في الدولة الأموية: بيعة مروان ووقعة مرج راهط

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

بيعة مروان ووقعة مرج راهط

ولما بويع ابن الزبير بمكة بيعته الظاهرة، ولي على مصر عبد الرحمن بن جحدر الفهري، وعلى المدينة عبيد الله بن الزبير، وأخرج بني أمية فلحقوا بالشام، وفيهم مروان بن الحكم، وأقام هناك، فمر به الحصين بن نمير مرجعه من مكة بعد موت يزيد، فأخبره بما دار بينه وبين ابن الزبير، وحرض بني أمية على طلب الأمر، وكان رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايع له بالخلافة، فقدم ابن زياد مْن العراق حين انتقضوا عليه، وأخرجوه، فسفه رأي مروان في ذلك، وحثه على طلب الأمر لنفسه، فقام لذلك وسار إلى دمشق، والضحاك بن قيس يومئذ قد بايعه أهلها على الصلاة بهم، حتى يجتمع الناس على إمام، وهو مع ابن الزبير، وهو يدعو له في السر، وزفر بن الحارث الكلابي بِقِنْسِرينَ على مثل رأيه، والنعمان بن بشير بحمص كذلك، وكان بفلسطين حسان بن مالك بن بحدل الكلبي عامل معاوية، وابنه وهواه في بني أمية، فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين رَوح بن زنباع، فأخرجه نائل ابن قيس وبايع لابن الزبير، وبايع أهل الأردن حسان بن مالك على أن يجنبهم بيعة خالد، وعبد الله ابني يزيد لصغرهما، وكتب حسان إلى الضحاك يعظم حق بني أمية، ويذم ابن الزبير بالفتنة، وخلع الأئمة، وكتب مع الرسول نسخة كتابه، وقال: إن لم يقرأ الضحاك على الناس؛ وإلا فاقرأ أنت هذا عليهم، فلما دفع الكتاب إلى الضحاك، حبسه وصعد المنبر، فلم يقرأه، فقرأ الرسول نسخته على الناس، فاضطربوا بين مصدق لحسان ومكذب، وتشاتموا ثم سكتوا، وقضى الضحاك صلاة الجمعة ودخل القصر، ثم خرج إلى المسجد واختلف قبائل قيس وكلب، قيس تدعو لابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية وهم أخوال عبد الله وخالد ابني يزيد، فاقتتلوا ثم افترقوا من يومهم.

وبعث الضحاك إلى بني أمية يعتذر إليهم، ويواعدهم الاجتماع بحسان بن بحدل بالجابية، وكتبوا إليه جميعاً بذلك، وساروا نحو الجابية، ثم ثناه ثور بن معن السلمي عن رأيه في ذلك خشية أن يميل حسان إلى ابن أختهم خالد بن يزيد، وأشار إليه بالدعاء لابن الزبير، فخرج الضحاك ونزل بمَرج راهط، واجتمع بنو أمية وحسان بالجابية، وأقام يصفي بهم أربعين يوماً، وهم يشتورون، وأشار مالك بن هبيرة السكوني على الحصين بن نمير ببيعة خالد؛ لأن أباه يزيد ابن أختهم، فأبى حصين، وقال: تأتينا العرب بشيخ، ونأتيها بصبي؟ فقال مالك: واللّه لئن ولي مروان، لتكونُن عَبِيدَاً له ولقومه؛ فإنه أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، ثم قام رَوح بن زنباع، فخطب الناس، وذكر فضل ابن عمر وسابقيته وأشار إلى ضعفه، ثم ذكر ابن الزبير، وأثنى عليه بأبيه وأمه، ثم ذكر دخوله في الفتنة وسفك الدماء وشق العصا وخلع الأئمة، ومثل هذا لا يكون إمامَاً، فعليكم بمروان بن الحكم؛ فلا يكون صدع إلا شعبه، ولا تعدلوا عن الكبير إلى الصغير.

ثم اجتمع رأيهم على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص، على أن إمرة دمشق لعمرو، وإمرة حمص لخالد، وقال حسان لخالد: إن الناس أبوك لصغرك، وما أريد إلا أهل بيتك لكن فعلته؛ نظرَاً لكم.

ثم بايعوا مروان أول ذي القعدة سنة أربع وستين، وسار الناس من الجابية إلى الضحاك، وقد بعث النعمان بن بشير بحمص، فأمده بشرحبيل بن ذي الكلاع، وأملى زفر بن الحارث بأهل قنسرين، وقاتل ابن قيس بأهل فلسطين، فاجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته: عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته: عبيد الله بن زياد، وثار على الضحاك بدمشق يزيد بن أبي النمس الغساني، وكان مختفيَاً بها، فأخرج عنها عامله، وبايع لمروان، وأمده بالأموال والرجال والسلاح، واقتتل مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة وانهزم الضحاك، وقتله دحية بن عبد الله الكلبي، وقتل معه في المعركة ثمانون من أشراف أهل الشام، واستحكمت قيس بالقتل، وكانت الوقعة آخر سنة أربع وستين، وقيل في المحرم من سنة خمس، وآتى مروان برأس الضحاك فساءه، وبلغ خبر الهزيمة إلى النعمان بن بشير بحمص مع الفَل؛ فخرج هارباً بأهله وبنيه. فخرج في طلبه عمرو بن الخلي الكلاعي، فقتله وجاء برأسه، وهرب زفر بن الحارث من قنسرين، فلحق بقرقيسياء، وعليها عياض الجرشي كان يزيد ولاه فخدعه وغلبه عليها وتحضن بها، واجتمعت إليه قيس، وهرب نائل بن قيس الجذامي عن فلسطين، ولحق بابن الزبير بمكة، واستعمل مروان بعده على فلسطين رَوح بن زنباع، واستوسق الشام لمروان، وتزوج أم خالد بن يزيد.

وقيل: إن عبيد الله بن زياد جاء لبني أمية بتدمر، ومروان مجمع على المسير لابن الزبير، فثناه عن ذلك، وأخذ له البيعة على بني أمية، وأهل تَدمُر، وساروا إلى الضْحاك وهزموه.

فلما ملك مروان الشام، سار إلى مصر، وعليها عبد الرحمن بن جحدر الفهري يدعو لابن الزبير، فخرج للقائه وبعث مروان عمرو بن سعيد. فخالف عبد الرحمن إلى مصر، فرجع وانتقض أمره، وبايع الناس مروان، وملك مصر ورجع إلى دمشق، فبلغه أن مصعب بن الزبير أقبل في الجيوش، فبعث إليه عمرو بن سعيد، وحال بينه وبين الشام، وانهزم مصعب ورجع مروان إلى دمشق، فاستقر بها، وبعث عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة، وإذا فرغ منها، سار إلى العراق، وبعث حُبَيش بن دلجة القَيني إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف لعبد اللّه بن الزبير، فهرب منه جابر، وبعث الحارث بن أبي ربيعة جيشَاً من البصرة للقاء حبيش، فسار إليهم.

وبعث عبد اللّه بن الزبير عباس بن سهل بن سعد أميراً على المدينة ويسير في طلب حبيش حتى يوافي عسكر البصرة فيلحقهم بالربوة، وقتل حبيش واعتصم من عسكره بالمدينة خمسمائة فارس، فقتلهم عباس، وكان مع حبيش الحجاج وأبوه يوسف بن الحكم على جمل واحد، وكان عمرو بن سعيد لما رجع من قتال مصعب بفلسطين، أنهَى عنه إلى مروان أنه يقول: الأمر إلي من بعده، فشكا ذلك إلى حسان ابن بحدل، فقام في الناس وقال: بلغنا أن رجالاَ يتمنونَ أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك وعبد العزيز، فبايعوا من عند آخرهم، وولى ابن الزبير أخاه عبيد اللّه على المدينة، ثم عزله وولى مصعباً.

مفارقة الخوارج لابن الزبير

كان الخوارج عند استبداد ابن زياد عليهم بالكوفة ومسير العساكر من الشام إلى ابن الزبير، قال لهم نافع بن الأزرق منهم؛ سيروا بنا إلى ابن الزبير نجاهد معه إن كان على رأينا، وإلا ندافع عن البيت، فجاءوا إليه وقاتلوا معه أهل الشام، ثم أرادوا اختبار رأيه فيهم فسألوه، وقال: ائتوني من الغداة، وجمع أصحابه بالسلاح، فلما جاءوا من الغد ونظر إليهم، فقال لهم ابن الأزرق: إن الرجل مزمع خلافكم، ثم قال عبيدة بن هلال من الخوارج: إن اللّه بعث محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الدين، فأجابه المسلمون، وعمل فيهم بكتاب اللّه حتى قبضه اللّه، واستخلف أبو بكر وعمر، فعملا بالكتاب والسنة، ثم استخلف عثمان، فحمى الحمى، وآثر القربَى، ورفع الدرةَ، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول، وضرب السابقين بالفضل، وحَرَمَهُمْ، وأخذ فيء اللّه الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق قريش ومُجان العرب، فسارت إليه طائفة فقتلوه، فنحن أولياؤهم، ومن ابن عفان وأوليائه بريئون، فما تقول أنت. فقال ابن الزبير: أما الذي ذكرتم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو فوقه، وأما ما ذكرتم به أبا بكر وعمر فقد وُفقتم وأصبتم، وأما الذي ذكرتم به عثمان، فلا أعلم أن أحداً من خلق اللّه اليوم أعلم بعثمان وأمره مِني: نقموا عليه واستعتبوه فلم يدع شيئاً إلا أعتبهم، ثم جاءوه بكتاب له يأمر بقتلهم يزعمون أنه كتبه، فقال ما كتبته، وإن لم تكن بينة، حلفت لكم، فوالله ما جاءوا ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه.

وأما ما عبتموه به، فليس كذلك، وأنا أشهدكم ومن حضر أني وليُ عثمان بن عفان، وعدوُّ أعدائه، قالوا: فبرئ اللّه منك، وتفرقوا.

فأقبل نافع بن الأزرق، وعبد اللّه بن صفار، وعبد اللّه بن إباض، وحنظلة بن نهيس، وبنو الماحوز عبد الله وعبيد الله والزبير، وكلهم من تميم حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بكر بن وائل، وأبو فديك من قيس بن ثعلبة، وعطية بن الأسود من يشكر، فوثبوا مع أبي طالوت، ثم تركوه واجتمعوا على نجدة ابن عامر الحنفي، وكان من خبرهم ما يذكر عند ذكر الخوارج.

خروج سليمان بن صُرَدَ في التوابين من الشيعة

لما قتل الحسين، ورجع ابن زياد إلى الكوفة، تلاوم الشيعة على ما أضاعوه من أمر الحسين، وأنهم ودعوه ولم ينصروه، فندموا، وقالوا: لا كفارة لذلك إلا قتل قاتليه أو الموت دون ذلك؛ كما قال اللّه لبني إسرائيل: " فَتُوبُوا إِلىَ بَارِئكم فَاقتلوا أَنفُسَكُم " " البقرة: 54 " . واجتمعوا إلى خمسة نفر من رءوسهم سليمان بن صُرَد الخزاعي، وكانت له صحبة، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد اللّه بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد اللّه بن وال التيمي من تيم بكر، ورفاعة بن شداد البجلي، وكانوا من خيار أصحاب علي، واجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، وتفاوضوا في تلك الندامة، واعترفوا بذنبهم، واتفقوا على البيعة لسليمان بن صرد وطاعته، وأخرجوا من أموالهم النفقة على ذي الخلة من أشياعهم، وجعلوا قبض ذلك ونفقته لعبد الله ابن وال، وكتب سليمان إلى سعد بن حذيفة، وهو بالمدائن بما اعتزموا عليه، فقرأ الكتاب سعد على من هناك من الشيعة، وأجابوا بالموافقة والخروج عند الأجل الذي ضرب لهم، وكانوا يدعون إلى ذلك في السر منذ مقتل الحسين، والناس يجيبونهم نفراً بعد نفر.

ولما هلك يزيد، دعا بعضهم إلى الوثوب على عمرو بن حريث خليفة ابن زياد على الكوفة، ثم رأوا أن الأمر لا يستتبُّ لهم بذلك؛ لأن قتلة الحسين هم جماعة الكوفة، فأقصروا عن ذلك، ووثب الدعاة في النواحي، واستجاب لهم الناس، ثم أخرج أهل الكوفة عمرو بن حريث، وبايعوا لابن الزبير، وقدم عبد اللّه بن يزيد الخطمي أميرَاً على الكوفة من قبله في رمضان سنة ثلاث وستين، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وبلغ إلى عبد اللّه بن يزيد الخطمي خبر سليمان وأصحابه التوابين، وأشير عليه بحبسهم، وخُوف عاقبة أمرهم، فقال: نحن تاركوهم ما تركونا، وهم يطلبون قتلة الحسين ولسنا منهم، ثم خطب بمثل ذلك، وقال: والله ما قتلنا حسيناً، ولقد أصبْنَا بمقتله، وهؤلاء القوم الذين رفع إلينا أمرهم آمنون، فيسيرون إلى قاتلي الحسين، وهو ابن زياد فها هو على جسر مَنبج، وهو سائر إليكم، فسيروا إليه، وأنا ظهر لكم عليه، ولا يقتل بعضكم بعضاً.

فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال: يا أيها الناس، لا تغرنكم مقالة هذا المداهن، والله من خرج علينا لنقتلنه، ومن علمنا بخروجه، لنأخذن القريب بالقريب، والولي بالولي، والعريف بعرافته حتى يستقيم، فوثب عليه ابن نجبة وعبد اللّه بن وال وأساءوا إليه، ثم تشاتموا، وأنزل الأمير عن المنبر وخرج أصحاب سليمان يشترون السلاح ويتجهزون، والمختار يسفهُ رأيهم في ذلك ويرى أنه أبصر منهم.

وكان سبب قدوم المختار الكوفة أن الشيعة كانت تسب المختار بما كان منه من أمر الحسين وإشارته على عمه بالمدائن أن يقبض عليه لمعاوية، ولما جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نزل داره وبايعه ودعا، ثم جاء يوم خروجه من قريته بظاهر المدينة الكوفة، ففاته أمر ابن عقيل، ووقع في يد ابن حريث فأمنه، ثم رفع عمارة بن الوليد أمره إلى عبيد الله، فاعتذر بأنه كان مع ابن حريث، وشهد له فضرب عبيد اللّه وجهه بقضيب شتر عينه وحبسه، حتى قتل الحسين فبعث إلى عبد اللّه بن عمرة أن يشفع فيه إلى ابن زياد، وكان زوج أخته صفية بنت أبي عبيد، فشفعه على ألا يقيم بالكوفة، فخرج إلى الحجاز، وسأل في طريقه عن ابن الزبير. فقيل: إنه عائذ بالبيت ومبايع سراً، ولو كثر جمعه لظهر، فقال: هذه فتنة، واعتزم المختار على الطلب بدم الحسين من يومئذ.

وقدم إلى ابن الزبير، وأخبره خبر العراق، ودعاه إلى البيعة، فكتم أمره عنه، ففارقه وغاب بالطائف سنة، ثم رجع إلى مكة، ولم يأت ابنَ الزبير، وكان قد ظهر أمره، فدس عليه ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد فلقيه وعذله عن تأخره عن ابن الزبير، فقال: كتم عني وأراني الاستغناء، فاستغنيت عنه، فحمله على لقائه معه، وحضر عند ابن الزبير ليلا وقال: أبايعك على ألا تقضي أمراً دوني، وأكون أول داخل، وتوليني أفضل عملك، فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله، فقال: لا، فبايعه ابن الزبير على ما أحب، وشهد معه قتال الحصين بن نمير، وأبلى فيه.

فلما هلك يزيد، وأطاع أهل العراق ابن الزبير، فإذا هو لا يستعمله، وبلغه الخبر عن الشيعة بالكوفة، ففارق ابن الزبير إليهم، وقدم الكوفة، ونزل في داره، واختلفت إليه الشيعة، وجاءه رءوس الناس من كندة وبني هند، وأخبروه بخبر سليمان بن صرد وأصحابه، وأنهم على المسير، فقال: إن ابن الزبير بعثني إليكم وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء فبايعوه، وبعث إلى الشيعة الذين عند سليمان بن صرد بمثل ذلك ودعاهم إلى طاعته واستمالهم عن سليمان، فمال إليه طائفة منهم، وخرج سليمان نحو الجزيرة لشأنه، وجاء الناس إلى الأمير عبد اللّه يزيد الخطمي، وصاحبه إبراهيم بن محمد بن طلحة، منهم: شبيب بن ربعي، ويزيد بن الحارث بن رويم، فقالوا لهما: إن المختار يريد أن يثب عليكم وهو أشد من سليمان وجاءوا به، فقال عبد الله: ما كنت لآخذ أحداً على الظنة، وتولى إبراهيم أمره وحبسه، وقيل: إنما جاء المختار إلى الكوفة بأمر ابن الزبير، وإنه قال له: ابعثني أستخرج لك جنداً من شيعة على تقاتل بهم أهل الشام، فبعثه حتى إذا اجتمع إليه الناس، وثب على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة، وكتب إليه: إن ابن مطيع داهن، وراسل عبد الملك؛ فأخرجهُ.

وأما سليمان بن صُرَدَ فخرج في ربيع سنة خمس وستين، ونزل النخيلة، ثم استقبل عدد الناس، وأرسل من نادى في الكوفة بثأر الحسين، فجاء بعض وتثاقل بعض، والمختار يثبطهم، وأقام بالنخيلة ثلاثَاً، ثم سار في أربعة آلاف ونادى فيهم: من أراد الدنيا ومتاعها في الفيء والغنيمة فليرجع، وليس معنا إلا سيوفنا وزاد النقلة، فوافقوه، ثم أشار بعضهم بالرجوع إلى الكوفة ومناجزة قتلة الحسين، فأكثرهم هنالك، فقال سليمان: إنما قتله الذي عَبأَ الجنود إليه، ومنعه الأمان حتى يستسلم، وهو ابن زياد، ومن بعده أهون منه.

ولحقه أمير الكوفة عبد اللّه بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فعذلاه في المسير، وأشارا عليه بالرجوع حتى نتجهز جميعاً لهذا العدو، فنلقاه بجمع كثيف، وقد كان بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام في الجنود، فلم يوافقهما سليمان ولا أصحابه، وساروا لوجههم، وتخلف عنهم كثير من أصحابهم، وفي ذلك يقول عبد اللّه بن الأحمر يحرض: من الطويل:

صَحَوتُ وقد يَصحو الصبَا والغَوَانِيا ... وقُلتُ لأصحَابي: أَجِيبُوا المنَادِيَا

وقُولُوا لَهُ إذ قَامَ يَدعُو إِلى الهُدَى ... وقَبل الدُعا: لبيك لَبيك دَاعِيَا

ألا فَانْعَ خيرَ الناس جَداً ووالداً ... حُسَيناً إِذَا ما كُنْتَ للذينِ نَاعِيَا

لِيَبك حسينَاً مجتدٍ ذو خَصَاصةِ ... عديمٌ وأَيتَامٌ تشكى المواليا

وأضحَى حُسَين للرماحِ درِيئَة ... وغودر ذا دَرْسَين بالطف ثَاوِيَا

فيا لَيتَني إذ ذاكَ كنتُ شهدتهُ ... فضارَبتُ عنه الشامِتِينَ الأعَادِيَا

سَقَى الله أرضاً ضَمتِ المجدَ والثنَا ... بغَربِيةِ الطَّف الغَمَامَ الغَوادِيَا

فَيَا أُمة تَاهَت وضَلت سَفاهَة ... أنِيبُوا فَأَرضُوا الوَاحِدَ المُتَعَالِيَا

ثم ساروا يقدمهم من ذكر، وعبد الله بن الأحمر يقول: من الرجز:

خَرَجنَ يلمعنَ بنا أرسَالاَ ... عوابساً تَحمِلُنَا أبطَالا

نُرِيدُ أَن نَلقَى بِهَا القتالاَ ... ألقاسِطِينَ الغُدرَ الضلالاَ

وقد رَفَضنَا الوُلدَ والأَموالاَ ... والخَفِرَاتِ البِيضَ والحِجَالاَ

نُرضِي بِهِ ذا النعَمِ المِفضَالا

ثم انتهوا إلى قبر الحسين، فصاحوا وبَكوا، وجددوا التوبة من خذلانه، وأقاموا عنده يومَاً وليلة، فزادهم ذلك حنقاً، وبلغهم كتاب عبد اللّه بن يزيد يثنيهم عن المسير، فأبوا واستماتوا، ثم انتهوا إلى قرقيسيا على تعبئة، وبها زفر بن الحارث الكلابي متحصناً من مروان وقومه، ودخل إليه المسيب بن نجبة يطلبه في السوق لأصحابه، فأمر ابنه الهذيل فأخرج لهم سوقاً، وبعث إليهم بعلف ودقيق وجزائر، واستغنوا بها عن السوق إلا في غير الطعام، وأعطي المسيب ألف درهم وفرساً، فأخذ الفرس ورد المال، ثم خرج زفر من الغداة يودعهم، وأخبرهم بمن سار من الجيوش إليهم، وأنهم عدد كثير وأن أمراءهم الحصين بن نمير، وشرحبيل الكلابي، وأدهم بن محرز، وحملة بن عبيد الله الخثعمي، وعبيد اللّه بن زياد، فأقيموا معنا ونلقاهم جميعاً.

فأبى سليمان وأصحابه من ذلك، فأشار عليهم بوجه الرأي في السير والحرب وودعهم، فساروا مجدينَ إلى عين الوردة، فأقاموا بها خمساً وأراحوا، حتى إذا كانت عساكر الشام على يوم وليلة عنهم فخطبهم سليمان بن صرد وحرضهم، وقال: إن قتلت، فأمير الناس المسيبُ بن نجبة، فإن قتل، فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل، فعبد الله بن وال، فإن قتل، فرفاعة بن شداد.

ثم سرح المسيب في أربعمائة فارس يشن عليهم الغارة، فإن رأى ما أحب وإلا رجع، فسار يومه وليلته وجاء أصحابه بأعرابي، فسألوه عن العسكر، فقال: أدنى عسكر منكم شرحبيل بن ذي الكلاع على ميل، وقد اختلف هو وحصين بن نمير في الإمارة، وهما ينتظران أمر ابن زياد، فأغذوا إليهم السير، وأشرفوا عليهم، وهم غارُونَ وحملوا، فانهزم العسكر، وغنم أصحاب المسيب ما فيه ورجعوا إلى أصحابهم موقرين، وسرح ابن زياد الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً، ثم تراجعوا على التعبئة، ولما دنا بعضهم من بعض، دعاهم أهل الشام إلى الجماعة إلى مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى إسلام عبيد اللّه بن زياد إليهم، وأنهم يخرجون أصحاب ابن الزبير من العراق، ويرد الأمر إلى أهل البيت، ثم اقتتلوا وكان الظهور لسليمان وأصحابه على الحصين، وأمده ابن زياد بثمانية آلاف فاقتتلوا من الغد على السواء، وتحاجزوا عند المساء.

ولما أصبح أهل الشام، أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في عشرة آلاف مدداً، فقاتلوهم يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ولما رأى سليمان كثرتهم وما لقي أصحابه منهم، كسر جفن سيفه واستمات، واتبعه ناس منهم، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، ثم قتل سليمان، وبعده المسيب بن نجبة بعد أن حمل مراراً، فأخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل، وقاتل فجاءه، وهو في القتال الخبر من عبد اللّه بن سعد ابن حذيفة بمدد أهل المدائن في سبعين ومائة ومدد أهل البصرة مع المثنى بن مخرمة في ثلاثمائة، فقال: لو كان ذلك ونحن أحياء. ثم قتل عبد الله بن سعد، ونادوا عبد اللّه بن وال، فإذا هو قد اصطلى الحرب، فحمل رفاعة بن شداد حتى كشف عن أهل الشام، وجابَه، فأخذ الراية وقاتل، واستماتوا.

وتولى قتالهم عند المساء أدهم بن مخرمة، فقتل عبد الله بن وال وهو مقبل، وأراد رفاعة بن شداد الانصراف بالناس، فقال له بعض أصحابه: لا تفعل حتى يغشانا الليل، فنسير في دلجته على مهل، فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم وأصحاب رفاعة إلى معسكرهم، وقد قتل عامتهم وفشت الجراحة فيهم وفي خيلهم، فسار بالناس ليلته، وأصبح الحصين فلم يرهم، وانتهوا إلى قرقيسيا وأضافهم زفر ثلاثاً، وزودهم إلى الكوفة، وبلغ سعد بن حذيفة بن اليمان - من أهل المدائن - إلى هيت، فلقيه خبرهم فرجع، ولقيه المثنى بن مخرمة العبدي في أهل البصرة بصدد، وِأقاموا حتى جاء رفاعة وأصحابه فاستقبلوه، وبكوا وافترقوا إلى بلادهم، ودخل رفاعة الكوفة، وبعث إليه المختار بن أبي عبيد، وهو محبوس يدعوه إلى طاعته في الطلب بدماء أهل البيت وجهاد الملحدين، وأن سليمان لم يكن صاحبكم الذي تنتصرون به، وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان بن الحكم، فخطب الناس وأعلمهم بموت سليمان بن صرد وأصحابه. ولأعشى همدان قصيدة طويلة يرثي بها أهل عين الوردة من التوَابين: سليمان بن صرد الخزاعي وأصحابه ويصف ما فعلوه فقال: من الطويل،

توجهَ مِن دُونِ الثويَّةِ سائراً ... إلى ابنِ زِيادٍ في الجموعِ الكَتَائِب

فَساروا وَهُم مِنْ بَين مُلْتَمِسِ التقَى ... وآخَرَ مما حُم بالأمسِ تَائب

فَلاقَوا بعيْنِ الوردِ جَيشَاً مشاكلاً ... عليهم بِبِيض قَاطِعَات قَواضِب

فَجَاءَهُمُ جمعْ مِنَ الناسِ بَعده ... جُمُوع كمَوْجِ البَحر من كُل جانبِ

فما بَرِحُوا حَتَى أُبِيدَت جُمُوعُهُم ... ولَم ينجُ مِنَهُم ثَم غَيرُ عَصَائب

وغودِرَ أهلُ الصبرِ صرعى فأصبحوا ... تُعَاوِرُهم ريحُ الصبَا والجَنَائِب

وأضحَى الخُزَاعِي الرئيسُ مُجدلاً ... كأن لَم يُقَاتِل مرة ويُحَارب

ورأسُ بني أزدِ وفارسُ قومِه ... جميعاً مع التيمي عاري المَنَاكِبِ

وعَمْرُو بنُ عمرو وابنُ بِشير وخالدٌ ... وبَكر وزيد والحُسَين بن غالبِ

أَبوا غَيرَ ضربٍ يُفْلِقُ الهَامَ حَده ... وطَعنٍ بأَطْرَاف الأسَنةِ لاَزبِ

فيا خيرَ جَيشٍ للعراقِ وأَهلِه ... سُقِيتُمْ روايا كُل أسحَمَ ساكبِ

فَلاَ يَبْعَدن فُرْسَانُنَا وحُمَاتُنَا ... إِذَا البِيضُ أبدَت عَن خدامِ الكَوَاعِبِ

فإن تُقْتَلُوا فالقَتْلُ أكرَمُ مِيتَة ... وَكُل فتى يوماً لإحْدَى الشواعِبِ

وما قُتِلُوا حتى أَصَابُوا عصابة ... بِحز نُحُورٍ كالتيُوسِ الضَوَاربِ

وفي كتاب الأذكياء للحافظ أبي الفرج بن الجوزي قال: كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ مائة وعشرين سنة، ستين منها في الجاهلية، وستين في الإسلام، فلما ولي مروان بن الحكم دخل عليه، فقال له مروان: ما سنك يا عم؟. فأخبره، فقال له مروان: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث، فقال حويطب: والله لقد نهضت إلى الإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك عنه وينهاني، ويقول: لا تَدع دين آبائك لدين محمد، فأسكت مروان وندم على سؤاله إياه، ثم قال له حويطب: أما أخبرك عثمان بن عفان ما كان لقي من أبيك حين أسلم، فازداد مروان غماً إلى غمه.

وحكى عن البختري بن عبيد، أنه قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان جالساً، وكان حسان من جلسائه - وليس بحسان بن ثابت الصحابي - فأقبل رجل على ناقة حمراء، وعليه برنس، ثم نزل عنها ومشى، حتى دنا من معاوية، وهو جالس، فسلم عليه، فضم له معاوية رجليه، فجلس الرجل على الطنفسة، ثم أقبل عليه معاوية بالحديث، فلما قام، انكشف البرنس، فرأيت عليه قميص كتان، ورأيت أثر مسح زقاق الزيت على قميصه، فقال حسان لمعاوية: من هذا الذي شغلك حديثه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا رجل يرجو الخلافة من بعدي، فقال له حسان: ليس هذا الزيات بأهل لذلك يا أمير المؤمنين، قال معاوية: مهلاً يا حسان، هذا مروان بن الحكم!