سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
خلافة يزيد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين أبو خالد الأموي، ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان معقود في تولية عمر بن عبد العزيز؛ كما ذكرناه.
وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، ولد سنة إحدى أو اثنتين وسبعين، وكان جسيماً أبيض مدوَر الوجه أفقم لم يشب.
وقيل لعمر بن عبد العزيز حين احتضر: اكتب ليزيد فأوصه بالأمة، فقال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك، ثم كتب:
أما بعد، فاتق اللّه يا يزيد، وإياك أن تحركك الصرعة بعد الغفلة حين لا تُقَال العثرة، ولا تقدر على الرجعة؛ إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام.
ولما ولي يزيد، عمل بسيرة عمر بن عبد العزيز أربعين يوماً، فدخل عليه من الذين أضلهم الله على علم أَربَعُونَ نفراً من الشيوخ من أهل دمشق، وحلفوا له باللّه ما على الملك من سؤال ولا عذاب في لَذات نفسه؛ لأنه مشتغل بأمور الناس - نعوذ بالله مما سيلقى الظالمون من شديد العذاب الأليم! وخدعوه بذلك، فانخدع لهم، وكان كلامهم موافقاً لهواه، فانهمك في اللذات واللهو والطرب، ولم يراقب اللّه، ولم يخشه.
وروى أن ابن شهاب عبد اللّه بن مسلم الزهري، دخل عليه، فقال له يزيد: هاهنا حديث حدثنا به أهل الشام، فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثوا أن اللّه تعالى إذا استرعى عبداً عباده، كتب له الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات، فقال ابن شهاب: كذبوا يا أمير المؤمنين، أنبي خليفة أقرب عند اللّه أم خليفة غير نبي؟ قال: بل نبي خليفة أقرب، قال: أحدثُكَ بما لا تشكُّ فيه، قال اللّه تعالى: " يَا دَاودُ إِنا جَعلناك خليفَة في اَلأَرضِ فاحكمُ بَين اَلناسِ... " الآية " ص: 26 " ، يا أمير المؤمنين، هذا في حق خليفة نبي، فما ظنك بخليفة غير نبي؟! يحكى عن مؤدب يزيد هذا؛ أنه قال له في صغره وقت تعلمه، وقد لحن: لم لحنت؟ فقال: الجواد قد يعثر، فقال له المؤدب: إي واللّه، ويضرب حتى يستقيم، فقال يزيد: وربما يرمح سائسه، فيكسر أنفه.
وفي تاريخ ابن عساكر: ذكر أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليمان بن عبد الملك جارية من عثمان بن سهل بن حنيف الأنصاري بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها حَبابة - بتشديد الباء الأولى - وأحبها حباً شديداً، فبلغ أخاه سليمان ذلك، فقال: لقد هممت أن أحجر على يزيد، فبلغ ذلك يزيد، فباعها؛ خوفَاً من أخيه سليمان، فلما أفضت الخلافة إليه بعد سليمان، قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: نعم، قالت: ما هو؟ قال: حَبابة، فاشترتها له وهو لا يعلم، وزينَتهَا وأجلستها من وراء الستر، ثم قالت له: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال لها: أوما أعلمتك أنها حبابة، فرفعت الستر، وقالت: ها أنت وحَبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنده وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة.
وأنه قال يوماً: بعض الناس يقولون: إنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر، وإني أريد أن أكذبهم في ذلك، وأقبل على لذاته واختلَى مع حبابة، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل خبر يُكرَهُ، فبينما هو في تلك الحال في صفو عيش وزيادة فرح وسرور، إذ تناولت حَبابة حَبة رمان، وهي تضحك، فغَصتْ بها، فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكدر عيشه، وذهب سروره، ووجد عليها وجداً شديداً، وتركها أيامَاً لم يدفنها، بل يقبلها ويرتشفها حتى أنتنت، وجافت، فأمر بدفنها، ثم نبشها من قبرها، فلم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوماً، وكان مرضه بالسل، ومما قال فيها: من الطويل:
فَإِن تَسلُ عنكِ النفسُ أَو تَدَعِ الهَوَى ... فباليَأسِ تَسْلُو عَنْكِ لا بالتَجَلُّدِ
وَكُل خلِيلٍ زَارَني فَهوَ قَائِل ... مِنَ أجلِكِ هَذَا هَامَة اليَوْمِ أَوْ غَدِ
قال أبو مسهر: مات يزيد بأربد بمرض السل، وقال غيره: مات لخمس بقين من شعبان، سنة خمس ومائة، وكانت خلافته أربع سنين وشهراً، عمره خمس وأربعون، وقيل: تسع وعشرون.