في الدولة الأموية: خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه وأرضاه

قال الوليد بن مسلم بن عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بمرج دابق، قال لرجاء بن حَيوَةَ كاتبه ووزيره: من لهذا الأمر بعدي. أستخلف ابني، فقال له رجاء: ابنك غالْب في القسطنطينية، ولا تدري حياته أو موته، فقال: أستخلف ابني داود الآخر، فقال: إنه صغير، قال: فمن ترى؟ قال: استخلف عمر ابن عبد العزيز، قال: أتخوف أخوتي لا يرضون، قال رجاء: فول عمر، ثم بعده أخاك يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابَاً وتختم عليه وتدعوهم إلى البيعة لمن فيه مختوماً، فقال سليمان: لقد رأيتُ ما رأيتَ، ائتني بقرطاس، فكتب فيه العهد على ما ذكر، ودفعه إلى رجاء، وقال: اخرج إلى الناس، فليبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم لا تخبرون بمن فيه حتى يموت، قالوا: لا نبايع، ورجع رجاء إليه فأخبره، فقال: انطلق إلى صاحب الشرط والحرس، فاجمع الناس، وأمرهم بالبيعة، فمن أبى، فاضرب عنقه، ففعل، فبايعوا لمن فيه.

قال رجاء بن حيوة: فبينما أنا راجع إذ سمعت جلبة موكب، فإذا هشام بن عبد الملك، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا، وإن أمير المؤمنين صنع شيئاً ما أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن قد عدلها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفس حتى أنظر، قال رجاء: فقلت له: سبحان اللّه يستكتمني أمير المؤمنين أمراً، فأطلعك عليه! لا يكون هذا أبداً، قال: فأدارني وألاحني، فأبيت عليه، فانصرف، فبينما أنا أسيرة إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر ابن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إليَّ، ولست أقوم له بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس، لعلي أتخلَص منه ما دام حياً، فقلت: سبحان اللّه، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً، وأطلعك عليه! قال: وثقل سليمان، فلما مات، أجلسته مجلسه أسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين. قلت: ساكناً، وأحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا بين يديه على ما في الكتاب.

فدخلوا، وأنا قائم عنده، فلما دنوا، قلت: إنه يأمركم بالوقوف، ثم أخذت الكتاب من عنده، وتقدمت إليهم وقلت: إنه يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا وبسطوا أيديهم، فلما بايعتهم وفرغت، قلت: آجركم اللّه في أمير المؤمنين، قالوا: فمن؟ ففتحت الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فتغيرَتْ وجوه بني عبد الملك، وقال هشام: لا نبايعه أبداً، فقال له رجاء: واللّه نضرب عنقك، فقام آسفاً يجر رجليه، فلما سمعوا: وبعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا، فقالوا: أين عمر؟ فطلبوه، فإذا هو في المسجد، فأتوه، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر به، ولم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنوا به إلى المنبر، وأصعدوه، فجلس طويلا لا يتكلَّم، فقال رجاء: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين، فتبايعوه؟! فنهض القوم إليه، فبايعوه رجلاَ رجلا، ومَدَ يده إليهم، ثم صعد إليه هشام بن عبد الملك، فلما مد يده إليه، قال هشام: إنا للّه وإنا إليه راجعون، أسفَاً لما فاته وأخطأه، فقال له عمر: إنا للّه وإنا إليه راجعون؛ لما وقع فيه من ولاية أمر الأمة.

ثم قام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بفارضِ ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والبلدان والمدن، إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن أبوا، فلست لهم بوال.

ثم نزل، فأتاه صاحب المراكب، فقال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، قال: لا حاجة لي به، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته، فانطلق إلى منزله، ثم دعا بدواة، فكتب بيده إلى الأمصار، قال رجاء: كنت أظن أنه يَضْعُفُ، فلما رأيت صنعه في الكتاب، علمت أنه سيقوى.

وقال عمر بن مهاجر: صلى عمر بن عبد العزيز المغرب، ثم صلى على جنازة سليمان بن عبد الملك.

ولما بلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائبَاً، موت سليمان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعةَ عمر، عقد لواء ودعا لنفسه، وجاء إلى دمشق، ثم بلغه عهد سليمان إلى عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه واعتذر، وقال: أنا فعلت ما فعلت لما بلغني أن سليمان لم يعهد إلى أحد، فخشيت على الأموال أن تنتهب، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو قمت بالأمر، لقعدتُ في بيتي، ولم أنازعك، فقال له عبد العزيز: واللّه لا أجيبُ لهذا الأمر.

فأول ما بدأ به عمر بن عبد العزيز لما استقرتِ البيعة له؛ أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجته من المال والحلي والجواهر إلى بيت المال، وقال: لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد، فردته جميعاً، ولما ولي أخوها يزيد من بعده رده عليها، فأبت، وقالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، ففرقه يزيد على أهله.

وكتب إلى مسلمة بن عبد الملك، وهو بأرض الروم، يأمره بالقفول بالمسلمين.

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي الأموي.

قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي: هو خامس الخلفاء الراشدين، رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه.

ولد بالمدينة، وقيل: بحلوان من أعمال مصر، سنة ستين، عام وفاة معاوية، أو بعدها بسنة.

أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.

روى عن أبيه وأنس وعبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب وغيرهم.

صفته: كان - رضي الله عنه - أبيضَ اللون، رقيق الوجه، جميلا، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر حافر دابة - ولذلك سمي أشج بني أمية - قد وخطه الشيب.

قال ثروان مولاه: دخل عمر إلى إسطبل أبيه، وهو غلام فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح عنه الدم، ويقول: إن كنت أشج بني أمية، إنك لسعيد، رواه ضمرة عن ثروان.

وعن ضمام بن إسماعيل، عن أبي قبيل؛ أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام، فقالت أمه: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت - وكان قد جمع القرآن وهو غلام صغير - فبكت أمه.

وعن سعيد بن عفير، عن يعقوب، عن أبيه؛ أن عبد العزيز بن مروان أمير مصر بَعَثَ ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان؛ أن يتعاهده، وكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة يسمع منه العلم، فبلغه أن عمر ينتقصُ علياً، فقال له: متى بلغك أن اللّه سَخِطَ على أهل بدر بعد أن رَضيَ عنهم؟ ففهم، وقال: معذرة إلى اللّه وإليك، لا أعود.

وقال غيره: لما مات عبد العزيز، طلب عبد الملك بن مروان عمر إلى دمشق، فزوجه ابنته فاطمة بنت عبد الملك، وكان الذين يعيبون عمر من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنغم والاختيالِ في المشية؛ هذا قبل الإمرة.

قال أبو زرعة عبد الأحد بن الليث القيناني؛ سمعت مالكاً يقول: أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا: إن أبانا تُوفيَ وترك لنا مالاَ نحو عمنا حميد الأمجي، فأحضره عمر، وقال له: أنت القائل: من المتقارب:

حُمَيْدُ الذي أمج داره ... أَخُو الخَمْرِ ذي الشيْبَةِ الأَصْلَع

أَتَاهُ المَشِيبُ علَى شربها ... وكَانَ كَريماً فَلَمْ يَنْزعِ

قال: نعم، قال: ما أراني إلا حادكَ إذ أقررت بشربها، وأنك لم تنزع عنها، قال: أين يذهب بك؟ ألم تسمع اللّه يقول: " وَاَلشُعَراء يَتبِعُهُم الغَاوونَ أَلمَ تَرَ أَنهُم في كُلِّ وَاد... " الآية " الشعراء: 224 " قال عمر: أَولَى لك يا حميد، ما أراك إلا قد تفلت، ويحك يا حميد، كان أبوك رجلاَ صالحاً وأنت رجل سوء، قال: أصلحك اللّه، وأينا يشبه أباه؟ أما كان أبوك رجل سوء، وأنت رجل صالح؟ قال: إن هؤلاء زعموا أن أباهم تُوُفيَ وترك مالا عندك، قال: صدقوا، وأحضره بختم أبيهم، ثم قال: إن أباهم مات سنة كذا وكذا، وكنت أنفق عليهم من مالي، وهذا مالهم، فقال عمر: ما أحد أحق أن يكون عنده منك. فامتنع.

وقال زيد بن أسلم، قال أنس - رضي الله تعالى عنه - : ما صليت وراء إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني: عمر بن عبد العزيز، وكان عمر أميراً على المدينة، قال زيد بن أسلم: كان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود.

وقال عمر بن قيس الملائي: سئل محمد بن علي بن الحسين، عن عمر بن عبد العزيز. فقال: هو نجيبة بني أمية، ولكل قوم نجيبة، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده! وقال سفيان الثوري: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة.

قال الترمذي في تاريخه، بسند رفعه إلى جويرية، عن نافع: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن مِن ولدي رجلا بوجهه شجة، يلي فيملأ الأرض عدلا. قال: هو عمر بن عبد العزيز.

وعن السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ لجافٍ، فلما صلى، لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان متكئَاً على يدك؟ قال: يا رياح رأيته؟ قلت: نعم، قال: ما أحسبك إلا رجلا صالحاً؟ ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة، وأني سأعدل فيها. رواته ثقات.

قال جرير، عن مغيرة: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له فدك ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك حياة أبي بكر، ثم عمر، ثم اقتطعها مروان، ثم صارت إلي، فرأيت أمرَاً منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لي بحَق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب المحاسن والمساوئ للعلامة إبراهيم البيهقي ما نصه: وحدث إسماعيل بن أبي خالد، قال: أتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، وعنده عمر بن عبد العزيز، وخالد بن الريان، فقال له الوليد: ما تقول في أبي بكر؟ فقال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، رحمه اللّه تعالى وغفر له، قال: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: هو الفاروق، رحمه اللّه تعالى وغفر له، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: كان سُنَيات من خلافته ملازماً للعدل، قال: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: لعن الله ذاك، قال: فما تقول في عبد الملك؟ قال: ذاك ابن ذاك، لعن اللّه ذاك، فقال: فما تقول في؟ قال: ابن ذينك، وأنت شر الثلاثة، فقال الوليد: يا عمر، ما تقول فيما تسمع؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أعلم بهذا منك، فألح عليه؛ واللّه لتقولن، فقال: أما إذ أبيت إلا أن أقول، فسب أباه كما سَبَّ أباك، " وَأن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى " " البقرة: 237 " .

فقال: ليس إلا هذا؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، إلا أن تداخلك جبرية، فأما في الحق، فليس إلا هذا، فالتفت إلى خالد بن الريان، وهو قائم على رأسه، ثم قام وهو غضبان، فقال خالد: واللّه يا عمر، لقد نظر إلي أمير المؤمنين نظرةَ كنت أظن أنه يأمرني بضرب عنقك، قال: لو أمرك أكنت تفعل؟ فقال: إي واللّه، قال: أما إنه كان يكون شراً لكما وخيرَاً لي، ثم سكت عمر عنه، وبقي ذلك في قلبه، ولما قام الوليد من مجلسه، دخل على زوجته أم البنين بنت عبد العزيز أخت عمر، فقال لها: أخوك الحروريُّ، واللّه لأقتلنه، فمكث عمر أياماً في منزله لا يحضُرُ الباب ولا يلتمس المعذرة، فأتاه رسول الوليد وقت القائلة فدعاه، فلما دخل باب القصر، عدل به إلى بيت، فأدخل فيه وطين عليه الباب، فرجع صاحب دابته إلى أهله، فأخبرهم، فأخبروا أخته، فبحثت عن خبره فعلمته، فدخلت على الوليد، وناشدته الرحم، وقبلت يده، فقال: قد وهبته لك، إن أدركته حَياً، قال: ففتحوا عنه الباب، فوجدوه قد انثنى عنقه، فحملوه إلى منزله وعالجوه، فلما توفي الوليد - وكان سليمان بعده، فهلك، وتولى عمر الخلافة - جاء خالد بن الريان في اليوم الذي استخلف فيه عمر متقلدَاً سيفه، يريد الوقوف على رأسه، فقال عمر: يا خالد، انطلق بسيفك هذا، فضعه في بيتك واقعد فيه، لا حاجة لنا فيك، أنت رجل إذا أُمِرْتَ بشيء فعلته، لا تنظر لدينك. فلما ولي خالد ذاهباً، نظر عمر إلى قفاه، فقال: اللهم يا رب، إني قد وضعته لك فلا ترفعه أبداً، فما لبث إلا جمعة حتى ضربه الفالج فقتله. انتهى.

قال عبد اللّه بن صالح: حدثني الليث قال: لما ولي عمر، بدأ بلحمته وأهل بيته، وأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها، قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام فتكلَمي، قالت: تكلم يا أمير المؤمنين، قال: إن اللّه بعث نبيه رحمة للأمة، ثم اختار له ما عنده فقبضه اللّه، وترك لهم نهراً شربهم سواء، ثم قام أبو بكر، فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر، فعمل عمل صاحبه، ولم يزل النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضَى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى أصحاب النهر الأعظم حتى يعود إلى ما كان عليه، فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأما إذا كانت مقالتك هذه، فلست بذاكرة لك شيئاً، فرجعت إليهم، فأبلغتهم كلامه.

وعن محمد المروزي قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، جاء صاحب الشرطة ليسير بين يده بالحربة - جرياً على عادة الخلفاء قبله - فقال له عمر: تنحَّ عني، مالي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين، ثم سار مختلطاً بالناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إني ابتليت بهذا الأمر من غير رأيٍ مني فيه ولا طلبٍ ولا مشورةِ وإني قد حللت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم غيري، فصاح المسلمون صيحة واحدة، قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك أميرنا باليمن والبركة، فلما سكتوا، حمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أوصيكم بتقوى اللّه؛ فإن تقواه خلف من كل شيء، وليس من تقوى اللّه خلف، وتعجلوا لآخرتكم؛ فإن من عجل لآَخرته، كفاه اللّه أمر دنياه وآخرته، وأصلحوا سرائركم يصلح اللّه علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل؛ فإنه هادم اللذات، وإني واللّه لا أعطي أحداً باطلا، ولا أمنع أحداً حقاً ثم رفع صوته فقال: أيها الناس، من أطاع اللِّه وجبت طاعته، ومن عصى اللّه فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت اللّه، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ثم نزل.

ودخل دار الخلافة، فأمر بالستور فهتكت، وبالبسط فرفعت، وأمر ببيع ذلك وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال له: ما تريد أن تصنع يا أبت؟ فقال: أي بني، أقيل، فقال: أتقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها. قال: أي بني، إني سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال: ادن مني، فدنا منه، فقبل بين عينيه، وقال: الحمد للّه الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل، فأمر منادياً أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فتقدم إليه ذمي من أهل حمص، فقال: أسألك كتاب اللّه، قال: وما ذاك؟ قال: إن العباس بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: ما تقول يا عباس؟ قال: إن الوليد أقطعني إياها، هذا كتابه، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب اللّه، فقال عمر: كتاب اللّه أحق أن يتبع من كتاب الوليد، اردد عليه أرضه يا عباس، فردها عليه، ثم جعل لا يدع شيئاً مما كان في يد أهل بيته من المظالم إلا رَدَها مظلمة مظلمة.

فلما بلغ الخوارج سيرة عمر - رضي اللّه تعالى عنه - وما رد من المظالم، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.

ولما بلغ عمر بن الوليد رد الضيعة على الذمي، كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه: لا إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم فعلهم، وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر اللّه به أن يوصل؛ إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، وأدخلتها بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على هذا الحال، والسلام.

فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتاب عمر بن الوليد، كتب إليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، أما بعد، فقد بلغني كتابك، أما أول شأنك يا ابن الوليد، فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، ثم اشتراها ذبيان من بيت مال المسلمين، فأهداها لأبيك فحملت بك، فبئس المولود أنت، ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً، تزعم أني من الظالمين؛ إذ حرمتك وأهل بيتك مال اللّه الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أَظْلَمَ مني وأترك لعهد الله: مَن استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لأبيك، ما أكثر خصماءه يوم القيامة، وإن أظلم مني وأترك لعهد اللّه من استعمل الحجاج يسفك الدماء ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد اللّه من استعمل أعرابيُّاً جافياً على مصر، وأذن له في المعازف وآلات اللهو والشرب. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لغالية البربرية في خُمْس العرب نصيباً. فرويدا يا بن بنانة، فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لتفرغتُ لك ولأهل بيتك فوضعتهم في المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رائيه من بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والأرامل؛ فإن لكل فيك حقاً. والسلام على من اتبع الهدى، ولا ينال سلامُ اللّه القوم الظالمين.

وفي الذهبي: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد اللّه بن عمر، يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب في الصدقات، فكتب إليه بالذي سأل، وكتب إليه: إنك إن عملت بمثل عمل عمر في زمانه ورجاله في مثل زمانك ورجالك، كنت عند اللّه خيراً من عمر.

وعن ميمون بن مهران، سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أقمت فيكم خمسين عامَاً، ما استكملت العدل فيكم، إني لأريد الأمر، فأخاف ألا تحمله قلوبكم، فأخرج منه طمعاً من طمع الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا.

وعن سعيد بن عامر، حدثنا جويرية قال: دخلنا على فاطمة بنت علي بن أبي طالب، فأثنت على عمر بن عبد العزيز خيراً، وقالت: لو كان بقي لنا ما احتجنا بَعْدُ إلى أحد.

وعن عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيزة أنها دخلت عليه وهو جالس في مصلاه تسيلُ دموعه على لحيته، فقالت: يا أمير المؤمنين، أشيء حدث؟ قال: يا فاطمة، إني تقلدت من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسودها وأحمرها، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وسائر البلاد، فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فبكيت.

وعن الأوزاعي؛ أن عمر بن عبد العزيز كان جالسَاً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: تحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ فقال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه سيصير إلى بلاء وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأسارهم؟! هيهات، فقالوا: أما لنا قرابة؟! أما لنا حق؟! قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين في هذا الأمر عندي إلا سواء، إلا رجل من المسلمين حبسه عني طول شقته.

حدثنا معاوية بن صالح الحمصي، حدثني سعيد بن سويدة أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن اللّه قد أعطاك، فلو لبست، فنكس رأسه ملياً، ثم رفعه، فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.

وحدث إبراهيم بن هشام، عن أبيه، عن جده، عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لزوجته - وهي أختي فاطمة بنت عبد الملك: اغسلوا قميص أمير المؤمنين، فقالت: نفعل، ثم عدت، فإذا بالقميص على حاله، فقلت لها، فقالت: واللّه ماله قميص غيره، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وعن إسماعيل بن عياش، عن عمر بن مهاجر: كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين.

وعن عون بن المعتمر قال: دخل عمر بن عبد العزيز على زوجته ذاتَ يومٍ فقال: عندك درهم نشتري به عنباً؟ قالت: لا، أنتَ أمير المؤمنين لا تقدر على درهم؟ قال: هذا أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم.

قال يحيى بن معين: كان عمر بن عبد العزيز يلبس الفروة الكبل، وكان سراج بيته على ثلاث قصبات فوقهن طين، وكان يسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها، ثم أسرج عليه سراجه.

وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: قال لي رجاء بن حَيْوَة: ما أكمل مروءة أبيك عمر، سمرت عنده ليلة فعشى السراج، فقال لي: أما ترى السراج قد عشى؟ قلت: بلى، قال: وإلى جانبه وصيف راقد، قلت: ألا أنبهه؟ قال: لا، قلت: أفلا أقوم. قال: ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه، فقام إلى بطة الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع، وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.

وعن سليمان بن حرب: قالت لي فاطمة زوجة عمر: كان عمر إذا صلى العشاء، قعد في مسجده، ثم رفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يدعو ربه رافعاً يديه يبكي؛ حتى تغلبة عيناه، يفعل ذلك ليله أجمع.

وعن ميمون بن مهران، قال: قال لي عمر: حدثني، فحدثه حديثاً، فبكى منه بكاء شديداً، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو علمتُ لحدثتك حديثَاً ألين منه، قال: يا ميمون، إنا نأكل هذه الشجرة العدس، وهي ما علمت مرقه للقلب، مغزرة للدمعة، مذلة للجسد.

قلت: صدق - رضي الله عنه - فإن من خواص العدس ما ذكره، والسبب الخفي في ذلك البكاء إنما هو رقة في قلبه من خوف اللّه تعالى وخشيته، لكنه وجد سبيلا إلى إسناده إلى العدس لما قيل: إن فيه خاصية ذلك؛ كأنه قصد البعد عن مظان الرياء، رضي اللّه تعالى عنه.

قال مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما تقول الناس في؟ قلت: يقولون: مسحور، قال: ما أنا بمسحور والله، ولكني بخوف ربي مسحور.

قال: وكانت بنو أمية قد تبرمَتْ بعمر؛ لكونه شدَد عليهم وانتزع كثيراً مما في أيديهم مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز، فدسوا له غلاماً سقاه السمَّ، ثم دعا الغلام، وقال: ويحك، ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال: ألف دينار أُعْطيتها، وعلى أن أعتق، قال عمر: هاتها، فألقاها في بيت مال المسلمين، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.

وروى أنه وقع غلاء عظيم في زمنه، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلا منهم لخطابه، فتقدم إليه، وقال: يا أمير المؤمنين، إنا قد وفدنا إليك من ضرورة عظيمة، وحقنا في بيت المال، وماله لا يخلو: إما أن يكون للّه أو لعباد اللّه أو لك: فإن كان لله فإن اللّه غني عنه، وإن كان لعباد الله فأَتهم إياه، وإن كان لك فتصدق علينا؛ إن اللّه يحب المتصدقين. فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: هو كما ذكرت، وأمر بحوائجهم فقضيت، فهم الأعرابي بالانصراف، فقال له عمر: أيها الرجل، كما أوصلت حوائج عباد الله إليَ، فأوصل حاجتي، وارفع فاقتي إلى اللّه عز وجل، فقال الأعرابي: اللهم، اصنع بعمر بن عبد العزيز كصنعه في عبادك، فما استتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم، وهطلت السماء، فجاء في المطر بردة، فوقعت على حجر، فانكسرت، فخرج منه كاغد مكتوب فيه: هذه براءة من الله العزيز الجبار، لعمر بن عبد العزيز من النار.

وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز من أعظم الناس وألينهم وأعلمهم وأجملهم في مشيته ولبسه، ولما استخلف قومَت ثيابه وعمامته وقميصه وقباؤه وخُفاه ورداؤه، فإذا هن يعدلنَ اثنَي عشر درهماً.

وعن زوجته فاطمة؛ أنها قالت: ما اغتسل والله عمر من جنابة منذ ولي هذا الأمر، كان نهاره في أشغال المسلمين ورد المظالم، وليله في عبادة ربه.

قال الحافظ: كان لعمر بن عبد العزيز رأفة بالخَلْق عامة، وبأولاد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، من ذلك قصة زيد بن الحسن السبط - رضي الله عنهما - وذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب في حقه حين كان والياً على المدينة الشريفة من قبل الوليد إلى الوليد: أما بعد، فإن زيد بن الحسن شريف بني هاشم، فأدوا إليه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعنه يا هذا على ما استعانك عليه فأمر له بذلك.

قال عبد اللّه بن وهب: حدثني يعقوب قال: بلغني أن الوليد كتب إلى زيد بن الحسن يسأله أن يبايع لابنه، ويخلع سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد الذي عهده له أبوه عبد الملك إلى الوليد، ففرق زيد، وأجاب الوليد، فلما استخلف سليمان، وَجدَ كتاب زيد بذلك إلى الوليد فكتب إلى أبي بكر بن حزم أميره؛ ادع زيداً، فاقرأ عليه كتابه، فإن عرفه فاكتب إلي، وإن أنكره فحلفه. قال: فخاف اللّه، واعترف بذلك، وأشار عليه القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللّه بن عمر، فكتب بذلك ابن حزم إلى سليمان بن عبد الملك، وكان جواب سليمان أن اضربه مائة سوط، ودرعه عباءة ومشه حافيَاً. قال: فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول في عسكر سليمان، وقال: حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به، ومرض سليمان فمات، فحرق عمر بن عبد العزيز الكتاب، جزاه الله تعالى في فعله أفضل الجزاء.

وقال - رضي اللّه تعالى عنه - : لو كنت في قتلة الحسين، وأمرت أن أدخل الجنة، ما فعلتُ؛ حياء أن تقع علي عين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال: ما تقول في الحجاج؟ قال: ما عساي أن أقول في الحجاج، وهل الحجاج إلا خطيئة من خطاياك وأبيك، وشَرَر من نارك وناره؟! فلعنة اللّه عليك وعلى الحجاج معك، وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: ما تقول في هذا؟ قال عمر: ما أقول في هذا! هذا رجل يشتمكم؛ فإما أن تشتموه كما يشتمكم أو تعفون، فغضب الوليد، وقال: ما أظنك إلا خارجياً، فغضب عمر، وقال: ما أظنك إلا مجنونَاً، وقام وخرج مغضباً ولحقه خالد بن الريان، فقال له: ما حملك على ما أجبت به أمير المؤمنين؟ واللّه لقد ضربْتُ يدي على قائم سيفي أنتظره متى يأمرني بضرب عنقك، فقال له عمر: وكنتَ فاعلاَ لو أمرك؟ قال: نعم، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز، جاء خالد بن الريان فقام على رأسه؛ كما كان يقوم على رأس من كان قبله من الخلفاء، وكان رجل من الكتاب يضر وينفع بقلمه، فجاء حتى جلس مجلسه الذي يجلس فيه بين يدي الخلفاء، فنظر عمر إلى خالد بن الريان، فقال له: يا خالد، ضع سيفك؛ فإنك تطيعنا في كل ما أمرناك به، وضع أنت يا هذا قلمك؛ فقد كنت تضر وتنفع، وقال: اللهم، إني قد وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فواللّه ما زالا وضيعين بشر حتى ماتا.

قلت: قد تقدمت هذه الرواية على نوع مخالفة لما هنا.

وروى أنه - رضي اللّه تعالى عنه - صعد المنبر ذات يوم بمكة، فقال: أيها الناس، من كانت له ظلامة فليتقدم، فتقَدم علي بن الحسين بن علي - كرم اللّه وجهه - فقال: إن لي ظلامة عندك، فقال: وما ظلامتك؟ فقال: مقامك هذا الذي أنت فيه، فقال: إني لأعلم ذلك، ولكن لو علمت أن الناس يتركونه لك واللّه لتركته.

وروى عن الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر قال: كان العبد الصالح أبو حفص عمر بن عبد العزيز يهدي إلينا الدراهم والدنانير في زقاق العسل؛ خوفاً من أهل بيته.

قال الكلبي: لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، وقدمت عليه الشعراء كما كانت تقدم على الخلفاء، فأقاموا ببابه أيامَاً، لم يؤذن لهم في الدخول، حتى قدم عدي بن أرطاة - وكانت له منه مكانة - فتعرض له جرير، وسأله أن يستأذن لهم، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك لهم أيام لا يؤذن لهم، وأقوالهم نافذة وسهامهم مسمومة، فقال عمر: يا عدي، مالي وللشعراء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم مُدِحَ، وأعطَى، وفيه أسوة لكل مسلم، فقال: ومن مدحه؟ قال: العباس بن مرداس السلمي، فكساه حلة، وقال: يا بلال، اقطع لسانه عني، قال: أتروي قوله؟ قال: نعم، قال عمر: قل، فأنشد: من الطويل:

رَأَيتُكَ يا خَيرَ البريةِ كلهَا ... بخيرِ كتاب جئتَ بالحَق مُعلِمَا

وقررتَ بالإسلامِ أمراً مدمسَا ... وأطفَأْتَ بالبرهانِ جمراً مُضَرَمَا

فَمَنْ مُبلِغٌ عني الرسُولَ محمدا ... فكُلُّ امرئٍ يُجزَى بما قد تَكَلَّما

أقمت سَبِيلَ الحَق بعد اعوجاجِهِ ... وكان قديماً وَجهُهُ قد تَجَهمَا

تعالَى عُلواً فوق عَرْشِ إلاهنا ... وكان جَلالُ اللّه أعْلَى وأعظَمَا

قال عمر: فمن بالباب من الشعراء؟ قال عدي: يا أمير المؤمنين، عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي، فقال: لا قرَبه اللّه ولا حياه، أليس هو القائل: من الطويل:

أَلاَ لَيْتَ أني حينَ تدنُو منيتي ... شَمَمْتُ الذي ما بَين عينيكِ والفَمِ

وباتَت سُلَيمَى في المنامِ ضجيعَتِي ... هنالكَ أو في جَنَّةٍ أو جَهَنمِ

فليته عدو اللّه تمناها في الدنيا، ثم رجع إلى العمل الصالح، واللّه لا يدخل علي، فمن بالباب غيره؟ فقال: كثير عزة، قال: أو ليس هو القائل: من الكامل:

رُهبَانُ مَديَنَ والذين عَهِدتهُمْ ... يَبْكُونَ من حَر العذابِ قُعُودا

لو يسمَعُونَ كما سَمِعتُ كلامَهَا ... خَرُوا لعزةَ رُكَعاً وسُجُودا

عَد عن ذكره، من بالباب غيره؟ قال: الأحوص الأنصاري، قال: أبعده اللّه وأسحقه، أليس هو القائل، وقد أفسد على رجل جاريته، حتى أَبَقَتْ من سيدها: من المنسرح:

أللهُ بَينِي وَبَين سَيدِهَا ... يَفِرُّ مِني بِهَا وَأَتْبَعُهُ

لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال: الفرزدق همام بن غالب التميمي، قال: أليس هو القائل يفتخر بالزنى: من الطويل:

هُمَا دَلَّيَانِي مِن ثمانينَ قَامَة ... كَمَا انْقض باز أَقتَمُ الريشِ كاسِرُهْ

فلما استَوَت رِجلايَ في الأرضِ قالتا ... أَحَي يُرَجى أم قتيل نُحَاذِرُهْ؟!

لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال عدي: الأخطل التغلبي، قال: هو الكافر والقائل: من الوافر:

وَلَستُ بصائم رمَضَانَ عمري ... ولَستُ بآكِل لَحمَ الأضاحي

ولست بزَاجِرٍ جَمَلا بكوراً ... إلى بطحاءِ مكة للنجاحِ

ولستُ بِقَائِمٍ كَالعَيرِ يدعُو ... قُبَيل الصبْحِ: حَي عَلَى الفَلاحِ

ولكني سأشرَبُهَا شمولاَ ... وأسجُدُ عند مبتلجِ الصباحِ

والله لا وطئ لي بساطاً، من بالباب غيره؟ قال عدي: جرير بن عطية الخطفي، قال: هو القائل: من الكامل:

لولا مراقبَةُ العيونِ أَرَيْنَنَا ... حِدَقَ المَهَا وَسَوالِفَ الآرامِ

طَرَقَتْكَ صائدَةُ القلوبِ ولَيسَ ذا ... وَقْتُ الزيارة فارْجِعِي بسَلامِ

فإن كان ولا بد، فائذن لجرير، فخرج عدي فأذن له، فدخل وهو يقول: من الكامل:

وَسِعَ الخلائِقَ عَدْلُهُ ووقارُهُ ... حتَى ارعَوَى وأقامَ مَيْلَ المائِلِ

إِني لأَرجُو مِنْكَ خَيراً عاجلا ... فالنفْسُ مُولَعَةٌ بحُب العاجِلِ

فلما حضر بين يديه، قال له: اتق اللّه ولا تقل إلا حقاً، فقال: من البسيط:

كَم باليمامة مِن شعثاءَ أرملةٍ ... ومِنْ ضعيفٍ سقيمِ الصوتِ والنَظَرِ

مِمنْ يَعُدُكَ تكفي فَقْدَ والدِهِ ... كالفَرْخِ في العُشِّ لم يدرجْ ولم يَطِرِ

إنا لنَرْجُو إذا ما الغيْثُ أخلَفَنَا ... مِنَ الخليفةِ ما نَرْجُو من المَطَرِ

نَالَ الخلافَةَ إذْ كانَتْ له قَدَرَاً ... كما أتى رَبهُ موسَى على قَدَرِ

هذي الأرامِلُ قد قضيْتَ حاجتها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ؟!

وهي طويلة، فقال: واللّه يا جرير، ما ملك عمر سوى مائة درهم، يا غلام، ادفعها له، ودفع له حلي سيفه، فخرج جرير إلى الشعراء، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وأنا عنه راض، وأنشأ يقول: من الطويل:

رَأَيْتُ رُقَى الشيْطَانِ لا تستفزهُ ... وقد كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الجِن رَاقيا

وفي الطبقاتِ لابن سعد، عن عمر بن قيس: لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، سمع صوت لا ندري قائله يقول: من الطويل:

مِنَ الآنَ قَد طَابَت وَقر قرارُهَا ... عَلَى عُمَرَ المَهْدِي قَامَ عَمُودُهَا

وكان عمر عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً ورعاً تقياً صادقَاً، وهو أول من اتخذ دار المضيف من الخلفاء، وأول من فرض لأبناء السبيل، وأزال ما كان بنو أمية تذكر به علياً على المنابر، وكتب إلى الآفاق بتركه، وجعل مكان ذلك: " إِنَّ اَللَهَ يأمُرُ بِالعَدلِ وَاَلإحساَنِ... " الآية " النحل: 90 " ، فامتدحه الشعراء بذلك: من الطويل:

وَليتَ فَلَمْ تَشتُمْ علياً ولم تُخِفْ ... بَرياً ولم تتبعْ سجيَّةَ مُجْرِمِ

وقُلْتَ فَصَدَّقْتَ الذي قُلْتَ بالذي ... فعَلْتَ وأضحَى راضياً كُل مسلِمِ

فما بَين شرقِ الأرضِ والغَرْبِ كلها ... منادِ ينادي مِنْ فصيحٍ وأعجمِ

يقولُ: أمير المؤمنينَ ظَلَمْتَنِي ... بِأَخذِكَ ديناري ولا أَخْذِ درهمِي

فَأَرْبِحْ بها مِنْ صفقةٍ لمبايعٍ ... وأكْرِمْ بها مِنْ بَيْعَةِ ثَم أَكْرِمِ

وكتب إلى عماله ألاَ يقيد مسجون بقيدة فإنه يمنع من الصلاة، وكتب - أيضاً - إلى عماله: إذا دعتكم قدرتكم إلى ظلم الناس، فاذكروا قدرة اللّه عليكم، ونفاد ما تأتون إليهم، وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بِسَبَبِهِمْ.

ومزاياه كثيرة، ومن أرادها، فعليه بالحلية وغيرها مما أفرد لذلك.

وكان مرضه بدير سمعان بحمص، ولما احتضر قال: إلهي، أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا اللّه، فتوفي لخمس مضين من شهر رجب، سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل: أربعين، مدته سنتان وخمسة أشهر وأربعة عشر يومَاً، رحمه الله ورضي اللّه تعالى عنه وأرضاه.

ومما رثي به - رحمه اللّه - قول الشريف الرضي الموسوي نقيب الأشراف ببغداد أبو القاسم، علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن موسى بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه وعنهم - قوله فيه، وقد جرى ذكر عمر بن عبد العزيز، وما تفرد به عن أهل بيته من الصلاح والعدل وجميل السيرة، وما كان منه من قطع سب علي على المنابر - رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه - إذ عمر بن عبد العزيز توفي بعد تمام المائة الأولى بسنة، والشريف الرضي توفي أواخر القرن الرابع، أو أول الخامس، فلم يدرك وفاته، وإنما قال هذه القصيدة لما جرى ذكره بما ذكر فقال: من الخفيف:

يَا بْنَ عَبْدِ العزيز لَوْ بَكَتِ العَي ... ن فَتى مِنْ أُمَيةٍ لَبَكَيْتُكْ

غَيْرَ أني أَقُولُ إنَّكَ قد طِب ... تَ وَإِن لم يَطِبْ ولم يَزْك بَيتُك

أنت نَزهتَنَا عَنِ السب والقَذ ... فِ فلو أَمْكَنَ الجَزَا لَجَزيْتُكْ

وَلَوَ أني رَأَيتُ قَبْرَكَ لاسْتَح ... يَيْتُ مِن أن أُرَى وما حَييْتُك

وَقَلِيلٌ أَن لو بَذَلْتُ دِمَاءَ ال ... بُدْنِ صِرفَاً على الثرَى وسَقَيْتُكْ

دَيرُ سمعانَ لا أَغَبكَ غادٍ ... خَيْرُ ميتٍ من آل مرْوَانَ مَيْتُكْ

أنتَ بالذكْرِ بين عَيْنِي وقلبي ... إن تَدَانَيْتُ مِنْكَ يَوْمَاً أَتَيْتُكْ

وإذَا حركَ الحَشَا خَاطِر من ... ك تَوَهمتُ أَننِي قَدْ رَأَيْتُكْ

قَرُبَ العَذلُ مِنكَ لَما نَأَى الجَوْ ... رُ بِهِمْ فاجتَوَيْتَهُمْ وَاجْتَبَيْتُكْ

وَلَوَ أني مَلَكتُ دفعاً لما نَا ... بَكَ مِن طَارِقِ الرَّدى لَفَدَيْتُكْ

رحمه الله تعالى.