في الدولة الأموية: خلافة عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه مروان

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه مروان

كان أبوه مروان عند ولايته تزوج أم خالد بن يزيد وهي بنت هاشم بن عتبة، فوقع بين خالد بن يزيد بن معاوية وبين بعض ولد مروان كلام، فقال لخالد: اسكت، فلست واللّه تُعَدّ لا في العير ولا في النفير، فقال له خالد: وهل كان في العير غير جدي، وفي النفير غير جدي، ولكن لو قلت: حبيلات وغنيمات والطائف، ورحم الله عثمان، قلنا: صدقت. انتهى.

قلت في قول خالد: جدي في العير جدي في النفير يشير إلى أن جده لأبيه أبا سفيان هو الذي كان في العير، وجده لأمه هو الذي كان في النفير، وهو عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس لأن أم جده معاوية هي بنت عتبة.

وأما قوله: حبيلات فهي جمع حبلة، وهي أصل الكرمِ.

وقوله: غنيمات والطائف ورحم الله عثمان يعني يعيره بكون جده الحكم والد مروان نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فأقام ثمة عنده حبيلات وغنيمات واستمر إلى أثناء خلافة عثمان - رضي الله عنه - فرده إلى المدينة، وكان رده من جملة الأمور المنقومة على عثمان، رضي اللّه عنه.

وأراد مروان أن يقصر بخالد، لما كان حسان بن بحدل يميل إليه، فدخل خالد يوماً على مروان يمشي بين السماطين، فقال مروان: إنه لأحمق، وقال: تنح يا بن رطبة الاستِ يسقطه من عين أهل الشام، فتوجه إلى أمه، فقالت: اكتم خبرك، وأنا أكفيك؛ فلا تصير تسمعها منه، ودخل عليها مروان، فقال: هل قال لك خالد شيئاً. قالت: هو أشد لك تعظيماً من هذا، ثم قام عندها يوماً، فغطته بالوسادة، وتحاملت هي وجواريها عليه، فقتلته، وأراد عبد الملك أن يثأر منها، فقيل له: لا يسمع أن امرأة قتلت أباك.

ولادته سنة اثنتين من الهجرة، بويع في رجب سنة أربع وستين، وكانت الشوكة والغلبة لابن الزبير مدته خمسة عشر شهراً، و قيل: عشرة أشهر، وفاته في رمضان سنة خمس وستين، عمره ثلاث وستون، وقيل: أربع وستون، وقد كان بايع لولده عبد الملك، ثم بعده لولده الآخر عبد العزيز والد عمر بن عبد العزيز، رضي اللّه تعالى عنه.

وثوب المختار بالكوفة وأخباره

لما قتل سليمان بن صرد، وقدم الشيعة إلى الكوفة، وكان المختار محبوساً كما مر، كتب إليهم من السجن يعدهم ويمنيهم ويعرفهم أن الذي بعثه ابن الحنفية لطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شداد، والمثنى بن مخرمة العبدي، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط البجلي، وعبد اللّه بن شداد البجلي، وبعثوا إليه عبيد اللّه بن كامل منهم: إنا بحيث نسرك، وإن شئت أن نأتيك ونخرجك من الحبس فعلنا، فسر بذلك وأمهلهم.

ثم شفع فيه ابن عمر إلى عبد اللّه بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، فأطلق، واستحلفاه ألا يخرج عليهم، ونزل بداره، واختلفت إليه الشيعة، وبايعوه، وقوي أمره.

ثم عزل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة، وعبد اللّه بن يزيد، واستعمل على الكوفة عبد الله بن مطيع، فقدمها في رمضان سنة خمس وستين، وخطب الناس بأن ابن الزبير أمره ألا يقسم فيئهم في غيرهم، وأن يسير فيهم بسيرة عمر وعثمان، ثم توعدهم على الخلاف، فقالوا: أما فيئنا، فلا يكون غير ذلك، وأما السيرة: فسيرة علي التي سار بها في بلادنا، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان ولا عمر، فقال ابن مطيع: نسير بكل سيرة ترضونها.

ثم بلغه أن المختار يدعو لأهل البيت، وبمن اجتمع له وأشاروا عليه بحبسه، فبعث إليه فاعتذر بالمرض.

وارتاب أصحاب المختار فيما بلغهم عن ابن الحنفية، فساروا إليه بمكة يسألونه واستأذنوه في اتباعه، فقال: وددت أن اللّه انتصَرَ لنا من عدونا بمن يشاء مِنْ خلقه. فرجعوا وأخبروا بذلك المختار، وقالوا له: قد أمرنا بنصرك، فجمع الشيعة، وأخبرهم بما قدم به أصحابهم من عند ابن الحنفية، وأنه أخبرهم رسوله، وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد الوافدون بذلك، فاجتمعت الشيعة ومن جملتهم الشعبي وأبو شرحبيل.

وأشار عليه بعض أصحابه بدعاء إبراهيم بن الأشتر؛ ليقوي أمرهم به، فمضى إليه الشعبي في جماعة منهم، وذكر تقدم أبيه في ولاية علي، ودعاه إلى الطلب بدم الحسين وأصحابه، فقال: على أن تولوني، فقالوا: قد جاء المختار بتولية ابن الحنفية، وقد أمرنا بطاعته، فسكت إبراهيم.

ثم جاء المختار بكتاب ابن الحنفية إلى إبراهيم يسأله النصرة ويعده بالولاية العامة، وفيه: من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، ودفعه إليه الشعبي، وقرأه وقال: مازال ابن الحنفية يكاتبني، فلا يزيد على اسمه واسم أبيه، فشهد جماعة منهم أنه كتابه، وسكت الشعبي، وسأله إبراهيم بعد انصرافهم فقال: هؤلاء الذين يشهدون سادة القراء، ومشيخة المصر، وفرسان العرب، فكتب أسماءهم عنده، ثم حمل عشيرته على إجابة المختار، وصار يختلف إليه، وتواعدوا للخروج منتصف ربيع الأول سنة ست وستين.

ونما الخبر إلى ابن مطيع، فبعث إلى رءوس الناس في كل ناحية من الكوفة يوقظهم لذلك وألا يؤتوا من قبلهم، فاستعدوا، فركب إياس بن مضارب في الشرط، وأحاط بالسوق والقصر، ثم ركب إبراهيم بن الأشتر يريد المختار قبل الموعد بليلتين، وهو مظهر للسلاح، ولقي إياس بن مضارب، فارتاب به، وأراده على الإتيان لابن مطيع، فأبى، وطعنه فقتله، وافترق أصحاب إياس وجاءوا إلى ابن مطيع، وولى مكانه ابن راشد على الشرطة، ومضى إبراهيم إلى المختار وأخبره بالخبر، وبعثوا في الشيعة وتنادوا بثأر الحسين، ومضَى إبراهيم إلى النخع، فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلاً، وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء، ثم لقيه بعضهم، فهزمهم ثم آخرين كذلك، ثم رجع إلى المختار، فوجد شبيبَ بنَ رَبعي وحجار بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما.

وجاء شبيب إلى ابن مطيع، فأشار عليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم فقد قوي أمرهم، فركب واجتمع الناس وتوافي إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة، وبعث ابن مطيع شبيب بن ربعي في ثلاثة آلاف وراشد بن إياس في أربعة آلاف، فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل، ونعيم بن هبيرة لشبيب في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح وقتل نعيم فوهن المختار لقتله، وظهر شبيب وأصحابه عليهم، وقاتل إبراهيم ابن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه، فركبهم القتل، وبعث ابن مطيع جيشاً كثيفاً، فهزمهم إبراهيم، ثم حمل على شبيب فهزمه، وزحف المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة، ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع، فدهش، فشجعه عمرو ابن الحجاج الزبيدي، وقال له: اخرج واندب الناس، ففعل وقام في الناس، ووبخهم على هزيمتهم وندبهم، ثم بعث عمرو بن الحجاج في ألفين، وشمر بن ذي الجوشن في ألفين، ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف، ووقف هو بكناسة، واستخلف على القصر شبيب بن ربعي، فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق، فهزمه وأسره ثم مَن عليه، ودخل ابن مطيع القصر، وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط.

ولما اشتد الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شبيب بن ربعي بأن يستأمنَ المختار، ويلحق بابن الزبير وله ما بعده، فخرج عليهم مساء، ونزل دار أبي موسى، واستأمن القوم للمختار، فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد، فخطبهم ودعا إلى بيعه ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة والطلب بدم الحسين، ووعدهم بحسن السيرة.

وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه، وملك المختار الكوفة وجعل على شرطته عبد الله بن كامل، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد ابن قيس على الموصل، وإسحاق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة، وولي شريحاً على القضاء.

ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عدي، ولم يبلغ عن هانئ بن عروة رسالته إلى قومه، وأن علياً عزله وأنه عثماني، وسمع ذلك هو، فتمارض، فجعل مكانه عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، ثم مرض فولي مكانه عبد الله بن مالك الطائي.

مسير ابن زياد إلى المختار وخلاف أهل الكوفة عليه وغلبه إياهم

كان مروان بن الحكم لما استوثق له أهل الشام، بعث جيشين؛ أحدهما: إلى الحجاز مع حنيش بن دلجة القيني، وقد مر شأنه ومقتله، والآخر: إلى الكوفة مع عبيد اللّه بن زياد، وكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدَم، وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها، ثم توفي مروان، وولي بعده عبد الملك، فأقره على ولايته وأمره بالجد، وأيس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل، فخرج عنها عبد الرحمن بن سعد عامل المختار إلى تكريت، وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة اَلاف إلى الموصل، فساروا إليها على المدائن، وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة اَلاف، والتقيا ببابل، وعبأ في يد أصحابه وهو راكب على حماره وحرضهم، وقال: إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، وإن هلك فعبد الله بن ضمرة العذري، وإن هلك فسعد الحنفي.

ثم اقتتلوا يوم عرفة، وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار العسكر غير بعيد، فلقيهم عبد اللّه بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف، فرد المنهزمين وأعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام، وأثخنت فيهم أهل الكوفة القتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم، وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه، وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفة، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد، وقال: نرجع لموت أميرنا قبل أن يظهر علينا أهل الشام بذلك وصرف الناس.

وتقدم الخبر إلى الكوفة، فأرجف الناس بالمختار، وأشيع أن يزيد قتل، وساء المختار رجوع العسكر، فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وضم إليه حنيش يزيد، ثم تناجز ابن زياد فساروا لذلك، ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شبيب بن ربعي - وكان شيخهم جاهلي إسلامي - وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به، فقال: حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما ذكروه، فوعده الرجوع إلى رضاهم له، وذكر شأن الموالي وشوكتهم في الفيء، فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير، تركتهم، فقال: اخرج إليهم بذلك، وخرج فلم يرجع، واجتمع رأيهم على قتاله، وهم: شبيب بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعد بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن، وكعب بن أبي كعب الخثعمي، وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي، وكان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوا لقدوم أهل الشام ومجيء أهل البصرة؛ فيكفونهم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم، وهو عليكم أشد، فأبوا رأيه، وقالوا: لا تفسد جماعتنا.

ثم خرجوا وشهروا السلاح، وقالوا للمختار: اعتزلنا، فإن ابن الحنفية لم يبعثك. قال: فتعالوا نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بمثل هذه المراجعات، وكف أصحابه عن قتالهم ينظرون وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع، فجاء والقوم مجتمعون ورفاعة بن شداد البجلي يصلي بهم، فلما وصل إبراهيم، عبأ المختار أصحابه، وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجلي، وعبد اللّه بن كامل الشاكري، فانهزم أصحابهما وصبرا، وأمدهما المختار بالرجال والفرسان فوجَاً بعد فَوْج، وصار ابن الأشتر إلى مضر، وفيهم شبيب بن ربعي، وقاتلهم فهزمهم، واشتد ابن كامل على أهل اليمن، فرجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار، فقاتل معه حتى قتل، وقتل من أهل اليمن عبد اللّه بن سعيد بن قيس والفرات بن زفر بن قيس، وعمرو بن مخنف، وجرح أخوه عبد الرحمن، فمات، فانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير، فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم، وكانوا نصفهم وأطلق الباقين، ونادى المختار بالأمان إلا من شرك في دماء أهل البيت، وفر عمرو بن الحجاج الزبيدي وكان أشد من حضر قتل الحسين؛ فلم يوقف له على خبر، وقيل: أدركه أصحاب المختار، فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه، وانتهى إلى قرية الكلتانية، فارتاح يظن أنه نجا، وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار بعثه مصلحاً بينه وبين أهل البصرة، فنما إليه خبره، فبعث إليه وألقى شلوه للكلاب، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا أكثرهم من اليمن، وكانت آخر سنة ست وستين.

وخرج أشراف الناس إلى البصرة، وتتبع المختار قتلة الحسين، ودل عليهم عبيد الله بن أسد الجهني، ومالك بن الأشتر الكندي، وحمل بن مالك المحاربي، بالقادسية، فأحضرهم وقتلهم، ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي، وعمران بن خالد الغنوي، وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي، وعبد اللّه بن قيس الخولاني، وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين، فقتلهم، وأحضر عبد اللّه وعبد الرحمن ابني طلحة، وعبد اللّه بن وهب الهمداني، ابن عمرو الأعشى، فقتلهم، وأحضر عثمان بن خالد الجهني، وابن أسماء بشر بن شميط القابسي، وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فقتلهما، وحرقهما بالنار، وبحث عن حولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان من عبد اللّه بن جعدة بن هبيرة، فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده، فقال: تعرف هذا؟ قال: نعم، ولا خير في العيش بعده، فقتله.

وعن الهيثم بن حسن بن عمارة قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار، فنزل على عبد الله بن أبي أبزي الخزاعي، فلما رأى ما تصنع شيعة المختار به من الإجلال والإعظام، جعل يقول: يا عباد اللّه أبالمختار يصنع هذا؟! والله، لقد رأيته يبيع بالإماء بالحجاز، فبلغ ذلك المختار، فدعا به وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه، فقال: لا واللّه لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟! قال: أما إني أنظر إليك وقد فتحتَ مدينة دمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة، وسبيت الذرية، ثم تصلبني على شجرة على نهر، والله إني لأعرف الشجرة الساعة، وأعرف شاطئ ذلك النهر، قال: فالتفت المختار إلى أصحابه، فقال لهم: أما إن الرجل قد عرف السحر، فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه، فقال: يا أخا خزاعة، أو مزاح عند القتل؟ فقال: أنشدك اللّه أن أقتل ضياعاً، قال: وما تطلب هاهنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني، قال: ادفعوها له، وإياك أن تصبح بالكوفة. فقبضها وخرج ليلته.

وعنه قال: كان سراقة البارقي من ظرفاء أهل المدينة، فأسره رجل من أصحاب المختار، فآتى به المختار، وقال: أسرت هذا، فقال سراقة: كذب واللّه ما أسرني إنما أسرني رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق، فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة، خلوا سبيله فلما أفلت، أنشأ يقول: من الوافر:

أَلاَ أَبْلِغْ أبا إسحاقَ عَني ... بأَن البُلْقَ دُهْم مُصْمتَات

أرى عَيْنَي مَا لَمْ تَرْأَياهُ ... كِلاَنَا مولَع بِالتُرهَاتِ

كَفَرْتُ بِدِينِكُمْ وجعلتُ نَذْراً ... عَلي قِتَالَكُمْ حَتى المَمَات

ويقال: إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية: يزعم المختار أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه. فلما سمع المختار ذلك، تتبعهم بالقتل، وبعث برأس عمر وابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين، ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين وأصاب سلب العباس ابنه، وجاء عدي بن حاتم ليشفع فيه، فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذراً من قبول المختار شفاعته.

وبحث عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين، فدافع عن نفسه، ونجا إلى مصعب بن الزبير، وقد شلت يده بضربة.

وبحث عن زيد بن رقاد الجنبي قاتل عبد اللّه بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين، وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل، فأثبت كفه في جبهته، وقتله بالأخرى، فخرج بالسيف يدافع، فقال لهم ابن الكامل: ارموه بالحجارة، فرموه حتى سقط وأحرقوه حياً.

وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة.

وطلب عمرو بن صبيح الصدائي، فقتله طعنَاً بالرماح.

وأرسل في طلب محمد بن الأشعث، وهو بقريته عند القادسية، فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره، وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين، فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.

شأن المختار مع ابن الزبير

كان على البصرة الحارث بن أبي ربيعة، وهو القباع عاملاَ لابن الزبير وعلى شرطته عباد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم، وجاء المثنى بن مخرمة العبدي، وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع المختار وبعثه إلى البصرة يدعو له، فجاءه كثير من الناس، وعسكر لحرب القباع، فسرح إليه عباد بن الحسين، وقيس بن الهيثم في العساكر، فانهزم المثنى إلى قومه عبد القيس، وأرسل القباع عسكراً يأتون، فجاءه زياد بن عمرو العتكي، فقال له: لتردن خيلك عن إخواننا، أو لنقاتلنهم فأرسل الأحنف بن قيس، وأصلح الأمر على أن يخرج المثنى عنهم فسار إلى الكوفة.

وقد كان المختار لما خرج المطيع من البصرة، كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتَم أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلبه المختار بالوفاء لما وعده من الولاية، فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره، فولى عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها، وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس، وأعطاه سبعمائة درهم، وقال: ادفعها إلى عمرو، فهي ضعف ما أنفق وأمره بالانصراف بعد أن تكمن خيلك، فإن أبى فَأَرِهِ الخيل، وكان كذلك، ولما رأى عمرو الخيل، أخذ المال، وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب المثنى بن مخرمة.

وقيل: إن المختار كتب إلى ابن الزبير: إني اتخذت الكوفة داراً، فإن سوغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم، سرت إلى الشام، وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك، وأقام المختار يصانعه ويوادعه ليتفرغ لأهل الشام.

ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد، فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى، فسرح شرحبيل بن ورس الهمداني في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي، وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وإن رأى من جيش المختار خيلا، فناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عباس بالرقيم، وهم على تعبئة، وقال: سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى، فقال ابن ورس: إنما أمرني المختار أن آتي المدينة، ففطن عباس لما يريد، وأنزلهم وجاءهم بالعلوفة والزاد وتخير ألفاً من أصحابه وحمل عليهم، فقتل ابن ورس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا إلى الكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل ابن الزبير ما فعل، ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة، ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلا من قبله فيعلم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية: قد عرفت قصدك، ووفاءك بحقي، وأحب الأمور إلى الطاعة، فأطع اللّه وتجنب دماء المسلمين، فلو أردتُ القتال لوجدت الناس إلي سراعاً، والأعوان كثيراً، لكن اعتزلهم، واصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين!.

ثم دعا ابن الزبير محمد ابن الحنفية ومن معه من الشيعة وأهل بيته إلى البيعة، فامتنع، وبعث إليه ابن الزبير، وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا، فتركهم. وذكر المسعودي عن عمرو بن شيبة، عن مساور بن السائب، أن ابن الزبير خطب أربعين يوماً لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ما يمنعني أن أصلي إلا شمخ رجال بآنافها!.

ودخل عبد الله بن عباس على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني وتبخلني؟ قال ابن عباس: نعم، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس المسلم الذي يشبعُ ويَجُوعُ جاره " ، قال ابن الزبير: إني أكتُمُ بغضَكم أهلَ هذا البيت منذ أربعين سنة - وجرى بينهما خطب طويل.

وخطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون بالمتعة، ويتنقصون حواري رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة؟! ما بالهم أعمى اللّه بصائرهم كما أعمى أبصارهم - يعرض بابن عباس - فقال ابن عباس لقائده: اهدني إليه، فقال له: أما قولك في المتعة، فسل أمك تخبرك؛ فإن أول مجمر سطع للمتعة لمجمر سطع بين أمك وأبيك.

قلت: يريد متعة الحج لا متعة النكاح؛ فإن الزبير تزوج أسماء بنت أبي بكر في الإسلام من أبيها معلناً، فكيف تكونُ متعة نكاح؟ حمى اللّه الزبير عن ذلك، وحمى اللّه ابن عباس عن إرادة ما هنالك. انتهى.

وأما قولك: أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وضرب عليها الحجاب.

وأما قولك: حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد لقيته في الزحف - يعني حرب يوم الجمل - وأنا مع إمام هدى، فإن يكن على ما أقول، فقد كفر بقتاله، وإن يكن على ما تقول، فقد كفر بهربه.

ثم انصرف ابن عباس يقوده غلامه.

قلت: هذا الكلام عدم صحة معناه دليل على عدم صحة نسبته لابن عباس، رضي الله عنهما.

أما أولا: فإن الزبير لم يهرب من علي يوم الجمل، وإنما لما ذكره علي - رضي اللّه تعالى عنه - بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك ستقاتله، وأنت له ظالم " تذكَّر. ورجع واستغفر؛ كما تقدم ذكر ذلك في وقعة الجمل.

وأما ثانياً: فلأنه ليس القتال ولا الهرس كفر إن فرض وقوع ذلك؛ إذ غاية ما فيه أنْ يكونْ خروجاً عن الإمام العادل لشبهة قامَت عند الخارج، وهو ليس بكفر بل معصية وفسوق؛ وتأمل قوله - عليه الصلاة والسلام - للزبير: " وأنت له ظالم " ولم يقل: وأنت كافر؛ وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - لعمار: " تَقْتُلُكَ الفئة الباغية " ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحسن مع معاوية وقومه: " وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ؛ فسماهم مسلمين مع أنهم خارجون عن الحسن ظالمون له بقتالهم، فتأمل ذلك؛ لكن الراوي لهذه القصة المسعودي وهو من هو، وما هذا بأعجب مما رواه من قوله: أَكتُمُ بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة!.

وروى أن ابن الزبير خطب، فقال في أثناء خطبته: عذرت بني الفواطم أن يتكلموا، فما بال ابن الحنفية؟! فقال محمد ابن الحنفية: يا بن أم رومان، ومالي لا أتكلم؟! أليست فاطمة بنت محمد حليلة أبي، وأم أخوتي؟ أليست فاطمة بنت أسد جَدتي؟ أو ليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي؟! أما والله لولا خديجة بنت خويلد بن أسد ما تركت في بني أسد عظماً إلا هشمته، وإن نالتني منهم المعايب، صبرت.

ولما استولى المختار على الكوفة، وأظهرت الشيعة دعوة ابن الحنفية، خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة وتوعدهم بالقَتْل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلا، وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة ونحبهم، وبعث أمراء منهم في نحو ثمانمائة عليهم عبد اللّه الحذلي، وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم، وساروا إلى مكة، فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب - كراهة إشهار السيف في الحرم - وطفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم، وأخرجوا ابن الحنفية، وقد كان بقي من أجله يومان واستأذنوه في قتال ابن الزبير، فقال: لا أستحل القتال في الحرم، ثم جاء باقي الجند، وخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفية إلى شعب علي، واجتمع له أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم المال وامتنع، ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير، بعث إليه بالبيعة، فخافه على نفسه، وكتب لعبد الملك، فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس، ووعده بالإحسان فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام، ولما وصل مدين، لقيه خبر مهلك عمرو بن سعيد فندم، وأقام بأيلة وظهر للناس فضله وعبادته وزهده، وكتب له عبد الملك أن يبايعه، فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب، فأخرجه ابن الزبير إلى الطائف، وعذل ابن عباس ابن الزبير على شأنه، ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هناك، فصلى عليه ابن الحنفية وعاش حتى أدرك حصار الحجاج لابن الزبير، ولما قتل ابن الزبير، بايع محمد ابن الحنفية لعبد الملك، وكتب عبد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه وبَسطِ أمله، ثم قدم الشام، وطلب من عبد الملك أن يرفع عنه، ففْعل.

وقيل: إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة، فقالا: حتى يجتمع الناس على إمام؛ فإن هذه فتنة، فحبس ابن الحنفية في زمزم، وضيق على ابن عباس في منزله، فأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشه كما تقدَّم ونفس عنهما، فلما قتل المختار، قوي ابن الزبير عليهما، فخرجا إلى الطائف.

مقتل ابن زياد

ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين، بعث إلى إبراهيم ابن الأشتر لقتال ابن زياد، وبعث معه بالكرسي الذي يستنصر به، وهو كرسي قد غشاه بالذهب، وقال للشيعة: هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكثر السبئية، وأحضره قتال ابن زياد، فكان له الظهور، فازدادت الشيعة فتنة، ويقال: إنه كرسي علي بن أبي طالب، وإن المختار أخذه من ولد جعدة بن هبيرة، وكانت أمه أم هانئ بنت أبي طالب، فهو ابن أخت علي، ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر السير، وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مر، فلما دخل إبراهيم أرض الموصل، عبأ أصحابه، ولما بلغ نهر الخابور، بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريباً من النهر، وكانت قيس مضطغنة على بني مروان من وقعة المرج، وجند عبد الملك يومئذ كليب، فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم ابن الأشتر، ووعده بأن ينهزم بالميسرة، وأشار عليه بالمناجزة، ورأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك، وقال: إنهم ملئوا منكم رعباً، وإن طاولتهم اجترءوا عليكم، قال: وبذلك أوصاني صاحبي، ثم عبأ أصحابه في السحر الأول يمشي ويحرض الناس حتى أشرف على القوم، وجاء عبد الله بن زهير السكوني بأنهم خرجوا على دهش وفشل، وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم فعال ابن زياد وأبيه، ثم التقى الجمعان، وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فقتل علي بن مالك الخثعمي، ثم أخذ الراية قرة بن علي، فقتل، وانهزمت الميسرة كما كانوا، وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد، وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم، فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالا شديداً، وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشد قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القَصارين، وإبراهيم يقول لصاحب الراية: انغمس برايتك فيهم، ثم حملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب ابن زياد، وقال ابن الأشتر: إني قتلت رجلا تحت راية منفردة، شممت منه رائحة المسك، وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه، فإذا هو ابن زياد، فأخذ رأسه وأحرقت جثته.

وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين من غير سلاح، فاعتنقه وجاء به أصحابه، فقتلوا الحصين، ويقال: إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع، وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد اللّه بن زهير السلمي، واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين، فغرق في البحر أكثر ممن قتل وغنموا جميع ما في العسكر، وطير ابن الأشتر البشارة إلى المختار، فأتته بالمدائن، وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد، فبعث أخاه عبد الرحمن إلى نصيبين، وغلب على سنجار ودارة وما والاهما من أرض الجزيرة، وولى زفر ابن الحارث قرقيسيا، وحاتم بن النعمان الباهلي حَران والرهَا وسميساط، وعمير بن الحباب السلمي كفر توثا وطور عبدين، وأقام بالموصل، وأنفذ رءوس عبيد اللّه وقواده إلى المختار.

مسير مصعب إِلى المختار وقتله إياه

كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين - أو آخر سنة ست - عزل الحارث بن أبي ربيعة - وهو القباع - وولى مكانه أخاه مصعباً، فقدم البصرة، وصعد المنبر، وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة، ثم خطب وقرأ الآَيات من أول القصص ونزل، ولحق به أشراف الكوفة، حين هربوا من المختار، ودخل عليه شبيب بن ربعي، وهو ينادي: واغوثاه، ثم قدم محمد بن الأشعث بعده، واستحثوه على المسير، وبعث عن المهلب بن أبي صفرة، وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار، فأبطأ، واعتل، فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريداً غيرك؟! فقال: ما أنا ببريد، ولكن غلبنا عبيدنا على آبائنا وحرمنا، فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال، وعسكر مصعب عند الجسر.

وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سِراً ليثبط الناس عن المختار، ويدعو الناس إلى ابن الزبير، وسار على التعبئة، وبعث في مقدمته عباد بن الحصين الحبطي التميمي، وعلى ميمنته عمر بن عبيد اللّه بن معمر، وسار ميسرته المهلب، وبلغ الخبر المختار، فقام في أصحابه وندبهم إلى الخروج مع ابن شميط، وعسكر بحمام أعين، وبعث برءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط، فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري، وانتهى إلى المدار فعسكر قريباً من مصعب، ثم حمل عباد صاحب مقدمة مصعب على ابن شميط وأصحابه، فثبتوا وحمل المهلب على الميسرة على ابن كامل فثبت، ثم كَر المهلب وحمل حملة منكرة وصبر ابن كامل قليلا وانهزموا، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فانهزم وقتل واستحرَّ القتل في الرجال، وبعث مصعب عباداً فقتل كل أسير أخذه، وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة؛ فلم يحركوا منهزمَاً إلا قتلوه.

ولما فرغ مصعب منهم، أقبل فقطع الفرات، وسار إلى الكوفة، ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه، وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجمع الأنهار - نهر الجزيرة والسلحين والقادسية ونهر يوسف - فكسر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار، وبقيت السفن سفن أهل البصرة في الطين، فخرجوا إلى الكسر وأزالوه وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء بعد أن حصن القصر، وأدخل عدة الحصار.

وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني، وعلى الخيل عمرو بن عبد الله النهدي، ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين.

ولما التقى الجمعان، اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بازائه، فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمرو النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة، فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه، وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وقاتل المختار، ثم افترق الناس عنه ودخل القصر، وسار مصعب من الغد فنزل السبخة، وقطع عنهم الميرة، وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية، ففطن مصعب لذلك فمنعه، وأصابهم العطش، فكانوا يصبون العسل في الآَبار ويشربون.

ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتطيب وخرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مالك الأشعري فعذله، فقال: ويحك يا أحمق، وثب ابن الزبير بالحجاز، وابن نجدة باليمامة، ومروان بالشام، فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين: طرفة وطراف ابني عبد اللّه بن دجاجة.

وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب، ونزلوا على حكمه، فقتلهم أجمعين، وأشار عليه المهلب باستبقائهم، فاعترض أشراف الكوفة ورجع إلى رأيهم، ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم ينزعها من هنالك إلا الحَجاج. وقتل زوجته خولة بنت النعمان ابن بشر زعمت أن المختار رجل كان يقول ربي اللّه وكان يصوم نهاره ويقوم ليله، وأنه بذل دمه للّه ولرسوله في طلب قتلة الحسين وأهل بيته، فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها؛ كذا في تاريخ ابن خلدون.

قال المسعودي: آتى مصعب بحريم المختار، فدعاهن إلى البراءة منه فقبلنَ، إلا حرمتان؛ إحداهما؛ فاطمة بنت سمرة بن جندب الفزاري، والأخرى: خولة بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فكتب مصعب بخبرهما إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فكتب إليه: إن رجعتا عما هما عليه وبرئتا، وإلا فاقتلهما، فلما طلب البراءة منهما، قالتا: كيف نبرأ من رجل يقول ربي الله، كان صائم النهار وقائم الليل، قد بذل دمه لله ورسوله في طلب قتلة ابن بنت نبيه وأهله وشيعته، فأمكنه اللّه منهم حتى شفى النفوس، وأبرد الأكباد، فعرضهما مصعب على السيف، فأجابت الفزارية وتبرأت منه ولعنته، وقالت: لو دعوتموني إلى الكفر مع السيف، لكفرت، وأما ابنة النعمان الأنصارية فأبت، وقالت شهادة أرزقها فأتركها؟! كلا إنها موتة ثم الجنة، وأقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، اللهم، اشهد أني متبعة نبيك وابن عمه وأهل بيته، ثم قدمت فقتلت، ففي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف:

إِن مِن أَعجَبِ الأَعَاجِيبِ عِندِي ... قَتل حَسنَاءَ غَادَةٍ عطبُولِ

قَتَلُوهَا ظُلماً عَلَى غَيرِ جُزمٍ ... إن لِلهٍ دَرَّهَا مِن قَتِيلِ

كُتِبَ القَتلُ والقِتَالُ عَلَينَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَر الذيُولِ

ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويعده بالولاية على أعنة الخيل، وما غلب عليه من أرض العرب، وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق، واختلف إليه أصحابه، وجنح إلى مصعب خشية مما أصاب من ابن زياد وأشراف الشام، فكتب إلى مصعب بالإجابة، وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة.

وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإنه بعث على مقدمته أحمد بن شميط، وبعث مصعب عبادَاً الحبطي، ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وتوافوا ليلا، فناجزهم المختار من ليلته، وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم، واشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد ابن الأشعث، فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب، وليس عنده أحد، فانصرف ودخل قصر الكوفة، وفقده أصحابه، فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم، وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب، ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً، وكانوا ستة آلاف رجل.

ولما ملك مصعب الكوفة، بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب، فأساء السيرة، وقصر بالأشراف، ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة: الحق بأبيك، وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعباً، ففعل، وخرج بالأموال فعرض له مالك بن مسمع، وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا، فضمن له عمر بن عبيد اللّه العطاء، فكف عنه، وقيل: إن عبد الله بن الزبير إنما رد مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار، ولما رد إلى البصرة، استعمل عمر بن عبيد اللّه بن معمر على فارس، وولاه حرب الأزارقة، وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية؛ ليكون بينة وبين عبد الملك، فاستقدمه واستخلف على عمله ابنه المغيرة، فلما قدم البصرة، عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس، واستعمل عليها عمر بن عبيد اللّه بن معمرة فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.

خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله

كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين، أقام بدمشق زماناً، ثم سار لقتال زفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي - ابن أخته - وسار معه عمرو بن سعيد، فلما بلغ بطنان، انتقض عمرو، وأسرى ليلا إلى دمشق، وهرب ابن أم الحكم عنها، فدخلها وهدم داره، واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم، وجاء عبد الملك على أثره، فحاصره بدمشق، ووقع بينهما القتال أياماً، ثم اصطلحا وكتبا بينهما كتاباً وأمنه عبد الملك، فخرج إليه عمرو، ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام، ثم بعث إلى عمرو ليأتيه، فقال له عبد الملك بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأته؛ فإني أخشى عليك منه، فقال: والله لو كنت نائماً ما أيقظني، ووعد الرسول بالرواح إليه.

ثم آتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضَى في مائة من مواليه، وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان، وحسان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وأذن لعمرو فدخل، ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغ غاية الدار وما معه إلا غلام، ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر، فقال للغلام: انطلق إلى أخي يحيى، وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه، وأعاد عليه فيجيبه الغلام: لبيك؟ وهو لا يفهم، فقال له: اغرب عني، ثم أذن عبد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمراً، ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثه زمناً، ثم أمر بنزع السيف، فأنكر ذلك عمرو، وقال: إنا للّه يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلدَاً سيفك؟! فأخذ عنه السيف، فقال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفتُ بيمين، إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين، قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية، فقال عمرو: قد أبر اللّه قسمك يا أمير المؤمنين.

فأخرج من تحت فراشه جامعة، وأمر غلاماً فجمعه فيها وسأله أن يخرجه على رءوس الناس، فقال: أمكراً عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير، فكسر ثنيته، ثم سأله الإبقاء، فقال عبد الملك: والله، لو علمتُ أنك تبقى إن أبقيت عليك، وتصلح قريش، لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد، فشتمه عمرو، وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله، فلما قام إليه بالسيف، ذكره الرحم، فأمسك عنه وجلس، ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فأغلظ على عبد العزيز، ثم تناول عمرَاً فذبحه بيده، وقيل: أمر غلامه ابن الزعيزعة فقتله.

وفقد الناس عمراً مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة، فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيدة، وكانوا ألفاً ومعه حميد بن حريث وزهير بن الأبرد، فهتفوا باسمه، ثم كسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وجرحوا الوليد بن عبد الملك، واقتتلوا ساعة، ثم خرج عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بالرأس، فألقاه إلى الناس، وألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا، ثم خرج عبد الملك إلى الناس، وسأل عن الوليد، فأخبر بجراحته، وآتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة، فحبسهما وحبس بني عمرو بن سعيد، ثم أخرجهم جميعاً، وألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم.

وكان بنو عمرو أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد، ولما حضروا عنده قال: أنتم أهل بيت ترون لكُم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم، والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً، وإنما كان قديماً في أنفس أوليائكم على أوليائي في الجاهلية، فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعد علينا أمرَاً كان في الجاهلية، والإسلام قد هدم ذلك، ووعد جنة، وحذر ناراً، وأما عمرو فهو ابن عمك، وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أَخَذتَنَا بِهِ، فبطن الأرض خير لنا من ظهرها، فَرَق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترتُ قتله على قتلي، وأما أنتم فما أَرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم. وأحسن جائزتهم.

وقيل: إن عمراً إنما كان خَلعُهُ وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب، طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه؛ فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق.

وقيل: كان عبد الملك استخلفه على دمشق، فعصى وامتنع بها، وكان قتله سنة تسع وستين.

مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب

ولما صفا الشام لعبد الملك، اعتزم على العراق، وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه، فأبى وسار نحو العراق، وبلغ مصعبَاً مسيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره، وقد كان عزل عمر ابن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولى المهلب مكانه، وذلك حين استخلف هو على البصرة وجاء خالد بن عبيد اللّه بن خالد بن أسد إلى البصرة مختفياً داعية لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمده عبد الملك بعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان، وحاربهم عمر بن عبيد اللّه بن معمر، ثم صالحهم على أن يخرجوا خالداً فأخرجوه، وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وسَب أصحابه، وضربهم وهدم دورهم، وخلعهم، وهدم دار مالك بن مسمع، واستباحها، وعزل ابن معمر عن فارس، وولى المهلب وخرج إلى الكوفة، فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك.

قلت: هكذا ذكره في العبر، ورأيت في المروج ما نصه: كان مصعب حين صفا له العراق بعد قتل المختار وأصحابه، خرج حتى انتهى إلى الموضع المعروف بباجميرا مما يلي الجزيرة، يريد الشام لحرب عبد الملك بن مروان، فبلغه مسير خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد من مكة إلى البصرة في عدة من مواليه وولده ناكثاً لبيعة أخيه عبد الله بن الزبير وداعية لعبد الملك، فحاربه مصعب فكسره، فخرج هارباً ببنيه حتى لحق بعبد الملك.

وهو كما ترى مخالفٌ لقول صاحب كتاب العبر.

وجاء مصعب وطمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وسبَّ أصحابه... إلى آخره.

قال الذهبي: يروى في بعض الآثار أن مصعباً لما سار عن الكوفة عشرة أيام يريد قتال عبد الملك بن مروان، كتب إلى زوجته سكينة ابنة الحسين بن علي، رضي اللّه عنه: من الطويل:

وَكَانَ عزيزاً أن أَبِيتَ وبَينَنَا ... سِفَار فَقَدْ أصبحتُ منكِ على عَشْرِ

وأَنكَاهُمَا للعَين واللهِ فاعلَمِي ... إذ ازددتُ مِثلَيهَا فصرتُ على شَهْرِ

وأَبكي لعيني منهما اليَومَ أنني ... أَخَافُ بألا نَلتَقِي آخِرَ الدَهْرِ

فلما جاءها الخبر بموته، قالت: من الطويل:

فَإِن تقتلوه تقتُلُوا الماجِدَ الذي ... يرى الموتَ إلا بالسيُوفِ حَرَامَا

وقبلك ما خَاضَ الحُسَين مَنِيَّة ... إلى السيفِ حتى أوردُوهُ حِمَامَا

وكان معه الأحنف، فتوفي بالكوفة، ولما بعث عن المهلب يسير معه إلى أهل البصرة أن يكون المهلب على قتال الخوارج، فرده، فقال له المهلب: إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم؛ فلا نتعدى، ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدمته، وسار حتى عسكر في مسكن، وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان، وخالد بن عبد اللّه ابن خالد بن أسيد، فنزلوا قرقيسيا، وحصروا زفر بن الحارث الكلابي، ثم صالحه، وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار عنه، فنزل بمسكن قريباً من عسكر مصعب، وفر الهذيل من زفر، ولحق بمصعب، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم يشرط أصبهان، وآتى ابن الأشتر بكتابه مختومَاً إلى مصعب، فقرأه، فإذا هو يدعو إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فأخبره مصعب بما فيه، وقال: مثل هذا لا يرغب عنه، فقال إبراهيم: ما كنت لأتقفد الغدر والخيانة، ولقد كتب عبد الملك إلى أصحابك كلهم مثل هذا فأطعني، واقتلهم أو احبسهم في أبيض كسري، فأبى عليه مصعب، وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب، وعذلهم قيس بن الهيثم ولامهم في طاعة أهل الشام، فأعرضوا عنه.

ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: تعال نجعل الأمر شورى، فقال مصعب: ليس بيننا إلا السيف، فقدم عبد الملك أخاه محمدَاً، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، وأملى بالجيش، فأزال محمدَاً عن موقفه فأمده عبد الملك بعبد اللّه بن يزيد، فاشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم، ونكره، وقال: قد أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله، وكان قد بايع لعبد الملك، فجر الهزيمة على إبراهيم، فقتل وحمل رأسه إلى عبد الملك، وتقدم أهل الشام، فقاتل مصعب ودعا رءوس العراق إلى القتال، فاعتذروا وتثاقلوا، فدنا محمد ابن مروان من مصعب وناداه بالأمان، وأشعره بغدر أهل العراق، فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب، فأذن له أبوه في لقائه، وبذل له الأمان وأخبر أباه، فقال: أظنهم يَفُونَ لك بذلك، فإن أحببت فافعل، قال: لا تتحدث نساء قريش أني رغبت بنفسي عنك، قال: فاذهب إلى عمك بمكة، فأخبره بصنع أهل العراق، ودعني، فإني مقتول، فقال: لا أخبر قرشياً عنك أبداً، ولكن الحق أنت بالبصرة، فإنهم على الطاعة، أو بأمير المؤمنين بمكة، فقال: لا تتحدت قريش عني أنني فررتُ، ثم قال لعيسى: تقدم يا بني أحتسبك، فتقدم في ناس وقتل وقتلوا، ولج عليه عبد الملك في قبول أمانِهِ، فأبى، ودخل سرادقه فتحنَّط ورمى السرداق فخرج، فقاتل، ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان إلى البراز، فشتمه وحمل عليه، فضربه فجرحه.

وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس، فأثخنته الجراحة، فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله، وجاء برأسه إلى عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فلم يأخذها وقال: إنما قتلته بثأر أخي، وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطة مصعب، وقيل: إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار، وأخذ عبيد اللّه رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى، فدفنا بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وكان ذلك سنة إحدى وسبعين.

قال الذهبي: لما بذل لمصعب الأمان - وقد بقي في سبعة نفر - أبى وبارز فعرقبت فرسه، وبقي راجلا فأقبل عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان، وكان قد أثخن جراحاً. فاختلفا ضربتين سبقه مصعب بالضربة الأولى إلى رأسه فلم تؤثر ضربته إلا جرحاً، وضربه ابن ظبيان فقتله وأخذ رأسه إلى عبد الملك، فسجد، وقبض عبيد الله بن ظبيان على قائم سيفه، واجتذبه حتى آتى على أكثره، سله ليضرب به عبد الملك حال سجوده، ثم تذمم واسترجع، فكان يقول بعد ذلك: ذهب الفتك بين الناس إذ هممت فلم أفعل؛ فأكون قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكَي العرب في ساعة واحدة.

وكان قتله يوم الثلاثاء، لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية، ودفن هو وابنه بدير الجاثليق كما تقدم آنفاً.

وتمثل عبد الملك عند مجيء رأس مصعب بقوله: من الطويل:

نُعَاطِي الملوكَ الحق ما قَسَطُوا لنا ... ولَيسَ علينا قَتْلُهُم بِمُحَرَمِ

ولما رجع عبد الملك إلى الكوفة، ودخل قصر الإمارة، وضع الرأس بين يديه.

حدث المنقري، قال: حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مسلم بن الحنفي؛ كنت مع عبد الملك بن مروان حين جيء إليه برأس مصعب بن الزبير، فرأى عبد الملك في اضطرابَاً، فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلت هذا القصر، يعني: قصر الإمارة بالكوفة، فرأيت رأس الحسين بين يَديْ عبيد اللّه بن زياد في هذا الموضع، ثم دخلته فرأيتُ رأسَ ابن زياد بين يَدَي المختار بن أبي عُبَيْدِ الثقفي، ثم دَخَلْتُهُ فرأيت رأسَ المختار بين يدي مصعب بن الزبير، وهذا مصعبْ بين يديك، فوثب عبد الملك متطيراً، وقال: لا أراك الله الخامس، وأمر بهدم القصر حجراً حجرَاً.

ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار إلى الكوفة، فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس، فوعد المحسن وتوعد المسيء، وطلب يحيى ابن سعيد بن جعفر وكانوا أخواله فأحضروه وأمنه، ثم ولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة، ومحمد بن نمير على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري، ولم يف لهم بأصفهان؛ كما اشترطوا عليه.

وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري ويحيى بن مصدق الهمداني قد لجأ إلى علي بن عبيد اللّه بن عباس، ولجأ هذيل بن زفر بن الحارث، وعمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فأمنهم عبد الملك، وصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعاماً، فأحضره بالخورنق، وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمرو بن حريث، فأجلسه معه على سريره، وطعم الناس، ثم طاف مع عمرو بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه، ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟ قيل: لا، هو على فارس، قال: فالمهلب؟ وقيل: في قتال الخوارج، قال: فعباد بن الحصين؟ قيل: على البصرة، قال: أنا بخراسان: من الطويل:

خذيني فَأَجرِينِي جَعَارِ وَأَبشِرِي ... بِلَحمِ امرئٍ لم يَشهَدِ اليومَ نَاصِره

ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة، ثم إلى الشام، فنصب بدمشق، وأرادوا التطواف به، فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فغسلته ودفنته، وانتهى قتل مصعب إلى المهلب، وهو يحارب الأزارقة، فبايع الناس لعبد الملك بن مروان.

ولما جيء بخبر مصعب لعبد الله بن الزبير، خطب الناس فقال: الحمد الله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ ألا وإنه لم يذل اللّه من كان الحق معه، وإن كان الناس عليه.

وقد أتانا من العراق خبر أحزننا؛ فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم عبد من عباد الله وعون من أعواني، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقلٌ الثمن، فإن يقتل ثمة فواللّه، ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص، فواللّه، ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا نموت إلا قعصاً بالرماح وتحت ظلال السيوف؛ ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل، فلا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر، لم أبك عليها بكاء الضرع المهين، أَقُولُ قولي هذا، وأستغفر اللّه لي ولكم.

ولما بلغ خبر مصعب البصرة، تنازع في ولايتها حمران بن أبان وعبد الله بن أبي بكر، واستعان حمران بعبد الله بن الأهتم، فغلب عليها، وكانت له منزلة عند بني أمية، فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب، ولي على البصرة خالد بن عبد اللّه بن أسيد، فاستخلف عليه عبد الله بن أبي بكر، فقدم على حمران وعزله حتى جاءه خالد، ثم عزل خالدَاً سنة ثلاث وسبعين، وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً، وجمع له المصرين، وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وولى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستيِن، فغزا الروم، ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار، يدفعها إليه كل يوم.

أمر زفر بن الحارث بقرقيسيا

قد ذكرنا في وقعة راهط مسير زفر إلى قرقيسيا، واجتماع قيس عليه، وأقام بها يدعو لابن الزبير، ولما ولي عبد الملك، كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط، وهو على حمص، بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عبد اللّه بن رميث الطائي، فعاجله عبد الله بالحرب، وقتل من أصحابه نحو ثلاثمائة، ثم أقبل أبان، فواقع زفر وقتل ابنه وكيع بن زفر، وأوهنه، ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب، فحصره ونصب عليه المجانيق، وقالت كلب لعبد الملك: لا تخلط معنا القيسية؛ فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر، ففعل، واشتد حصارهم، وكان زفر يقاتلهم في كل غداة، وأمره ابن الهذيل أن يحمل حتى يضرب فسطاط عبد الملك، ففعل وقطع بعض أطنابه، ثم بعث عبد الملك أخاه محمداً بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومَن معهما، وأن لهم ما أحبوا، فأجاب الهذيل وداخل أباه في ذلك، وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير، فأجاب على أن له الخيار، وأن ينزل حيث شاء، ولا يعين على ابن الزبير.

وبينما الرسل تختلف بينهم، إذ قيل لعبد الملك: قد هدم من المدينة أربعة أبرجة، فترك الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم، ورجع إلى الصلح، واستقر بينهم على الأمان، ووضع الأموال ألا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه، وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك؛ خوفَاً من فعلته بعمرو بن سعيد، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر، وسار عبد الملك إلى قتال مصعب، فبعث زفر بن الهذيل معه في عسكر، فلما قارب مصعباً، هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا قتلوا، اختفى الهذْيل في الكوفة حتى آمنه عبد الملك؛ كما مر.

مقتل عبد الله بن الزبير

كان عبد الملك لما بويع بالشام، بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام، وأمره أن يعسكر بالعرصة، ولا يدخل المدينة، وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وأقام ابن أنيف شهرَاً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويرجع إلى معسكره، ثم رجع ابن أنيف إلى الشام، فرجع الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان ابن خالد الدورقي على خيبر وفدك، وبعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف، فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر وهرب فأدركوه فقتلوه ومن معه، وأقاموا بخيبر وعليهم أبو القمقام، ونكر عبد الملك ذلك واغتم له، وقال: قتلوا رجلا صالحاً بغير ذنب، ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة، وولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة، فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامهم، وقتلوا صبراً.

ثم بعث عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الانتشار، ويسد خللا إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكر بخيبر، واقتتلوا، فأصيب أبو بكر في مائتين من أصحابه، وكتب ابن الزبير إلى القباع، وهو عامله على البصرة يستمده ألفَي فارس إلى المدينة، فبعثهم القباع، وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل، ولقيهم طارق فهزمهم، وقتل مقدمهم وقتل من أصحابه خلقَاً، وأجهز على جريحهم، ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى، ثم عزل ابن الزبير جابراً عن المدينة، واستعمل طلحة بن عبد اللّه بن عوف، وهو طلحة الندي، وذلك سنة سبعين، فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.

ولما قتل عبد الملك مصعبَاً، ودخل الكوفة، بعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه الأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة وتلقاهم هناك خيل ابن الزبير، فينهزمون دائماً، وترجع خيل الحجاج بالظفر، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرُق أصحابه، ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة الندى عامل ابن الزبير، وولى مكانه رجلا من أهل الشام، وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف، ولما قدم الحجاج مكة، أحرَم بحجة ونزل بئر ميمون، وحج بالناس، ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنه بمكة. ولم يمنع الحجاج من الطواف والسعي، ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين، ففعل، ونادى منادي الحجاج عقيب الإفاضة: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى المنجنيق على الكعبة وألحتِ الصواعق عليهم في يومين، وقتلت من أهل الشام رجالا، فذعروا، فقال لهم الحجاج: لا تنكروا؛ فهذه صواعق تهامة، وإن الفتح قد حضر فأبشروا، ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير، فسرى عن أهل الشام، وكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير، وهو يصلي فلا ينصرف، ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار، وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه، وقسم لحمه في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمُد من الذرة بعشرين، وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحَاً وشعيراً وذرة وتمراً، ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق يقوي به نفوس أصحابه، ثم أجهدهم الحصار.

وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان، فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف وافترق الناس عنه، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه، وحرض الحجاج الناس، وقال: قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق، فتقدموا وملئوا ما بين الحجون إلى الأبواب، فدخل ابن الزبير على أمه أسماء، وقال: يا أمه، قد خذلني الناس حتى ولدي، والقوم يعطونني ما أردتُ من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له: أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق، وتدعو إليه، فامض له؛ فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنتَ أهلكْتَ نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي، ضعفتُ، فليس هذا بفعل الأحرار ولا أهل الدين.

فقال: يا أمه، أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني، فقالت: يا بني، الشاة لا تألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعز باللّه، فقبل رأسها، وقال: هذا رأيي الذي خرجتُ به داعياً إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا، وما أخرجني إلا الغضب لله، وأن تستحلَّ حرماته، لكن أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، وإني يا أمه في يومي هذا مقتول، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يخن ولم يغدر، ولم يظلم، ولم يقر على الظلم، ولم يكن عندي آثر من رضا اللّه تعالى، اللهم، لا أقول هذا تزكية لنفسي، لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني. فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتنِي، أحتسبك، وإن ظفرتَ، سررت بظفرك، ثم قالت: اخرج حتى أنظر إلامَ يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرَاً، فلا تدعي الدعاء، فدعت له، فودعها وودعته، ولما عانقته للوداع، وقعت يدها على الدرع، فقالت: ما هذا صنيعُ مَنْ يريد ما تريد، فقال: ما لبسته إلا لأشد منك، فقالت: إنه لا يشد مني، فنزعها، وقالت له: البس ثيابك مشمرة.

ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، وأشار عليه بعضهم بالفرار، فقال: بئس الشيخ أنا في الإسلام إن أوقعت قومَاً قتلوا، ثم فررت على مثل مصارعهم.

وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام، والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هؤلاء وهؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان ابن أمية بن خلف، فيجيبه من جانب المعرك.

ولما رأى الحجاج إحجامَ الناسِ عن ابن الزبير، غضب وترجل وصمد إلى صاحب الراية بين يديه، فتقدم ابن الزبير إليهم عنه وكشفه، ورجع فصلى ركعتين عند المقام، وحملوا على صاحب الراية، فقتلوه عند باب بني شيبة، وأخذوا الراية، ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل.

ويقال: أصابته جراحة، فمات منها بعد أيام.

ويقال: إنه قال لأصحابه يوم قتل: يا آَل الزبير، لو طبتم لي نفساً عن أنفسكم، كنا أهل البيت في العرب اصطلمنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء في الجراح أشد من وقعها، صونوا سيوفكم عما تصونون وجوهكم، وغضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني ومن كان عني سائلا، فإني في الرعيل الأول، ثم حمل حتى بلغ الحَجُون، فأصابته جراحة في وجهه، فأرعش لها ودمى وجهه، ثم قاتل قتالا شديدَاً، وقتل في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد، وكبَّر أهل الشام، وسار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه وبعث الحجاج برأسه، ورأس عبد الله بن صفوان، ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك، وصلب جثته منكسة على ثنية الحجون اليمني، وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك، فخلى بينها وبينه.

ولما قتل عبد اللّه، ركب أخوه عروة، وسبق رسل الحجاج إلى عبد الملك، فرحب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكر عبد اللّه، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟! قال: قتل، فخر ساجداً، ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه، واستوهَبَ جثته لأمه، فقال: نعم، وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه، فبعث بجثته إلى أمه، وصلى عليه عروة ودفنه، وماتت أمه بعده بخمسة أيام.

ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير، دخل إلى مكة، فبايعه أهلها لعبد الملك، أمر بكنس المسجد من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكانت في عمله فأقام بها شهرين، وأرسل إلى الحسن بن الحسن، فقال: هات سيف رسول صلى الله عليه وسلم ودرعه، فقال: لا أفعل، قال: فجاء الحجاج بالسوط والعصا والسيف، وقال: والله لأضربنك بها حتى تبرد أو فأتني بهما، فقال الناس: يا أبا محمد، لا تتعرض لهذا الجبار، فجاء الحسن بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه، فوضعهما بين يديه، فأرسل الحجاج إلى رجل من آل أبي رافع، فقال له: هل تعرف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فخلطه بأسياف، ثم قال له: أخرجه، فأخرجه، ثم جاء بالدرع، فنظر إليها، فقال: هناك علامة، كانت على الفضل ابن عباس يوم اليرموك، فطعن بحربة فخرقت الدرع، فرفعوها فوجدوا الدرع، كما قال، فقال الحجاج للحسن: أما والله لو لم تجئني به، وجئت بغيره، لضربت به رأسك، وأساء إلى أهلها، وقال: أنتم قتلة عثمان. وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص؛ استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة؛ منهم: جابر بن عبد اللّه، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله تعالى.

وقيل: إن ولاية الحجاج وما فعل فيها كانت سنة أربع وسبعين، وإن عبد الملك عزل عنها طارقاً، واستعمله، ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أْقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بناء قريش، ولم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة، فلما صح ذلك عند عبد الملك قال: وددت أني تركته، وما عمل.

ولاية المهلب حرب الأزارقة

ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد اللّه عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بن مروان، وجمع له المصرين، أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة، ويتركه ورأيه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفاً معروفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب؛ فيتتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم، فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان.

وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من عبد الملك، فقصر به، ودعا عبد الرحمن بن مخنف، فأعلمه بمنزلته عنده، وقال: إني أوليك جيش الكوفة لحرب الأزارقة، وكُن عند حسن ظني بك، ثم أخذ يغريه بالمهلَب، وألا يقبل رأيه ولا مشورته، فأظهر له الوفاق، وسار إلى المهلب، فنزلوا رام هرمز ولقي بها الخوارج، فخندق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران، ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم، وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبيد اللّه ابن خالد، وافترق ناس من أهل المصرين إلى بلدهم، ونزلوا الأهواز، وكتب إليهم خالد بن عبيد اللّه يتهددهم ويحذرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه، ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمرو بن حريث في الدخول؛ فلم يأذَن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه.

ولاية الحجاج على العراق

وقيل في سبب ولايته: إنه وفد على عبد الملك ومعه إبراهيم بن طلحة بن عبيد اللّه التيمي، وكان من رجال قريش علماً وعملا وزهداً ودينَاً. وكان الحجاج مسخراً له لا يترك من إجلاله شيئاً، فلما قدما على عبد الملك، أذن للحجاج بالدخول، فلما دخل، سلم ولم يبدأ بشيء إلا أن قال: يا أمير المؤمنين، قدمت عليك برجل من أهل الحجاز ليس له نظير في كمال المروءة والديانة وحسن المذهب والطاعة، مع القرابة ووجوب الحق، فقال عبد الملك: ومن هو؟ قال: إبراهيم ابن طلحة التيمي، فليفعل أمير المؤمنين به ما يفعل بأمثاله. فقال عبد الملك: أذكرتنا حقاً واجبَاً ورحمَاً قريبة، ثم أذن له، فلما دخل، قربه وأدناه، وقال له: إن أبا محمد ذكرنا ما لم نَزَل نعرفك به من الفضل وحسن المذهب، فلا تدعن حاجة إلا ذكرتها، فقال إبراهيم: إن أولى الأمور أن تفتتح به الحوائج ما كان فيه لله رضا، ولحق رسوله أداء، ولجماعة المسلمين نصيحة، قال: وما هو؟ قال: لا يمكن القول إلا وأنا خالٍ فأخلني، قال: أو دون أبي محمد؟ قال: نعم، فأشار عبد الملك إلى الحجاج، فخرج، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إنك عهدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل، فوليته الحرمين، وبهما من أولاد المهاجرين والأنصار من قد علمت يسومهم الخسف ويقودهم بالعنف، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا في إزالة باطل، ثم تظن أن ذلك ينجيك من عذاب الله، فكيف بك إذا جاثاك محمد صلى الله عليه وسلم للخصومة بين يدَيِ اللّه تعالى؟ أما والله إنك لن تنجو هنالك إلا بحجة تضمنُ لك النجاة، فاتق لنفسك أو دع.

وكان عبد الملك متكئَاً فاستوى، وقال: كذبتَ ومِنتَ فيما جئتَ به، ولقد ظَن بك الحجاجُ ظناً لم يجده فيك، فأنت المائن الحاسد، قال: فقام إبراهيم، وهو لا يبصر شيئاً، فلما جاوز الستر، لحقه لاحق، وقال للحاجب: امنع هذا من الخروج، وائذن للحجاج، فدخل فلبث ملياً، قال إبراهيم: ولا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الإذن لي فدخلت، فلما كشف الستر إذا أنا بالحجاج خارج، فاعتنقني وقبل بين عيني، وقال: إذا جزى اللّه المتواخيين لفضل تواصلهما، فجزاك اللّه عني أفضل الجزاء، والله لئن بقيت، لأرفعن ناظريك، ولأتبعن الرجال غبار قدميك.

قال: قال إبراهيم: فقلت في نفسي، إنه ليسخر مني، فلما وصلت إلى عبد الملك، أدنى مجلسي كما فعل أولاَ، ثم قال: يا بن طلحة هل أعلمت الحجاج بما جرى، أو شاركَكَ أحد في نصيحتك؟! قلت: لا والله لا أعلم أحداً أظهر يَداً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحدَاً بديني لكان هو، ولكني آثرت الله ورسوله والمسلمين، فقال عبد الملك: قد علمت صدق مقالتك، ولو آثرتَ الدنيا لكان لك في الحجاج أَمَلٌ، وقد عزلتُهُ عن الحرمين لما كرهتَ من ولايته عليهما، وأخبرته أنك أنت الذي استنزلتني له عنهما؟ استصغاراً للولاية، ووليته العراق لما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وإنما قلت ذلك؛ ليؤدي ما يلزمه من ذمامك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع يدك عنده، قال إبراهيم: فخرجت مع الحجاج، فأكرمني أضعاف إكرامه الأول، واستدل الناس بذلك على مكارم عبد الملك وأخلاقه واعترافه بالحق وتيقظه في الأمور ودهائه.

ثم ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمس وسبعين، وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق، فسار على النجب في اثني عشر راكباً، حتى قدم الكوفة في شهر رمضان، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فدخل المسجد وصعد المنبر، وقال: علي بالناس، وظنوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابئ البرجمي الحصباء، وأراد أن يحصبه، فلما تكلم، جعلت الحصباء تسقط من يده، وهو لا يشعر بها ثم حضر الناس، وخطب خطبة عظيمة أحسنُ من أوردها المبرد في الكامل، تهدد فيها أهل الكوفة، وتوعدهم على التخلف عن المهلب، ثم نزل.

قلت: هذا ما أورده المبرد في كامله، فقال: وفي سنة خمس وسبعين، حج بالناس عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسير على إمرة العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، فسار من المدينة إلى الكوفة في اثني عشر راكباً بعد أن وهب البشير بها ثلاثة آلاف دينار، قال الوليد بن مسلم: حدثني عبيد الله بن يزيد بن أبي مسلم الثقفي، عن أبيه، قال: كان الحجاج عاملا لعبد الملك على مكة، فكتب إليه بولاية العراق، قال: فخرجت معه في نفر قليلين على النجائب، فلما كنا بماء قريب من الكوفة، نزل فاختضب وتهيأَ، وذلك يوم جمعة، ثم راح معتماً قد ألقى عذبة العمامة بين كتفيه متقلدَاً سيفه متنكباً قوسه، حتى نزل عند دار الإمارة عند مسجد الكوفة، وقد أذن المؤذن بالأذان الأول، فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فجمَع بهم.

ثم صعد المنبر، فجلس عليه، فسكت، وقد اشرأبوا إليه وجثوا على الركب، وتناولوا الحصباء ليحصبوه بها، وقد كانوا حصبوا عاملا قبله، فخرج عليهم فسكت سكتة أبهتتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان بدء كلامه أن قال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، يا أهل النفاق، والله، إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي، فأجاب دعوتي، ألا إني قد أسريت البارحة، فسقط مني سوطي، فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه - فو الله، لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها ولأفعلن وأفعلن.

قال يزيد: فرأيتُ الحصباء تتساقَطُ من أيديهم، وقال: قوموا إلى بيعتكم، فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع، فيقول: من؟ فتقول: بنو فلان، حتى جاءت قبيلة فقال: من؟ قالوا: النخع، قال: منكم كَميل بن زياد؟ قالوا: نعم، قال: فما فعل؟ قالوا: أيها الأمير شيخ كبير، قال: لا بيعة لكم عندي، ولا تقربون حتى تأتوني به، قال: فأتوه به منعوشاً في سريره حتى وضعوه إلى جانب المنبر فقال الحجاج: لم يبق ممن دخل على عثمان الدار غير هذا، فدعا بنطع وضربت عنقه.

وقال أبو بكر الهذلي: حدثني من شهد الحجاج حين قدم العراق، فبدأ بالكوفة فنودي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس إلى المسجد والحجاج متقلد قوساً عربية، وعليه عمامة خز حمراء متلثمَاً فقعد، وعرض القوس بين يديه، ثم لم يتكلم حتى امتلأ المسجد، قال محمد بن عمير: فسكت حتى ظننت أنه إنما يمنعه العِي، وأخذت في يدي كَفاً من حصباء أردت أن أضرب بها وجهه، فقام فوضع النقاب وتقلد قوسه وقال: من الوافر:

آَنا ابْنُ جَلاَ وَطَلاع الثنايا ... مَتَى أَضَعِ العمامَةَ تَعْرِفُوني

إني لأرى رءوساً قد أينعَتْ، وحان قطافها، كأني أنظر إلى الدما، بين العمائم واللحى،: من الرجز:

ليس بعشك فادرجي

قَد شَمرَت عن ساقها فَشَمرِي

هذا أَوَانُ الحَرْبِ فاشتدي زِيَمْ ... قد لَفهَا الليلُ بسَواق حُطَمْ

ليس برَاعِي إِبِل ولا غَنَمْ ... ولا بجَزارٍ على ظَهْر وَضَمْ

قَد لَفهَا الليلُ بعَصلَبي ... مهاجِر لَيْسَ بأعرابي

إني والله ما أغمز غمز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فُررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وحذيت من الغابة، وإنكم يا أهل العراق طالما أوضعتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، أما واللّه لألحينكم لحى العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، يا عبيد العصا، أنا الغلام الثقفي، لا أعد إلا وفيت، ولا أحلف إلا فريت، إنما مثلكم كما قال الله تعالى: " وَضَرَبَ اللَهُ مَثَلا قَرية كَانتَ آمِنَةَ مطمئنة يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِن كل مكان فكفَرَت بأَنعُمِ اللَهِ فَأَذاقَهَا اَللَهُ لِباسَ اَلجُوعَ وَاَلخَوفِ بِمَا كَانوا يَصنَعُونَ " " النحل: 112 " شاهت الوجوه؛ فإنكم أشباه ذلك، فاستوثقوا واستقيموا. أقسم باللّه، لتدعن الإرجاف، ولتقبلن على الإنصاف، ولتنزعنَّ عن القيل والقال، وكان وكان، والهبر وما الهبر؟، أو لأهبرنكم بالسيف يدع النساء أيامَى والولدانَ يتامَى، ألا إن أمير المؤمنين نثل كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسرَاً؛ فوجهني إليكم، فاستقيموا ولا يميلن منكم مائل. واعلموا أني إذا قلت قولا وفيت به، من كان منكم من بعث المهلب، فليلحق به، فإني لا أجد أحداً بعد ثالثة إلا ضربت عنقه. وإياي وهذه الزرافات، فإني لا أجد أحداً يسير في زرافة إلا سفكت دمه واستحللت ماله. ثم نزل.

هذا ما رواه المبرد، وزاد الذهبي بإسناد عن الثوري: قم يا غلامُ، فاقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عبد اللّه عبد الملك أمير المؤمنين إلى من في الكوفة، سلام عليكم، فسكتوا، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل عليهم، فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين، فلا تردون عليه شيئاً؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن، اقرأ يا غلام، فقرأ قوله: السلام عليكم، فلم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين أفضل السلام.

قلت: العصلبيُ: الشديد من الرجال، والسواق الحطم: العنيف في سوقه، الوضم: كل ما وقى به اللحم من الأرض، عجمت العود: إذا عضضته بنابك لتعرف أصلب هو أم رخو، الزرافات: الجماعات.

وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب، فقام إليه عمير بن ضابئ وقال: أنا شيخ كبير عليل، وابني هذا أشد مني، فقال: هذا خير لنا منك، ثم قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ، قال: الذي دخل على عثمان في داره، وداس على ظهره، فكسر ضلعين من أضلاعه؟ قيل: نعم، فقال: يا عدو اللّه، أفلا بعثت إلى عثمان بدلا؟ قال: إنه حبس أبي، وكان شيخاً كبيراً، فقال: إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل، وانتهب ماله.

وقيل: إن عتبة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجاج حين دخل عليه، ثم أمر الحجاج مناديه فنادى: ألا إن ضابئاً تخلف بعد ثالثة من النداء فأمر بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة عن جند المهلب، فتسارع الناس إلى المهلب وهو برامهرمز، وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر، وقد كان من أخذ الحصباء بيده يريد أن يحصب بها الحجاج تساقط من يده خوفاً ورعباً، فثبتت مهابته في قلوبهم، وتحكم حينئذ في رقابهم.

وكان القاسم بن سلام يقول: قاتل الله أهل العراق، أين قبائلهم وعشائرهم وأهل الأنفة، وأين تجبرهم؟! قتلوا علياً، وطعنوا الحسن، وقاتلوا المختار، وعجزوا عن قتل هذا الملعون الدميم الصورة، وقد جاءهم في اثني عشر راكباً وهم في مائة ألف، ولكن ظهر به تصديق قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في قوله: اللهم سلط عليهم الغلام الثقفي.

ثم بعث الحجاج إلى البصرة الحكم بن أيوب الثقفي، وأمره أن يشتد على خالد ابن عبد الله، وبلغه الخبر، فقسم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها.

ويقال: إن الحجاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل، قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي، تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولى مصعب، أضاف إليه حلق الرءوس واللحي، فلما ولي بشر، أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط، فيخرق المسمار يده، وربما مات، فلما جاء الحجاج، ترك ذلك كله، وجعل عقوبة من يخل بمكانه من الثغر أو البعث: القتل.

ثم ولى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية بن الحارث العلافي، وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر، وغزا وفتح فتوحات، ومات بمكران لسنة من ولايته.

وثوب أهل البصرة على الحجاج

ثم خرج الحجاج من الكوفة، واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة، وسار إلى البصرة وقدمها، وخطب كما خطب بالكوفة، وتوعد على القعود عن المهلب كما توعَد، فأتاه شريك بن عمر اليشكري وكان به فتق، فاعتذر به، وبأن بشر بن مروان قَبِلَ عذره بذلك، وأحضر عطاءه ليرد إلى بيت المال، فضرب الحجاج عنقه، وتتابع الناس متوجهين إلى المهلب، ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخَاً فقام ليشد ظهره، وقال: يا أهل المصرين، هذا والله مكانكم حتى يهلك اللّه الخوارج، ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية، وكانت مائة مائة، وقال: لسنا نجيزها، فقال عبد الله بن الجارود: إنما هي زيادة عبد الملك، وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجاج، فقال له: إني لك ناصح، وإنه قول من ورائي، فمكث الحجاج أشهراً لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول فقال له مصقلة بن كرب العبدي: سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا؛ فليس لنا أن نرد عليه، فانتهره ابن الجارود وشتمه، وآتى الوجوه إلى عبد اللّه بن الجارود، فصوبوا رأيه، وقال له الهذيل بن عمران البرجمي، وعبد الله ابن حكيم بن زياد المجاشعي، وغيرهما: إن هذا الرجل مجمع على نقض هذه الزيادة، فتعال نبايعك على إخراجه من العراق، ونكتب إلى عبد الملك أن يولي علينا غيره، وإلا خلعناه، وهو يخافنا ما دامت الخوارج، فبايعوه سرَّاً وتعاهدوا.

وبلغ الحجاج أمرهم، فاحتاط وحذر، ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين، وركب عبد اللّه بن الجارود في عبد القيس على راياتهم، ولم يبق مع الحجاج إلا خاصته وأهل بيته، وبعث الحجاج يستدعيه، فأفحش في القول لرسوله، وصرح بخلع الحجاج، فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك، وأبلغه تهديد الحجاج إياه، فأمر به فضرب وأخرج، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك.

ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه، فنهب ما فيه من المتاع والظهر وأخذوا زوجاته وانصرفوا عنه، وكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه.

وقال الغضبان بن القبعثري الشيباني لابن الجارود: لا ترجع عنه، وحرضه على معاجلته، فقال: إلى الغداة.

وكان مع الحجاج عثمان بن قطن، وزياد بن عمرو العتكى صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما، فأشار زياد بأن يستأمن القوم وبلحق بأمير المؤمنين، وأشار عثمان بالثبات، ولو كان دونه الموت، ولا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك، وفعلت ما فعلت بابن الزبير، فقبل الحجاج رأى عثمان، وحقد على زياد في إشارته، وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذت لك الأمان من الناس، فجعل الحجاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس، ويقول: واللّه لا أؤمنهم حتى يأتوني بالهذيل بن عمران، وعبد اللّه بن حكيم، ثم أرسل إلى عبيد بن كعب النميري أن ائتني فامنعني، فقال: إن أتيتني منعتك، فأبى.

وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد، وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك، فأجابوه بمثله، ثم إن عباد بن الحصين الحبطي مَر بابن الجارود والهذيل وعبد اللّه بن حكيم يتناجون، فطلب الدخول معهم فأَبوا، فغضب وسار إلى الحجاج، وجاءه قتبية بن مسلم في بني أعصر للحمة القيسية، ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي، وسعيد بن أسلم الكلابي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فثابت إليه نفسه، وعلم أنه قد امتنع، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت وثبطت عنك، فأجابه أن أقم. فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف، وقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأي؟ قال: تركته أمس، ولم يبق إلا الصبر.

ثم تزاحفوا، وعبأ ابن الجارود وأصحابه على ميمنته الهذيل، وعلى ميسرته ابن ظبيان، وتعبأَ الحجاج على ميمنته قتيبة بن مسلم أو عباد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، وحمل ابن الجارود حتى جاز أصحاب الحجاج، وعطف الحجاج عليه، فعاد ابن الجارود بظهر، ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتاً، ونادى منادي الحجاج بأمانِ الناس إلا الهذيل وابن حكيم، وأمر ألا يتبع المنهزمون، ولحق ابن ظبيان بعمان، فمات هنالك.

وبعث الحجاج برأس الجارود ورءوس ثمانية عشر من أصحابه إلى المهلب، ونصبت ليراها الخوارج فيتأسوا من الخلاف. وحبس الحجاج عبيد بن كعب، ومحمد بن عميرة لامتناعهما من الإتيان إليه، وحبس ابن القبعثري؛ لتحريضه عليه، فأطلقه عبد الملك.

وكان فيمن قتل مع ابن الجارود: عبد اللّه بن أنس بن مالك، فقال الحجاج: لا أرى إنساناً يعين علي، ودخل البصرة فأخذ ماله، وجاءه أنس، فأساء عليه، وأفحش في شتمه، فكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس، وأن يجيء إلى منزله ويتنصل؛ وإلا نبعث من يضرب ظهره ويهتك ستره، قالوا: وجعل الحجاج في قراءته يتغير وجهه ويتمعَّر وجبينه يرشح عرقاً، ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه.

وفي غضون هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك في أيام مصعب، ولم يكونوا بالكثير، وأفسدوا الثمار والزروع، ثم جمع لهم خالد ابن عبد اللّه، وافترقوا قبل أن ينال منهم، وقتل بعضهم، وصلبهم.

فلما كانت هذه الوقعة، قدموا عليهم رجلاَ منهم اسمه رباح، ويلقب شير زنجي، أي: أسد الزنج، وأفسدوا، فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود، أمر زياد بن عمرو صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم، فبعث إليهم ابنه حفصَاً في جيش، فقتلوه وانهزم أصحابه، فبعث جيشَاً فهزم الزنج وأبادهم.

مقتل ابن مخنف، وحرب الخوارج

كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفَينِ للخوارج برامهرمز، فلما أمدهم الحجاج بالعساكر من الكوفة والبصرة، تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون، واتبعهم العسكر حتى نزلوا بهم، وخندق المهلب على نفسه، وقال ابن مخنف وأصحابه: خندقنا سيوفنا، فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرة في ابن مخنف فقاتل وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة.

وأما أهل الكوفة، فذكروا أنهم لما نهضوا إلى الخوارج، اشتد القتال بينهم، ومال الخوارج على المهلب واضطروه إلى معسكره، وأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال، ولما رأى الخوارج مدده، تركوا من شغل المهلب، وقصدوا عبد الرحمن، فقاتلوه، وانكشف عنه الناس وصبر في سبعين من قومه، فقاتلوا إلى آخر الليل، وقتلوا عن آخرهم.

وبعث الحجاج على عسكر ابن مخنف من أهل الكوفة عتاب بن ورقاء، وأمره أن يسمع للمهلب، فثقل ذلك عليه؛ فلم تحسن بينهما العشرة، وكان يترادان في الكلام، وربما أغلظ له المهلب، وأرسل عتاب إلى الحجاج يسأله العود، وكان خرق الخوارج وشبيب قد اتسع عليه، فصادف منه ذلك موقعَاً، واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلب، فولى عليهم المهلب ابنه حبيباً، وأقام يقاتلهم بنيسابور نحواً من سنة، وتحركت الخوارج على الحجاج من سنة ست وسبعين إلى سنة ثمان، وشغل بحربهم، وأول من خرج منهم صالح بن مسرح منه بني تميم، بعث إليه العساكر فقتل، فولوا عليهم شبيباً، واتبعه كثير من بني شيبان، وبعث إليهم الحجاجُ العساكر مع الحارث بن عميرة، ثم مع سفيان الخثعمي، ثم الحرز بن سعيد، فهزموهم، وأقبل شبيب إلى الكوفة، فجاربه الحجاج وامتنع عليه، ثم سرح عليه العساكر، وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فهزموهم، ثم بعث عتاب بن ورقاء، وقتل منهم جماعة؛ كما نذكر ذلك كله في أخبارهم.

وفي سنة ست وسبعين خرج صالح بن مسرح التميمي، وكان صالحاً ناسكاً مخبتاً، وكان بدارا والموصل لمله أصحاب يقرئهم ويفقههم، ويقص عليهم، ولكنه يحط على الخليفتين عثمان وعلي كدأب الخوارج، ويتبرأ منهما، ويقول: تيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، ولا تجزعوا من القتل في الله؛ فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، فلم يلبث أن أتاه كتاب شبيب بن يزيد من الكوفة فيه: أما بعد، فإنك شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحداً، وقد دعوتني، فاستجبت لك، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، فيا له غبناً، ويا له فضلا متروكاً، جعلنا اللّه وإياك ممن يريد بعمله اللّه ورضوانه.

فرد عليه صالح الجواب، يحضه على المجيء، فجمع شبيب قومه، وقدم على صالح وهو بدارا، فتصمدوا مائة وعشرة أنفس. ثم وثبوا على خيل لمحمد بن مروان، فأخذوها، وقويت شوكتهم وأخافوا المسلمين، فندب محمد إلى قتالهم عدي بن عدي بن عميرة الكندي، فقاتلهم فهزم عدي، فندب لقتالهم خالد بن جزء السلمي، والحارث العامري، واقتتلوا أشد القتال، وانجاب صالح إلى العراق، فوجه الحجاج عسكراً عليهم سورة بن الحر، فاقتتلوا، ثم مات صالح مثخنَاً به الجراح في جمادى الآخرى من السنة المذكورة، وعهد إلى شبيب بن يزيد، فالتقى شبيب هو وسورة فانهزم سورة بعد قتال شديد، ثم سار شبيب، فلقي سعيد بن عمرو الكندي فاقتتلوا، ثم انصرف شبيب، فهجم الكوفة، وقتل بها أبا سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان والد الليث بن سليم وغيره من المشاهير، ثم خرج عنها، فوجه الحجاج لحربه زائدة بن قدامة الثقفي ابن عم المختار في جيش كثير، فالتقوا أسفل الفرات، فهزمهم شبيب، وقتل زائدة، فوجه الحجاج لحربه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فلم يقاتلهم، وكان مع شبيب امرأته غزالة، وكانت معروفة بالشجاعة، ودخلت مسجد الكوفة تلك المرأة وقرأت وِردَهَا في المسجد، وكانت نفرت أن تصعد المنبر فصعدته.

ثم حار الحجاج في أمره مع شبيب، فوجه لقتاله عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في آخر العام المذكور، فقتل عثمان وانهزم جمعه بعد أن قتل منهم ستمائة نفر، واستفحل أمر شبيب بن يزيد، فنزل المدائن، فندب الحجاج لقتاله أهل الكوفة كلهم، وعليهم زهرة بن حوية السعدي شيخ كبير قد باشر الحروب، وبعث إلى زهرة عِبد الملك من الشام سفيان بن الأبرد وحبيباً الحكمي مدداً بستة آلاف، اجتمع جميع الجيش خمسين ألفاً، وعرض شبيب بن يزيد جنوده بالمدائن، فكانوا ألف رجل، فقال: يا قوم، إن اللّه كان ينصركم، وأنتم مائة أو مائتان، فأنتم اليوم مئون، ثم ركب فأخذوا يتخلفون عنه ويتأخرون، فلما التقى الجمعان، لم يثبت معه إلا ستمائة، فحمل شبيب في مائتين على ميسرة الناس، فانهزموا واشتد القتال، وعتاب بن ورقاء جالس هو وزهرة بن حوية على طنفسة في القلب، فقال عتاب: هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء - يعني: النفع - والهفي على خمسمائة من رجال تميم.

وتفرق عن عتاب عامة الجيش وحمل عليه شبيب فقاتل عتاب ساعة وقتل، ووطئت الخيل زهرة بن حوية فهلك، فتوجع له شبيب لما رآه صريعَاً، فقال له رجل من قومه: والله، يا أمير المؤمنين، إنك لتتوجع لرجل من الكافرين، قال: إنك لست أعرف بصلاتهم مني، إني أعرف من قديم أمرهم مالا تَعرفُ، لو ثبتوا عليه كانوا إخواننا. ثم قال شبيب لأصحابه: ارفعوا عنهم السيف، ودعا الناس إلى طاعته وبيعته فبايعوه ثم هربوا ليلا، وهذا كله قبل أن يقدم جيش الشام الذي بعثه عبد الملك، فتوجه شبيب نحو الكوفة، وقد دخلها عسكر الشام، فشدوا ظهر الحجاج، وانتعش بهم، واستغنى عن عسكر الكوفة، وقال: يا أهل الكوفة، لا أعز اللّه من أراد بكم العز، الحقوا بالحيرة مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا، وحنق عليهم. وهذْا مما يزيدهم فيه بغضاً.

ثم إنه وجه الحارث بن معاوية الثقفي في ألف فارس في الكشف، فالتمس شبيب غفلتهم، فالتقوا، فحمل شبيب على الحارث فقتله، وانهزم من معه، ثم جاء شبيب فنازل الكوفة، وحفظ الناس السكك، وبنى شبيب مسجداً بطرف السبخة، فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في عدة غلمان فقاتل حتى قتل، ثم خرج طهمان مولى الحجاج - أيضاً - في طائفة، فقتله شبيب.

ثم إن الحجاج خرج من قصر الكوفة، فركب بغلا وخرج في جيش الشام، فلما التقى الجمعان، نزل الحجاج وقعد على كرسي، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة، والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، وأشرعوا إليهم الأسنة. وكان شبيب في الستمائة، فجعل مائتين معه كردوساً، ومائتين مع سويد بن سليم، ومائتين مع المحلل بن وائل، فحمل سويد عليهم حتى إذا غشي أطراف الأسنة، وثبوا في وجوههم يطعنونهم قدماً قدماً، فانصرفوا، فأمر الحجاج بتقديم كرسيه وصاح بأصحابه، فحمل عليهم شبيب، فثبتوا وطال القتال، فلما رأى شبيب صبرهم نادى: يا سويد، احمل على أهل هذه السكة، لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحن من أمامه، فحمل سويد بن سليم على أهل السكة، فرمى من فوق البيوت، فرد.

قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الخارجي من قوم شبيب، قال: فقال لنا شبيب يومئذ: يا أهل الإسلام، إنما شرينا الله، ومن شرى اللّه، لم يكثر عليه ما أصابه شدة، كشداتكم في مواطنكم المعروفة، وحمل على الحجاج، فوثب أصحاب الحجاج طعنَاً وضرباً، فنزل شبيب وقومه فصعد الحجاج على مسجد شبيب في نحو عشرين رجلا، وقال: إذا دنوا فارشقوهم بالنبال، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال في الدنيا حتى أقر كل فريق للآخر.

ثم إن خالد بن عتاب بن ورقاء قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم؛ فإني موتور - لأنه قتل أبوه عتاب بن ورقاء - وممن لا يتهم في نصيحته، فأذن له، فخرج في عصابة، ودار من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وغزالة امرأة شبيب، وأضرم النيران في عسكره، فوثب شبيب وأصحابه على خيولهم، فقال الحجاج: احملوا عليهم، فقد ارتعبوا، فشدوا عليهم فهزموهم، وتأخر شبيب في خاصة قومه، فذكر من كان مع شبيب: أنه كان ينعس، ويخفق برأسه، وخلفه الطلب، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك، فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق، ثم قلت: إنهم دنوا، فالتفت، ثم أقبل يخفق، وبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق النار، فتركوه ورجعوا.

ومَرَ أصحاب شبيب بعامل للحجاج على بلد بالسواد، فقتلوه، ثم أتوا بالمال على دابة، فشتمهم شبيب على مجيئهم بالمال، وقال: قد اشتغلتم بالدنيا، ثم رمى بالمال في الفرات.

ثم سار بهم إلى الأهواز، وبها محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله فخرج لقتاله، وسأله محمد المبارزة، فبارزه شبيب فقتله، ومضَى إلى كرمان، فأقام شهرين ورجع إلى الأهواز، فندب له الحجاج مقدمي جيش الشام سفيان بن الأبرد الكلبي، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فالتقوا على جسر دجيل، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، ثم ذهب شبيب، فلما صار على جسر دجيل، قطع الجسر فوقع شبيب وغرق.

وقيل: قفز به فرسه فألقاه في الماء وعليه الدرع، فقال له رجل: أغرقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم، وألقاه دجيل إلى ساحله ميتاً، وآتى به الحجاج.

قال أبو مخنف: فسمعتهم يقولون: إنه شق بطنه، فأخرج قلبه، وكان مجتمعاً صلباً كأنه صخرة، وأنه كان يضرب به الأرض، فيثب قامة الإنسان.

قلت: للّه أبو هذا البطل القرم الذي بارز الأقران، فكسرهم، وشتت شملهم وقهرهم يظفر في ستمائة على خمسين ألفَاً، هو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت الشيباني، خرج بالموصل كما تقدم، فبعث إليه الحجاج خمسة قواد قتلهم واحداً بعد واحد، ثم سار إلى الكوفة، وحاصر الحجاج بها، وقاتله، وكانت امرأته غزالة من الشجاعة والفروسية قريباً منه، هرب الحجاج منها في بعض حروبه، فعيره بعض الناس: من الكامل:

أَسَد عَلي وَفي الحُرُوبِ نَعَامَةَ ... فَتخَاءُ تنفرُ مِن صَفِيرِ الصافِرِ

هَلا بَرَزتَ إِلَي غَزَالَة في الوَغَى ... بَل كان قلبُكَ في جَنَاحَي طَائِرِ

وكانت أمه تسمى جهيزة، تشهد الحروب كذلك.

قال بعضهم: رأيت شبيبَاً وقد دخل المسجد، وعليه جبة طيالسة عليها نقط من أثر المطر، وهو طويل أشمط، جعد، آدم اللون، فبقى في المسجد يرتج.

ولد سنة ست وعشرين من الهجرة، وغرق بدجيل سنة سبع وسبعين.

ولما حمل إلى عبد الملك عتبان الحروري من أصحاب شبيب، قال له عبد الملك: ألست القائل: من الطويل:

فإنْ كان مِنكُم كان مَروَانُ وابنُهُ ... وعَمرو ومنكُم هاشم وحبيبُ

فمنا حُصَين والبطين وقَعنَب ... ومنا أَمِير المؤمنينَ شَبِيبُ

فقال عتبان: يا أمير المؤمنين، إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين - ونصب على النداء - فاستحسن قوله وأطلقه.

وجهيزة أم شبيب هي التي يضرب بها المثل في الحمق، لأنها لما حملت، قالت: في بطني شيء ينفر، فقيل: أحمق من جهيزة. وروى عنها ما يدل على عدم الحمق؛ فإن عمرو بن شبيب قال: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط قال: كان شبيب نُعِيَ إلى أمه، فيقال لها: إنه قد قتل، فلا تقبل، فلما قيل لها: إنه قد غرق، قبلت ذلك، وقالت: إني رأيتُ حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. كذا في دول الإسلام للحافظ الذهبي.

وفي سنة ثمان وثمانين: بني الحجاج مدينة واسط المدينة المعروفة؛ وذلك أن الحجاج كان ينزل أهل الشام إذا ورد الكوفة على أهل الكوفة، فضرب البعث عن أهل الكوفة إلى خراسان وعسكروا قريباً من الكوفة حتى يستتموا، فرجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه، فطرق بيته فدق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة.

وإذا سكران من أهل الشام يستأذن وشكت عليه ابنة عمه مراودته إياها، فقال لها: ائذني له، فأذنت له، فجاء فقتله الفتى الكوفي، وخرج إلى العسكر وقال: ابعثي إلى الشاميين، وادفعي إليهم صاحبهم، ففعلت، فأحضروها عند الحجاج فأخبرته، فقال: صدقت، وقال للشاميين: لا قود له ولا عَقل؛ فإنه قتيل اللّه إلى النار، ثم نادى منادٍ: لا ينزل أحد على أحد. وبعث الرواد فارتادوا له مكان واسط، ووجد هنالك راهباً ينظف بقعة من النجاسات، فقال: ما هذه؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبني هاهنا مسجد للعبادة، فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك، وبني المسجد في تلك البقعة.

وفي تاريخ ابن خلكان: أن ابن الزبير لما ولي الخلافة بمكة ولى أخاه عبيد الله ابن الزبير المدينة، ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك، منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير؛ لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة على صخرة بيت المقدس ومساجد الأمصار.

وقيل: إن أول من سن التعريف بالبصرة عبد الله بن عباس - رضي اللّه عنهما - لما كان عاملا عليها لعلي - رضي الله تعالى عنهما - وبمصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك، وببيت المقدس عبد الملك بن مروان.

ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير، وأراد الرجوع، جاء إليه الحجاج، فقال: إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير، فسلخته، فولني قتاله، فبعثه في الجيش المتقدم ذكره، فحصره أكثر من خمسين يوماً، وقيل: خمسة أشهر، وفعل ما فعل، وأرسل برأسه إلى عبد الملك، فأرسل عبد الملك بالرأس إلى عبد الله بن حازم السلمي، وهو عامل ابن الزبير على خراسان، وما والاها، وكان عبد اللّه بن حازم هذا من الأبطال والفرسان المعدودين المشهورين. ولقد سمعت عبارة في وصفه بالشجاعة، لم أسمع نظيرها في غيره، فما أحقها أن تكون في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فإنها غاية في المدح ما خلفها غاية، وهي قول بعض العرب فيه: ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم السلمي. فتأملها بالذوق، تجدها تجذب المحامد بالطوق.

الشيء بالشيء يذكر: قال في العقد: فرسان الحروب في الجاهلية ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة.

قلت: هو صاحب الواقعة مع عمرو بن معدي كرب التي تقدم ذكرها، كان يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد قبله. وبنو فراس من الذين قال فيهم علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - يمدحهم، ويذم أهل الكوفة: يا معشر الكوفة، من فاز بكم، فاز بالسهم الأخيب، أبدلكم اللّه بي من هو شر لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم، وددت واللّه أن لي بجمعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة.

وعنترة بن شداد العبسي، وعتبة بن الحارث بن شهاب، وأبو بداء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر ابن الطفيل، وعمرو بن عبد ود العامري، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي.

وأما في الإسلام: فعلي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، ورجال من الأنصار، منهم: أبو دجانة الأنصاري، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقيس بن سعد بن عبادة، وعباد بن الحصين، والأشتر بن مالك النخعي، وعبد اللّه بن الزبير، ومسلمة ابن عبد الملك بن مروان، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروري الخارجي، وعبد الله بن حازم السلمي المذكور.

وكان عبد اللّه بن حازم هذا عاملا لابن الزبير على خراسان وما والاها؛ كما تقدم ذكره، فلما أرسل إليه عبد الملك بن مروان برأس ابن الزبير، أرسله مع رجل من بني عامر بن صعصعة يدعوه إلى طاعته، وأن تكون له خراسان طعمة سبع سنين لا يسأل عن شيء منها، قال ابن حازم للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل - وفي رواية: لولا خشية الفتنة من بني عامر وبني سليم - لضربت عنقك، ولكنْ كُل كِتَابَ صاحبك، فأكله، ثم أمر بالرأس فغسله وقَتله ودفنه.

وقيل: إنه بعثه إلى آل الزبير بالمدينة، فدفنوه مع جثته، حيث دفنت.

وعبد الملك أول من سمي بعبد الملك في الإسلام، كان مشدود الأسنان بالذهب، حازماً يقظاً لا يكلُ أمره إلى سواه، شديد البخل يلقب: رشح الحجر؛ لبخله، ويلقب - أيضاً - بأبي الذباب، لبخر كان في فيه؛ كذا قيل، مقدماً على سفك الدماء.

أوصى ابنه الوليد لما ثقل مرضه، فقال: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي تعصر عينيك كالأمة الوكعاء، بل شمر وائتزر، والبس جِلد النمر، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه كذا - أي: لا - فقل بالسيف كذا، أي: اضرب عنقه، ومن سكت، مات بدائه.

وكان عبد الملك يلقب قبل ذلك بحمامة المسجد لقبه به عبد اللّه بن عمر، وجاءته الخلافة وهو يقرأ في المصحف، فطبقه، وقال: سلام عليك، هذا فراق بيني وبينك.

وقيل لابن عمر: رأيتَ لو تفانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن نسأل بعدهم؟ قال: سلوا هذا الفتى، يعني: عبد الملك بن مروان.

عن يونس بن ميسرة، عن عبد الملك؛ أنه قال وهو على المنبر: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من امرئ لا يغزو في سيبل الله، أو يجهز غازياً، أو يخلفه بخير، إلا أصابه الله بقارعة قبل الموت".

وقال النضر بن محمد، وذكر سنداً إلى سحيم مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة؛ أن عبد الملك بن مروان دخل عليهم، وهو غلام شاب، فقال أبو هريرة: هذا يملك العرب.

وقال جرير بن حازم، عن نافع؛ لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان.

وعن ابن عمر قال: ولد الناس أبناء، وولد مروان أباً.

قال مالك: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أول من صلى في المسجد ما بين الظهر إلى العصر عبد الملك بن مروان، وفتيان كانوا معه إذا صلى الإمام الظهر، قاموا فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء، فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله.

وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان؛ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.

وقال أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثنا أبي، عن أبيه، قال: لما نزل مسلم بن عقبة المري المدينة، دخلت المسجد النبوي، فجلست إلى جنب عبد الملك، فقال لي: أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم، قال: ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير، إلى أول مولود ولد في الإسلام.

قلت: مراده بالمدينة، فقد صح أن عبد الله بن الزبير أول مولود ولد بها، قيل: بقباء، وقيل: بالمدينة نفسها، ففرح المسلمون فرحاً شديداً، لأن اليهود تفوهوا بأنا سحرنا محمدَاً وأصحابه؛ فلا يولد لهم، فكان أول مكذب لهم، رضي الله عنه. انتهى.

وإلى ابن حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله إن جئته نهارَاً، وجدته صائمَاً، وإن جئته ليلا لتجدنه قائمَاً، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله كلهم اللّه جميعَاً في النار. فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك، وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه.

قال الأصمعي: حدثنا عباد بن مسلم بن زياد، عن أبيه، قال: ركب عبد الملك ابن مروان بكراً، فأنشأ قائده يقول: من الرجز:

يا أَيهَا البكرُ الذي أَرَاكَا

غَلَبتَ أهلَ الأرضِ في مَمشَاكا

وَيحَكَ هَل تعلَمُ مَنْ عَلاَكَا

خليفَةُ اللهِ الذي امتَطَاكَا

لَم يَحبُ بَكراً مِثل ما حَبَاكَا

فلما سمعه عبد الملك قال: إيهاً يا هناه، قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم. ومما نقلته من العقد لابن عبد ربه القرطبي قال: مدح جرير الحجاج بأبيات منها قوله: من الوافر:

دَعَا الحَجاجُ مِثل دعاءِ نُوح ... فأسمَعَ ذا المعارجِ فَاسْتَجَابَا

فقال له الحجاج: إن الطاقة تَعجِزُ عن مكافأتك، ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسر بكتابي هذا إليه فسار إلى عبد الملك، فأنشده القصيدة التي مطلعها: من الوافر:

أَتصحُو أَم فؤادُكَ غَيرُ صَاحِ؟! ... .........

فقال عبد الملك: بل فؤادك يا ابن الفاعلة، حتى انتهى إلى قوله فيها: من الوافر:

تَعَزت أم حَزْرَةَ ثُم قالَتْ: ... رأيتُ الوارِدِينَ ذَوِي امتِيَاحِ

ثِقِي باللهِ ليسَ له شريك ... ومِنْ عندِ الخليفةِ بالنجاحِ

سأشكُر إن رَدَدتَ إِلَي ريشِي ... وأثبت القَوَادِمَ مِنْ جَنَاحي

أَلَستم خَيرَ مَن رَكِبَ المطايا ... وأندى العَالَمينَ بُطُونَ راحِ؟!

فلما قال هذا البيت استوى عبد الملك جالساً، وكان متكئَاً، ثم قال: من مدحنا فبمثل هذا فليمدح، ثم قال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب؟! فقال: إذا لم تروها، فلا أرواها الله، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الإبل أباق، ونحن مشايخ، وليس بأحدنا فضل عن راحلته، فلو أمرت بالرعاة لها، فأمر له بثمانية أعبد، قال: وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين، وأشار إلى صحفة، فنبذها إليه بالقضيب، وقال: خذها، ففي ذلك يقول: من البسيط:

أَعطَوا هُنَيْدَةَ يَحدُوها ثمانيَةٌ ... ما في عطائِهمُ مَن ولا سَرَفُ

وروى هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: دخل أعرابي إلى عبد الملك بن مروان، فمدحه وأحسن، وعنده جرير والفرزدق والأخطل، فقال له عبد الملك: أتعرف أهجَى بيت في الإسلام؟ قال: نعم؛ قول جرير: من الوافر:

فَغُض الطرفَ إنكَ من نُمَير ... فلا كَعْباً بَلَغْتَ ولا كلاَباً

قال: أصبتَ، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير ما: من البسيط:

إِن العُيُونَ التي في طَرفِهَا حور ... قتلنَنَا ثم لم يُحيِينَ قَتلاَنا

يَصرَعنَ ذا اللب حتى لا حراكَ به ... وهُن أضعَفُ خَلقِ الله أركانا

قال عبد الملك: أحسنت، ثم قال: فهل تعرفُ أمدح بيت في الإسلام؟ قال: نعم، قوله فيك يا أمير المؤمنين: من الوافر:

أَلستُم خَيرَ مَن رَكِبَ المطايا ... وأَندَى العالَمينَ بُطُونَ رَاحِ؟!

قال: أحسنت، فهل تعرف جريرَاً؟ قال: لا، والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، فقال: هذا جرير، وهذا الفرزدق، وهذا الأخطل، فأنشأ الأعرابي يقول: من المتقارب:

فَحَيا الإلهُ أَبَا حَزرَةِ ... وَأرغَمَ أنفَكَ يا أَخْطَلُ

وَجَد الفرزدقِ أَتعِس به ... وَدَق خياشيمَكَ الجَندَلُ

فأنشأ الفرزدق يقول: من البسيط:

بَل أرغَمَ اللهُ أنفاً أنتَ حامِلُهُ ... يا ذا الخَنَا ومقَالِ الزور والخَطَلِ

ما أَنْتَ بالحَكَمِ الترضَى حكومتُهُ ... ولا الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرأيِ والجَدَلِ

فغضب جرير، وأنشأ يقول: من البسيط:

أَتَشْتُمَانِ سفَاهاً خَيرَكُم حَسَبَاً؟! ... فَفِيكُمَا وإلهي الزورُ والخَطَلُ

شَتَمْتُمَاهُ عَلَى رَفعِي وَوَضعِكُما ... لا زِلتُمَا في سِفَالٍ أيها الرَجُلُ

ثم نهض، فقبل يدي عبد الملك، وقال: يا مولاَيَ، جائزتي لجرير، فقال عبد الملك: وله مني مثلها. انتهى.

وحكى الهيثم بن عدي؛ أن عبد الملك بن مروان بَعَثَ إلى عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وإلى جميل بن معمر العذري صاحب بثينة، وإلى كثير عزة - وهو كثير ابن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي المدني - وأوقر ناقة ذهبَاً وفضة، ثم قال: لينشد كل واحد منكم ثلاثة أبيات، فأيكم كان أغزل شعرَاً، فله الناقة وما عليها، فقال عمر بن أبي ربيعة: من الطويل:

فَيَا ليتَ أني حِينَ تَدنُو منيتِي ... شَمَمتُ الذي ما بَين عينيكِ والفَمِ

وَلَيتَ طهوري كَانَ رِيقكِ بَعده ... ولَيتَ حَنُوطِي مِن مُشَاشِكِ والدمِ

وَلَيتَ سُلَيمَ في المنامِ ضَجِيعَتي ... لَدَى الجَنةِ الخضراءِ أو في جَهنمِ

وقال جميل: من الطويل:

حَلَقتُ يميناً يا بثينَةُ صادقاً ... فإن كُنْتُ فيها كاذباً فَعَمِيتُ

حلفتُ لها بالبُدنِ تدمى نحورُهَا ... لقد شَقِيَت نَفسِي بكُم وعنِيتُ

ولو أن رَاقي المَوتِ يَرقي جنازتي ... بمَنطِقِهَا في الناطِقِينَ حَيِيتُ

وقال كثير عزة: من الكامل:

بِأبي وأمي أَنتِ مِن معشوقةِ ... ظَفِرَ العدو بها فَغَيرَ حالَهَا

ومشَى إلي بعَيبِ عزةَ نسوةٌ ... جعل المليكُ خدودَهُن نِعَالَهَا

ولو أن عزةَ حاكَمَت شَمسَ الضحَى ... في الحُسنِ عند موفَّقٍ لَقَضَى لها

فقال عبد الملك: خذ الناقة يا صاحب جهنم.

وكان يقال: من أراد رِقَّة الغزل، فعليه بشعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي، ومن شعره ما رواه ابن الأنباري: من الكامل:

لبثوا ثَلاَث مني بمَنزِلِ قلعةٍ ... وَهُمُ عِلى عرضٍ لَعمرُكَ ما هُمُ

متجاورينَ بغَيرِ دارِ إقامةٍ ... لو قد أجَد رحيلهم لم يَقدَمُوا

وَلهن بالبَيتِ العتيقِ لبانَة ... والبيتُ يعرفُهُن لو يتكلمُ

لَو كان حياً قبلهن ظعائناً ... حَياً الحطيمُ وجوهَهُن وزَمزَمُ

لكنهُ مما يطيفُ برُكنِهِ ... منهن صماء الصَدَى مُستعجمُ

وكأنهن وقد صدرنَ عشية ... بيض بأكنافِ الخيامِ منظمُ

وفي كتاب أنساب قريش للزبير بن بكار لعمر بن أبي ربيعة قوله: من الطويل:

نَظَرتُ إليها بالمحصَبِ من مِنى ... ولي نَظَر لولا التحرُّمُ عازمُ

فقلتُ أشمس أم مصابيحُ بيعَة ... بَدت لكَ تحت السُّجفِ أَم أنتَ حَالِمُ؟

بعيدة مَهوَى القُرطِ إما لنوفَل ... أَبُوهَا وإما عَندُ شَمسٍ وهَاشِمُ

فلم أستطِعهَا غَيرَ أَن قَد بَدَا لَنَا ... عشيةَ راحَت وَجهُهَا والمَعَاصِمُ

وقال الزبير بن بكار: أنشد ابن أبي عتيق سعيدَ بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف:

أيها الراكبُ المجد ابتِدَارَاً ... قد قَضَى مِن تِهَامَةَ الأوطارا

إن يكُنْ قلبُكَ الغدَاةَ جَلِيداً ... ففؤادي بالحُب أمسَى مُعَارا

ليت ذا الدهرَ كان حَتماً علينا ... كُل يومَين حِجةَ واعتِمَارا

فقال سعيد بن المسيب: لقد كلف ابن أبي ربيعة المسلمين شططاً.

وروى الأصمعي، عن صالح بن أسلم، قال: قال عمر بن أبي ربيعة: إني قد أنشدت من الشعر ما بلغك وبلغ غيرك، ولكن ورب هذه البِنِية - يشير إلى الكعبة - ما حللت إزاري على فرج حرام قط.

حضر مجلس عبد الملك يوماً قوم من وجوه العرب، فقال لهم عبد الملك: أي المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديل مصر، كأنها غِرقِئُ البيض، وقال بعض: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتم شيئاً، أفضلها ما قاله عبدة بن الطبيب حيث يقول: من البسيط:

لَما نزلنَا ضربنَا ظِل أخبيةٍ ... وفَارَ بالغَلي للقَومِ المراجيلُ

ورد وأشقَر لا يُؤنيه طابخُهُ ... ما قارَبَ النضْجَ منها فهو مأكولُ

ثم انثنينا عَلَى عُوج مسوَمةٍ ... أعرافُهُن لأيدينا مَنَادِيلُ

ثم قال: وما أطربني لقول طفيل الخيل: من البسيط:

إني وإنْ قَلَّ مالي لا يُفَارِقُنِي ... مِثلُ النعامةِ في أوصالهَا طُولُ

تقريبُهَا المَرطَى والجَوزُ معتدلٌ ... كأنه سبد بالماءِ مغسُولُ

أو ساهم الوجهِ لم تقطَع أباجلُهُ ... يُصَانُ وَهوَ بيومِ الروعِ مبذولُ

قلت: وفي حفظي لابن المعتز في مثل هذا المعنى من وصف الفرس ما يعجب سماعه، ويحسن في الطروس إيداعه قوله: من الكامل:

ولقد وَطِئتُ الغيثَ يَحمِلُنِي ... طِرفٌ كلونِ الصبحِ حينَ وقد

يمشِي ويعرضُ في العِنَانِ كما ... صَدَفَ المعشقُ بالذلاَلِ وصَد

طارَتْ به رجل موقعةٌ ... رجامةٌ لحَصَى الطريقِ وَيَدْ

وكأنه مَوج يسيلُ إذا ... أطلقتَهُ، وإذا حبست جَمَد

وقول زيد الخيل: من الرمل:

يا بني الصيداء رُدُّوا فَرَسي ... إنما يُصنَعُ هذا بالذَّلِيلِ

لا تذيلوه فإني لم أكُن ... يا بني الصيْدَا لِمُهرِي بالمُذِيلِ

عَودُوهُ كَالذِي عَوّدتُهُ ... دلج الليلِ وَإِيطَاء القَتِيلِ

قيل: وفدت عزة على عبد الملك بن مروان، فلما دخلت سلَمَت، فرد عليها السلام، ورحب بها، وقال: ما أقدمك يا عزة؟ قالت: شدة الزمان، وكثرة الألوان، واحتباس القطر، قال: هل تروين لكثير: من الطويل:

وَقد زعَمَت أني تغيرت بعدها ... ومَنْ ذا الذي يَا عَز لا يتغير؟

قالت: أَروِي له هذا، ولكني أَروِي قوله في قصيدة له: من الطويل:

كأَني آُنادِي صَخرَة حِينَ أَعرَضَت ... مِنَ الصم لو تمشِي بها العُصمُ زَلتِ

قال: ما كنت لتصيرين إلى حاجته، أو تهبين نفسك لي، فأزوجك منه، قالت: الأمر إليك يا أمير المؤمنين، ما كنت لأزهد في هذا الشرف الباقي لي ما دامت الدنيا أن يكون أمير المؤمنين وليي، فعظم بذلك قدرها عنده، وأمر لها بمال، وكتب إلى كثير وهو بالكوفة؛ أن اركب البريد وعجل؛ فإني مزوجك عزة، وأتاه الكتاب وهو مضني من الشوق إليها، فرحل وأقبل نحوها، فلما كان ببعض الطريق إذا هو بغراب على شجرة بانة ينتف ريشه ويطايره، وكان كثير شديد الطيرَة، فلما رآه تَطَير وهَم بالانصراف، ثم غلبه شوقه، فمضى وهو مكروب لما رأى، حتى آتى ماء لبني نهد، فإذا هو برجل يسقي إبله، فنزل كثير عن راحلته واستظل بشجرة هناك، فأبصره النهدي وأتاه، وسأله عن اسمه ونسبه، فانتسب، فرحبَ به، فأخبره كثير عما رأى في طريقه، فقال: أما الغراب فغربة، وأما البانة فبين، وأما نتف ريشه ففرقة.

فتطير من ذلك ومشَى، حتى دنا من دمشق، فإذا بجنازة فاستعبر، وقال: أسأل الله خير ما هو كائن، فسأل عن الميت فإذا هي عزة، فخر مغشياً عليه، فعُرِفَ، وصب عليه الماء، فكان مجهوده أن بلغ القبر، فلما دفنت، انكب على القبر، وهو يقول: من الطويل:

سِرَاجُ الدجَى صقرُ الحَشَا منتهى المنى ... كَشَمسِ الضحَى نَوامة حينَ أُصبحُ

إذا ما مشت بين البيوتِ تخزلت ... ومالَت كما مال النزيفُ المرنحُ

تعلقتُ عزا وهيَ رود شبابها ... علاقة حُب كاد بالقَلبِ يرجحُ

أقولُ ونضوِى واقفٌ عند رَمسِها ... عليكِ سلامُ اللهِ والعَين تسفَحُ

فهلا فَدَاكِ الموتُ مَن أنتِ دونه ... ومَن هو أسوا منكِ دلا وأقبحُ

على أم بكرٍ رحمةٌ وتحية ... لها منك والنائي يود وينصحُ

منعمة لو يدرج النملُ بينها ... وبين حواشِي بردها كَادَ يجرحُ

وما نظَرَت عيني إلى ذِي بشاشةٍ ... من الناسِ إلا أنتِ في العينِ أملحُ

ثم بكى حتى غشي عليه فأفاق، وهو يقول: من الطويل:

ما أَعيَفَ النهدِي لا دَرَّ درهُ ... وأزجَرَهُ للطيْرِ لا طَارَ طائرُهْ

رأيتُ غراباً واقِعاً فَوقَ بَانَةٍ ... يُنَتفُ أعلَى ريشِهِ ويطايرُه

فقال غراب: ذا اغتراب من النوَى ... وبانَة بَين مِن حَبِيبِ تُعَاشِرُهْ

ثم لم ير ضاحكاً بعدها حتى أدركه الموت. انتهى.

وقيل: كان جوثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان، ثم خرج عليه مع ابن الزبير، فلما استأمن الناس، قال عبد الملك لجوثة: أكنتُ مستحقاً منك أن تعين ابن الزبير على مع ما بيني وبينك؟! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجلن علي حتى تسمعَ عذري، قال: هاته، قال: هل رأيتني قط في حرب أو سباق أو نضال إلا والفئة التي أنا معها مغلوبة مهزومة بسوء بختي وشؤمي؟! وإني خرجت مع ابن الزبير ليقتل على رسمي، فضحك منه عبد الملك وعفا عنه، وأحسن إليه.

وقال عبد الملك: كلكم يرشح نفسه لهذا الأمر، يعني: الخلافة، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب والعقول.

وقال لابنه الوليد: يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية، إلا حزم أو توان.

واصطبح في يوم شديد البرد، فدعا بزوج سمور وعمامة خز، فلبسهما، وأمر بكَوَانِينِ النارِ فأضرم فيها الفحم بين يديه، ثم دعا بمُضَحِكٍ له يُدعَى أبا الزعيريرة، فقال له عبد الملك: اخرج إلى الشتاء، فقل له: أرعد وأبرق كيف شئت، قد استعددنا لك. فخرج إلى صحن الدار، ثم عاد فقال: قد أديتُ رسالتَكَ إليه، فقال: أمَا أمير المؤمنين، فلا سبيل إليه، ولكن واللّه لأضربن ضبب أبي الزعيريرة ضرباً يدخله في حِر أمه، فضحك منه ووصله وخلع عليه من ثيابه.

وكان يقول: خلتان لا تدعوهما إن قدرتم: تعلم العربية، ولباس الثياب الفاخرة؛ فإنهما الزينة والمروءة الظاهرة.

وعن عوانة قال: جرى بين عروة بن الزبير، وبين عبد الملك بن مروان كلام أغلظ له عروة فيه، وكان الحجاج حاضراً فقال له: يا ابن العمياء، أتكلم أمير المؤمنين بمثل هذا؟! فقال له عروة: وما أنت وذاك يا ابن المتمنية؟ فضحك عبد الملك، وقال للحجاج: قد كنت غنياً عن هذا. وإنما أراد عروة: أن أم الحجاج وهي الفارعة بنت همام قالت: من البسيط:

هَل مِن سَبِيلِ إِلى خَمرِ فَأَشربَهَا؟! ... أَم هَل سَبِيل إِلَى نصرِ بنِ حَجاجِ؟!

وكان نصر بن حجاج هذا من أجمل أهل المدينة.

قلت: ذكروا أن عمر بن الخطاب خشي من وقوع الفتنة به، فنفاه من المدينة بعد أن حلق لمة كانت له؛ ففيه يقول الشاعر: من الخفيف:

حَلَقُوا رَأسَهُ لِيَزدَادَ قُبحاً ... غِيرَة مِنهُم عليه وشُحا

كان صبحاً عليه لَيل بهيم ... فَمَحَو لَيلَهُ وأَبقَوهُ صبحَا

وعن المدائني: جرى بين عبد الملك وعمرو بن سعيد بن العاص منازعة، فأغلظ له عمرو، فقال له خالد بن يزيد: يا عمرو، أمير المؤمنين لا يكلم بمثل هذا، فقال له عمرو: اسكت، فوالله لقد سلبوك ملكَكَ، ونكَحُوا أمك، فما هذا النصح الموشح بغش؟ أنت كما قال الشاعر: من الطويل:

كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضيعَت ... بنيها فَلَم ترقع بذلك مَرقَعَا

وقدم الحجاج على عبد الملك بن مروان، فمر بخالد بن يزيد بن معاوية، وعنده رجل من أهل الشام، فقال الشامي لخالد: من هذا؟ يشير إلى الحجاج، فقال له خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجاج وقال: إني واللّه ما أنا بعمرو بن العاص، ولا ولدت عمراً ولا ولدني، ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثَرَ من مائة ألف، كلهم يشهد أنك وأباك وجدك من أهل النار، ثم لم أجد لذلك جزاء ولا شكراً، وانصرف عنه وهو يقول: عمرو بن العاص، عمرو بن العاص! وكان عبد الملك إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق، قال له: أعفني من أربع، وقل بعدها ما شئت؛ لا تكذبني؛ فإن المكذوب لا رأي له، ولا تجبني عما لم أسألك؛ فإن فيما أسألك غنية عنه، ولا تطرني؛ فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية؛ فإني إلى الرفق بهم أحوج.

ذكر ابن خلكان؛ أن عبد الملك بن مروان لما عزم على الخروج لمحاربة مصعب بن الزبير، ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد ين معاوية ألا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره، وألحت عليه في المسألة. فلما لم يسمع منها، بكت وبكى من حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثيراًَ كأنه رأى موقفنا هذا حين قال: من الطويل:

إذا ما أرَادَ الغزوَ لم يَثنِ هَمه ... حَصَان عليها نَظمُ در يَزينُهَا

نهتهُ فلما لم تَرَ النهيَ عاقَه ... بكَت فبكَى مما شجاها قَطِينهَا

ثم عزم عليها أن تقصر وخرج.

وروى جرير بن عبد الحميد لعبد الملك: من الطويل:

لَعَمري لقد عُمرتُ في الدهرِ بُرهَة ... ودانَت لِيَ الدُّنيا بِوَقعِ البَوَاترِ

فَأضحَى الذي قد كَانَ مما يَسُرنِي ... كلمح مَضَى في المزمناتِ الغوابرِ

فيا ليتني لَم أَغنَ في الملك ساعةَ ... ولم أَلهُ في لذاتِ عيشٍ نواضِرِ

وكنت كذي طِمرَينِ عاشَ ببُلغَةِ ... من الدهرِ حتى زارَ ضَتكَ المَقَابرِ

وعن يحيى الغساني قال: كان عبد الملك كثيراً ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق، فقالت له مرة: بلغني يا أمير المؤمنين؛ أنك شربت الطلا بعد النسك والعبادة، فقال: إي والله، والدماء.

وقال علي بن محمد: لما أيقَنَ عبد الملك بالموت، دعا مولاه أبا علاقة، فقال: والله، لوددت أني كنت منذ ولدت إلى يومي هذا جمالاَ.

ولم يكن له من البنات إلا واحدة وهي فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة، وقال: اللهم، إني لم أخلف شيئاً أهم إلي منها فاحفظها، فتزوجها عمر بن عبد العزيز.

ثم أوصى بنيه بتقوى اللّه، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وقال: انظروا مسلمة، وأصدروا عن رأيه - يعني أخاهم - فإنه مجنكم الذي تجتنون به، ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني أم بررة، وكونوا في الحرب أحراراً، واحلولوا في مرارة، ولينوا في شدة، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني: من الكامل:

إن القِدَاحَ إذا اجتمعنَ فَرَامَهَا ... بالكَسرِ ذو حَنَق وبطش أَيدِ

عَزت فلم تكسَر، وإن هيَ بُددَت ... فالكَسرُ والتوهِينُ للمتبددِ

يا ولدي، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية؛ فإنه ابن أمي، وقد ابتلى في عقله بما علمتَ، ولولاك لآثرته بالخلافة، فصل رحمه، واحفظني فيه، وانظر أخي محمد بن مروان، فأقره على الجزيرة ولا تعزله، وانظر أخاك عبد اللّه، فلا تؤاخذه، وأقرره على عمله بمصر، وانظر الحجاج، فأكرمه؛ فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك؛ فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، ثم تمثل: من الوافر:

فَهَل مِنْ خالدٍ إما هَلَكنَا؟ ... وهَل بالمَوتِ يا للناسِ عَارُ؟!

ولادته في شهر رمضان، سنة خمس وعشرين من الهجرة، وجلوسه في شهر رمضان سنة خمس وستين، مدته إحدى وعشرون سنة وشهران، وفاته يوم الخميس نصف شوال سنة ست وثمانين، عمره إحدى وستون سنة.

خلف سبعة عشر ذكراً، وأنثى واحدة، ولي الخلافة منهم أربعة: الوليد، وسليمان، وهشام، ويزيد، وكان منهم ولد اسمه معاوية مشهور بالعِي والبلادة، طار يوماً باز من يده، فقال: أغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي، ووقف يوماً على باب طحان، فنظر إلى حمار له يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت هذا الجلجل في عنق هذا الحمار؟ فقال الطحان: ربما أدركتني سآمة، أو نمت، فإذا لم أسمع الجلجل، علمت أنه واقف، فصحت عليه، فقال له: أرأيت إن وقف الحمار، وحرك رأسه بالجلجل؟ فقال الطحان: من لي بحمار يكون عقله مثل عقل ابن أمير المؤمنين. وكان أبوه عبد الملك منع أن يمشي أحد بالليل بعد العشاء الأخيرة، فخرج ذات ليلة مع الشرط يدور في الطرق، فوجدوا رجلاَ، فلما رآهم الرجل، قعد على روث فرس، فقالوا له: لم خرجتَ؟ قال: خرجت لأقضي الحاجة، فتفُوه من يده، فإذا تحته روث فرس، فقالوا له في ذلك؟ فقال: لا عليكم ألا تبحثوا عن ذلك، يخرى كل إنسان ما أراد. فقال معاوية ابن عبد الملك: صدق واللّه، أطلقوه، فأطلقوه بعد أن استغربوا ضحكاً.

وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد الذي كان عهده أبوه مروان لعبد الملك بن مروان، ثم من بعده لأخيه عبد العزيز بن مروان، والية لابنه الوليد، وكان قبيصة ينهاه عن ذلك، ويقول: لعل الموت يأتيه، وتدفع العار عن نفسك.

وجاءه رَوح بن زنباع ليلة، وكان عنده عظيماً، ففاوضه في ذلك، فقال: لو فعلته، ما انتطح فيه عنزان، فقال: نصبح إن شاء الله، وأقام روح عنده، ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح الليل، وهما نائمان - وكان لا يحتجب عنه، وإليه الخاتم والسكة - فأخبره بموت عبد العزيز أخيه فقال عبد الملك لروح: كفانا الله ما نريد، ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك.

ويقال: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له البيعة للوليد، فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز: إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك، فكتب له عبد العزيز: إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد، فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز أن يحمل خراج مصر، فكتب إلية: إني وإياك يا أمير المؤمنين، قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا، ولا ندرى أينا يأتيه الموت فلا تفسد على بقية عمري. فَرَق له عبد الملك وتركه.

ولما جاء الخبر بموته - وذلك سنة أربع وثمانين - أمر الناس بالبيعة لولديه الوليد ابن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فأجابوا، إلا سعيد بن المسيب، فضربه ضرباً مبرحاً، وطاف به في الأسواق، وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه، ويقول: إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف، وقد كان ابن المسيب امتنع من بيعة ابن الزبير، فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطاً، وكتب ابن الزبير يلوم جابراً.