في الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة معاوية بن أبي سفيان

قال العلاَّمة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه المسمى: بالعِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر: كان اتفاق الجماعة منتصف سنة إحدى وأربعين، وسمى ذلك العام عام الجماعة عندما نسي الناس النبوة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم، فلم تتعده الخلافة ولا ساهمه فيها غيره، واستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في مضر رياسته وتوثق عهده، وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر منه فيها؛ يدامل أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم، وبصانع رءوس العرب وقرون مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك، وعصاه لا تقرع، ومرقاته فيه تزل عنها الأقدام: منها: ما روى أنه مازح عدي بن حاتم يومَاً يؤنبه بصحبة علي - رضي الله تعالى عنه - فقال له عدي: والله، إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا شبراً من الشر، لندنين إليك من الشر باعاً، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم، لأهونُ علينا من أن نسمع المساءة في علي - كرم الله تعالى وجهه - السيف يا معاوية، يبعث السيف، فقال معاوية: هذه كلمات حق فاكتبوها، وأقبل على عدي بالمقالة محدثاً.

أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس، أسلمت يوم فتح مكة وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الصفا، وعمر - رضي الله عنه - دونه، فجاءته في نسوة من قريش يبالِغنَ على الإسلام، وعمر - رضي الله عنه - يكلمهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً، قالت هند: قد علمنا أنه لو كان مع الله غيره، لأغنَى عنا، فلما قال: " ولا يسرقن " قالت: لكنْ يا رسول اللّه، أبو سفيان رجل ممسك، وربما أخذتُ من ماله بغير علمه ما يصلح ولده، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ، ثم قال: " أئنك لأنت هند؟! " قالت: نعم، يا رسول اللّه، اعْفُ عني! فقال: " عفا اللّه عنك " .

وفي رواية بعد قولها: نعم، يا رسول اللّه - أنه قال لها: " أأنتِ هند أكالة الكبود؟ " فقالت: أنبي حقود؟ وكان أبو سفيان حاضراً، فلما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ولا يزنين " ، قالت: أتزني الحرة يا رسول اللّه؟ فلما قال لها: " ولا يقتلن أولادهن " ، قالت: والله ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً قال: فضحك عمر من قولها حتى مال، فلما قال: " ولا يعصينك في معروف " ، قالت: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحسن ما دعوت إليه، واللّه، ما قصت مقامي هذا وأنا أضمر أن أخالفك في شيء.

وروى عن حميد بن وهب قال: كانت هند بنت عتبة بن ربيعة قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة وكان من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة تغشاه الناس من غير إذن، فخلا البيت ذات يوم فقام الفاكه، وهند فيه، وخرج لبعض حاجاته، وأقبل رجل ممن كان يغشى ذلك البيت فولجه، فلما رأى المرأة ولى هاربَاً، فأبصره الفاكه، فانتهى إليها، فوجدها راقدة فضربها برجله، وقال: من هذا الذي كان عندك. قالت: ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى أنبهتني، فقال لها؛ الحقي بأهلك، وتكلم فيها الناس، فخلا بها أبوها عتبة بن ربيعة، فقال لها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذلك، فإن يكن الرجل صادقَاً، دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا القالة، وإن يكن كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن!! قال: فحلفت له بما كانوا يحلفون به في الجاهلية؛ أنه كاذبٌ، فقال عتبة للفاكه: إنك قد رميت ابنتي بأمرٍ عظيمٍ، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن.

فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة معها تأنسُ بهن فلما أشرفوا على بلاد الكاهن، تنكر حال هند وتغير وجهها، فقال لها عتبة: يا بنية، إني قد رأيتُ ما بكِ من تغير الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، فقالت: لا، واللّه يا أبتاه، ما ذاك لمكروه، ولكني أعرفُ أنكم ستأتون بَشَراً يخطئ ويصيب، فلا آمنه أن يَسِمَنِي بِسِيمَاءَ تكون عليَ سُبة في العرب آخر الدهر، فقال لها أبوها: إني سوف أستخبره لك قبل أن ينظر في أمرك، فصفر لفرسه حتى أدلى ثم أدخل في إحليله حبة من الحنطة وأَوْكَأَ عليها بسير، وصبحوا الكاهن فنحر لهم وأكرمهم، فلما تغدوا، قال له عتبة: إنا جئناك لأمرِ وقد خبأت لك خبيئة أختبرك بها فانظر ما هو، قال الكاهن: بُرة في كمرة، قال عتبة: أريد أبين مِن هذا، قال: حبة بر في إحليل مهر، فقال عتبة: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهنَ ويضربُ كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرَبَ كتفها، وقال: انهضي غَيْرَ وسخاء ولا زانية، وستلدينَ ملكاً يقال له معاوية، فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترتْ يدها من يده، وقالت: إليك عني، فواللِّه، لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوَجها أبو سفيان، فجاءت منه بمعاوية بن أبي سفيان.

قال أهل العلم: وولدته في خيف مِني، فهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العبشمي، يلتقي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف بن قصي.

ولما استقل معاوية بالخلافة بعد نزول الحسن له عنها، وسمي ذلك العام - وهو عَامُ إحدى وأربعين - عام الجَمَاعة كما تقدم ذلك؛ بعث عماله على الأمصار؛ فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة، ويقال: إن معاوية كان ولي على الكوفة أولا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة بن شعبة متنصحاً، وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة، فأنت بين نابي الأسد، فعزل معاوية حينئذِ عبد الله بن عمرو عن الكوفة، وولاها المغيرة بن شعبة وبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال لمعاوية: إن المغيرة يحتاز المال؛ فلا تَقدِرُ على رده منه، فاستعمل من يخافك؛ فقصر معاوية ولاية المغيرة على الصلاة، وولي على الخراج غيره.

ثم ولي على البصرة بُسر بن أرطاة العامري، وكان قد تغلب عليها حمران بن أبان عند صلح الحسن مع معاوية، فبعث إليه معاوية بُسراً، فخطب الناس وتعرض لعلي، ثم قال: أنشد الله رجلاَ يعلم أني صادق أو كاذب إلا صدقني أو كذبني، فقال له أبو بكرة - وهو صحابي مشهور اسمه نُفَيع بن الحارث بن كلدة الثقفي قلت: لقب بأبي بكرة؛ لأنه كان مع ثقيف في حصن الطائف حال حصار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فنادى - عليه الصلاة والسلام - : " من أتى إلينا، فله الأمان، وهو حر " ، فتدلى نفيع بن الحارث هذا من أعلى الحصن ببكرة، ونزل إليه - عليه الصلاة والسلام - وأسلم، فلقب لذلك بأبي بكرة - : " اللهم، لا نعلمك إلا كاذباً " ، فأمر به يسجن، فقام أبو لؤلؤة الضبي فدفع عنه.

وكان على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه عاملا لعلي، فبعث إليه معاوية يطلبه بالمال، فقال زياد: صرفْتُ بعضه في وجهه، واستودعتُ بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رحمه اللّه، ورضِيَ عنه - فكتب إليه معاوية بالقدوم، لينظر في ذلك فامتنع، فلما ولي بسر، جمع عنده أولاد زياد الأكابر: عبد الرحمن وعبيد اللّه وعباداً، وكتب إليه؛ لتقدمن أو لأقتلن بنيك، فامتنع زياد واعتزم بُسْر على قتلهم، فأتاه أبو بكر؛ وكان أخا زياد لأمه - وسيأتي ذكر ذلك - فقال لبسر: أخذتهم بلا ذنب، وصلح الحسن مع معاوية علَى أصحاب علي حيث كانوا، فأمهله بسر إلى أن يأتي كتاب معاوية، ثم قدم أبو بكرة على معاوية، وقال: إن الناس لم يبايعوا علَى قتل الأطفال، وإن بُسراً يريد قتل بني زياد، فكتب معاوية إلى بسر بتخليتهم، وجاء إلى السجن بعد الميعاد، ولم يبق منه إلا ساعة وهم موثقون للقتل، فأدركهم وأطلقهم بُسر.

ثم عزل معاوية بسراً وولى عليها عبد اللّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ثم ولى معاويةُ سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم، وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، ثم عزل مروانَ عن المدينة سنة تسع وأربعين، وولى مكانه عليها سعيد بن العاص، ثم عزله سنة أربع وخمسين، فرد إليها مروان بن الحكم.

ولما امتنع زياد ابن أبيه بفارس بعد مقتل علي - كما قدَمناه - وكان عبد الرحمن ابن أخيه لأمه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة - رفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عبد الرحمن، فبعث معاوية إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك، فأحضر عبد الرحمن، وقال: إن يَكن أبوك أساء إلي، فقد أحسن عمك، وأحسن العذر عنه عند معاوية.

ثم قدم المغيرة على معاوية، فذكر معاوية له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس، وقال: داهية العرب معه أموالُ فارس يدبر الحيل؛ فلا آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب جذعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له، ثم أتاه وقال: معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن، ولم يكن هناك غيره، فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك، قال له زياد: أَشِر عَلَيَ، والمستشار مؤتمن، فقال المغيرة: أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه، فكتب إليه معاوية بأمانه وخرج زياد من فارس نحو معاوية فاعترضه عبد الله بن حازم السلمي في جماعة وقد بعثه عبد الله بن عامر ليأتيه به، فلما رأى عبد الله بن حازم كتاب الأمان تركه. فلما قدم زياد على معاوية، سأله عن أموال فارس، فأخبره بما أنفق وما حمله إلى علي وما بقي عنده مودعاً للمسلمين، فصدقه معاوية وقبضه منه، ويقال: إنه قال له: أخاف أن تكون مَكَرتَ بي فصالحني، فصالحه على ألفَيْ درهمِ بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له، وكان المغيرة يكرمه ويعظمه.

وكتب إليه معاوية أن يُلزم زياداً، وحجر بن عدي، وسليمان بن صرد، وشبيب ابن ربعي، وابن الكواء، وابن الحمق، وهؤلاء أصحاب علي - رضي الله تعالى عنه - بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضُرُونَ الصلاة.

وفي سنة ثلاث وأربعين أو التي قبلها: كان استلحاق معاوية زيادَاً، قال العلامة ابن خلدون: كانت سُمَية أم زياد مولاة للحارث بن كلدة الثقفي الطبيب، وولدت منه أبا بكرة نفيع بن الحارث، ثم زوجها بمولى له، فأتتْ منه بابن سماه نافعاً، ثم إن أبا سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته، فأصاب سمية هذه ببعض أَنكِحَةِ الجاهلية، وولدَت زياداً هذا ونسبته إلى أبي سفيان، وأقرَ لها به، إلا أنه كان يخفيه.

قلت: هذا ما ذكره ابن خلدون، ورأيتُ المسعودي في مروجه قال ما نصه: ذهب أبو سفيان إلى الطائف لتجارة، فنزل على أبي مريم السلولي - خَمار بالطائف - فقال لما طالت إقامته: إن ابنة عتبة لا أتمكنُ معها بامرأة، وقد طالت عزوبتي فأبغني بغياً، فقال أبو مريم: لا أعلم الآن إلا سمية أمة الحارث بن كلدة، قال: فأتني بها، فأتاه بها، ثم أخذ أبو سفيان بكُم درعها، فأدخلها في حجرة من الدار، ثم خرج وجبينه يرشحُ عرقاً ونفسه يتتابع. قال أبو مريم: فقلت له: كيف رأيتها. فقال: لا بأس بها لولا استرخاء في ثدييها، وذفر في إبطيها.

قال ابن خلدون: ولما شَب زياد، سمت به النجابة، واستكتبه أبو موسى الأشعري لما كان على البصرة واستكفاه عمر - رضي اللّه عنه - في أمر، فحسن غَنَاؤه فيه، وحضر زياد عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام، فقال عمرو ابن العاص، وكان حاضراً: لِلَهِ هذا الغلامُ!! لو كان أبوه من قريش ساق العَرَبَ بعصاه، فقال أبو سفيان وعلي - رضي الله عنه - يسمع: واللِّه إني لأعرف أباه، ومَنْ وضعه في رَحِمِ أُمهِ، فقال له علي - رضي اللّه تعالى عنه - : اسكُتْ، فلو سمع عمر هذا منك، كان إليك سريعاً.

ثم استعمل علي - رضي الله تعالى عنه - زياداً على فارس فضبطها، فكتب إليه معاوية يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه، فقام زياد في الناس خطيباً فقال: عجباً لمعاوية يخوفني وبيني وبينه ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار.

وكتب إليه علي - رضي اللّه تعالى عنه - : إني قد وليتك وأنا أراك أهلا، وقد كان من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجبُ ميراثاً ولا نسباً، ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.

ولما قتل علي - رضي اللّه تعالى عنه - وصالح زياد معاوية وَضَعَ زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني علَى معاوية؛ ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن عَلِمَ لحوق نسبه بأبي سفيان، فشهد له رجل من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة عَلي ينكرون ذلك وينقمون على معاوية، حتى أخوه لأمه أبو بكرة.

وكتب زياد إلى عائشة - رضي اللّه تعالى عنها - في بعض الأحيان: من زياد ابن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب؛ ليكون جوابها له حجة، فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد، وكان عبد اللّه بن عامر يبغض زياداً، فقال يوماً لبعض أصحابه: ابن سمية يقبح آثاري ويعترض معاوية، فأمر معاوية حاجبه عما لي، لقد هممت أن آتي قسامة من قريش أن أبا سفيان طرير سمية. فوصل الخبر إلى زياد، فأخبر به معاوية فأمر معاوية حاجبه أن يرد عبد الله بن عامر من أقصى الأبواب فرد، فشكا ذلك إلى ابنه يزيد، فركب معه وأدخله على معاوية، فلما رآه، قام من مجلسه ودخل إلى بيته، فقال يزيدة نقعد في انتظاره، فلم يزالا حتى خرج، وغدا ابن عامر يعتذر فيما كان منه من القول في زياد، فقال معاوية: إني لا أتكثر بزياد من قِفة، ولا أتعزَّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً للَه فوضعته موضعه.

وخرج ابن عامر يترضى زياداً ورضي معاوية له.

وفي استلحاق معاوية زياداً يقول يزيد بن مفرغ الحميري: من الوافر:

ألا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَجُلِ اليَمَانِي

أَتَغْضَبُ أن يُقَالَ: أَبُوكَ عَفُّ ... وَتَرضى أَنْ يُقَالَ: أَبُوكَ زَانِي؟!

فَأَشْهَدُ أَن رَحمَكَ مِن زِيَادِ ... كَرَحْمِ الفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأتانِ

وفي زياد وأخويه لأمه نُفَيع ونافع يقول حارث بن صريم الحارثي: من المنسرح:

إِن زِيَادَاً وَنَافِعاً وَأَبَا ... بَكرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ

إِن رجالا ثَلاَثَة خُلِقُوا ... مِنْ رَحْمِ أُنثَى مُخَالِفي النسَب

ذَا قُرَشي فِيمَا يَقُولُ وذَا ... مَولى وَهَذَا بِالزعم مِن عَرَب

وفي سنة خمس وأربعين: عزل معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي عن البصرة، وولى عليها زياداً، وجمع له خراسان وسجستان، ثم جمع له السند والبحرين وعمان.

وفي البصرة خطب خطبته البتراء، وإنما سميت بتراء؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء.

وفي سنة سبع وأربعين: كان الطاعون بالكوفة، وعليها المغيرة بن شعبة، فهرب منها ثم عاد إليها فمات، فضمها إلى زياد مع البصرة، فهو أول من جمع له ولاية العراقَين: البصرة والكوفة.

وفي سنة ثمان وأربعين قبض معاوية فدك من مروان بن الحكم، وكان وهبها له عثمان، رضي الله عنه.

وفي سنة خمسين: حج معاوية، وأمر بحمل المنبر من المدينة إلى الشام، فكسفت الشمس، ورئيت الكواكب، فجزع لذلك وأعظمه ورده إلى موضعه، وزاد فيه ست مراقٍ.

وبعث جيشاً كثيفَاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف، وندب يزيد ابنه إلى الخروج معهم، فتثاقل فتركه، ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض، فأنشد يزيد: من البسيط:

أَهوِن عَلَي بما لاقَت جموعُهُمُ ... يَومَ الطوانةِ مِن حُمى ومن شُومِ

إِذَا اتَّكَأتُ عَلَى الأنماطِ مُرتَفقاً ... بِدَيرِ مرانَ عِندِي أُمُّ كُلثُومِ

قلت: أم كلثوم زوجته بنت عبد الله بن عامر بن كريز المتقدم ذكر قوله في زياد: لقد هممت أن آتي بقسامة...

فلما بلغ قوله هذا أباه معاوية، حلف ليلحقنهُ بهم، فسار يزيد في جمع كثير جمعه له معاوية، فيهم ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية، وقاتلوا الروم عليها، فاستشهد أبو أيوب الأنصاري، ودفنوه قريباً من سورها، ورجع يزيد والعساكر إلى الشام.

وكان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيراً ما يتعرض لَعِلي في مجالسه وخُطَبِهِ ويترحم على عثمان ويدعو له، وكان حجر بن عَدِي بن حاتم الطائي إذا سمعه يقول: إياكم قد أضل الله ولعن، ثم يقول: أشهد أنَّ مَن تذمون أَحَقُّ بالفَضلِ، وَمَن تُزكونَ أولَى بالذم، فيعذله المغيرة ويقول: يا حجر، اتق غضب السلطان وسَطوته؛ فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك.

ولما كان آخر إمارته، قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول، فصاح به حجر: مُر لنا بأرزاقنا؛ فقد حبستها عنا، وأصبحتَ مولعَاً بذم خَيرِ الناسِ، وصاح الناس به من جوانب المسجد: صدق حجر، فمُر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يُجدي علينا نفعاً. فدخل المغيرة إلى بيته، وعذله قومه في جرأة حجر عليه بوهن سلطانه ويسخط عليه معاوية، فقال المغيرة: لا أحب أن أسعى بقتل أحد من أهل المصر، وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله.

ثم توفي المغيرة، وولى زياد كما تقدم، فلما قدم، خطب الناس وترحَم على عثمان، ولعن قاتله، فقال حجر ما كان يقول، فسكت عنه زياد، ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وبلغه أن حجراً تجتمع عليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص زياد إلى الكوفة حتى دخلها، ثم خطب الناس وحُجرٌ جالس يسمع، فتهدده، وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده. ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة، فبعث صاحب الشرطة شداد بن هيثم الهلالي إليه في جماعة، فسبهم أصحاب حجر، فجمع زياد أهل الكوفة وهددهم، فتبرءوا، فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حُجر، ففعلوا، حتى إذا لم يبق معه إلا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فائتني به طوعاً أو كرهاً. فلما جاء يدعوه، امتنع من الإجابة وحمل عليهم، وأشار عليه أبو القمطرة الكندي بأن يلحق بكندة فيمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر، ثم غشيهم أصحاب زياد، وضرب عمرو بن الحمق الخزاعي فسقط ودخل في دور الأزد فاختفي، وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو القمطرة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس، ولم يأته من كندة إلا قليل.

ثم أرسل زياد وهو على المنبر إلى مدلج وهمدان ليأتوه بحُجر، فلما علم أنهم قصدوه، تسرَب من داره إلى النخع، ونزل على أخي الأشتر، وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع، فأتى الأزد، واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه، فدعا زياد محمد بن الأشعث، وقال: لئن لم تأتني به، لأقطعنك إرباً إرباً. فاستمهله ثلاثة أيام، فأمهله حتى بعث حجر بن عدي إلى محمد بن الأشعث أن يأخذ له أماناً من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد بن الأشعث ومعه جرير بن عبد اللّه، وحجر بن زيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فاستأمنوا له زياداً، فأجابهم، ثم أحضروا حجراً فحبسه.

ثم طلب أصحابه، فخرج عمرو بن الحمق الخزاعي من أصحاب حُجْر شيعة علي إلى الموصل، ومعه رفاعة بن شداد، فاختفى في جبل هنالك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي - ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أم الحكم - فسار إليهما فهرب رفاعة، وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك، فكتب معاوية إلى زياد: إن عمرو بن الحمق طعن عثمان تسع طعنات، وقال حين طعنه: ست للّه تعالى، وثلاث لما في نَفْسِي. فاطعنه يا زياد كذلك تسمع طعنات. فطعن فمات في الأولى والثانية، فكملتْ عليه ميتاً.

ثم جَد زياد في طلب أصحاب حجر، فأتى بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه، وجاء قيس بن عباد الشيباني برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد، وسأله عن علي بن أبي طالب، فأثنى عليه فضربه وحبسه، وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث، ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله، ثم أرسل زياد إلى عبد اللّه بن خليفة الطائب من أصحاب حجر، فتوارى عنه وجاء الشرط فأخذوه، ونادت أخته النوار بقومه فخلصوه، فأخذ زياد عدي بن حاتم، وهو في المسجد، وقال: ائتني بعبد الله بن خليفة الطائي وخبره، فقال له: آتيك بابن عمي تقتله؟! واللّه لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه، فحبسوه، فنكر الناس عليه ذلك وكلموه، وقالوا: تفعل هذا بصاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكبير طيئ؟! فقال زياد: أخرجه علَى أن يخرج ابن عمه عني، فأطلقه وأمر عدي عبد اللّه أن يلحق بجبلي طيئ، فلم يزل هنالك حتى مات. وأتى زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره.

ولما جمع منهم اثنَي عشر في السجن، دعا رؤساء الأرباع، وهم يومئذ عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عروة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد، فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع وأظهر شتم معاوية ودعا إلى حربه، وزعم أن الإمارة لا تصلح إلا في الطالبيين ووثب بالمصر وأخرج العامل، وأظهر عذرَ أبي تراب والترحُمَ عليه.

أقول: نعم، رحمة اللّه عليه ورِضَاهُ، والبراءة من عدوه ومن أهل حربه.

وإن النفر الذين معه وهم رءوس أصحابه على مثل رأيه.

ثم استكثر زياد من الشهود، فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم، وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ.

ثم استدعى زيادُ وائل بنَ حُجر الحضرمي، وكثير بن شهاب، ودفع إليهما حُجْراً وأصحابه، وهم الأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي ابن فضيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوت البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكرام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي - أيضاً - ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوية السعدي، ثم أتبع هؤلاء الاثني عشر بعتبة بن الأخنس بن سعد بن بكر، وسعد ابن عمران الهمداني، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية، ثم لحقهما شريح بن هانئ، وأرسل كتابَاً إلى معاوية دفعه إلى وائل بن حجر الحضرمي.

فلما انتهوا إلى مرج عذراء قرب دمشق، تقدم وائل وكثير إلى معاوية، وقرأ كتاب شريح بن هانئ، وفيه: بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وإني أشهد على حُجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرامُ الدم والمال، فإن شئت فاقتله أو فدعه، فقال معاوية: ما أرى هذا إلاَ أخرج نفسه من شهادتكم، يعني: شريح بن هانئ. وحبس القوم بمرج عذراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس، وسعد بن عمران اللذَينِ ألحقهما بهم زياد،؟ وجاء عامر بن الأسود العجلي إلى معاوية، فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء ابني عمه، وقد كتب جرير يزكيهما، ويشهد ببراءتهما، فأطلقهما معاوية، وشفع وائْل بن حُجر في الأرقم، وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس، وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم، وسأله مالك بن هبيرة في السكوني فردهُ، فغضب وجلس في بيته.

وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي، والحصين بن عبد اللّه الكلابي، وأبا شريف البدي إلى حجر وأصحابه، ليقتلوا منهم من أمر بقتله، فأتوهم وعرضوا عليهم البراءة من عَلِي، فأبوا وصَلوا عامة ليلتهم، ثم قدموا من الغد للقتل، فتوضأ حُجر وصلى وقال: والله لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت، لاستكثرت منها، اللهم إنا نستعديك على أمتنا، أهل الكوفة يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا، ثم مَشَى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد، فقالوا له: كيف وأنت تزعم أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك ونحن ندعك! فقال: وما لي لا أجزع، وأنا بين القبر والكفن والسيف، وإن جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه، وقتلوا خْمسة معه: شريك بن شماد، وصيفي بن فضيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز ابن شهاب، وكرام بن حيان، وصلفوا عليهم ودفنوهم.

وجيء بعبد الرحمن بن حيان العنزي، وكريم الخثعمي إلى معاوية، فوعظه الخثعمي، وطلبه معاوية البراءة من علي، فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعمي، فوهبه له عَلَى ألا يدخل الكوفة، فنزل الموصل، ثم سأل معاوية عبد الرحمن بن حسان عن علي، فأثنى خيراً، ثم عن عثمان، فقال: أول من فتح باب الظلم، وأغلق باب الحق، فرده إلى زياد ليقتله شَر قِتلة، فدفنه زياد حياً، فهو سابع القوم.

وأما مالك بن هبيرة السكوني، فلما لم يشفعه معاوية في حُجر، جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: تاب القوم، وسار إلَى عذراء فتيقن قتلهم، فأرسل في أثر القتلة، فلم يدركوهم، وأخبر معاوية بما فعل مالك، فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه، وكأني بها قد طُفِئَت، ثم بعث إليه بمائة ألف، وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً؛ فتكون على المسلمين أعظم من قتل حجر، فطابتْ نفس مالك. ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلَى معاوية تشفع، فجاء وقد قتلوا، فقال لمعاوية: أين غاب عنك حلم أبي سفيان. قال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت. وأسفت عائشة على قتل حُجر وكانت تُثنِي عليه.

قلت: وحجر هذا هو حجر بن عدي بن حاتم الطائي المشهور بالكرم، وأبوه عدي صحابي رضي اللّه تعالى عنه. وقيل: إن لحُجر ابنِهِ هذا صُحبَة، ولم يصح.

وفي سنة ثلاث وخمسين مات زياد ابن أبيه في رمضان بطاعون أصابه في يمينه خرجت بها قرحة يقال: إنها بدعوة عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ وذلك أن زيادَاً كتب إلى معاوية: إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهداً بذلك، وجمع له الحجاز مع العراقَين، وخاف أهل الحجاز من ذلك.

قال العلامة المسعُودِي: لما سمع بولايته أهل المدينة اجتمع الكبير والصغير بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقدَموا ابن عمر فاستقبل القبلة ودعا معهم، وكان من دعائه أن قال: اللهم، اكفنا يمين زياد، وضَجوا إلى الله تعالى، ولاذوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام؛ لِعلمِهِم بظلمه وجوره وفسقه.

ولما خرجت بكفه تلك البثرة، حكها ثم مدت واسودت، فصارت آكلة سوداء، فاستدعى شريحاً القاضي، واستشاره في قطع يده، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجذم، وإن حم أجلك، أكره أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك: لم قطعتها. قلت: بغضاً لك، وفراراً من قضائك، فقال: لا أبيت والطاعون في لحافِ واحدٍ، واعتزم عَلَى قطعها، فلما نظر إلى النار والمكاوي، جزع وتركه، وقيل: تركه لإشارة شريح القاضي، وعذل الناس شريحاً في تلك الإشارة، فقال لهم: وددت لو أن الله قطع يده يومَا، ورجله يوماً، وسائر جسمه يومَاً يوماً، ولكن المستشار مؤتمن.

وكان زياد قد جمع الناس بباب قصره يعرضهم على لعن علي بن أبي طالب، لعن اللّه اللاعنَ والعارضَ، فمن أبى عرضه على السيف.

وذكر عبد الرحمن بن السائب قال: حضرتُ فصرت إلى الرحبة، ومعي جماعة من الأنصار، فنمت فرأيت في منامي وأنا جالس في جماعة، رأيتُ شخصاً طويلا قد أقبل، فقلت: من هذا؟! قال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر، فقال: انصرفوا، فالأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء في كفه - وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب من أبيات: من البسيط:

مَا كَانَ منتهياً عَما أَرَادَ بنا ... حتى أُتِيحَ لَهُ النقادُ ذو الرَقَبَة

فَأَسقَطَ الشق مِنهُ ضَربَةْ ثَبَتَت ... لَما تَنَاوَلَ ظُلماً صَاحِبَ الرحَبَة

قلت: صاحب الرحبة يريد به علي بن أبي طالب؛ لأنه دفن في رحبة مسجد الكوفة على أحد الأقوال في موضع قبره، وقد ذكرت الاختلاف فيه فيما تقدم - : فهلك وهو ابن خمس وخمسين، ودفن بالثومة من أرض الكوفة، لا رحمه الله.

قال يومَاً لجلسائه: من أنعَم الناس عيشاً. قالوا: أمير المؤمنين، قال: هيهات، فأين ما يَلْقَى من الرعية؟! قالوا: فأنت أيها الأمير، قال: فأين ما يَرِدُ علينا من الثغور والخراج؟ بل أنعمهم عيشاً: من له سداد من عَيْشٍ، وحَظ من دِينٍ، وامرأة حسناءُ رضيها ورضيته، لا يعرفنا ولا نعرفه.

ولما توفي زياد، قدم ابنه عبيد الله على معاوية، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقال له معاوية: من استعمل أبوك على المصرين. فأخبره، فقال معاوية: لو استعملك أبوك لاستعملتك، فقال له عبيد الله: أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك: لو استعملك أبوك لاستعملتك، فولاه خراسان من البصرة سنة خمس وخمسين، ووصاه فكان من وصيته: اتق اللّه، ولا تؤثرن على تقواه شيئاً؛ فإن في تقواه عوضاً، وَقِ عرضك من أن تذله، وإذا أعطيت عهداً، فأوف به، ولا تتبعن كثيراً بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك. وإذا لقيت عدوك فكبر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب اللّه، ولا تطُمعنَّ أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق هو له، ثم ودَعه وسار، وذلك في أول سنة أربع وخمسين من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية.

ذكر أن معاوية تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان - رضي اللّه تعالى عنه - وأسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي اللّه عنه - في أرض، فقال عمرو لأسامة: كأنك تنكرني؟! فقال له أسامة: ما يسرني نسبك بولائي، فقام مروان بن الحكم، فجلس إلى جانب عمرو بن عثمان، فقام الحسن بن علي بن أبي طالب، فجلس إلى جنب أسامة، فقام سعيد بن العاص، فجلس إلى جنب مروان، فقام الحسين بن علي، فجلس إلى جنب الحسن، فقام عبد اللّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس، فجلس إلى جنب سعيد بن العاص، فقام عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فجلس إلى جنب الحسين، فقام عبد الرحمن بن الحكم، فجلس إلى جنب عبد اللّه بن عامر، فقام عبد اللّه ابن العباس، فجلس إلى جنب عبد الله بن جعفر.

فلما رأى ذلك معاوية قال: لا تعجلوا أنا كنت شاهداً: إذ أقطعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقام الهاشميون فخرجوا ظاهرين، وأقبل عليه الأمويون، وقالوا: هلا كنت أصلحت بيننا؟! قال: دعوني، فو اللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي، وإن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى، ثم تمثل بأبيات عمرو بن معدي كرب: من الكامل:

أَلحَربُ أَولُ مَا تَكُونُ فَتية...............

وقد تقدم ذكرها في آخر خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه.

ثم قال: ما في القلوب يشب الحروب، والأمر الكبير، يبعثه الأمر الصغير.

ومما ذكره المسعودي قوله: ضحك معاوية ذات يوم ضحكاً ذهب به كل مذهب، فقال عمرو بن العاص: لم تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك اللّه سنك؟ فقال معاوية: أضحك من تغور ذهنك يوم بارزت علياً وابدائك سوءتك، أما واللّه يا عمرو، لقد واقعت المنايا، ورأيت الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبي ابنُ أبي طالب في أمرك إلا تكرماً. فقال عمرو: أما والله، إني لعَن يمينك حين دعاك للبرازِ، فاحولت عيناك، وبدا سحرك، وبدا منك ما أكره ذكره؛ فمن نفسك فاضحك أو فدع.

دخل عبد اللّه بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش، فقال له معاوية إني سائلك عن مسائل، قال ابن عباس: سل عما بدا لك، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم اللّه أبا بكر، كان والله للفقراء رحيماً، وللقرآن تالياً، وعن المنكر ناهياً، وبربه عارفاً، ومن اللّه خائفاً، وعن الشبهاتِ زاجرَاً، وبالمعروف آمراً، وبالليل مصلياً، وبالنهار صائماً، ففاق أصحابه ورعَاً وكفافَاً، وسادهم زهداً وعفافاً، فغضب الله على مَن تنقصه أو طعن فيه.

قال: ما تقول في عمر؟ قال: رحم الله عمر أبا حفص، كان والله كهف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومثنى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الصفاء، قام بحق اللّه صابراً محتسباً، حتى أوضح الدين وفتح البلاد، وأمنَ العباد، فأعقب اللّه من يبغضه اللعنة إلى يوم القيامة.

قال فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم اللّه عثمان، كان واللّه أكرمَ الخَفَرَة، وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً إلى كل مكرمة، سباقَاً إلى كل مُنجِيَةِ، حَيِياً وفياً، صاحب جيش العسرة، وختَنَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فأعقب اللّه من طعن عليه لعنة اللاعنين إلى يوم القيامة.

قال: فما تقول في عَلِي بن أبي طالب: قال: رحم الله علياً، كان واللّه علم الهدى، وكهف التقى، وبدر الحجى، وبحر الندى، وطود النهى، وكهف الورى، داعياً إلى الحجة العظمى، مستمسكاً بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأحب من انتعل وسعى، وأفصح من تنصت وقراً، وأكبر من شهد النجوى، سرى الأنبياء، والنبي المصطفَى، صاحب القبلتين، فهل يوازيه أحد، وأبو السبطين، فهل يقاربه بشر، زوجته خير النسوان، فهو بفرقه فاضل، وهو للأسود قتال، وفي الحروب يختال، لم تر عيني مثله، فعلى من تَنَقصَهُ لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.

قال معاوية: يا بن عباس، قد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس؟ فقال: رحم اللّه أبا الفضل، كان صنو نبي اللّه، وقرة عين صفي اللّه، سيد الأعمام، وله أخلاق آبائه الأمجاد، وأحلام أجداده الأجواد، تباعدت الأسباب عند فضله، صاحب البيت والسقاية، والمشاعِرِ والتلاوة، ولم لا يكون كذلك، وهو يشابه أكرم من دَب وهَب، عبد المطلب.

فقال معاوية: يا بن عباس، أشهد أنك نَبِيْهُ أهل بيتك، قال ابن عباس: ولم لا أكون كذلك، وقد قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " .

وروى عن ابن عباس أنه قال: أتيت معاوية، وقد قعد على سريره وجميع أصحابه ووفود العرب عنده، فدخلْتُ وسلمت وقعدت، فقال معاوية: مَنِ الناسُ يا بن عباس؟ فقلت: نحن قال: فإذا غبتم. قلت: فلا أحد، قال: ترى أني قعدت هذا المقعد بكم. قلت: نعم، فبمن قعدت. قال: بمن كان مثل حرب بن أمية، قلت: من أكفأ عليه إناءه، وأجاره بردائه قال: فغضب، وقال: وارِ شخصك عني شهراً، فقد أمرتُ لك بصلتك وأضعفتها لك، فلما خرجت قلت لخاصته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ قالوا: بلى، فقل بفضلك قال: إن أباه حرباً لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم، إلا لم يتقدم على حرب أحد حتى يجوزه أولا، فالتقى حرب مع رجل من بني تميم في عقبة، فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه التميمي، وجاز قبله، فقال حرب: موعدك مكة، فبقى التميمي دهراً، ثم أراد دخول مكة، فقال: من يجيرني مِنْ حرب بن أمية، فقالوا له: عبد المطلب، فقال التميمي: عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير علي حرب، فأتى ليلا دار الزبير بن عبد المطلب، فدق عليه الباب، فقال الزبير لأخيه الغيداق: قد جاءنا رجل إما طالبُ حاجة، وإما طالبُ قِرى، وإما مستجير، وقد أعطيناه ما أراد، فخرج إليه الزبير، فقال منشدَاً: من الكامل:

لاقَيْتُ حَرْبَاً في الثنِيةِ مُقْبِلاَ ... والصُبْحُ أبلَجُ ضَوْءُهُ للسارِي

فدَعا بصَوتٍ واكْتَنَى لِيَرُوعَنِي ... وَدَعَا بِدَعوَتِهِ يُرِيدُ فَخَارِي

فتركْتُهُ كالكَلْبِ يَنْبَحُ وَحدهُ ... وأتيتُ أَهْلَ معالِمٍ وفَخَارِ

ليثاً هِزَبْراً يُسْتَجَارُ بقُربِهِ ... رَحْبَ المَبَاءَةِ مُكرِماً للجَارِ

وَلَقَدْ حَلَفْتُ بمكَةٍ وبِزمزمٍ ... والبيتِ ذي الأحجَارِ والأستارِ

إِن الزبيرَ لَمَانِعِي مِن خَوْفِهِ ... ما كَبرَ الحُجاجُ في الأَمصَارِ

فقال الزبير: تقدم، فإنا لا نتقدَم من نجيره، فتقدم التميمي، فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف، فعدا حتى دخل دار عبد المطلب، فقال: أجرني من الزبير، فأكفأَ عليه جفنةّ كان أبوه هاشم يطعم فيها الناس، فبقى تحتها ساعة، ثم قال له: اخرج، فقال: كيف أخرج وسبعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه عبد المطلب رداءَ كان كَساهُ إياه سيفُ ذو يزن لما قَدِمَ عليه، له طرتان خضراوان، فخرج عليهم به فعلموا أنه قد أجاره، فتفرقوا عنه.

وحضر مرة مجلس معاوية هو وعمرو بن العاص، فأقبل عبد الله بن جعفر، فلما نظر إليه ابن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني، والمطربات بالتغني، يحب القيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، صروف عن السنان، ظاهر الطيش، لين العيش، أخاذ بالسيف، منفاق بالسرف. فقال ابن عباس: كذبت والله أنتَ! وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، ماجد لهيم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، ولا فحاش عياب، حل من قريش في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس يدعى لدعي، ولا يدنى لدني؛ كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب عليه جزارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، ينوء منها بالذليل، ويأوي منها إلى القليل، مذبذب بين الحيين، كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم عرفوه، ولا الظاعن عنهم فقدوه، فليت شعري بأي قدم تتعرض للرجال، وبأي حسب تبارز عند النضال، أبنفسك فأنت الوغد الزنيم، أم بمن تنتمي إليه فأهل السفه والطيش، والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا بقديم في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك، وتنطق بالزور، بغير أركانك، واللّه لكان أبين للفضل، وأظهر للعدل، أن ينزلك معاوية منزلة العبد الحقيق، فإنه طالما أسلس دلوك، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى.

فقال عبد الله بن جعفر لابن عباس: أقسمت عليك لَمَا أَمسَكت؛ فإنك عني ناضلت، ولي فاوضت، فقال ابن عباس: دعني والعبد؛ فإنه قد كان يهدر خالياً إذ لا يجد رامياً، قد أتيح له ضيغم شرس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس. فقال ابن العاص لمعاوية: دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه، فواللّه ما ترك شيئاً. فقال ابن عباس: دعه فلا يبقى المبقى إلا على نفسه، فواللّه، إن قلبي لشديد، وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة؛ كما قال نابغة بني ذبيان: من الوافر:

وَقَبلَكَ مَا قَذَعتُ وقَاذَعُونِي ... فَمَا نزر الكَلاَمُ وَمَا شَجَانِي

يَصُد الشاعِرُ العَرافُ عَني ... صُدودَ البَكْرِ عَنْ قَدَمِ هجَانِ

ولما بلغ غانمة بنت غانم القرشية سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم، قالت لأهل مكة: أيها الناس، إن قريشاً سادَت فجادت، وملكَت فملكَتْ، وفضلت ففضلت، واصطفيت فاصطفت، ليس فيها كدر عيب، ولا أفن ريب، ولا حسروا طاغين، ولا جادوا نادمين، ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، إن بني هاشم أطول الناس باعاً، وأمجد الناس أصلا، وأوسع الناس حلماً، وأكثر الناس عطاء، منا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر: من الكامل:

كَانَت قُرَيش بَيضَة فتفلقَت ... فَالمُحُ خَالِصُهَا لِعَندِ منافِ

وولده هاشم الذي هَشَمَ الثريد لقومه؛ وفيه يقول الشاعر: من الكامل:

عَمرُو الَّذِي هَشَمَ الثرِيدَ لقَومِهِ ... ورجالُ مَكةَ مسنِتُونَ عِجَافُ

ثم منا عبد المطلب الذي سُقِينَا به الغيث، وفيه يقول الشاعر: من الكامل:

ونحن سنى المحل قام شفيعنا ... بِمَكة يدعو والمياه تغور

وابنه أبو طالب عظيم قريش، وفيه يقول الشاعر: من الكامل:

أنبِئتُهُ مَلكاً فَقَامَ بحَاجَتِي ... وَترى العُلَيجَ خَاسِئاً مَذمُوما

ومنا العباس بن عبد المطلب، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه ماله؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:

رَديفُ رَسُولِ اللّه لم أَرَ مثلَهُ ... ولا مِثلُهُ حَتى القيَامَةِ يُوجَد

ومنا حمزة سيد الشهداء؛ وفيه يقول الشاعر: من الوافر:

أَبَا يَعلَى لَكَ الأركَانُ هدت ... وأَنتَ الماجدُ البَرُ الوَصُولُ

ومنا جعفر ذو الجناحَين، أحسن الناس حسباً، وأتمهم كمالاَ، ليس بغدار ولا ختال، بدله الله تعالى بكل يد جناحاً يطير بهما في الجنة؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:

فَهاتُوا محاكي جَعفَرٍ وَعَلينَا ... أَلسنَا أَعَزَّ الناسِ عِندَ الحقائِقِ؟!

ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفرس بني هاشم، وأكرم من احتفى وانتعل بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفيه يقول الشاعر: من الطويل:

وَهَذَا عَلي سَيدُ الناسِ فَاثقُوا ... علياً بِإسلاَمٍ تَقَدمَ مِن قَبل

ومنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة؛ وفيه يقول الشاعر: من الوافر:

وَمَن يَكُ جَدهُ حَقاً نَبِياً ... فَإِن لَهُ الفَضِيلَةَ في الأَنامِ

ومنا الحسين بن علي حمله جبريل على عاتقه، وكفى بذلك فخرَاً؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:

نَفى عَنْهُ عَيْبَ الآدَمِيينَ رَبُهُ ... وَمَنْ جَدُهُ جَد الحُسَيْنِ المُطَهَّرُ

ثم قالت: يا معشر قريش، واللّه ما معاوية بأمير المؤمنين، ولا هو كما يزعم، هو واللّه شانئ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإني آتية معاوية، وقائلة له ما يعرق منه جبينه، ويكون منه أنينه.

فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغ معاوية أن غانمة قربت منه، أمر بدار ضيافة، فنظفت، وألقى فيها فرش، فلما دنت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة، نزلت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى ضيافته، وكانت لا تعرف يزيد، فقالت: من أنت كلأك اللّه؟ قال: يزيد بن معاوية، قالت: فلا رعاك اللّه يا ناقص لست بزائد، فتمعَّر لون يزيد، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسن قريش، وأعظمهم حالا، قال يزيد: كم تعدُّ لها يا أمير المؤمنين. قال: كانت تعد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أربعمائة عام، وهي بقية الكرام.

فلما كان من الغد، أتاها معاوية فسلم عليها، فقالت: على أمير المؤمنين السلام، وعلى الكافرين الهوان، ثم قالت: مَنْ منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذَا، فقالت له: رأيتك تسب قريشاً وبني هاشم، وأنت أهل السب، وفيك السب، وإليك يعود السبُّ، يا عمرو، إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك، وإني أذكر لك ذلك عيبَاً عيباً: وُلدْتَ من أمة سوداء مجنونة حمقاء، تبول من قيام، وتعولها اللئام، إذا لامسها الفحل، كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلا، وأما أنت فقد رأيتك غاويَاً غير راشد، ومفسداً غير مصلح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك، فما غرت ولا أنكرت، وأما أنت يا معاوية، فما كنت في خير ولا رُبيتَ في نعمة، فما لك وبني هاشم؟! أنساء أمية كنسائهم، أم أعطى أمية في الجاهلية والإسلام ما أعطى هاشم؟ فكفي فخراً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال معاوية: أيتها الكبيرة، أنا كاف عن هاشم، قالت: فإني أكتب عليك عهداً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات، فأجعلُ تلك الدعوات كلها فيك، فخاف معاوية، وحلف لها ألا يسب بني هاشم أبدَاً.

فهذا آخر ما كان من أمرها معه.

قيل: قال رجل من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط، فقال بعضهم: إن ذكرت أمه، غضب، فقال مالك ابن أسماء القرشي؛ أنا أغضبه إن جعلتم لي جُعْلا، ففعلوا فأتاه في الموسم فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عينيك لتشبهان عينَي أمك، قال: نعم، كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان، ثم دعا معاوية مولاه شقران، فقال له: أعدد لأسماء دية ابنها، فإني قد قتلته. وهو لا يدري، فرجع وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمرو بن الزبير، فقلت له مثل ما قلت لمعاوية، أعطيناك كذا وكذا، فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات، فبلغ معاوية موته، فقال: أنا واللّه قتلته، وبعث إلى أمه بتلك الدية التي أعدها، وأنشأ يقول: من الطويل:

أَلاَ قُلْ لأَسْمَاءِ المُنى أُم مَالِكٍ ... فَإِني لَعَمْرُ اللّه أَهْلَكْتُ مَالِكَا

وقيل لشريك القاضي؛ إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا واللّه لو كان حليماً، لما سفه الحق وقاتل عَلِياً، عليه السلام.

ولما مات سعيد بن العاص، وفد ابنه عمرو على معاوية، فاستنطقه، فقال: إن أول كل مركب صعب، وإن مع أمس غداً، فقال له معاوية: من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنه أوصى إليَ، ولم يُوصِ بي، فقال معاوية: إن ابن سمية هذا لأشدق، فُسمي عمرو الأشدق من ذلك اليوم.

ودخل مالك بن هبيرة السلولي على معاوية، وكان شيخاً كبيرَاً، فأجلسه فحرك رجله فمدها فقال له معاوية: ليت لنا جارية لها مثل ساقيك، فقال متصلا: وبمثل عجيزتك يا أمير المؤمنين، فخجل معاوية، وقال: واحدة بواحدة.

ودخل عليه شريك بن الأعور، فقال له معاوية: أنت شريك، وما لله من شريك، وابن الأعور، والصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم، والوسيم خير من الدميم، فبم سَودَكَ قومك؟ فقال له شريك: إنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعويت، فسميت معاوية، وإنك ابن حرب، والسلم خير من الحرب، وإنك ابن صخر، والسهل خير من الصخر، وإنك ابن أمية، وما أمية إلا أمة صغرت، فبم صرت أمير المؤمنين؟ فقال له معاوية: أقسمت عليك إلا خرجت عني، فخرج وهو يقول: من الوافر:

أَيَشْتُمُنِي مُعَاوِيَةُ بنُ حَربِ ... وَسَيفي صَارِم ومَعِي لسانِي

وَحَولِي مِنْ ذَوِي يَمَنٍ لُيُوث ... ضراغمة تَهَشُ إلى الطعانِ

وقال: أربيت على علي في أربع خصال: كان رجلا سره علنه، وكنت كتوماً لأمري، وكان لا يسعى حتى يفجأه الأمر، وكنت أبادر ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم ختلا، وكنت في أطوع جند، وكنت أحب منه إلى قريش، فثاب إلي ما شئت من جائح، وتفرق عنه.

ودخل يوماً على امرأته ميسون بنت بحدل أم يزيد ومعه خَصي، فاستترت منه، فقال: لم ذلك، وإنما هو بمنزلة امرأة؟! فقالت: كأنك ترى أن مُثلَتَكَ به تحلل ما حرم اللّه عليه مِني.

وروى أن عدي بن حاتم دخل على معاوية، فقال له معاوية: يا عدي، أين الطرفات؟ يعني بنيه طارفاً وطريفاً وطرفةَ، قال: قتلوا يوم صفين بين يدَي علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - فقال معاوية: ما أنصفك ابن أبي طالب؛ إذ قدم بنيك وأخر بنيه، فقال عدي: بل ما أنصفت أنا علياً: إذ قُتِلَ وبقيتُ.

قيل: قال عمرو بن العاص لمعاوية يا أمير المؤمنين، ما بقي من شبابك وتلذذك؟ قال: والله، ما بقى شيء يصيبه الناس من الدنيا إلا وقد أصبته أما النساء، فلا أرب لي فيهن ولا لهن، وأما الطيب، فقد شممته حتى ما أبالي به، وأما الطعام، فقد طعمت الحلو والحامض حتى لا أجد فرق ما بينهما، وأما الثياب، فقد لبست من لينها وجيدها حتى ما أبالي ما ألبس، فما شيء ألذ عندي من شربة ماء بارد في يوم صائف، ونظري إلى بني وبني بني يدرجون حولي، فأنت يا عمرو، ما بقي من لذتك؟ قال: أرض أغرسها وآَكل من ثمرتها وأنتفع بغلتها.

ثم التفت معاوية إلى وردان مولى عمرو بن العاص، فقال: يا وردان، ما بقي من لذتك؟ قال: صنائع كريمة أعقدها في أعناق الرجال لا يكافئوني عليها تكون لأعقابي من بعدي، فقال معاوية: تَباً لهذا المجلس؛ يغلبنا عليه هذا العبد.

وعلى هذا الذكر، قال قتيبة بن مسلم لوكيع بن الأسود: ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.

وقيل لحصين بن المنذر ما السرور؟ قال: مرأة حسناء، في دار قوراء، وفرس بالفناء. وقيل لبعضهم: أي الأمور أمتع؟ قال: الأماني، فليس سرور النفس بالجدة؛ إنما سرورها بالأمل والمنى؛ وأنشد: من البسيط:

إِذَا تَمَنيتُ بت الليلَ مُغتَبِطاً ... إِن المنَى رَأسُ أَمْوَالِ المَفَالِيسِ

لَولاَ المُنَى متَ مِن هَم ومِن جَزعَ ... إذا تذكرتُ ما في داخلِ الكِيسِ

وقيل لعبد اللّه بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، وحط الأعداء.

وقال بعضهم: السرور توقيع نافذ، وأمر جائز.

وقيل لطرفة بن العبد: ما السرور؟ فقال: مطعم شهي، ومركب وطي، وملبس دفي.

وقيل للأعشى: ما السرور؟ فقال صهباء صافية، تمزجها غانية، بصوب غادية.

وقيل لمعن: ما السرور؟ فقال: مجلس يقل هذره، وعود يصفو وتره، وعقول تفهم ما أقول.

وقيل لمظلوم: ما السرور؟ فقال: كفاية ووطن، وسلامة وسكن.

وقيل لبعض العرب: ما السرور؟ فقال بنون أغيظ بهم عداتي، ولا تقرع معهم صفاتي.

وقيل لفتاة: ما السرور؟ فقالت: زوج يملأ قلبي جلالاَ، وعيني جمالا، وفنائي جِمالا.

وقيل لطفيلي: ما السرور؟ فقال: ندامى تسكن صدورهم، وتغلي قدورهم، ولا تغلق دورهم.

وقيل لقانص: ما السرور؟ فقال: قسي مأطورة، وشرعة مشرورة، ونبال مطرورة.

وقال الشاعر: من الخفيف:

أَطْيَبُ الأطيباتِ قَتْلُ الأَعادِي ... واخْتيَال عَلى مُتُونِ الجيَادِ

وَأَيادٍ تَحْبُو بِهِن كَرِيماً ... إِن عندَ الكَريمِ تزكُو الأَيَادِي

وَرَسول يَأْتِي بِوَعْدِ حَبِيب ... وَحَبِيباً يَأتِي بِلاَ مِيعَادِ

وقال الآخر: من الخفيف:

أَطْيَبُ الأَطيَبَاتِ أَمْر وَنهي ... لا يُرَدَّانِ في الأمورِ الجِسَامِ

وامتطاءُ الخُيُولِ في كَنَفِ الأَم ... ن بِغَيْرِ الإِقدامِ والإِحجامِ

وَسماع الصَهِيلِ في لجبِ المَو ... كبِ تحتَ اللوَاءِ والأعلامِ

وقال الآخر: من الخفيف:

أَطيبُ الأطيباتِ طيبُ الزمانِ ... وندامَى المُنَعمَاتِ الغَوانِي

واحتساءُ العُقارِ في غُرَةِ الصُّبْا ... حِ على شَدْوِ مَاهِرَاتِ القِيَان

وَأَمَان مِن الهُمُومِ وَمَالْ ... لَيْسَ يُفْنِيهِ نَائِبُ الحَدَثَانِ

ولقد خرج بنا الاستطراد، إلى غير المراد، فنعود فنقول: وقدم زياد ابن أبيه على معاوية، فلما طال به المجلس، حدثه بحديث، فقال له معاوية: كذبت، فقال زياد: مهلاَ يا أمير المؤمنين، فواللّه، ما حللت للكلام حبوة إلا على بيعة الصدق، ولم أكذب، وحياة الكذب عندي موت المروءة، فاستحياه معاوية، وقال: يغفر اللّه لك يا أخي، فكأني أرى بك حرب بن أمية؛ في جميل شيمه وكرم أخلاقه.

وحكى عن معاوية؛ أنه قعد للناس في يوم عيد، ووضعت الموائد وبدر الدراهم للجوائز والصلات، فجاء رجل فقعد على كيس دنانير، والناس يأكلون، فصاح به الخدم: تنحَ، فليس لك هذا بموضع، فقال معاوية: دعوا الرجُلَ يجلس حيث أحبَّ، فأخذ الكيس وقام، فلم يجسر أحد أن يدنو منه، فقال الخدم: إنه قد نقص من المال كيس، فقال معاوية: أنا صاحبه، وهو محسوب لكم.

ويحكي عن معاوية بينما هو يسير وشرحبيل بن السمراء يسايره؛ إذ راثَتْ فرس شرحبيل، فساءه ذلك، فقال معاوية: يا أبا يزيد، إنه يقال: إن الهامة إذا عظمتْ، دلتْ على وفور الدماغ وصحة العقل، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إلا هامتي؛ فإنها عظيمة وعقلي ضعيف ناقص، فتبسم معاوية، وقال: كيف ذاك، لله أنت؟ قال: لإعلافي دابتي مكوكين من شعير؛ فتبسم معاوية أيضاً، وحمله على فرس من مراكبه.

قال صاحب كتاب المحاسن والمساوئ: قيل لمعاوية: من رأيت شر الناس. فقال: علقمة بن وائل الحضرمي؛ قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أنطلق به إلى رجل من الأنصار أنزله عليه، فانطلقت معه وهو على ناقته وأنا أمشي في ساعة شديدة الحر وليس برجلي حذاء، فقلت: احملني يا عم، من هذا الحر؛ فإنه ليس على حذاء، قال: لست من أرداف الملوك، قلت: أنا معاوية بن أبي سفيان، قال: قد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فقلت: ألق إلي نعليك، قال: لا تقلهما قدماك، ولكن امش في ظل ناقتي، وكفاك بذلك شرفاً، وإن الظل لك كثير.

قال معاوية: فما مرَ بي مثل ذلك اليوم، ثم أدرك سلطاني فلم أؤاخذه بذلك؛ بل أجلسته على سريري هذا وقضيت حوائجه. انتهى.

كان صعصعة بن صوحان، وأخوه زيد، وقيل: يزيد بن صوحان، وكلاهما من شيعة علي من الفصحاء البلغاء، دخل صعصعة على معاوية، فسأله: ما السؤدد فيكم؟ قال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النوال، وكف النفس عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن يكون الناس عندك شرعاً، ثم قال: ما المروءة والسيادة؟ قال: أخوان اجتمعا، فإن لقيا قهراً وإن كان بينهما قليل، وصاحبهما جليل، محتاجان إلى صيانة ونزاهة ودماثة وفراهة، قال: فهل تحفظ في ذلك شيئاً. قال: نعم، أما سمعت قول مرة بنِ ذهل الشيباني حيث يقول: من الكامل:

إن السيَادَةَ والمُرُوءَةَ علقَا ... حَيْثُ السمَاكُ من السماءِ الأعزلُ

وَإذَا تَقابلَ يجريانِ لغايةِ ... عَثَرَ الهَجِينُ وأَسلَمَتهُ الأَرجُلُ

ونجَا الصريحُ مع الغِيَاثِ مُعَوداً ... قربَ الجيادِ ولم يجِئْهُ الأَفكلُ

قال معاوية: لو أن رجلا ضرب آَباط الإبل شرقاً وغرباً لفائدة هذه الأبيات ما عنفته.

ثم قال له: فمن الحليم؟ قال: من ملك غضبه، فلم يعجل، وأوحى إليه بحق أو باطل، فلم يقبل، ذلك الحليم يا معاوية.

ثم قال له: فمن الفارس فيكم الشجاع، حد لي فيه حَداً أسمعه منك، فإنك تضع الأشياء مواضعها يا بن صوحان. قال: الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم عن أمله بضرسه، وكانت الحرب عليه يومه أهون من أمسه، ذلك الفارس إذا أوقدت الحرب، واشتد بالأنفس الكرب، وتداعوا للنزال، وتسارعوا للقتال، وتخالسوا المهَج، واقتحموا بالسيوف اللجج. قال معاوية: زدني. قال: نعم الفارس كثير الحذر، يردد النظر، يلتفت بقلبه، ولا يدير خرزات صلبه. قال: أحسنت يا بن صوحان، فهل في مثل هذه الصفة من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جناب الكلبي قوله: من الخفيف:

فَارس يَكلأُ الصحَابَة مِنهُ ... بِحُسَام يمر مَر الحَرِيقِ

لاَ تَرَاهُ يَومَ الوَغَى في مَجَال ... يغفِلُ الضربَ لاَ وَلاَ في المَضِيقِ

مَن يَرَاهُ يَخَلهُ في الحربِ يَومَاً ... أنه تَائه مُضِل الطرِيقِ

فقال له معاوية: أحسنت كل الحسُن يا بن صوحان.

ومن حسن سياسات معاوية أن رجلا من أهل الكوفة قدم دمشق على بعير له بعد منصرفهم من صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق، وقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فرفع أمرهما إلى معاوية، فأقام الدمشقي خمسين رجلا يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم الناقة، فقال الكوفي: أصلحك الله إنما هو جمل، وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم مضى، ودس إلى الكوفي من أحضره إليه، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعف ثمنه، وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.

ولقد بلغ من طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيره إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وجملوه بها، هكذا ذكره المسعودي في مروجه.

ثم انتهى بهم الحال إلى أن جعلوا لَعنَ علي - رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه - سُنَة ينشأ عليها صغيرهم، ويهلك عليها كبيرهم.

أقول: انظر إلى هذا النقل من المسعودي هل يخرج إلا من قلب مبغض، ويدخل إلا في أذن مبغض؟ سيما صلاته بهم الجمعة يوم الأربعاء، أي معنى فيه له؟! هب أن ما عداه على تقدير صحته له غرض فيه، وأما نسبة الصلاة، فليس القصد بها إلا نسبته إلى الاستخفاف بالدين، والتلاعب بعماده التي هي أعظَمُ ركنِهِ المكين، وقد علمت أن المسعودي هو من هو، وإذا كان اعتقادهم في الشيخين - وحاشاهما - ارتدادهما وهما من هما، فما ظنك بسواهما؟ وذكر بعض الإخباري أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر. فقال الشامي: أراه إما لِصُّاً من لصوص القين، أو من قطاع الطريق.

وحكى الجاحظ أنه قال لرجل من أهل الشام وهو يريد الحج، وقد ذكر له البيت الشريف: يا أخي إذا أتيته فمن يكفني منه.

وقال - أيضاً - : إنه أخبره صديق له أنه قال له رجل وقد سمعه يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم: ما تقول في محمد هذا، أرينَا هو؟ وذكر ثمامة بن أشرس قال: كنت ماراً بالسوق ببغداد، فإذا رجل يبيع كحلا ويصفه أنه ينجح لكل داء في العين، فنظرت إلى عينيه، فإذا واحدة برشاء، والأخرى موكوسة، فقلت له في ذلك فقال: أو هاهنا اشتكيت عيني يا أبله؟ إنما اشتكيتها بمصر، فقال أصحابه: صدق صدق.

قال المسعودي وذكر لي بعض إخواني من أهل العلم قال: كنا نقعد، فنتذاكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من الناس منهم ينظرون إلينا فقال لي بعضهم، وكان أظرفهم وأعقلهم وأكبرهم لحية: كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان؟ فقلت له: وما تقول أنت في ذلك؟ فقال: من تريد؟ قلت: علي. ما تقول فيه؟ قال: أليس هو أبا فاطمة؟ قلت: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عائشة أخت معاوية، قلت: فما كان من قصة علي. قال: قتل في غزاة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الطيوريات عن سليمان المخزومي، قال: أذن معاوية للناس إذناً عامُّاً، فلما احتفل المجلس قال: أنشدوني ثلاثة أبيات لرجل من العرب، كل بيت منها قائم بمعناه، فسكتوا، ثم طلع عبد اللّه بن الزبير - رضي اللّه تعالى عنهما - فقال معاوية: هذا مِقْوَلُ العرب، وعلامتها أبو خبيب، فقال: مهيَم، قال معاوية: أنشدني ثلاثة أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه، قال بثلاثمائة ألف، قال: أو تساوي؟ قال: أنت بالخيار فأنت واف كاف، قال: هات، فأنشده للأفوه الأودي: من الوافر:

بَلَوْتُ الناسَ قرناً بعد قَرْنٍ ... فَلَم أَرَ غَيْرَ ختال وَقَالِي

فقال معاوية: صدقت، هيه، فقال: من الوافر:

وَذُقْتُ مَرَارَة الأَشْيَاءِ طُراً ... فَمَا طَعْم أَمَر مِنَ السؤَالِ

قال: صدقت، هيه، فقال: من الوافر:

وَلَمْ أَرَ في الخُطُوبِ أَشَد وقعاً ... وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرجَالِ

قال معاوية: صدقت، ثم أمر له بثلاثمائة ألف.

قال العلامة الدميري في حياة الحيوان الكبرى: لما تزوَج معاوية ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية، واتصلت به، وكانت ذاتَ جمالِ باهرٍ وحسن غامرٍ، أعجب بها معاوية وهيأ لها قصرَاً مشرفاً على الغوطة، وزينه بأنواع الزخارف، ووضع فيه من الأواني الفضة والذهب ما يضاهيه، ونقل إليه من الديباج الرومي الملون والفرش ما هو لائق به، ثم أسكنها مع وصائف لها؛ كأمثال الحور العين، فلبست يوماً أفخر ثيابها وتطيبتْ وتزينَتْ بما أعدَ لها من الحلي والجواهر التي لا يوجد مثلها، ثم جلست في روشنها وحولها الوصائف ونظرَتْ إلى الغوطة وأشجارها وأنهارها، وتجاوب الطير في أوكارها، واشتمَّتِ الأزهارَ والرياحينَ والنُوَّارَ، فتذكرت نجداً، وحنَّتْ إلى أترابها وأناسها، وذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت، فقال لها بعض حظاياها: ما يبكيك، وأنت في ملك يضاهي ملك بلقيس؟! فتنفست الصعداء، ثم أنشدت: من الوافر:

لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَب إِلَيَ مِنْ قصرٍ مُنِيفِ

وَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَر عيني ... أَحَب إِلَيَ مِنْ لبسِ الشُّفوفِ

وأَكل كسيرةٍ في ظل بيتي ... أحبُّ إِلَيَ مِنْ أكلِ الرَّغيفِ

وأصواتُ الرياحِ بكل فج ... أحبُّ إليَ مِنْ نقرِ الدُفوفِ

وكَلْبٌ ينبحُ الطُرَاقَ دوني ... أَحَب إلَيَ مِنْ قِط أَلُوفِ

وَبَكْرٌ يتبعُ الأظعَانَ صَعْب ... أَحب إلَيَ مِنْ بَعْلٍ زَفُوفِ

وخرق مِنْ بني عَمي نَحِيف ... أَحَب إِلَيَ مِنْ عِلْجٍ عَنُوفِ

فلما دخل معاوية، عرفته الحظية بما قالت، وقيل: إنه سمعها وهي تنشد ذلك، فقال: ما رضيتْ بنت بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً، هي طالق ثلاثاً، مروها فلتأخذ جميع ما في القصر، فهو لها، ثم سيرها إلى أهلها بنجد، وكانت إذ ذاك حاملاَ بيزيد، فولدته بالبادية، وأرضعته سنتين، وليتها لم تلد ولم ترضع!! ثم أخذه معاوية منها بعد ذلك.

وذكر العلامة أبو القاسم الحريري في درة الغواص أن عبيد بن شرية الجرهمي عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام، فأسلم ودخل على معاوية بالشام، وهو خليفة، فقال له معاوية: حدثني بأعجب ما رأيت؟ فقال: مررت بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليه، اغرورقت عيناي بالدموع؛ فتمثلت بقول الشاعر: من البسيط:

يَا قَلبُ إنكَ من أسماءَ مغرورُ ... فاذكُر ولَن ينفَعَنكَ اليَومَ تذكيرُ

قَد بحتَ بالحُب ما تُخفِيهِ مِن أَحَدِ ... حَتى جَرَت لَكَ أطلاَقٌ مَحَاضِيرُ

فَلستَ تَدرِي وَمَا تَدرِي أَعَاجِلُهَا ... أدنَى لِرُشدِكَ ذَا أَم فِيهِ تَأخِيرُ؟!

فَاستقدِرِ الله خَيراً وارضَيَن به ... فَبَينَمَا العُسر إذ دَارَت مياسيرُ

وبينما المرءُ في الأحيَاءِ مغتبط ... إذ قَد هَوَى الرمسَ تَعفُوهُ الأعَاصِيرُ

يَبكِي الغَرِيبُ عَلَيهِ لَيسَ يَعرِفُهُ ... وَذُو قَرَابَتِهِ في الحَي مَسرُورُ

فقال لي شخص: أتعرفُ مَن يقول هذه الأبيات؟ قلت: لا واللّه، إلا أني أرويها منذ زمان، فقال: والذي يُحلَفُ به، إن قائلها هو صاحبنا الذي دفناه الساعة! وأنت الغريبُ الذي يبكي عليه وليس يعرفه؛ وهذا الذي خرج من قبره أَمَسُّ الناس به رحماً، وهو أسرهُم بموته كما وصف.

فتعجب معاوية من هذا الاتفاق الغريب، ووصله بمال عظيم.

وذكر أن أبا الأسود الديلي من شيعة علي دخل على معاوية خالياً، فتحادثا طويلا، فحبق أبو الأسود، فقال لمعاوية: إنها فلتة، فاكتمها علي، فقال معاوية: أفعل ذلك، فلما خرج من عنده، دخل على معاوية عمرو بن العاص، فأخبره عن ضرطة أبي الأسود، ثم خرج عمرو فلقي أبا الأسود بالسوق، فقال له: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود؟ فقال أبو الأسود: كل ذي جوف ضروط، ثم غدا على معاوية فقال له: إن امرأ لم يؤمن على ضرطة حقيق ألاَ يؤمن على إمرة المؤمنين.

قال العلامة الذهبي - في دول الإسلام، عند ذكر عبيد اللّه بن زياد المعروف أبوه بزياد ابن أبيه عند الناس، وعند بني أمية بزياد بن أبي سفيان - : روى عن معاوية أنه كتب إلى زياد: أوفد علي ابنك عبيد اللّه، ففعل، فما سأله معاوية عن شيء إلا أنفذه فيه، حتى سأله عن الشعر، فلم يعرف منه شيئاً، فقال له معاوية: ما منعك من رواية الشعر؟ قال: كرهت أن أجمع كلام اللّه وكلام الشيطان في صدري، فقال: اغرب، والله لقَد وضعتُ رِجَلي في الركاب يوم صفين مراراً ما يمنعني من العزيمة إلا أبياتَ ابن الإطنابة حيث يقول: من الوافر:

أبُت لِي عِفَّتِي وَأبى حَيَائِي ... وأَخذِي الحمدَ بالثمَنِ الربيحِ

وإعطَائِي على الإعدام مَالِي ... وِإقدَامِي عَلَى البَطَلِ المُشِيحِ

وَقَولِي كُلمَا جَشَأَت وطاشت: ... مَكَانَكِ تُحمَدِي أَو تَستَرِيحِي

وكتب إلى أبيه فرواه الشعر، فما سقط عليه منه بعدُ شيء.

قلت: وإنما ذكرتها هاهنا لتعلقها بمعاوية؛ إذ الكلام فيه هنا.

قال معاوية يوماً على المنبر: أيها الناس، إن اللّه فضل قريشاً بثلاث؛ فقال لنبيه: " وَأنذر عَشِيرَتَكَ اَلأقربين " " الشعراء: 214 " ، ونحن عشيرته الأقربون، وقال: " وإنه لذكر لك ولقومك " " الزخرف: 44 " ونحن قومه، وقال " لإيلافِ قُرَيشٍ " " قريش: 1 " ونحن قريش، فقال له رجل من الأنصار: على رسلك يا معاوية؛ فإن الله تعالى يقول: " وكذبَ بِه قَومُكَ وَهُو اَلحق " " الأنعام: 66 " وأنتم قومه، وقال: " وَلمَا ضرِبَ ابنُ مَريَمَ مَثَلا إِذَا قَومك مِنهُ يصدُّون " " الزخرف: 57 " وأنتم قومه، وقال: " وَقَالَ اَلرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " " الفرقان: 30 " وأنتم قومه، ثلاث بثلاث، ولو زدتنا لزدناك.

قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: دخل رهط من الأنصار على معاوية، فقّال لهم: يا معشر الأنصار، قريش خير لكم منكم لهم، فإن يكن ذلك لقتلَى أُحُد، فقد نلتم يوم بدر، وإن تكن للأثرة، فواللّه ما جعلتم إلى صلتكم سبيلا: خذلتم عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وصليتم بالأمر يوم صفين، فقال رجل منهم: يا أمير المؤمنين، أما قولك عن قتلى أحد، فإن قتيلنا شهيد، وحينا فائز. وأما قولك: الأثرة، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصبر عليها. وأما قولك: إنا خذلنا عثمان يوم الدار، فإِنِ الأمر في عثمان إلا جَفَلَى.

وأما قولك: إنا قتلنا أنصاره يوم الجمل، فذاك ما لا نعتذر منه، وأما قولك: إنا صلينا الأمر يوم صفين، فإنا كنا مع رجل لم نأله خيراً، فإن لمتنا فرب ملوم لا ذنب له، ما مددت لنا شبراً من عذر إلا مددنا لك باعاً من خير، وإنك جدير بأن تستصفي قلوبنا من كدرها بفَضلِ حلمك، فقال: أفعلُ وكرامة، ثم أدناهم وأجزل حباءهم. كذا في المحاسن للبيهقي.

وعن محمد الخزاعي قال: دخلت بكارة الهلالية على معاوية، وكانت قد كبرت وغشي على بصرها، وضعفت قوتها، فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال لها: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غَيرَكِ الدهْرُ، قالت: هو كذا؟ من عاش كبر، ومن مات قُبِر، فقال عمرو بن العاص: هي القائلة يا أمير المؤمنين: من الكامل:

يَا زَيْدُ دُونَكَ فَاحْتَفر في أَرْضِنَا ... سَيْفاً حُسَاماً في التُرابِ دَفِينَا

قَدْ كُنْتُ أَخْبَؤُهُ لِيَوْمِ مُلمَّةٍ ... وَاليَوْم أَبرَزَهُ الزمَان مَصُونا

فقال مروان: هي واللّه القائلة - أيضاً - يا أمير المؤمنين: من الكامل:

أَتُرَى ابْنَ هِنْدٍ للخِلاَفةِ مَالِكاً ... هَيهَاتَ ذَاكَ وَإِنْ أراهُ بَعِيدُ

مَنتْك نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلاَلَة ... أَقْوَال عَمْرو وَالشَقي سَعِيدُ

وقال سعيد بن العاص: هي واللّه القائلة أيضَاً: من الكامل:

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَمُوتَ وَلاَ أَرَى ... فَوقَ المَنَابِرِ مِنْ أُميةَ خَاطِبَا

اَللّه أَخرَ مُدتِي فَتَطَاوَلَتْ ... حَتَّى رَأَيْتُ مِنَ الزمَانِ عَجَائِبَا

فقالت: يا معاوية، إن هؤلاء جماعة حسنة، وأنا واللّه القائلة هذا جميعه، وما خفي عنك أكثر، فضحك معاوية، وقال لها: ليس يمنعنا ذلك من أداء حقك، وقضاء حوائجك، فما كان لك من حاجة فأبديها، قالت: أما في المجلس فلا، وانصرفت، فأرسل خلفها واسترضاها، وأعطاها عشرة آلاف درهم.

وعن سهل التيمي قال: حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كنانة يقال لها: دارمة الحجازية الكنانية، فأخبروه بسلامتها، فأمر بإحضارها، فلما حضرت، وكانت سوداء، فقال لها: كيف أنت، يابنة حام؟ قالت: لست بابنة حام، إنما أنا امرأة من بني كنانة، قال: أتدرين لم أرسلت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا اللّه، قال: أردت أن أسألك لم أحببت علياً وأبغضتني وواليتِه وعاديتِني. قالت: أحببت علياً؛ لعدله في الرعية وقسمته بالسوية، وأبغضتك؛ لقتالك من هو أولى بالخلافة منك، وطلبك ما ليس بحق لك. وواليت علياً؛ لما عقد له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الولاية، ولحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك بسفك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. فقال لها معاوية: ورأيتِ علياً. قالت: نعم، قال: كيف رأيتِه؟ قالت: رأيته ما فتنه الملكُ الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال: فهل سمعت من كلامه شيئاً. قالت: نعم، كان كلامه يجلو القلوب من العمى؛ كما يجلو القين الصدى، قال: فهل لك من حاجة؟ قالت: نعم، أعطني مائة ناقة حمراء فيها فحولها ورعاتها، قال: فما تصنعين بها؟ قالت: أغذي بلبنها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: فإذا دفعتها لك، أكون عندك في منزلة علي. قالت: لا واللّه، فقال معاوية: من الطويل:

إِذَا لَم أَجُدْ بِالحِلمِ مِني عَلَيكُمُ ... فَمَنْ ذَا الذي بَعْدي يُؤَملُ لِلْحِلْمِ؟!

خُذِيهَا هَنِيئاً واذكُرِي فِعْلَ ماجدٍ ... جَزَاكِ عَلَى حَرْبِ العداوةِ بِالسلْمِ

ثم قال لها: واللّه لو كان علي حياً ما أعطاك منها ناقة، قالت: لا واللّه، ولا وَبرَة؛ لأَنها من مال المسلمين.

واستأذنت أم البراء بنت صفوان على معاوية، فأذن لها، فدخلتْ وسلمت، وكان عليها ثلاثة دروع تسحب خلفها، ثم جلست، فقال لها: كيف أنت يابنة صفوان؟ قالت: كسلت بعد نشاط، وضعفت بعد قوة، فقال: شتَان بين لسانك اليوم وبين قولك: من الكامل:

يَا زَيْدُ دُونَكَ صَارِماً ذَا رَونَقِ ... عَضْبَ المحزة لَيسَ بالخَوَارِ

أسرجْ جَوَادَكَ مسرعاً ومُشَمرَاً ... للحَرْبِ غَير معودِ لِفِرَارِ

أَجِبِ الإِمامَ وَذب تَحتَ لوائهِ ... وَالْقَ العَدُوَ بِصَارِمٍ بَتَارِ

يا ليتني أَصْبَحْتُ غَيْرَ قعيدةٍ ... فَأذب عَنْهُ عَسَاكِرَ الفُجارِ

قالت: قد كان ذلك، ولكن عفا اللّه عما سلف، ومن عاد، فينتقم اللّه منه، قال: هيهات؛ أما واللّه لو عاد لعدتِ، ولكنه اخترم، قالت: أجل، والله، إني على بينة من ربي، وهدى من أمري، فقال بعض جلسائه: وهي القائلة ترثي علياً: من الكامل:

يَا لَلرجَالِ لهوْلِ عُظْمِ مُصيبَةِ ... حَلتْ فَلَيْسَ مُصَابها بالحَائِلِ

ألشَمْسُ كاسفَةٌ لِفَقْدِ إِمَامِنَا ... خَيْرِ الخلائِقِ والإمَامِ العَادِلِ

صِهْرَ النبي لَقَدْ نَفَذْتَ فؤَادنا ... وَالحَق أَصْبَحَ خَاضِعاً للبَاطِلِ

فقال لها معاوية: قاتلك الله، ما أبقيت لنا من قول! ثم خرجت، فبعث لها معاوية بجائزة سنية.

وأخباره بمثل ذلك كثيرة شهيرة.

قيل: ذكر أنه جلس يوماً في مجلس كان له بدمشق، وكان ذلك المجلس مفتح جوانب يدخل منه النسيم من سائر جهاته، فبينما هو جالس ينظر، وكان يوماً شديد حر، لا نسيم فيه، وكان وسط النهار؛ إذ نظر إلى رجل يمشي نحوه، وهو يتلظى من حر الرمضاء، ويحجل في مشيته راجلا حافياً، فتأمله وقال لجلسائه: هل خلق اللّه رجلا أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في مثل هذه الساعة؟ فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين، فأوصى حاجبه: إن طلبني هذا الأعرابي، فلا تمنعه من الدخول علي، فكان كذلك، فأدخله، فقال له معاوية: ممن الرجل؟ فقال: من تميم، قال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال: جئتُ شاكياً، وبك مستجيراً، قال: ممن؟ قال: من مروانَ بنِ الحكمِ بما ملك، وأنشد: من الطويل:

مُعَاوِيَ يا ذا الحِلمِ والجودِ والفَضلِ ... وَيا ذا الندَى وَالعِلمِ وَالرشدِ وَالنبلِ

أَتيتُكَ لمَا ضَاقَ في الأَرضِ مَذهبي ... فَيَا غَوثُ لاَ تَقطَع رَجَائي مِنَ العَدلِ

وَجُد لِي بِإِنصَافٍ مِنَ الجَائِرِ الذي ... بَلاَني بِشيءِ كانَ أَيسَرُهُ قَتلِي

سَبَانِيَ سُعدَى وانبَرَى لخُصُومَتي ... وَجارَ ولم يعدِل وَغَاصَبني أَهلِي

وَهَم بقتلى غَيرَ أن مَنيتِي ... تَنَاءَت ولم أَستَكمِلِ الرزقَ مِن أَجلِي

فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد من فيه، قال: مهلا يا أخا العرب، اذكر قصتك، وأبِن عن أمرك، فقال: يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفَاً، وكانت لي صرمة من إبل نستعين بها على قيام حالي، فأصابتنا سنة سنتَاءُ حطمَة شديدة أذهبتِ الخف والحافر؛ فبقيت لا أملك شيئاً. فلما ذهب ما بيدي، بقيت مهاناً ثقيلا على الناس، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال، أخذها مني وحجرني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان راجيَاً لنصرته، فلما أحضر أباها، سأله عن حالي، فقال: ما أعرفه قبل اليوم، فقلت: أصلح الله الأمير، إِن رَأَى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها فليفعل، فبعث خلفها وأحضَرَها، فلما حضرت بين يديه، وقعَتْ منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً، وعلي منكرَاً، وأظهر لي الغضب، وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، واستهوت بي الريح في مكان سحيق، ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك، وأنا ضامن لك خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في المال، وأجابه إلى ذلك.

فلما كان من الغد، بعث إلي وأحضرني، ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: يا أعرابي، طلق سعدى، فقلت: لا، فسلط علي جماعة من غلمانه، فأخذوني يعذبوني أنواع العذاب، فلم أجد بُداً من طلاقها، فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها، فتزوجها، ودخل بها وأطلقني، وقد أتيتك مستجيراً إليك ملتجئاً، وأنشد: من المجتث:

في القَلبِ مِنيَ نَار ... وَالنار فِيهَا استِعَارُ

وَالجسمُ مِني سَقِيمٌ ... فِيهِ الطبِيبُ يَحَارُ

وفي فؤادِيَ جَمر ... والجَمرُ فِيهِ شَرارُ

والعَين تنهل دمعاً ... فَدَمْعُهَا مِدرَارُ

وَلَيسَ إِلا بِربي ... ثُم الأَميرِ انتِصارُ

ثم اضطرب واصطكت لحياه، وصار مغشياً عليه، وأخذ يتلوى كالحية المقتولة، فلما سمع كلامه معاوية وإنشاده، قال: تعدى وظلم ابن الحكم في حدود الدين، واجترأ على حرم المسلمين، ثم قال: واللّه يا أعرابي، لقد أتيتني بحديث لم أسمع بمثله، ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم: قد بلغني أنك ظلمت واعتديت، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته، ثم كتب إليه بعد كلام، فقال: من البسيط:

وَليتَ وَيحكَ أمراً لَستَ تُدرِكُهُ ... فَاستغفِرِ الله مِن فِعلِ امرئٍ زَاني

وَقَد أَتَانَا الفتَى المسكِين مُنتَحِباً ... يَشكُو إِلَينَا بِبَث ثُم أَحْزَانِ

أُعطِي الإِلَهَ يَمِيناً لا أُكَفرُهَا ... نَعم وَأَبرأ من دينيِ وَدَيانِي

إن أَنتَ خالَفتَنِي فيما كَتبتُ به ... لأجعَلَنكَ لَحماً بَين عقبَانِ

طَلق سُعَادَ وعَجلهَا مُجَهزَة ... مع الكُمَيتِ ومَع نَصرِ بن ذبيانِ

ثم طوى الكتاب، وطبعه بخاتمه، واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما للمهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب، وقدما المدينة، وأسلما الكتاب إلى مروان، فجعل يقرأ ويرتعد ويبكي، وأخبر سعدى وطلقها، وجهزها وصحبها الرجلان، وكتب إلى معاوية فصلا يقول فيه: من البسيط:

لا تعجَلن أميرَ المؤمنينَ فقَدْ ... أوفى بنذْرِكَ في رفْقِ وإِحسانِ

وما أَتَيتُ حَرَاماً حينَ أعجبني ... فكَيف أُدعَى باسمِ الخائِنِ الزانيِ؟!

أُعذر فإنكَ لو أبصَرْتَهَا لَجَرَت ... مِنْكَ الأمانِي على تِمْثَالِ إنسانِ

وَسَوفَ تَأتِيكَ شَمس لَيسَ يَعدِلُهَا ... عند الحقيقةِ مِنْ إِنْسِ وَلاَ جَانِ

وختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، وسلم إليهما الجارية، فوصلوا إلى معاوية، فقرأ الكتاب ثم قال: لقد أحسن في الطاعة، ثم أمر بإحضار الجارية، فلما رآها، رأى صورة لم ير مثلها، فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان عذبة المنطق، فقال: عَلَي بالأعرابي، فأتى به وهو على غاية من سوء الحال، فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلو، وأعيضك عنها ثلاث جوار نُهد أبكارٍ، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال في كل سنة ما يكفيك، فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من مروان، فبمن أستجير من جورك، ثم أنشد: من البسيط:

لاَ تَجْعَلني جَزَاكَ الله مِن مَلِكِ ... كَالمستجِيرِ مِنَ الرمْضَا إِلَى النارِ

أُردد سُعَادَ عَلَى حرانَ مُكْتَئِب ... يُمْسي ويُصْبح في هَم وَتَذْكَارِ

أَطْلِقْ وَثَاقي وَلاَ تَبْخَل عَلَي بها ... فَإِنْ فَعَلْتَ فإِني غَيْرُ كَفارِ

والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني ما حوته الخلافة ما أخذته دون سعاد، وأنشأ يقول: من الطويل:

أبى القلبُ إِلاّ حُبَّ سُعْدَى وَبُغضَتْ ... إِلَي نساء مَا لَهُن ذُنُوبُ

فقال معاوية: يا أعرابي، إنك مقر أنك طلقتها، ومروان طلقها، ونحن نخيرها، فإن اختارت سواك زوجناها، قال: افعل، فقال معاوية: ما تقولين، أيما أحبُّ إليك: أمير المؤمنين في عِزهِ وشرفه وسلطانه، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره؟ فأنشدت: من البسيط:

هَذَا وَإِنْ كَانَ في جُوع وإِضرَارِ ... أَعَز عِندِيَ مِنْ قَوْمِي ومِنْ جارِي

وَصَاحِب التاجِ أو مَروَانَ عَامِلِهِ ... وَكُل ذي درهَم عِنْدِي وَدِينَارِ

ثم قالتَ: واللّه يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرة الأيام؛ فإن لي معه صحبة قديمة لا تُنْسَى، ومحبة لا تبلَى، فأنا أحق من صبر معه في الضراء؛ كما تنعمت معه في السراء. فعجب معاوية من عقلها ومروءتها وموافاتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، وردها إلى الأعرابي بعقد صحيح. انتهت.

قال ابن سعد في الطبقات افتخر الحسن بن علي في مجلس معاوية، فقال: أنا ابن ماء السماء، وعروق الثرى، وابن من ساد أهل الدنيا، بالحسب الثاقب، والشرف الفائق، والقدم السابق، أنا ابن من لرضاه رضي الرحمن، ثم رد وجهه للخصم، فقال: هل لك أب كأبي، أو قديم كقديمي، فإن تَقُلْ: لا، تُغْلَبْ، وإن تقل: نعم، تكذب، فقال الخصم: لا؛ تصديقاً لقولك، فقال سيدنا الحسن: من الكامل:

أَلحَق أَبْلَجُ لاَ تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... وَالحَق تَعْرِفُهُ أُولُو الألَبَابِ

وقال معاوية يومَاً وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم: أخبروني بأكرم الناس أباً وأماً، وعماً وعمَّة، وخالاَ وخالة، وجداً وجدةَ؟! فقام مالك بن العجلان، وأومأ إلى الحسن فقال: ها هو ذا ابن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وعمه جعفر الطيار، وعمته أم هانئ بنت أبي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجده رسول اللّه، وجدته خديجة بنت خويلد، فسكت القوم ونهض الحسن. فقام رجل من بني سهم، فأنبَ ابن العجلان على مقالته، فقال ابن العجلان: ما قلتُ إلا حقُّاً، وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق، إلا لم يعطه الله أمنيته في دنياه، ولم يختم له إلا بالشقاء في أخراه. بنو هاشم أرواكم عوداً، وأوراكم زنداً، كذلك يا معاوية؟ فقال: اللهم نعم.

عهد معاوية لابنه يزيد بالخلافة

ذكر ابن الجوزي بسنده قال: قَدِمَ المغيرة بن شعبة على معاوية، فشكا إليه الضعف واستعفاه فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إن معاوية قلاك، فقال لهم: رويداً، ونهض إلى يزيد، وعرض له بالبيعة، وقال: ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش وذَوُو أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت مني أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسة، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العَقْدِ لك، فأَدْلَى ذلك يزيد إلى أبيه، فاستدعاه وفاوضه في ذلك، فقال: قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد ابنك خلف، فاعقد له يكون كهفاً للناس بعدك، فلا يكون فتنة ولا سفك للدماء، وأنا أكفيك الكوفة، ويكفيك زياد البصرة، فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة يزيد، فقدم الكوفة وذكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية، فأجابوا، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى ابن المغيرة، فدعوا معاوية إلى بيعة يزيد، فقال: وقد رضيتموه. قالوا: نعم، نحن ومن وراءنا، فقال: ننظر ما قدمتم له، ويقضي اللّه أمره، والأناة خير من العجلة.

ثم كتب إلى زياد يستشيره، فنكر زياد ذلك وأعظم أن يكاتب فيه، واستدعى عبد اللّه بن كعب النميري، وكانت له صحابة وله به ثقة، وقال له: دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحُفِ، إن معاوية كتب إلى أن أجمع الناس على بيعة يزيد، وهو يتخوف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون فيما أولع به من الصيد، فالق معاوية مؤدياً عني، وأخبره عن فعلات يزيد، وقل له: رويدك بالأمر، فقمن أن يتم لك ما تريد ولا تعجل، فقال له عبيد الله بن كعب: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقت إليه ابنه، وأنا ألقى يزيد في سر من معاوية، فأخبره عنك بكتاب معاوية إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تتخوف خلاف الناس لما ينقمون عليك، وأنك ترى له ترك ما ينقمون عليه لتستحكم الحجة على الناس ويسهل الأمر، وفي ذلك نصح يزيد، ورضا معاوية، والسلامة عن درك الأمة.

فقال له زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص علَى بركة اللّه، وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية، وبلغ عبيد الله بن كعب وصية زياد إلى يزيد، فكف عن كثير مما كان يصنع.

فلما مات زياد، اعتزم معاوية على العهد ليزيد، وقرأ كتابه على الناس باستخلافه يزيد إن حدث به حدث المَوت، فيزيد ولي عهده، فاستوثق له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة نفر: الحسين بن علي، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر.

فحج معاوية سنة إحدى وخمسين، فلما قدم مكة، بعث عن الحسين، وقال: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر، أنت تقودهم، فما إربك إلى هذا الخلاف؟ قال الحسين: أرسل إليهم، فإن بايعوا فأنا منهم، ولا تعجل علي، فعاهده معاوية على الكتمان.

ثم بعث عن ابن الزبير فأجابه بمثل ما أجاب الحسين، وطلبه العهد فأبى وخرج، ثم بعث عن ابن عمر، فأجابه بمثل كلامهما وألان له القول بعض اللين؛ بأن قال: أخاف أن أدع الأمة كالضأن لا راعي لها، فقال له ابن عمر: أبايعك على أني أدخل بعدك فيما تجتمع عليه الأمة، فواللّه لو اجتمعوا بعدك على عبد حبشي، لدخلتُ معهم، وخرج فأغلق بابه، ولم يأذن لأحد.

ثم بعث معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فقال له: بأية يد أو رجل تُقدِمُ على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي، فقال معاوية: والله لقد هممتُ أن أقتلك، قال عبد الرحمن: لو فعلت لأخذك اللّه في الدنيا والآخرة، ولم يذكر ابن عباس.

وقد ذكر في كيفية هذا الحديث طريق غير هذا ذكره الذهبي في تاريخه دول الإسلام، أحببت إيراده؛ لاشتماله على زيادة علم، ونصه: روى النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ذكوان مولى عائشة، قال: لما أجمع معاوية على أن يبايع لابنه يزيد، حج فقدم مكة في نحو من ألف رجل، فلما دنا من المدينة، خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فلما قدم معاوية المدينة، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد، فقال: من أحق بهذا الأمر منه. ثم ارتحل فقدم مكة، فقضى طوافه ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد، وقال: أما بعد، يا بن عمر، إنك كنت تحدثني أنك لا تحب تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير، وأنا أحذرك أن تشق عصا المسلمين أو تسعى في فساد ذات بينهم.

فقام ابن عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنك كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، إنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر، فإنما أنا رجل منهم. فقال معاوية: يرحمك اللّه، فخرج ابن عمر، ثم أرسل إلى ابن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام، فقطع عبد الرحمن عليه كلامه، فقال: إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى اللّه، وإنا واللّه لا نفعل، واللّه لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لنردنها عليه جذعة، ثم وثب ومضى، فقال معاوية: اللهم، اكفنيه بما شئت، ثم قال: على رسلكَ أيها الرجلُ لا تشرفن على أهل الشام؛ فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشيرة أنك قد بايعْتَ، ثم كُنْ بعدُ علَى ما بدا لك من أمرك.

ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: يا بن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ، كلما خرج من جحر دخل آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخيرهما، وحملتهما على غير رأيهما، فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة، فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه، أرأيت إذا بايعنا ابنك معك، لأيكما نسمع ونطيع؟! لا نجمع البيعة لكما أبداً.

ثم راح وصعد معاوية المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، زعموا أن ابن عمر وابن أبي بكر وابن الزبير لم يبايعوا يزيدَ، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا، فقال أهل الشام: واللّه لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم، فقال معاوية؛ سبحان اللّه! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر، لا أسمع هذه المقالة من أحد منكم بعد اليوم، ثم نزل، فقال الناس: بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، وهم يقولون: لا واللّه، ما بايعنا، فيقول الناس: بلى، وارتحل معاوية فلحق بالشام.

وقال جويرية بن أسماء: سمعتُ أشياخَ المدينةِ يحدثون أن معاوية لما رحل عن مر داخلا مكة، قال لصاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا، فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك، لقيه الحسين بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - قال: فوقف، وقال: مرحباً وأهلاَ بابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب المسلمين، دابة لأبي عبد اللّه يركبها، فأتى ببرذون، فتحول عليه، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال معاوية: مرحباً وأهلا بشيخ قريش وسيدها وابن صديق الأمة، دابة لأبي محمد، فأتى ببرذون فركب، ثم طلع ابن عمر فقال: مرحباً وأهلا بصاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابن الفاروق، فدعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير، فقال: مرحباً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدابة فركبها، ثم أقبل معاوية يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة.

ثم كانوا أول داخل عليه، وآخر خارج، وليس لهم صباح إلا ولهم حباء وكرامة، ولا تعرَّض لهم بذكر شيء حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره، فأقبل بعض القوم على بعض، فقال: أيها القوم، لا تخدعوا، إنه واللّه ما صنع بكم ما صنع لحبكم، ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جواباً، فأقبلوا على الحسين، فقالوا: أنت يا أبا عبد اللّه، فقال: وفيكم شيخ قريش وسيدها هو أحق بالكلام، فقالوا لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قال: لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد المسلمين، فقالوا لابن عمر: أنت، قال: لست بصاحبكم، ولكن، ولوا الكلام ابن الزبير، قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ألا تخالفوني، كفيتكم الرجل، قالوا: ذاك لك.

قال: فأذن لهم معاوية، فدخلوا، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم مسيري فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس فيكم رأياً، وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونون أنتم الذين تنزعون وتؤمرون وتقسمون، فسكتوا، فقال: ألا تجيبوني. فسكتوا، فأقبل على ابن الزبير، فقال: هات يا بن الزبير؛ فإنك لعمري صاحبُ خطبة القوم، قال: نعم، يا أمير المؤمنين، نخيرك ثلاث خصال، أيها ما أخذت فهو لك، قال: للّه أبوك اعرضهُن، قال: إن شئت، اصنع ما صنع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإن شئت اصنع ما صنع أبو بكر، وإن شئت اصنع ما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال ابن الزبير: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعهد عهده ولم يستخلف أحداً، فارتضى المسلمون أبا بكر، فقال معاوية: إنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر؛ فإن أبا بكر رجل تقطع دونه الأعناق، وإني لست آمن عليكم الاختلاف، قال ابن الزبير: صدقت، واللّه ما تحب أن تدعنا، فاصنع ما صنع أبو بكر، قال معاوية: للّه أبوك، ما صنع أبو بكر؟ قال: عهد إلى رجل من قاصية قريش، ليس من رهطه فاستخلفه، فإن شئت أن تنظر أي الرجل من قريش ليس من بني عبد شمس فترضى به.

قال معاوية: فالثالثة ما هي؟ قال: تصنع ما صنع عمر، قال: وما صنع؟ قال: جعل الأمر شورى في ستة ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه وولا من رهطه، قال معاوية: فهل عندك غير هذا؟ قال: لا، قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضاً، فقال: أما إني قد أحببت أن أتقدم إليكم أنه قد أعذر من أنذر، وأنه كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الناس فأحتمل ذلك له، وإني قائم بمقالة إن صدقت فلي صدقي، وإن كذبت فلي كذبي، وإني أقسم بالله، لئن رد على إنسان منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إِلى رأسه، فلا يَرعَيَن رجل إلا على نفسه، ثم دعا صاحب حرسه، فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، فإن ذهب رجل يرد على كلمة في مقامي هذا، فليضربا عنقه. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يُستبد بأمر دونهم ولا يقضى أمر إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله، قال: فضربوا على يده بالمبايعة، ثم جلس على رواحله، وانصرف الناس.

وفاة معاوية بن أبي سفيان

ذكر غير واحد: أنه لما ثقل في الضعف، وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمداً وأوسعوا رأسي دهناً، ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهدوا له مجلساً وأسندوه، فأذن للناس فدخلوا وسلموا عليه قياماً، فلما خرجوا من عنده، أنشد قائلا: من الكامل:

وَتَجَلُّدِي للِشامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أَني لِرَيبِ الدَّهرِ لاَ أَتَضَعضَعُ

فسمعه رجل من العلويين، فأجابه يقول: من الكامل:

وَإِذَا المَنِيةُ أَنشَبَت أَظفَارَهَا ... أَلفَيتَ كُل تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ

وكان قد خطب الناس قبل موته، فقال: إني كزرع مستحصد، وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما كان من قبلي خيرَاً منى، وقد قيل: من أحب لقاء الله، أَحب الله لقاءه، اللهم إني قد أحببتُ لقاءك، فأحبِبت لقائي، وبارك لي فيه.

فلم يمض قليل حتى ابتدأ به مرضه، فدعا ابنه يزيد، وقال: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة، ووطأت لك الأمور، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمع أحد، وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد اللّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما ابن عمر: فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك، وأما الحسين: فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت به، فاصفح عنه؛ فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً، وأما ابن أبي بكر: فإن رأي أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، وليس له همة إلا في النساء، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، وقد فزت عليه، فقطعه إرباً إرباً. هذا حديث الطبري عن هشام.

وله عن هشام من طريق آخر قال: لما حضرت معاوية الوفاة سنة ستين، كان يزيد غالْباً ببيت المقدس، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عقبة المري، فقال: أبلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز؛ فإنهم أصلك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوك، فانتصر بهم، فإذا أصبتم، فاردد أهل الشام إلى بلادهم؛ فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم، تغيرت أخلاقهم، ولست أخاف عليك من قريش إلا ثلاثة - ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر، فنقص ذكره من الأربعة السابق ذكرهم - وقال في ابن عمر: قد وقذه الدين، فليس بملتمس شيئاً قبلك، وقال في الحسين: ولو أني صاحبه عفوت عنه، وأنا أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، وقال في ابن الزبير: إذا شخص إليك، فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحاً، فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت.

وكانت وفاة معاوية منتصف رجب سنة ستين، وقيل جمادى الآخرة لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته.

وكان على خاتمه عبد الله بن حصين الحميري، وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سببه أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب بذلك كتاباً إلى زياد بالعراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه، أنكر معاوية وأخذ عمرَاً بردها وحبسه، فأدَّاهَا عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم.

صفة معاوية

كان رجلا أبيض جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب بالصفرة.

قال أبو عبد رب الدمشقي: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.

وعن إبراهيم بن عبد اللّه بن قارظ قال: سمعت معاوية على منبر المدينة يقول: أين فقهاؤكم يا أهل المدينة. سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذه القصة، ثم وضعها على رأسه أو خده، فلم أر على عروس ولا على غيرها أبهَى منها على معاوية.

ذكر مناقبه

ذكر المفضل الغلابي؛ أن زيد بن ثابت كان كاتب وحي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان معاوية كاتبه فيما بينه وبين العرب؛ كذا قال.

وقد صح عن ابن عباس قال: " كنت ألعب، فدعاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - وقال: ادع لي معاوية، وكان يكتب الوحي " .

وقال معاوية بن صالح، عن العرباض بن سارية سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى السحور: " هلم إلى الغداء المبارك " ، ثم سمعته يقول: " اللهم، علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب " رواه أحمد في مسنده.

وروى عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم، علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب " .

وروى عبد الرحمن بن أبي عميرة - أيضَاً - يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: " اللهم، اجعله هاديَاً مهدياً، واهده واهد به " رواه الوليد بن مسلم وأبو مسهر عن سعيد نحوه. ورواه الترمذي، عن الذهلي، عن أبي مسهر.

وروى نعيم بن حماد، بسنده، عن يونس بن ميسرة، عن عبد اللَه بن بسر؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استأذن أبا بكر وعمر في أمر، فقال: أشيرا عَلَي، فقالا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: " ادْعُوَا معاوية وأحضراه أمركما؛ فإنه قوي أمين " .

وروى عن وحشي بن حرب بن وحشي، عن أبيه، عن جده قال: أردفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان خلفه فقال: ما يليني منك؟ قال: بطني، قال: " اللهم، املأه علماً " ، وقال خليفة: جمع عمر لمعاوية الشام كله، ثم أقره عثمان.

وقال مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر، قال: قدم علينا معاوية وهو أَبَضُّ الناس وأجملهم، فحج مع عمر، وكان عمر ينظر إليه فيعجب له، ثم يضع إصبعه على متنه، ويرفعها عن مثل الشراك، ويقول: بخ بخ نحن إذن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا، والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنا بأرض الحمامات والريف، فقال له عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام، وتضحيك حتى تضرب الشمس منكبيك، وذوو الحاجات وراء الباب.

قال أسلم: فلما جئنا ذا طوى، أخرج معاوية حلة، فلبسها فوجد عمر منها رائحة طيبة، فقال عمر: يعمد أحدكم يخرج حاجاً تَفِلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله، أخرج ثوبيه؛ كأنهما كانا في الطيب فيلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأَدخُلَ فيهما على عشيرتي، واللّه لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام، الله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ونزع معاوية الثوبين، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.

وقال أبو الحسن المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية، قال: هذا كسرى العرب.

وقال مجاهد، عن الشعبي، عن علي قال: لا تكرهوا إمرة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرءوس تندر عن كواهلها.

وروى علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، قالت: قدم معاوية المدينة، فأرسل إلى عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن أرسلي إِلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلت بذلك معي أحمله، فأخذ الأنبجانية، فلبسها وغسل الشعر بماء، فشرب منه، وأفاض على جلده.

وروى أبو بكر الهذلي، عن الشعبي، قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة - يعني: عام أربعين من الهجرة - تلقته رجال قريش، فقالوا: الحمد للّه الذي أعز نصرك، وأعلى أمرك، فما رد عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فعلا المنبر، ثم حمد الله، وقال: أما بعد، فإني والله ما وليت أمركم إلا وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل عمر، فكانت عنه أشد نفوراً، وحاولتها على مثل سنياتِ عثمان فأبت علي، وأين مثل هؤلاء. هيهات أن يدرك أحد فضلهم من بعدهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه؛ فإنها لقائبة قوبها وإن السيل إذا جاء تترى وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها؛ فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستئصال، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل.

قال الحافظ الذهبي في دول الإسلام: قال جندل بن والق وغيره: حدثنا محمد ابن بشر، حدثنا مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. مجالد ضعيف.

وقد رواه الناس عن علي بن زيد بن جدعان، وليس بالقوي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكره.

وروى عن أبي بكر بن داود، قال: هو معاوية بن تابوه رأس المنافقين، حلف أن يتغوَط فوق المنبر الشريف.

وقال بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، قال: ما رأيتُ أحداً بعد عثمان أقضَى بحق من صاحب هذا الباب، يعني: معاوية.

وعن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى أبي سفيان؛ أنه سمع معاوية يخطُبُ ويقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه ابن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني حسبت أن أكونَ أَنْكَاكم في عدوكم، وأنفعكم ولاية، وأحسنكم خلقاً.

قال همام بن منبه: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيتُ رجلا كان أخلق للملك من معاوية؛ كان الناس يردون منه على أرجاء وادِ رحب، لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتعصب. يعني ابن الزبير.

وقال أبو أيوب، عن أبي قلابة إن كعب الأحبار قال: لن يملك هذه الأمة أحد ما ملك معاوية.

قلت: صدق كعب فيما قاله؛ فإن معاوية بقي خليفة عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض جميعاً؛ بخلاف عبد الملك بن مروان وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وغيرهم؛ فإنهم كان لهم مخالف وخرج عن حكمهم بعضْ الممالك.

وروى ضمام بن إسماعيل، قال: سمعت أبا قبيل حيي بن هانئ يخبر عن معاوية، وصعد المنبر يوم جمعة، فقال: أيها الناس، إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الأخرى، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة، قال مثل ذلك، فقام إليه رجل فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه، حكمناه إلى اللّه بأسيافنا. فنزل معاوية وأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه، فقال القوم: هلك، ففتح معاوية الأبواب، ودخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية: إن هذا أحياني، أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون أئمة من بعدي يقولون، فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة " ، وإني تكلمت، فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت الجمعة الثانية، فلم يرد على أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، ثم تكلمت هذه الجمعة الثالثة، فقام هذا، فرد عليَ، فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني اللّه منهم. فأعطاه وأجازه.

وروى عن خالد بن معدان، قال: وفد المقدام بن معدي كرب، وعمر بن الأسود، ورجل من بني أسد له صحبة على معاوية، فقال معاوية للمقدام: توفي الحسن، فاسترجع، فقال معاوية: أتراها مصيبة. قال المقدام: ولم لا، وقد وضعه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجره، وقال: " هذا مني، وحسين من علي " ، ثم قال معاوية للأسدي: ما تقول أنت؟ قال: جمرة أطفئَت، فقال المقدام: أنشدك اللّه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لبس الذهب والحرير، وعن جلود السباع والركوب عليها. قال: نعم، قال: فوالله، لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: عرفت أني لا أنجو منك.

وكان يضرب المثل بحلم معاوية، وقد أفرد ابن أبي الدنيا، وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفاً مستقلا في حلم معاوية، فقال: إن رجلا شارط آخر على أن يضرب معاوية كَفاً، فلما فعله، التفت إليه معاوية، وقال: اذهب إلى صاحبك، وخذ شرطك، ولا تعد لمثلها. ثم إن هذا الرجل شارط آخر على مثلها في يزيد، فلما فعله، أمر بقطع يديه، فقال الرجل: إن كان لا بد فواحدة، فقال يزيد: واحدة للضرب، والأخرى للشرط، فقال له الرجل: غَرني حلم معاوية يا يزيد، فقال يزيد: تلك أمة قد خلت.

وعن قبيصة بن جابر قال: صحبت معاوية فما رأيتُ رجلا أثقل حلماً ولا أبطأ جهلا ولا أبعد أناة منه.

وقال جرير، عن مغيرة قال: أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه، فبعث إليهما بمائة ألف دينار، فبلغ ذلك علياً، فقال لهما: ألا تستحيان من رجل نطعن فيه غدوة وعشية تسألانه المال؟ قالا: لأنك حرمتنا، وجاد لنا.

وقال مالك: كان معاويةُ ينتف الشيب كذا وكذا سنة، وكان يخرج إلى الصلاة ورداؤه يحمل وراءه، فإذا دخل للصلاة جعل عليه، وذلك من الكبر.

وذكر غيره؛ أن معاوية أصابته اللقوة قبل أن يموت، وكان اطلع في بئر عادية في الأبواء لما حج، فأصابته اللقوة، يعني: بطل نصفه.

وعن الشعبي قال: أول من خطب الناس قاعداً معاويةُ، وذلك حين كَثُرَ شحمه، وعظم بطنه.

وعن ابن سيرين: أصاب معاوية لقوة، فاتخذ لحفاً خفافاً تلقى عليه، فلا يلبث أن يتأذى بها، فإذا أخذت عنه يسأل أن ترد عليه، فقال: قبحك الله من دار مكثت فيك عشرين سنة أميرَاً، وعشرين سنة خليفة، ثم صرت إلى ما أرى.

وروى عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن أبيه؛ أن معاوية قال في مرضه: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فنزع قميصه وكسانيه فرفعته، وخبأت قلامة أظفاره في قارورة، فإذا مت فاجعلوا القميص على جلدي، واسحقوا تلك القلامة واجعلوها في عيني، فعسى اللّه أن يرحمني ببركتها.

وقال أبو عمرو بن العلاء: لما حضرت معاوية الوفاة أنشد: من الطويل:

هُو المَوتُ لاَ يُنجَي مِنَ المَوتِ وَالذِي ... نُجَاوِزُ بَعدَ المَوتِ أَدهى وَأَقطَعُ

اللهم، أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فما وراءك مذهب.

قال أبو مسهر: صلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ودفن بدمشق بين باب الجابية والباب الصغير.

قال العلامة المسعودي: وقبره يزار إلى الآن، عليه بيت مبني يفتح كل اثنين وخميس، وله من العمر ثمانون، وقيل: تسعون، وكان أميراً وخليفة أربعينَ سنةَ، منها أربع سنين في خلافة عمر، رضي الله عنه.