خلافة أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما

قال الحافظ الذهبي في تاريخه دول الإسلام: قال جرير بن حازم: بايع أهل الكوفة الحسن بن علي بعد أبيه وأحبوه أكثر من أبيه، ثم سار حتى نزل بالمدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة على المقّدمة في اثني عشر ألفاً، فبينما الحسن بالمدائن إذ نادى منادٍ: ألا إن قيساً قد قتل. فاختبط الناس وانتهبت الغوغاء سرادق الحسن حتى نازعوه بساطه تحته، وطعنه رجل من الخوارج بخنجر مسموم في فخذه؛ فوثب الناس على الرجل فقتلوه، لا رحمه اللّه، ونزل الحسن القصر الأبيض بالمدائن، وكاتب معاوية في الصلح. وقال نحو هذا ابن إسحاق والشعبي.

وروى أنه لما خلع نفسه قام فيهم فقال: ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، لكن كنتم في مسيركم إلى صفين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وتوجع الحسن من تلك الطعنة، ثم عوفي وللّه الحمد.

ثم سار الحسن يريد الشام، وأقبل معاوية، وكان اجتماعهما بمسكن وهي من أرض السواد من ناحية الأنبار. قّال ابن عيينة: حدثنا أبو موسى قال: سمعت الحسن البصري يقول: استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: واللّه إني لأرى كتائب لا تولى أو تقتل أقرانها. فقال معاوية، وكان خير الرجلين: أرأيت إن قتل هؤلاء هؤلاء من لي بذراريهم، من لي بأمورهم، من لي بنسائهم؟ قال: فبعث عبد الرحمن بن ميسرهَ فصالح الحسن معاوية وسلم الأمر له، وبايعه بالخلافة على شروط اشترطها ووثائق، وحمل إليه معاوية مالا، يقال: خمسمائة ألف. قلت: لم أجد تعيين هذه الخمسمائة ألف؛ هي دنانير أم دراهم فيما اطلعت عليه من التواريخ، وذلك في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين.

قال أبو عبد الله الهمداني محمد: حدثنا أبو العريف قال: لما ورد الحسن إلى الكوفة بعد مبايعته معاوية، قال له رجل من همدان يقال له أبو عامر: السلام عليك يا مذل المسلمين. فقال: لست بمذل المسلمين، ولكني كرهت أن أقتلكم على الملك. ثم قال له آخر: يا عار المسلمين. فقال: العار خير من النار.

ثم إن الحسن - رضي الله تعالى عنه - رجع مع آل بيته من الكوفة ونزل المدينة، وسمي هذا العام المذكور - وهو عام إحدى وأربعين - عام الجماعة لاجتماع الأمة على خليفة واحد، هو معاوية بعد نزول الحسن - رضي اللّه عنه - له بها.

ثم دخل معاوية الكوفة، وخرج عليه عبد الله بن أبي الحوساء بالنخلة، فسير عليه؛ فقتله، وخرج عليه بالبصرة خوارج فقتل فريقاً وأمن فريقاً. وسيأتي ذكر ذلك عند ذكر خلافته إن شاء الله تعالى.

مناقب الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه

هو الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي، الهاشمي، أبو محمد، سبط النبي صلى الله عليه وسلم وشبيهه، يكنى أبا محمد، أمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين، وهو سيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم ويلقب بالتقي والسيد.

ولد منتصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة، قال أبو عمر: هذا أصح ما قيل، وقيل: في شعبان، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، قال في الإصابة: والأول أثبت سماه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وعق عنه يوم سابع ولادته، وحلق شعر رأسه وتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء. وقال أبو أحمد العسكري: سماه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وكناه أبا محمد، ولم يكن يعرف هذا الاسم في الجاهلية. وروى عن ابن الأعرابي عن الفضل، قال: إن اللّه تعالى حجب اسم الحسن والحسين حتى سمي بهما النبي صلى الله عليه وسلم ابنيه الحسن والحسين. قال: فقلت له: والذي باليمن؟ قال: ذاك حسن بسكون السين وحَسِين بفتح الحاء وكسر السين، ولا يعرف قبلهما إلا اسم رملة في بلاد ضبة قال ابن غنمة: من الوافر:

لأم الأرضِ ويل ما أجنت ... غداةَ أَضَرَّ بالحَسَنِ السبِيلُ

وعندها قتل بسطام بن قيس الشيباني.

قال علي: لما ولد الحسن رضي اللّه عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً، قال: بل هو محسن. ثم قال: سميتهم بأسماء ولد هارون، شبر وشبير ومشبر. وفضائله كثيرة مشهورة.

ولي الخلافة بعد أبيه - رضي اللّه تعالى عنه - لِعشر ليال بقين من رمضان، سنة أربعين من الهجرة - ستة أشهر، وبايعه أكثر من أربعين ألفَاً، ثم نزل عنها لمعاوية في النصف من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، وقيل: لخمس بقين من ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر، قال ابن الأثير: قول من قال سنة إحدى وأربعين أصح ما قيل فيه، وأما من قال بنزوله سنة أربعين فقد وهم؛ وكان نزوله مصداق قول جده صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وأي شرف أعظم من شرف من سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيداً؟! وروى أبو القاسم البغوي والدولابي، عن قابوس بن المخارق، قال: إن أم الفضل قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن عضواً من أعضائك في بيتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيراً رأيت، تلد فاطمة غلاماً فترضعينه بلبن ابنك قثم. فولدت حسنَاً فأرضعته بلبن قثم. قالت: فجئت به يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره فضرب كتفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أرضعت ابني يرحمك اللّه؟.

وروى الإمام أحمد والشيخان وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى والطبراني في الكبير، عن أسامة بن زيد والطبراني في الكبير أيضاً، وابن عساكر، عن عائشة رضي اللّه عنهما: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " .

وروى الشيخان وابن حِيان، عن البراء رضي اللّه عنه، قال: رأيت الحسن بن علي رضي اللّه عنهما على عاتق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " اللهم إني أحبه فأحبه " وروى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الحسن والحسين ويقول: " اللهم إني أحبهما فأحبهما " .

وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حاملا للحسن على عاتقه فقال رجل: نعم المركب ركبت. فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الراكب هو " .

وروى الإمام أحمد في المناقب عن أبي زهر بن الأرقم، رجل من الأزد رضي اللّه تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول للحسن بن علي: " من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب " ولولا عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثتكم.

وروى الطيالسي والبزار وابن عساكر، عن علي رضي الله عنه: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " من أحبني فليحب هذا " يعني الحسن. وروى ابن حبان عن أسامة ابن زيد قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ويقول: " اللهم إني أرحمهما فارحمها " .

وروى الدولابي عن محمد بن عبد المؤمن، مولى بني هاشم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن مقبلا فقال: " اللهم سلمه وسلم منه " .

وروى أبو سعيد بن الأعرابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لا زلت أحب هذا الرجل - يعني حسناً - بعدما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يصنع، رأيت الحسن في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل لسانه في فمه أو لسان الحسن في فمه ثم قال: " إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " .

وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى الحسن بن علي رضي الله عنهما في بعض طرق المدينة فقال: اكشف عن بطنك - فداك أبي - حتى أقبل حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل، فكشف له عن بطنه فقبل سرته " .

وروى ابن أبي الدنيا وأبو بكر الشافعي، عن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما قال: رأيت الحسن بن علي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فيركبه على ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ويأتي وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.

وروى أبو سعيد الأعرابي، عن أبي سعيد رضي اللّه عنه، قال: جاء الحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فركب على ظهره، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فأقامه على ظهره ثم ركع، ثم أرسله فذهب.

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين عن محمد بن معشر اليربوعي، قال: قال علي للحسن ابنه، رضي الله عنهما: كم بَين الإيمان واليقين. قال: أربع أصابع. قال: بين. قال: اليقين ما رأته عينك، والإيمان ما سمعته أذنك وصدقت به. قال علي: أشهد أنك ممن أنت منه، ذرية بعضها من بعض.

وروى الدولابي، عن زيد بن الحسن، رضي الله عنهما، قال: خطب الحسن رضي اللّه عنه الناس حين قتل أبوه رضي اللّه عنه، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولم يشركه الآخرون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الراية فيقاتل جبريل عن يمينه وميكائْيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح اللّه عز وجل عليه، ما ترك على ظهر الأرض صفراء ولا بيضاء إلا أربعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. ثم قال: يا أيها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن المنذر، وأنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه والسراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين افترض اللّه محبتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قُل لا أسألكم عليهِ أجراً إلا المَودةَ في اَلقُربى وَمَن يَقتَرِف حسنَةَ نزد لَه فِيهَا حُسناً " " الشورى: 23 " فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.

قال صاحب السيرة الشامية: بايعه أكثر من أربعين ألفاً. وقال صالح ابن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسن تسعون ألفاً - بتقديم التاء - فترك الخلافة وصالح معاوية لما سار إليه من الشام، وسار إلى معاوية فلما تقاربا أرسل إلى معاوية يبذل له تسليم الأمر، على أن تكون الخلافة له بعده، وعلى ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز بشيء مما كان في أيام بني أمية وغير ذلك. وظهرت المعجزة النبوية في قوله عليه الصلاة والسلام: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .

ولم يسفك في أيامه محجمة دم، وهي نحو سبعة أشهر، وكان صلحهما لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقيل: في النصف من جمادى الأولى من السنة المذكورة، على الخلاف المتقدم في ذلك، فإن مدة الخلافة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام انتهت بخلافته ولم يبق إلا الملك، وقد صان اللّه تعالى أهل البيت منه.

قال أبو بشر الدولابي: أقام الحسن - رضي اللّه تعالى عنه - بالكوفة إلى ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقتل عبد الرحمن بن ملجم، لعنه الله تعالى، ويقال: إنه ضربه بالسيف فاتقاه بيده فندرت وقتله. ثم سار إلى معاوية فالتقيا بمسكن من أرض الكوفة، كما تقدم نقل ذلك عن الذهبي، واصطلحا، وسلم إليه الأمر وبايع له لخمس بقين من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وأخذ منه خمسمائة ألف، كما تقدم نقل ذلك عن الذهبي.

وروى الحافظ أبو نعيم وغيره عن الشعبي - رحمه اللّه تعالى - أنه قال: أما بعد، فإن أكيس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت عليه أنا ومعاوية إنما هو حق لامرئ، فإن كان له فهو أحق بحقه، وإن كان لي فقد تركته له إرادة صلاح الأمة وحقن دمائهم " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " الأنبياء: 111 " ثم نزل.

قلت: رأيت في المسعودي أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن فيخطب، فكره معاوية ذلك، فألزمه عمرو وقال: أريد أن يبدو عيه في الناس؛ فإنه يتكلم في أمور لا يدري ما هي. فأمر معاوية الحسن فقام وتشهد في بديهته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لو لم تذهل نفسي إلا لثلاث لذهلت: مقتلكم أبي، ونهبكم رحلي، وطعنكم فخذي. وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا.

ومن مناقبه وجوده وزهده في الدنيا قوله: إني لأستحيي من اللّه عز وجل أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين حجة من المدينة على رجليه، وإن الجنائب لتقاد بين يديه. وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله ثلاث مرات، حتى إنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا. وقال محمد بن سيرين: ربما كان يجيز الواحد بمائة ألف. واشترى حائطاً من قوم من الأنصار بأربعمائة ألف، وإنه بلغه أنهم احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم. ولم يقل لسائل قط: لا.

ولا يأنس به أحد فيدعه يحتاج إلى غيره، ورأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلبَاً هنالك لقمة فقال: ما يحملك على هذا؟ فقال الغلام: إني أستحيي أن آكل ولا أطعمه، فقال الحسن: لا تبرح حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، وأعتقه وملكه الَحائط، فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني إليه.

وكان الحسن سيداً حليماً، زاهدَاً عاقلاَ، فاضلا، فصيحَاً، ذا سكينة ووقار، جواداً يكره الفتن وسفك الدماء، دعاه ورعه وزهده إلى ترك الخلافة وقال: خشيت أن يجئَ يوم القيامة سبعون ألفَاً أو أكثر تنضح أوداجهم دماً.

وكان من أحسن الناس وجهَاً، وأكرمهم وأجودهم وأطيبهم كلاماً، وأكثرهم حياء، وكان أكثر دهره صائماً، وكان فعله يسبق قوله في المكارم والجود، وكان كثير الأفضال على إخوانه؛ لا يغفل عن أحد منهم، ولا يحوجه إلى أن يسأله؛ بل يتقدمه بالعطاء قبل السؤال. وقال لأصحابه: إني أخبركم عن أخٍ كان من أعظم الناس في عيني، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً عن سلطان بطشه؛ فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، انتهى.

وما سمع من الحسن كلمة فحش قط، وأعظم ما سمع منه: أنه كان بينه وبين شخص خصومة فقال: إنه ليس عندنا إلا ما رغم أنفه. قلت: هذا الشخص المبهم هو مروان بن الحكم الأموي.

وقيل له: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم اللّه أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار اللّه عز وجل لم يتمن غير الحالة التي اختارها اللّه عز وجل. وهذا حد الوقوف على الرضا بما يصرف به القضاء.

ومن كلامه رضي اللّه عنه: كن في الدنيا ببدنك، وفي الآخرة بقلبك. وكان يقول لبنيه وبني أخيه: تعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه - أو قال يرويه - فليكتبه وليضعه في بيته. ورأى سيدنا أبو بكر الحسن - رضي اللّه عنهما - وهو يلعب مع الصبيان، فحمله أبو بكر على عاتقه وقال: بأبي، شبيه بالنبي ليس شبيهاً بعلي، وعلي رضي اللّه عنه يتبسم. وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يجله ويعظمه، ويحترمه ويكرمه، وكذلك عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.

وقد جاء الحسن والحسين يوم الدار وعثمان محصور، ومعهما السلاح ليقاتلا عن عثمان، فخشي عثمان عليهما، وأقسم عليهما ليرجعان إلى منازلهما، تطييباً لقلب علي وخوفاً عليهما، وكان علي - رضي اللّه عنه وكرم وجهه - أرسلهما وأمرهما بذلك، وكان علي يكرم الحسن إكراماً زائداً، ويعظمه ويبجله. وكان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا مِنَ النعم. وكان إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مِما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي اللّه عنهما وأرضاهما.

وكان عبد اللّه بن الزبير يقول: واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن. قال البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ: أتى الحسن بن علي رضي اللّه عنهما إلى معاوية بن أبي سفيان، وقد سبقه ابن عباس، فأمر معاوية بإنزالهما في محل فأنزلا، فبينما معاوية مع عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد بن أبيه، يتذاكرون قديمهم وحديثهم ومجدهم - إذ قال معاوية: أكثرتم الفخر، فلو حضر الحسن بن علي وابن عباس لقصرا من أعينكم.

فقال زياد: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين. ما يقومان لمروان في غرب منطقه، ولا لنا في بواذخنا، فابعث إليهما حتى تسمع كلامهما. فقال معاوية لعمرو: ما تقول؟ قال: هذا إليك، فابعث إليهما في غد. فبعث معاوية ابنه يزيد إليهما فأتياه فدخلا عليه، وبدأ معاوية فقال: إني أجلكما وأرفع قدركما، عن المسامرة بالليل، ولا سيما أنت يا أبا محمد، فإنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة. فتشكرا له. فلما استويا في مجلسهما وعلم عمرو أن الجرة ستقع به قال: والله لا بد أن أقول: فإن قهرت فسبيلي ذاك، وإن قهرت أكون قد ابتَدأت. فقال: يا حسن، إنا تفاوضنا فقلنا: إن رجال بني أمية أصبر عند اللقاء، وأمضى في الوغى، وأوفى عهداً، وأكرم خيما، وأمنع ذمارَاً لما وراء ظهورها من بني عبد المطلب.

ثم تكلم مروان فقال: وكيف لا نكون كذلك وقد قارعناكم فغلبانكم، وحاربناكم فملكناكم، فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله، ويجحدوا الخير في مظانه، نحن الحملة في الحروب، ولنا الفضل على سائر الناس قديمَاً وحديثاً.

فتكلم الحسن رضي الله عنه فقال: ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة، ولكن من الإفك أن ينطق بالخنا، ويصور الباطل بصورة الحق. يا عمرو افتخاراً بالكذب وجرأة على الإفك، ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة وأمسك أخرى، فتأبى إلا انهماكاً في الضلالة، أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى، وفرسان الطراد وحتوف الأقران، وأبناء الطعان، وربيع الضيفان، ومعدن النبوة، ومهبط العلم.

وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم، وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال، وتساورت الأقران، واقتحمت الليوث، واعتركت المنية، وقامت رحاها على قطبها وافترت عن نابها، وطار شرار الحرب، فقتلنا رجالكم، ومَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذراريكم، فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم.

ثم قال: وأما أنت يا مروان، فما أنت والإكثار في قريش، وأنت طليق وأبوك طريد، تنقلب من خزية إلى سوءة، ولقد جئ بك إلى أمير المؤمنين، فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه واشتبكت أنيابه كما قال: من الكامل:

ليث إذا سَمِعَ الليوثُ زئيرَهُ ... بَصبَصنَ ثم قذفْنَ بالأبعارِ

فلما من عليك بالعفو، وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك، وغصصت بريقك، لا تقعد منا مقعد أهل الشكر، ولكن تساوينا وتحاربنا، ونحن ممن لا يدركنا عار، ولا تلحقنا خزاية. ثم التفت إلى زياد فقال: وما أنت يا زياد وقريشاً، ما أعرف لك فيها أديماً صحيحاً، ولا فرعاً ثابتَاً، ولا قديماً بائتَاً، ولا منصباً كريمَاً، كانت أمك بغياً تداولها رجالات قريش وفجار العرب، فلما ولدت لم يعرف لك العرب والداً فادعاك هذا - يعني معاوية - بعد ممات أبيه ما لك افتخار، تكفيك سمية، ويكفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي علي بن أبي طالب، سيد المؤمنين، الذي لم يرتد على عقبيه، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيار، وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة.

ثم التفت إلى ابن عباس فقال: يا بن عم، إنما هي بغاث الطير انقض عليها أجدل. فأراد ابن عباس أن يتكلم، فأقسم عليه معاوية أن يكف فكف، ثم خرجا. فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت، وقد تكلم مروان لولا أنه يكفر، ثم التفت إلى زياد فقال: ما دعاك إلى محاورتهما. ما كنت إلا كالحجل في كف العقاب.

فقال عمرو لمعاوية: ألا رميت من ورائنا. فقال معاوية: إذا أشرككم في الجهل؟ أفاخر رجلا رسول الله جده؟!، وهو سيد من مضى ومن بقي، وأمه فاطمة سيدة نساء العالمين. ثم قال لعمرو: والله لئن سمع به أهل الشام لهى السوأة السوءاء. فقال عمرو: لقد أبقى عليك، ولكنه طحن مروان وزياداً، طحن الرحى بثفالها، ووطئها وطء البازل القراد بمنسمه.

فقال زياد: قد والله فعل، ولكن معاوية يأبى إلا الإغراء بيننا وبينهم، لا جرم. واللّه لا شهدت مجلساً يكونان فيه إلا كنت معهما علي من فاخرهما. فخلا ابن عباس بالحسن، فقبل بين عينيه وقال: أفديك يا بن عم، واللّه ما زال بحرك يزخر، وأنت تصور، حتى شفيتني من أولاد البغايا.

ثم إن الحسن رضي اللّه عنه غاب أياماً ثم رجع حتى دخل على معاوية، وعنده عبد اللّه بن الزبير فقال معاوية: يا أبا محمد، إني أظنك تعباً نصبَاً، فأت المنزل فأرح نفسك. فقام الحسن، فلما خرج قال معاوية لعبد اللّه بن الزبير: لو افتخرت على الحسن، فإنك ابن حواري رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وابن عمته، ولأبيك في الإسلام، نصيب وافر، فقال ابن الزبير: أنا له. فرجع وهو يطلب ليلته الحجج، فلما أصبح دخل على معاوية وجاء الحسن رضي اللّه عنه، فحياه معاوية وسأله عن مبيته فقال: خير مبيت وأكرم مستفاض.

فلما استوى به مجلسه قال ابن الزبير: لولا أنك خوار في الحرب غير مقدام ما سلمت الأمر لهذا - يعني معاوية - وكنت لا تحتاج إلى اختراق الآفاق، وقطع المفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه، وكنت حريُّاً ألا تفعل ذلك، وأنت ابن علي ونائبه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ ضعف رأي، أم وهدة مخبر؟ فما أظن لك مخرجاً من هاتين الخلتين. أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أني ابن الزبير، وأني لا أنكس عن الأبطال، وكيف لا أكون كذلك، وجدتي صفية بنت عبد المطلب، وأبي الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد الناس بأساً، وأكرمهم حسبَاً في الجاهلية، وألوطهم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

فالتفت إليه الحسن وقال: أما واللّه لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهازيَاً، ولكن سأبين ذلك لتعلم أني لست بالعيي ولا الكليل اللسان، إياي تعير وعلي تفتخر؟ ولم يكن لجدك بيت في الجاهلية ولا مكرمة، فزوجه جدي صفية فتفاخر على جميع العرب بها وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها، ومن الأشراف سادتها. نحن أكرم أهل الأرض، لنا الشرف الثاقب، والكرم الغالب.

ثم تزعم أني سلمت الأمر، فكيف يكون - ويحك - كذلك، وأنا ابن أشجع العرب، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين، لم أفعل - ويحك - ذلك جبناً ولا ضعفاً، ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني بترة، ويداجيني المودة، فلم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر، وكيف لا يكون كما أقول. وقد بايع أبوك أمير المؤمنين، ثم نكث بيعته، ونكص على عقبيه، واختدع حشية عن حشايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضل بها الناس، فلما خلف إلى الأعنة قتل بمضيعة لا ناصر له، وأتى بك أسيراً وقد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها، واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك، وأقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث.

فنحن - ويحك - نور البلاد وملاكها، وبنا يفتخر الأئمة، وإلينا تلقى مقاليد الأزمة. أتصول وأنت بمختدع الشاء؟، ثم أنت تفتخر على بني الأنبياء. لم تزل الأقاويل منا مقبولة، وعيك وعلى أبيك مردودة، دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين، ثم بايعوا أمير المؤمنين، فساروا إلى أبيك وطلحة حين نكثا البيعة وخدعا عرس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقتل أبوك وطلحة، وأتى بك أسيرَاً فبصبصت بذنبك وناشدته الرحم ألا يقتلك، فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي، وأنا سيدك وسيد أبيك فذق وبال أمرك.

فقال ابن الزبير: اعذرنا يا أبا محمد، فإنما حملني على محاورتك هذا، وأحب الإغراء بيننا، فهلا إذ جهلتُ أمسكت عني؛ فإنكم أهل بيتَ سجيتكم الحلم والعفو. فقال الحسن: يا معاوية، انظر هل أكيع عند محاورة أحد؟ ويحك، أتدري من أي شجرة أنا، وإلى من أنتهي. انته قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الآفاق والبلدان. فقال ابن الزبير: هو لذلك أهل. فقال معاوية: فلا أراك تفتخر على أحد بعدها.

واستأذن الحسن بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - على معاوية فأذن له، وعنده عبد اللّه بن جعفر وعمرو بن العاص، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الأقدُّ العييُ الذي كأن بين لحييه عبلة. فقال عبد اللّه بن جعفر: مه، فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول، وتقصر دونها الوعول، ولا تبلغها السهام، فإياك الحسن إياك؛ فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش، ولقد رميت فما برح عمك، وقدحت فما أورى زندك. فسمع الحسن الكلام فلما أخذ الناس مجالسهم قال الحسن: يا معاوية، لا يزال عندك عبداً راتعاً في لحوم الناس. أما واللّه لئن شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور، وتحرج منه الصدور، ثم أنشأ يقول: من وافر:

أتأْمُرُ يا معاويَ عَبْدَ سهمٍ ... بشتْمِي والملا مِنَّا شهودُ

إذا أخذَت مجالسَهَا قريشٌ ... فقد علمَت قريش ما تريدُ

قَصَدتّ إليَّ تَشْتِمني سفاهاً ... لضغْنِ ما يزولُ وما يبيدُ

فما لَكَ مِنْ أبٍ كأبي تسامي ... به مَنْ قد تسامي أو تكيدُ

ولا جَدُ كجدي يا بن هندِ ... رسول الله إن ذكِر الجدودُ

ولا أم كأمي مِنْ قريشٍ ... إذا ما حُصلَ الحسبُ التليدُ

فما مِثْلي تهكّم يا بنَ هندٍ ... ولا مثلي تُجَارِيهِ العبيدُ

فمهلا لا تَهِج مني أمورَاً ... يشيبُ لها معاوية الوليدُ

وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما يعير به. فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر وقد جمع له الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أنا ابن البشير النذير، السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين وسخطاً على الكافرين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس، أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة، نصر بالرعب من مسيرة شهر. في هذا الكلام ولم يزل حتى أظلمت الدنيا على معاوية فقال: يا حسن، قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك، فقال الحسن: إنما الخليفة من سار بسيرة نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بطاعة الله تعالى، وليس الخليفة من دان بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذاك ملك أصاب ملكاً تمتع به قليلا، وكان قد انقطع عنه فتعجل لذته، وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال الله تعالى: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " الأنبياء: 111 " ثم انصرف. فقال معاوية لعمرو: واللّه ما أردت إلا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أن أحداً مثيلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.

وقدم عليه مرة أخرى، فوجد عنده عمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وصناديد قومه، ووجوه أهل اليمن وأهل الشام، فلما نظر إليه معاوية وثب وأقعده على سريره، وأقبل عليه بوجهه يريد السرور بمقدمه، فلما نظر مروان إلى ذلك حسده. وكان معاوية قد قال لهم: لا تحاوروا هذين الرجلين - يعني الحسن وابن عباس - فلقد قلداكم العار وفضحاكم عند أهل الشام.

فقال مروان: يا حسن، لولا صلة أمير المؤمنين وما قد بني له آباؤه الكرام من المحل والعلاء، ما أقعدك هذا المقعد، ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير، فلما أحسست بنا، وعلمت أَن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام، وصناديد بني أمية - أذعنت بالطاعة، واحتجزت بالبيعة، وبعثت تطلب الأمان، أما والله لولا ذاك لأريق دمك، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى، فاحمد اللّه تعالى إذا ابتلاك بمعاوية فعفا عنك، ثم صنع بك ما ترى.

فنظر إليه الحسن فقال: ويحك يا مروان، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها، والمحاولة عند مخالطتها، نحن - هبلتك الهوابل - لنا الحجج البوالغ.

ولنا إن شكرتم - عليكم النعم السوابغ - ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، فشتان ما بين المنزلتين. تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صُبر في الحروب أسد عند اللقاء؟ ثكلتك أمك؛ أولئك البهاليل السادة، والحماة القادة، بنو عبد المطلب، أما والله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال، ولم يحيدوا عن الأبطال، كالليوث الضارية الباسلة الخفية فعندها وليت هارباً وأخذت أسيراً، فقلدت قومك العار، لأنك في الحروب خوار. أيراق دمي زعمت، أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل، وأنت تثغو ثغاء النعجة، وتناديْ بالويل والثبور كالأمة اللكعاء، ألا دافعت عنه بيد، أو ناضلت عنه بسهم، لقد ارتعدت فرائصك، وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه؛ فأنجيتك من القتل ومنعتك منه، ثم تحث معاوية على قتلي، ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان.

أنت معه أقصر يداً وأضيق باعاً، وأجبن قلباً أن تجسرا على ذلك. ثم تزعم أني ابتليت بحلم معاوية، أما واللّه لهو أعْرَف بشأنه، وأشكر لما وليناه هذا الأمر، فمتى بدا له فلا يغضي جفنه على القذى معك، فواللّه لألحقن بأهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها، ويستأصل فرسانها، ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان، ولا ترد عنك الطلب يذرعك في الكلام.

فنحن من لا نجهل، آباؤنا القدماء الأكابر، وفروعنا السادة الأخيار، وانطق إن كنت صادقاً. فقال عمرو: ينطق بالخنا وتنطق بالصدق. ثم أنشأ يقول: من البسيط:

قد يَضْرطُ العيرُ والمكواةُ تأخذُه ... ويضرطُ العيرُ والمكواةُ في النارِ

ذق وبال أمرك يا مروان. وأقبل عليه معاوية فقال: قد نهيتك عن هذا الرجل فأنت تأبى إلا انهماكاً فيما لا يعنيك، أربع على رأسك، فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم، فقال ارم من دون قبضتك، وقم بحجة عشيرتك. ثم قال مروان لعمرو: طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصيتك فلذلك تحذره. وقام مغضباً. فقال معاوية: لا تحاور البحور فتغمرك، ولا الجبال فتبهرك، واسترح من الاعتذار.

ولقي عمرو بن العاص الحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - في الطواف فقال له: يا حسن، أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك. فقد رأيت الله عز وجل أقامه بمعاوية، فجعله رأسَاً بعد ميله، وَبَينا بعد خفائه، أفرضي اللّه قتل عثمان. أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الحمار بالطحين؟ عليك ثياب كغرفئ البيض، وأنت قاتل عثمان. واللّه إنه لألمُّ للشعث، وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك.

فقال الحسن رضي اللّه عنه: إن لأهل النار علامات يعرفون بها، وهي الإلحاد لأولياء اللّه تعالى، والموالاة لأعداء اللّه تعالى، اللّه إنك لتعلم أن علياً رضي اللّه تعالى عنه لم يرتب في الأمر، ولم يشك في اللّه طرفة عين، وايم اللّه لتنتهين يا بن أم عمرو أو لأقرعن جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت، فإياك والإنزار علي؛ فإني مَنْ قد عرفت؛ لست بضعيف الغمزة، ولا بهش المشاشة، ولا بمرئ المأكلة، وإني من قريش في وسط القلادة يُعرف حسبي، ولا أدعي لغير أبي، وقد تحكمت فيك قريش فغلب عليك ألأمُهم نسبَاً وأعظمهم لعنة؛ فإياك عني فإنك رجس، وإنما نحن أهل بيت الطهارة أذهب اللّه عنا الرجس وطهرنا تطهيراً.

وقيل: واجتمع مرة أخرى بالحسن، فقال الحسن: قد علمت قريش بأسرها أني منها في أعز أرومتها؛ لم أطلع على ضعف، ولم أعكس على خسف، أعرف بشبهي، وأدعي لأبي. فقال عمرو: قد علمت قريش أنك من أقلها عقلاَ وأكثرها جهلاَ، وإن فيك خصالا لو لم يكن منها إلا واحدة لشملك خزيها كما شمل البياض الحلك. واللّه لتنتهين عما أراك تصنع، أو لألبسن لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحد من وقع الأثافي. أغرك منها أديمك عرك السلقة؟ ما لك طالما ركبت صعب المنحدر، ونزلت في عراص الوعرة التماساً للفرقة وارتصاداً للفتنة؟ ولن يزيدك اللّه تعالى فيها إلا ضياعة.

فقال الحسن رضي الله تعالى عنه: أما واللّه لو كنت تسمو بحسبك، وتعمل برأيك، ما سلكت فج قصدٍ، ولا حللت رابية مجد. وايم اللّه لو أطاعني معاوية فجعلك بمنزلة العدو الكاشح؛ فإنك طالما طويت على هذا كشحك، وأخفيته في صدرك، وطمح بك الرجا إلى الغاية القصوى التي لا يورق فيها غصنك، ولا يخضر بها مرعاك، أما واللّه ليوشكن يا ابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام من قريش، فري ممتنع فروس ذي لبد، يضغطك ضغط الرحى للحب، لا ينجيك منه الروغان إذا التفت حلقتا البطان، انتهى.

وذكر هذا البيهقي في كتابه المسمى المحاسن والمساوئ: وكان لرجل على أبي عتيق مال فتقاضاه، فقال أبو عتيق: ائتني العشية في مجلس كذا فسلني عن بيت قريش، فأتاه الغريم في ذلك المجلس وفيه وجوه قريش والحسن بن علي، فقال الغريم: يا أبا عتيق إنا تلاحينا في بيت قريش ورضينا بك حكماً، فقال: آل حرب. فقال الغريم: ثم من؟ فقال: آل أبي العاص. فشق ذلك على الحسن.

فقال الغريم: فأين بنو عبد المطلب. فقال: لم أكن أظن أن تسألني عن غير بيت الآدميين؛ فأما إذ صرت تسألني عن بيت الملائكة، وعن رسول رب العالمين، وسيد كل شهيد، والطيار مع الملائكة، فمن يسامي هؤلاء فخراً إلا وهو منقطع دونهم. فانجلي عن الحسن رضي الله عنه. ثم قال لأبي عتيق: إني لأحسب أن لك حاجة. قال: نعم يا بن رسول اللّه، لهذا علي كذا وكذا. فاحتملها عنه، ووصله بمثلها.

وذكروا أن رجلين أحدهما من بني هاشم، والآخر من بني أمية، قال هذا: قومي أسمح، وقال هذا: قومي أسمح، قال: فاسأل أنت عشرة من قومك، وأسأل أنا عشرة من قومي، فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وأتى صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما فأمر له بمائة وخمسين ألف درهم، ثم أتى الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال له: هل بدأت بأحد قبلي. قال: بدأت بأخيك الحسن، فقال: ما أستطيع أن أزيد على سيدي، فأعطاه مائة وخمسين ألف درهم. فجاء صاحب بني أمية يحمل مائة ألف من عشرة أنفس؛ وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف من نفسين، فغضب صاحب بني أمية فردها عليهم فقبلوها، وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما فأبيا أن يقبلاها، وقالا: ما كنا نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق.

وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فاستعان به في حاجة فوجده معتكفاً فاعتذر إليه، فذهب إلى أخيه الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وكان معتكفاً، وقال: لَقَضَاءُ حاجة أخٍ لي في اللّه عز وجل أحب إليَ من اعتكاف شهر.

وكان - رضي اللّه عنه - كثير التزويج، فكان لا تفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقاً مصدقاً، وكان أبوه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: يا أهل الكوفة، لا تزوجوه فإنه مطلاق، فيقولون: واللّه يا أمير المؤمنين، لو خطب إلينا كل يوم زوجناه منا، ابتغاء في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورأى الحسن في منامه كأن مكتوباً بين عينيه " قُل هُوَ اَللَهُ أَحَد " " الإخلاص: 1 " فبلغ ذلك سعيد بن المسيب رضي اللّه عنه فقال: إن كان رأى هذه الرؤيا فقل ما بقي من أجله. فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياماً حتى مات. وقد أوصى أخاه الحسين ألا يطلب الخلافة، ورغبه في الزهد في الدنيا والعزوف عنها، إلى غير ذلك من وصايا كثيرة قال في آخرها: أبى اللّه أن يجعل فينا أهل البيت مع النبوة الخلافة والملك والدنيا؛ فإياك وسفهاء أهل الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك، فتندم حيث لا ينفعك الندم، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: " اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها، فارحم صرعتي، وآنس في القبر وحدتي، وأقل عثرتي، يا أرحم الراحمين " .

قال العلامة المسعودي في المروج؛ عن علي بن الحسين قال: دخل أبي الحسين على عمي الحسن حدثان ما سقى السم، فقام عمي الحسن لقضاء الحاجة ثم رجع فقال: لقد سقيت السم عدة مرات فما سقيت مثل هذه، ولقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أنكثه بعود في يدي، فقال له أبي: يا أخي، من سقاك؟ قال له: وما تريد من ذلك؟ فإن كان الذي أظن فاللّه حسيبه، وإن كان غيره فما أحب أن يؤخذ بي بريءٌ، فلم يلبث أن توفي رضي الله تعالى عنه.

وذكر بأن امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي قد بعث إليها يزيد: إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك مائة ألف درهم وتزوجتك، فكان هذا الذي بعثها على سَمِّه. فلما مات وفى لها بالمال وأرسل إليها: إنا لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا؟! واللّه أعلم بصحة ذلك.

وقال الشاعر النجاشي - وكان من شيعة علي - في شعر طويل يرثيه به، منه قوله: من السريع:

جَعْدَة ابكِيهِ ولا تَسْأَمي ... جعد بكاء المعول الثاكلِ

لم تسبلي الستْرَ على مثْلِهِ ... في الأرضِ مِنْ حافٍ ومن ناعلِ

وقال آخر: من المتقارب:

تَعَزَّ فكَمْ لكَ من سالف ... يفرجُ عنك عليلَ الحَزَنْ

بموتِ النبي وقَتْلِ الوصي ... وقَتْلِ الحُسَيْنِ وسم الحَسَنْ

وكانت وفاته لخمس خلون من ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: اثنتين وخمسين من الهجرة، ودفن بالبقيع في قبة عمه العباس بن عبد المطلب.

ولما دفن وقف محمد ابن الحنفية أخوه على قبره فقال: لئن عزت حياتك فقد هزت وفاتك، ولنعم الروح روح تضمنها كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمنه بدنك، وكيف لا يكون هذا وأنت عضيد الهدى، وعتيد التوى وخلف أهل التقى، وخامس أهل الكسا. غذتك بالتقوى أكف الحق، وأرضعتك ثدي الإيمان، وربيت في حجر الإسلام، فطب حياً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك، رحمك اللّه أبا محمد. ثم تمثل بقول القائل: من الطويل:

أأدهُنُ رأسي أم تطيبُ مجالسي ... وخدكَ معفور وأنتَ سليبُ؟!

سأبكِيكَ ما ناحَ الحمامُ بأيكةٍ ... وما اخضَر في أرضِ الحجازِ قضيبُ

غريباً وأكنافُ الحجازِ تحوطُه ... ألا كُل ما تحتَ الترابِ غريبُ

كان - رضي الله عنه - قد أوصى إلى أخيه الحسين أن يدفنه مع جده رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجد إلى ذلك سبيلاَ، فإن منعت فادفني بالبقيع. فلما مات لبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا به ليدفنوه، فخرج مروان بن الحكم في موالي بني أمية، وهو يومئذ عامل المدينة لمعاوية ليمنعه، فخرج أبو هريرة، فرده الحسين وأقسم عليه؛ فذهب بالحسن، فدفن بالبقيع في قبر في قبة العباس ودفن في هذا القبر أيضاً علي زين العابدين، وابنه محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، فهم أربعة في قبر واحد، أكرم به قبرَاً. وفي ذكرى أنه دفن فيه أيضَاً رأس الحسين أتى به من دمشق فدفن. والله أعلم.

ومشى مروان في جنازة الحسن وبكى؛ فقيل له: أتبكي عليه وقد كنت تفعل به ما تفعل. فقال: كنت أفعل ذلك مع من هو أعظم من هذا، وأشار إلى جبل أحد.

صفته رضي اللّه عنه

كان أبيض اللون مشرباً بالحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، دقيق المسربة، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، ربعة، من أحسن الناس وجهاً، كان أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تحت الصدر إلى الرأس. عمره سبع وأربعون سنة، وقيل: ثمان وأربعون، كان منها مع جده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبع سنين، ومع أبيه علي بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، وعاش بعد وفاة أبيه علي كرم الله وجهه إلى حين وفاته رضي اللّه عنه عشر سنين، مدة خلافته منها ستة أشهر وثلاثة أيام.

أولاده تسعة عشر ولدَاً: تسعة ذكور، الحسن، وزيد، وحسين الأثرم، وعبد اللّه، وأبو بكر، وعبد الرحمن، والقاسم، وطلحة، وعمر، قاله البلاذري، وذكر المحب الطبري في ذخائر العقبى نقلا عن الدولابي أنهم خمسة: الحسن، وزيد، وعبيد اللّه، وعمر، وإبراهيم. وعن أبي بكر بن الدراع أنهم أحد عشر ذكرَاً وبنت: عبد الله القاسم، والحسن، وزيد، وعمر، وعبيد اللّه، وعبد الرحمن، وأحمد، وإسماعيل، والحسين، وعقيل، والأنثى: أم الحسن. وعلى كل الروايات: العقب منه في رجلين فقط هما زيد والحسن المثنى.

وكان قد أعقب - أيضاً - من الحسين الأثرم وعمر، لكن انقرض عقبهما، فلم يبق للحسن السبط إلا من هذين الشخصين: الحسن المثنى وزيد ابني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكرم وجهه.