سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
بيعة يزيد بن معاوية
قد مضَى أن معاوية جعل ابنه ولي عهده، وأكره الناس على ذلك، فلما توفي، لم يدخل في طاعة يزيد الحسين بن علي، ولا عبد الله بن الزبير، ولا من يشايعهما. قال أبو مسهر: حدثنا خالد بن يزيد، حدثني سعيد بن حريث، قال: لما كانت الغداة التي توفي ليلتها معاوية فزع الناس إلى المسجد، ولم يكن قبله خليفة بالشام غيره، فكنت فيمن أتى المسجد، فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء، وابنه يزيد غائب، وبعث إليه البريد، وهو ولي عهده، وكان بحوارين، وكان نائبه على دمشق الضحاك بن قيس الفهري، فدفن معاوية، فلما كان بعد أسبوع، بلغنا أن ابن الزبير خرج بالمدينة وحارب.
وكان معاوية قد غشي عليه مرة، فركب بموته الركبان، فلما بلغ ذلك ابن الزبير، خرج، فلما كان يوم الجمعة، صلى بنا الضحاك، ثم قال: تعلمون أن خليفتكم يزيد قدم، ونحن غداً متلقوه، فلما صلى الصبح ركب فركبنا معه، فسار إلى ثنية العقاب، فإذا بأثقال يزيد، ثم سرنا قليلا، فإذا بيزيد في ركب معه أخواله من بني كلب، وهو علي بختي له رحل وريطة مثنية في عنقه، ليس عليه سيف ولا عمامة، وقد كان ضخماً سميناً قد كثر شعره وشعث، فأقبل الناس يسلمون عليه ويعزونه وهو ترى فيه الكآبة والحزن وخفض الصوت، والناس يعيبون ذلك منه، ويقولون: هذا الأعرابي الأمي ولي أمر الناس، والله سائل عنه، فسار، فقلنا: يدخل من باب توما، فلم يدخل، ومضى إلى باب شرقي، فلم يدخل منه وأجازه، ثم أجاز باب كيسان إلى باب الصغير، فلما وافاه أناخ ونزل، ومشى الضحاك بين يديه إلى قبر معاوية فصففنا خلفه وكبر أربعاً، فلما خرج من المقابر، أتى ببغلة، فركبها إلى الخضراء، ثم نودي: الصلاة جامعة لصلاة الظهر، فاغتسل ولبس ثياباً نفيسةَ، ثم جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر موت أبيه، وقال: إنه كان يغزيكم البحر والبر، ولستُ حاملا أحداً من المسلمين في البحر. وإنه كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بها، وإنه كان يخرج لكُمُ العطاء ثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله. قال: فافترقوا وما يفضلون عليه أحدَاً.
وقال أبو بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، قال: خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كانت إنما حملني على ذلك حب الوالد لولده وأنه ليس بأهل، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.
وقال حميد بن عبد الرحمن: دخلنا على بشير، وكان صحابياً، فقلنا: استخلف يزيد فقال: يقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أقول ذلك، ولكن لأن يجمع الله أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. كذا في الذهبي.
بويع يزيد بعد موت أبيه، وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص الشهير بالأشدق، وعلى البصرة عبيد اللّه بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير.
ولم يكن هم يزيد إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بموت معاوية، وأن يأخذ حسيناً وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة.
فلما أتى الوليد نعى معاوية، استدعى مروان بن الحكم، وكان منقطعَاً عنه بما كان يبلغه عنه، فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحَم، فاستشاره الوليد في أمر أولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته، فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلا ابن عمر؛ فإنه لا يحبُ القتال ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر.
فبعث الوليد لوقته عبد اللّه بن عمرو بن عثمان - وهو غلام حدث - فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يَكُنِ الوليد يجلس فيها للناس، وقال: أجيباً الأمير، فقالا: انصرف، الآن نأتيه.
ثم حدسا فيما بعث إليهما فلم يَعْدُوَا ما وقع، وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليه، وأجلسهم بالباب، وقال: إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً، فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل، فسلم ومروان عنده، فشكرهما الوليد على الصلة بعد القطيعة، ودعا لهما بصلاح ذات البين، فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحَّم، وقال: مثلي لا يبايع سِرُّاً ولا يكتفي بها مني، فإذا ظهرت للناس ودعوتهم، كان أمرنا واحداً، وكنت أول مجيب. فقال الوليد - وكان يحب المسالمة - : انصرف يا أبا عبد اللّه. وقال مروان للوليد: لا تقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلَى بينك وبينه، ألزمه البيعة؛ وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال: أنت تقتلني أو هو؟ كذبت واللّه، فانصرف إلى منزله يتهادَى بين مواليه، وهو يقول: من الخفيف:
لاَ ذَعَرتُ السَّوَامَ في فَلَقِ الصب ... حِ مُغِيراً وَلاَ ذَعَرْتُ يَزِيدَا
يَوْمَ أعطى مَخَافَةَ القَتلِ ضَيما ... وَالمَنَايَا صَدَدتَني أَن أَحِيدَا
وأخذ مروان في عذل الوليد، فقال: يا مروان، واللّه ما أحب أن لي ما طلعَت عليه الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين أن قال: لا أبايع.
وأما ابن الزبير، فإنه اختفى في داره، وجمع أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وتهددوه وأقاموا ببابه في طلبه، فبعث ابن الزبير أخاه جعفراً يلاطف الوليد، ويشكو ما أصابه من الذعر ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه، فبعث إليهم وانصرفوا. وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة، فسرح الوليد الرجال في طلبه، فلم يدركوه ورجعوا وتشاغل بذلك عن الحسين سائِرَ يومه، ثم أرسل إلى الحسين يدعوه، فقال الحسين: أصبحوا وَتَروْنَ ونَرَى. وسار في الليلة الثانية ببنيه وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه، وقال: تنح عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن اجتمعوا على غيرك فلم ينقص بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك. وأنا أخاف أن تأتي مصرَاً أو قوماً؛ فيختلفون عليك؛ فتكون لأول الأسنة، فإذا خير الأمة نفساً وأباً أضيعها دمَاً وأذلها أصلا. قال له الحسين: فإني ذاهب، قال له: انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار، فبسبيل ذلك، وإن نأت بك، لحقت بالرمال وشعاب الجبال ومن بلد إلى بلد حتى تنظر مصير أمر الناس وتعرف الرأي. فقال: يا أخي، نصحتَ وأشفقتَ، فلحق بمكة، وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع، فقال: إذا بايع الناس، وقيل: إن ابن عمر وابن عباس كانا بمكة ورجعا إلى المدينة، فلقيا الحسين وابن الزبير فأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد، فقال ابن عمر: لا نفرق جماعة المسلمين. وقَدِمَ هو وابن عباس المدينة وبايعا عند بيعة الناس.
ولما دخل ابن الزبير مكة، وعليها عمرو بن سعيد بن العاص الشهير بالأشدق؛ كما تقدم ذكره، قال: أنا عائذ بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يفيض معهم، ويقف هو وأصحابه ناحية.
ولما بلغ يزيد صنيع الوليد بن عتبة بأمر أولئك النفر وتوانيه في أمرهم، عزله عن المدينة، وولاها عمرو بن سعيد، فقدمها في رمضان، واستعمل على شرطته عمرو ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير من البغضاء.
قال العلامة ابن خلدون،: وولى يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص المدينة ومكة، والموسم والطائف، فقدم إلى المدينة سنة ستين في رمضان قبيل العتمة، فصلى العتمة بالناس، وقرأ: " لَم يَكنُ... " " البينة: 1 " و " إذَا زُلزِلتَ الأَرضُ " " الزلزلة: 1 " ، فلما أصبح، خرج على الناس وعليه قميص أحمر وعمامة حمراء، فصعد المنبر، فرماه الناس بأبصارهم، فقال: يا أهل المدينة، ما لكم ترموننا بأبصاركم كأنكم تريدون تقروننا سيوفكم؟! أنسيتم ما فعلتم؟! أما لو انتقم منكم في الأولى ما عدتم إلى الثانية. أغركم إذ قتلتم عثمان، فوجدتم صابراً حليماً وإمامَاً مواتياً، فذهب غضبه وذهبت أذاته، فاغنموا أنفسكم، فقد وليكم إمام بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، وقد اعتدل جسمه، واشتدَ عظمه، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأسره، فهو إن عض نهش، وإن وطئ فرش، لا يقلقله الحصى، ولا تقرع له العصا، فرعف وهو يتكلم على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة مسح بها، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة، فتنة عمت وعلا ذكرها، ورب الكعبة.
ثم خرج عمرو بن سعيد إلى مكة، فقدمها قبيل التروية بيوم، وخرج الحسين - رضي الله تعالى عنه - فقيل لعمرو: خرج الحسين، فقال: اركبوا كُل بعير بين السماء والأرض في طلبه، قال: وكان الناس يتعجبون من قوله، فطلبوه فلم يدركوه، فكانت الفتنة المشهورة. انتهى. ذكر ذلك في ذكر العيافة والزجر والطيرة.
وأحضر نفراً من شيعة ابن الزبير بالمدينة، فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير، وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم.
ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة ونحوها، وقال لعمرو بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ فقال: لا تجد رجلا أبلى له مني، فجهز معه سبعمائة مقاتل.
وعذل مروان بن الحكم عمرو بن سعيد بن العاص في غزو مكة، وقال له: اتق الله، ولا تحل حرمه، فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة.
وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمرو بن سعيد فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس " ، قال له عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ.
ويقال: إن الجيش كان عدته ألفَى مقاتل، وعلى مقدمته أنيس بن عمير الأسلمي، فلما قاربوا مكة، نزل أنيس بذي طوى، ونزل عمرو بالأبطح، وبعث إلى أخيه عبد اللّه أن بر يمين يزيد، فإنه حلف ألا يقبل بيعته إلا أن يؤتى به في جامعة؛ فلا تضرب الناس بعضهم ببعض؛ فإنك في بلد حرام.
فأرسل عبد اللّه بن الزبير من اجتمع معه من أهل مكة مع عبد اللّه بن صفوان بن أمية، فهزموا أنيساً بني طوى، وقتل أنيس في الهزيمة، وتخلف عن عمرو بن الزبير أصحابه، فدخل دار ابن علقمة وأجاره، وقال لأخيه عبد اللّه بن الزبير: قد أجرته، فأنكر ذلك عليه، وأجاز جواره، وقيل: إنه لم يجز جواره، وضربه بكل من ضربه عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة من جماعته، وحبسه بسجن عارم، ومات تحت السياط.
توجه الحسين بن علي إلى الكوفة واستشهاده بكربلاء
لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة، لقيه عبد اللّه بن مطيع، وسأله: أين تريد؟ فقال: مكة، وأستخير اللّه فيما بعد، فنصحه ألا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه - وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس، ورجع عنه.
ونزل الحسين بمكة، فأقام الناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتيه؛ وعلم أن أهل الحجاز لا يلتفتون إليه مع الحسين.
ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد، ولحاق الحسين بمكة، اجتمعت أهالي الكوفة والشيعة في منزل سليمان بن صُرَدَ الخزاعي، وكتبوا إليه؛ إنا حبسنا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، وإننا لم نبايع للنعمان بن بشير أمير الكوفة، ولا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه، وبعثوا بالكتاب مع عبد اللّه بن سميع الهمداني، ثم كتبوا إليه ثانية بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثة، يستحثونه للحاق بهم، فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إلي بأمركم ورأيكم، فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم عليكم قريباً، ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق.
فسار مسلم ودخل المدينة، وصلى في المسجد النبوي، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس، فضَلا الطريق، وعطش القوم، فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء، وانتهوا إليه وشربوا ونجوا.
فتطير مسلم بذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: إني خشيت ألاَ يكون حملك على ذلك إلا الجبن، فامض لوجهك، والسلام. فسار مسلم ودخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين، واختلفت إليه الشيعة، وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه بالنصر.
وعلم النعمان بن بشير أمير الكوفة بمكان مسلم، وكان حليماً يجنح إلى المسالمة، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فلما بلغه خبر مسلم والحسين، قال: لاَبنُ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من ابن بنت بَحدَل. فخطب وحذر الناس الفتنة وقال: لا أقاتل من لا يقاتِلُنِي، ولا آخذ بالظنة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه لأضربنكم بسيفي ما دام قائمه في يدي، ولو لم يكن لي ناصر. وقال له بعض حلفاء بني أمية: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين، فقال: أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحب إلي من أن أكون من الأَعزينَ في معصية الله. ثم نزل عن المنبر.
فكتب عمارة بن الوليد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، إلى يزيد بالخبر بضعف النعمان، وبقوله: لابن بنت رسول الله... إلخ، فابعث إلى الكوفة رجلا قوياً ينفذ أمرك، ويعمل عملك في عدوك، فأشار إلى يزيد سرجون الرومي كاتب أبيه بعبيد الله بن زياد، وكان منحرفاً عنه فقال له: إن أباك معاوية ولاه قبل موته، فكتب يزيد له بعهده على الكوفة مضافاً إلى البصرة، وبعث إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة بن مسلم، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه.
وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة: الأحنف بن قيس، والمنذر بن الحارث، ومالكِ بن مسمع البكري، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وود وعمرو بن عبيد الله بن معمر يدعوهم إلى الكتاب والسنة وإماتة البدعة. وخشي المنذر أن يكون دسيساً من عبيد الله بن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب من بين أصحابه، فقتل الرسول، ثم خطب الناس وأخبرهم بولايته الكوفة، واستخلافه أخاه عثمان بن زياد على البصرة، وتهددهم على الخلاف بالقتل، وأخذ الأدنى بالأقصى، والقريب بقريبه، ثم أَغَذ عبيد اللّه السير يسابق الحسين إلى الكوفة.
قال العلامة ابن خلدون: في خمسمائة، فتخلفوا عنه شيئاً فشيئاً.
وقال الحافظ الذهبي: في اثني عشر رجلاَ حتى دخل الكوفة وحده، ومر بالمجالس، فظنوه الحسين، فحيوا ورحبوا، وهو يسمع، وساءه ذلك، ثم انتهى إلى القصر في هجيج الناس يتبعونه، فأغلق النعمان الباب دونه يظنه الحسين، وقال: ما أنا بمسلم أمانتي إليك ولا أقاتلك، فدنا منه عبيد الله، وقال: افتح لا فتحت، فعرف صوته، وفتح له، وتفرق الناس.
ثم خطب لولايته ووعد بالإحسان للمحسن، والشدة على المريب والعاصي، وحذر من المخالفة، ثم أخذ العُرَفَاء بأن يكتبوا له الغرباء والحرورية وأهل الريب، ويضمن كل واحد ما في عرافته، ومن وجد في عرافته أحد لم يعرفه صلبه على باب داره. ثم نزل عن المنبر.
وسمع مسلم بن عقيل بذلك، فأتى منزل هانئ بن عروة، وكان الحسين أمره بالنزول عليه، فاستجار به، فآواه على كره لمكانه؛ خشية العاقبة، وأقامت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ. ودعا ابن زياد مولى له وأعطاه مالاَ ودسه عليهم؛ ليأتيه بعلمهم، فأتاه مسلم بن عوسجة الأسدي، وهو يصلي بالمسجد - وكان من كبار دعاتهم - فقال له: أنا من أهل الشام، وأردت لقاء هذا الرجل الذي يبايع للحسين، فاقبض هذا المال وأدخلني عليه أبايعه، وإلا فخذ أنت بيعتي قبل لقائه؛ فأخذ بيعته وبقي يختلف إليه.
ومرض هانئ بن عروة، فأتاه عبيد اللّه بن زياد يعوده، وحمل أصحاب هانئ على الفتك با بن زياد، فقال: ما أحب ذلك في بيتي، ثم مرض شريك بن الأعور، أو تمارض. فقيل لابن زياد: إن شريكاً شاك يقئ الدم، وكان قد شرب المغرة فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده، وكان قد نزل على هانئ وكان شديد التشيع شهد صفين مع علي، فقال لمسلم بن عقيل: إذا قلت: اسقوني، فاخرج واقتله، ثم اقصد القصر، فلا حائل دونه، وإن برثت من وجعي، كفيتك أمر البصرة.
فلما جاء عبيد اللّه بن زياد إلى منزل هانئ جبن مسلم عن قتله، وبقي شريك ينبهه لذلك ويقول: اسقوني، اسقوني فأبطأ عليه، فقال: ويحكم اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، فلا يجيب، حتى خرج ابن زياد ولم يصنع مسلم شيئاً، وكان من أشجع الناس ولكن أخذته كبوة، فاعتذر عن قتله بأن هانئاً يكره ذلك في بيته، وبأن علياً حدثَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قيد الفتك.
ثم قضى شريك بعد ثلاث، وصلى عليه عبيد الله بن زياد، ثم علم بعد ذلك بشأنه، فحلف لا يحضر جنازة عراقي.
ثم إن المولى الذي دسه ابن زياد بالمال اختلف إليه مسلم بن عوسجة بعد موت شريك، فأدخله على مسلم بن عقيل، فأخذ بيعته وقبض ماله، وأقام يختلف إليهم ويخبر ابن زياد بأحوالهم حتى تبين جلية الأمر، وكان هانئ انقطع عن عبيد الله بن زياد بعذر المرض، فدعا ابن زياد محمد بن الأشعث، وأسماء بن خارجة، وعمرو ابن الحجاج، والزبيدي، وعذل هانئاً في انقطاعه عنه وأنه بلغه برؤه من المرض، وقال: القوه فمروه ألا ينقطع عني، فلقيه القوم ولاموه في ذلك ثم حلفوا عليه واستركبوه معهم، ودخلوا به على ابن زياد، وكان مكرمَاً له، فقال له ابن زياد: يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربض في دارك للمسلمين وأمير المؤمنين؟! وأخبره بشأن مسلم بن عقيل، فأنكر، فدعا ابن زياد المولى الذي دَسَه عليهم، ورآه هانئ فسقط في يده، ثم قال: والله، ما دعوت الرجلَ ولا علمت بشيء من أمره، وصدقه الخبر عن مجيئه إلى داره، واستجارته به واستحيائه من رده، وقد كان من أمره ما بلغك، وأنا الآن أعطيك عهداً ورهينة حتى أخرجه من داري وأعود إليك، فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني حتى تأتيني به، فقال: آتيك بضيفي تقتله.؟ واللّه لا فعلت. ثم قام إليه مسلم بن عمرو الباهلي، ولم يكن هنالك أعز منه، فاستأذن ابن زياد ودخلا ناحية، ونصحه أن يأتي به؛ فإنه ابن عمهم وليسوا قاتليه ولا ضاربيه، وليس عليك في ذلك منقصة، وإنما دفعته إلى السلطان، فأبى ولج. وسمعه ابن زياد، فاستدناه، وقال: لئن لم تأتني به، لأضربن عنقَك، قال هانئ: إذن واللّه تكثر البارقة.
ويقال إن هانئَاً لما رأى الرجل الذي كان عيناً، قال: أيها الأمير، أنت آمن وأهلك، فسِرْ حيث شئت، فأشار ابن زياد إلى مهران مولاه، وهو قائم على رأسه، فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب من يد مهران، ولم يزل يضرب وجه هانئ حتى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته، ثم أغلق عليه في بيت. وجاء أسماء بن خارجة منكراً لذلك؛ لأن هانئاً جاء في جواره، وأمر به ابن زياد يطرد عنه وحبس، وأظهر محمد بن الأشعث الرضا وجلس، وبلغ عمرو بن حجاج أن هانئاً قتل، فأقبل في مذحج وأحاطوا بقصر ابن زياد، وأمر ابن زياد القاضي شريحاً أن يعلمهم بحياة هانئ بعد أن أدخله عليه فرآه حَياً، فأخبرهم فانصرفوا.
وجاء الخبر إلى مسلم بن عقيل، وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً، وحوله في الدار أربعة آَلاف، فنادى فيهم، وركب نحو قصر عبيد اللّه بن زياد، وأحاط به وامتلأ المسجد والسوق من الناس إلى المساء، وضاق بعبيد اللّه بن زياد أمره، وليس معه في القصر إلا نحو خمسين رجلا من أهل بيته ومواليه، وتسلل إليه الأشراف، وأمر كثير بن الحارث أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج؛ فيخذل عنه الناس، وأمر ابن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية أمان لمن حماه من الناس، وبعث بمثل ذلك القعقاع بن شور الذهلي، وشبيب بن ربعي التميمي، ومجاز بن أبي أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي، وترك وجوه الناس عنده استئناساً بهم، وخرج أولئك النفر على الناس فافترقوا عن مسلم بن عقيل إلى أن بقي في المسجد في ثلاثين، فخرج واختفى عند عجوز من ذوي ابن الأشعث، وتعرف إليها فأخفته.
وخرج ابن زياد إلى المسجد قبل العتمة ونادى في الناس، فامتلأ المسجد، وأحضر الحصين بن تميم، وكان على الشرط أن يفتش الدور، وشعر ابن العجوز بمسلم بن عقيل عند أمه، فأتى عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فأخبره وأخبر أباه، فأخبر ابن زياد، فقال: ائتني به الساعة، وبعث معه عمر بن عبيد اللّه السلمي في سبعين من قيس، فلما أتوا الدار، وسمع مسلم بن عقيل الأصوات، خرج بسيفه وما زال يحمل عليهم، وقطعت شفته العليا، وسقطت ثنيتاه، وألقوا عليه النار والقصب وهو يقاتل حتى أثخن وعجز عن القتال، فأمنه ابن الأشعث، وحمله على بغل وانتزعوا سيفه، فقال: هذا أول الغدر وبكَى، فعذله عمرو بن عبيد اللّه السلمي فقال: إنما أبكي على الحسين وآله.
قلت: خَيبَ اللّه أهل العراق الخونة الفجار، وأحلَهم الدرك الأسفل من النار.
ثم قال مسلم لابن الأشعث: عساك أن تبعث تخبر الحسين بحالي ليرجع بأهل بيته ولا يغتر بأهل الكوفة، ففعل ذلك ابن الأشعث، ولقيه الرسول بزبالة، وقد جاءه كتاب مسلم في الأول يخبره بمن بايعه ويستحثه على السير، فقال الحسين حين قرأ كتاب الأشعث: كُل ما قدر كائن، وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.
ثم أدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال: ما بعثناك لتؤمنه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمارة بن عقبة بماء بارد، فلم يطق الشرب لما كان يسيل من دم فيه، فتركه ودخل على ابن زياد، فقال له: لتقتلن، فقال: دعني لأوصي. فالتفت إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناجاه بأن يقضي عنه دينه، ويواري جثته، ويبعث إلى الحسين يرده. ثم حاوره وأساء بعضهما على بعض، ثم أصعد فوق القصر وضربَتْ عنقه، تولى ذلك بكير بن عمران لضربة أصابه مسلم بها في الجولة عند الدار.
وكان ابن الأشعث قد تشفع في هانئ بن عروة، فوعد باستبقائه، فلما قتل مسلم، أخرج إلى السوق فضربت عنقه، وبعث ابن زياد بالرأسين إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره ويأمره بالاحتراس ووضع المراصد، فإن الحسين قد سار إليك. ثم طلب ابن زياد المختار بن أبي عبيد، وعبيد اللّه بن الحارث بن نوفل، وكانا جاءا مع مسلم بن عقيل، فحبسهما.
ولما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتاب مسلمٍ السابقِ وأهل العراق جاءه عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وهو بمكة، فقال له: بلغني أنك تريد العراق، فأنا مشفق عليك، تأتي بلداً فيه العمال والأمراء وبيوتُ الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك، فجزاه الحسين خيرَاً، وقال: لا بدَّ لي من ذلك، وأتاه ابن عباس بمثل ذلك فعصاهما. ثم ألم عليه ابن عباس وأشار عليه بالخروج إلى اليمن، فقال له الحسين: يا بن عمي، لا أنقض عزمي، قال: فإذ قد عصيتني، فلا تسر بنسائك ولا صبيانك؛ فإني أخاف أن تقتل وهم ينظرون كما قتل عثمان، ولقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز؛ ثم التفت إلى ابن الزبير، فإذا هو في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام، فجاء حتى ضرب بيده بين عضديه، فقال: أصبحت واللّه كما قال فأنشده: من الرجز:
يَا لَكِ من قُنبُرَةٍ بِمَعمَرِ ... خَلاَ لَكِ الجَو فَبِيضِي وَاصفِرِي
وَنَقرِي مَا شِئتِ أَن تُنَقرِي ... قَد رُفِعَ الفَخُّ فَمَاذَا تَنظُرِي
خلا الحجاز من الحسين بن علي، وأقبلت تهدر في جوانبها، فغضب ابن الزبير، وقال: والله، إنك لترى أنك أحق بهذا الأمر من غيرك، فقال ابن عباس: إنما يرى ذلك من كان في حال مثلك، وأنا من ذلك على يقين، فقال ابن الزبير: وبأي شيء تحقق عندك أنك أَولَى بهذا الأمر مني. فقال ابن عباس: أنا أحق بمن تدلي بحقه، وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً، فقال ابن عباس: أنت أشرف أم مَن شَرُقتَ به؟ فقال ابن الزبير: إن من شرقت به زادني شرفاً إلى شرف قديم كان لي، قال: أفمني الزيادة أم منك؟ قال: بل منك، فتبسم ابن عباس، فقال ابن الزبير: يا بن عباس، دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت، والله لا تحبوننا يا بني هاشم أبداً، قال ابن عباس: صدقت؛ نحن أهل بيت مع الله - عز وجلَّ - لا نحب من أبغضه اللّه تعالى، فقال: ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟ فقال: إنما أصفح عمن أقر، وأما عمن هر فلا، والفضل لأهل الفضل، قال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال: عندنا أهل البيت، لا نَصرِفُهُ عن أهله؛ ولا نضعه في غير أهله، فنندم، قال ابن الزبير: فبظلم فلست من أهله، قال: بلى، إن نبذت الحسد، ولزمت الحدود، وانقضى حديثهم، وقام القوم فتفرقوا.
وكان خروج الحسين من مكة يوم التروية من سنة ستين، وسار مع أصحابه فلقي بالتنعيم عيراً مقبلة من اليمن عليها الورس والحلل، بعث بها بجير بن رومان عامل اليمن إلى يزيد فأخذها الحسين وأعطى أصحابه كراهم. ثم سار فرأى الفرزدق بالصفاح، فقال له: أخبرني عن الناس خلفك، فقال: القلوب معك - أو قلوبهم معك - وسيوفهم عليك مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، فقال الحسين: صدقت للّه الأمر يفعل ما يشاء، كل يوم هو في شأن.
ثم لحقه كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يسأله باللّه في الانصراف والرجوع لا يهلك نفسه وأهل بيته، وإني في إثر كتابي. ثم جاءه كتاب عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد على مكة مع أخيه يحيى بن سعيد بالأمان والترغيب، فلم يفعل، واعتذر بأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يأمره بأمر، وهو ماض له.
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مَكة، بعث الحصين بن تميم التميمي صاحب شرطته، فنزل القادسية، ثم نظم الخيل ما بينه وبين خفان، وما بينه وبين القطقطانة إلى جبل لعلع، ولقي هنالك قيس بن مسهر الأسدي بكتاب الحسين من الحاجر إلى أهل الكوفة يعرفهم بقدومه، فبعث به الحصين إلى ابن زياد، فلما جاءه قال: اصعد القصر، فسب الحسين، فصعد وأدى رسالة أهل الكوفة وأنه فارقه بالحاجر ولعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي وبنيه، فأمر ابن زياد فرمى به من القصر فتقطع، وانتهى الحسين في مسيره إلى عبد اللَه بن مطيع، فعذله فيما جاء له، وناشده اللّه وحرمة الإسلام والعرب وبنات الرسول لا تأتي الكوفة فتقتلك بنو أمية، فأبى وسار، ولقيه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية، فناشده اللّه أصحابه في الرجوع، فقال بنو عقيل: لا واللّه حتى نحرك ثأرنا، فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء.
ثم سار، فكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة، فلقيه مقتل قيس بن مسهر الأسدي الذي ألقاه ابن زياد من أعلى القصر، فأعلم الناس الذين معه بذلك، وقال: قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب فلينصرف، وقصده أن يوطنهم على ما يقدمون، فافترقوا عنه ولم يبق معه إلا أصحابه الذين خرجوا معه من مكة، فسار إلى سرف، ثم سار منها إلى منتصف النهار، فلقيهم الحر بن يزيد التميمي، ولما رآه قال له بعض الناس معه: مل بنا إلى ذي جشم تجعله عن يسارك ونستقبل القوم من وجه واحد، ففعل، وسبقهم إلى الجبل فنزل، وجاء الحر في ألف فارس أرسله الحصين بن تميم من القادسية يستقبل الحسين، فقال الحسين: إني لم آتِ إلا بكتبكم ورسلكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من العهد أقدم مِصرَكُم؛ وإلا أرجع من حيث جئت، ثم حضرت الصلاة فصلى الحسين، وصلى الحر وأصحابه بصلاته.
ثم استقبلهم وأنمى عليهم شأن الكتب وذم الولاة، فقال الحر: واللّه ما ندري ما هذه الكتب والرسل، فاستدعى بخرجين مملوءين صحفاً ونشرها، فقال الحر: لسنا من هؤلاء، وإنما أمرنا إذا لقيناك ألاَ نفارقك حتى نقدمك الكوفة على ابن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك، ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا، فمنعهم الحر، وطال بينهما الكلام، وقال الحر: لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فخذ طريقاً غير طريقها، وأكتبُ أنا إلى ابن زياد، واكتب أنت إليه وإلى يزيد، فعسى أن يأتي من الأمور ما يدفع عني أن أُبتلى بشيء من أمرك. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحر معه، وهو يعظه ويذكره حقوق أهل البيت ووجوب طاعتهم، ويقدح له في ولاته وأمرائه بما كان معهم، ويذكُرُ له كتب أهل الكوفة ورسلهم، والحر يعظه، ويقول له: اتق الله في نفسك، فلئن قاتلت لتقتلن، فيقول: بالموت تخوفني؟! ويضرب الأمثال وينشد في الشجاعة.
فلما رآه الحر كذلك، عدل يسير عنه ناحية حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات - سمي بهجان ابن النعمان، كانت ترعى فيه - فإذا هو بأربعة فرسان دليلهم الطرماح بن عدي الطائي، وأجمح الحر حسهم فردهم، فقال الحسين: هم بمنزلة أصحابي وإلا ناجزتك، ثم أخبره بخبر الكوفة وقتل قيس بن مسهر، فبكى وقرأ: " فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَه وَمنهُم مَن يَنتَظِر " " الأحزاب: 23 " ، ثم دعا لهم، وقال له الطرماح: ما أرى معك كثير أحد، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين مع الحر، لكانوا أكثر من كفْئِكَ، فكيف بمن سار إليك من الكوفة، فلم تر عيناي جمعاً أكثر منهم، فأنشدك اللّه ألاَ تتقدم إليهم شبراً، وإن أردت، فسر معي، انزل جبلنا أجأ، فقد امتنعنا به واللّه من ملوك غسان وحمير والنعمان، ومن الأبيض والأحمر، وتجتمع إليك طيئ في عشرين ألفَاً لا يوصل إليك وفيهم عين تطرف، فجزاه خيراً، وقال: قد عاهدنا هؤلاء القوم الذين معنا، فلا بد من الوفاء لهم، فودعه الطرماح وانصرف.
فسار الحسين ومَرَ بقصر بني مقاتل، فرأى فسطاطاً لعبيد الله بن الحر الجعفي، فاستدعاه فقال: واللّه ما خرجت من الكوفة إلا فرارَاً من الحسين، فركب الحسينُ وجاءه ودعاه إلى النصرة، أو أن يكون ممن يكف، فأجابه إلى هذه.
ثم ركبوا من الغد، وأراد أن يفارق الحر، فمنعه؛ وإذا بكتاب من ابن زياد إلى الحر يأمره أن يجعجع بالحسين حتى يجيء كتابه ورسوله ولا ينزله إلا بالعراء في غير حصن ولا ماء، وقد أمرت الرسول أن يلزمك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، فقرأ الحر الكتاب، وأعلم الحسين وأصحابه بما فيه فقالوا: دعنا ننزل في الغاضرية، فقال: لا أستطيع، وهذا الرجل قد بعث عيناً علي، فقال زهير بن القين، وكان صحبه من مكة: تعال نحاجز هؤلاء، فهم أهون علينا ممن يأتينا بعدهم، فقال: ما كنت لأبدأهم بالقتال، وذلك لليلتين من المحرم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد، قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وكان ابن زياد جهزه إلى حرب الديلم، وكتب له عهده على الري، فلما كان أمر الحسين، دعاه أن يقدم حربه، ثم يرجع إلى عمله، فاستعفاه، فقال: نعم، على أن ترد ولاية الري، فقال: أمهلني، واستشار أصحابه فكلهم نهاه، غير ابن أخته حمزة ابن المغيرة بن شعبة، وقال له: تفتدي من دم الحسين بسلطان الأرض لو كان لك، ثم غدا على ابن زياد واستعفاه ثانية، فقال له مثل الأول، قال: فإني سائر، وأقبل في الجيوش حتى نزل بالحسين، وبعث إليه يسأله ما جاء به. فقال: كُتُبُ أهل الكوفة، فأما إذ كرهوني، فأنا أنصرف عنهم، فكتب بذلك إلى ابن زياد، فكتب إليه أن يعرض على الحسين البيعة أو يمنعه ومن معه من الماء، فأرسل عمرو بن الحجاج إلى الشريعة، ومنعوهم الماء، واشتد عليهم العطش، فركبوا إلى الماء، وقاتلوا عليه، وملئوا قربهم، ثم بعث الحسين إلى عمر في اللقاء، فلقيه ليلا، وتحادثا طويلا وافترقا.
وكان فيما قال له الحسين: دعوني أرجع إلى المكان الذي جئت منه، أو أذهب في الأرض العريضة حتى يستقيم أمر الناس. وكتب عمر بذلك إلى عبيد الله بن زياد يبشره بأن اللّه أطفأ النائرة وجمع الكلمة، فقبل ابن زياد ذلك، وقام إليه شمر بن ذي الجوشن منكراً لذلك، وقال: تقبل ذلك منه، وقد نزل بأرضك؟! ولئن رحل ولم تضع يدك في يده، ليكونن أعز، وتكون أعجز، ولكن لينزل على حكمك.
وقد بلغني أن الحسين وعمر باتا يتحادثان عامة ليلتهما بين العسكرين، فقال ابن زياد: نِعمَ ما رأيت، اخرج إليه أنت بهذا الكتاب؛ ليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، ويبعث بهم سلماً، وإن امتنعوا، فليقاتلهم، وإن أبى عمر من ذلك، فأنت الأمير، وابعث إلي برأسه، وكتب إلى عمر بذلك وعنفه على المطاولة والشفاعة، وأن يفعل ما أمره به، وإلا فليعتزل العسكر، ويخلي بين شمر وبينه، وكتب معه أماناً لبني علي بن أبي طالب من أم البنين بنت حذام، وهم العباس وعبيد اللّه وجعفر وعثمان، سأله الأمان لهم عبد الله ابن خالهم أبي المحل بن حرام، وكان حاضراً عند ابن زياد، فردوا أمانه، وقالوا: لا حاجة لنا فيه.
ولما أتى شمر إلى عمر، قال له: يا شمر، أظنك أنت تثنيه عما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أموراً أرجو أن تصلح، والحسين والله لا يستسلم أبداً. ونهض إليه عشية تاسوعاء، فركب العباس أخو الحسين في عشرين فارساً وتلقاهم، فأخبروه بما جاء به من أمر ابن زياد، فجاء به إلى الحسين، فقال: ارجع إليهم، ووخرهم إلى الغداة، لنستكثر من الصلاة والدعاء والاستغفار، فوعدهم الحسين إلى الغداة: فإما رضينا، وإلا رعدناه.
فشاور عمر أصحابه، فأشار بعضهم بإمهاله، وهو عمرو بن الحجاج الزبيدي. فقال: واللّه لو كان من الديلم، لوجب إمهاله. وأشار قيس بن الأشعث بالمناجزة، وقال: ليصبحنك بالقتال، فرجع عمر، وجمع الحسين أصحابه، واستشارهم وجزاهم خيرَاً، وأذن لهم في الانطلاق، وقال: هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا، وافترقوا في البلاد، والقوم إذا أصابوني، لَهُوا عن غيري، فأبوا فقال: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، واذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: ما تقول الناس؟ والله، لا نفعل، ولنقاتلن معك حتى نرد موردك، وقام إليه بعض أصحابه من غير عشيرته، فقال: كيف نتخلى عنك، ولم نعذر إلى اللّه في حقك، والله لا أفارقك حتى أكسر رمحي وسيفي وأقذفهم بالحجارة دونك حتى أموت.
وتكلم أصحابه بمثل ذلك فجزاهم خيرَاً، وسمعن أخواته بذلك فطفقن يعولن ويلطمن، حتى غشي على بعضهن، فجاء إليهن وعزاهن برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومَن سلف من قومه وعاهَدنَ ألا يكثرن الصراخ عليه، ولا يشقفنَ الجيوب، ولا يخمشن الوجوه، ولا يدعين بالويل والثبور.
ثم أمر أن تدخل أطناب البيوت بعضها في بعض؛ ليستقبلوا العدو من أمامهم، ثم قاموا يصلون ويدعون ويستغفرون حتى أصبح، وذلك يوم عاشوراء.
وركب عمر بن سعد في التعبئة، وعبأ الحسين أصحابه اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلا، وأعطى رايته أخاه العباس، وضرب للحسين فسطاط أمام أخبيته، فدخل فيه، واستعمل النورة، ثم أميث له المسك في جفنة، وأطلى به، ثم ركب ووضع المصحف أمامه، وقاتل أصحابه بين يديه وهو يدعو.
ثم تقدم على راحلته ونادى الناس، ووعظ وذكر بحقوقه، وقال: إن كذبتموني، فعندكم من يخبركم، سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد وأنساً وسُهَيل بن سعد وزيد ابن أرقم يخبروكم بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقنا أهل البيت، أما في هذا حاجز يحجزكم عن دمي؟! تطلبوني بمالٍ أو دمٍ أو قصاصٍ؟! فلم يجيبوه. فنادى: يا شبيب بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إِلي بالقدوم؟ قالوا: لا، قال: بلى، قد فعلتم، فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض، فقال له قيس: أفلا تنزل على حكم ابن زياد، وهو ابن عمك؟! قال: لا، والله لا أعطي يدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبد، عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبرِ لا يؤمن بيوم الحساب.
ثم أناخ راحلته، ونزل عنها وخرج زهير بن القين، وهو شاكي السلاح، وكان صحب الحسين من مكة، فوقف بين العسكر، ووعظ أهل الكوفة، ونصحهم ودعاهم إلى نصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلان ابن زياد، وأفحش في ذم عبيد اللّه وأبيه، وقال: يقتلانكم ويقطعانكم ويسملانكم ويقتلان أماثلكم، اذكروا حجر بن عدي، وهانئ بن عروة. فشتموه وأثنوا على ابن زياد، وقالوا: لا نبرح حتى نقتلكم أو نأسركم، فقال لهم: أعيذكم بالله أن تقتلوا ابن فاطمة، خلوا بينه وبين ابن معاوية؛ فإن يزيد يرضي منكم بدون هذا، ثم رماه شمر وشتمه، فتشاتما ساعة، ثم رده الحسين فرجع.
ولما زحف عمر بن سعد نحو الحسين، قال له الحر بن يزيد الذي كان جاء ليلازم الحسين: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: نعم، قال: ولا تقبلون منه واحدة من الخصال التي عرض عليكم؟ فقال عمر: لو كان الأمر إلي، لفعلتُ، ولكن أميرنا أبى ذلك. ثم أقبل يدنو نحو الحسين حتى استراب به أصحابه، ولحق به، وقال: يا بن رسول اللّه، أنا صاحبك الحر الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وواللّه لو ظننت أنهم لا يقبلون منك واحدة مما عرضت عليهم، أو يبلغون بك هذه المنزلة، ما فعلت الذي فعلت، وقد جئتك تائبَاً أموت دونك، أفتراها لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك. ثم انعطف إلى أصحابه وقال: ألا تقبلون من الحسين واحدة مما عرض عليكم؛ فيعافيكم اللّه من حربه وقتاله؟ فقال له عمر: قد حرصت على ذلك، وما وجدت إليه سبيلاَ، ثم نادى أهل الكوفة ووبخهم على أن دعوه وأسلموه، ثم منعوه من التوجه في بلاد اللّه العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ومنعوه وأصحابه ماء الفرات يشربه اليهودي والنصرانيُ والمجوسيُ، وتمرغ فيه كلاب السواد وخنازيرهم وهو وأهله صرعى من العطش. بئسما خلفتم محمداً في ذريته، ودعا عليهم، فرموه بالنبل فرجع.
ثم تقدم عمر بن سعد برايته، ورمى بسهم، وقال: اشهدوا أنا أول رامٍ، وتبارز الناس، وقتل في البراز يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، قتلهما عبد الله بن عمير الكلبي، وكان قد لحق بالحسين من الكوفة ومعه امرأته، ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين وأصحابه، فجثوا على الركب وأشرعوا نحوه الرماح، فلم يقدموا، وذهبوا ليرجعوا فأصابوهم بالنبل، فصرعوا منهم رجالا، وخرج يزيد بن حصين - من أصحاب الحسين - يبارز يزيد بن معقل، فبارزه فقتله آخر دونه.
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فقاتل وقتل، وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالاَ شديداً، وقتل من أصحاب عمرو، وصاح عمرو بن الحجاج بالناس يقاتلون فرسان المصر مستميتين، وهم قليلون وقل ما يبقون ولو رميتموهم بالحجارة لقتلتموهم، ووافقه عمر، فمنع الناس من المبارزة، ثم حمل عمرو بن الحجاج على جانب الحسين، واقتتلوا ساعة، وقتل مسلم بن عوسجة الأسدي، وانصرف عمرو ومسلم صريع، فجاء إليه الحسين ودعا له، ودنا منه حبيب بن مظاهر، واستوصاه، وقال: أوصي إليك بهذا أن تموت دونه وأشار إلى الحسين، فقال: أفعل، ثم قضى مسلم، وصاحَتْ جاريته، وسمعها شمر بن ربعي، وقد سمع أصحابه يقولون: قتلنا مسلم بن عوسجة، فنكر قتله وتسخط، وقال: أتفرحون لمثل مسلم؟! وعدد مواقفه، ثم حمل في الميسرة فثبتوا، ثم حملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب وهم يكرهون ولا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلا كشفوا.
وبعث عروة بن قيس وهو على خيل الكوفة إلى عمر بن سعد أن ابعث إلينا الرجال والرماة، فقال لشبيب بن ربعي: تقدم، فقال: مثلي لا يبعث في الرماة، وكان يكره ذلك القتال كله، فقال للحصين بن تميم: تقدم، فرشقوا الحسين وأصحابه بالنبل فعقروا خيولهم وأرجلوهم، وقاتل الحر بن يزيد أشد قتال إلى أن انتصف النهار، ولا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم، فبعث عمر من يقوض تلك الأبنية.
وكان أصحاب الحسين يتخللون الأبنية فيقتلون الرجل يعرض أو ينهب، فأمر عمر بن سعد فأضرمت نار، ومنعت العدو من الجواز من جانبها، وبلغ شمر فسطاط الحسين ليحرقه بالنار، فصاح به الحسين والنساء، وجاء شبيب بن ربعي فزجره عن ذلك فرجع، واتبعه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت، وقتلوا من أصحاب شمر أبا عوزة الضبابي، وعطف عليهم فأصاب منهم.
ثم حضر وقت الصلاة، وذكر أبو ثمامة الأنصاري بالصلاة، فقال الحسين: الإمهال لنصلي، ووقع الكلام في ذلك بين الحصين بن زيد من أهل الكوفة وحبيب ابن مظاهر من أصحاب الحسين. وقتل الحبيب رجل من بني تميم، وقتله الحصين. ولما قتل حبيب هد ذلك من الحسين، ثم حمل الحر بن يزيد، فقاتل حتى قتل، ثم صلى الحسين الظهر صلاة الخوف، ثم اشتد القتال بعد الصلاة، وخلصوا إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه، واستهدف لهم فرموه حتى سقط، وقاتل زهير بن القين حتى قتل، وأسر يافع بن هلال الجملي بعد أن قتل اثني عشر منهم، وقتله شمر، فتنافر أصحاب الحسين أن يقتلوا بين يَدَيهِ، فقتل منهم جماعة، ثم رموا بالحجارة من كل جانب، واستأذنه الضحاك بن عبد اللّه في الانصراف والنجاة، فأذن له وانصرف.
ثم خلص القوم إلى أهل البيت، فقتل علي الأكبر بن الحسين بعد أن حمل عليهم مراراً، فطعنه مرة بن منقذ فصرع، فجاء الحسين فحمله حتى وضعه بين يَدَي فسطاطه، ثم رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فقتل، ثم حمل آَخر على عون ابن عبد الله بن جعفر فقتل، ثم على عبد الرحمن بن عقيل فقتل، ثم على جعفر بن عقيل فقتل، ثم على القاسم بن الحسين فقتل، وجالوا عنده جولة وطئته فيها الخيل، ثم انجلت الغبرة والحسين قائم على فرسه وهو يفحص برجَليهِ، ثم احتمله فألقاه مع ابنه علي وقتلى أهل بيته.
ومكث الحسين طويلا من النهار والناس يتحاشَونَ قتله، ثم جاء مالك بن النسير من كندة، فضربه على رأسه بالسيف فأعماه، ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو مُتَحَير فأجلسه في حجره، فرمى بسهم ذبحه، ثم رمى أبو بكر بن الحسين بسهم فقتل، ثم تقدم العباس بن علي وأخوته من أمه فقتلوا جميعاً، واشتد عطش الحسين، فجاء ليشرب من الفرات، فرمى حصين بن تميم بسهم في فمه فجعل يتلقى الدم ويدعو، ثم أقبل شمر بن ذي الجوشن في عشرة من رجالته، فحالوا بين الحسين وبين أهله، فقال: امنعوا أهلي ورحلي من طغامكم، فقال: ذلك لك، ثم حمل عليهم وحملوا عليه وأحاطوا به من يمينه وشماله.
وخرجت زينب تنادي فلقيت عمر بن سعد، فقالت: يا عمر، يقتل أبو عبد الله، وأنت تنظر؟ فبكى وزوى عنها وجهه، ثم نادى شمر: ماذا تنتظرون بالرجل؟ فحملوا عليه، وضرب زرعة بن شريك التميمي كتفه الأيسر وعلى عاتقه فأوهنه، ثم طعنه سنان بن قيس النخعي بالرمح، وقال لخولى بن يزيد الأصبحي: جز رأسه، فأرعد، فنزل إليه سنان فأخذ رأسه ودفعه إلى خولى، وسلب ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وقطيفته قيس بن الأشعث، وكانت من خز، وسيفه رجل من دارم، وانتهب الناس ثقله ومتاعه وإبله وسلبوا نساءه.
وانتهوا إلى علي بن الحسين وهو مريض، وأراد الشمر قتله فمنعه حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد وقال: لا يدخلن بيت النبوة أحد، ولا يعرض لهذا الغلام المريض، وليرد عليهم متاعهم. ولم ينج من القوم إلا اثنان. ونادى عمر بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين؛ فيوطئه فرسه، وكان ابن زياد أمره بذلك، فانتدب عشرة فداسوه حتى رضوا ظهره وصدره، وكان به ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، وقتل من أصحابه اثنان وسبعون رجلا، ودفنهم أهل الغاضرة من بني أسد. وقتلوا من أصحاب عمر بن سعد مائة وثمانين رجلا، فصلى عليهم ودفنهم.
وبعث برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى ابن زياد مع شمر، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعروة بن قيس، وأحضرها بين يديه، وجعل ينكت بقضيبه بين ثنيتي الحسين، فقال له زيد بن الأرقم: ارفع قضيبك عنها، فلقد رأيت شفتَي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم بكى، فزجره ابن زياد فخرج مغضبَاً.
ثم ارتحل عمر بن سعد إلى الكوفة بعد مقتلهم بيومين، ومعه نساؤهم وصبيانهم وبناتهم وعلي بن الحسين مريض، ومروا بالحسين وأصحابه صرعى فأعولوا ولطموا.
ولما أدخلوا على ابن زياد، قال عبيد الله: من هذه؟ يشير إلى زينب، فقيل له: هذه زينب بنت فاطمة، فكلمها وأجابته، وأبلغَت فأغضبته حتى قال لها: هذه شجاعة ولقد كان أبوك شجاعاً، فقالت: ما للمرأة والشجاعة؟ ثم قال لعلي بن الحسين: ما اسمك؟ فأخبره، فقال: ألم يقتل الله علياً؟! فقال: " وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أن تَمُوتَ إلا بإذنِ اَلله " " آل عمران: 145 " ، فقال: أنت واللّه منهم، ثم قال: انظروا هل أنبت؟ فقيل له: نعم، فقال: اقتلوه، فقال: ومن يوكل بهذه النسوة؟! وتعلقت به زينب، وقالت: يا بن زياد، حسبك، أما رويت من دمائنا؟ ثم اعتنقته، وقالت: إن قتلته فاقتلني معه، وقال علي: يا بن زياد، إن كان بينك وبينهن قرابة، فابعث معهن من يصحبهن بصحبة الإسلام.
ثم خطب الناس وتعرض للحسين، وشتمه بعض شيعته، وأمر بقتله وصلبه، ثم أمر برأس الحسين، فطيف به في الكوفة، ثم بعث به وبرءوس أصحابه إلى يزيد مع عمرو بن ذي الجوشن، ويقال: مع زفر بن قيس، وبعث معهم بالنساء والصبيان محمولاتٍ على الأقتاب، والغل في عنق علي بن الحسين ورقبته، فدخل على يزيد زفر بن قيس، فقال: ما وراءك؟ قال: أبشر بفتح اللّه وبنصره، ورد علينا الحسين في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، وسرنا إليهم وسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد اللّه أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، وجعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالآكام والحفر؛ كما لاذ الحمام من صقر، فما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسامهم مجردة وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتعفر عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم، قال: فدمعت عينا يزيد، وقال: كنت أرضى من طاعتك بدون قتل الحسين، لعن اللّه ابن سُمَيةَ، أما والله، لو أني صاحبه، لعفوتُ عنه، فرحم اللّه الحسين.
أقول: بل لعن الله ابن ميسون قبل ابن سمية وبعده إلى يوم يبعثون.
ويقال: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة، حبسهم ابن زياد، وبعث إلى يزيد بالخبر، فأمره بإرسالهم إليه، فبعثهم مع نخفر بن ثعلبة وشمر، ومعهما الثقل والرأس، وأنهما لما وضعا الرأس بين يديه وحدثاه، سمعت حديثهما هند بنت عبد الله بن عامر، وكانت تحت يزيد، فتسفعت بثوبها وخرجت، فقالت: يا أمير المؤمنين، رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فأعولي عليه، عجل عليه ابن زياد، فقتله، قتله اللّه، ثم دخل عليه الناس والرأس بين يديه، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام: من الطويل،
أبى قَوْمُنَا أَن ينصِفُونَا فَأَنْصَفَت ... قَوَاضِبُ في أَيْمَانِنَا تَقْطُرُ الدمَا
تفلقْنَ هَاماً من رِجَالٍ أَعزة ... علينا وَهُمْ كانوا أَعَق وَأَظْلَمَا
ويقال: إنه استشهد ببعض أبيات قصيدة عبد اللّه بن الزبعري التي قالها في يوم أحد التي مطلعها قوله: من الرمل،
يَا غُراَبَ البَينِ أسمعتَ فَقُل ... إنمَا تَنْطِقُ شيئاً قَدْ فُعِلْ
ومنها قوله:
لَيْتَ أَشْيَاخي بِبدرِ شَهِدُوا ... جَزع الخَزرَجِ مِنْ وقعِ الأَسَلْ
وإنه نكت في ثغر الحسين بقضيبه؛ كما فعل ابن زياد، فقال له أبو برزة الأسلمي ما قال زيد بن أرقم لابن زياد، ثم قال يزيد: يا حسين، والله لو أْني صاحبك ما قتلتك، ثم قال: أتدرون من أين أتى الحسين؟. قال: أبي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، فأما أمه وجده فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يعتقد غير هذا، وأما أبي وأبوه، فقد تحاجا عند اللّه، وما علم الناس أيهما حكم له؛ ولكنه أتى من قبل الفقه، ولم يقرأ: " قُلِ اللهمَّ مالِكَ اَلمُلكَ تُؤتيِ اَلملك مَن تشَاءُ " " آل عمران: 26 " . ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه فجعلت فاطمة وسكينة بنتا الحسين تتطاولان تنظران إلى الرأس، ويزيد يتطاول يستر عنهما الرأس، فلما أبصرنه صحنَ، فصاح نساء يزيد وبنات معاوية، فقالت فاطمة: أبناتُ رسول اللّه سبايا يزيد، فقال: يابنة أخي، كنت لهذا أكره، قالت: والله ما ترك لنا من خُرص، قال: أما إني سأوصل إليكن ما هو أعظم مما أخذ منكن، ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة في بيتهن إلا أتتهن وأقمْنَ المأتم، وسأل عما أخذ منهنَّ فأضعفه لهن. وكانت سكينة تقول: ما رأيت عدواً خيراً من يزيد بن معاوية.
ثم أدخل علي بن الحسين مغلولاً فقال: يا يزيد لو رآني رسول اللّه مغلولاً لفكني قال: صدقت، وأمر بفكه عنه، فقال: لو رآنا رسول اللّه على بعد لقربنا، فأمر به فقرب منه، وقال له: يا علي،. أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطْاني، فصنع اللّه به ما رأيته. فقال علي: " مَا أَصَابَ مِن مُصِيبة في اَلأرضِ ولا في أَنفُسِكُم إِلا في كتاب.. " " الآية الحديد: 22 " ، وقال يزيد: " وما أصابكم مِّن مُّصِيبةِ فَبِمَا كسبَت أيدِيكم " " الشورى: 30 " ، ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار جده، ثم لم يزل يذم من ابن زياد فعله في الحسين، ويقول: لعن اللّه ابن مرجانة، سأله أن يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، وقتله، وبغَّضني إلى المسلمين، وزرع العداوة لي عند البر والفاجر، مالي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه.
ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم وبعث معهم إلى المدينة رجلاً من أهل الشام في خيل تسير معهم، ودعا علياً ليودعه، وقال له: لعن اللّه ابن مرجانة، واللّه لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيته إياها، ولدفعت عنه الحيف بما استطعت، ولو بهلاك ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت، فكاتبني بأية حاجة تكون لك، وأوصى بهم ذلك الرسول، فخرج بهم، فكان يسايرهم ليلاً من ورائهم بحيث لا يفوتون نظره عن حوائجهم، حتى دخلوا المدينة، فقالت فاطمة لأختها زينب: لقد أحسن إلينا هذا الرجل، فهل لك أن نصله بشيء؟. فقالت: ما معنا إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما، فبعثتا بذلك إليه واعتذرتا، فرد الجميع، وقال: لو كان الذي صنعته للدنيا، لكان في هذا ما يرضيني؛ وإنما صنعته للّه، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن زياد بعث إلى المدينة بخبر الحسين، وبها عمرو بن سعيد، فأعلم الناس وبكى نساء بني هاشم، فلما سمع عمرو أصواتهن، قال: ناعية بناعية عثمان، وفي الذهبي: قال يزيد اليزدي: حدثني من شافه الحسين بن علي، قال: رأيت أبنية مضروبة في الفلاة للحسين، فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموعُ تسيل على خديه، فقلت: بأبي أنت وأمي، يا بن رسول اللّه، ما أنزلك هذه البلاد، والفلاة التي ليس بها أحد؟ ا فقال: هذه كتب أهل الكوفة إلي لأخرج، ولا أُرَاهُم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك، لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة؛ يعني: مقنعتها.
وروى الزبير بن بَكار، عن محمد بن حسن، قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين، وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بنا ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل؛ ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهَى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ندماً.
وقال خالد الحذاء، عن الجريري: إن الحسين لما أرهقه السلاح، قال: ألا تقبلون مني ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبله من المشركين؟ قيل: وما كان يقبل منهم؟ قال: كان إذا جنح أحد منهم للسلم، قَبِلَ منه، قالوا: لا؛ قال: فدعوني أرجع، قالوا: لا، قال: فدعوني آتي أمير المؤمنين يزيد، فأضع يدي في يده، فقال له رجل: أبشر بالنار، فقال الحسين: بل إن شاء الله، برحمة ربي وشفاعة نبيي، فقاتل، فلما استحرَ القتل بأهله، فإنهم لا يزالون يقتلون واحداً بعد واحدِ، صاح الحسين: أما ذَاب يذبكم عن حريم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فحينئذ خرج الحر بن يزيد بن الحارث الرياحي، فقاتل معه حتى قتل، وحمل الحسين بمفرده وقتل كثيراً من شجعانهم وهو يقول: من الطويل:
آَنا ابنُ عَلِي الخَيرِ مِن آلِ هَاشِمٍ ... كَفَانيَ هَذَا مَفخَراً حِينَ أَفْخَرُ
وَجَدي رَسُولُ الله أَكرَمُ مَن مشَى ... ونحنُ سِرَاجُ الله في الناسِ يُزْهِرُ
وفاطمَةٌ أُمي سُلاَلَةُ أَحمَدٍ ... وَعَمي يُدعَى ذا الجناحَيْنِ جَعفَرُ
وفِينَا كِتَابُ الله أُنزلَ صَادِقا ... وفينا الهُدَى والوَحيُ والخَيْرُ يُذكَرُ
وفي رواية: قيل: إنه لما جيء برأسه في طست، وضع بين يدي ابن زياد، فنكته بقضيبه وقال: من قتله؟ فقام رجل، قيل: هو الشمر بن ذي الجوشن، وقيل: سنان ابن أنس النخعي وكان قد طعن الحسين في ترقوته، ثم انتزع الرمح، فطعنه أخرى في ثواني صدره، فخر - رضي الله عنه - صريعاً، فقال لخولى بن يزيد: حز رأسه، فأرعدت يده، فنزل سنان فحز رأسه - لا رحمهم اللّه، ولا رضي عنهم: - كما تقدَم ذكر ذلك فقال: أنا. وأنشد: من الرجز:
أَوقِر رِكَابي فِضة وذهبا
إني قَتلتُ المَلِكَ المُحَجبَا
قَتلتُ خَيرَ الناسِ أُماً وأبَا
ومَن يُصَلي القبلتَينِ في الصبَا
وخَيرَهُم إذ ينسَبُونَ نَسَبَا
وذكر كيفية قتلهم بقوله: غدونا عليهم.. إلى آخر ما تقدم ذكره.
قال: فاسود وجهه في الحال، فغضب ابن زياد من قوله، وقال له: إذا علمت ذلك، فلم قتلته؟ والله، لا نلت مني خيراً، ولألحقنك به، ثم ضرب عنقه.
وقتل مع الحسين - رضي اللّه تعالى عنه - من أخوته وبنيه، وبني أخيه الحسن، ومن أولاد جعفر وعقيل تسعة عشرة نفراً، وقيل: أحد وعشرون.
قال الحسن البصري: ما كان على وجه الأرض يومئذ لهم شبيه، رضي اللّه عنهم.
وروى أبو معشر نجيح، عن بعض مشيخته؛ أن الحسين قال حين نزلوا كربلاء، ما اسمُ هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: كرب وبلاء.
وروى شريك، عن مغيرة قال: قالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث، قَتلتَ ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا ترى الجنة أبداً.
قال المدائني: عن علي بن مدرك، عن جده قال: احمرت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستة أشهر، يرى فيها كالدم، فحدثت بذلك شريحاً، فقال لي: ما أنت من الأسود؟ قلت: هو جدي أبو أمي، فقال: أما والله إن كان لصدقاً.
قلت: وما أشجَى قول أبي العلاء أحمد بن سليمان، الشهير بالمعري؛ فإنه أشار إلى هذا المعنى، فقال من قصيدة: من الخفيف
وَعَلَى الأفقِ من دِمَاءِ الشهِيد ي ... ن عَلِي وَنجلِهِ شَاهِدَان
فَهُمَا في أَوَاخِرِ الليلِ فَجَر ... انِ وَفي أُوليَاتِهِ شفَقَانِ
ثَبَتَا في قَمِيصِهِ لِيَجِيءَ ال ... حَشرَ مُستعدياً إِلَى الرَحْمَنِ
وكذا روى مثل ذلك سليمان بن حرب، عن حماد، عن ابن سيرين، قال لرجل: تعلم هذه الحمرة في الأفق مم هي؟. قال: لا، قال: من يوم قتل الحسين.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن زياد، قال: قتل الحسين ولي أربع عَشرَةَ سنة، فلما قتل، صار الورس الذي في عسكرهم رماداً، وكان في قافلة من اليمن تريد العراق، فوافتهم حين قتله، واحمرت آفاق السماء، ونحروا ناقة في عسكرهم، وكانوا يرون في لحمها ناراً.
وقال حماد بن زيد: حدثني جميل بن مرة، قال: أصابوا إبلاً في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها، فصارت مثل العلقم.
وقال قرة بن خالد: حدثنا أبو رجاء العطاردي قال: كان لنا جار من بلهُجَيْم، فقدم الكوفة، فقال: ما ترون هذا الفاعل ابن الفاعل، قتله اللّه؟ يعني: الحسين، رضي اللّه تعالى عنهما، قال أبو رجاء: فرماه اللّه بكوكبين من السماء، فطمسا عينيه، وأنا رأيته.
وقال معمر بن راشد: أول ما عرف الزهري تكلم في مجلس عبد الملك بن مروان، فقال له: تعلم ما فعلت حجار بيت المقدس يوم قتل الحسيِن؟! فقال الزهري: إنه لم يقَلب حجر فيه إلا وجد تحته دم عبيط.
قال جعفر بن سليمان: حدثتني أم سالم خالتي، قالت: لما قتل الحسين، مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر.
وروى حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام نصف النهار أشعث أغبر، وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا؟. قال: هذا دَم الحسين وأصحابِهِ، ولم أزل منذ اليوم ألتقطه، فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ.
وقال حماد، عن عمار: سمعت أم سلمة تقول: سمعتُ الجن تبكي على الحسين وتنوح عليه.
وعن أبي جناب الكلبي قال: أتيتُ كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنكم تسمعون نوح الجن، فقال لي: ما تلقى أحداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك، فقلت له: فأخبرني ما سمعت أنت؟ قال: سمعتهم يقولون: من مجزوء الكامل،
مَسَحَ الرَسُولُ جَبِينَه ... فَلَهُ بَريقٌ في الخُدُودٍ
أُبواهُ مِنْ علياً قُري ... شٍ جَدُهُ خَيْرُ الجدُودِ
رواه ثعلب في أماليه.
ولما دخل الرأس على يزيد، ووضع بين يديه، وأنشد البيتين المتقدم ذكرهما: منِ الطويل،
أبى قومُنَا أن ينصفُونَا...................
قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم: من الطويل،
لَهَام بجَنبِ الطفٌ أَوفى قَرَابَة ... مِنِ ابن زياد العَبد في النسَبِ الوغلُ
سُمية أمسَى نسلُهَا عدَدَ الحَصى ... وَبِنْتُ رَسُولِ اللّه لَيسَ لَهَا نسلُ
فضرب يزيد صدره، وقال: اسكت.
قال الحافظ الذهبي: روي عن أبي عبيدة، أن يونس بن حبيب حدثه قال: لما قتل الحسين وبنو أبيه، وبعث ابن زياد برءوسهم إلى يزيد، سر بقتلهم أولاً، ثم ندم ثانياً، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين مني، وحكمته فيما يريد، وإن كان في ذلك وهن في سلطاني؛ حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية لحقه وقرابته، لعن اللّه ابن مرجانة - يريد عبيد اللّه بن زياد - فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله ويرجع من حيث أقبل، أو يأْتيني فيضع يده في يدي أو يلحق بثغر من الثغور، فأبى ذلك، ورده عليه، فأبغضني بقتله المسلمون.
قال المسعودي: كان قتل مسلم بن عقيل في اليوم الذي خرج فيه الحسين من مكة يوم التروية كما تقدم ذكره.
قال: لما قتل الحسين، وحمل رأسه إلى ابن زياد، خرجت بنت عقيل في نساء قومها حواسر حائرات؛ لما ورد عليهن من قتل السادات، وهي تقول شعراً: من البسيط،
مَاذَا تَقُولُونَ إن قَالَ النبِي لَكم ... ماذا فعلتم وأنتُم آخِرُ الأُمَمِ
بعترتي وَبِأهلي بعدَ مُفتَقَدي ... نصفْ أسارَى ونصف ضرجُوا بدَم
مَا كَانَ هَذَا جَزَائي إذ نَصحتُ لَكم ... أن تَخلُفوني بسُوء ِفي ذَوي رَحِمي
وقال المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن عمرو بن دينار: حدثني محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، قال: لما قتل الحسين ودخلنا الكوفة، لقينا رجل، فدخلنا منزله، فألحفنا فنمت، فلم أستيقظ إلا بحس الخيل في الأزقة، فحملنا إلى يزيد، فدمعت عيناه حين رآنا، وأعطانا ما شئنا، وقال: إنه سيكون في قومك أمر، فلا تدخل معهم في شيء، فلما كان من أهل المدينة ما كان، كتب مع مسلم بن عقبة المُري كتاباً فيه أماني، فلما فرغ مسلم من الحرة بعث إلي، فجئته وقد أيقنتُ بالموتِ، فكتبت وصيتي، فرمى إلي الكتاب، فإذا فيه: استوص بعلي بن الحسين خيراً، فإن دخل معهم في أمرهم فأمنهُ واعفُ عنه، وإن لم يكن معهم، فقد أصاب وأحسن.
وقال رزق اللّه بن عبد الوهاب الجبائي في الحسين - رضي اللّه عنه - شعراً: من الكامل،
رَأسُ ابنِ بنتِ محمدٍ ووصيه ... للمسلمينَ عَلَى قَنَاةٍ يُرْفَع
والمُسْلِمُونَ بمنظرِ وبمسمَعِ ... لا جَازع فيهم ولا مُسْترجِعُ
أيقظتَ أجفاناً وكنت أنمتهَا ... وأنمتَ عيناً لم تَكن لك تَهجَعُ
مَا روضَة إلا تَمَنت أنها ... لَكَ تربة ولحظ قبركَ موضعُ
وقال أحمد بن عيسى الهاشمي معتذراً عن الكحل يوم عاشوراء: من مخلع البسيط،
لم أَكتَحِل في صَبَاحِ يوم ... أهرِقَ فيهِ دَم الحُسَينِ
إلا لحزنٍ وَذَاكَ أنى ... سودت حتى بَيَاضَ عَينِي
وقال بعضهم في مثل معناه شعراً: من مخلع البسيط،
وَلاَئِم لاَمَ في اكتِحَالِي ... يومَ أراقُوا دَمَ الحُسَين
قلتُ: دَعُوني أَحَق عُضو ... فِيهِ بِلبسِ السوادِ عَينِي
ومما قال أبو الحسين الجزار في ذلك شعراً: من الكامل
وَيَعُودُ عَاشُورَاءُ يُذكِرُنِي ... رُزءَ الحُسَينِ فَلَيتَ لَم يَعُدِ
يَا لَيتَ عَيناً فِيهِ قد كُحِلَت ... بمَرَاود لَم تَخلُ من رَمَدِ
يوم سبيلي حينَ أذكُرُه ... أَلا يدورَ الصبرُ في خَلَدِي
ويداً به لشماتةِ خُضِبَت ... مقطوعةٌ مِن زَندِهَا بِيَدِي
أما وَقَد قُتِلَ الحُسَينُ به ... فَأَبُو الحُسَينِ أحق بالكَمَدِ
مناقب الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه
هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولد بالمدينة لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وقيل: ست، وقيل: سبع.
قال في الإصابة: وهذا القول الآخر ليس بشيء.
وكانت والدته البتول علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن بخمسين يوماً، وقيل: بطهر واحد.
ألقابه: الرشيد، والطيب، والرضي، والسيد، والزكي، والمبارك، والسبط، والتابع لمرضاة اللّه.
كان الحسين أشبه الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من سرته إلى كعبه وروى أبو عمر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أبصرَتْ عيناي، وسمعَتْ أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو يقول له: تَرَق عينَ بقه. فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: افتح فاك، ثم قبله، ثم قال: اللهم، إني أحبه فأحبه.
روى خيثمة بن سليمان بن حيدرة - وقال أبو الحسن بن الهيثمي: رجاله كلهم ثقات - عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيدي، فانطلقنا إلى سوق بني قينقاع، فلما رجع دخل المسجد، فجلس، فقال: أين لُكَع؟ فجاء الحسين يمشي حتى سقط في حجره، فجعل أصابعه في لحية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ففتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فمه وأدخل فاه في فيه، ثم قال: اللهم، إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه، قال أبو هريرة: فما رأيته قط إلا فاضت عيني دموعاً.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن يعلي العامري؛ أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعي إليه، فإذا حسين مع غلمان يلعبون في طريقه، فاستهوى رسول اللّه أم القوم ثم بسط يده، فطفق الصبي يفر هاهنا مرة، وهاهنا مرة، وجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضاحكه، ثم أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى تحت قفاه، ثم أقام رأسه، فوضع فاه على فيه، وقال: " حسين مني، وأنا من حسين، رحم اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط " .
وروى ابن أبي عاصم، عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: لما قتل الحسين، وجيء برأسه إلى ابن زياد، فجعل ينكت بقضيب على ثناياه، وكان حسن الثغر، فقلت في نفسي: لأسوءنك؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل موضع قضيبك من ثنيته.
وروى عن أبي ظبيان قال: والله إن كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفرج رجليه، يعني: الحسين، ويقبل زبيبته.
وروى ابن حبان، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسين، فيرى الصبي حمرة لسانه، فيهش إليه، فقال عيينة بن حصن بن بدر الفزاري: أراك تصنع هذا بهذا، فو الله ليكون لي الولد قد خرج وجهه وما قبلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم " رواه أبو عبيدة. وعنده: فإذا رأى الصبي حمرة لسانه، هش إليه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعاب الحسين كما يمص الرجل التمرة.
وروى ابن حبان، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن عساكر، عن جابر - رضي اللّه تعالى عنه - قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، وفي لفظ: إلى سيد شباب الجنة، فلينظر إلى الحسين بن علي، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وروى أبو القاسم البغوي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: خلونا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل الحسين، فجعل ينزو على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بطنه، فبال، فقمنا إليه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : دعوه، ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بماء فصبه على ثوبه.
وروى سعيد بن منصور، والترمذي، وحسنه، عن يعلى بن مرة العامري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسين مني، وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط " .
وروى الإمام أحمد، عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسنُ والحسين سِبطانِ من الأسبَاطِ " .
وروى الطبراني في الكبير، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحَب هذا - يعني الحسين - فقد أحبني " .
وروى الحاكم، عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم، إِني أحبه فأحبه " يعني: الحسين.
وروى أبو القاسم البغوي بسنده، قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة، فمر على باب فاطمة - رضي اللّه تعالى عنها - فسمع حسيناً يبكي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " أما تعلمين أن بكاءه يؤذيني " .
وروى الطبراني في الكبير، وابن سعد، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه " .
وروى الإمام أحمد، عن ثابت، عن أنس - رضي اللّه تعالى عنه - قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، فقال - عليه الصلاة والسلام لأم سلمة: " احفظي، علينا الباب لا يدخل أحد " ، فجاء الحسين فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال له ملك المطر: أتحبه؟. فقال - عليه الصلاة والسلام - نعم، قال: إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، قال: فضرب بيده، فأراه تراباً أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب، فصرته في طرف ثوبها،، قال: فكنا نسمع بقتله بكربلاء. ورواه البيهقي من حديث وهب بن ربيعة بن زياد، قال: أخبرتني أم سلمة - رضي اللّه تعالى عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اضطجَعَ ذات يوم، فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع، فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيتُ منه في المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء، وهو يقلبها، فقلت: ما هذه التربة، يا رسول اللّه؟! قال: " أخبرني جبريل؛ أن ابني هذا يقتل بأرض العراق، قال: فقلت: يا جبريل، أرني تربة الأرض، فقال: هذه تربتها " .
وروى البزار عن ابن عباس - رضي اللّه تعالى عنهما - قال: كان الحسين جالساً في حجره - عليه الصلاة والسلام - فقال له جبريل: أتحبه؟. فقال: كيف لا، وهو ثمرة فؤادي، فقال: إن أمتك ستقتله؛ ألا أريك موضع قبره؟! فقبض قبضة وإذا تربة حمراء.
وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سار مع أمير المؤمنين علي - كرم اللّه وجهه - فلما حازَى شط الفرات، قال: صبراً أبا عبد الله، قلت: ومما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعيناه تفيضان بالدمع، فقلت: مم ذلك يا رسول الله، صلى اللّه عليك؟ فقال: قام من عندي جبريل - عليه الصلاة والسلام - وأخبرني أن ابني الحسين يقتل بشط الفرات، وقال: هل لك أن أنعمك من تربته؟ فقلت: نعم، فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وروى الإمام أحمد، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع أحدَاً يدخل، فجاء الحسين فمنعته، فبكى فخليته فدخل حتى قعد في حجره صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل - عليه الصلاة والسلام - : إن أمتك ستقتله، فقال - عليه الصلاة والسلام - : تقتله، وهم مؤمنون؟ قال: نعم، وأراه من تربته. وفي رواية: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا جبريلُ، أفلا أراجع ربي عز وجل. قال: لا؛ إنه أمر قد قضى وفُرغَ منه.
وروى الإمام أحمد، عن فاطمة - رضي الله عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: لقد دَخَلَ جبريل علي البيت، ولم يدخل علي قبلها، فقال: ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت، أريتك التربة التي يقتل بها، فأخرج تربة حمراء.
وروى البغوي، عن أنس بن الحارث - رضي اللّه عنه - قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك فلينصره " ، قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء، فقتل مع الحسين، رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
وروى الملا، عن أم سلمة؛ أنها قالت: ناولني رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب أحمر، وقال: إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها ابني - يعني: الحسين - فمتى صار دماً فاعلمي أنه قد قتل. قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة، وكنت أقول: إن يوماً يتحول فيه دمَاً ليوم عظيم. وفي رواية: فأصبته يوم قتل الحسين، وقد صار دمَاً، قالت أم سلمة: فلما كانت ليلة قتل الحسين، سمعت قائلاَ يقول: من الخفيف:
أَيُّهَا القَاتِلُونَ جَهلا حُسَيناً ... أبشِرُوا بِالعَذَابِ وَالتَنْكِيلِ
قالت: فبكيت وفتحت القارورة، فإذا الحصيات قد خرجت دمَاً.
وأخرج ابن سعد قال: مر علي - رضي اللّه تعالى عنه - بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى - اسم قرية على الفرات - فوقف وسأل عن اسم هذه الأرض، فقيل له: كربلاء، فبكى حتى بلت دموعه الأرض، ثم قال: هاهنا مناخ ركابهم، هاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السموات والأرض.
ولما سير برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة، فجعلوا يشربون والرأس بين أيديهم، فبينما هم كذلك إذ خرجَت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد، فكتب سطراً بدم، وهو: من الوافر:
أَترجُو أُمة قَتَلَت حُسَيناً ... شَفَاعَةَ جَدهِ يَومَ الحسابِ؟!
فهربوا وتركوا الرأس. أخرجه منصور بن عمار.
وذكر غير واحد؛ أن هذا البيت وجد بحجر في دير راهب في كنيسة بأرض الروم، ولا يدري من كتبه، فسألوه، فقال: هذا مكتوب قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.
وقد تقدم ذكر حمرة السماء.
قال ابن الجوزي: وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والحق تنزه عن الجسمية، فأظهر تأثر غضبه على من قتل الحسين بحمرة الأفق؛ إظهاراً لِعظَم الجناية.
قال: وإذا كان أنين العباس، وهو مأسور ببدر منع رسول الله صلى الله عليه وسلم النوم، فكيف بابنه الحسين، ولما أسلم وحشي قاتلُ حمزة، قال له: غيب وجهك عني؛ فإني لا أحب أن أرى من قتل الأحبة، والإسلام يجب ما قبله، فكيف بقلبه صلى الله عليه وسلم أن يرى من ذبح الحسين، وأمر بقتله، وحمل أهله على أقتاب الجمال سافرات الوجوه، ناشرات الشعور.
وأخرج أبو الشيخ أن جمعَاً يذكرون أنه ما من أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه بلاء قبل أن يموت.
ونقل سبط ابن الجوزي عن السدي؛ أنه أضافه رجل بكربلاء، فتذاكروا هذا المعنى أي أنه ما من أحد أعان على قتل الحسين، أو شركهم في دمه بوجه، إلا مات أقبح ميتة، فكذب المضيف بذلك، وقال: إنه ممن حضر ولم يصبه شيء، فقام ليصلح السراج، فأخذته النار، فذهب ليطفئها بريقه، فالتهب فمه، فجعل ينادي: النارَ النارَ، وانغمس في الفرات، ومع ذلك دبت النار في جسده، فأحرقته، قال السدي: وأنا واللِّه، رأيته كالحممة.
وحكى سبطه، عن الواقدي؛ أن شيخاً حضر قتله فقط، فعمي، فسئل عن سببه؟ فقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاسراً عن ذراعه، وبيده السيف، وبين يديه نطع، ورأى عشرة من قاتلي الحسين مذبوحين بين يديه، ثم لعنه وسبه بتكثير سوادهم، ثم أكحله بمرود من دم الحسين، فأصبح أعمى.
وأخرج - أيضَاً - أن شخصاً منهم علق في لبب فرسه رأس العباس بن علي فرأى بعد أيام ووجهه أشد سوادَاً من القار، فقيل: إنك كنت أنضر العرب وجهاً، فقال: ما مرت علي ليلة مذ حملت ذلك الرأس إلا واثنان يأخذان بضبعي، ثم ينهضان إلى نار تؤجج، فيدفعاني فيها، وأنا أنكص فتسفعني كما ترى، ثم مات على أقبح حالة.
وذكر البارزي، عن المنصور؛ أنه رأى رجلا بالشام وجهه وجه خنزير، فسأله، فقال: إنه كان يلعن علياً كل يوم ألف مرة، وفي كل جمعة أربعة آلاف مرة وأولاده معه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر منامَاً طويلا من جملته أن الحسن شكاه إليه، فلعنه ثم بصق في وجهه، فصار وجهه وجه خنزير، وصار آية للناس.
وروى البخاري في صحيحه، والترمذي، عن ابن عمرة أنه سأله رجل عن دم البعوض، أطاهر أم لا؟ فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان وغيره: المشهور أن يزيد لما وصل إليه الرأس الشريف، جمع أهل الشام، وجعل ينكت الرأس بالقضيب الخيزران، وتمثل بتلك الأبيات.
وقيل: بل ترحم على الحسين، وتنكر لابن زياد؛ لكنه قال: المشهور الأول.
وجمع بأنه أظهر الثاني، وأخفى الأول بقرينة أنه بالغ في رفعة ابن زياد حتى أدخله على نسائه، وبقرينة قوله البيتين السابق ذكرهما فيه، ثم قال: وليس العجب إلا من ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وحمل آل النبي صلى الله عليه وسلم سبايا على أقتاب الجمال موثقين في الحبال، والنساء مكشفات الوجوه والرءوس. وذكر أشياء من قْبيح فعله.
قال: ويقال: إنه بعث بالرأس معهم إلى المدينة حين ردهم إليها.
وقيل: بل كان الرأس في خزانته؛ لأن سليمان بن عبد الملك رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يلاطفه ويبشره، فسأل الحسن البصري عن تعبير ذلك، فقال له: لعلك صنعت إلى آله معروفاً، قال سليمان: نعم، وجدت رأس الحسين في خزانة يزيد، فكسوته خمسة أثواب، وصليتُ عليه في جماعة من أصحابي وقبرته، فقال له الحسن البصري: إن ذلك سبب رضا النبي صلى الله عليه وسلم عليك، فأمر سليمان للحسن بجائزة حسنة.
قلت: رأيت في الذهبي ما نصه: قال عبد الصمد بن سعيد القاضي: حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني، سمعت أبا أمية الكلاعي، سمعت أبا كريب، قال: كنتُ في القوم الذين توثبوا على الوليد بن يزيد، وكنت فيمن نهب خزانتهم بدمشق، فأخذت سفطاً، وقلت: فيه غنائي، فركبت فرسي وجعلته بين يدي، وخرجت من باب توما، ففتحته، فإذا بحريرة فيها قرطاس مكتوب عليه: هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت له بسيفي، ودفنته، فاللّه أعلم أياً كان ذلك.
فلما فعل يزيد ما مر كان عنده إذ ذاك رسول قيصر، فقال متعجبَاً: إن عندنا في بعض الخزائن في دير حافر حمار عيسى، فنحن نحج إليه كل عام من الأقطار، وننذر النذور ونعظمه؛ كما تعظمون كعبتكم، وأنتم تفعلون هذا بابن بنت نبيكم، فأشهد أنكم على باطل.
وقال آخر كان معه: بيني وبين داود سبعون أباً، وإن اليهود تعظمني وتحترمني، وأنتم تفعلون ما تفعلون في ابن نبيكم، قال: وكانت الحرس على الرأس الشريف، كلما نزلوا منزلا، رفعوه على رمح وحرسوه، فرآه راهب في دير، فسأل عنه، فعرفوه به، فقال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد، لأسكناه في أحداقنا، بئس القوم أنتم، هل لكُم في عشرة آلاف دينار، ويبيت الرأس عندي هذه الليلة. فقالوا: نعم، فأخذه وغسله وطَيبه ووضعه على فخذه، وقعد يبكي إلى الصبح؛ لأنه رأى نوراً ساطعاً من الرأس إلى السماء، ثم خرج عن الدير وما فيه وصار يخدم أهل البيت، فهنيئَاً له ثم هنيئاً.
وكان مع أولئك الحرس دنانير أخذوها من عسكر الحسين، ففتحوا أكياسها ليقتسموها، فرأوها خزفاً، وعلى أحد وجهي كل منها: " وَلا تحَسَبن اَللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعمَلُ اَلظالمُونَ " " إبراهيم: 42 " وعلى الآخر: " وَسَيَعلَمُ الذين ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلبِوُنَ " " الشعراء: 227 " .
قال أهل السير: لما سيق حريم الحسين إلى الكوفة كالأسارَى، بكى أهل الكوفة، فجعل زين العابدين بن علي بن الحسين يقول: إن هؤلاء يبكون من أجلنا، فمن ذا الذي قتلنا؟! وأخرج الحاكم من طرق متعددة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: قال جبريل: قال الله تبارك وتعالى: إني قتلتُ بدمِ يحيى بن زكريا سبعينَ ألفاً، وإني قاتل بدم الحسين بن علي سبعين ألفاً وسبعين ألفاً وقتل هذه العدة بسببه لا يستلزم أنها بقدر عدة القاتلين له، فإنها فتنة أفضت إلى تعصبات ومقاتلات تفي بذلك.
ولاية الوليد بن عتبة على الحجاز، وعزل عمرو بن سعيد
ولما قتل الحسين، وبلغ خبره إلى مكة، قام ابن الزبير في الناس فخطبهم، وعظم قتل الحسين، وعاب من تولاه وأمر به، وترخم عليه، ولعن قاتله، وتعرض ليزيد بسماع الغناء والحداء وشرب الخمر وكلاب الصيد، وقد كان بويع سراً، وأظهر أنه عائذ بالبيت، فقال له أصحابه: أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين من ينازعك، فقال: لا تعجلوا. وبلغ يزيد الخبر بأمره، فحلف ليؤتين به إليه في جامعة مْصنع جامعة من فضة وبعث بها إليه؛ لتبر يمينه، فامتنع من رسله، ورجع يزيد، فأغراه بنو أمية بعمرو بن سعيد العامل بالحجاز، وقالوا: لو أراد لبعث به إليك؛ فعزله، وولى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز، ولحق عمرو بيزيد، وبين له مكايدة ابن الزبير، فعذره، وأقام الوليد يحاول غِرة ابن الزبير فيجده مستحذراً ممتنعَاً.
ثم كتب ابن الزبير إلى يزيد يعيبُ الوليد بأنه أخرق، لا يتجه لرشد، ولا يرعوي لعظة، فابعث رجلا سهل الخلق أرجو أن يسهل به من الأمور ما استوعر ويجمع به ما افترق، فعزل الوليد، وولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
خلع أهل المدينة يزيد، ووقعة الحرة، وحصار مكة
لما ولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان على أهل الحجاز سنة اثنتين وستين، بعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، وعبد الله بن عمرو بن أبي حفص بن المغيرة، والمنذر بن الزبير، ورجال من أشراف أهل المدينة، فأكرمهم يزيد، وأجازهم بمائة ألف درهم لكل واحد منهم، واستأذنه المنذر في القدوم على ابن زياد في العراق، فأذن له، ورجع الوفد إلى المدينة، فقاموا بمعايب يزيد فقالوا: يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب واللصوص، فنكر الناس شأنه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلعه، وبلغ الخبر يزيد، فبعث إلى ابن زياد بحبس المنذر، وكان صديقاً له ولأبيه، فكره ذلك، وأذن له في الانصراف إلى بلده، فقدم المدينة، وعاب يزيد أعظم من الأولين، وحرض الناس عليه، فبعث يزيد النعمان بن بشير إلى المدينة لردهم عما كانوا فيه من الانتقاص، وأتاهم وخوفهم الفتنة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام، وقال له عبد الله بن مطيع: يا نعمان، تفرق جماعتنا، وتفسد ما أصلح الله من أمرنا؟! فقال له النعمان: واللّه لكأني بك لو نزلَتْ بك الجموع، ودارت الحرب، ركبت بغلتك إلى مكة، وتركت هؤلاء المساكين - يعني الأنصار - يقتلون في مساكنهم، ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم، فعصاه الناس، وانصرف إلى يزيد.
فلما كان سنة ثلاث وستين وقد بايعوا لعبد اللّه بن الغسيل على خلع يزيد، وأخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد عليهم، فاجتمع له بنو أمية ومواليهم في ألف رجل، وامتنعوا بدار مروان بن الحكم، وكتبوا إلى يزيد يستحثونه، فأمر عمرو بن سعيد أن يسير إليهم في الناس، فأبى، وقال: كنت قد ضبطت البلاد، والآن تهراق الدماء بالصعيد، فبعث إلى عبيد اللّه بن زياد بالمسير إلى المدينة، وحصار ابن الزبير بمكة، فأعظم غزو الكعبة مع ما كان منه من قتل الحسين، فأبى واعتذر، فبعث إلى مسلم بن عقبة المُري، وأخبره بخبر بني أمية، فقال: ما يكونون ألف رجل؟ قال الرسول: بلى، قال: فما استطاعوا القتال ساعة من نهار؟ هؤلاء أذلاء، دعوهم حتى يجهدوا في أنفسهم في جهاد عدوهم، فقال يزيد: ويحك، لا خير في العيش بعدهم؛ فاخرج بالناس، ويقال: إن معاوية أوصى يزيد إن حدث بك حدث من أهل المدينة، فارمهم بمسلم بن عقبة.
فتجهز مسلم، ونادى بالعطاء، ومعونة مائة دينار، فاجتمع له اثنا عشر ألفاً، فسار بهم إلى الحجاز، وقال له: ادع القوم ثلاثاً قبل القتال، وإذا ظهرت، فأبحها ثلاثاً بما فيها من مال ورثه وطعام وسلاح، فهو للجند، واكفف عنهم بعد الثلاث، وإن حدث بك حدث، فاستخلف الحصين بن نمير السكوني، واستوص بعلي بن الحسين خيرَاً، فقد أتاني كتابه، ولم يدخل مع الناس، وقد كان مروان بن الحكم لما أصاب بني أمية ما أصابهم رَغبَ إلى علي بن الحسين أن يكون حَرَمُهُ مع حَرَمِهِ، فأجابه وخرج بحرمه، وحرم مروان، ومنهم عائشة بنت عثمان إلى ينبع.
وقيل: بل بعثهم مع ابنه عبد اللّه إلى الطائف، ثم سار مسلم بالجيش، وبلغ أهل المدينة خبره، فاشتد حصارهم لبني أمية بدار مروان حتى أنزلوهم على أن يخرجوهم إلى الشام، ولا يظاهروا عليهم، ولا يدلوا على عوراتهم، وبعث أهل المدينة إلى الموارد بينهم وبين الشام، فألقوا فيها القطران، فأرسل اللّه السماء بالمطر، واستغنى العسكر عن الموارد، ولقي بني أمية مسلم بن عقبة بوادي القرى، فسأل عمرو بن عثمان بن عفان، واستشاره فقال: أخذوا علينا العهد ألا ندل على عورة، فقال: لولا أنك ابن عثمان، لضربت عنقك، ولا أقيل فيها قرشياً بعدك. ثم استدعى مروان بعد، فقال مروان لابنه عبد الملك: ادخل قبلي إليه يجتزئ بك، فدخل، فقال مسلم: هات ما عندك، قال: أرى أن تسير إلى أدنَى نخيلها، فإذا أصبحت، تركت المدينة ذات اليسار، ومضيت حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقاً، ثم تستقبل القوم، فإذا أشرقت الشمس، كانت في ظهوركم ووجوههم، وترون من أشعة سلاحهم ما لا يرون، ويتأذون بشعاع الشمس، ولا تتأذون ثم قاتلهم، فقال له مسلم: لله أبوك، أي امرئ وَلَدَكَ؟! ثم دخل مروان، وقال: إذا لقيت عبد الملك، فقد لقيتني، فقال: ما حملت من رجال قريش.
ثم ارتحل وعمل برأي عبد الملك، وأتاهم من قبل المشرق، ثم دعاهم، وقال: أنتم أصل أمير المؤمنين، وأنا أكره إراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثاً، فإن راجعتم الحق، قبلت وسرت إلى مكة، وإن أبيتم، كنت قد أعذرت. ولما مضت الثلاث قال: ما تصنعون، يا أهل المدينة؟ قالوا: نحارب، فلاطفهم في الطاعة، لينصرف إلى مكة، فقالوا: لا ندعك تأتي بيت اللّه، وتلحد فيه، وتستحل حرمته. وكانوا قد خندقوا على أنفسهم، وكان عبد اللّه بن مطيع في قريش على ربع، وعبد الرحمن بن أزهر بن عوف على ربع، ومعقل بن صنان الأشجعي في المهاجرين على ربع، وأمير جماعتهم عبد الله بن الغسيل على الأنصار في أعظم تلك الأرباع.
قال الذهبي: كتب عبد اللّه بن جعفر إلى المدينة - وكان عند يزيد بالشام - ألا يعرضوا لجيشه، فورد مسلم بن عقبة، فمنعوه، ونصبوا له الحرب، ونالوا من يزيد، فأوقع فيهم، وأباحها ثلاثة أيام.
وقال الواقدي: أنبأنا ابن أبي ذئب، عن صالح بن أبي حسان، أنبأنا إسماعيل ابن إبراهيم المخزومي، قال: لما وثب أهل الحرة، وأخرجوا بني أمية عن المدينة، واجتمعوا على عبد اللّه بن حنظلة، وبايعوه على الموت، قال:؟ يا قوم، اتقوا اللّه فواللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمَى بالحجارة من السماء.
قال: وكان ابن حنظلة يبيتُ تلك الليالي في المسجد، وما يزيد على أن يفطر على شربة من سويق ويصوم الدهر.
وقال الذهبي: دخل عبد اللّه بن مطيع ليالي الحرة على ابن عمر، فقال له ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزع يَداً من طاعة، لم يكن له حجة يوم القيامة، ومن مات مفارقاً للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية" .
وقال المدائني: توجه مسلم بن عقبة إلى المدينة في اثني عشر ألف رجل، ويقال: اثني عشر ألف فارس، وخمسة عشر ألف راجل.
قال السهيلي في روضه: وقعة الحرة كان سببها أن أهل المدينة خلعوا يزيد بن معاوية، وأخرجوا بني أمية، وأمروا عليهم عبد اللّه بن حنظلة الغسيل الذي غسلت أباه الملائكة يوم أُحد. ولم يوافق أهلَ المدينة على هذا الخلع أَحَدٌ من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمد مسلم في العساكر، فانكشف أهل المدينة من كل جانب، ثم حمل ابن الغسيل، فانكشف العساكر، وانتهت إلى مسلم، فنهض في وجوههم بالرجال، واشتد القتال، ثم جاء الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لابن الغسيل، فقاتل معه، ثم انتقى الشجعان يريد قتل مسلم، فحمل على أهل الشام، فانفرجوا، وجثت الرَجال أمامه على الركب، ومضَى نحو راية مسلم، فقتل صاحبها يظن أنه مسلم بن عقبة، فأخذ مسلم رايته، وسار وشدت الرجال أمامه، فصرع الفضل بن عباس، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف.
وتقدمت خيل مسلم إلى ابن الغسيل، ومعه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس ابن شماس، وعبد اللّه بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم، وأبلى محمد ابن سعد بن أبي وقاص، ثم انهزم الناس، وأباح مسلم المدينة ثلاثَاً للقتل واللهب، وأفزع ذلك الصحابة الذين بها، وخرج أبو سعيد الخدري؛ ليأوي إلى كهف في الجبل، فاعترضه رجل من العسكر لقتله فعرفه بنفسه، فتركه.
قال السهيلي: لما أرجف أهل المدينة بيزيد، دعا عبد اللّه بن عمر ببنيه ومواليه، فقال لهم: إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإنه واللّه لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدَاً من طاعة إلا كانت الفيصلَ بيني وبينه، ثم لزم بيته.
ولزم أبو سعيد الخدري بيته، فدخل عليه في تلك الأيام التي أبيحت المدينة فيها، فقيل له: من أنت أيها الشيخ. فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك، ولزمت بيتك، ولكن هات المال، فقال: أخذه الذين دخلوا قبلكم علي وما عندي شيء، فقالوا: كذبت، ثم قالوا: أضجعوه، فأضجعوه، فجعل كل واحد يأخذ من لحيته خصلة، وأخذوا ما وجدوا حتى صوف الفرش، وحتى أخذوا زوجين من حمام كان صبيانه يلعبون بهما.
وأما جابر بن عبد اللّه الأنصاري، فخرج في ذلك اليوم يطوف في أزقة المدينة، وهو أعمى، والبيوت تنتهب وهو يعثر في القتلى، ويقول: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له قائل: ومن أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخاف المدينة، فقد أخاف ما بين جنبي " ، فحملوا عليه ليقتلوه، فأخذه منهم مروان بن الحكم، وأدخله بيته.
وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة رجل.
وقيل: من أخلاط الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان، ونهبوا وأفسدوا، واستحلوا الحرم، وعطلت الصلوات في مسجده - عليه الصلاة والسلام - ولم يبقَ في المسجد إلا سعيد بن المسيب جعل نفسه ولهاناً خبلا، فتركوه، وكان يقول: كنت أسمع عند مواقيت الصلاة همهمة من الحجرة المطهرة. وافتض فيها ألف عذراء، وإن مفتضَّها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم، فلم يجد، ففتح مصحفاً قريباً منه، ثم أخذ من أوراقه ورقة، فتمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه.
ومن ذلك أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من أهل الشام، وهي ترضع ولدها، وقد أخذ ما كان عندها، فقال لها: هاتي الذهب، وإلا قتلتك وقتلت ابنك، فقالت: ويحك إن قتلته، فأبوه أبو كبشة صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خنت اللّه في شيء بايعت رسوله عليه، فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فيه، وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض، والمرأة تقول: لو كان عندي شيء أفديك به يا ابني لفديتك، قال: فما خرج من البيت حتى اسودَ نصف وجهه، وصار مثلة في الناس.
قال المؤلف: وأحسب هذه المرأة جدة لهذا الصبي لا أُماً له: إذ يبعد في العادة أن تبايع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امرأة، وتكون يوم الحرة في سن من يُرْضِعُ.
والحرة التي يعرف بها هذا اليوم، يقال لها: حرة زهرة، بقرية كانت لبني زهرة قوم من اليهود، فقيل للقرية: زهرة، وكانت عامرة في الزمن الأول، يقال: كان فيها ثلاثمائة صائغ؛ ذكره الزبير بن بكار في فضائل المدينة.
ويقال: إن مسلماً لما حارب أهل المدينة، ووقف ابن الغسيل والناس لقتاله، خالفهم بنو حارثة من الأنصار، وأدخلوا أهل الشام من ناحيتهم، فانهزم الناس، وكان من هلك في الخندق أكثر ممن قتل.
ثم دعا مسلم الناس إلى بيعة يزيد على أنهم خَوَل له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم بما شاء، ومن امتنع قتله، وجيء بعد يوم بيزيد بن عبد اللّه بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، فقالا: لا نبايع إلا على الكتاب والسنة، فقتلهما، وأنكر عليه مروان قتل فريق على أمان، فطعنه بالقضيب في خاصرته، وقال: واللّه، لو قلتها أنت لقتلتك.
ثم جيء بمعقل بن سنان، فقال له: والله لأقتلنك، فناشده اللّه والرحم، فقال: أما أنت لقيتني بطبرية ليلة انصرف وفدكم من عند يزيد، فأثنيت عليه شراً، وقلت: نرجح المدينة، فنخلع هذا الفاسق ابن الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين، وإني آليت لا ألقاك بحيث أقدر على قتلك إلا قتلتك، ثم أمر به فقتل.
وجيء بيزيد بن وهب، فقال: أبايع على سنة عمر، فقتله، وشفع فيه مروان لصهر بينهما فلم يشفعه.
ثم جاء علي بن الحسين بين مروان وعبد الملك، وجلس بينهما فقال: تجيئني بين هذين لتأمن عندي، واللّه لو كان الأمر إليهما، لقتلتك، وإنما أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنك كاتبته، ثم أجلسه معه على السرير، فقال: لعل أهلك فزعوا، فقال: نعم، فرده إلى بيته على دابته، ولم يلزمه البيعة؛ كما ألزم أهل المدينة.
ثم أحضر عبد الله بن عباس للبيعة، وكانت أمه كندية، فقال الحصين بن النمير: لا تبايع ابن أختنا إلا مثل ما بايع علي بن الحسين، فتركه.
ثم جاء عمرو بن عثمان بن عفان، ولم يكن خرج مع بني أمية، فقال: هذا الخبيث ابن الطيب، وأمر به فنتفت لحيته.
وكان ممن قتل في الحرة زيد بن عاصم الأنصاري، وعبيد الله بن عبد الله بن موهب، ووهب بن عبد الله بن زمعة، وعبد اللّه بن عبد الرحمن بن عاظب، والزبير ابن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. وكان لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وأتى خبر الواقعة لابن الزبير مع المسور بن مخرمة، فاستعد هو وأصحابه، وعرفوا أن مسلم بن عقبة نازل، ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع الجذامي - وقيل: عمرو بن محرز الأشجعي - وشخص إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات بالمشلل، وقيل: بثنية هرشي، وأوصى الحصين بن نمير فقال: يا برذعة الحمار، لو كان هذا الأمر إليَ، ما وليتك هذا الجند، لكن أمير المؤمنين ولاك، فأسرع السير، وعجل المناجزة، ولا تمكن قريشاً من أذنك، ثم مات.
وسار الحصين بالناس، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز لعبد اللّه بن الزبير، واجتمعوا عليه، ولحق به أهل المدينة، وقدم عليه نجدة ابن عامر الحنفي في الخوارج لمنع البيت، وخرج ابن الزبير للقاء أهل الشام، وعثرت البغلة بعبد الله فنزل، واجتمع إليه المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجماعة من أصحابه، فقتلوا جميعاً، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل، ثم انصرفوا وأقاموا يقاتلونه شهراً وبعض شهر، واحترق البيت.
يقال: قذفوه بالنار في المجانيق.
ويقال: كان أصحاب ابن الزبير يوقدون حول الكعبة، فعلقت شرارة منها بثوب الكعبة، واحترق خشب البيت.
والأول أصح؛ لأن البخاري ذكر في صحيحه: أن ابن الزبير لما احترقت الكعبة، تركها ليراها الناس محترقة؛ فتحز بهم على أهل الشام.
ثم لم يزل العسكر محاصرين لابن الزبير حتى جاءهم نعي يزيد لأول ربيع الثاني.
وفاة يزيد، وبيعة معاوية ابنه وملكه
ثم مات يزيد منتصف ربيع الأول سنة أربع وستين.
قال العلامة الحافظ الذهبي: روى زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب، قال: زرت الحسن بن أبي الحسن، يعني: البصري، فخلوت به، فقلت: يا أبا سعيد، ما ترى ما الناس فيه؟ فقال لي: أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، فحملت، وقال: أين القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.
والآخر: المغيرة بن شعبة؛ فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي، فأقبل معزولا، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه، قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمر كنت أُوَطئُه وأهَيئُهُ، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أو فعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك، فلما خرج المغيرة، قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة، قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.
قال محمد بن مروان السعيدي: أنبأنا محمد بن أحمد بن سليمان الخزاعي، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن الحكم عن أبي عوانة، قال: كان معاوية يعطي عبد اللّه بن جعفر كل عام ألف ألف درهم، فلما وفد على يزيد، أعطاه ألفي ألف، فقال عبد الله ليزيد: بأبي أنت وأمي، فأمر له بألف ألف أخرى، فقال له عبد الله: واللّه، لا أجمعهما لأحد بعدك.
حدثنا محمد بن بشار بندار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عوف الأعرابي، حدثنا مهاجر أبو مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم، قال: قال أبو الدرداء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد " أْخرجه الروياني في مسنده عن بندار. وفي رواية عن الأوزاعي، عن مكحول، عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال أمر أمتي قائْماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية، يقال له يزيد " .
وقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب، قال رجل: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد أقمت عنده، فرأيته مواظباً للصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه، قال: كان ذلك منه تصنعَاً لك ورياء.
وقال الزبير بن بكار في أنساب قريش: أنشدني عمي ليزيد قوله: من المديد:
آَبَ هَذَا الهَم فَاكتَنَعَا ... وَأَمَر النوْم فَامتَنَعَا
راعياً للنجمِ أرقبُهُ ... فَإذا ما كوكَب طَلَعَا
حام حتَّى إننِي لأَرَى ... أنه بالغَور قد وَقَعَا
ولها بالماطِرُون إِذَا ... أَكَلَ النمْلُ الذِي جَمَعَا
خرفةٌ حتَى إذا ربعَتْ ... نزلَت من جِلَقٍ بِيَعَا
في قباب وَسْطَ دسكرةِ ... حَوْلَهَا الزيتونُ قد ينَعَا
قلت: هذه الأبيات من قصيدة له، نصرانية تعشقها، وافتتَنَ بها، لعنه اللّه وإياها، وأساء عقباه وعقباها.
ومن شعره في الخمر: من الطوب:
أقولُ لصَحْب ضَمتِ الكَأسُ شَملَهُم ... وَدَاعِي صَبَابَاتِ الهَوَى يَتَرَنمُ
خُذُوا بنَصِيب مِن نَعِيمٍ وَلَذةٍ ... فكُل وَإِنْ طَالَ المدَى يَتَصرمُ
ومن شعره أيضاً فيها: من الطويل:
وَدَاعٍ دَعَانِي والثرَيا كأَنهَا ... قلائصُ قد أعنقْنَ خَلْفَ فَنِيقِ
وقال: اغْتنِم من دَهرنا غَفَلاَتِهِ ... فَعَقدُ ذِمَامِ الدهْرِ غَيرُ وَثِيقِ
وناولَنِي كَأساً كَأن بنانَهُ ... مخضبةٌ مِن لَوْنِهَا بِخَلُوقِ
إذا ما طغَى فيها الحَيَاءُ حسبتَهَا ... كَوَاكبَ عُز في سَمَاءِ عَقِيقِ
تَدُب دَبِيبَ النَّمْلِ في كُل مفْصلٍ ... وتَكْسُو وجُوهَ الشَّرْبِ ثَوبَ شَقِيقِ
وإنيَ مِنْ لَذاتِ دَهرِي لقانع ... بحلوِ حَدِيثٍ أَوْ بِمُرِّ عتيقِ
هَمَا مَا هُمَا لَم يَبْقَ شيء سِوَاهُمَا ... حَدِيثُ صَدِيقٍ أَو عَتِيقُ رَحِيقِ
ومما ينسب إليه يخاطب أباه معاوية عند نهيه إياه عن شرب الخمر قوله: من الطويل:
أَمِنْ شَرْبَةِ من ماءِ كَرمٍ شَرِبتهَا ... غضبتَ علي الآنَ طابَ لي السكْرُ
سأشرَبُ فاغضَب لا رَضِيت كلاهما ... حبيب إلى قَلْبِي عُقُوقُكَ والخَمْرُ
توفي كما تقدم في ربيع الأول سنة أربع وستين، وله تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، ودفن بحوارين من أرض دمشق بمقبرة باب الصقر، وفيه يقول القائل: من الرجز:
يا أَيهَا القَبرُ بِحَوارِينَا ... ضَمَمتَ شَر الناسِ أَجْمَعِينَا
ورثاه شاعرهم الأخطل بقوله: من الطويل:
لَعَمريَ قَد دَلى إلى الفخدِ خَالدٌ ... جَنَازَةَ لاَ نِكسِ الفُؤَادِ ولا غمرِ
مُقِيم بحوَّارِينَ لَيسَ يَرِيمهَا ... سَقَتك الغَوَادِي مِنْ ثَرِيّ ومن قَبْرِ
قال في الإشاعة لأشراط الساعة في الباب الأول، وهو في الإمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت، وهي كثيرة، إلى أن قال: ومنها ملك بني أمية يزيد ومن بعده، المشتمل على الفتَن العظام؛ كقطع الليل المظلم.
وعن عمران بن الحصين - رضي اللّه عنه - قال: أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو أمية، وتكيف، وبنو حنيفة.
وعن أبي ذر - رضي اللّه تعالى عنه - : إذا بلغت بنو العاصي أربعين رجلا، اتخذوا عباد اللّه خولا، ومال اللّه دولا، وكتاب اللّه دخلاَ.
وعن علي - رضي اللّه تعالى عنه - قال: لكل أمة آفة، وآفة هذه الأمة بنو أمية.
وعن عمرو بن مرة ألجمني، قال: استأذن الحَكَم بن أبي العاصي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته، فقال: " ائذنوا له حية ولد حية، لعنة اللّه عليه وعلى كل من يخرج من صلبه، إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم".
قلت: وهذا الاستثناء إشارة إلى عمر بن عبد العزيز، ومعاوية بن يزيد، ويزيد الناقص، والصالحِ منهم.
وعن ابن عمر: هجرتُ الرواح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو الحسن - رضي الله عنه - فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " ادن " ، فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنه، فبينما هو يسارُّهُ إذ رفع رأسه كالفزع، فإذا قارع يقرع بسيفه الباب، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي: " اذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها، فإذا علي - كرم الله وجهه - يدخل الحكم بن أبي العاص آَخذَاً بأذنه، ولها زنمة حتى أوقفه بين يديه - عليه الصلاة والسلام - فلعنه نبي اللّه ثلاثاً، ثم قال: أجلسه ناحية، حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار، ثم دعاه فلعنه، ثم قال: " إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء " ، فقال ناس من القوم: هو أقل وأذل من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " بلى وبعضكم يومئذ شيعته " .
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - نفاه إلى الطائف، ولم يرده أبو بكر ولا عمر، ورده عثمان حين ولي الخلافة، وكان رده أحد الأمور التي نقمت عليه، رضي الله تعالى عنه.
قلت: وقد ذكرت ذلك وجوابه فيما تقدم في ترجمة عثمان، رضي الله عنه.
ومن الفتن التي وقعت في زمن يزيد قتل الحسين، ووقعة الحرة، وخراب المدينة بعد الحرة، ورمي الكعبة بالمنجنيق.
ومنها في زمن بني مروان قتل ابن الزبير، وهدم الكعبة، بعد رميها بالمنجنيق أيضاً، وتولية الحجاج، وأنه قتل مائة وأربعة وعشرين ألف نفس حراماً صبرَاً، سوى ما قتله في المحاربات، ووجد في حبسه ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة، وكان حبسه مبلطَاً لا سقف له؛ ليتأذوا بالحر والبرد، وكان حبسه من حبسه ظلماً صرفاً وهوى نفس، حتى إنه وجد فيه من حبس لبولة بالها في جنب سور واسط البلد التي اختطَّها الحجاج.
ومنها: قتل زيد بن علي بن الحسين، وصلبه، وإحراقه بالنار، وقتل ولده يحيى في زمانْهم، وشربهم الخمر، وصلاتهم بالناس سكارى، وتقديم الجواري في المحراب للصلاة بالناس، وغير ذلك من أنواع القبائح.
بل نقل العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء؛ أن الوليد بن يزيد عزم على الحج؛ لأجل أن يشرب الخمر فوق الكعبة، فقتل قبل أن يبلغ مراده.
وعن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم يكن فيما تقرءونه: قاتلوا في الله آخر مرة كما قاتلتم أول مرة قال: متى ذاك؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو مخزوم الوزراء. رواه الخطيب البغدادي، فكانت دولتهم لمفاسد كثيرة ومظالم لا تعد ولا تحصى... إلى أن قال: وأما بنو يزيد وبنو الحكم، فهم ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل، حين سأله ابنه عن لعن يزيد. فقال الإمام: إن الله تعالى يقول: " فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَليتم أَن تفسِدُوا في اَلأرض وَتُقَطعُوا أَرحَامَكُم أُولَئكَ اَلَذِينَ لعنَهُمُ اللَهُ... " الآية " محمد: 22 - 23 " وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد يا بني.
وفي تاريخ أبي مخرمة المسمى: قلادة النحر، عن الشيخ نصر بن مجلي، وكان من الثقات العباد الصالحين، قال: رأيت علي بن أبي طالب في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة، وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم علي ولدك الحسين ما تم، فقال لي: أما سمعت أبيات ابن صيفي في هذا؟ قلت: لا، قال: اسمعها منه، ثم انتبهت فبادرت إلى دار ابن الصيفي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وبكى، وحلف بالله إنها لم تخرج من فيه ولا من خطه إلى أحد، وما نظمها إلا في ليلته، ثم أنشدني: من الطويل:
مَلَكنَا وكَانَ العفوُ منا سجية ... فلما ملكتُم سَالَ بالدَمِ أبطَحُ
وَحللتُمُ قَتل الأسَارَى وطَالَمَا ... غَدونَا مِنَ الأَسرَى نَمُن ونَصفَحُ
وَحَسبُكُمُ هَذَا التفَاوُتُ بَينَنَا ... فكُل إِنَاءٍ بالذي فِيهِ يَنضَحُ
قلت: اسم ابن الصيفي: سعيد بن محمد أبو الفوارس التميمي، شاعر مشهور، وهو الملقب بحيص بيص، توفي سنة أربع وسبعين وخمسمائة في القرن السادس.
قال العلامة الدميري في حياة الحيوان: سئل الإمام أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد الملقب بالكيا الهراسي من رءوس معيدي إمام الحرمين، عن يزيد بن معاوية. هل هو من الصحابة، وهل يجوز لعنه أم لا؟ فأجاب: إنه لم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد في زمن عثمان، وأما جواز لعنه: ففيه لكل واحد من الإمام أبي حنيفة ومالك وأحمد قولان: تصريح وتلويحٌ، ولنا قول واحد: التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون ذلك، وهو المتصيد بالفهد، واللاعب بالنرد، والمدمن على الخمر. وكتب فصلا طويلاَ أضربنا عن ذكره.
ثم قال: ولو مددت ببياض، لأطلقت العنان، وبسطت الكلام في مخازي هذا الرجل.
هذا وأما الغزالي فقد أفتى في هذه المسألة بخلاف ما أفتى به الكيّا، وبسط الكلام في ذلك.
قال العلامة محمد بن مصطفى كاتي في تاريخه المسمى: بغية الخاطر، ونزهة الناظر: كان ليزيد بن معاوية قرد سماه أبا قيس كان يركبه فوق حمار بسرج في المواكب، وله زي كزي راكبي الخيل من العمامة والكسوة ويجلسه في مجالس أنسه، وكان لهذا القرد من الفطنة وإدارك الأمور ما لا يدرك، فأركب مرة على حمار وحشيّ، ففرت به، فأنشد يزيد يقول: من الطويل:
تَمَسك أَبَا قَيسٍ بفَضلِ عِنَانِهِ ... فلَيْسَ عَلَيْهِ إنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ
وبويع بعده ابنه معاوية، فمكث ثلاثة أشهر، ثم خطب الناس، وقال: إني ضعيف عن أمركم، وطلبت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر، فلم أجده، فطلبت ستة مثل أهل الشورى، فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم؛ اختاروا له، ودخل منزله، فمات يقال: مسموماً، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهلك ليومه بالطاعون. وقيل: إن معاوية بن يزيد أوصى الضحاك بن قيس أن يصلي بالناس حتى تجمع الناس على إمام.
قال العلامة ابن السبكي: إن معاوية بن يزيد بن معاوية لما خلع نفسه، صعد المنبر، فجلس طويلا، ثم حمد اللّه وأثنى عليه، بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يذكر به، ثم قال: أيها الناس، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم لعظيم ما أكرهه منكم، وإني أعلم أنكم تكرهونا - أيضاً - لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية نازع هذا الأمر من كان أولى به منه ومن غيره، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظيم فضله وسابقيته، أعظم المهاجرين قدرَاً، وأشجعهم قلبَاً، وأكثرهم علماً، وأولهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وأخوه، زوجه ابنته - رضي الله تعالى عنها - وجعله لها بعلا، باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدَيْ شباب أهل الجنة، وأفضل هذه الأمة، تربية الرسول، وابنا فاطمة البتول - رضي اللّه تعالى عنها - حتى انتظمت لجدي معاوية الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهناً بعمله، فريداً في قبره، ووجد ما قدمت يداه، فرأى ما ارتكبه واعتداه.
ثم انتقلت الخلافة في أبي يزيد، فتقلد أمركم لهوى كان أبوه هويه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه غَيْرَ خليق بالخلافة على أمهَ محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه، واستحسن خطاه، وأقدم على ما قدم من جرأته على اللّه تعالى، وبغيه على من استحل حرمته من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتْ مدته، وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته، رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، فهل عوقب بإساءته وجوزى بعمله؟! وذلك ظني. ثم اختنقته العبرة، فبكى طويِلاَ، وعلا نحيبه، وحمد اللّه، ثم قال: وصرت أنا ثالث القوم، والساخطُ عليَ أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم، ولا يراني اللّه جلت قدرته متقلداً أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم، فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم، والسلام.
فقال له مروان بن الحكم، وكان تحت المنبر: أسنة عمرية يا أبا ليلى؟ فقال: اغدُ عني، أعن ديني تخدعوني، فواللّه ما ذقت حلاوة خلافتكم، فأتجرع مرارتها، ائتني برجال مثل رجال عمر، على أنه كان حين جعلها شورى وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوماً. واللّه، لئن كانت الخلافة مغنمَاً، لقد نال أبي معها مغرماً ومأثمَاً، ولئن كانت شراً، فحسبه منها ما أصابه.
ثم نزل، فدخل عليه أقاربه وأمه، فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك، فقال: وعدت والله ذلك، ثم قال: ويلي إن لم يرحمني ربي.
ثم إن بني أمية قالوا لمؤدبه القصوص: أنت علمته هذا، ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حب علي وأولاده - رضي اللّه تعالى عنهم - وحملته على ما وَسَمَنَا به من الظلم، وحسنت له البدع حتى نطق بما نطق، وقال ما قال! فقال: واللّه ما فعلته، ولكنه مجبول ومطبوع على حب علي وأولاده - رضي الله عنهم - فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حياً حتى مات، رحمه الله.
وتوفي معاويةَ - رضي اللّه تعالى عنه - بعد خلعه نفسه بأربعين ليلة - رحمه الله تعالى - وهو المسمى: معاوية الأصغر، وقيل بعد الخلع بتسعين ليلة، وكان عمره ثلاثَاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: ثمان عشرة، ويقال: إنه لما احتضر، قيل له: ألا تستخلف؟! فأبى، وقال: ما أصبت من حلاوتها، فلمَ أتحمل مرارتها.
ولم يعقب، رحمة اللّه عليه ورضوانه.
إظهار ابن الزبير للبيعة
ولما هلك يزيد، بلغ الخبر إلى عبد اللّه بن الزبير بمكة قبل أن يعلم الحصين بن نمير ومن معه، وكان حصارهم قد اشتد، فناداهم ابن الزبير وأهل مكة: علام تقاتلون، وقد هلك صاحبكم؟ فلم يصدقوه. فلما بلغ الخبر الحصين، بعث إلى ابن الزبير، وواعده الأبطح ليلا، فالتقيا، فقال له الحصين: هلم نبايعك، فأنتَ أحق، وهذا الجند الذي معي هم وجوهُ أفلِ الشام وفرسانُهُم، واخرج معنا، فلا يختلف عليك اثنان على أن تؤمن الناس وتهدر لهم ما أصابوا من الدماء، فأبى من إهدارها، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر، ويقول: والله لا أفعل، فقال الحصين: قَبحَ الله من يَعُدكَ بعدها داهية، ثم ارتحل إلى المدينة، وراجع ابن الزبير رأيه، فأرسل إليه: لا أسير إلى الشام، ولكن بايعوا لي هناك وأنا مؤمنكم، فقال الحصين: لا يتم إلا بحضورك، فهناك بنو أمية يطلبون الأمر، ومَر الحصين بالمدينة، فكانوا يتخوفون عسكره، وهم حذرون منهم إلى أن بعدوا. ثم وصلوا دمشق.
انتقاض أمر ابن زياد ورجوعه إلى الشام
لما جاء الخبر إلى ابن زياد بالبصرة بمهلك يزيد بن معاوية، ثم معاوية ابنه، واختلاف الناس بالشام، جمع الناس، فخطب ونعى يزيد وثلبه، فنهاه الأحنف، ثم تلطف لأهل البصرة، وقرر وسائله إليهم بالمهاجرة والمولد وحسن الآَثار في الجباية والعسكر وإصلاح السابلة وكف الأذى، وأعلمهم باختلاف الناس بالشام بعد يزيد، وقال: أنتم أعز الناس وأغناهم عن الناس وأوسعهم بلاداً، فاختاروا من تولون، وأنا أول راض به، فقال أهل البصرة: هلم فلنبايعك، فأبى، ثم ألحوا عليه ثلاثاً، فأجاب وبايعوه، ثم انصرفوا، وتناجوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا: يظن ابن مرجانة أن ننقاد له في الجماعة والفرقة. ولما بايعوه، أرسل إلى أهل الكوفة يعلمهم ببيعة أهل البصرة ويدعوهم إليها، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، فجمع الناس وذكر لهم رسوله ذلك، فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، فقال: الحمد للّه الذي أراحنا من ابن سمية لا نبايعه وحَصَبَهُ، ثم تبعه الناس وحصبوه، ورجع بالخبر إلى ابن زياد، فبدا لأهل البصرة في بيعته وضعف سلطانه، وأقام لا تنفذ أوامره، ويحال بين أعوانه وبين الخصوم إذا سحبوهم، ثم جاء إلى البصرة سلمة بن ذؤيب التميمي الحضرمي، فنصب لواء في السوق، ودعا لابن الزبير، فبايعه ناس، وآتى الخبر ابن زياد، فجمع الناس، فقال: بلغني أنكم مسحتم أيديكم بالحيطان، وقلتم ما قلتم، وأنا الآن ترد أوامري، ويحال بين أعواني وبين طلبي، هذا سلمة بن ذؤيب يدعوكم إلى الخلاف فيجيبه منكم مجيبون.
فقال الأحنف: واللّه، نحن نأتيك بسلمة، فخرجوا ليأتوا به، فإذا جمعه قَد كثف والخرق قد اتسع، فبعدوا عن ابن زياد، ولم يرجعوا إليه، فدعا مقاتلة السلطان ليقاتلوا معه، فقالوا: إن أذن قوادنا في ذلك، وقال أخوته وأصحابه: ليس لنا خليفة نقاتل عنه، وإن كانت علينا هلكنا، وهلكت أموالنا، فعند ذلك أرسل إلى الحارث ابن قيس من بني جهضم ابن خزيمة بن مالك بن فهم من الأزد، وقال: إن أبي أوصاني بك إن أصابني الدهر بشيء. فعدد عليه قلة المكافأة منه ومن أبيه، وأقام عنده إلى الليل، ثم أردفه خلفه وخرج به. وفرق ابن زياد على مواليه الكثير مما كان في بيت المال وهو تسعة عشر ألف ألف مرتين. وسير به الحارث والناس يتحارسون خوفاً من الحرورية، ويمر بالناس فيسألونه، فيقول: أنا الحارث بن قيس، إلى أن أنزله بداره في الجهاضم، فأثنى عليه ابن زياد، وقال: اذهب بنا إلى مسعود بن عمرو؛ فقد علمت شرفه في الأزد وطاعتهم له؛ فأكون في داره وإلا فزق عليك أمر قومك، فجاء إلى مسعود، فتطير من ابن زياد، وما زال الحارث يلاطفه حتى سكن، وقال له: أفتخرجه من بيتك بعد ما دخله؟ فجعله في بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب هو والحارث وجماعة من قومه، وطافوا في الأزد، وقالوا لهم: ابن زياد فُقِدَ ولا نأمن أن يتهمونا به، فأصبحوا بالسلاح.
وقيل: إن الحارث لم يلق مسعود بن عمرو، وإنما جاء بعبيد الله ومعه مائة ألف، وأتى بها امرأة مسعود، فطلب منها الجوار لابن زياد بأن تلبسه ثياب مسعود، فلما جاء مسعود تلطفوا به حتى رضي، وأصبح الناس في البصرة بغير أمير، ثم رفعوا رأيهم إلى قيس بن الهيثم السلمي، وكان أموياً، وإلى النعمان بن سفيان الراسبي، وكان هاشمياً يؤمران عليهم من يختارانه، فقدم النعمان عليهم عبد اللّه بن الحارث ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ويلقب ببهُ، فرضيه الناس وبايعوه، وأنزلوه بدار الإمارة في جمادى الآخرة سنة أربع وستين.
ثم أنفق ابن زياد أموالا في جمع ربيعة والأزد، واتفقوا على أن يرد ابن زياد إلى إمارته، وركبوا لذلك، ورئيسهم مسعود بن عمرو، ورئيس ربيعة مالك بن مسمع، وتركوا ابن زياد في حيهم، وبعث مواليه معهم، وجاء مسعود فدخل المسجد وصعد المنبر، وأخبر الأمير عبد اللّه بن الحارث بذلك، وقيل له؛ اركب في بني تميم، وأصلح بين الناس، فأبى.
وجاء بنو تميم إلى الأحنف ليركبوه فتعلل ولم يركب، ثم أركب عباد بن حصين في بني عمرو بني تميم، وعيسى بن طلق بن سعيد بن زيد مناة، ومسعود يخطب فاستنزلوه وقتلوه، ثم قتلوا مالك بن مسمع ببيته، وهرب عبيد الله بن زياد فلحق بالشام، ولزم عبد الله بن الحارث بيته.
وكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب إلى أنس بن مالك يصلي بالناس حتى بعث عمر بن عبيد اللّه بن معمر بعد ثلاثة أشهر، فحبس عبد الله بن الحارث، فأقام عمرو في ولايتها شهرَاً، ثم جاءه الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي من قبل ابن الزبير، ويلقب القباع، وفي أيامه سار نافع بن الأزرق من البصرة إلى الأهواز.
وأما الكوفة، فلما طرد يزيد بن الحارث بن رويم رسول ابن زياد، اجتمع أهل الكوفة على عمر بن سعد بن أبي وقاص، ثم عزلوه، واجتمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن حذافة الجمحي، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره وأقام عاملا على الكوفة. وبلغه انتقاض أهل الري؛ فبعث محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فهزمه أهل الري، فبعث إليهم عتاب بن ورقاء التميمي، فهزمهم، وقتل أميرهم الصرحان، ثم قدم الكوفة من قبل ابن الزبير عبد الله بن زيد الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن طلحة على الخراج، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل، فاجتمع لابن الزبير أهل البصرة وأهل الكوفة ومَنْ بالقبلة من العرب، وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن.