في الدولة الأموية: خلافة سليمان بن عبد الملك

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة سليمان بن عبد الملك

قال ابن خلدون: أراد الوليد أن يمنع أخاه سليمان، ويبايع لولده عبد العزيز بن الوليد، فأبى سليمان، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك؛ فلم يجبه إلا الحجاج، وقتيبة بن مسلم، وبعض خواصه، وأستقدم سليمان، ثم استبطأه، فأجمع المسير إليه ليخلعه، فمات دون ذلك، ولما مات، بويع سليمان من يومه، وهو بالرملة، فعزل عمال الحجاج جميعهم، وأمر يزيد بن المهلب بنكبة آل عقيل قوم الحجاج وبني أبيه وبسط العذاب عليهم، فولى يزيد بن المهلب أخاه عبد الملك بن المهلب على ذلك، ففعله، ثم عزل قتيبة وقتله، وآتى إليه برأسه، وكان ذلك منه لموافقتهما الوليد على خلعه.

بويع بالخلافة في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بعد الوليد بالعهد المذكور من أبيهما، كان من خيار بني أمية، فصيحَاً مفوهاً، مؤثراً للعدل، محباً للغزو، وجهز الجيوش مع أخيه مسلمة بن عبد الملك؛ لحصار القسطنطينية. وقالت امرأة: رأيته أبيض، عظيم الوجه، مقرون الحاجبين، يضرب شعره منكبيه، ما رأيت أجمل منه.

وقال الوليد بن مسلم: حدثني غير واحد أن البيعة أتت لسليمان وهو بمشارف البلقاء، فأتى إلى بيت المقدس، وأتته الوفود، فلم يروا وفادة كانت أهنأ من الوفادة إليه، كان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة، ويجلس الناس على الكراسي، ويقسم الأموال، ويقضي الأشغال.

وقال سعيد بن عبد العزيز: ولي سليمان وهو إلى الشباب والتَرَفه ما هو، فقال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد ترى ولم يكن لنا بتدبيره عِلْم، فما رأيت من مصلحة العامة فَمُر به، فكان من ذلك عزل عمال الحَجاج، وإخراج من في سِجْنِ العراق، ومن ذلك كتابه: إن الصلاة قد أميتت فأحيوها وردوها إلى أول وقتها مع أمور حسنة كان يسمع من عمر فيها.

وعن الشعبي: لما حج سليمان بن عبد الملك سنة سبع وتسعين، فرأى الناس بالموسم، قال لعمر بن عبد العزيز: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصِي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، ولا يسع رزقهم غيره؟ قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء اليوم رعيتك، وغداً هم خصماؤك، فبكى سليمان بكاء شديداً، ثم قال: باللّه أستعين.

وعن ابن سيرين قال: رحم الله سليمان بن عبد الملك، افتتح خلافته بخير، وختمها بخير، افتتحها بإحياء الصلوات لمواقيتها، واختتمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز.

وفي الذهبي: قيل: كان من الأكلة المذكورين، فذكر محمد بن زكريا الغلابي، وليس بثقة، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن أبيه، عن هشام بن سليمان قال: أكل سليمان بن عبد الملك أربعين دجاجة تشوى له على النار على صفة الكباب، وأكل أربعاً وثمانين كلوة بشحومها وثمانين جردقة.

وقال محمد بن عبد الحميد الرازي، عن ابن المبارك: إن سليمان لما حج آتى الطائف، فأكل سبعين رمانة، وخروفاً، وستين دجاجة، وآتى بمكوك زبيب طائفي، فأكله أجمع.

وعن عبد اللّه بن الحارث قال: كان سليمان بن عبد الملك أكولا.

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى: ثنا أبي عن أبيه قال،: جلس سليمان بن عبد الملك في بيت أخضر، على وطاء أخضر، عليه ثياب خضر، ثم نظر في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وكان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقَاً، وكان عثمان حيياً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليدُ جَباراً، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات.

وروى محمد بن سعيد الدارمي، عن أبيه، قال: كان سليمان بن عبد الملك ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه، ويقول: أنا الملك الشاب، فلما نزل بمرج دابق، حُم وفشت الحُمَى في عسكره، فنادى بعض خدمة، فجاءت بطست، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: محمومة، قال: فأين فلانة؟ قالت: محمومة، فما ذكر أحداً إلا قالت: محموم، فالتفت إلى خاله الوليد بن القعقاع العبسي، وقال: من الكامل:

قَربْ وَضوءَكَ يَا وَلِيدُ فَإنَّمَا ... هَذِي الحَيَاةُ تَعِلَّةٌ وَمَتَاعُ

فقال الوليد: من الكامل:

فاعمَلْ لنَفْسِكَ في حَيَاتِكَ صالحاً ... فالدَهْرُ فيه فُرْقَة وجمَاعُ

ومات في مرضه ذاك.

قال الدميري في حياة الحيوان: لما استقل بالخلافة، اتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً ومشيراً، ثم إنه أراد أن يستكتب يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، فقال له عمر: سألتك باللّه يا أمير المؤمنين، لا تحيي ذكرى الحجاج باستكتابك يزيد، فقال له سليمان: يا عمر، إني لم أجد عنده خيانة في درهم ولا دينار، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إبليس أعف منه في الدرهم والدينار، قد أغوى الخلق، فأضرب سليمان عما عزم عليه.

وفي الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد الملقب بالمبرد النحوي المشهور: أنه دخل على سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، وكان يزيد قبيحاً دميماً، فقال له سليمان: قبح اللّه رجلا أجرَك رسنه، وشركك في أمانته - يعرض بالحجاج - فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا، قال سليمان: ولم؟ قال: لأنك رأيتني، والأمر عني مُدْبِر، ولو رأيتني والأمرُ عليَّ مقبل، لاستحسنت مني ما استقبحت، ولاستعظمت ما استصغرت. فقال له سليمان: ويحك، وقد استقر الحجاج في قعر جهنم بَعْدُ أم لا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، قال: ولم؟ قال: لأن الحجاج وطأ لكم المنابر، وذلَل لكم الجبابرة، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك عبد الملك، ويسار أخيك الوليد، فحيث ما كانا كان.

ولى سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك - وكان يلقب بالجرادة الصفراء - أرمينية وأذربيجان غير مرة، وإمرة العراقين، وسيره في مائة وعشرين ألفاً إلى القسطنطينية؛ كما تقدَّم.

وروى مسلمة، عن عمر بن عبد العزيز، وهو مذكور في سنن أبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني.

من الفوائد عن مسلمة: أنه لما حصر عمورية، حصل له صداع، فلم يركب في الحرب، فقال أهل عمورية للمسلمين: ما لأميركم لم يركب اليوم؟ فقالوا: عرض له صداع، فأخرجوا له برنساً، وقالوا: ألبسوه له يزل عنه ما يجد، فلبسه مسلمة، فشفي لوقته، ففتشوه فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم فتقوا أزراره، فإذا فيها بطاقة مكتوب فيها هذه الآيات آيات التخفيف: " الآنَ خَففَ اَللَّهُ عَنكمُ... " الآية " الأنفال: 66 " ، " ... ذلِكَ تَخْفِيف مِن رّبكمُ... " الآية " البقرة: 178 " ، " حم عسق " " الشورى: 1 - 2 " ، " وإذا سأَلك عِبادي عَني... " الآية " البقرة: 186 " ، " أَلَم تَرَ إِلىَ رَبك كَيف مَدَ اَلظِلَّ... " الآية " الفرقان: 45 " ، " وَلَه مَا سكَنَ في الليلِ وَالنهار... " الآية " الأنعام: 13 " فقال المسلمون: من أين لكم هذا، وإنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وجدناه منقورَاً في حجر في كنيسة قبل أن يبعث نبيكم بسبعمائة عام.

ومما يحكى من محاسن سليمان: أنه دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله والأذان، فقال له سليمان: أما أنشدك الله، فقد عرفناه، فما الأذان؟ فقال الرجل: قوله تعالى: " فأذنَ مُؤَذِن بَينَهُم أَن لعنَةُ اَللَهِ عَلَى اَلظالمين " " الأعراف: 44 " فقال له: ما ظلامتك؟ قال: ضيعتي فلانة غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان عن سريره، ورفع البساط، ووضع خده في الأرض، وقال: واللّه لا رفعته حتى يكتب له برد ضيعته، فكتب الكتاب وهو واضع خده بالأرض، رحمه اللّه وعفا عنه.

ومما يحكى عنه: أنه قال لطلحة بن مصرف: ما تقول في أبي بكر. قال: ما أدركت دهره ولا أدرك دهري، ولقد قال الناس فيه فأحسنوا، وهو إن شاء اللّه كذلك، فقال: ما تقول في عمر؟ فقال مثل ذلك، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: ما أدركت دهره ولا أدرك دهري، ولقد قال فيه الناس فأحسنوا، وقال فيه ناس وأساءوا، وعند اللّه علمه، قال: ما تقول في علي؟ فقال مثل ذلك، قال: سُب علياً، فقال طلحة: لا أسبه، قال: واللّه لتسبنه أو لأضربن عنقك، قال: واللّه لا أسبه، فأمر بضرب عنقه، فقام إليه رجل بيده سيف فهزه، فقال طلحة: ويلك يا سليمان، أما ترضي بما رضي به من هو خير منك فيمن هو شر من علي. قال: وما ذاك؟ قال: فإن الله عز وجل رضي من عيسى، وهو خير منك؛ إذ قال في بني إسرائيل، وهم شر من علي: " إن تُعَذّبهُم فإنَهُم عِبَادُك... " الآية " المائدة: 118 " ؛ فسكن غضبه وخلى سبيله، فخرج طلحة يختال في مشيته.

ودخل سالم بن عبد الله بن عمر، على سليمان بن عبد الملك، وعليه ثياب غليظة حشنة رثة، فأقعده سليمان معه على السرير، وكان عمر بن عبد العزيز حاضراً، فقال له رجل: يا عمر، ما استطاع خالك - يعني سالم بن عبد اللّه - أن يلبس ثياباً فاخرة يدخل بها على أمير المؤمنين - وعلى المتكلم ثياب فاخرة - فقال له عمر: ما رأيتُ ثيابه وضعته، ولا رأيتُ ثيابَكَ هذه رفعتك إلى مكانه، فسكت الرجل، ولم يحر جواباً.

ويروى أنه لما حم، خرج لصلاة الجمعة، فوجد حظية له في صحن الدار، فأنشدته: من الخفيف:

أَنتَ نِعمَ المَتَاعُ لو كُنْتَ تبقَى ... غَيرَ أن لا بَقَاءَ للإنسانِ

لَيسَ فيِمَا بَدَا لنا مِنكَ عَيبٌ ... عابَهُ الناسُ غَيرَ أنكَ فَانِي

فلما فرغ من الصلاة، دخل داره، ودعا بتلك الحظية، فقال لها: ما قلت لي في صحن الدار؟ فقالت: واللّه ما قلتُ لك شيئاً ولا رأيتك، وأني لي بالخروج إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، نعيت إلي نفسي، فما دارت عليه جمعة أخرَى إلا وهو في قبره.

توُفِي رحمه الله في صفر سنة ثمان وتسعين، وقيل: تسع، بمرج دابق، وله تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز.