في الدولة الأموية: خلافة الوليد بن عبد الملك

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة الوليد بن عبد الملك

قال الثعالبي: قال عبد الملك بن مروان: ولدت في شهر رمضان، وفطمت فيه، وبلغت الحلم فيه، ووليت الخلافة فيه، وختمت القرآن فيه، وأظن موتي فيه، فلما دخل شوال، أمن الوفاة فتوفي في شوال في سنة ست وثمانين؛ كما تقدم ذكره.

ولما دفن قال الوليد: إنا للّه وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد للّه على ما أنعم به علينا من الخلافة، فكان أول من عزى نفسه وهنأها، ثم قام عبد الله بن همام السلولي فقال: من الرجز:

أَللهُ أعطَاكَ التي لا فَوقَهَا ... وَقَد أَرَادَ المُلحِدُونَ عَوقَهَا

عَنكَ ويَأبى الله إلا سَوقَهَا ... إلَيكَ حتى قَلدُوكَ طَوقَهَا

وبايعه ثم بايعه الناس بعده.

ثم صعد الوليد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا مقدم لما أخر اللّه، ولا مؤخر لما قدمه الله. وقد كان من قضاء الله وسابق علمه ما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار أبي إلى منازل الأبرار، وولي هذه الأمة بالذي يحق الله عليه من الشدة على المذنب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام اللّه من منازل الإسلام وأعلامه؛ من حج البيت، وغزو الثغور، وشن الغارة على أعداء الله؛ فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع المفرد. أيها الناس، من أبدى لنا نفسه، ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت، مات بدائه، ثم نزل.

عمارة المسجد النبوي على يد عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز

كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين، وولى عليها ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، فقدمها ونزل دار مروان، ودعا عشرة من فقهاء المدينة، فيهم الفقهاء السبعة المعروفون، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمراً دونهم، فأمرهم أن يبلغوا الحاجات، والظلامات إليه، فشكروه وجزوه خيرَاً، ودعا له الناس.

ثم كتب إليه الوليد سنة ثمانين أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد، وأن يشتري ما في نواحي المسجد من الدور حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، ويقدم القبلة، ومن أبي أن يعطيك ملكه، فقومه قيمة عدل، وادفع إليه الثمن، واهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان أسوة في ذلك. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها، وبعث الوليد إلى ملك الروم: إني أريد بناء المسجد النبوي، فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب، ومائة من الفعلة، وأربعين حملا من الفسيفساء، فبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فعلة الشام، وشرع في عمارته فعمره عمر بن عبد العزيز، ولم يغير شيئاً من مكانه الذي كان عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم حتى إنه يأتي الجذع القائم فيقلعه، ثم يضع موضعه أساس الأسطوانة ويرفع البناء عليها؛ فلذا ترى بعض الأساطين متسعاً ما بينها، وبعضها متضايقاً؛ لأنها كانت كذلك في بناء عمر بن الخطاب الذي هو على بنائه عليه الصلاة والسلام.

ورزق الفقهاء والفقراء والضعفاء، وحرم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم وضبط الأمور أتم ضبط.

ثم ولى سنة تسع وثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسري، قال العبشمي، عن أبيه: كان الوليد دميماً سائل الأنف طويلاَ أسمر، به أثر جدري، أفطس، وبمقدم لحيته شمط، ليس في رأسه ولحيته غيره، إذا مشى يتبختر في مشيته، كان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب ولا علم.

وروى يحيى الغساني؛ أن روح بن زنباع قال: دخلت يوماً على عبد الملك وهو مهموم، فقال لي: فكرت فيمن أوليه أمر العرب فلم أجده، فقلت: أين أنت عن الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو، قال: فقال لي عبد الملك: رُح إلى العشية؛ فإني سأظهر كآبة فسلني، قال: فرحت إليه والوليد عنده، فقلت له: لا يسوءك اللّه، ما هذه الكآبة؟ قال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب، فلم أجده، فقلت: أين أنت عن ريحانة قريش وسيدها الوليد؟ فقال لي: يا أبا زنباع، إنه لا يلي العرب إلا من تكلم بكلامهم، قال: فسمعها الوليد، فقام من ساعته، وجمع أصحاب النحو، وجلس معهم في بيت، وطبق عليه ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان، فقال عبد الملك: أما إنه قد أعذر؛ كذا قاله الحافظ الذهبي في الدول.

وروى سعيد بن عامر الضبعي، عن كثير أبي الفضل الطفاوي، قال: شهدت وليد بن عبد الملك صلى الجمعة والشمس على الشرف، ثم صلى العصر.

وبنو أمية معروفون بتأخير الصلوات عن أول أوقاتها؛ قال في مسامرة الأخبار: قال ابن الأنباري: حدثنا أبو عكرمة الضبي؛ أن الوليد بن عبد الملك قرأ على المنبر: " يا ليتَهَا كانتِ القَاضِيَةَ " " الحاقة: 27 " وضم التاء، وتحت المنبر عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الملك أخوه، فقال عمر بن عبد العزيز: وددتها والله عليك.

وعن أبي الزناد، قال: كان الوليد لحاناً كأني أسمعه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أهل المدينة.

وكان الوليد جباراً ظالمَاً، لكنه أقام الجهاد في أيامه، وفتحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان يختن الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويرتب للزمنَى من يخدمهم، وللأضراء من يقودهم من رقيق بيت المال، وعمر مسجده - عليه الصلاة والسلام - ووسَعه، وكان يبر حملة القرآن، ويقضي ديونهم.

وبنى الجامع الأموي في ذي القعدة سنة ست وثمانين؛ قال العلامة محمد بن مصطفى الشهير بكاتي في تاريخه بغية الخاطر: إن الوليد بنى بدمشق الجامع المشهور بجامع بني أمية، وشرع في بنائه أواخر سنة ست وثمانين، وحين شرع، احضر العملة من كل جهة، وعدتهم اثنا عشر ألف رجل، وأنفق في عمارته أربعمائة صندوق، في كل صندوق من الذهب العين ثمانية وعشرون ألف دينار ذهباً أحمر، وامتد بناؤه عشر سنين، وفيه عمود من المرمر يميل إلى الحمرة اشتراه بألف وخمسمائة دينار.

قال في خريدة العجائب: وفي محرابه عمودان صغيران من المرمر الأخضر، حصله من عرش بلقيس الملكة ابنة الهدهاد زوجة سليمان بن داود - عليهما السلام - وجعل في المسجد طاقات على عدد أيام السنة، تدخل الشمس في كل يوم من طاق من تلك الطاقات، وكانت فيه ستمائة سلسلة من ذهب للقناديل، وما زالت إلى أيام عمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك، فجعلها في بيت المال، واتخذ عوضها صفراً وحديداً.

قال الذهبي: قال ضمرة، عن علي بن أبي عبلة سمع عبد اللّه بن عبد الملك ابن مروان قال: قال لي الوليد: كيف أنت والقرآن؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أختمه في كل جمعة، قلت: فأنت يا أمير المؤمنين؟ قال: وكيف مع الاشتغال، قلت: على ذلك؟ قال: في كل ثلاث، قال علي: فذكرت ذلك لإبراهيم بن أبي عبلة فقال: كان يختم في رمضان سبع عشرة ختمة.

وقال ضمرة: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة يقول: رحم اللّه الوليد، وأين مثل الوليد؟! فتح الهند والسند، والأندلس وغيرها، وبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه، وبني مسجد دمشق، وكان يعطيني قصاع الفضة أقسمها على قراء بيت المقدس.

غريبة: قال عمرو بن عبد الواحد الدمشقي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبيه، قال: خرج الوليد بن عبد الملك من الباب الأصغر، فوجد رجلا عند الحائط عند المئذنة الشرقية يأكل وحده، فجاء حتى وقف على رأسه، فإذا هو يأكل خبزَاً وتراباً، فقال له الوليد: ما شأنك انفردت عن الناس؟ قال: أحببت الوحدة، قال: فما حملك على أكل التراب، أما في بيت مال المسلمين ما يجري عليك؟ قال: بلى، ولكن رأيت القنوع، قال: فرجع الوليد إلى مجلسه، ثم أحضره، فقال: إن لك لخبرَاً لتخبرني به، وإلا ضربت عنقك، قال: نعم، كنت جمالا ومعي ثلاثة أجمال موقرة طعاماً حتى أتيت مرج الصفر، فقعدت في خربة أبول، فرأيت البول ينصب في شق فأتبعته حتى كشفته، فإذا غطاء على حفير، فنزلت فإذا مال صبيب، فأنخت رواحلي، وحللت أعكامي، ثم أوقرتها ذهباً، وغطيت الموضع، فلما سرت عنه غير يسير، وجدت معي مخلاة فيها طعام، فقلت: أنا أترك الكسرة؟ ففرغتها، ورجعت لأملأها فخفي على الموضع، وأتعبني الطلب، فرجعت إلى الجمال فلم أجدها ولم أجد الطعام الذي أخرجته من المخلاة، فآليت على نفسي ألا آكل شيئاً إلا الخبز بالتراب، فقال الوليد: كم لك من الولد؟ فذكر عيالا، قال: يجري عليك من بيت المال، ولا تستعمل في شيء، فإن هذا هو المحروم، قال ابن جابر: فذكر لنا أن الجمال جاءت إلى بيت مال المسلمين، فأناخت عنده، فأخذها أمين الوليد، فطرحها في بيت المال. رواته ثقات؛ قاله الكناني.

وعن نمير بن عبد الله الصنعاني، عن أبيه، قال: قال الوليد: لولا أن الله ذكر آل لوط في القرآن، ما ظننت أن أحدَاً يفعل هذا.

وعن يزيد بن المهلب قال: لما ولاني سليمان بن عبد الملك خراسان، روعني عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا يزيد، اتق اللّه؛ فإني حين وضعت الوليد في قبره إذا هو يركض في أكفانه، يعني: يضرب الأرضْ برجليه.

دخل جرير على الوليد بن عبد الملك، وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير؛ أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا عدي بن الرقاع، فقال جرير: شر الثياب الرقاِع، فممنْ هو؟ قال: من عاملة، قال جرير: الذين يقول تعالى فيهم: " عاَمِلَة ناصِبة تَصلى نَاراً حَاميَةَ " " الغاشية: 3 - 4 " ثم قال: من الطويل:

يُقَصرُ باعُ العامِلِي عن العُلاَ ... ولكنَّ أَيْرَ العامِلِي طويل

فقال له عدي: من الطويل:

أأمكَ كَانَت خَبرَتكَ بِطُولِهِ ... أَمَ أنْتَ امرُؤ لَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَقُولُ؟!

فقال: لا؛ بل أنا امرؤ لم أدر كيف أقول، فوثب عدي إلى رجل الوليد يقبلها، ويقول: أجرني منه، فقال الوليد لجرير: لئن ذكرته في شعرك لأسرجنك وألجمنك حتى يركبك فتعيرك بذلك الشعراء.

قال المدائني: آتى الوليد بن عبد الملك برجل من بني عبس قد ذهبت عينه، فسأله عن سبب ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان في بني عبس أكثر مني مالا وولداً، فآتى السيل فاجترف مالي وولدي، وبقي لي ولد صغير وبعير، فحملت الصبي وند البعير، فوضعت الصبي وتبعته فنفحني برجله، ففقأ عيني، فرجعت إلى ابني، فإذا الذئب يَلَغُ في دمه، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير؛ ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه. انتهى.

قلت: ومصيبة عروة بن الزبير في رجله وولده شهيرة.

وفاة الحجاج

هو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي أمير العراق أبو محمد. ولد سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، كان فصيحاً بليغاً مفوهاً، فاسقاً ظلوماً، غشومَاً سفاكاً للدماء، روى أنه لم يرضع الثدي حتى قال بعض الكهان: اذبحوا له ثلاث جدي، وألعقوه بعض دمها، وغسلوه بالدم، ففعلوا؛ فلذلك آتى يحب سفك الدم.

وولد بغير مخرج فَغُورَ له مخرج بالحديد.

قال أبو عمرو: ما رأيت أحداً أفصح من الحجاج، والحسن بن علي، والحسن أفْصحهما، وستأتي عدة من قتله صبراً، ومن كان في سجنه.

وقيل في سبب ولاية الحجاج ما ذكر بعض المؤرخين: أن الحجاج لم يزل في كنف أبيه، وكان أبوه رجلا نبيلا جليلَ القدر، إلى أن اتصل بروح بن زنباع من أمراء عبد الملك، ثم به، ولم يزل يترقى إلى أن ولي العراق والمشرق، وطار ذكره وعظم سلطانه.

وأول ما علم من شهامته وجوره: أن أباه خرج من مصر يريد عبد الملك، ومعه ابنه الحجاج، فأقبل سليم بن عمرو القاضي، وكان من أورع الناس وأتقاهم، فقام إليه أبوه يوسف، فسلم عليه، وقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ فقال: نعم، أن تسأله يعزلني عن القضاء، فقال يوسف: لوددت أن قضاة المسلمين كلهم مثلك، فكيف أسأله ذلك ثم انصرف، فقال الحجاج لأبيه: من هذا الذي قمت إليه؟ فقال: هذا سليم بن عمرو قاضي مصر وقاصهم، فقال: يغفر اللّه لك يا أبت، أنت ابن عقيل تقوم إلى رجل من كندة؟! فقال: واللّه إني لأرَى الناس ما يرحمون إلا بهذا وأشباهه، فقال واللّه، ما يفسد على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه، يقعدون وتقعد أليهم أحداث، فيذكرون سيرة أبي بكر وعمر؛ فيخرجون على أمير المؤمنين، فواللّه لو أضيف إلَي هذا الأمر، لسألت أمير المؤمنين أن يجعل لي السبيل، فأقتل هذا وأشباهه، فقال له: اتق اللّه يا بني، والله إني لأظن أن اللّه خلقك شقيُّاً.

وأول ما أعجب به عبد الملك منه: أنه كان قد اتصل بروح بن زنباع، وصار من جملة شرطته، وكان روح بن زنباع بمنزلة نائب عبد الملك. توجه إلى الجزيرة لقتال زفر بن الحارث عندما عصى عليه بقرقيسيا، فأمر روح بن زنباع جماعة من أصحاب شرطته يحثون المتأخرين من العسكر في كل منزل، وكان الحجاج من جملتهم، فمر يوماً بعد رحيل العسكر بجماعة من خواصِّ روح في خيمة يأكلون، فأمرهم الرحيل، فسخروا منه أولا لمحلهم، وثانياً لمحل سيدهم، وقالوا له: انزل كُلْ واسكُتْ، فضرب بسيفه أطناب الخيمة، فسقطت عليهم، وأطلق فيها ناراً، فأحرقت أثاثهم، فقبضوا عليه، وأتوا به روح بن زنباع، وسمع عبد الملك الخبر، وطلبه وقال: من فعل هذا بغلمان روح؟ فقال: أنت يا أمير المؤمنين، أمرتنا بالاجتهاد فيما وليتنا، ففعلنا ما أمرت، بهذه الفعلة يرتدعُ من بقي من العسكر، وما على أمير المؤمنين أن يعوضهم ما احترق، وقد قامت الحرمة وتم المراد. فأعجب عبد الملك ذلك، وقال: إن شرطيكم لجلد. ثم أقره على ما هو عليه.

ولما طال الحصار والقتال بينه وبين زفر بن الحارث، أرسل عبد الملك رجاء بن حيوة وجماعة منهم الحجاج إلى زفر يدعوه إلى الصلح، فأتوا بالكتاب وقد حضرت الصلاة، فقام رجاء، فصلى مع زفر، وصَلى الحجاج وحده، فسئل عن ذلك. قال: لا أصلي مع منافق خارج عن أمير المؤمنين، وبارز عن طاعته، فسمع ذلك عبد الملك، فزاده عجباً بالحجاج، ورفع قدره، وولاه تبالة، وهي أول ما وَلِي، فخرج إليها، فلما قرب، سأل عنها، فقيل له: إنها وراء هذه الأكمة، فقال: أف لبلد تسترها أكمة، ورجع، فقيل في المثل: أهون على الحجاج من تبالة، ثم وصل إلى ما وصل إليه.

وزعم بعض الرواة أن أول أمر الحجاج أنه كان معلماً للصبيان، وكان يسمى كليباً، وفيه يقول الشاعر: من المتقارب:

أَيَنْسَى كُلَيب زَمَانَ الهُزَالِ ... وتَعلِيمَهُ سُورَةَ الكَوثَرِ

رَغِيف لَهُ فَلَكٌ مَا يُرَى ... وَآخَر كَالقَمَرِ الأَزْهَرِ

يشير إلى أن خبز المعلمين يختلف في الصغر والكبر بحسب اختلاف بيوت الصبيان، ثم صار دباغَاً؛ ويستدل على ذلك بحكايته مع كعب الأشقري؛ وذلك أن المهلب بن أبي صفرة لما أطال قتال الأزارقة، وكان الحجاج أرسله لذلك، كتب إليه يستبطئه في تأخير مناجزتهم، فقال المهلب لرسوله: قل له: إن الشاهد يَرَى ما لا يَرَى الغائب، فقال كعب الأشقر، وكان من جند المهلب: من الكامل:

إن ابنَ يوسُفَ غَرهُ مِن غَزْوِكُم ... خفضُ المقامِ بجَانبِ الأمْصَارِ

لو عَايَنَ الصَفين حِينَ تَلاَقَيَا ... ضَاقَتْ عليه برُحْبِهَا الأَقْطَارُ

ورأى معاوَدةَ الدباغ غنيمَة ... أيامَ كَانَ محَالِفَ الإِقْتَارِ

فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب بإشخاصه، فأشخصه المهلب إلى عبد الملك، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب برسالة المهلب إلى عبد الملك، فاستنشده، فأعجبه ما سمع، وكتب إلى الحجاج يقسم عليه أن يعفو عن كعب، فلما دخل كعب على الحجاج، قال: إيه يا كعب ورأى معاودة الدباغ غنيمة، فقال: أيها الأمير، لوددت في بعض ما شاهدته في تلك الحروب، وما يرده المهلب من خطرها أن أنجُوَ منها وأكون حجاماً أو حائكاً، فقال له الحجاج: أولى لك، لولا قسم أمير المؤمنين، لما نفعك ما أسمع، فالحَق بصاحبك.

وروى ابن الكلابي، عن عوانة بن الحكم قال: سمع الحجاج تكبيرَاً في السوق، وهو في الصلاة، فلما انصرَفَ، صعد المنبر، فقال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق. قد سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد به اللّه في الترغيب، ولكنه الذي يراد به الترهيب، إنها عجاجة تحتها قَصف. أي بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، أَلاَ يربأ الرجل منكم على ظلعه، ويحسن حمل رأسه، وحقن دمه؛ فيبصر موضع قدمه؛ واللّه ما أرى الأمور تنتقل بي وبكم حتى أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها، وتأديباً لما بعدها.

وقال سيار أبو الحكم: سمعتُ الحجاج على المنبر يقول: أيها الرجل، وكلُكم ذلك الرجل، رجل خطم نفسه فزمها فقادها بخطامها إلى طاعة اللّه تعالى، وعنجها بزمامها عن معاصي اللّه.

قال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب فيقول: امرؤ زود نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرؤ نظر إلى ميزانه، امرؤ عقل عن اللّه أمره، امرؤ أفاق واستفاق، وأبغض المعاصي والنفاق، وكان إلى ما عند اللّه بالأشواق. فما زال يقول ذلك حتى أبكاني.

وروى أنه خطب، فقام إليه رجل فقال له: ما أصفق وجهك، وأقل حياءك، تفعل ما تفعل، ثم تقول هذا؟! فأخذوه، فلما نزل، دعا به فقال له، لقد اجترأت!! فقال: يا حجاج، أنت تجترئ على الله؛ فلا تنكره في نفسك، وأجترئ أنا عليك، فتنكره علي! فخلى سبيله.

وقال شريك، عن عبد الملك بن عمير قال: قال الحجاج يومَاً: من كان له بلاء، فليقم، فلنعطه على بلائه، فقام رجل، فقال: أعطني على بلائي، قال: وما بلاؤك؟ قال: قتلت الحسين، قال: وكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبرَاً، وما أشركت معي في قتله أحداً، قال: أما إنك وإياه لن تجتمعا في موضع واحد. وقال له: اخرج.

وروى صالح بن موسى الطلحي، عن عاصم بن بهدلة؛ أنهم ذكروا الحسين - رضي اللّه عنه - عند الحجاج فقال: لم يكن من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له يحيى بن يعمر: كذبت أيها الأمير، فقال له الحجاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب اللّه تعالى أو لأقتلنك، فقرأ قوله تعالى: " وَمِن ذُرِيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيماَنَ وَأَيوُبَ وَيوُسُفَ وَمُوسَى وهاَرُونَ وكذَلِكَ نَجزي اَلمُحسِنِينَ وَزكرِيَا وَيحيىَ وَعِيسَى " " الأنعام: 84 - 85 " ، ثم قال: أخبرنا الله أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه، فقال الحجاج: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال: أخذ اللّه على الأنبياء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: فنفاه الحجاج إلى خراسان.

قال أبو بكر بن عياش: سمعت الحجاج وذكر هذه الآية: " فَاتقوُا اللَّهَ مَا استطَعتم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا " " التغابن: 16"، قال: هذه لعبد الله أمين اللّه وخليفته ليس فيها مثنوية، واللّه لو أمرتُ رجلا أن يخرج من باب هذا المسجد فأخذ من غيره لحل لي دمه وماله، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان لي حلالا، يا عجباً من عبد هذيل، يزعم أنه يقرأ قرآناً من عند اللّه ما هو إلا رجز من رجز الأعراب، واللّه لو أدركت عبد هذيل، لضربت عنقه. رواها واصل بن عبد الأعلى شيخ مسلم عن أبي بكر، فقال: قاتل اللّه الحجاج، ما أجرأه على اللّه، كيف يقول هذا في العبد الصالح الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود؟! قال أبو بكر بن عياش: ذكرت قوله هذا للأعمش. فقال: قد سمعته منه.

ورواها محمد بن يزيد عن أبي بكر، فزاد قوله: ولا أجد أحداً يقرأ على قراءته إلا ضربتُ عنقه، ولأحكنها من المصحف، ولو بضلع خنزير.

قال ضمرة بن شوذب: ربما دخل الحجاج على دابته حتى يقف على حلقة الحسن البصري، فيستمع إلى كلامه، فإذا أراد الانصراف يقول: يا حسن، لا تمل الناس، فيقول له الحسن: أصلح اللّه الأمير، إنه لم يبق إلا من لا حاجة له.

قال الأصمعي: قال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنه ليس أحد إلا وهو يعرف عيبه، فَعِب نفسك، فقال الحجاج: أعفني يا أمير المؤمنين، فأبى عليه، فقال: أنا لجوج حقود حسودٌ، فقال عبد الملك: ما في الشيطان أقبحُ مما ذكرت.

وقال يزيد بن هارون: أنبأنا العوام بن حوشب، حدثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي - كرم الله وجهه - لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف، قيل: يا أمير المؤمنين، ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية منا زوايا جَهنمَ، رجل يملك عشرين سنة لا يدع معصية للّه إلا ارتكبها.

وقال جعفر بن سليمان: حدثنا مالك بن دينار، عن الحسن؛ أن علياً كان على المنبر في العراق، فقال: اللهم، إني ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية.

وقد كوشف الإمام علي - كرم اللّه وجهه - بما سيقع من الحجاج، فقال ما قال: فكان كما قال.

قال أبو عاصم النبيل: حدثني جليس هشام بن أبي عبد اللّه، قال: قال عمر بن عبد العزيز لعنبسة بن سعيد: أخبرنى ببعض ما رأيت من عجائب الحجاج، قال: كنا جلوساً عنده ليلة، فأتى برجل، وكان قد نهى عن المشي بالليل بعد العشاء الأخيرة، فقال: ما أخرجك هذه الساعة، وقد قلت: لا أجد فيها أحداً إلا فعلت به؟! قال: أما واللّه لا أكذب الأمير، أغمي على أمي منذ ثلاث، وكنت عندها، فلما أفاقت الساعة، قالت: يا بني، أعزم عليك إلا رجعت إلى أهلك؛ فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم، فخرجت، فأخذني الطائف، فقال الحجاج: ننهاكم وتعصوننا؟! يا غلام، اضرب عنقه، ثم أتى برجل آخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: واللّه لا أكذبك، لزمني غريم، فلما كانت الساعة أغلق الباب وتركني على بابه، فجاءني الطائف فأخذني، فقال: اضربوا عنقه، ثم أتى بآخر، فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: كنت مع شَرب أشرب فعربدوا، فخفت على نفسي فخرجْتُ، ففكَر الحجاج ساعة، ثم قال: رجل أحب المسالمة يا عنبسة، ما أراه إلا صادقاً فأخلوا سبيله.

فقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: فما قلتَ للحجاج شيئاً في ذلك؟ قال عنبسة: لا، فقال عمر لآذنه: لا تأذن لعنبسة إلا أن يكون في حاجة.

وقال بسطام بن مسلم، عن قتادة قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج؟! قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.

قال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة وأربعة وعشرين ألفاً.

وقال عباد بن كثير: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير، وعرضت السجون بعد موت الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثمانين ألفاً، منها ثلاثون ألفاً من النساء لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.

وعن عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم، ما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة.

قال العباس الأزرق، عن السري بن يحيى قال: مَر الحَجاج في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ قيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: " قَالَ اَخسئوُا فِيهَا وَلا تُكلِمُونِ " " المؤمنون: 108 " قال: فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة.

وبنى واسطاً في سنتين؛ قاله الأصمعي، وشرع فيها سنة ست وثمانين، قال في المحاسن: وهو أول من ابتنى مدينة في الإسلام، وهي واسط، وأول من قعد على سرير في الحرب، وأول من اتخذ المحامل، فقال فيه حميد الأرقط: من الرجز:

أَخزَى الإِلَهُ عَاجِلا وآجِلاَ

أَوَل عَبْدٍ عَمِلَ المَحَامِلاَ

عَبْدَ ثقيفٍ ذَاكَ أَزلاَ آَزِلاَ

قال مسلم بن إبراهيم: حدثنا الصلت بن دينار، قال: مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة، فلما عوفي، صعد المنبر، وهو ينثني على أعواده، فقال: يا أهل الشقاق والنفاق والمراق، نفخ الشيطان في مناخركم، فقلتم: ماتَ الحجاج، فمه؟ والله ما أرجو الخير إلا بعد المَوت. وما رضي اللّه الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس، وقد قال العبد الصالح سليمان: " رَب اَغفِر لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " " ص: 35 " . فكان ذلك، ثم اضمحل، فكأْن لم يكُن. يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كأني بكل حي ميت، وبكل رطب يابس، وكل امرئ في ثياب طهور إلى بيت حفرته، فحد له في الأرض خمسة أذرع طولاَ في ذراعين عرضاً، فأكلت الدود لحمه، ومصت من صديده ودمه.

قال محمد بن المنكدر: كان عمر بن عبد العزيز يبغضُ الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.

وقال الأصمعي: أَنشَدَ الحجاج لما احتضر: من البسيط:

يَا رَب قَد حَلَفَ الأَعدَاءُ وَاجتَهَدُوا ... بأنَنِي رَجُلٌ مِن سَاكنِي النارِ

أيحلفُونَ عَلَى عمياءَ؟ وَيحَهُمُ ... ما عِلمُهُم بعظيمِ العَفوِ غَفَّارِ

فأخبر الحسن بذلك، فقال: إن نجا فبهما.

وروى أن الحسن حين أخبر بموت الحجاج، سجد شكراً للّه.

وقال ابن سيرين: إني لأرجو للحجاج ما أرجو لأهل لا إله إلا الله، فبلغ قوله الحسن - يعني البصري - فقال: أما واللّه ليخلفن اللّه رجاءه فيه.

قال ابن شوذب عن أشعث الحداني قال: رأيت الحجاج في منامي بحال سيئة، فقلت له: ما صنع الله بك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها قتلة، ما عدا سعيد بن جبيرة فإني قتلت به سبعين قتلة، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر بي إلى النار، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا اللّه.

قال ابن خلكان: مات بواسط، وعَفي قبره، وأجرى عليه الماء.

قال العلامة الذهبي: وعندي مجلد في أخبار الحجاج فيه عجائب، لكن لا أعرفُ صحتها.

توفي سنة خمس وتسعين قبل موت الوليد بسنة، ولما حضْرته الوفاة، استخلف على الصلاة ابنه عبد اللّه، وعلى عرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، وكتب إلى قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان قد ولاه على خراسان: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجِدك وجهادك أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي تحب. فأتمَّ مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه.

قيل: أصيب الحجاج بمصيبة، وعنده رسول عبد الملك بن مروان، فقال الحجاج: ليت أني قد وجدت إنساناً يخفف عني ما أنا فيه؟ فقال له الرجل الرسول: أقول، أيها الأمير؟ قال له: قل، فقال: كل إنسان يفارقه صاحبه بموت أو بصلب أو يقع من فوق البيت أو يقع عليه البيت أو يغشى عليه أو يكون شيء لا نعرفه. فضحك الحجاج وقال: مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم، حيث وجه مثلك رسولا.

وكان الحجاج مهيباً جداً لجرأته وإقدامه على سفك الدماء واشتداد عضده بمن أقامه أميراً؛ فكان يهابه عماله والخاصة والعامة؛ فمن ذلك ما ذكره في المروج: كتب عبد الملك بن مروان إليه: أنت عندي كسالم، والسلام. فلم يفهم الحجاج مراد عبد الملك بذلك، فكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان، وبعث كتاب عبد الملك مع الرسول إليه، فلما ورد الرسول عليه، ناوله الكتاب، ففزع، واضطرب قتيبة، فضرط فخجل واستحيا، فقرأ الكتاب، ثم أراد أن يقول للرسول: اقعد، فقال: اضرط، فقال الرسول: قد فعلت، فاستحيا قتيبة حياء أكثَرَ، وقال له: ما أردت أقول لك إلا اقعد، فغلطت، فقال الرسول: قد غلطت أنا وأنت قال قتيبة ولا سواء، أغلط من فمي، وتغلط من استك. ثم قال قتيبة: أعلم الأمير أن سالماً كان عبداً لرجل، وكان عنده أثيراً عزيزاً، وكان يسعى به إليه كثيراً؛ فقال: من الطويل:

يُدِيرُونَنِي عَن سَالِمِ وَأُدِيرُهُمْ ... وَجِلْدَة بَين العينِ والأتَفِ سَالِمُ

فلما آتى الحجاج بالرسالة، سُرَ بذلك، وكتب له به عهدَاً على خراسان بالتأييد. قلت: ورأيت في تاريخ الصفدي ما نصه: قال نافع مولى ابن عمر: كان ابن عمر يلقى سالماً ابنه فيقبله، ويقول: شيخ يقبل شيخاً.

وقال خالد بن أبي بكر: بلغني أن عبد اللّه بن عمر كان يلام في حب ابنه سالم، فيقول: من الطويل:

يلومونني في سَالِمٍ وَأَلُومُهُم ... وَجِلْدَةُ بين العَينِ والأنفِ سَالِمُ

ورواه بعضهم: يديرونني وأديرهم.

قال الصفدي: اشتهر هذا البيت كثيراً، وروسل به، وكتب به عبد الملك إلى الحجاج. انتهى.

قلت: تفسير قتيبة ذلك بأن سالمَاً كان عبداً لرجل وكان عنده... إلى آخره لا يوافق ما ذكره الصفدي؛ أن البيت لعبد الله بن عمر في ابنه سالم بن عبد اللّه بن عمر والأصح التفسير الثاني لرواية نافع له عن عبد اللّه بن عمر، إلا أن يكون اللّه متمثلا به لا ناظمه؛ فيمكن ما قاله قتيبة.

وصَحَّف الجوهري، بل حرَف في صحاحِه، فقال: يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم، وأورد البيت.

قال الصفدي: وأنا شديد التعجب من صاحب الصحاح كونه ما فهم المعنى من البيت، وأن الكلام جارٍ على التشبيه، وأن سالماً عند أبيه بمنزلة هذه الجلدة من المكان المذكور لعزته.

قال الخطيب التبريزي: تبع الجوهري خاله إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب في غلط هذا الموضع. انتهى.

ولم يغير الوليد بعد موت الحجاج أحداً من عماله؛ بل أبقاهم حتى كان سليمان عبد الملك، فعزلهم جميعاً، واستعمل غيرهم.

وقال ابن حمدون في تذكرته: ذكر أن وضاح اليمن كان من أحسن الناس شكلا، وأجملهم وجهَاً، وكان يتبرقع في المواسم من العين، فحجت أم البنين زوجة الوليد عبد الملك، فرأت هذا، فهويته واستقدمته بمدح، فقدم ومدح الوليد بقصيدة فأجازه، وكانت أم البنين تأتي به إلى قصرها وتجلس معه، وإذا خافت، خبأته في صندوق، فأُهدِيَ إلى الوليد جوهر، فاستدعى بخادم، وأرسله به إلى أم البنين، فأتاها فجأة، ووضاح عندها، فرآها الخادم وهي تواريه في الصندوق، فطلب منها من الجوهر حجراً، فانتهرته وأبت، فآتى الوليد وأخبره بما رأى وعلم له الصندوق، فكذبه ونهره وضَرَبَ عنقه في الحال، وقام مسرعاً إلى أم البنين، وهي في مقصورتها تمتشطُ.

فجلس على الصندوق الذي أخبره به الخادم، وقال لها: ما أحب هذا البيت إليك دون البيوت؟! قالت: لأنه يضم حوائجي جميعاً، فقال: أريد أن تهبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، قالت: دونك الجميع، فقال: ما أريد إلا واحدَاً، قالت: ارسم الذي تقصده، فقال: هذا الذي جلست عليه، قالت: خذ غيره؛ فإن لي فيه حوائج أحتاجها، قال: ما أريد غيره، قالت: خذه، فأمر الخادم بحمله إلى مجلسه، وحفر بئراً عظيمة، وأعمق فيها حتى وصل الماء، ودنا من الصندوق، فقال: يا صندوق، إنه بلغنا عنك خبر، فإن كان حقاً، قد كُفيناك، ودفناك، وانقطع خبرك، وإن كان باطلا، فإنما دفنا الخشب، وأهون به، ثم قذف به في البئر، وهال التراب عليه، وردت البسط على حالها، ولم ير الوليد ولا أم البنين في أحد منهما أثرَاً ولا تغيَّرَتْ مودة أحدهما للآخر، حتى فرق الموت بينهما، ولم ير وضاح بعدها أبداً.

قلت: فمن أين اتصل نبأ هذا الخبر والحالة هذه؟! وقد اختلف العقلاء في فعل الوليد هذا: هل يعد به من أهل المروءة والحياء والكرم؛ فبه يمدح، أم من أهل الدناءة والوقاحة والعار الذي يذم به؛ فبه يقدح؟ ذهب إلى كل منها عقلاء؛ لكَني أرجح كونه ثانياً لا أولا؛ إذ الشهم لا يبقى على صفحة عرضه الغبار، ولا يرضى بلباس العيب، ولو كان فوقه ألف دثار.

ومن شعر وضاح في جارية قد شَببَ بها قوله: من السريع:

قَالَتْ: أَلاَ لا تَلِجنْ دَارَنَا ... إِنَّ أَبَانَا رَجُلٌ غَائِر

قلْتُ: فإني طالب غِرة ... وإن سيفي صارِمٌ باترُ

قالتْ: فَإن البابَ ذو منعةِ ... قلتُ: فإني واثب كاسرُ

قالتْ: فإن الناسَ مِن دوننا ... قلتُ: فإني كاتم ماهرُ

قالت: فإن القصْرَ مِن دوننا ... قلْتُ: فإني فوقه طائرُ

قالتْ: فإِن البَحرَ من دوننا ... قلتُ: فإني سابح ماهرُ

قالت: فَحَولِي أخوة سَبعَة ... قلتُ: فإني لَهُمُ حاذرُ

قالت: فليث رابضْ دوننا ... قلتُ: فإني أَسَد ظافرُ

قالت: فإن الله مِن فوقنا ... قلتُ: فَرَبى راحم غافرُ

قالت: لقد أَعيَيتَنَا حجةَ ... فائتِ إذا ما هَجعَ السامِرُ

واسقُط علينا كسُقُوطِ الندَى ... لَيلَةَ لا نَاهٍ ولا آمِرُ

وقال أبو عمر الضرير: توفي الوليد نصف جمادى الآخرة، سنة ست وتسعين بدير مران، وحمل على أعناق الرجال؛ فدفن بباب الصغير، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وخلف أربعة عشر ولداً.