناس، فبلغ ذلك علياً فولى على الكوفة بدله قرظة بن كعب الأنصاري، وكتب إلى أبي موسى: اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أول يومنا منك، وخر مع الحسن وعمار نحو سبعة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً فيهم الأشتر النخعي، وقال عمار لأهل الكوفة: أما - والله - إني لأعلم أنها - يعني عائشة - زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر أتبغونه أم إياها؟ فخرج القوم مع الحسن وعمار حتى قدموا على علي بذي قار - اسم مكان - فسار في نحو عشرة آلاف، حتى أتى البصرة.

قال أبو عبيدة: كان على خيل علي يوم الجمل عمار بن ياسر، وعلى الرجل محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى الميمنة علي بن الهيثم السدوسي، ويقال: عبد الله بن جعفر، وعلى الميسرة الحسين بن علي، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس، ودفع اللواء إلى ابنه محمد ابن الحنفية، وكان على خيل طلحة والزبير طليحة، وعلى الرجل عبد الله بن الزبير، وعلى الميمنة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى الميسرة مروان بن الحكم، وكان اللواء مع عبد الله بن حكيم بن حزام المخزومي، وقال المطلب بن زياد عن السدي: شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً، وسبعمائة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم.

قلت: ورأيت نقلاً عن الشعبي: أنه بالغ، فقال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلا علي وعمار وطلحة والزبير، وهو مخالف لما نقله الثقات غيره، وذكر عن المنذر ابن أبي الجارود فيما حدث به الفضل بن الحباب الجمحي عن ابن عائشة عن معن بن عيسى: أنه لما قدم على البصرة دخل مما يلي الطف، قال ابن الجارود: فخرجت، أنظر إليه، فورد في موكب عظيم وله ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض متقلداً سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض مدججين في الحديد والسلاح، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وقيل: ابن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه مقدمه المدينة، وأقام في بيته إلى أن عمر المسجد النبوي، وبيوت نسائه، وهؤلاء الأنصار معه، ثم تلاه فارس آخر عليه عمامة صفراء، وثياب بيض متقلداً سيفاً متنكباً قوساً معه راية على أشقر في نحو ألف فارس، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا حذيفة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، ثم تلاه فارس آخر على فرس كميت معتماً بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء، وعليه قباء أبيض، متقلداً سيفاً، متنكباً قوساً في نحو ألف فارس من الناس، ومعه راية، فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو قتادة بن ربعي الأنصاري، ثم تلاه فارس آخر على فرس أدهم عليه ثياب بيض، وعمامة سوداء قد مد لها بين يديه، ومن خلفه شديد الأدمة عليه سكينة ووقار رافعاً صوته بالقران معه راية في ألف فارس من الناس مختلفي الألوان والتيجان من شيوخ، وكهول وشيب وشباب عليهم السكينة والوقار، كأنما أوقفوا ليوم الحساب، وأثر السجود في جباههم فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عمار بن ياسر المخزومي في عدة من الصحابة المهاجرين والأنصار وأبنائهم، ثم تلاه فارس على فرس أشقر، وعليه ثياب بيض، متقلداً سيفاً، تخط رجلاه في الأرض طولاً في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض، معه راية صفراء، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي في عدة من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان، ثم تلاه فارس آخر على فرس، أشكل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض، وعمامة سوداء، أسدلها بين يديه، ومن خلفه، وبيده لواء، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عبيد الله بن العباس أخو عبد الله، ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين قبله، فقلت: من هذا؟ قيل: هذا قثم بن العباس.

ثم أقبلت الرايات والمواكب يتلو بعضها بعضاً، واشتبكت الرماح، ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد مختلفي الرايات، في أوله راية عظيمة، في أوله فارس كأنه قد كسر، وجبر نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، حوله أمم كأنما على رءوسهم الطير، عن يمينه شاب حسن الوجه، وبين يديه شاب مثلهما، قلت: من هؤلاء؟ فقيل لي: هذا علي بن أبي طالب، وأما من عن يمينه فالحسن وعن شماله الحسين، وهذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهؤلاء أولاد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم، وهؤلاء المشايخ من أهل بدر الذين شهدوها مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فسار علي - رضي الله تعالى عنه - حتى نزل بالموضع المعروف بالزاوية، فصلى أربع ركعات، وعفر خديه في التراب، وقد خلط ذلك بدموعه، ثم رفع يديه يدعو، ثم بعث رجلاً من أصحابه يقال له: مسلم معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى، فرموه بسهم، فقتلوه، فحمل إلى علي، فقالت أم مسلم: من الرجز:

يا رَب إن مُسلِماً أتاهُم ... يَتلُو كِتابَ اللهِ لا يَخْشاهُمْ

فَخَضبُوا من دَمِهِ لِحاهُم ... وأمهُ قائِمَة تَراهُمْ

ثم إن علياً - رضي الله عنه - راسل القوم وناشدهم، فأبوا إلا القتال فكانت وقعة الجمل.

قال الإمام الذهبي في تاريخه: اصطف الفريقان - وليس لطلحة ولا لعلي رأسي الفريقين قصد في القتال، بل ليتكلما في اجتماع الكلمة - فترامى أوباش الطائفتين، وشبت نار الحرب، وثارت النفوس، وبقي طلحة يقول: أيها الناس أنصِتوا. والفتنة تغلى، فقال: أف فراش النار وذباب طمع، وقال: اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى، إنا داهنا في أمر عثمان، كنا بالأمس يداً على من سوانا، وأصبحنا اليوم جبلين من حديد يزحف أحدنا إلى صاحبه، وقد كان مني في أمر عثمان ما لا أرى كفارته إلا بسفك دمي.

وعن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان علي بالربذة متوجهاً إلى البصرة للقتال قام إليه ابنه الحسن، فبكى بين يديه، وقال له: ائذن لي فأتكلم.

قال: تكلم، ودع عنك أن تحن حنين الأمة.

فقال: لقد كنت أشرتُ عليك بالمقام، وأنا أشير به عليك الآن، إن للعرب جولة، ولو رجعت إليها عوازب أحلامها لضربوا إليك آباط الإبل حتى يستخرجوك، ولو كنت في مثل جحر الضب.

فقال علي: أتراني - لا أبا لَكَ: - كنتُ منتظراً كما ينتظر الضبع اللدم.

وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عم له: أنه لما كان يوم الجمل نادى علي في الناس: لا تراموا أحد بسهم، وكلوا القوم فإن هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة.

ثم إن القوم نادوا بأجمعهم: يا ثارات عثمان.

قال: وابن الحنفية أمامنا برتوة معه اللواء، فمد علي - رضي الله عنه - يديه، وقال: اللهم كب قتلة عثمان لوجوههم.

ثم إن الزبير قال لأساورة معه: ارموهم ولا تبلغوا، فكأنه إنما أراد أن ينشب القتال، فلما نظر أصحاب علي إلى النشاب لم ينتظروا أن يقع إلى الأرض وحملوا عليهم فهزموهم.

وخرج علي رضي الله عنه بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: يا زبير اخرج إلي. فخرج شاكي السلاح حتى التقت أعناق دوابهما فقيل ذلك لعائشة، فقالت: واخفرتك يا أسماء!.

فقيل لها: الزبير شاكي السلاح وعلي حاسر، فاطمأنت قليلاً، فقال له علي: ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟! قال: دم عثمان.

فقال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، ثم قال له: أتذكر يا زبير يوم لقيت رسول الله وضحكتُ إليه وأنت معه، فقلت: ما يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: والله إني لأحبه، فقال لك: إنك ستقاتله، وأنت له ظالم.

فقال الزبير: أستغفر الله، لو ذكرتها ما خرجت، فكيف أرجع الآن، وقد التقت حلقتا البطان، هذا والله العار الذي لا يغسل أبداً. فقال علي: يا زبير ارجع بالعار قبل أن يُجْمَعَ العار والنار، فرجع الزبير وهو يقول: من البسيط:

إِختَرتُ عاراً عَلَى نارٍ تُؤَججُه ... أني يَقُومُ بِها خَلق مِنَ الطينِ

نادَى علي بِأمرٍ لَست أجهَلُهُ ... عاز لَعَمْرُكَ في الدنيا وفي الدينِ

فَقُلْتُ حَسْبُكَ مِنْ عَذل أبا حَسَنٍ ... فَبَغضُ هَذا الَذِي قَد قُلْتَ يَكفِيني

فقال له ابنه عبد الله بن الزبير: إلى أين تذهب؟ فقال أذكرني علي أمراً كنت نسيته. قال: لي الأمر كذلك، لكن فررت من سيوف بني هاشم، فإنها حداد يحملها فتية أنجاد. فقال راويه: قال له: جبنا جبنا.

فقال لا والله، ولكنه أذكرني أمراً أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار، أباِلجبن تعيرني لا أبا لك؟! ثم قلع سنان رمحه وسار في ميمنة علي، فقال علي: أفرجوا له فقد هاجوه، ثم رجع فشد في الميسرة، ثم رجع فشد في القلب، ثم رجع وقال لابنه: أيفعل هذا جبان؟! ثم مضى منصرفاً بوادي السباع.

والأحنف بن قيس التميمي منحاز في قومه من بني تميم، فأتاه رجل فقال: هذا الزبير مار، فقال ما أصنع بالزبير وقد جمع بين جيشين عظيمين يقتل بعضهم بعضاً وها هو صار إلى منزله سالماً، فلحقه عمرو بن جرموز بوادي السباع، وقد نزل الزبير للصلاة، فأتاه من خلفه فطعنه، وهو في الصلاة.

ثم استسقى الزبير لبناً فشربه فخرج من جرحه، فمات رحمه الله، فاحتز رأسه وأتى به وسيفه وخاتمه إلى علي رضي الله عنه فقال علي: يا أعرابي تبوأ مقعدك من النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قاتل ابن صفية في النار " .

وقال علي: طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حلول الحين ومقدار السوء!.

وقال قاتله لما قال له علي ما قال: من المتقارب:

أتَيْتُ علياً بِرأسِ الزبيرِ ... وَقَد كُنتُ أرْجُو بِهِ الزلفَهْ

فَبَشَرَ بِالنارِ قبل العِيانِ ... وَلَيسَت بِشارَة ذي التُحفَه

لَسيانِ عِندِيَ قَتل الزبَيرِ ... وَضَرْطَةُ عَيرِ بِذِي الْجُحفَهْ

وقال حسان بن ثابت يرثيه: من الطويل:

أقامَ عَلَى هَدْي النبِي وَهَديِهِ ... حَوارِيُّهُ والقولُ بِالْفِعْلِ يَكْمُلُ

أقامَ عَلَى مِنْهاجِهِ وَطَريقِهِ ... يُوالي وَلي الحَق والحَق أعْدَلُ

هُوَ الفارِسُ المَشهُورُ والبَطَلُ الذِي ... يَصُولُ إذا ما كانَ يَوْم محَجل

ِإذا كَشفَت عن ساقِها الحَرب حَثَّها ... بِأبْيَضَ سَباقٍ إِلى الموتِ يرفُلُ

فَما مِثلُه فيهِم وَلا كانَ قَبلَهُ ... وَلَيْسَ يَكُونُ الدهْرَ ما دامَ يَذْبُلُ

ثَناؤُكَ خَير من فِعالِ مَعاشِرٍ ... وَفِعلكَ يابْنَ الهاشميةِ أفْضلُ

فَكَمْ كربَةٍ ذَب الزبَيرُ بِسَيفِهِ ... عَنِ المُصطَفَى واللهُ يُعْطِى فَيُجْزِلُ

وفيه يقول بعض بني آل الزبير: من الكامل:

جَدي ابنُ عمة أحمدٍ وَوَزِيرُهُ ... عِندَ البَلاء وَفارِسُ الشُعَراءِ

وَغَداةَ بَدرٍ كانَ أولَ فارِسٍ ... شَهِدَ الوَغَى في اللأمةِ الصفْراءِ

نَزَلَتْ بِسيماهُ المَلائِكُ نُضرَةً ... بِالحَوضِ يَؤو تألبِ الأعْداءِ

وقال جرير يرثيه: من الكامل:

إن الرزيةَ من تَضَمنَ قَبرَهُ ... وادِي السباعِ، لِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ

لَما أتَى خَبَرُ الزبيرِ تَواضَعَت ... سُورُ المَدِيَنةِ والجِبالُ الخُشعُ

وقالت زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخت سعيد بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله تعالى عنهم: من الكامل:

غَدرَ ابنُ جُرمُوزٍ بِفارِسِ مُهجَة ... يَومَ اللقاءِ وَكانَ غيْرَ معَذرِ

يا عَمرو لَو نَبهتهُ لَوَجَدتهُ ... لا طائِشاً رَعِشَ البَنانِ وأبتَرِ

ونادى علي رضي الله عنه بعد رجوع الزبير طلحة فقال: يا أبا محمد، ما الذي أخرجك. قال: الطلب بدم عثمان.

قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، أما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم وال من والاه " ، وأنت أول من بايعني ثم نكثت، وقد قال الله تعالى " فَمَن نكث فإنما يَنكث علَىَ نَفسِه " الفتح: 10، فقال طلحة: أستغفر الله، ثم رجع.

فقال مروان: رجع الزبير ويرجع طلحة، والله لا أطلب ثأري بعد اليوم.

فرمى مروان طلحة بسهم شك ساقه بجنب فرسه، فما زال ينشج حتى مات.

وفي رواية أنه قال: هذا ممن أعان على قتل عثمان. والتفت إلى أبان بن عثمان وقال له: قد كفيناك بعض قتلة أبيك ثم اقتتلوا فقطعت على خطام الجمل سبعون يداً مختمة، كُلما أخذ رجل بخطامه قطعت يده، وكلهم من بني ضبة، وهم يرتجزون بقولهم:

نَحنَ بَنُو ضَبةَ أصحابُ الجَمَل ... لا نَرهَبُ المَوتَ إِذا المَوتُ نَزَل

رُدُوا عَلَينا شَيخنا ثم بجل ... عُثمان رُدوهُ بِأطراف الأسَل

قال العلامة إبراهيم البيهقي في كتابها المحاسن والمساوئ: لما سارت عائشة أقبلت في هودج من حديد، وهى تنظر من ينظر قد صير لها فيه، فقالت لرجل من ضبة وهو آخذ بخطام جملها: أين ترى علي بن أبي طالب؟ فقال لها هو ذاك رافعاً يديه إلى السماء فنظرت عائشة إليه ثم قالت: ما أشبهه بأخيه، فقال الضبي ومن أخوه. قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبذ خطام جملها من يده، ومال إلى علي، كرم الله وجهه.

وعن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لعائشة - رضي الله عنها - يوم الجمل: يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. فقال: هل وجدتيه في كتاب الله تعالى؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرءون.

قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة. قالت: اللهم لا.

قال الأحنف: فإذن ما هو ذنبنا؟!.

وحمل أصحاب الجمل على ميمنة على وميسرته فكشفوهما، فأتى علياً بعض ولد عقيل، وهو يخفق نعاساً فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا النعاس؟.

فقال له علي: اسكت يا بن أخي إن لعمك يوماً لا يعدوه، والله ما يبالي عمك أوقع على الموت أو الموت وقع عليه.

ثم بعث إلى ولده محمد ابن الحنفية، وكان صاحب رايته، كما تقدم ذكره وقال له: احمل على القوم، فأبطأ محمد بالحملة، وكان بإزائه قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم، فأتاه عَلِي، فقال: هلاَّ حملت على القوم؟ فقال: ما أجد متقدما إلا على سنان، وإني أنتظر نفاد سهامهم. فقال له علي: احمل بين الأسنة فإن للموت عليك جنة.

فحمل محمد فشك بالرماح والنبل، فأتاه علي فضربه بقائم سيفه وقال له: أذرعك عِزق سوء من أمك؟! وأخذ الراية من يده، وحمل وحمل الناس معه، فما كان القوم إلا كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف، ورمى الهودج بالنشاب حتى صار كأنه قنفد، وصرخ صارخ: اعقروا الجمل فعقره رجل اختلف في اسمه، وكان الهودج ملبساً بالدروع وداخله أم المؤمنين، وهي تشجع الناس الذين حول الجمل، لا قوة إلا بالله!.

ثم إنها ندمت وندم علي عَلَى ما وقع.

ثم أتى علي - كرم الله وجهه - إلى الهودج فضرب أعلاه بقضيب في يده فقال: أبهذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حميراء؟! والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ أبرزوك، وصانوا حلائلهم.

فسُمِعَ صوت من الهودج: ملكت فأسجح.

ولما سقط الجمل بعد الوقعة أتى محمد بن أبي بكر، فحط هودجها عن الجمل أدخل يده، فقالت: مَن؟ قال: أقرب الناس إليك قرابة، وأبغضهم إليك محمد بن أبي بكر، يقول لك أمير المؤمنين: هل أصابك شيء؟ فقالت: ما أصابني إلا سهم لم يضر في شيئاً. والتقى الأشتر مالك بن الحارث النخعي من فرسان علي، هو عبد الله بن الزبير من فرسان الجمل فاعتركا وسقطا عن فرسيهما، وطال اعتراكهما فعلاه الأشتر ولم يجد سبيلاً إلى قتله، والناس يجولون وعبد الله بن الزبير ينادي ويقول: من مجزوء الخفيف:

أُقتُلُونِي وَمالِكاً ... وافتُلُوا مالِكاً مَعِي

فلا يسمعه أحد لشدة الصياح ووقع الحديد على الحديد، ولا يراهما راء لظلمة النقع وترادف العجاج. وكلم خزيمة بن ثابت علياً فقال يا أمير المؤمنين: لا ينكس اليوم برأس محمد واردد إليه الراية، فدعا به ورد إليه الراية ثم قال له: من الرجز:

إِطعَن بِها طَعنَ أبِيكَ تُحْمَدِ

لا خير في الحَرْب إِذا لَمْ تُوقَدِ

بالمَشْرَفِي والقنا المُسَدَدِ

ثم استسقى علي، فأتى بعسل وماء، فحسا حسوة فقال: هذا الطائفي، وهو غريب بهذا البلد، فقال له عبد الله بن جعفر: أما يشغلك ما نحن فيه عن علم هذا؟! فقال: والله يا بني ما ملأ صدر عمك شيء من أمور الدنيا.

ثم جهز علي - رضي الله عنه - عائشة وبعث معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر، وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين والشرف من نساء عبد القيس، وهمدان، وألبسهن العمائم وقلدهن السيوف، وقال: لا تعلمن عائشة أنكن نسوة.

فكن هن اللاتي يلين جملها وخدمتها وبعث على ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالخروج إلى المدينة مع من هيأهم للخروج بها، فدخل عليها ابن عباس بغير إذنها وأخذ وسادة فجلس عليها، فقالت: يا بن عباس أخطأت السنة، دخلت بغير إذننا وجلست على رحلنا بغير أمرنا. فقال لها: لو كنت في البيت الذي خلفك صلى الله عليه وسلم فيه ما دخلنا إلا بإذنك، ولا جلسنا إلا بأمرك، إن أمير المؤمنين يأمرك بسرعة الأوبة، والتأهب للرجوع للمدينة، ثم خرج ابن عباس من عندها.

ثم أتاها علي في اليوم الثاني، ومعه الحسن والحسين وباقي أولاده وأولاد إخوته، ونساء من بنى هاشم وغيرهم من شيعته من همدان، فلما بصرن به النساء صحن في وجهه: يا قاتل الأحبة. فقال: لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في البيت، وأشار إلى بيت من البيوت كان قد اختفى فيه مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عامر وغيرهم، فضرب من كان مع علي - رضي الله عنه - بأيديهم إلى قوائم سيوفهم لما علموا أن في البيت ناساً حذراً من الاغتيال، فقالت له عائشة بعد كلام طويل كان بينهما: إني أريد أن أكون معك فأسير إلى قتال عدوك عند مسيرك، فقال: ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألته تأمين ابن أختها عبد الله بن الزبير؛ لأنه ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة. وتكلم الحسن والحسين في مروان فأمنه، وأمن الوليد بن عقبة، وولده عثمان وغيرهم من بني أمية، وأمن الناس جميعاً وقال - رضي الله عنه - كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن " .

ثم ارتحلت عائشة فلما وصلت المدينة الشريفة، قالت: كنت بخير في مسيري، وقد أعطى ابن أبي طالب فأكثر، ولكنه بعث معي رجالاً أنكرتهم، فعرفها النسوة حالهن حينئذ فقالت: ما ازددت والله يا ابن أبي طالب إلا كرماً، وددت إني لم أخرج هذا المخرج وأني أصابني كيت وكيت، من أمور شاقة ذكرتها، وإني قيل لي: تخرجين فتصلحين بين المسلمين فكان ما كان.

ثم ولى على البصرة ابن عباس وسار إلى الكوفة، ثم بعث إلى الأشعث بن قيس فعزله عن أذربيجان، وأرمينية وكان عاملاً لعثمان عليها، وصرف جريراً عن همدان، وكان عاملاً لعثمان عليها، وكان في نفس الأشعث عليه من ذلك شيء، فكان منه الميل إلى خديعة عمرو بن العاص قد أراد به تحكيم أبي موسى الأشعري، كما سيأتى.

روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان بين العباس، وعلى بن أبي طالب مباعدة، فلقيت علياً فقلت له: إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فإنه وجع، وما أراك تلقاه. فوجم لها علي، وأقبل على يده ورجله يقبلهما ويقول: يا عم، ارض عني رضي الله عنك. قال: قد رضيت عنك. ثم قال: يا بن أخي كنت قد أشرت عليك بأشياء فلم تقبل مني، فرأيت في عاقبتها ما كرهت، وها أنا الآن أشير عليك برأي آخر، فإن قَبلته وإلا نالك ما نالك، فقال علي: وما الذي أشرت به علي يا عم؟ قال: أشرت عليك لما مرض - عليه الصلاة والسلام - أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقلتَ: إِنْ منعناها لم يعطناها أحد؛ فمضت تلك؛ فلما قُبِضَ عليه الصلاة والسلام أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك، فقلتُ: ابسط يدك لنبايعك؛ فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك منافي، وإن بايعك بنو عند مناف لم تختلف عليك قريش، وإن بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب، فقلتَ في جهاز النبي شغل وليس على ثوب، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلتَ: ما هذا يا عم؟ قلت: هذا ما دعوناك إليه فأبيت، فقلت: سبحان الله ويكون هذا؟! قلت: وهل يرد مثل هذا؟ ثم أشرت عليك حين طعن عمر ألا تدخل نفسك في الشورى؛ فإنك إن اعتزلتهم قدموك، وإن ساويتهم تقدموك، فدخلت معهم فكان ما رأيت.

وها أنا أقول لك: أرى هذا الرجل - يعنى عثمان بن عفان - يأخذ في أمور، وكأني بالعرب وقد سارت إليه حتى ينحر كما تنحر الجزور، والله لئن كان ذلك وأنت بالمدينة ليرمينك الناس بدمه، ولئن فعلوا لا تنال من هذا الأمر شيئاً إلا بعد شر لا خير معه انتهى. قال ابن عباس: فكان الأمر كما قال أبي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وعن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: كان إياس بن معاوية لي صديقاً، فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعنده جماعة يتذاكرون السلف؛ ففضل قوم أبا بكر وقوم عمر وقوم علياً - رضي الله عنهم - ؛ فقال إياس: إن علياً يرى أنه كان أحق الناس بالأمر، فلما بويع أبو بكر، ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه، وأن ذلك قد أصلح العامة - اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة - يعني بني هاشم - ثم لما ولي عمر فعل مثل ذلك به وبعثمان، فلما قتل عثمان، واختلف الناس، وفسدت الخاصة والعامة، وجد أعواناً فقام بالحق ودعا إليه - رضي الله عنه وكرم وجهه - . كذا في المحاسن للبيهقي.

قال المسعودي: وكانت وقعة الجمل يوماً واحداً، وقتل من أهل البصرة وغيرهم ثلاثة عشر ألفاً، ومن أصحاب على سبعة آلاف، وقيل: خمسة آلاف. وقال العلامة الذهبي: قتل بينهما ثلاثون ألفاً وكانت يوم الخميس لعشرِ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين المذكورة، قتل فيها المشاهير: طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي أحد العشرة المبشرة، وهو أول قتيل يوم الجمل بعد مسلم الجهني الذي أمره على أن يدعو القوم بالمصحف إلى ما فيه فرمي بسهم فقتل، وقد ذكرنا أن مروان من جيش طلحة والزبير، وأنه القاتل له بسهم رماه به. وقال مجالد عن الشعبي قال: رأى علي - رضي الله عنه - طلحة ملقى قتيلاً، فنزل فمسح التراب عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ثم قال: عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلاً في الأودية. ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجري. قال الأصمعي: معناه: سرائري وأحزاني ولها معانٍ أخر مذكورة في اللغة. وقال الليث عن طلحة بن مصرف: فدفنا طلحة على شاطئ الكلاء بالمدّ التشديد، وهو مرسى المراكب، فرآه بعض أهله في المنام يقول له: ألا ترى؟ نجوني من هذا الماء قد غرقت - ثلاث مرات يقولها - فنبشوه فإذا هو أخضر كأنه السلق، فنزحوا عنه الماء فاستخرجوه، فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا له داراً من دور أبي بكر بعشرة آلاف فدفنوه بها.

ومِمن قتل فيها محمد بن طلحة، وكان زاهداً عابداً، صالحاً ديناً قواماً. ذكر ابن سعد أن محمد بن طلحة بن عبيد الله تقدم فأخذ بخطام الجمل، فحمل عليه رجل، فقال له: أذكرك حاميم، فطعنه فقتله، ثم قال: من الطويل:

وأشعَثَ قَوامِ بآياتِ رَبهِ ... قَلِيلِ الأذَى فِيما تَرَى العَين مُسْلِم

هَتَكْتُ لَهُ بالرمحِ جَيبَ قَمِيصِهِ ... فَخَر صَرِيعاً لليدَينِ وَلِلْفَمِ

يذَكرُنِي حامِيمَ والرُمحُ شاجِرٌ ... فَهَلا تَلا حامِيمَ قَبْلَ التقَدُمِ

عَلَى غَير ِشَيْءِ غَير أن لَيسَ تابِعاً ... علياً وَمَن لا يَتبَعِ الْحَق يَنْدَمِ

فسار على ليلته في القتلى معه النيران، فمر بمحمد بن طلحة هذا قتيلاً فقال لابنه حسن: يا حسن، محمد السجاد ورب الكعبة!. ثم قال: أبوه صرعه هذا المصرع، لولا بره بأبيه ما خرج. فقال له الحسن: ما كان أغناك عن هذا يا أبت؟! فقال: مالي ولك يا حسن.

وممن قتل حُكيم بن جبلة العبدى، كان متديناً عابداً، شريفاً مطاعاً بطلاً، وهو أحد من سار إلى الفتنة وألب على عثمان، وهو من جماعة علي، ولم يزل يقاتل حتى قطعت رجله فأخذها وضرب بها الذي قطعها فقتله، ثم أخذ يقاتل ويقول: من منهوك الرجز:

يا ساقُ لَن تُراعِي ... إِن مَعَي ذراعِي

أحمِي بِهِ كُراعِي

حتى نزفه الدم فاتكأ على المقتول الذي قطع رجله فمر به رجل فقال: من قطع رجلك؟ فقال: وسادتي هذه. ثم أتاه أسحيم الحداني فقتله. وذكر المدائني أنه رأى رجلاً مصلم الأذنين، فسأله عن قصته، فذكر أنه خرج يوم الجمل ينظر القتلى، فنظر إلى رجل منهم يخفق رأسه وهو يقول: من الطويل:

لَقَد أورَدتنا أمُناً حَومةَ الرَدَى ... فَلَم نَنصَرِفْ إلا وَنَحْنُ رِواءُ

أطَعنا بَنِي تَيمِ لِشِقوَةِ جَدِّنا ... وَما تَيمُ إِلا أعبُدٌ وإماءُ

فقلت: سبحان الله!! تقول هذا عند الموت، قل لا إله إلا الله. فقال يا بن اللخناء، أتأمرني بالجزع عند الموت؟ فوليت عنه متعجباً، فقال: ادن مني لقني الشهادة، فصرتُ إليه فلما قربت منه استدناني، ثم التقم أذني فذهب بها، فجعلت ألعنه وأدعو عليه، فقال: إذا صرت إلى أمك فقالت لك: من فعل هذا بك؟ فقل: عمير بن الأهلب الضبي، مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين.

ثم كانت في سنة سبع وثلاثين وقعة صفين؛ اسم مكان كانت به الوقعة. وذلك أن سيدنا علياً - كرم الله وجهه ورضى الله عنه - وَجَه جرير بن عبد الله وهو المقول فيه: من الرجز:

لَولا جَرِير هَلَكَت بَجِيلَه ... نِغمَ الفَتَى وَبِئسَتِ القَبِيلَهْ

إلى معاوية، وقد كان الأشتر النخعي حذر علياً من إرساله جريراً وخوفه من ذلك، فقال جرير: ابعثني فإنه لم يزل بي مستنصحاً وداداً، فآتيه فأسأله أن يسلم إليك هذا الأمر، وأدعو الشام إلى طاعتك. فقال الأشتر لسيدنا علي: لا تبعثه فوالله لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم، فقال علي: دعه حتى ننظر ما يأتي إلينا به، فبعث به، وكتب إلى معاوية يعلمه بمبايعة المهاجرين والأنصار واجتماعهم عليه، ونكث الزبير وطلحة وما أوقع الله بهما، وأمره بالدخول في طاعته، وأعلمه أنه من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة. فلما قدم عليه جرير دافعه وسأله الإقامة أياماً، وقد كان كتب معاوية إلى عمرو بن العاص فقدم إليه، وأعطاه مصر طعمة، فأشار عمرو بالبعث إلى وجوه الشام، وأن يلزم علياً دم عثمان ومقاتلته. فقدم جرير على علي، فأخبره خبرهم، واجتماع أهل الشام مع معاوية على قتاله، وأنهم يبكون على عثمان ويقولون: إن علياً قتله، وإنهم لا بد لهم من قتاله حتى ينفوه ومن معه أو يعينهم، فقال الأشتر لعلي: قد كنت أخبرتك بعداوته وغشه، يعنى جريراً، ولو أرسلتني لكنت خيراً من هذا الذي أرخى جناحه، وأقام حتى لم يدع باباً يرجو معاوية فتحه إلا فتحه، ولا باباً يخافه إلا غلقه. فقال له جرير: لو كنت ثم لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان، فقال: لو رأيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولا ثقل علي خطابهم، ولحملت معاوية على خطة أعجلته فيها عن الفكر، ولو أطاعني أمير المؤمنين فحَبَسك وأشباهك في مجلس فلا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور. فخرج جرير إلى الرحبة من شاطئ الفرات، وكتب إلى معاوية يعلمه بما نزل به، وأنه أحب مجاورته فكتب إليه معاوية يأمره بالمسير إليه، وبعث معاوية إلى المغيرة ابن شعبة يقول له: قد ظهر من رأي ابن أبي طالب وما كان تقدم من توعده لك في طلحة والزبير، فما الذي بقي من رأيه فينا؟.

وذكر يحيى بن عبيد قال: قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أأنت تنازع علياً أم أنت مثله. فقال: لا والله، إني لأعلم أن علياً أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه، وإنما أطالب بدمه؟ فأتوا علياً فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له. فأتوا علياً فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه.

وحدث يحيى الجعفي أن معاوية قال لجرير بن عبد الله البجلي المذكور: اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام وأنا أبايعه. وقال: وبعث الوليد بن عقبة إلى معاوية يقول: من الطويل:

مُعاوِيَ إِن الشامَ شامُكَ فاعتَصِم ... بِشامِكَ لا تُدخِلْ عَلَيْنا الأفاعِيا

وَحامِ عَلَيها بِالقَنابِلِ والقَنا ... وَلا تَكُ مَحْبُوسَ الذراعَيْنِ دانِيا

فإن علياً ناظرٌ ما لِجَيْشِهِ ... فأهدِ لَهُ حَرْباً تُشِيبُ النواصِيا

وعن جابر الجعفي، عن الشعبي قال: لما ظهر أمر معاوية دعا علي - رضي الله عنه - رجلاً وأمره أن يسير إلى دمشق فيعقل راحلته على باب المسجد ويدخل بنية السفر؛ ففعل الرجل، فسألوه: من أين جئت؟ قال: من العراق. قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت علياً قد حشد إليكم ونهد في أهل العراق. فلما بلغ الخبر معاوية نودي: الصلاة جامعة، وامتلأ المسجد، فصعد معاوية المنبر فتشهد ثم قال: إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأى؟ فضرب الناس بأذقانهم إِلَى صدورهم، ولم يرفع أحد طرفه إليه، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك امْرأي يعني الرأي، وعلينا امفِعالُ - يعني الفعال - فنزل معاوية ونودي في الناس: اخرجوا إلى عسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أخل بنفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه فأخبره بذلك، فأمر علي فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ فقال أهل المسجد: يا أمير المؤمنين، الرأي كذا، الرأي كذا. فلم يفهم علي كلامهم من كثرة من تكلم وكثرة اللغط، فنزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكالة الأكباد - يعني معاوية - فسار علي وكان مسيره من الكوفة إلى صفين لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عمر الأنصاري، واجتاز علي المدائن ثم الأنبار، ثم سار حتى نزل الرقة، وسار معاوية من الشام فسبق علياً إلى صفين، فالتقوا بصفين؛ فكانت وقعة صفين لسبع بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين، وشبت الحرب بينهم أول صفر من السنة المذكورة، وكان على ميمنة علي الأشعث بن قيس الكندي، وعلى الميسرة عبيد الله بن العباس، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقتل يومئذ، ومن أمراء علي الأحنف بن قيس التميمي، وعمار بن ياسر، وعدي بن حاتم الطائي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وشبث بن ربعي الرياحي، وسعيد بن قيس الهمداني؛ فكان رئيس همدان، والمهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي، وغيرهم. فكان علي في خمسين ألفاً، وقيل: تسعين ألفاً. وقيل: مائة ألف، وكان على ميمنة معاوية عمرو بن العاص، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان لواؤه مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، ومن أمرائه أبو الأعور السلمي، وزفر بن الحارث، وذو الكلاع الحميري، ومسلمة بن مخلد، وبسر بن أرطاة العامري، وحابس بن سعد الطائي، ويزيد بن أبي هبيرة السكوني، وغيرهم. وكان معاوية في سبعين ألفاً، وقيل: في مائة ألف وعشرين ألفاً، فاقتتلوا أياماً، ووقع القتال وعلي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: رضي الله عنه: من الرجز:

مِن أيً يَومَي مِنَ المَوتِ أفِر ... أيومَ لَم يُقَدرَ أم يَومَ قُدر

وحمل وحملوا معه؛ فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وعلى لا يمر بفارس إلا قده وهو يقول: من الرجز:

أضْرِبُهُم وَلا أرَى مُعاوِيَة

الأمرَةَ العَينِ العَظِيمَ الحاوِيَة

تَهوِي بِهِ في النارِ أُم هاوِيَة

وقيل: إن الشعر لبديل بن ورقاء الخزاعي.

قال الزهري: اقتتلوا أياماً حتى قتل خلق كثير، قتل من أهل الشام خمسة وأربعون ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً، واقتتلوا قتالاً لم تقتَتِل هذه الأمة مثله قط، وغلب أهل العراق على قتلى حِمص، وغلب أهل الشام على قتلى أهل العالية وفي كتاب المحاسن والمساوئ كتب أمير المؤمنين يوم صفين إلى معاوية بن أبي سفيان: ما لك تقتل الناس بيننا؟ ابرز إلي، فإن قتلتني استرحت مني، وإن قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو: أنصفك الرجل فابرز إليه، قال: كلا يا عمرو، أردت أن أبرز إليه فيقتلني وتثب على الخلافة بعدي؟ قد علمت قريش أن ابن أبي طالب أشدها وأسدها، ثم أنشأ يقول: من الكامل:

يا عَمرُو قَدْ أسْرَرتَ تُهمَةَ غادرِ ... بِرِضاكَ لي تَحْتَ العَجاجِ بِرازِي

ما لِلْمُلُوكِ وَللْبِرازِ وإنما ... حَتْفُ المُبارِزِ خَطْفَة مِنْ بازِي

إِن الذِي سَولتَ نَفسَكَ طالِباً ... قَتْلِى جَزاكَ بِما نَوَيْتَ الْجازِي

فَلَقَدْ كَشَفْتَ قِناعَها مَذمُومَةً ... وَلَقَدْ لَبِسْتَ لَها ثِيابَ الحازِي

فأجابه عمرو بقوله من الوافر:

مُعاوِيَ إِنَّنِي لَمْ أجنِ ذَنباً ... وَما أنا بِالذِي يُدْعَى بِحازِي

فَما ذَنبِي بِأن نادَى علي ... وَكَبشُ القَوْمِ يُدْعَى لِلْبِرازِ

فَلَو بارَزْتَهُ لَلَقِيتَ قِرْناً ... حَدِيدَ النابِ سَهْماً ذا اعْتِزازِ

أجَبْناً في العَشِيرَةِ يا بن هِندِ ... وَعِنْدَ الباهِ كالتَيْسِ الحِجازِي

ثم إن معاوية أقسم على عمرو بمبارزة علي؛ فبرز، فلما التقيا سل علي سيفه فكشف عمرو ثوبه عن عورته وقال: مكره أخاك لا بطل، فحول علي - رضي الله عنه - وجهه عنه، وقال: قبحت قال السهيلي: جاء عمرو بن العاص إلى معاوية فقال له: إن عمار بن ياسر قد قتل، قال معاوية: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية" . فقال معاوية لعمرو: رحضت في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذي أخرجه. فبلغ قوله علياً فقال: إذا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي أخرجه.

واختلط الناس بالناس، وبطل النبل، وقصفت الرماح، وأجنهم الليل، وتنادوا بالشعار، وتكادم القوم؛ فكان يعتنق الفارسان فيقعان في الأرض جميعاً عن فرسيهما. قلت: التكادم: التعاضض، من الكدم، وهو العض.

وفي ليلة الجمعة - وهي ليلة الهرير - كان جملة من قتله علي في يومها وليلتها خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلاً، أكثرهم في اليوم، وكان إذا قاتل رجلاً لم يكن بضرب إلا قتل. وانكسفت الشمس، وتقطعت الألوية والرايات، ولم يعرفوا مواقيت الصلاة؛ فقال معاوية لعمرو: هات مخبآتك وأدركنا مما نحن فيه، ولك مصر طعمة. فقال: ناد في العسكر برفع المصاحف، فنودي فوجد في العسكر أكثر من خمسمائة مصحف، فأمر برفعها على الرماح وأن ينادوا: بيننا وبينكم كتاب الله.

وفي ذلك يقول النجاشي بن الحارث: من الطويل:

فأصبَحَ أهلُ الشامِ قَد رَفَعُوا القَنا ... عَلَيها كِتابُ الله خَيرُ قرانِ

وَنادوا عَلِياً: يابن عَم مُحَمدٍ ... أما تَتَقِي أن يَهلِكَ الثقَلانِ

فلما رأى أهل العراق ذلك؛ قالوا: نجيب إلى كتاب الله، وأحب القوم الموادعة، وقال لعلي كثير من أصحابه: قد أعطاك معاوية الحق، دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه. وكان أشد القوم في ذلك الأشعث بن قيس الكندي؛ فقال علي: يا أيها الناس، إنه لم ينزل بي من أمركم ما أحب حين قدحتكم الحرب، وقد - والله - أخذت منكم وتركت، وإني كنت بالأمس الأمير فأصبحت اليوم مأموراً، وقد أحببتم البقاء قال الأعمش: حدثني من رأى علياً يوم صفين يصفق بيديه، ويعض على إبهامه، ويقول: يا عجباً أعصى ويطاع معاوية!! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين، إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولك بحمد الله الخلف، ولو كان له مثل رجالك لما كان له مثل صبرك ولا نصرك، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله.

فقالا الأشعث: يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا بالأمس، وليس ندري كيف يكون غداً، وقد والله فل الحديد وكلت البصائر - وتكلم بكلام كثير - ولكن إن شئت أتيتُ معاوية فسألته ما يريد؟ قال علي: اذهب إليه. فأتاه فقال له معاوية: نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله في كتابه، تبعثون رجلاً منكم ترضون به وتختارونه، ونبعث رجلاً منا، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بكتاب الله. فصوب الأشعث قوله. وذهب إلى علي؛ فقال أكثر القوم: رضينا وسمعنا وأطعنا. فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، وقال الأشعث ومن ارتد بعد ذلك إلى رأى الخوارج: رضينا نحن بأبي موسى الأشعري. فقال علي: عصيتموني أولاً فلا تعصوني الآن؟ إني لا أرتاح إلى أبي موسى. فقال الأشعث: لا نرضى إلا أبا موسى. قال علي: ويحكم ليس هو بثقة، فعل كذا وكذا، وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب شهراً حتى أمنته، ولكن هذا عبد الله بن عباس. فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فينا مضريان. قال علي: فالأشتر. فقالوا وهل أشعل ما نحن فيه إلا الأشتر. فقال علي: فاصنعوا ما أردتم وافعلوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وأفهموه بالقضية، وقيل لأبي موسى: قد اصطلح الناس، فقال الحمد لله. قيل: وقد جعلوك حكماً، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون فافترقوا بعد أن صيروا الأجل إلى شهر رمضان من العام القابل على اجتماع الحكمين في موضع عدل بين الكوفة والشام يسمى دومة الجندل، وكان الوقت الذي كتبت فيه الصحيفة بالرضا بالحكمين لأيام بقين من صفر سنة سبع وثلاثين، وقرأ الأشعث الصحيفة على الناس ماراً بها فرحاً وسروراً؛ فقال عروة بن أدية: أتحكمون يا أشعث في دين الله وأمره ونهيه الرجال؟ لا حكم إلا لله. وهو أول من قالها، ونبذ سيفه على الأشعث فهمز فرسه عن الضربة فأصابت عجز الفرس، ونجا الأشعث. وفي فعل عروة بالأشعث يقول رجل من تميم: من الخفيف:

غروُ يا عروَ كُل فِتنَة قَومٍ ... سَلَفَت إِنما تَكُونُ فُتَينَه

ثَم تَنمُو وَيَعظُمُ الَخطبُ فِيها ... فاخذَرَن غِب ما صَنَعتَ عريَّه

أعَلَى الأشعَث المعصب بالتا ... ج حَمَلتَ السلاحَ يا بن أديه

فانظُرِ اليَوْمَ ما يقُول علي ... واتبِعهُ فَذاكَ خَيرُ البَرِيهْ

عن صعصعة بن صوحان قال: خرج يوم صفين رجل من أصحاب معاوية يقال له: كريز بن الصباح الحميري، فوقف بين الصفين وقال: من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله، فوقف عليه فقال: من يبارز؟ فخرج إليه آخر من أصحاب علي فقتله وألقاه على الأول، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فقتله وألقاه على الأولين وقال: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، وأحب من كان في الصف الأول أن يكون في الآخر، فخرج إليه علي على بغلة رسول الله البيضاء فشق الصفوف، فلما انفصل منها نزل عَنِ البغلة وسعى إليه فقتله، وقال: من يبارز. فخرج إليه رجل آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم قال: من يبارز؟ فخرج إليه رجل فقتله وألقاه على الأولين ثم قال: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الثلاثة، ثم قال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل يقول: " الشهرُ الحرامُ بِالشهرِ الحرام والحُرماتُ قِصاص " البقرة: 194، ولو لم تبتدئوا هذا ما ابتدأناه. ثم رجع إلى مكانه.

عن ابن عباس وقد سأله رجل أكان علي يباشر القتال يوم صفين. فقال ابن عباس: والله ما رأيت رجلاً أطرح لنفسه في متلف من علي، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس بيده السيف إلى الرجل الدارع فيقتله. أخرجها الواحدي. ذكر أبو مخنف لوط بن يحيي، عن ابن الأغر التميمي قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر العباس بن ربيعة بن الحارث بن المطلب مكمل في سلاحه، وعيناه تبرقان من تحت المغفر كأنهما شعلتا نار أو عينا أرقم، وبيحه صفيحة يمانية يقلبها والمنايا تلوح في شفرتيها، وهو على فرس صعب. فبينما هو يبعثه ويلين من عريكته، إذ هتف به هاتف من صف معاوية يقال له: عزاز بن أرقم لزهل الشامي: يا عباس، هلم إلى النزول. قال فنزل العباس إلى الشامي وهو يقول: من البسيط:

الله يَعْلَمُ أنَّا لا نُحِبكُمُ ... وَلا نَلُومُكُم إذ لَم تُحِبونا

ثم زحف كل منهما إلى صاحبه، وكف الفريقان عنهما ينظرون ما يكون من الرجلين فتكافحا بسيفيهما نهارهما، لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته، إلى أن لحظ العباس فتقاً في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى ثندوته، ثم عاد لمجاولته وقد انفرج له بعض الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوائح صدره؛ فحول وجهه وكبر الناس تكبيرة ارتجت الأرض من تحتهم بها، فإذا قائل يقول " قاتِلُوهُم يعُذِبهُمُ الله بأيدِيكم " التوبة: 14 الآية. قال ابن الأغر: فالتفت فإذا علي بن أبي طالب، فقال لي: يا بن الأغر من المبارز لعدونا؟ قلت ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة، فقال علي للعباس: ألم أنهك وعبد الله بن عباس أن تحلا بمركز كما لو تناشر آخرنا؟ قال العباس: إن ذلك كما قلت. قال علي: فما عدا مما بدا. قال العباس أفأدعى إلى البراز باسمي فلا أجيب؟ فقال علي: طاعتك إمامك أولى من إجابة عدوك. وتغيظ واستطار، ثم تطامن وسكت ورفع يديه مبتهلاً وقال: اللهم اشكر للعباس واغفر ذنبه. وتأسف معاوية على عزاز بن أرقم ثم قال: ألا رجل شري نفسه يطلب بدم عزاز؟ فانتدب له رجلان من لخم من أهل البأس من صناديدهم، قال: فاذهبا فأيكما قتل العباس فله مائة أوقية من التبر، ومثلها من اللجين، وبعددها من برود اليمن؛ فأتياه فدعواه للبراز وصاحا بين الصفين: يا عباس اخرج إلى الداعي، فقال العباس: إن لي سيداً أريد أوامره، فأتى علياً وهو في جناح الميمنة يخوض الناس فأخبره الخبر، فقال علي: والله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه؛ إطفاءً لنور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ثم قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي؛ فناقله علي، ووثب على فرس العباس، وقصد اللخميين فلم يشكا أنه العباس، فقالا له: أذن لك صاحبك؟ فحرج أن يقول نعم؛ فقال: " أُذِنَ لِلَذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنهُم ظُلِمُوا " الحج: 39 الآية، وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعلي - رضي الله تعالى عنه - فبرز له أحدهما فكأنما أخطأ رأسه، ثم برز الآخر فألحقه بالأول، ثم أقبل يقول: " الشهرُ الحرامُ بِالشهرِ الحرام " البقرة: 194 الآية، ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد لي. ونمى الخبر إلى معاوية. فقال: قبح الله اللجاج، وما ركبته قط إلا خذلت، فقال عمرو بن العاص: المخذول - والله - اللخميان، فقال له معاوية: اسكت أيها الرجل؛ فليس هذا من شأنك، قال عمرو: فإن لم يكن الله رحم اللخميين ولا أراه يفعل، قال معاوية: ذاك والله أضيق لحجتك، وأخسر لصفقتك، قال عمرو: قد علمت ذلك، ولولا مصر وولايتها لركبت المسحاة عنها؛ فاني أعلم أن ابن أبي طالب على الحق، وأنا على هذه، فقال له معاوية: مصر والله أعمتك، ولولا مصر لألفيت بصيراً. وكان مع علي من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ألفان وثمانمائة، قتل منهم خمسة وعشرون صحابياً.

ولما تفرقوا - علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام - كثر اختلاف الكلمة بين أصحاب علي، وتفاوت الرأي، وعدم انتظام الأمور، وتبرأ الأخ من أخيه، وتضارب القوم بنعال السيوف، وقيل بالنعال، وتسابوا، ولام كل الآخرَ. ولما وصل علي الكوفة انحاز عنه ستة آلاف، وقيل اثنا عشر ألفاً من القوم وغيرهم؟ فنزلوا حَرَوراء، قرية من قرى الكوفة، وجعلوا شبيب بن ربعي التميمي عليهم، فخرج إليهم علي وأدخلهم جميعاً الكوفة، فجعلوا ينادون علياً وهو على المنبر: جزعت من البلية، ورضيت بالقضية، وقبلت الدنية، لا حكم إلا لنّه. فقال علي: حكم الله انتظم فيكم، فيقولون: " وَلَقَد أُوحِيَ إليك وإلى الذَينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أشركَت ليحبطن عمُلُكَ " الزمر: 65 الآية، فيقول علي - رضي الله عنه - : " إنَ وَعدَ الله حق وَلا يَستخفَنك الذينَ لا يوقنوُن " الروم: 60.

بسم الله الرحمن الرحيم

مناظرة ابن عباس للخوارج

قال الذهبي: قال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل قال: حدثني ابن عباس قال: لما اجتمعت الخوارج قلت لعلي - رضي اللّه تعالى عنه - : أبرد بالصلاة لعلي آتى القوم قال: فإني أخافهم عليك. قلت: كلا. فقال: أنت وذاك. فلبس حلتين من أحسن الحلل، وكان جهيراً جميلا. قال: فأتيت القوم، فلما رأوني قالوا: مرحباً بابن عباس، فما هذه الحلة؟ قلت: وما تنكرون من ذلك. لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل. قال: ثم تلوت عليهم: قل مَن حرم يؤمنونَ اللهِ التي أخرج لِعبَاده " " الأعراف: 32 " الآية. قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين، ومن عند أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصهره، فأقبل بعضهم على بعض، وقالوا: لا تكلموه فإن الله تعالى يقول: " بَل هُم قَوم خَصِمونَ " " الزخرف: 58 " وقال بعضهم: وما يمنعنا من كلام ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى كتاب الله. فقالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثاً: أحدها: أنه حكم الرجال في دين الله، وما للرجال وحكم الله؟ الثانية: أنه قاتل، ولم يسب، ولم يغنم، فإن كان قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإلا فلا. الثالثة: أنه محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير المشركين.

قال ابن عباس: هل غير هذا؟ فقالوا: حسبنا هذا. فقال لهم: أرأيتم إن خرجت لكم من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أراجعون أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا؟ قال: أما قولكم إنه حكم الرجال في أمر الله - تعالى - فإني سمعت الله - تعالى - يقول في كتابه: " يحكُمُ به ذوَا عَدل مِنكُم " " المائدة: 95 " ، وذلك في ثمن صيد أرنب ونحوه قيمته ربع درهم، فوض الله - تعالى - فيه الحكم إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم، وقال: " وإن خِفتم شِقَاقَ بَينِهِمَا فَاَبعَثُوا حَكَمَاً مِن أهلِه وَحَكَمَاً مِّن أهلِهَا " الآية " النساء: 35 " ، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم قاتل، ولم يسب؛ فإنه قاتل أمكم؛ لأن الله - تعالى - يقول: " وَأَزوَجُه أمَهاتهم " " الأحزاب: 6 " فإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباؤها، فأنتم بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم - قلت: وأما قولكم إنه محا اسمه من إمرة المؤمنين، فإني أنبئكم عن ذلك: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمرو كتاب الصلح والهدنة، فقال: يا علي، اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك الدخول، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك - فقال عليه الصلاة والسلام - : اللهم إنك تعلم أني رسولك، ثم أخذ الصحيفة، فمحاها بيده، ثم قال: يا علي، اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله... إلخ فوالله ما أخرجه ذلك عن النبوة، أخرجت من هذه. قالوا: نعم. قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثاهم، وقتل سائرهم على الضلالة يوم النهروان كما يأتي قريباً ذكره.

قال عوف: حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد: " تفترق أمتي فرقتين، تمرق بينهما مارقة، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " ، وهكذا رواه قتادة وسليمان التيمي عن أبي نضرة.

قاْل المسعودي: فاجتمع الثلث الباقي من الخوارج في أربعة آلاف - قلت: ظهر أن المسعودي رجح رواية أنهم كانوا اثني عشر ألفاً فكان الثلث أربعة آلاف - وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، ولحقوا بالمدائن، وقتلوا عامل علي عليها عبد اللّه بن خباب، ذبحوه ذبحاً، وبقروا بطنه وبطن امرأته، وكانت حاملا وقتلوا غيرها من النساء، وكان علي قد انفصل عن الكوفة في خمسة وثلاثين ألفاً، ثم ساروا إلى النهروان، وأتى إلى علي من قبل عامله على البصرة ابن عباس - ثلاثة آلاف فيهم الأحنف بن قيس، وذلك سنة ثمان وثلاثين، فنزل علي - رضي الله عنه - إلى الأنبار، والتأمت عليه العساكر، فسار حتى أتى إلى النهروان، فبعث إليهم علي بالحارث بن مرة العبدي رسولا، يدعوهم إلى الرجوع، فقتلوه، وبعثوا إلى علي - رضي الله تعالى عنه - إن تبتَ من حكومتك، وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك، وإن أبيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا إماماً فإنا منك برآء، فقال علي - كرم اللّه وجهه - : سيروا إلى القوم فإنكم تجدونهم قد عسكروا بالرملة، فوالله لا يفلت منهم عشرة، ولا يقتل منكم عشرة، فأشرف عليهم. وقد عسكروا بالرملة على حسب ما قاله لأصحابه رضي اللّه تعالى عنه، ثم أتى عليهم، فلم يفلت منهم إلا سبعة، ولم يقتل من أصحاب على إلا تسعة، فقال: الله أكبر لقد صدق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخبرني بذلك، ثم أمر ينظر المخدج من بين القتلى، وهو ذو الثدية: لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة، عليه شعرات سود، إذا مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده، ثم تترك فتعود إلى منكبه، فلما وجدوه بين القتلى، ثني علي - رضي الله عنه - رجله ونزل فخر ساجداً، ومر بهم وهم صرعى، فقال: لقد صرعكم من غركم؟ قالوا: ومن غرهم؟ قال: الشيطان.

 

التقاء الحكمين بدومة الجندل

لما كان رمضان من السنة المذكورة وصل من قبل علي أبو موسى الأشعري في أربعمائة، أميرهم شريح بن هانئ ووصل من قبل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة كذلك، أميرهم شرحبيل بن السمط، فلما تدانى القوم من الموضع الذي كان الاجتماع فيه - قال ابن عباس لأبي موسى: إن علياً لم يرض بك حكماً لفضل عندك والمقدمون عليك كثيرون، وإنما الناس أبوا غيرك، وإني أظن لشر يراد بهم، وقد ضم داهية العرب معك، فمهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وليست فيه خصلة تباعده عن الخلافة، وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة.

وكان معاوية قد وصى عمراً، فقال: يا أبا عبد الله إن أهل العراق قد أكرهوا علياً على أبي موسى، وإن أهل الشام راضون بك، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، فأجد الحز، وطبق المفصل، ولا تلقه برأيك كله.

فلما اجتمعا قال عمرو لأبي موسى: تكلم، ولا تقل إلا خيراً، فقال أبو موسى: بل تكلم أنت، فقال عمرو: ما كنت لأفعل، ولا أقدم نفسي عليك، ولك حقوق كلها واجبة لسنك وصحبتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت حقيق، فتكلم أبو موسى فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر الحدث الذي حل بالإسلام، ثم قال: يا عمرو، هلم إلى أمر يجمع الله به الألفة، ويلم الشعث وذات البين، فجزاه عمرو خيراً، ثم قال عمرو: إن للكلام أولاًَ وآخراً، ومتى تنازعنا الكلام خطباً لم يبلغ آخره حتى ينسى أوله، فاجعل ما كان من كلام يتصادق عليه في كتاب يصير إليه أمرنا.

قال أبو موسى: فاكتب، فدعا عمرو بصحيفة وغلام له كاتب فتقدم إليه أن يبدأ به أولا دون أبي موسى؛ لما أراد من المكر، ثم قال له بحضرة الجماعة: اكتب فإنك شاهد علينا، ولا تكتب شيئاً يأمرك به أحدنا حتى تستأمر فيه الآخر، فإذا أمرك فاكتب، وإذا نهاك عنه فانته حتى يجتمع رأينا.

اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه فلان وفلان، فكتب، وبدأ بعمرو، فقال له عمرو: لا أم لك تقدمني قبله كأنك جاهل حقه؟ فبدأ باسم أبي موسى عبد الله بن قيس، وكتب: تقاضيَا على أنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى... الآية، ثم قال عمرو: نشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله عمل بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه، وقد أدى الحق الذي عليه. قال أبو موسى: اكتب، ثم ذكر في عمر ما ذكر في أبي بكر، ثم قال: اكتب: وإن عثمان ولي هذا الأمر باجتماع المسلمين، وشورى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وإنه كان مؤمناً، فقال أبو موسى: ليس هذا مما قعدنا له، فقال عمرو: والله لا بد أن يكون مؤمناً أو كافراً، فقال أبو موسى: مؤمناً، فقال عمرو فمره يكتب، فقال أبو موسى للكاتب: اكتب، فكتب، فقال عمرو: ظالماً قتل أو مظلوماً. فقال أبو موسى: بل قتل مظلوماً، قال عمرو أو ليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه. قال أبو موسى: بلى، قال عمرو: فعلى ذلك قاتله يقتل أينما وجد، قال أبو موسى: نعم، قال عمرو: فهل تعلم لعثمان ولياً أقرب من معاوية؟ قال: لا، قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيث وجد حتى يقتله أو يعجزه. قال أبو موسى: بلى، قال عمرو: قل للكاتب اكتب، فأمره أبو موسى؛ فكتب، فقال عمرو فإنا نقيم الحجة البينة أن علياً قتل عثمان، قال أبو موسى: هذا أمر قد حدث في الإسلام، وإنما اجتمعنا لغيره فهلم إلى أمر يصلح الله به أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو وما هو؟ قال أبو موسى: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية، وأهل الشام لا يحبون علياً، فهلم نخلَعهما، ويستخلف عبد الله ابن عمر - وكان زوج بنته - فقال عمرو: ويفعل ذلك عبد الله، قال أبو موسى: نعم إذا حمله الناس عليه، فعزم عمرو إلى كل ما مال إليه أبو موسى، فصوبه، فقال عمرو: هل لك في سعد، وعدد جماعة؟ فأبى أبو موسى إلا عبد الله بن عمر، فجعل عمرو الصحيفة بعد أن ختماها تحت قدمه، وقال أرأيت إن رضي أهل العراق بعبد الله بن عمر، وأباه أهل الشام أنقاتلهم. قال: لا، فإن رضي أهل الشام به وأباه أهل العراق أنقاتل أهل العراق؟ قال: لا، قال عمرو: وأما إذا رأيت الصلاح في هذا الأمر، والخير للمسلمين، فقم واخطب الناس، واخلع صاحبينا جميعاً، وتكلم باسم هذا الرجل الذي يستخلف، فقال أبو موسى: بل أنت قم، فاخطب، فأنت أحق بذلك، فقال عمرو: ما أحب أن أتقدمك، وما قولي وقولك للناس إلا قول واحد، فقم راشداً، فقام أبو موسى: فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا في الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة، خلعنا علياً ومعاوية، وقد خلعت علياً كما خلعت عمامتي هذه، ثم أهوى إلى عمامته، فحولها عن رأسه، واستخلفنا رجلاَ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصحب أبوه النبي فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر، فأطراه فرغب الناس فيه، ثم نزل، فقام عمرو: فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إن أبا موسى قد خلع علياً، وأخرجه من الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وإني قد خلعت علياً معه، وأثبت معاوية علي وعليكم، وإن أبا موسى قد كتب في الصحيفة: أن عثمان قتل مظلوماً شهيداً، وأن لوليه سلطاناً يطلب بدمه، وله طاعتنا، وبيعتنا على الطلبا بدم عثمان، فقال أبو موسى: كذب عمرو لم استخلف معاوية، ولكنا خلعناه وعلياً، فقال عمرو: بل كذب أبو موسى قد خلع علياً، ولم يخلع معاوية.

قلت: ورأيت وجهاً آخر في كيفية ذلك ذكره المطرزي شارح المقامات في شرحها، فقال إن عمرو بن العاص قال لأبي موسى بعد أن أظهر له عمرو الموافقة على تولية عبد الله بن عمر، وصوب رأيه في ذلك: قم فاخلع علياً، ثم انزل، فإذا نزلت، قمت أنا فخلعت صاحبي معاوية، وأقمت عبد الله بن عمر كما أشرت، فإن تك وثبة من الشيعة قوبلت بها دونك، فلما قام عمرو بعد أبي موسى فعل ما فعل، ثم نزل قائلا: إن الله - تعالى - يقول: " وَمَن قُتِلَ مَظلُومُاً فَقد جَعلنا لِوليهِ سُلطانَاً فَلا يسرِف في القَتل إنهُ كاَنَ مَنصُوراً " " الإسراء: 33 " .

ووجدت في مروج الذهب وجهاً آَخر في ذلك هو: أنهما لما اتفقا على خلع علي ومعاويةّ، اتفقا على أن يجعلا الأمر شورى بعد ذلك، يختار الناس لهم رجلا صالحاً يصلح، ففعل عمرو ما فعل.

وفي رواية أن أبا موسى قال له حينئذ: لعنك الله، غدرت، وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب، ثم ركله فألقاه لجنبه على الأرض، وارتحل أبو موسى، ولحق بمكة حياء، ولم يعد إلى الكوفة، وقد كان بها أهله وولده، وآلى ألا ينظر إلى وجه علي أبداً ما بقي، ومضى عمرو وسعد بن أبي وقاص إلى بيت المقدس.

قال المسعودي: قال ابن عباس يخاطب أبا موسى: من الوافر:

أبا موسَى بُليتَ وكُنت شيخاً ... قريبَ العفو مخزونَ اللسانِ

وما عَمرو صفاتكَ يا بنَ قيسٍ ... فيا لله مِنْ شيخِ يماني

فأمسيت العشيةَ ذا اعتذارِ ... ضعيفَ الرأيِ منكوب الجنان

فعض الكف من ندمٍ وماذا ... يَرُد عليكَ عضكَ للبنانِ

وفي مثل هذا المعنى يقول خزيمة بن هالك الأسدي: من البسيط:

لو كان للقومِ رأي يُعصَمُونَ بِهِ ... عِندَ الخطوبِ رمَوكُم بابن عباسِ

لكنْ رموكمْ بِوَغد مِن ذوي يَمَنٍ ... لم يدر ما ضَربُ أخمَاسٍ بأَسدَاسِ

ولما انصرف الفريقان من حيث كانا إلى حيث جاء دخل عمرو بن العاص ستراً له، ولم يأت معاوية، فأرسل معاوية يدعوه، فقال عمرو: إنما كنت آتيك إذ كانت لي إليك حاجة، فأما إذا كانت الحاجة إلينا، فأنت أحق أن تأتينا، فعلم معاوية ما قد دفع إليه، فخمر الرأي، وأعمل الحيلة، فأمر بطعام كثير يصنع، ثم دعا الخاصة ومواليه، فقال لهم: إني سأغدو إلى هذا، فإذا دعوت بالطعام قدموا مواليه، وأهله، فليجلسوا قبلكم، فإذا شبع الرجل منهم، فقام، فليجلس رجل منكم مكانه، فإذا خرجوا، ولم يبق في البيت غيركم - فأغلقوا الباب، واحذروا أن يدخل منهم أحد إلا أن آمركم.

وغدَا عليه معاوية وعمرو جالس على فرشه، فلم يقم له عنه ولا دعاه إليه، فجاء معاوية، فجلس على الأرض، واتكأ على ناحية الفراش، وذلك أن عمراً كان عند نفسه أنه ملك الأمر وإليه التصريف حيث يشاء بندب الخلافة من يرى فخرج بينهما كلام كثير، فكان فيما قاله عمرو لمعاوية: هذا الكتاب - وأشار إلى صحيفة التحاكم بينه وبين أبي موسى السابق ذكرها - عليه خاتمي وخاتمه، قد أقر بأن عثمان قتل مظلوماً، وأخرج علياً من هذا الأمر، وعرض علي رجالا هم لهذا الأمر أهل، وبهذا، الأمر إلي استخلف عليه من شئت، فقد أعطاني أهل الشام عهدهم ومواثيقهم على الرضا بمن أختاره، فجاء معاوية، وضاحكه، وداعبه يحوله عما كان فيه، ثم قال: يا أبا عبد اللّه هل من غداء؟ فقال عمرو: أما شيء يسع ما ترى فلا واللّه، فقال معاوية: هلم غدائي، فجئ بالطعام المعد فوضع، فقال معاوية: يا أبا عبد اللّه ادع مواليك وأهلك، فدعاهم، فقال عمرو: فادع أصحابك ومواليك، قال: نعم يأكل أصحابك أولا، ثم يجلس هؤلاء بعد، فجعلوا كلما قام رجل من أصحاب عمرو جلس موضعه رجل من أصحاب معاوية، حتى لم يبق من أصحاب عمرو واحد، فقام الذي وكله بالباب فأغلقه، فقال له عمرو: فعلتها؟! فقال: نعم، والله بيني وبينك أمران أيهما شئت فعلت، قال: ما هما؟ قال: البيعة، أو قتلك ليس والله غيرهما، قال عمرو: فأذن لغلامي وردان؛ أستشيره، وأنظر رأيه. قال معاوية: لا تراه، والله ولا يراك إلا قتيلا أو على ما قلت لك. قال عمرو: فأوف إذن بطعمة مصر. قال: هي لك ما عشت.

فاستوثق كل منهما من صاحبه، وأحضر معاوية الخواص من أهل الشام، ومنع أن يدخل معهم من حاشية عمرو أحد، فقال لهم عمرو قد رأيت أن أبايع معاوية فلم أر أحداً أقوى على هذا الأمر منه، فبايعه أهل الشام، وانصرف معاوية إلى منزله خليفة.

قال العلامة البيهقي في كتاب المحاسن: عن عمرو بن الأصم قال؟: حدثنا رجل من بني هاشم، فقال أصلح الله الأمير، ألا أحدثك بفضائل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب. قال نعم. قال: حدثني أبي، قال: حضرت مجلس محمد ابن عائشة البصرة إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة، فقال، يا أبا عبد الرحمن، من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير - وعد العشرة ما عدا علياً - فقلت: فأين علي؟ فقال: ما هذا؟ تسألني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن نفسه، قال: بل عن أصحابه، فقال إن الله تعالى يقول: " فَقُل تعَالَوا نَدعُ أَبناءنا وَأبناءكمُ ونساءنا ونساءكم وَأنفُسَنَا وَأَنفُسَكم " " آل عمران: 61 " ، كيف يكون أصحابه مثل نفسه.

وعن عطاء، كان لعلي - رضي الله تعالى عنه - موقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، إذا خرج أخذ بيده، فلا يخطو خطوة إلا قال: اللهم هذا علي ابتغى مرضاتك؛ فارض عنه، حتى يصعد المنبر. وروى أبو عثمان قاضي الري عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، قال: كان عبد الله بن عباس يحدث على شفير زمزم ونحن عنده، فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا بن عباس، إني رجل من أهل الشام، رأيتهم يتبرءون من علي ويلعنونه؛ فقال ابن عباس: لعنهم الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، ألبعد قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو أنه لم يكن أول ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله، وأول من صلى وركع وعمل بأعمال البر؟. قال الشامي: إنهم والله ما ينكرون من قرابته وسابقيته، غير أنهم يزعمون أنه قتل الناس. فقال ابن عباس: ثكلتهم أمهاتهم، إن علياً أعرف بالله ورسوله وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلا من استحق القتل. فقال: يا بن عباس، إن قومي جمعوا لي نفقة، وأنا رسولهم إليك وأمينهم، لا يسعك أن تردني بغير حاجتي، فإن القوم هالكون في حقه؛ ففرج عنهم فرج الله عنك. فقال ابن عباس: يا أخا الشام، إن مثل علي بن أبي طالب في هذه الأمة في عمله وفضله كمثل العبد الصالح، الذي لقيه موسى - عليه السلام - حين انتهى إلى ساحل البحر فقال: " هَل أَتبعك على أن تُعلِمَنِ مِمَا علمتَ رُشداً " " الكهف: 66 " قال العالم: " إنَك لَن تستَطِيعَ معي صبراً وكيف تصبِر " " الكهف: 67 - 68 " ، الآية. فلما خرق السفينة لم يصبر موسى، وترك ما ضمن له من ترك السؤال في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وكان العالم أعلم بما يأتي من موسى، وكبر على موسى الحق وعظم؛ إذ لم يكن يعرفه وهو نبي مرسل، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك، إن علياً لم يقتل إلا من كان يستحق القتل، وإني أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة زوجته إذ أقبل علي يريد الدخول، فنقر نقراً خفيفاً، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم نقره فقال: يا أم سلمة، قومي فافتحي الباب، فقالت: يا رسول الله، من ذا الذي يبلغ خطره أن أستقبله بمحاسني، فقال: يا أم سلمة، إن طاعتي طاعة الله عز وجل، قومي فافتحي؟ فإن بالباب رجلا ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجل في أمره، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يا أم سلمة، إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتى يخفي عليه الوطء. فلم يدخل حتى غابت عنه، وخفي عليه الوطء، فلما لم يحس لها حركة دفع الباب ودخل، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: يا أم سلمة، هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم، هذا علي بن أبي طالب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هذا علي، سيط لحمه بلحمي، ودمه بدمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سلمة، هذا علي سيد المؤمنين، وأمير المسلمين، وموضع سري وعلمي، وبابي الذي الرأي إليه، وهو الوصي على أهل بيتي والأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة، وهو معي في السناء الأعلى، اشهدي يا أم سلمة أن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، قال ابن عباس: وقتلهم للّه رضا، وللأمة صلاح، ولأهل الضلالة سخط. فقال الشامي يا بن عباس، من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة ثم نكثوا؛ فقاتلهم بالبصرة، وهم أصحاب الجمل، وأما القاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشامي: يا بن عباس، ملأت صدري نوراً وحكمة، وفرجت عني فرج اللّه تعالى عنك، أشهد أن علياً مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وكتب معاوية إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أما بعد، فلو علمنا أن الحرب تبلغ منا ومنك ما بلغت لم نحثها بعضاً على بعض، وإنا - وإن كنا قد غلبنا على عقولنا - بقي لنا منها ما نرم به ما مضى ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أنه لا يلزمني لك طاعة، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من القتل إلا ما أخاف، وقد - واللّه - بردت الأحقاد، وذهبت الأدغال، ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضها على بعض فضل يستذل به العبد، ويسترق به حر، والسلام.

فكتب إليه علي بن أبي طالب: من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فقد جاءني كتابك؛ تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ منا ومنك بلغت لم نحثها بعضاً على بعض، فإنا وإياك نلتمس منها غاية لم ندركها بعد. وأما طلبك مني الشام؛ فلم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء؛ فلست أمضي على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك إنا بنو عبد مناف فليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المبطل كالمحق، وفي أبينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام.

ثم كتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، وإن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك، وكان أبوك أوتر قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحر وأخطأ المفصل.

قلت: هذا من معاوية يشير به إلى منع أبيه سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر، ثم عن بيعة عمر، وطمعه أن يكون هو الخليفة، وجمع قومه الخزرج في ذلك حتى اجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة كما تقدم ذكر ذلك عند ذكر خلافة أبي بكر الصديق، فخذله قومه، وأدركه يومه؛ فمات بحوران ضريراً.

فكتب إليه قيس: أما أنت فوثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً، لم يتقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك، وكان أبي أوتر قوسه ورمى غرضه، فشعب به من لم يبلغ عقبه ولا نشق غباره، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت، وأعداء الدين الذي فيه دخلت. ولما صرف علي - رضي الله عنه - قيس بن سعد عن مصر، وولي مكانه محمد بن أبي بكر كتب محمد إلى معاوية: من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن الله بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه، ولا ضعف في قوة، ولا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً. اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فانتخبه بعلمه، واصطفاه لرسالته، وائتمنه على وحيه، وبعثه رسولاَ ودليلا؛ فكان أول من أجاب وأناب، وأذعن وصدق وأسلم - أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب، صدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول، وحارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاَ لنفسه ساعات الليل بالخوف والخشوع والخضوع، حتى برز شارقاً لا نظير له ممن اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تنال منه وأنت أنت، وهو هو؛ أصدق الناس نية، وأفضلهم ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم أخوه الساري بنفسه يوم مؤتة - قلت: يريد به جعفرَاً الطيار - رضي الله عنهما - وعمه سيد الشهداء يوم أحد، أبوه الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حوزته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الغوائل، وتجتهدان في إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه الأموال، وتؤلبان عليه القبائل، على ذلك مات أبوك، وعليه خليفته والشهيد عليك من تدني، ولجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي أنصاره الذين ذكرهم بفضله، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب يرون الحق في اتباعه، والشقاء في خلافه، فكيف بك - لك الويل - تعدل نفسك بعلي؟ وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه، وأبو ولده، وأولى الناس به اتباعاً، وأقربهم به عهدَاً؛ يخبره بسره ويطلعه على أمره، وأنت عدوه؛ فتمتع في دُنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاصي في غوايتك، فإن أجلك قد انقضى، وكبرك قد دهى، ثم تبين لك لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده، ويئست من روحه، فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرة، وَالسلام على من اتبع الهدى.

فكتب إليه معاوية: من معاوية بن أبي صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر، أما بعد، فقد أتاني كتابك، تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرة سلطانه، وما اصطفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كلام كثير فيه لك تضعيف، ولأبيك فيه تعسيف، وذكرت فضل علي بن أبي طالب، وقدم سوابقه، وقرابته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومواساته إياه في كل هول وخوف، فكان احتجاجك علي وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله في غيرك؛ فقد كنا وأبوك معاً نعرف فضل علي وحقه لازم لنا مبرز علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته، وقبضه إليه - كان أبوك وفاروقه أول من انتزع حقه وخالفه عن أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما؛ فهما به الهموم وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسلم إليهما، فأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضهما اللّه تعالى، ثم قام ثالثهما عثمان فهدى هديهما وسار سيرتهما، فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما، حتى بلغتما فيه مناكما؛ فخذ حذرك يا بن أبي بكر، وقس شبرك بفترك؛ فإنك تقصر أن توازي أو تساوي من يزن حلمه الجبال، ولا تلين على قسر قناته، ولولا فعل أبيك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل به ذلك من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أَو دع، والسلام على من أناب. كذا ذكره المسعودي وهو من كبار الجماعة؛ كذا أورد هذه المكاتبة ومد بها باعه. فقبح اللّه من كان اختراعه.

ثم وجه معاوية عمرو بن العاص إلى مصر في أربعة آلاف، معه معاوية بن خديج، وأبو الأعور السلمي وفاء لعمرو بما وعده، وكان عليها محمد بن أبي بكر والياً من جهة علي فاقتتلا، فظفر عمرو بمحمد ووضع في جيفة حمار، وأحرق فيها. قيل: وضع حياً، وقيل: بعد قتله، فبلغ ذلك معاوية فسر، وبلغ علياً فحزن أشد حزن على محمد رحمه اللّه تعالى. ثم ولى على الأشتر مالك بن الحارث النخعي، وبعثه إليها في جيش مكان محمد بن أبي بكر، فمات بالطريق، ويقال: إن معاوية دس إلى دهقان أن يسمه فسمه في شربة عسل؛ فما استقر في جوفه حتى هلك؛ فأتى من كان معه على الدهقان ومن كان معه، وإنه لما بلغ معاوية الخبر قال: لله جنود منها العسل.

ذكر وفاته: قال ابن خلكان: سببها أنه اجتمع من بقي من الخوارج، فتذكروا أصحاب النهروان وترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم. وقال غيره: سببها أنه لما طال النزاع بين علي ومعاوية تعاقدوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فانتدب لذلك ثلاثة نفر عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي - أيضاً - فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا لكم بعلي، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو: أنا لكم بعمرو بن العاص. واتعدوا أن يكون القتل ليلة السابع عشر من رمضان، وكان اجتماعهم لهذا التعاقد بمكة، فسار عبد الرحمن إلى علي بالكوفة، وسار البرك بن عبد الله إلى معاوية بالشام، وسار عمرو بن بكر إلى عمرو بن العاص بمصر، فلما دخل ابن ملجم الكوفة عازماً على ذلك، وكان قد اشترى سيفاً بألف دينار، وسقاه السم حتى نفضه، وكان في خلال ذلك يأتي علياً فيستحمله فيحمله، وينشد علي - رضي الله تعالى عنه - إذا رآه: من الوافر:

أُريدُ حَيَاتَهُ ويُريدُ قَتلِي ... عذَيري من خَلِيلي من مُرَادِ

ثم يقول: هذا والله قاتلي، قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد. وقيل له: إن ابن ملجم يسم سيفه، وقال: إنه سيقتلك قتلة تتحدث بها العرب؛ فبعث إليه وقال له: تسم سيفك؟ قال: لعدوي وعدوك، فخلي عنه، وقال: ما قتلني بعد.

وعن عبد الله بن مطيع، قال: خطبنا علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لتخضبن هذه من هذه. فقال الناس: أعلمناه لَنَتِرَنهُ ولَنَترن عشيرته، قال: أنشدكم بالله أن يقتل بي غير قاتلي. وقعت عين ابن ملجم على قطام امرأة رائعة جميلة كانت ترى رأي الخوارج، كان على قتل أباها وأخاها بالنهروان، فخطبها ابن ملجم، فقالت له: آليت ألا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه، ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب. فقال ابن ملجم: والله لقد قصدت قتل علي بن أبي طالب، وما أقدمني هذا المصير غيره، ولكن لما رأيتك آثرت تزويجك. قالت: ليس إلا بالذي قلت لك. قال لها: يغنيني أو يغنيك قتل علي، وأنا أعلم أني إذا قتلته لم أفلت. قالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي أردت، ويهنيك العيش مني، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. فقال لها: لك ما اشترطت. فقالت: سألتمس من يشد ظهرك؛ فبعثت إليه بابن عم لها يدعى: وردان بن مخالد؛ فأجابها، ولقي ابن ملجم شبيب بن بحر الأشجعي، فقال: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة. قال: وما هو؟ قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب. قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً إمراً، كيف تقدمُ على ذلك؟ قال: إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردَاً دون من يحرسه، ننتظره حين يخرج إلى المسجد فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر في الدنيا والجنة في الآخرةَ. فقال له: ويلك، إن علياً ذو سابقة في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما ينشرح قلبي لقتله. قال: ويلك!، إنه حكم الرجال في دين اللّه، وقتل إخواننا الصالحين فنقتله ببعض من قتل، فلا تَشكن في دينك. فأجابه وأْقبلا حتى دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم في قبة ضربتها لنفسها، فدعت لهم، وأخذوا أسيافهم، وجلسوا أمام السدة التي يخرج منها علي، وكان - رضي اللّه تعالى عنه - في شهر رمضان الذي قتل فيه يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد اللّه بن جعفر، ولا يزيد على ثلاث لقم، ويقول: أحب أن ألقى اللّه وأنا خميص.

ولما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها أكثر الخروج والنظر إلى السماء، وجعل يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت. فلما خرج إلى صحن الدار قاصداً الخروج إلى المسجد، إذا أوز يَصِحن في وجهه فطردوهن، فقال: دعوهن، فإنهن نوائح، فخرج إلى الصلاة من باب السدة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، وضربه ابن ملجم على موضع الصلع من رأسه، وقال: الحكم للّه يا علي لا لك ولا لأصحابك. فقال علي: فزت ورب الكعبة، لا يفوتكم الكلب، فشد الناس عليه من كل جانب فحمل ابن ملجم عليهم بسيفه؛ فأفرجوا له وتلقاه المغيرة بن نوفل بقطيفة فرمى بها عليه، ثم احتمله فرمى به الأرض، وجلس على صدره، ثم أوثقوه. وأما شبيب فهرب خارجاً من باب كندة.

ولما أخذ عبد الرحمن قال علي: احبسوه، فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلي في العفو والقصاص. أخرجه أبو عمر، وكذا في الرياض.

قال ابن الجوزي: بقي علي يوم الجمعة ويوم السبت، وتوفي ليلة الأحد، وقيل: توفي من يوم الجمعة، وكان الفتك به ليلة سبع عشرة في رمضان كوقعة بدر، وقيل: صبيح ليلة ثالث عشرة، وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت، وقيل: بقيت، وقيل: لثمان عشرة ليلة خلت منه، ذكر هذا كله ابن عبد البر في الاستيعاب، وفي ذلك يقول الفرزدق: من الطويل:

فلم أر مَهراً سَاقه ذُو سماحةٍ ... كَمَهرِ قطام بين عرب وأَعجُمِ

ثلاثةُ آلافٍ وعَبد وقينة ... وضربُ علي بالحسامِ المصمم

فلا مَهرٌ أغلَى مِن علي وإن علا ... ولا فَتك إلا دونَ فتكِ ابنِ ملجمِ

وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، ومحمد ابن الحنفية يصب الماء.

وروى هارون بن سعد أنه كان عند علي مسك أوصى أن يحنط به، وقال: إنه من حنوط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخرجه البغوي. وصلى عليه الحسن وكبر عليه أربعاً، وقيل: سبعاً، وقيل: تسعاً.

وقيل: إن علياً - رضي الله تعالى عنه - أوصى أن يخفى قبره؛ لعلمه أن الأمر يصير إلى بني أمية، فلم يأمن أن يمثلوا بقبره.

وقد اختلف في قبره، فقيل: في زاوية الجامع بالكوفة، وقيل: بالرحبة من الكوفة، وقيل: بقصر الإمارة منها، وقيل: بنجف الحيرة في المشهد الذي يزار به اليوم، وأصح ما قيل: إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة.

قال العلامة السيوطي في تاريخه: قال شريك: نقله ابنُهُ الحسن يريد به المدينة، فكان في مسيرهم ما أخرج ابن عساكر عن ابن عبد العزيز قال: لما قتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حملوه ليدفنوه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم في مسيرهم ليلا إذ ند الجمل الذي هو عليه؛ فلم يدروا أين ذهب، ولم يقدروا عليه، فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب وقيل: إن البعير الذي هو عليه وقع في بلاد طيئ، فأخذوه ودفنوه. انتهى ما قاله السيوطي.

وقال العلامة الدميري في حياة الحيوان الكبرى: التحقيق أن علياً - رضي الله تعالى عنه - لا يعرف قبره على الحقيقة. قلت: ذكر ابن خلكان أن الرشيد خرج يوماً إلى الصيد فانتهى به إلى موضع قبر على المشهور الآن بالمشهد، فأرسل فُهوداً على صيد، فتبعت الصيد إلى مكان القبر، ووقفت الفهود عنده ولم تتقدم إلى الصيد، فعجب هارون الرشيد من ذلك؛ فجاء رجل من أهل الحيرة فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن دللتك على قبر ابن عمك علي بن أبي طالب، ألي عندك ملزمة؟ قال: نعم. قال: هذا قبره. فقال له الرشيد: من أين علمته؟ قال: كنت أجيء مع أبي فيزوره، وأخبرني أبي أنه كان يجئ مع جعفر الصادق - رضي الله عنه - فيزوره، وأن جعفراً كان يجئ مع أبيه محمد الباقر فيزورهُ، وكان الباقر يجيء مع أبيه زين العابدين علي بن الحسين فيزوره، وكان الحسين أعلمهم بمكان القبر، فأمر الرشيد بأن يحجر على الموضع، وكان أول الناس وضع فيه، ثم تزايدت الأبنية فيه في أيام ملوك السامانِية وأيام بني حمدان، وتفاقمت بزيادة في أيام ملوك الديلم بني بويه، قال: وعضد الدولة منهم هو الذي أظهره ظهوراً عظيماً، وعمر المشهد عمارة حسنة، وأوصى أن يُدفن هناك فدفن.

قال الحافظ الذهبي: سئل علي وهو على منبر الكوفة عن قوله تعالى: " رِجال صدقُوا أُولَئكَ عاهدُوا اَللَهَ عليه فَمِنهُم مَن قضى نَحبَهُ ومِنهُم مَن يَنتَظِر " " الأحزاب: 23 " ، فقال: اللهم اغفر، هذه الآية نزلت في وفي عمي حمزة، وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وأما حمزة فقضى نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذا - وأشار إلى لحيته ورأسه - عهد عهده إلي حبيبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.

ولما أصيب دعا الحسن والحسين فقال لهما: أوصيكم بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زوى منها عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالمين خصمَاً وللمظلوم أنصاراً، وأعطوا لله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ولده محمد ابن الحنفية فقال له: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم. فقال له: أوصيك بمثله. ثم قال: أوصيك بتوقير أخويك؛ لعظم حقهما عليك، ولا تؤثر أمراً دونهما. ثم قال لهما: سيفكما وابن أبيكما أوصيكما به؛ فإنه أخوكما، وقد علمتما أن أباكما يحبه. ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله إلى أن قبض كرم اللّه وجهه.

وعن هشيم مولى الفضل؛ لما مات علي قام الحسين ومحمد ابن الحنفية إلى ابن ملجم فقطعاه عضواً عضوَاً وسملا عينيه بمسمار حديد حمى ولم يتأوه، فلما جودل قطع لسانه فصاح، فقيل له: فقال: والله ما صياحي جزعاً من الموت، لكن خشيت أن تمر بي ساعة من الدنيا لا أذكر الله فيها ولما أرادوا فعل ذلك نهاهما الحسن؛ عملا بوصية والده فلم يمتثلا لشدة حزنهما، ثم جعل في قوصرة، وأوقد النار، وأحرقت جيفته أم الهيثم بنت الأسود النخعية، وقيل: بل أمر الحسن بضرب عنقه فضربت. من أغرب ما سمعته قول عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي البصري أحد رءوس الخوارج يمدح ابن ملجم قاتل الإمام علي كرم اللّه وجهه وسود وجهيهما: من البسيِ:

يا ضربَة مِن تقي ما أرادَ بها ... إلا لِيَبلُغَ مِن ذي العرشِ رِضوَانَا

إني لأَذْكُرُهُ يوماً فأحسبُهُ ... أوفى البريةِ عند الله ميزانَا

أكرم بقومِ بطونُ الطيرِ قبرهُمُ ... لم يخلطُوا دينَهُم بغياً وعدوانَا

قال الذهبي: لما بلغ شعره هذا عبد الملك بن مروان أدركته الحمية فنذر دمه فوضع عليه العيون فلم تحمله أرض.

وكان سن علي - رضي اللّه تعالى عنه - خمسَاً وستين سنة، ذكر ذلك أبو بكر أحمد بن الدارع في كتاب مواليد أهل البيت، ولم يذكره غيره، وقيل: سبع وخمسون، وقيِل: ثمان وخمسون، وقيل: ثلاث وستون، وعليه الأكثرون.

صحب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، ثم هاجر فكان معه بالمدينة عشر سنين، ثم عاش من بعده ثلاثين سنة.

ومما رثي به علي - رضي الله تعالى عنه - قول أبي الأسود الدؤلي: من الوافر:

ألا يا عَيْنُ ويحَكِ أَسْعدينَا ... ألا تَبكِينَ أمِيرَ المؤمنينا

تبكي أم كلثوم عَليهِ ... بعبرتها وقَدْ رأتِ اليَقينَا

ألا قُل للخوارجِ حيثُ كانوا ... فلا قَرت عيونُ الحاسدينا

أفي شَهرِ الصيامِ فَجَعتُمُونَا ... بخيرِ الناسِ طُراً أجمعينَا

قتلتُم خَيرَ مَنْ ركبَ المطايا ... وذَللها ومَنْ رَكِبَ السفينَا

ومَن لَبِسَ النعالَ ومَنْ حذاها ... ومَنْ قرأ المثانِي والمبينَا

وكُل مناقبِ الخيراتِ فيه ... وحب رسولِ رَب العالمينا

لقد علمتْ قريش حَيثُ كانَتْ ... بأنكَ خيرُهُم حسباً ودِينا

إذا استقبلْتَ وجَهَ أبي حُسَيْنٍ ... رأيتَ البدرَ فوقَ الناظِرِينا

وكنا قبل مقتلِهِ بخَيرٍ ... نرى مَوْلَى رسولِ اللّه فينا

يُقيم الحق لا يرتَابُ فيه ... ويعدلُ في العدا والأقربينا

وليس بكاتِمٍ علمَاً لدَيْهِ ... ولم يخلَقْ من المتسخرِينا

كأنَّ الناسَ إذ فقدوا علياً ... نعام حارَ في بَلَدِ سبينا

فلا تشمت معاوية بْنَ حربٍ ... فإن بقيةَ الخلفاءِ فينا

وقال بكر بن حماد يرثي علياً كرم الله وجهه، ويرد على عدو اللّه عمران بن حطان قوله في عدو اللّه ابن مُلجم: من البسيط:

قلْ لابنِ ملجمَ والأقدارُ غالبةْ ... هدمْتَ وَيْلَكَ للإسلامِ أركانا

قتلْتَ أفضَلَ مَنْ يمشي على قَدَمٍ ... وأولَ الناسِ إسلاماً وإيمانا

وأعلَمَ الناسِ بالإسْلامِ ثُم بما ... سَن الرسولُ لنا شرعاً وتبيَانَا

صِهْرَ النبي ومولاه وناصِرَهُ ... أضحَتْ مناقبه نوراً وبرهانا

وكان منه عَلَى رغْمِ الحسودِ له ... مكانَ هارونَ من مُوسى بن عِمْرَانا

وكَانَ في الحربِ سيفاً ماضياً ذَكَرا ... ليثاً إِذَا لَقِيَ الأقرانُ أقرانا

ذكَرْتُ قاتلَهُ والدمْعُ منحدر ... فقلتُ سبحانَ رب الناسِ سبحانَا

إني لأحسبُهُ ما كانَ من بَشَرٍ ... يخشى المعادَ ولكن كان شَيطانا

أشقَى مراد إذا عدت قبائلها ... وأخسَر الناسِ عِندَ الله ميزانا

كعاقِرِ الناقةِ الأُولى التِي جلَبَت ... على ثمودٍ بأرضِ الحجرِ خُسرَانا

قد كانَ يخبرُهُم أن سوفَ يخضبها ... قَبل المنيةِ أزمانَا فأزمانا

فلا عفا اللُه عنه ما تحملَهُ ... ولا سَقَى قَبرَ عمرانَ بنِ حِطانا

لقولِهِ في شقي ظل مجتَرماً ... وقال ما قاله ظُلمَاً وعُدوانا:

يا ضربةَ من تَقِي ما أراد بها ... إلا ليبلُغَ مِن ذي العرشِ رِضوانا

بل ضربة مِن غوي أورثَتهُ لظى ... فسوفَ يلقى بِها الرحمَنَ غَضبَانا

كأنه لم يرد قصداً بضربتِهِ ... إلا ليَصلي عذَابَ الخُلدِ نيرانا

وقال الصفي الحلي يمدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: من الخفيف:

جمِعَت في صفاتِكَ الأضدادُ ... فلهذا عَزت لكَ الأندادُ

زاهِدٌ حاكم عليم شجاع ... ناسك فاتك فقير جَوَاد

هِمَم ما جُمِعنَ في بَشَرٍ قَط ... طُ ولا حَازَ مثلَهُن العبادُ

خلق يخجل النسيمَ مِن اللط ... فِ وبأس يذوب منه الجمادُ

فلِهذا تعمقَت فيكَ أقوا ... م بأقوالِهِم فزانُوا وزادُوا

وغلَت في صفاتٍ فضلِكَ يَاسِي ... ن وحَاميمُ هل أتى ثم صَادُ

ظهرَت منك للورَى مكرمَاتْ ... فأقرت بفضلِكَ الحسادُ

إن يكذب بها عداكَ فَقَد كَذ ... ذبَ مِن قبلُ قومُ لوطٍ وعادُ

أنتَ سِر النبي والصنو وابن ال ... عَم والطهرُ والأخُ المستجادُ

لو رأَى مثلَكَ النبيُ لآخا ... ه وإلا لأخطَأَ الإنتقادُ

وبكُم بأهَلَ النبي ولم يُل ... ف لكُم خامس سواه يُرَادُ

كنتَ نفسَاً له وعِرسُكَ وابنا ... كَ لدَيهِ النساءُ والأولادُ

جَل معناك أن يحيطَ به الشع ... رُ ويُحصِي صفاتِكَ التعدَادُ

إنما اللُه عنكُمُ أذهبَ الرج ... سَ فردت بغيظها الحسادُ

ذاكَ مَدْحُ الإلهِ فيكُم فإِن فُه ... تُ بَمدحٍ فذاك قول معادُ

وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من قصيدة فيه: من الطويل:

رأَوا نعمة للِه ليسَت عليهمُ ... عليكَ وفضلا بارعاً لا تنازعُهْ

فعَضوا من الغيظِ الطويلِ أكفهُم ... عليكَ ومَن لم يرضَ فالله خادعُه

مِن الدينِ والدنيا جميعاً لَكَ المنَى ... وفَوقَ المنَى أخلاقُهُ وطبائعُهْ

الآيات في شأن علي كرم اللّه وجهه

منها عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: " اَلذينَ يُنفِقون أموالَهُم بِاَلليلِ وَالنهارِ سراً وَعَلانية " " البقرة: 274"، قال: " نزلت في علي بن أبي طالب؛ كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وفي النهار درهمَاً، ودرهماً في السر ودرهماً في العلانية، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ما حملك على هذا؟ قال: أستوجب على الله ما وعدني، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إن لك ذلك " وتابع ابن عباس مجاهد وابن المسيب ومقاتل.

ومنها قوله تعالى: " أَفَمَن كاَنَ مُؤمناً كمن كاَن فَاسِقَاً لا يستَون " " السجدة: 18 " ، نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عتبة " ، أخرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عباس أن الوليد بن عتبة قال لعلي: أنا أحد منك سناناً وأبسط منك لساناً وأملأ كتيبة، فقال له علي: اسكت، إنما أنت فاسق تقول الكذب، فأنزل الله الآية تصديقاً لعلي. قال قتادة: لا والله ما استويا عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم أخبر عن الفريقين فقال: " أَمَا اَلذِينَ آمنَوُا... " " السجدة: 19 " ، أخرجه الواقدي.

ومنها قوله تعالى: " أفمنَ وَعدناه وَعداً حسنُاً فهَوَ لاقيهِ " " القصص: 61 " ، الآية قال مجاهد: نزلت في علي وحمزة وأبي جهل.

ومنها قوله تعالى: " إنَ اَلذَينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اَلصالِحاتِ سيَجعَلُ لهمُ الرحمن وُداً " مريم: 96 " قال ابن الحنفية: لا يبقى مؤمن إلا وفي قلبه ود لعلي وأهل بيته. أخرجه الحافظ السلفي.

منها قوله تعالى: " هذانِ خصمَانِ اختَصَمُوا في رَبّهِم " " الحج: 19 " ، إلى قوله: " وهدوا إلى صراط الحميد " " الحج: 24"، وعن أبي ذر، كان يقسم: لنزلت هذه الآية في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب حين بارزوا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. أخرجه مسلم.

ومنها قوله تعالى: " أَفَمنَ شرح اللَهُ صَدرَه لِلإسلام " " الزمر: 22 " ، الآية، نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وأولاده، فعلي وحمزة شرح الله صدرهما للإسلام، لهب وأولاده قست قلوبهم، ذكره أبو الفرج.

وعن علي - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية " يا أيها الَذِينَ آمنَوُا إذا ناجيتم اَلرَسُولَ فَقَدِّمُوا بين يدي نجواكم صدقة " " المجادلة: 12 " ، قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما ترى، أدينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد. فنزلت " أأشفقتم أن تقدموا " " المجادلة: 13 " ، فبي خفف اللّه عن هذه الأمة. أخرجه أبو حاتم.

ومنها قوله تعالى: " ويطعِمُونَ اَلطعَامَ عَلىَ حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " " الإنسان: 8 " قال ابن عباس: آجر على نفسه فسقى نجيلاً بشيء من شعير ليلة حتى أصبح، فلما أصبح قبض الشعير فطحن منه فجعل منه شيئاً ليأكلوه، يقال له: الحريرة؛ دقيق بلادهن، فلما تم نضاجه أتى مسكين يسأل، فقال: أطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الثاني، فلما تم نضاجه أتى يتيم فسأل، فقال: أطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الباقي فلما تم نضاجه أتى أسير من المشركين فسأل، فقال: أطعموه إياه، فأطعموه إياه؛ وطووا يومهم، فنزلت. وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من المشركين، قال أهل العلم: وهذا يدل على أن الثواب مرجو فيهم، وإن كانوا من غير أهل الملة، وهذا إذا كان ما أعطوه من غير الزكاة والكفارة كما هنا.

قلت: يحتمل أن يكون الجار والمجرور مطلقاً بالفعل على فعل مضاف، ليكون المعنى: أتى من ديار المشركين أسير الصادق بكونه مؤمناً. بل هذا الاحتمال أولى من اعتباره صفة للأسير المؤدي إلى تعيين كونه من المشركين، المحوج إلى التوجيه بقوله. قال أهل العلم: وهذا يدل.... إلى آخره.

وعن ابن عباس أنه قال: ليس في كتاب الله عز وجل: " يا أَيُهَا اَلذَين آمَنُوا " " البقرة: 104 " إلا وعلى أولها وآخرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير. أخرجه أحمد في المناقب.

الأحاديث في شأن أبي الحسنين  كرم الله تعالى وجهه

الحديث الأول: عن أبي ليلى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، مؤمن آل يس، الذي قال: " يَا قوم اَتبِعُون أَهدكُم سَبِيلَ اَلرشَادِ " " غافر: 38 " . وحرمل، مؤمن آل فرعون، الذي قال: " أَتَقتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبيِّ اللهُ " " غافر: 28 " . وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الثاني: عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: " سلام عليك أبا الريحانتين؛ فعن قليل يذهب ركناك، والله خليفتي عليك " ، فلما قبض عليه الصلاة والسلام قال: هذا أحد الركنين الذي قال - صلى الله عليه وسلم - فلما ماتت فاطمة قال: هذا الركن الآخر. أخرجه أحمد في المناقب أيضاً.

الحديث الثالث: عن سهل بن سعد، أن رجلا جاءه فقال: هذا فلان - لأمير من أمراء المدينة - يدعوك تسُب علياً على المنبر، قال: أقول ماذا؟ قال: تقول له أبا تراب. قال: فضحك سهل وقال: والله ما سماه أبا تراب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان اسم أحب إليه منه؛ دخل علي على فاطمة ثم خرج، فجاء - عليه الصلاة والسلام - فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني وخرج، ولم يَقِل عندي، وها هو مضطجع في المسجد. فخرج - عليه الصلاة والسلام - فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول: اجلس أبا تراب. أخرجه البخاري ومسلم وأبو حاتم. الحديث الرابع: عن معاذة العدوية، سمعت علياً على منبر البصرة يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر.

الحديث الخامس: عن أبي ذر قال: سمعتّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، يعسوب المؤمنين. وفي رواية: الدين، أخرجهما الحاكمي.

الحديث السادس: عن عمر بن الخطاب، قال: كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة، إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكب علي فقال: " علي، أنت أول المؤمنين إيماناً، وأول المسلمين إسلاماً، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى" . أخرجه ابن السمان.

الحديث السابع: عن زيد بن أرقم، قال: " كان أول من أسلم علي بن أبي طالب " . أخرجه أحمد والترمذي وصححه. وفي رواية: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وصلى معه علي يوم الثلاثاء " . وفي رواية عن ابن عباس: " علي أول من أسلم بعد خديجة " . قال أبو عمرَو وهذا حديث صحيح الإسناد، ولا مطعن لأحد في رواته. قلت: هو يعارض ما تقدم عن ابن عباس في أبي بكر، والصحيح: أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه؛ فلا تعارض.

الحديث الثامن: عن معاذة العدوية، قالت: سمعت علياً على منبر البصرة يقول: " أنا الصديق الأكبر؛ آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر " . أخرجه ابن قتيبة في المعارف.

الحديث التاسع: عن سلمان، أنه قال: أول هذه الأمة وروداً علي نبيها أولها إسلاماً علي بن أبي طالب. وقد روى مرفوعَاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: " أول هذه الأمة وروداً على الحوض... " الحديث. وفي رواية: " أولكم ورودَاً على الحوض أولكم إسلاماً، علي بن أبي طالب " . أخرجه ابن القلعي. وعن عفيف ابن الأشعث، عن قيس الكندي، قال: كنت امرءاً تاجرَاً، قدمت للحج فأتيت العباس بن عبد المطلب أبتاع منه بعض تجارتي، قال: فوالله إني عنده بمنى، إذ خرج علينا رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء، فلما رآها قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفه، ثم خرج غلام حين راهق الحلم، فقام معه يصلي، قال عفيف: فقلت للعباس: من هذا؟ قال: هذا محمد ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: فمن هذا الغلام. قال: هذا ابن عمه علي بن أبي طالب. قلت: فما الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه أحد على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح كنوز كسرى وقيصر، قال: فكان عفيف يقول: لو كان اللّه رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثانياً مع علي بن أبي طالب. وقد أسلم فيما بعد وحسن إسلامه.

وعن علي نفسه قال: صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين. وفي رواية عنه أيضَاً: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين. أخرجه أبو عمر. وقال علي - رضي اللّه عنه - : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة، وفينا نزلت " هذانِ خَصْمَانِ اَختَصَمُوا في رَبّهِم " " الحج: 19 " ، في مبارزتنا يوم بدر، أنا وحمزة وعبيدة مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. أخرجه البخاري عنه.

الحديث العاشر: عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إنك أول من يقرع باب الجنة فيدخلها بغير حساب بعدي " أخرجه الإمام علي بن موسى الرضي في مسنده.

الحديث الحادي عشر: عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: كان عنده صلى الله عليه وسلم طير أهدى إليه، وكان مما يعجبه أكله فقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه " . أخرجه الترمذي والبغوي في المصابيح، وأخرجه الجزري، وزاد بعد قوله: " فجاء علي فقال استأذن على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما عليه إذن، ثم جاء فرددته ثم دخل الثالثة أو الرابعة، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي: ما حبسك عني - أو ما أبطأك عني - يا علي. قال: جئت فردني أنس، وكان أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا أنس، ما حملك على ما صنعت؟ قلت: رجوت أن يكون رجلا من الأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أنس، أو في الأنصار خير من علي أو أفضل من علي؟ " أخرجه البخاري.

الحديث الثاني عشر: عن معاذة الغفارية، قالت: كان لي أنس بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجُ معه في الأسفار، وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وعلي خارج من عنده، فسمعته يقول: يا عائشة إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي؛ فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه " أخرجه الخجندي.

الحديث الثالث عشر: عن البراء، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي منى بمنزلة رأسي من جسدي " أخرجه الملا.

الحديث الرابع عشر: عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية عنه قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف طعن ناس من المنافقين في أمر علي وقالوا: إنما استخلفه استثقالاَ، فخرج علي فحمل سلاحه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجرف فقال: يا رسول اللّه، ما تخلفت عنك في غزاة قط قبل هذه، وقد زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالا. فقال: " كذبوا، ولكن خلفتك لما ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه لا نبي بعدي " .

الحديث الخامس عشر: عن أسماء بنت عُميس، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أقول كما قال أخي موسى: اجعل لي وزيراً من أهلي، أخي علياً " أشدد به أزري وأشركه في أمري... " إلى " بصيراً " أخرجه الإمام أحمد.

الحديث السادس عشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم غزوة تبوك: " أما ترضى أن يكون لك من الأجر مثل ما لي، ولك من المغنم مثل ما لي؟ " أخرجه الخلعي.

الحديث السابع عشر: عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد ثقيف حين جاءوه: " لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلا مني، أو قال مثل نفسي فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم " . قال عمر: فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول هو هذا. قال: فالتفت إلى علي، وأخذ بيده وقال: هو هذا، هو هذا. أخرجه عبد الرزاق في جامعه وأبو عمر.

الحديث الثامن عشر: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من نبي إلا وله نظير من أمته، وعلي نظيري، أخرجه الخلعي.

الحديث التاسع عشر: أخرج ابن السمان في الموافقة قال: جاء أبو بكر وعلي يزوران قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بسبعة أيام فقال علي: تقدم يا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول فيه: " علي مني بمنزلتي من ربي " .

الحديث العشرون: عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين فجزء أنا وجزء علي " . أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الحادي والعشرون: عن حبشي بن جنادة قال: كنت جالساً عند أبي بكر فقال: " من كانت له عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام رجل فقال: يا خليفة رسول الله، وعدني بثلاث حثيات من تمر، ثم قام فقال: أرسلوا إلى علي، فأتى فقال: يا أبا الحسن، إن هذا يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده بثلاث حثيات من تمر فاحثها له، قال: فحثاها بمرة لا تزيد واحدة على الأخرى، فقال أبو بكر: صدق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لي ليلة الهجرة ونحن خارجون من الغار نريد المدينة: " يا أبا بكر كفي وكف علي في العدد سواء " أخرجه ابن السمان في الموافقة.

الحديث الثاني والعشرون: عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد صلت الملائكة عليَ وعلى علي؛ لأنا كنا نصلي ليس معنا مصل غيرنا " أخرجه أبو الحسن الخلعي.

الحديث الثالث والعشرون: عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسري بي مررت على ملك جالس على سرير من نور، وإحدى رجليه في المشرق والأخرى في المغرب، وبين يديه لوح ينظر فيه، والدنيا كلها بين عينيه، والخلق بين يديه وركبتيه، ويده تبلغ المشرق والمغرب، فقلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا عزرائيل، تقدم فسلم عليه، فتقدمت فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام يا أحمد، ما فعل ابن عمك علي. فقلت: وهل تعرف ابن عمي علياً. فقال: وكيف لا أعرفه وقد وكلني الله بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك وروح ابن عمك علي بن أبي طالب، فإن الله يتوفاه كما شئته " أخرجه الملا في سيرته.

الحديث الرابع والعشرون: عن عمرو بن شاس الأسلمي - وكان من أهل بيعة الرضوان - قال: خرجت مع علي إلى اليمن فجفاني في سفري حتى وجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فلما رآني حدد النظر إلي حتى إذا جلست قال: " والله يا عمرو، والله لقد آذيتني، قلت: أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله. فقال: بلى، من آذى علياً فقد آذاني " . أخرجه أحمد. وفي رواية " أي عمرو، من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه " .

الحديث الخامس والعشرون: عن أم سلمة، قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله " أخرجه المخلص والحاكمي.

الحديث السادس والعشرون: عن ابن عباس، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب، فقال له: " أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيبك، وعدوك عدوي، وعدوي عدوك، والويل لمن أبغضك " أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث السابع والعشرون: عن ابن عباس، أنه مر بعد ما كف بصره بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علياً؛ فقال لقائده: ما سمعت من هؤلاء يقولون؟ قال: يسبون علياً. فقال لقائده: ردني إليهم، فرده، فقال: أيكم الساب الله؟ قالوا: سبحان الله من يسب اللّه فقد أشرك. فقال: أيكم الساب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا: سبحان الله! من يسب رسول اللّه فقد كفر. فقال: أيكم السابُّ لعلي؟ قالوا: أما هذا فقد كان. قال: فأنا أشهد باللّه لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه، ومن سب الله عز وجل أكبه في النار على منخره " ، ثم ولَى عنهم، فقال لقائده: ما سمعتهم يقولون. قال: ما قالوا شيئاً. قال: فكيف رأيت وجوههم حين قلت ما قلت؟ فقال: من الكامل:

نظروا إليكَ بأعْينِ محمرَةٍ ... نَظَرَ التيوسِ إلى شفارِ الجازرِ

قال ابن عباس: زدني فداك أبي. فقال:

خزرُ الحَوَاجِبِ ناكسو أذقانِهِم ... نَظَرَ الذليلِ إلى العزيزِ القَاهرِ

قال ابن عباس: زدني فداك أبي. قال: ما عندي غيرهما. قال ابن عباس: لكن عندي. فقال:

أحياؤُهُمْ خزْي على أمواتِهِمْ ... والميتُونَ مسبة للغابِرِ

الحديث الثامن والعشرون: عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي: " من أطاعك فقد أطاع اللّه، من عصاك فقد عصاني " أخرجه الإسماعيلي في معجمه. وفي رواية " من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن عصاك فقد عصاني " أخرجه الخجندي.

الحديث التاسع والعشرون: أخرج أحمد في المناقب عن أبي ذر أيضَاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا علي من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني " .

الحديث الثلاثون: عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - : " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه، قال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة " . وفي رواية: " ألا ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله، رضيت. قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة " أخرجه الخلعي.

الحديث الحادي والثلاثون: عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها غيري إلا كذب". أخرجه أبو عمر.

الحديث الثاني والثلاثون: عنه أيضاً، قال: " طلبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فوجدني في حائط نائمَاً، فضربني برجله وقال: قم، فواللّه لأرضينك، أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنتي، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة، ومن مات على غير عهدي فقد قضى نحبه، ومن مات محبك بعد موتك ختم اللّه له بالأمن والأمان، ما طلعت الشمس أو غربت " . أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الثالث والثلاثون: عن علي - رضي الله عنه - " جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق، فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقى الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس، فقال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكُمْ خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي. فلم يقم إليه أحد، قال علي: فقمت وكنت أصغر القوم، فقال: اجلس، ثم قال ذلك مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول: اجلس، حتى كان في الثالثة ضربت يده على يدي " . أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية لما نزل قوله تعالى: " وَأَنذر عَشِيَرتَكَ اَلأَقرَبين " " الشعراء: 214 " ، دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجالا من أهله فأطعمهم حتى شبعوا فقال: " من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة؟ " فقال علي: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: " تقضي ديني ومواعيدي " . أخرجه أحمد في المناقب. قلت: الفرق: مكيال يسع ثلاثة آصع.

الحديث الرابع والثلاثون: عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي باب الجنة مكتوب لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه علي أخو رسول اللّه " ، وفي رواية: " مكتوب على باب الجنة محمد رسول الله، علي أخو رسول اللّه، قبل أن تخلق السموات والأرض بألفي سنة " أخرجهما أحمد في المناقب.

الحديث الخامس والثلاثون: عن عبد اللّه بن عباس قال: كنت أنا والعباس جالسين عند نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، إذ دخل علي بن أبي طالب، فسلم فرد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السلام، وقام إليه وعانقه، وقبل بين عينيه، وأجلسه عن يمينه، فقال العباس: يا رسول اللّه، أتحب هذا؟ فقال: يا عم واللّه للُّه أشد حبُّاً له مني، إن اللّه جعل ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب هذا " . أخرجه أبو الخير الحاكمي.

الحديث السادس والثلاثون: عن البراء بن عازب، قال: كُنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا: " الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فصلى الظهر وأخذ بيد علي، وقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار " زاد أحمد في المناقب: " وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه " ورواه أكثر من ثمانية عشر صحابياً.

ولقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب بعد ذلك فقال له: هنيئَاً لك يا بن أبي طالب؛ أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وعن سالم، قيل لعمر: إنك تصنع بعلي شيئاً ما نراك تصنعه بأحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: إنه مولاي.

وعن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعلي: اقض بينهما يا أبا الحسن، فقضى علي بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا. فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك! أتدري من هذا. هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. وعنه وقد نازعه رجل في مسألة فقال له: بيني وبينك هذا الجالس - وأشار إلى علي بن أبي طالب - فقال الرجل: هذا الأبطن؟ فنهض عمر عن مجلسه، وأخذ بتلبيبه ورفعه من الأرض، ثم ضرب به الأرض، فقال: أتدري من صغرت؟ مولاي ومولى كل مؤمن أو مسلم. أخرجهن ابن السمان. قلت: غدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة، أو هو قريب منها على يمين الذاهب إلى المدينة.

الحديث السابع والثلاثون: عن عمران بن حصين، قال: " بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليها علياً. قال: فمضى على السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما صنع. قال عمران بن حصين: وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه، ثم انصرفوا إلى رحالهم. فلما قدمت السرية سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر أن علياً صنع كذا وكذا فأعرض عنه، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته، فأعرض عنه. ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال: ماذا تريدون من علي؟ ثلاث مِرَارٍ. إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي " . أخرجه الترمذي وأبو حاتم وأحمد.

الحديث الثامن والثلاثون: عن بريدة بن الخصيب قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سرية وأمَّر عليها رجلا وأنا فيها، فأصبنا سبياً، فكتب الرجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ابعث لنا من يخمسه. فبعث علياً، وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي، قال: فخمس وقسم، قال فخرج ورأسه يقطر، فقلنا يا أبا الحسن، ما هذا؟ قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت من آل علي ووقعت بها. فكتب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقلت للرجل: ابعثني مصدقَاً فبعثني. قال بريدة: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم يدي والكتاب، وقال لي: تبغض علياً. قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال بريدة: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحب إلي من علي. وفي رواية: " لا تقع في علي؛ فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي" . أخرجهما الإمام أحمد بن حنبل.

الحديث التاسع والثلاثون: عن بريدة أيضاً: " من كنت وليه فعلي وليه " أخرجه أبو حاتم.

الحديث الأربعون: عن بريدة أيضَاً قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " إذا جمع اللّه الأولين والآخرين يوم القيامة ونصب الصراط على جسر جهنم ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية علي بن أبي طالب " . أخرجه الحاكمي.

الحديث الحادي والأربعون: عن ابن مسعود، قال: أنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذ يد علي وقال: " هذا وليي وأنا وليه، واليت من والاه وعاديت من عاداه " أخرجه الحاكمي. وعن أبي صالح قال: لما حضرت ابن عباس الوفاة قال: اللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب. أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الثاني والأربعون: عن عمار بن ياسر، وأبي أيوب الأنصاري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حق عَلي على المسلمين حق الوالد على الولد " أخرجه الحاكمي.

الحديث الثالث والأربعون: عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب اللواء يوم أحد، قال جبريل: يا رسول اللّه، إن هذه لهي المواساة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا مني وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما يا رسول اللّه " . أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الرابع والأربعون: أخرج أحمد في المناقب عن علي - رضي اللّه عنه - قال لما كانت ليلة يوم بدر قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من يسقي لنا من الماء؟ فأحجم القوم، فقام علي فاحتضن قربة ثم أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها، فأوحى الله - عز وجل - إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل تأهبوا لنصرة محمد وحزبه، فسقطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما صاروا بالبئر سلموا عليه من عند آخرهم.

الحديث الخامس والأربعون: عن أبي الحمراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة أسري بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش الأيمن، فرأيت كتاباً فهمته: محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيدته بعلي ونصرته به " . أخرجه الملا في سيرته.

الحديث السادس والأربعون: عن ابن عباس، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طائر في فيه لوزة خضراء، فألقاها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فقبلها ثم كسرها، فإذا في جوفها ورقة خضراء مكتوب فيها " لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، نصرته بعلي " أخرجه أبو الخير الحاكمي.

الحديث السابع والأربعون: عن جابر: أنهم يوم رجعوا من الجعرانة إلى المدينة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح، فلما كان استواء المنكبين سمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلعل أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نصلي معه، فإذا علي عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول. فقال: لا، بل رسول، أرسلني ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، قال جابر: فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب الناس، فعلمهم مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. ثم لما كان يوم النحر خطب الناس أبو بكر، فحدثهم عن إفاضتهم، وعن نحرهم، وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر يخطب الناس فحدثهم كيف يرمون وكيف ينفرون، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها " . أخرجها أبو حاتم.

وفي رواية عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه، فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه، فلما رجع أبو بَكرٍ بعد الحج أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللّه نزل فيّ شيءٌ. قال: لا، ولكن جبريل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

الحديث الثامن والأربعون: عن السيدة فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عشية عرفة فقال: " إن الله تعالى قد باهى بكم وغفر لكم عامة، وبعلي خاصة، وإني رسول اللّه غير محاب بقرابتي " أخرجه أحمد.

الحديث التاسع والأربعون: عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي سيد العرب - يعني علياً - قالت عائشة: ألست بسيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب. فلما جاء أرسل إلى الأنصار، فأتوه فقال لهم: " يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، إن جبريل أخبرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل " . أخرجه الفضائلي.

الحديث الخمسون: عن عبد اللّه بن أسعد بن زرارة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة أسري بي انتهيت إلى ربي عز وجل، فأوحى إليّ، أو أمرني - شك الراوي - في علي أنه سيد المسلمين وولي المتقين وقائد الغر المحجلين " .

الحديث الحادي والخمسون: عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة " أخرجه أبو عمر وأبو الخير الحاكمي.

الحديث الثاني والخمسون: عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي وصي ووارث، وإن علياً وصيي ووارثي " . أخرجه البغوي في معجمه.

الحديث الثالث والخمسون: عن أنس، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ وصيه. فقال سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟ فقال: يا سلمان، من كان وصي موسى. قال: يوشع. قال: فإن وصيي ووارثي وصهري يقضي ديني، ينجز موعدي، علي بن أبي طالب. أخرجه أحمد في المناقب. زاد غيره: أن علياً قال له: يا رسول الله، وما أرث منك. قال: ما ورث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورث الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم.

الحديث الرابع والخمسون: عن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يغسله، فقال علي: أخشى أَلاَ أطيق ذلك، قال: إنك ستعان علي، قال: فقال علي: فواللّه ما أردت أن أقلب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عضواً إلا قلب لي. أخرجه ابن الحضرمي.

الحديث الخامس والخمسون: عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه، قال: قال سول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إنْ ولد لك غلام فسمه باسمي وكنه بكنيتي، وهذا رخصة لك دون الناس.

الحديث السادس والخمسون: عن الحسن بن علي، قال: كان رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجر علي وهو يوحي إليه، فلما سرى عنه قال: يا علي، صليت العصر. قال: لا. قال: اللهم أنت تعلم أنه كان في حاجتك، وفي حاجة رسولك، فرد عليه الشمس. فردها عليه وصلى وغابت الشمس. أخرجه الدولابي. وفي رواية عن أسماء بنت عميس بلفظ: فأقبلت الشمس لها خوار حتى ارتفعت قدر ما كانت في وقت العصر؛ فصلى، ثم رجعت فغربت. وفي رواية عنها أيضاً: فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد. قال في الرياض: قال علماء الحديث: هو حديث موضوع، ولم ترد الشمس لأحد، وإنما حبست ليوشع بن نون.

الحديث السابع والخمسون: عن أنس بن مالك في قصة زواج علي بفاطمة، وقد تقدم ذلك دعاؤه لعلي وفاطمة حتى أتى بالماء فنضح عليهما وقال: اللهم إني أعيذها بك وذُريتها من الشيطان الرجيم. أخرجه أبو حاتم.

الحديث الثامن والخمسون: عن ابن عباس لما زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاطمة لعلي قالت: " يا رسول اللّه، زوجتني برجل فقير لا شيء له، فقال صلى الله عليه وسلم: أما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك " .

أخرجه الملا في سيرته.

الحديث التاسع والخمسون: عن ابن عباس أيضَاً قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: أتدري ما جاء به جبريل. قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير، وعدة من الأنصار، فقال: إن اللّه تعالى قد أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي علي بن أبي طالب بذلك. ثم دعا بطبق من بسر فوضعه بين أيدينا، ثم قال: انتهبوا. فانتهبنا. فبينما نحن ننتهب إذ أقبل علي بن أبي طالب، فلما دخل قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي إن اللّه أمرني أن أزوجك فاطمة، وقد زوجتكها على أربعمائة مثقال إن رضيت. قال: قد رضيت يا رسول اللّه. قال: ثم قام علي فخر ساجداً شكراً للّه تعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: جعل اللّه منكما الكثير الطيب، وبارك اللّه فيكما، قال أنس: فواللّه لقد أخرج منهما الكثير الطيب. أخرجه أبو الخير الحاكمي.

الحديث الستون: عن أنس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال لعلي: هذا جبريل يخبرني أن الله عز وجل زوجك فاطمة، وأشهد على تزويجها أربعين ألف ملك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدر والياقوت؛ فنثرته عليهم، فابتدرت الحور العين يلقطن في أطباق الحر والياقوت، فهم يتهادونه بينهم إلى يوم القيامة. أخرجه الملا في سيرته.

الحديث الحادي والستون: عن أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل الحسن والحسين وفاطمة وعلياً كساء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " . أخرجه الترمذي.

الحديث الثاني والستون: عن زيد بن أرقم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: " أنا حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم " أخرجه الترمذي. وفي رواية عن أبي بكر الصديق قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ختم ختمة وهو متكئ على فرش عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: " معشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليُ من والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد، ردئ الولادة " .

الحديث الثالث والستون: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما حضرته الوفاة: ادعوا لي حبيبي فدعوا له أبا بكر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي فدعوا له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي فدعوا له علياً، فلما رآه أدخله معه في الثوب الذي كان عليه، فلم يزل يحضنه حتى قبض ويده عليه " أخرجه الرازي. قلت: قد تقدم في ذكر وفاته - عليه الصلاة والسلام - أن أبا بكر - رضي الله عنه - يوم وفاته صلى الله عليه وسلم كان غائباً بالسنح لما رآه أصبح مفيقاً يوم الاثنين، فأذن له - عليه الصلاة والسلام - فلم يعد إلا وقد توفي - عليه الصلاة والسلام - فلينظر وجه التوفيق بين ذاك وبين قوله هنا: فدعوا له أبا بكر، فلما نظر إليه وضع رأسه. ولو لم تقيد هذه الواقعة بقوله: لما حضرته الوفاة لكان وجه التوفيق ممكناً، يحمل وقوعها على ما قبل عزم أبي بكر إلى السنح، فليتأمل.

الحديث الرابع والستون: عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم خيبر " لأعطين الراية غداً رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يفتح الله على يديه قال: فبات الناس يدوكون - أي: يخوضون ويموجون ليلتهم - أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال عليه الصلاة والسلام: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأَرسلوا إليه. فلما جاء بصق في كفه ومسح بها عينيه، ودعا له؟ فبرأ لوقته حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يقولوا مثلنا. قال: انفذ على رسلك - أي: امض على تؤدتك؛ كما تقول: على هينتك - حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. أخرجه البخاري ومسلم وأبو حاتم.

الحديث الخامس والستون: عن محدوج بن زيد الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أما علمت يا علي، أنه أول من يدعى يوم القيامة بي؟!، فأقوم عن يمين العرش في ظله فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالأنبياء بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللا من الجنة. ألا إني أخبرك يا علي أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشرة فأول ما يدعى بك لقرابتك مني، فيدفع إليك لوائي - لواء الحمد - وهو أول لواء تسير به بين السماطين. آدم وجميع خلق اللّه يستظلون بظل لوائي يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، وله ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالثة في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر: الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثاني: الحمد للّه رب العالمين، الثالث: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، طول كل سطر مسيرة ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، ثم ينادي منادٍ تحت العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، أبشر يا علي، إنك تكسى إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيا إذا حييت " . أخرجه أحمد في المناقب.

وأخرج الملا في سيرته زيادة: قيل: يا رسول اللّه، وكيف يستطيع على أن يحمل لواء الحمد. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وكيف لا يستطيع ذلك؟ وقد أعطى خصالا شتى: صبراً كصبري، وحسنَاً كحسن يوسف، وقوة كقوة جبريل.

الحديث السادس والستون: عن ابن عباس، قال: كان علي حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر والمشاهد كلها، ولما كسرت يد علي - رضي اللّه عنة - يوم أحد؛ فسقط اللواء من يده، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ضعوه في يده اليسرى، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.

الحديث السابع والستون: عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر: أنا هو يا رسول اللّه. قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول اللّه. قال: لا، ولكن خاصف النعل، وكان أعطى نعله عليُّاً يخصفها. ومثل هذا ما رواه علي نفسه من قوله فيه يوم الحديبية: " يا معشر قريش، لتنتهن أو ليبغين اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن اللّه قلبه على الإيمان، قالوا: من هو يا رسول الله. قال: هو خاصف النعل. ثم التفت علي إلى من عنده وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب علي متعمدَاً فليتبوأ مقعده من النار " . أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

الحديث الثامن والستون: عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد أبواب المسجد إلا باب علي " . أخرجه الترمذي. وفي رواية: فتكلم في ذلك ناس، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي، فقال فيه قائلكم، وإني واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته. ولكني أمرت بشيء فاتبعته " . أخرجه أحمد.

الحديث التاسع والستون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، لا يحل لأحد يُجنب في هذا المسجد غيري وغيرك " . أخرجه الترمذي.

الحديث السبعون: عن أنس بن مالك، قال: " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليّاً مقبلا فقال: يا أنس، قلت: لبيك. قال: هذا المقبل حجتي على أمتي يوم القيامة " . أخرجه النقاش.

الحديث الحادي والسبعون: عن - علي رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " أنا دار الحكمة، وعلي بابها" ، وفي أخرى: " أنا مدينة العلم، فمن أراد العلم فليأته من بابه " .

الحديث الثاني والسبعون: عن معقل بن يسار، قال: " وضأت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك في فاطمة نعودها. فقلت: نعم. فقام يتوكأ عليَ حتى دخلنا على فاطمة، فقلنا: كيف تجدينك؟ قالت: اشتد حزني، واشتدتْ فاقتي، وطال سقمي. فقال: أو ما ترضَيْنَ أن زَوجْتُك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علمَاً، وأعظمهم حلماً " . أخرجه أحمد، وزاد القلعي: " زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة " .

الحديث الثالث والسبعون: عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أقضى أمتي علي " . أخرجه في المصابيح. وقال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب. وعن أبي الطفيل، قال: شهدت علياً يقول: سلوني، والله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب اللّه، فواللّه ما مِنْ آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ " أم في سهل أم في جبل؟ " . أخرجه أبو عمر.

الحديث الرابع والسبعون: عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اتختصم الناس بسبع ولا يحاجك أحد من قريش، أنت أولهم إيماناً باللّه، وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمر اللّه وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند اللّه مزية " . أخرجه الحاكمي.

الحديث الخامس والسبعون: عن علي رضي اللّه عنه، قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول اللّه، بعثتني إلى قوم ذوي أسنان، وأنا شاب لا أعلم القضاء، فوضع يده على صدري فقال: إن اللّه يهدي قلبك ويثبت لسانك، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما تسمع من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء فيما اختلفا. قال علي: فما أشكل عليَّ قضاء بعد ذلك " . أخرجه الإسماعيلي والحاكمي.

الحديث السادس والسبعون: عن جابر " دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد أطال نجواه مع ابن عمه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه " .

الحديث السابع والسبعون: عن علي - كرم اللّه وجهه - قال: " انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس واصعد على منكبك، فذهبت لأربض به، فرأى مني ضعفَاً فنزل، وجلس إليَ نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: اصعد على منكبي، فصعدت على منكبه، قال: فنهض فخُيل لي أن لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت إلى البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى استمكنت منه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذفه، فقذفته؛ فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت؛ خشية أن يرانا أحد من الناس، وذلك صنمهم الأكبر.

الحديث الثامن والسبعون: روى أبو سعيد في شرف النبوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا؛ أوتيت صهرَاً مثلي ولم أوت أنا مثلي، وأوتيتَ زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أوت أنا مثلها زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم " . وأخرج معناه الإمام علي بن موسى الرضا في مسنده بزيادة ولفظه: " يا علي أعطيت ثلاثاً لم يجتمعن لغيرك، مصاهرتي وزوجتك وولديك، والرابعة لولاك ما عرف المؤمنون " .

الحديث التاسع والسبعون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " أعطيت في علي خمساً هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، أما واحدة: فهي تكأتى عليه بين يدي الله - عز وجل - حتى يفرغ من الحساب، وأما الثانية: فلواء الحمد بيده، آدم ومن ولده من تحته، الثالثة: فواقف على عقر حوضي يسقى من عرف من أمتي، وأما الرابعة: فساتر عوراتي ومسلمي إلى ربى - عز وجل - وأما الخامسة: فلست أخشى عليه أن يرجع زانياً بعد إحصان، ولا كافرَاً بعد إيمان " . أخرجه أحمد في المناقب. قلت: التكأة: بضم التاء وبالهمز: ما يتكأ عليه، وعقر الحوض، بضم العين وإسكان القاف: آخر الحوض.

الحديث الثمانون: عن عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة بنتي، وأنت أخي ورفيقي، ثم تلا " إِخوَناً عَلىَ سُرُر مُتقابلين " الحجر: 47 " ، أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الحادي والثمانون: عن ابن عمر، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: " يا علي، يدك في يدي تدخل معي يوم القيامة حيث أدخل " . أخرجه الحافظ الدمشقي.

الحديث الثاني والثمانون: عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان الفارسي " . أخرجه ابن السري.

الحديث الثالث والثمانون: عنه - أيضاً - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " نحن بني عبد المطلب سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي " . أخرجه ابن البري.

الحديث الرابع والثمانون: عن علي - رضي اللّه عنه - : دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا في المنام فاستسقى الحسن والحسين، قال: فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى شاة لنا بكر فحلبها فدرَت، فجاء الحسين، فنحاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت فاطمة: لكأنه أحبهما إليك. قال: لا، ولكنه - يعني الحسن - استسقى قبله. ثم قال: إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة " . أخرجه أحمد في المسند.

الحديث الخامس والثمانون: عن عبد اللّه بن عمر، قال: بينما أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمع المهاجرين والأنصار إلا من كان في سرية - أقبل علي يمشي. وهو متغضب، فقال: " من أغضب هذا فقد أغضبني " . فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا علي؟ قال: أذاني بتولك. قال: أما ترضى أن تكون معي في الجنة والحسن والحسين وذرياتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرياتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا " . أخرجه أحمد في المناقب، وأبو سعيد في شرف النبوة.

الحديث السادس والثمانون: عن علي - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " . أخرجه الهروي في غريبه. وقوله قرنيها، أي: طرفيها.

الحديث السابع والثمانون: عنه - رضي الله عنه - وكرم وجهه - قال: " كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة فمررنا على حديقة، فقلت: يا رسول اللّه، ما أحسنها؛ قال: لك في الجنة أحسن منها " . أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية: " فلما خلا الطريق اعتنقني وأجهش باكياً. فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي. فقلت: في سلامة أمن، ديني. قال: في سلامة من دينك " .

الحديث الثامن والثمانون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن لك في الجنة ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم " .

الحديث التاسع والثمانون. عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علي يزهر بأهل الجنة كما يزهر كوكب الصبح بأهل الدنيا " . أخرجه أبو الخير القزويني. ويزهر: يضيء، يقال: زهرت النارُ زهرَاً: أضاءت.

الحديث التسعون: عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " لما أسري بي إلى السماء أخذ جبريل بيدي وأقعدني على درنوك من درانيك الجنة، وناولني سفرجلة، فكنت أقلبها، إذ انفلقت وخرجت منها حوراء لم أر أحسن منها، فقالت: السلام عليك يا محمد. قلت: وعليك السلام. قالت: أنا الراضية المرضية، خلقني الجبار من ثلاثة أصناف: أعلاي من عنبر، ووسطي من كافور، وأسفلي من مسك، عجنني بماء الحيوان، ثم قال: كوني فكنت، خلقني لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب " . أخرجه الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم في مسنده.

الحديث الحادي والتسعون: عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن اللّه اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قصري في الجنة وقصر إبراهيم متقابلان، وقصر علي بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم فيا له من حبيب بين خليلين " .

الحديث الثاني والتسعون: عن سلمان، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة ضرب لي قبة حمراء على يمين العرش، وضرب لإبراهيم قبة خضراء عن يسار العرش، وضرب فيما بينهما لعلي بن أبي طالب قبة من لؤلؤ بيضاء، فما ظنكم بحبيب بين خليلين " . أخرجه الحاكمي.

الحديث الثالث والتسعون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن الحوض " أخرجه الطبراني. وفي رواية عن علي - رضي الله عنه - : قال " لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات الكفار والمنافقين؛ كما تذاد غرائب الإبل عن حياضها" . أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الرابع والتسعون: عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " لك يوم القيامة ناقة من نوق الجنة تركبها، وركبتيك مع ركبتي وفخذك مع فخذي، حتى تدخل الجنة " أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث الخامس والتسعون: عن عبد اللّه بن الحارث قال: قلت لعلي بن أبي طالب: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم، بينما أنا عنده وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: " يا علي، ما سألت الله - عز وجل - من الخير إلا سألت لك مثله، وما استعذت باللّه من الشر إلا استعذت لك مثله " أخرجه المحاملي.

الحديث السادس والتسعون: عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ما اكتسب مكتسب مثل فضل علي، يهدي إلى الهدى، ويرد عن الردى " أخرجه الطبراني.

الحديث السابع والتسعون: عن بريدة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم. قيل: يا رسول اللّه، فسمهم لنا. قال: علي منهم. يقول ذلك ثلاثاً " . أخرجه أحمد والترمذي.

الحديث الثامن والتسعون: عن ابن عباس: أن علياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه وعانقه وقبل بين عينيه، فقال العباس: أتحب هذا يا رسول اللّه. فقال: يا عم، والله للّه أشد حباً له مني " أخرجه أبو الخير القزويني.

الحديث التاسع والتسعون: عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، قال: " أقبلت من بدر ففقدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فنادى الرفاق بعضهم بعضَاً: أفيكم رسول اللّه؟ فوقفوا حتى جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومعه علي بن أبي طالب، فقالوا: يا رسول اللّه، فقدناك. فقال: إن أبا الحسن وجد مغصَاً في بطنه فتخلفت عنده " . أخرجه أبو عمر.

الحديث المائة: عن أم عطية، قالت: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشَاً فيهم علي بن أبي طالب، قالت: فسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يقول: " اللهم لا تمتني حتى تريني علياً " أخرجه الترمذي.

الحديث الحادي والمائة: عن علي، قال: كنت شاكيَاً فمر بي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخراً فارفع عني، وإن كان بلاء فصبرني.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعدت عليه، فضربني، وقال " اللهم عافه أو اشفه " - شعبة الشاك - قال: فما اشتكيت وجعي ذاك بعد " . أخرجه أبو حاتم.

الحديث الثاني والمائة: عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليُّاً، ثم بعث رجلا خلفه، وقال " ادعه، ولا تدعه من ورائه " أخرجه الدارقطني.

الحديث الثالث والمائة: عن علي، قال: أهدى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم حلة سيراء مسيرة بحرير، إما سداؤها وإما لحمتها، فبعثها النبي صلى الله عليه وسلم إليّ؛ فقلت: يا رسول الله، ما أصنع بها. فقال: لا أرضي لك شيئاً وأكرهه لنفسي، فشققت منها أربعة أخمرة خماراً لفاطمة بنت أسد أم علي، وخماراً لفاطمة بنت محمد، وخمارَاً لفاطمة بنت حمزة، وذكر فاطمة أخرى " . أخرجه الضحاك.

الحديث الرابع والمائة: عن عبد الأعلى بن عدي البَهْراني أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا علياً يوم غدير خم فعممه وأرخى عذبة العمامة من خلفه.

الحديث الخامس والمائة: عن علي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة " أخرجه أحمد والترمذي.

الحديث السادس والمائة: عنه - رضي الله تعالى عنه - : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق " أخرجه مسلم وأبو حاتم.

الحديث السابع والمائة: عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحب علياً منافق، ولا يبغضه مؤمن" أخرجه الترمذي. وعن جابر بن عبد الله: " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم علياً " .

الحديث الثامن والمائة: عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يستمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه اللّه في جنة عدن كله فليستمسك بحب علي " أخرجه أحمد في المناقب.

الحديث التاسع والمائة: عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " حب علي يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب " أخرجه الملا في سيرته.

الحديث العاشر والمائة: عن أنس، قال: " دَفع علي بن أبي طالب إلى بلال درهماً ليشتري بطيخاً، قال: فاشترى به. فأخذ بطيخة فقورها فوجدها مرة، فقال: يا بلال رد هذا على صاحبه وائتني بالدرهم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل أخذ حبك على الشجر والبشر والمدر، فما أجاب إلى حبك عذب وطاب، وما لم يجب خبث ومر. وإني أظن هذا مما لم يجب " . أخرجه الملا. وفي هذا دلالة على أن العيب الحادث إذا كان مما لا يطلع على العيب القديم إلا به لا يمنع الرد.

الحديث الحادي عشر ومائة: عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد مماته " أخرجه أحمد.

الحديث الثاني عشر ومائة: عن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " يا علي، طوبى لمن أحبك وصدقك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك " . أخرجه ابن عرفة.

الحديث الثالث عشر ومائة: عن علي - رضي اللّه عنه - قال: قال لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيك مثل من عيسى، أبغضه اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليس بها " ، ثم قال علي - رضي اللّه عنه - : " يهلك في رجال مُحب مفرط يقرظني بما ليس في، ومُبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني " . أخرجه أحمد في المسند. ومعنى بهتوا: كذبوا عليه، والبهت: الكذب وقول الزور.

الحديث الرابع عشر ومائة: عن أبي الجمراء، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حكمه، وإلى زكريا بن يحيى في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب " أخرجه الحاكمي والقزويني.

الحديث الخامس عشر ومائة: عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه علي، فقلت: يا أبت، رأيتك تكثر النظر إلى وجه علي فقال: يا بنية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " النظر إلى وجه علي عبادة " . أخرجه ابن السمان في الموافقة.

الحديث السادس عشر ومائة: عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ما مررت بسماء إلا وأهلها يشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة شيء إلا وهو مشتاق إلى علي بن أبي طالب " أخرجه الملا في سيرته.

الحديث السابع عشر ومائة: عن ابن عباس - أيضاً - : " أن رسول الله صف المهاجرين والأنصار صفين، ثم أخذ بيد علي والعباس من بين الصفين وضحك؛ فقال له رجل: من أي شيء ضحكت فداك أبي وأمي. قال: هبط علي جبريل بأن الله باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السموات العلا، وباهى بك يا علي، وبك يا عباس حملة العرش " . أخرجه أبو القاسم في الفضائل.

الحديث الثامن عشر ومائة: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: " بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أدعو عليَّاً، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني، فعدت فأخبرت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال لي: عد إليه ادعه فإنه في البيت، قال أبو ذر: فعدت أناديه فسمعت صوت رحى تطحن، فشارفت فإذا الرحى تطحن، وليس معها أحد، فناديته، فخرج إليَ منشرحاً فقلت: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعوك، فجاء، ثم لم أزل أنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وينظر إلي فقال: يا أبا ذر، ما شأنك؟ فقلت: يا رسول اللّه، عجبت من العجب، رأيت رحى تطحن وليس معها أحد يديرها فقال: يا أبا ذر، إن للّه ملائكة يسيحون في الأرض قد وكلوا بمعونة آل محمد صلى الله عليه وسلم " أخرجه الملا في سيرته.

الحديث التاسع عشر ومائة: عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً يومَاً، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فسمعته يقول: " أيها الناس لا تشكوا علياً، فواللّه إنه لأخشى في ذات اللّه - عز وجل - أو في سبيل اللّه " . أخرجه أحمد.

الحديث العشرون ومائة: عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - أنه قال: أشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لسمعته وهو يقول: " لو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعت في كفة؛ ووضع إيمان علي في كفة - لرجح إيمان علي " . أخرجه ابن السمان والحافظ السلفي.

الحديث الحادي والعشرون ومائة: عن - علي رضي اللّه عنه - قال: " قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي، كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لماً، وأحبوا المال حبُّاً جمُّا، واتخذوا دين اللّه دخلا، ومال اللّه دولا؟ قلت: أتركهم وما اختاروا، وأختار اللّه ورسوله والدار والآخرة، وأصبر على مصيبات الدنيا وبلواها، حتى ألحق بك - إن شاء اللّه تعالى - قال: صدقت، اللهم افعل به ذلك " . أخرجه الحافظ أبو طاهر السلفي.

الحديث الثاني والعشرون ومائة: عنه - رضي اللّه عنه - أيضاً، قال: " جعت بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً فظننتها تريد بَلَهُ، فعاطيتها كل دلو بتمرة، فمددت ستة عشر دلواً حتى مجلت يدي، ثم أتيتها فقلت: بكلتا يدي هكذا بين يديها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأكل معي منها، وقال لي خيرَاً، ودعا لي " . أخرجه أحمد وصاحب الصفوة والفضائل. قوله مجلت يدي، أي: نفطت من العمل. وقوله فعاطيتها: من المعاطاة، وهي: المناولة، كأن كل واحد منهما أخذ بيد صاحبه على ذلك إذا عاقده عليه، وإن لم يوجد أخذ يد حساً.

الحديث الثالث والعشرون ومائة: عن سهل بن سعد: أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة، والحسن والحسين يبكيان؛ فقال: ما يبكيهما؟ قالت: الجوع. فخرج علي فوجد ديناراً في السوق فجاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقاً؛ فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقَاً، فقال: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخذ دينارك، ولك الدقيق. فخرج علي رضي اللّه عنه حتى جاء فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان الجزار، فخذ لنا بدرهم لحماً، فذهب علي فرهن الدينار على لحم بدرهم فجاء به، فعجنت الدقيق وخبزته، وأرسلت إلى أبيها فجاءهم، فقال: يا رسول اللّه، أذكر لك، فإن رأيته حلالا أكلنا. فذكرت له من شأنه، قال: كلوا باسم الله. فبينما هم مكانهم، إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعى له فسأله، فقال: سقط مني في السوق. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي، اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرسل إلي بالدينار ودرهمك علي. فأرسل به فدفع الدينار إلى الغلام " . أخرجه أبو داود.

الحديث الرابع والعشرون ومائة: عن أسماء بنت عميس، عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتاها يوماً فقال: أين ابناي. يعني حسناً وحسينَاً. قالت: أصبحنا وليس في بيتنا ما يذوقه ذائق، فقال لي علي: أذهب بهما؛ فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فذهب بهما إلى فلان اليهودي، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر، فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا علي، ألا تنقلب بابني قبل أن يشتد عليهما الحر. قالت: فقال علي: يا رسول اللّه، أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست حتى أجمع لفاطمة تمرات؟ فجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة، حتى اجتمع له شيء من تمر، فجعله في حجزته، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أحدهما وعلي يحمل الآخر. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة.

الحديث الخامس والعشرون ومائة: أخرج الإمام أحمد عن علي - رضي الله تعالى عنه - : " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تزوج فاطمة، بعث معها بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين، فقلت لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مما جاء بك يا بنية؟ قال: جئت لأسلم عليك. واستحيت أن تسأله ورجعت. فقلت: ما صنعت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتيناه معاً. فقلت: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: وقد طحنت حتى مجلت يدي، وقد جاء اللّه بسبي وسعة فأخذ منا. قال: لا والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم. ولكن أبيعه وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعنا. فأتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد دخلنا قطيفة لنا إذا غطينا رءوسنا انكشفت أقدامنا، وإذا غطينا أقدامنا انكشفت رءوسنا، فلما رأيناه ثرنا!، فقال: مكانكما. ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قلنا: بلى. قال: كلمات علمنيهن جبريل فقال: تسبحان اللّه دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشرَاً وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما سبحاً ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا ثلاثَاً وثلاثين. قال علي: فما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين " . قوله سنوت: استقيت. والسانية: الناضحة التي يستقى عليها الماء.

الحديث السادس والعشرون ومائة: عن البراء بن عازب قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، وكنت فيمن سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأمره أن يرسل خالداً ومن معه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه، قال البراء: وكنت مع من عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، وبلغ القوم الخبر فجمعوا له، وصلى علي بنا الفجر، فلما فرغ صف بنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خرَ ساجداً وقال: السلام على همدان، السلام على همدان " . أخرجه أبو عمرو.

الحديث السابع والعشرون ومائة: عن عبيدة السلماني قال: " ذكر على الخوارج فقال: فيهم رجل مخدج اليد، لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما وعد اللّه تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم، قال: فقلت لعلي: أسمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة " . أخرجه مسلم.

الحديث الثامن والعشرون ومائة: عن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منزل أم سلمة، فجاء علي فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: هذا قاتل القاسطين والناكثين والمارقين بعدي " . أخرجه الحاكم. القاسطون: الجائرون، من القَسْطِ، بفتح القاف، والقصود وهو الجور، والقِسط بكسر القاف: العدل.

الحديث التاسع والعشرون ومائة: أخرج الطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت: " كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلمه إلا علي - رضي اللّه عنه " .

الحديث الثلاثون ومائة: أخرج الديلمي عن عائشة - رضي اللّه تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير أخوتي علي، خير أعمامي حمزة " .

الحديث الحادي والثلاثون وماته: أخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمه، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا على الحوض " .

الحديث الثاني والثلاثون ومائة: أخرج أبو يعلى عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم التزم علياً وقبله وهو يقول: بأبي، الوحيد الشهيد بأبي، الوحيد الشهيد " .

الحديث الثالث والثلاثون ومائة: أخرج الحاكم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي إمام البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله " .

الحديث الرابع والثلاثون ومائة: أخرج الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافرَاً " .

الحديث الخامس والثلاثون ومائة: عن علي الرضي ابن الإمام موسى الكاظم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت قسيم الجنة والنار، فيوم القيامة تقول النار: هذا لي وهذا لك " . وأخرج الدارقطني أن علياً قال للستة الذين جعل الأمر شورى بينهم كلاماً طويلا من جملته: أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنت قسيم النار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا.

الحديث السادس والثلاثون ومائة: أخرج ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: " أيها الناس، يوشك أن أقبض قبضاً سريعا فينطلق بي، وقد قَدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم الثقلين؛ كتاب اللّه عز وجل، وعترتي أهل بيتي " ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: " هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا على الحوض فاسألهما ما خلفت فيهما " .

الحديث السابع والثلاثون ومائة: روى سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، عن علي - رضي اللّه تعالى عنه - قال في قوله تعالى: " وَتعَيِها أُذُن وَاعيَة " " الحاقة: 12 " ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن اللّه تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي، سألت ربي أن يجعلها أذنيك " قال مكحول: وكان علي يقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فنسيته.

الحديث الثامن والثلاثون ومائة: روى الديلمي عن أنس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " أعلم الناس بعدي علي بن أبي طالب " .

الحديث التاسع والثلاثون ومائة: روى الطبراني في الكبير عن محمد بن عبد اللّه ابن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث علياً مبعثَا، فلما قدم قال: " اللّه ورسوله وجبريل عنك راضون " .

الحديث الأربعون ومائة: روى الخطيب والديلمي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ذكر علي عبادة " .

الحديث الحادي والأربعون ومائة: روى الديلمي عن أبي ذر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي مني ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق " .

الحديث الثاني والأربعون ومائة. روى أبو نعيم في الحلية عن علي - رضي الله عنه - : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: " مرحباً بسيد المسلمين، وإمام المتقين " .

الحديث الثالث والأربعون ومائة: روى الديلمي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي: " من أحبك فبحبي أحبك، فإن العبد ينال ولايتي إلا بحبك " .

الحديث الرابع والأربعون ومائة: روى أبو نعيم في الحلية، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن الله زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحي إلى اللّه منها؛ هي زينة الأبرار عند الله؛ الزهد في الدنيا؛ فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين، فجعلت ترضى بهم أتباعَاً، ويرضون بك إماماً " .

الحديث الخامس والأربعون ومائة: روى الخطيب والرافعي عن علي - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: " سألت اللّه فيك يا علي أربعاً فمنعني واحدة وأعطاني ثلاثَاً: سألت الله أن يجمع عليك أمتي فأبى عَلَيَ، وأعطاني منك أن أول من تنشق الأرض عنه أنا وأنت، ومعي لواء الحمد وأنت تحمله بين يدي؛ تسبق الأولين والآخرين، وأعطاني أنك ولي المؤمنين بعدي " .

الحديث السادس والأربعون ومائة: روى ابن عساكر، عن عمار بن ياسر - رضي اللّه عنه - : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي، ستقتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " .

الحديث السابع والأربعون ومائة: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن قال: نادى ملك من السماء يقال له: رضوان: " لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي " أخرجه الحسن بن عرفة العبدي. قلت: ذو الفقار هو سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غنمه يوم بدر، وكان سيف نبيه بن الحجاج فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه. قال أبو العباس: سمي بذلك لأنه كان به حفر صغار. الفقرة: الحفرة الصغيرة التي تكون فيه، والمفقر من السيوف الذي فيه خروز، والعامة تسميه المعَير. وفي ذكرى أن عدة الفقر في سيفه المذكور - كرم اللّه وجهه - ست عشرة فقرة.

الحديث الثامن والأربعون ومائة: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: " كان أبي يسمر مع علي - رضي اللّه عنه - وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، فقيل له: لو سألته! فسأله، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليَ يوم خيبر، وأنا أرمد العين؛ فقلت: يا رسول الله، إني أرمد العين؛ فتفل في عيني وقال: " اللهم أذهب عنه الحر والبرد " ، فما وجدت حراً ولا بردَاً منذ يومئذ، وقال: " لأعطين الراية غداً رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يكون الفتح على يده " فتشوف لها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأعطانيها " . أخرجه الإمام أحمد. وعن جابر بن عبد اللّه: أن علي بن أبي طالب حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، وبعد ذلك لم يحمله أربعون رجلا. وفي طريق ضعيف: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب. أخرجها الحاكم.

الحديث التاسع والأربعون ومائة: حدثنا إبراهيم بن أحمد الفضائلي بإسناد يرفعه إلى أبي مالك الأشجعي رواه، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هبط علي جبريل يوم حنين فقال: يا محمد، إن ربك تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول: ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب، قال فدفعتها إليه؛ فوضعها في كفه، فانفلقت نصفين، فخرج منها رق أبيض مكتوب فيه بالنور: تحية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب " .

الحديث الخمسون ومائة: أخرج الديلمي في " مسند الفردوس " ، عن سلمان، عنه صلى الله عليه وسلم: " كنت أنا وعلي نوراً بين يدي اللّه مطبقاً، يسبح اللّه ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق اللّه آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم يزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء أنا وجزء علي " .

الحديث الحادي والخمسون ومائة: عن أم سلمة: " لو لم يخلق عليٌ ما كان لفاطمة كفؤ " . أخرجه في مسند الفردوس.

الحديث الثاني والخمسون ومائة: عن علي نفسه: " لو أن عبداً عبد اللّه مثل ما قام نوح في قومه، وكان له مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل اللّه، ومدَ في عمره حتى يحج ألف عام على قدميه، ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثم لم يوالك يا علي - لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها " . أخرجه الديلمي.

الحديث الثالث والخمسون ومائة: عن ابن عباس: " لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لما خلق اللّه النار " . أخرجه الديلمي.

الحديث الرابع والخمسون ومائة: عن حذيفة: " مثل علي بن أبي طالب في الناس مثل " قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد " في القرآن " . أخرجه الديلمي أيضاً. انتهى.

قلت: هذا ما ظفرت به مما ورد في شأنه خاصة، وأما ما ورد في شأنه مع الواحد أو مع الاثنين أو مع الثلاثة أو مع الأربعة أو مع العشرة فلم أورد منه شيئاً أصلا، وكذلك ما ورد من الثناء عليه من الصحابة والأكابر والسلف الصالح، وما أثر من كراماته ومكاشفاته وزهده، وورعه وسماحته وحماسته، وفصاحته وعبادته، ومناقبه الحميدة، وشمائله الفريدة، فلم أورد من ذلك شيئاً، إذ لو رمت استيعاب بعض ذلك لخرج الكتاب بذلك عن وضعه المقصود بالذات، فاعتمدت على ما أثبته الأئمة الإثبات، وأوح بطون الكتب المصنفات.

ذكر أقضيته رضي الله عنه

عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: أتى عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها، فتلقاها علي فقال: ما بال هذه؟ قالوا: أمر عمر برجمها، فردها علي وقال لعمر: هذه سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ فقال عمر: كل أحد أفقه منك يا عمر، فضمها حتى وضعت غلاماً ثم ذهب بها إليه فرجمها.

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى عمر بامرأة أجهدها العطش فمرت براع فاستسقته فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها فقال علي هذه مضطرة إلى ذلك فخل سبيلها ففعل.

وعن أبي ظبيان، قال: شهدت عمر أتى بامرأة قد زنت؛ فأمر برجمها، فانتزعها علي من بين أيديهم فردهم، فرجعوا إلى عمر فقالوا: ردنا علي، قال عمر: ما فعل هذا علي إلا لشيء، فأرسل إليه فجاء فقال: ما لك رددت هذه؟ قال: أنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المبتلى حتى يعقل. قال: بلى، قال: فهذه مبتلاة بني فلان، فلَعله أتاها وغر بها. قال عمر: لا أدري. قال علي: وأنا لا أدري. فترك رجمها.

وعن مسروق أن عمر أتى بامرأة قد نكحت في عدتها ففرق بينهما، وجعل مهرها في بيت المال، وقال: لا يجتمعان أبداً، فبلغ ذلك علياً فقال: إن كان جاهلا فلها المهر بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما. فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فخطب عمر وقال: ردوا الجهالات إلى السنة. فرجع إلى قول علي - رضي الله عنهما - أخرج جميع ذلك ابن السمان في الموافقة. وأخرج حديث أبي ظبيان الإمام أحمد.

وعن ابن سيرين: أن عمر سأل الناس: كم يتزوج المملوك؟ فلم يجب أحد. فقال لعلي: إياك أعني يا صاحب المعافري - رداء كان عليه - فقال: اثنتين.

وعن محمد بن زياد قال: كان عمر حاجاً فجاءه رجل قد لطمت عينه فقال: من لطم عينك؟ قال: علي بن أبي طالب. فقال: لقد وقعت عليك عين اللّه، ولم يسأل ما جرى منه ولم لطمه؟، فجاء علي والرجل عند عمر، فقال علي: هذا الرجل يطوف وهو ينظر إلى الحُرم في الطواف، فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن. ثم أقبل على الرجل فقال: وقعت عليك عين من عيون اللّه عز وجل؛ فلا حق لك.

وعن حنش بن المعتمر: أن رجلين أتيا امرأة من قريش، واستودعاها مائة دينار. وقالا: لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه حتى نجتمع. فلبثا حولا ثم جاء أحدهما إليها وقال: إن صاحبي قد مات فادفعي إليَ الدنانير، فأبت. فثقل عليها بأهلها، فلم يزالوا بها حتى دفعتها إليه. ثم لبث حولاَ آخر فجاء الآخر وقال: ادفعي إلي الدنانير، فقالت: إن صاحبك جاءني فزعم أنك قد مت فدفعتها إليه. فاختصما إلى عمر، فأراد أن يقضي عليها، وروى أنه قال لها: ما أراك إلا ضامنة. فقالت: أنشدك الله أن تقضي بيننا أو ادفعنا إلى علي بن أبي طالب، فدفعهما عمر إلى علي وعرف أنهما قد مكرا بها فقال: أليس قلتما: لا تدفعيها إلى رجل منا دون الآخر. قال: بلى. قال: فإن مالك عندنا، اذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليكما.

وعن أبي سعيد الخدري، سمع عمر يقول لعلي - وقد سأله عن شيء فأجابه: أعوذ باللّه أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. وعن يحيى بن عقيل قال: كان عمر يقول لعلي إذا سأله ففرج عنه: لا أبقاني الله بعدك يا علي. وعن محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ، كان تحته امرأتان هاشمية وأنصارية، فطلق الأنصارية، ثم مات على رأس الحول، فقالت: لم تنقض عدتي، فارتفعوا إلى عثمان، فقال: هذا ليس لي به علم، فارتفعوا إلى علي بن أبي طالب فقال: تحلفين عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن لم تحيضي ثلاث حيضات ولك الميراث، فحلفت فاشتركت في الميراث. أخْرجه ابن حرب الطائي.

وعن زر بن حبيش قال: جلس اثنان يتغديان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، وجلس إليهما ثالث، واستأذن في أن يأكل من طعامهما فأذنا له، فأكلوا على السواء ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم وقال: هذا عوض عما أكلت من طعامكما، فتنازعا في قسمها، فقال صاحب الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة، وقال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء. فترافعا إلى علي - كرم اللّه وجهه - فقال لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك. قال: فقال ما أريد إلا الحق. فقال علي: لك الحق درهم واحد وله سبعة. قال: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين. قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثَاً، لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعة، وقد استويت في الأكل وأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الثالث ثمانية سبعة لصاحبك وواحد لك. فقال: رضيت الآن. أخرجه الخلعي.

وعن علي - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فوجد أربعة قد وقعوا في حفرة حفرت ليصطادوا فيها الأسد، سقط أولا رجل فتعلق بآَخر وتعلق الآخر بآخر حتى تساقط الأربعة، فجرحهم الأسد فماتوا من جراحته، وتنازع أولياؤهم حتى كادوا يقتتلون، فقال علي: أنا أقضي بينكم، فإن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليقضي بينكم. اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلثها ونصفها ودية كاملة؛ فللأول ربع الدية؛ لأنه أهلك من فوقه، والذي يليه ثلثها لأنه أهلك من فوقه، وللثالث النصف؛ لأنه أهلك من فوقه، وللرابع دية كاملة. فأبوا أن يرضوا، فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلقوه عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم واحتبي ببردة، فقال رجل من القوم: إن علياً قضى بيننا. فلما قصوا عليه ما قضاه أجازه. أخرجه أحمد في المناقب.

وعن الحارث عن علي: أنه جاءه رجل بامرأة فقال: يا أمير المؤمنين، دلست على هذه وهي مجنونة. قال: فصعد على بصره فيها وصوبه، وكانت امرأة جميلة فقال: ما يقول هذا؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين ما بي جنون، ولكني إذا كان ذلك الوقت غلبتني غشية، فقال علي: خذها، ويحك!، وأحسن إليها، فما أنت لها بأهل. أخرجه أبو طاهر السلفي. قلت: هذه الربوح من النساء فسل عتها وتأمل قول الإمام لزوجها: ما أنت لها بأهل - رضي اللّه عنه وكرم وجهه.

وعن زيد بن أرقم قال: أتى على باليمن بثلاثة نفر وقعوا على جارية في طهر واحد، فولدت ولداً فادعوه، فقال لأحدهم: تطيب به نفساً لهذا؟ قال: لا. وقال للآخر: تطيب به نفساً لهذا؟ قال: لا. قال: أراكم شركاء متشاكسين، إني مقرع بينكم؛ فمن أصابته القرعة غرمته ثلثي القيمة وألزمته الولد، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أجد فيها إلا ما قال علي.

وقد روي عنه - رضي اللّه عنه - أنه كان على منبر الكوفة فسأله سائل عن رجل هلك وخلَف أبوين وبنتين وزوجة، وهذه المسألة من أربعة وعشرين، وتعول بثمنها وتسمى المنبرية؛ لأنه سئل عنها وهو على المنبر يخطب وكانت خطبته على حرف العين، فقال: الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعاً، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فسئل عن هذه فقال: بديهة على فقر الخطبة: صار ثمن المرأة تسعاً. ثم استمر على أسلوب خطبته، رضي اللّه عنه وكرم وجهه.

وعن جميل بن عبد اللّه بن زيد قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم قّضاء قضي به علي فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت " . أخرجهما أحمد في المناقب.

وعن ابن إسحاق: أن عثمان لما قتل، بويع علي بن أبي طالب بيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع له أهل البصرة، وبايع له بالمدينة طلحة والزبير، قال أبو عمرو: واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل - كما تقدم ذكر ذلك. وتخلف عنه معاوية ومن معه بالشام، وكان منهم في صفين ما كان، ثم خرج عليه الخوارج فكفروه وكل من معه؛ إذ رضي بالتحكيم في دين اللّه بينه وبين أهل الشام، فقالوا: حكمت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول: " إِنِ اَلحُكمُ إلا للَه " " يوسف: 40 " فقال علي كلمة حق أريد بها باطل ثم اجتمعوا وشقوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل؛ فخرج إليهم بمن معه فرام رجعتهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج منهم إلا القليل. ثم تشاوروا وتواعد منهم أولئك الثلاثة النفر: عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي - أيضاً - على قتل أولئك الثلاثة علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فأما البرك؛ فإنه ضرب معاوية فأصاب أوراكه وكان عظيم الأوراك فقطع منه عرق النكاح فلم يولد له بعد ذلك، فلما أخذ قال: الأمان والبشارة؛ فقد قتل علي في هذه الليلة، فاستبقاه معاوية حتى جاء الخبر بذلك، فقطع يده ورجله وأطلقه، فرحل إلى البصرة فأقام بها حتى بلغ زياداً أنه تزوج وولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له؟. فقتله. قالوا: وأمر معاوية باتخاذ المقصورة من ذلك الوقت، يعني وقت أن ضرب.

وأما عمرو بن بكر؛ فإنه رصد عمرو بن العاص فاشتكى عمرو بطنه ذلك اليوم فلم يخرج للصلاة، فاستناب رجلاً من الناس من بني سهم يقال له: خارجة، فضربه عمرو بن بكر فقتله فأخذ، فلما دخل به على عمرو بن العاص ورآهم يخاطبونه بالإمارة قال: أو ما قتلت عمراً؟. قيل: لا، وإنما قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً والله أراد خارجة، فقتله عمرو بن العاص، فسلم معاوية وعمرو وفاز علي بالشهادة، رضي اللّه عنه وكرم وجهه: من البسيط،

فليتَهَا إذ فدَت عمراً بخارجةٍ ... فدَت علياً بمَنْ شاءَت من البَشَرِ

وعن الزهري قال: قدمت دمشق وأنا أريد العراق، فأتيت عبد الملك لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فراش يفوت القائم وتحته سماطان، فسلمت عليه ثم جلست؛ فقال لي: يا بن شهاب، أتعلم ما كان ببيت المقدس صباح مقتل علي؟ فقلت: لا، فقال: هلم. فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة، وحول إلي وجهه، وأحنى علي، فقلت: ما كان؟. فقال: لم يرفع حجر من بيت المقدس إلا وجد تحته دم، فقال: لم يبق أحد يعرف هذا غيري وغيرك، فلا يسمعوا منك. فما حدثت به حتى ماتوا. أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني.

ذكر أولاده رضي اللّه تعالى عنه وكرم وجهه:

كان له من الولد أربعة عشر ذكراً وثمان عشرة أنثى: الحسن والحسين، وسيأتي ذكرهما؛ هذا عند خلافته وهذا عند دعوته. ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد الأكبر أمه خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية، ذكره الدارقطني قال: وأخته لأمه عوابة بنت أبي مكمل الغفارية، وقيل: بل كانت أمه من سبى اليمامة فصارت إلى علي، وإنما كانت أمه لبني حنيفة سندية سوداء ولم تكن من أنفسهم، أعطاه إياها أبو بكر من سبى بني حنيفة. أخرجه ابن السمان.

وعبد اللّه قتله المختار، وأبو بكر قتل ب الطف لما مع الحسين، أمهما ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي،، وهي التي، تزوجها عبد الله بن جعفر خلف عليها بعد عمه على جمع بين زوجة علي وابنته؛ فولدت له صالحاً وأم أبيها وأم محمد بني عبد الله ابن جعفر؛ فهم أخوة أبي بكر وعبد اللّه ابني علي لأمهما. ذكره الدارقطني. والعباس الأكبر وعثمان وجعفر وعبد اللّه قتلوا مع الحسين - أيضاً - أمهم أم البنين بنت حرام بن خالد الوحيدية الكلابية. ومحمد الأصغر أمه أم ولد قتل مع الحسين، ويحيى وعون، أمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، فهما أخوا بني جعفر ابن أبي طالب، وأخوا محمد بن أبي بكر لأمهم؛ لأن علياً تزوج أسماء هذه بعد أبي بكر الصديق، وقد أتت من أبي بكر بمحمد. وأبو بكر تزوجها بعد قتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، بعد أن ولدت منه عدة أولاد. وعمر الأكبر، أمه أم حبيب الصهباء التغلبية، سبية سباها خالد بن الوليد في الردة، فاشتراها علي كرم اللّه وجهه. ومحمد الأوسط، أمه أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الإناث: أم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى، شقيقتا الحسن والحسين، ورقية شقيقة عمر الأكبر من أم حبيب المذكورة، وأم الحسن ورملة الكبرى، أمهما أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي، وأم هانئ وميمونة ورملة الصغرى وزينب الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانه ونقية ونفيسة لأمهات أولاد، شتى، ذكرهم ابن قتيبة وصاحب الصفوة، فجملتهم اثنان وثلاثون ولداً، وعدهم الحافظ محمد بن يوسف الشامي في سيرته سبعة وثلاثين: عشرين ذكراً، وسبع عشرة أنثى. الحسن والحسين ومحسن ومحمد الأكبر وعمر الأكبر والعباس الأكبر، كلهم أعقبوا، ومحمد الأصغر قتل ب الطائف، والعباس الأصغر وعمر الأصغر وقتل ب الطف لما، وعثمان طفل، وجعفر قتل ب الطف، وجعفر مات طفلاً، وعبد اللّه الأكبر قتل ب الطف، وعبد اللّه مات طفلاً، وأبو علي يقال: قتل ب الطف، وعبد الرحمن وحمزة ورجاء وأبو بكر عتيق، يقال: قتل ب الطف، وعون درج، ويحيى مات طفلاً. وبناته: زينب الكبرى وزينب الصغرى وأم كلثوم الصغرى ورقية الكبرى ورقية وفاطمة الصغرى وفاخِتة وأمة اللّه وجمانة ورملة وأم سلمة وأم الحسين وأم الكرام وهي نفيسة وميمونة وخديجة وأمامة فالجميع سبعة وثلاثون، العقب منه في الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وعمر والعباس، هؤلاء الخمسة.

وتزوج بنات علي بنو عقيل وبنو العباس ما خلا أم كلثوم بنت فاطمة كانت تحت عمر بن الخطاب فولدت له زيداً ورقية ابني عمر بن الخطاب، ثم مات عنها عمر فتزوجها بعدهُ عبد اللّه بن جعفر فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه محمد بن جعفر فجاء منها ببنت، ثم مات عنها محمد فتزوجها عون بن جعفر أخوهما فماتت عنده. وأم الحسن تزوجها جعفر بن هبيرة المخزومي، وفاطمة تزوجها سعيد بن الأسود من بني الحارث بن فهر.

كانت خلافته - رضي الله تعالى عنه - أربع سنين وتسعة أشهر ويوماً واحداً؟ وكانت مدة إقامته بالمدينة بعد أن ولي الخلافة أربعة أشهر، ثم صار إلى العراق، وقتل بالكوفة.

وللناس خلاف في مدة عمره قد تقدم، وكذلك في قدر خلافته، رضي اللّه عنه وكرم الله وجهه

ذكر شيء مما أثر من حكمه وكلماته وأشعاره

كان - رضي الله عنه - أفصح الناس وأعلمهم بالله، وأشدهم حباً وتعظيماً لخدمة لا إله إلا اللّه. وقيل له: ألا تحرس نفسك؟. قال: حارس كل إنسان أجله، وإن الأجل جنة حصينة. وقال - رضي اللّه عنه - : كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل؛ فإنه لن يقبل عمل مع التقوى، وكيف يقبل عمل متقبل؟ وقال - رضي اللّه عنه وكرم وجهه - : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير في أن يكثر علمك وحلمك، وتكون مشغولاً بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت اللّه تعالى، وإن أسأت استغفرت اللّه، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة، ورجل يسارع في الخيرات.

وقال - رضي الله تعالى عنه - : احفظوا عني خمساً فلو ركبتم الإبل في طلبهن لا تبلغوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عالماً بعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، الله أعلم. والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.

وقال - رضي الله تعالى عنه - : إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ أما اتباع الهوى؛ فبعيد عن الحق، وأما طول الأمل؛ فينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. ألا إن الفقيه - كل الفقيه - الذي لا يُقَنطُ الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي اللّه، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره. ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في عمل لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها.

وقال - رضي الله تعالى عنه - : كونوا ينابيع العلم، مصابيح الليل، خلق الثياب، جدد القلوب، تُعرفون في ملكوت السماء، وتذكرون في الأرض. وقال - رضي اللّه تعالى عنه - : يأيها الناس، إنكم والله لو حننتم حنين الواله الثكلان، وجأرتم جؤار مبتلى الرهبان، وخرجتم من الأموال والأولاد في التماس القرب إلى اللّه عز وجل، وابتغاء رضوانه، وارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة - كان ذلك قليلاً فيما تطلبون جزيل ثوابه، والخوف من عذابه. والله لو سالت عيونكم رغبة ورهبة إليه سبحانه وتعالى، ثم عُمرتم عمر الدنيا مجدين في الأعمال الصالحة، ولم تبقوا شيئاً من جهدكم لما دخلتم الجنة بأعمالكم؛ ولكن برحمته سبحانه وتعالى. جعلنا الله وإياكم من التابعين والعابدين.

وقال - رضي الله تعالى عنه - لكُمَيل بن زياد: القلوب أوعية فخيرها أوعاها.

احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستنيروا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، محبة العالم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. إن هاهنا - وأشار إلى صدره - علماً جماً لو أصبت له حملة، بلى أصيب لفتى غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدنيا للدين، فيستظهر بحجج اللّه تعالى على كتابه، وبنعمه على عباده، وينقاد لأهل الباطل، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، منهوماً للذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، أقرب شبهاً بِهِمُ الأنعام السائمة، كذاك يموت العلم بموت حامله. واللّه يأبى أن تخلو الأرض من قائم لله عز وجل بحجته؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً، الأعظم عند الله قدراً، بهم يدفع الله عز وجل عن حججه حتى يؤديها إلى نظرائهم، ويزرعها في قلوب أشياعهم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المشركون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في بلاده، ودعاته إلى دينه. هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم. استغفر الله. انصرف إذا شئت.

وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: ما انتفعت بكلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بشيء كتبه إلي علي بن أبي طالب؛ فإنه كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد، يا أخي، فإنك تسر بما يصل إليك مما لم يكن يفوتك، ويسوؤك ما لم تحركه، فما نلت يا أخي من الدنيا فلا تكن به فرحاً، وما فاتك فلا تكن به حزيناً، وليكن عملك لما بعد الموت. والسلام.

ومن كلامه - رضي الله تعالى عنه - لو انكشف الغطاء ما ازددت يقيناً. وقال: لزهد في كلمتين من القرآن " لِكيلا تأسوا عَلىَ مَا فَاتَكُم وَلا تَفرحوا بما آتاكم " " الحديد: 23 " . ومن كلامه في المناجاة: كفاني غنى أن تكون لي ربا، وكفاني فخراً أن أكون لك عبداً. أنت لي كما أحب، فوفقني لما تحب.

ومن كلامه في العلم: المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه؛ فتكلموا تعرفوا ما ضاع امرؤ عرف قدره.

ومن كلامه في الأدب: أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. وقال - رضي اللّه عنه - : من وسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه مُكِرَ به فهو مخدوع في عقله. وقال - رضي اللّه عنه - : الدنيا جيفة، فمن أراد شيئاً منها فليصبر على مخالطة الكلاب. وله كلمات كثيرة مشهورة قد أفردت بالتصنيف والجمع، وقد قرأت منها نسخة في نحو الثلاثة كراريس، رضي اللّه عنه.

وفي سيرة الشامي: أتى - رضي الله عنه - بفالوذج فوضع بين يديه فقال: إنك طيب الرائحة، حسن اللون، طيب الطعم، ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد. وكان بالخورنق وهو يرعد برداً تحت قطيفة، فقيل له: إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال حظاً، فقال: واللّه ما أرزؤكم من مالكم شيئاً، إنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة.

ومما يروى من شعره - رضي اللّه تعالى عنه - قوله: من الوافر:

حقيقَ بالتواضُعِ مَنْ يموتُ ... ويكفي المرءَ مِنْ دنياهُ قوتُ

فما للمرءِ يصبحُ ذا هُمُوم ... وحرصٍ ليس تدركُهُ النعوتُ

صنيعُ مليكِنَا حَسَن جميل ... وما أرزاقُهُ عنا تَفُوتُ

وقال جواباً لمعاوية عن كتاب منه يفتخر فيه: من الوافر:

محمد النبيُ أخِي وصِهْرِي ... وحمزَةُ سيدُ الشهداءِ عَمي

وجعفَر الذي يُمْسِي ويُضْحِي ... يطيرُ مع الملائكَةِ ابنُ أُمي

وبنتُ محمدِ سَكَنِي وعِرسي ... توسط لَحمهَا بدمِي ولَحْمِي

وسبطا أَحْمَدٍ ولدايَ مِنْهَا ... فمن فِيكُمْ له قسْم كقسْمِي

سبقْتُكُمُ إلى الإسلامِ طُرُّا ... صغيراً ما بلغتُ أوانَ حِلْمِي

وأوجَبَ لي الولاءَ معاً عليْكُمْ ... رسول اللّه يَوْمَ غديرِ خم

كتبها إلى معاوية حين أرسل إليه معاوية كتاباً يقول فيه: يا أبا الحسن، إن لي فضائل كثيرة، كان أبي سيد - أو قائد - قريش في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين، وكاتب الوحي. فقال علي: أَبالفضائل يفخر عليَ ابن أكالة الأكباد؟!، فكتبها وأرسلها إليه.

قال أبو عمرو الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: اجتمعت رواة الشعر من الكوفيين والبصريين فلم يزيدوا على عشرة أبيات صحيحة لأمير المؤمنين علي، وأجمعوا أن ما كان زائداً على العشرة فهو منحول، ومن الصحيح قوله في السندرة: من الرجز:

أنا الذي سمتْنِ أمي حيدرَهْ

كليثِ غاباتٍ كريهِ المنظرَهْ

أفيهِمُ بالكيلِ كَيْل السندرَهْ

أضربُهُمْ ضرباً يبينُ الفقَرَهْ

وأترُكُ القِرْنَ بقاعٍ مقفرَهْ

أقتُلُ منهمْ سبعَة وعشرَهْ

كلُهُمُ أهلُ فسوقٍ فَجَرَهْ

وقال محمد بن عمرو البلخي: أنشدنا أبو محمد بن محمد القاضي عن أبيه عن جده لأمير المؤمنين علي - كرم اللّه وجهه - قوله: من الوافر:

أتَم الناسِ أعرفُهُمْ بقصهْ ... وأقمعُهُمْ لشهوتِهِ وحِرْصِهْ

فدانِ على السلامةِ مَن تُدَانِي ... ومَن لا ترضَ صحبتَهُ فأقصِه

ولا تستَغلِ عافية بشَيء ... ولا تستَرخِصَن أذى كرخصه

وخَل الفحصَ ما استغنيتَ عنه ... فكَم مستجلبٍ عطباً بفحصِه

ومما ينسب إليه كرم الله وجهه: من الطويل:

ألا هَلْ إلى طُولِ الحياةِ سبيل ... وأني وهذا الموتُ لَيسَ يحولُ

وإني وإنْ أصبَحْتُ بالموتِ موقناً ... فلي أَمَلٌ دونَ اليقينِ طويلُ

وللدهرِ ألوانْ تروحُ وتَغتَدِي ... وإن نفوساً بينهُن تسيلُ

أرى عللَ الدنيَا علي كثيرة ... وصاحبُهَا حتى المماتِ عليلُ

إذا انقطَعَتْ عني مِنَ العيشِ مُدتي ... فإن بكاءَ الباكياتِ قليلُ

وإن افتقادِي فاطماً بعد أحمدٍ ... دليلٌ على ألا يدومَ خليلُ

ولم أرَ إنسانا يرى عيبَ نفسِهِ ... وإن كان لا يَخفى عليه جَمِيلُ

ومَن ذا الذي يَنجُو من الناسِ سالماً ... وللناسِ قَالْ بالظنونِ وقيل

أَجَلكَ قوم حِينَ صرتَ إلى الغنَى ... وكُلُ غني في العيونِ جليلُ

ولَيسَ الغنَى إلا غنى زَينَ الفتَى ... عشية يُقرِي أو غداةَ يُنِيلُ

ولم يفتقرْ يوماً وإن كان معدماً ... سخي ولم يستَغنِ قَط بخيلُ

ومنه قوله - كرم الله وجهه - يمدحه صلى الله عليه وسلم: من الطويل:

أقِيكَ بنَفْسِي أيها المصطفى الذِي ... هَدَانا به الرحمنُ مِنْ غُمةِ الجهلِ

وتَفدِيكَ حوبائي وما قَدرُ مهجتي ... ومَنْ أنتمِي منه إلى الفَزعِ والأصْلِ

ومَن كان لي مذ كُنتُ طفلا ويافعاً ... وأنعشَنِي بالعل منه وبالنهلِ

ومَنْ جده جَدي ومَن عمه أبي ... ومن أهلُهُ أمي ومن بنتُه أهْلِي

ومن حينَ آخَى بين مَن كان حاضراً ... دعاني وآخانِي وبَيَّن مِن فضلي

لكَ الفضلُ إني ما حييتُ لشاكر ... لإحسانِ ما أوليتَ يا خاتَمَ الرسْلِ

قلت: ومن الصحيح ما أورده المجد الفيروزابادي، صاحب القاموس فيه نقلا عن الملا في قوله: من البسيط:

تلْكُمْ قريش تمناني لتَقْتُلَنِي ... فلا وربكَ ما بروا ولا ظَفِرُوا

فإن هلكتُ فرهنٌ مهجَتِي لَهُمُ ... بذاتِ ودقينِ لا تبقِى ولا تذر

ونقل عنه أنه لم يصح عن علي غيرهما وهو محجوج بنقل الثقات غيره غيرهما. ومن ذلك ما رواه ابن عساكر عن نبيط الأشجعي قال: قال علي رضي الله عنه:

إذا اشتملَتْ على اليأسِ القلوبُ ... وضاقَ بما بِهِ الصدرُ الرحيبُ

وأوطنَتِ المكارِهُ واطمأنت ... وأَرسَت في أماكِنِهَا الخطُوبُ

ولمْ يرَ لانكشافِ الضُر وجه ... ولا أغنَى بحيلتِهِ الأريبُ

أتاكَ على قنوطٍ منْكَ غَوث ... يجئُ به القريبُ المستجيبُ

وكُل الحادثاتِ إذا تناهَت ... فموصول بها الفرَجُ القريبُ

ومن ذلك ما رواه الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لرجل كره صحبة رجل: من الهزج:

لا تصحَب أخا الجهلِ ... وإياكَ وإياهُ

فكَمْ مِن جاهلٍ أردَى ... حليماً حينَ آخاهُ

يقاسُ المرءُ بالمرءِ ... إذا ما هُوَ ماشَاهُ

وللشيْءِ على الشيءِ ... مقاييسٌ وأشبَاهُ

وللقلْبِ على القلبِ ... دليلَ حِينَ يلقَاهُ

ومن ذلك ما رواه المبرد قال: كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: من البسيط:

للناس حرص على الدنيا بتدبيرِ ... وصَفْوُهَا لكَ ممزوج بتكديرِ

لم يُرْزَقُوهَا بفعلِ عندما قسمَت ... لكنهُم رُزِقُوهَا بالمقاديرِ

كم مِن أديبِ لبيبٍ لا تساعدُه ... وأحمقِ نال دنياهُ بتقصير

لو كان عَنْ قوةِ أو عَن مغالبةٍ ... طارَ البزاةُ بأرزاقِ العصافيرِ

روى عن حمزة بن حبيب الزيات: كان علي بن أبي طالب يقول: من المتقارب:

لا تُفشِ سركَ إلا إليكَ ... فَإنّ لكل نَصِيح نصيحاً

فإني رأيت غواةَ الرجالِ ... لا يَدَعُونَ أديمَاً صحيحَا

ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر، عن الحارث الأعور، قال: سئل علي بن أبي طالب عن مسألة فدخل مبادراً، ثم خرج في حذاء ورداء وهو يتبسم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سئلت عن المسألة تكون فيها كالمسلة المحماة، قال: إني كنت حاقناً ولا رأي لحاقن، ثم أنشأ يقول: من المتقارب:

إذَا المشكلاتُ تصديْنَ لي ... كشفْتُ حقائقهَا بالنظَرْ

وإنْ برِقَتْ في مخيلِ الصَوا ... بِ عمياءُ لا يجتليها البَصَرْ

مقنعة بغيوبِ الأمورِ ... وضعْتُ عليها صحيحَ الفِكَرْ

لساناً كشقشقةِ الأريحي ... ى أو كالحسامِ اليمانِي الذَّكَرْ

وقلباً إذا استنطَقَتْهُ العيو ... نُ أربَى عليها تراهُ درَرْ

ولستُ بإمعةِ في الرجا ... لِ أسألُ هذا وذا ما الخَبَرْ

ولكنني مِدْرَهُ الأصغرَيْنِ ... أبينُ مِنْ صاحبي ما غمرْ

وقال ابن النجار: أخبرني يوسف بن المبارك بن كامل، قال: أنشدني أبو الفتح مفلح بن أحمد الرومي قال: أنشدنا أبو الحسين بن أبي القاسم التنوخي عن أبيه عن أجداده إلى علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - أنه قال: من المتقارب:

أصمُّ عن الكلمِ المحفظاتِ ... وأحلُمُ والحِلْمُ بي أشبَهُ

وإني لأترُكُ جَهمَ الكلامِ ... لكيلا أجابَ بما أكْرَهُ

إذا ما احترزْتُ سِفَاهَ السفيهِ ... علي فإنيَ لا أسفهُ

فكَمْ من فَتَى يعجبُ الناظرينَ ... له ألسُنٌ وله أوجُهُ

ينامُ إذا حَضَرَ المَكرُمَاتِ ... وعنْدَ الدناءة يسْتنْبِهُ

وأما خطبه ومواعظه ووصاياه فإنها لا تحصى، وأدناها لا يستقصي. رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكرم وجهه ومن والاه، آمين.