في الدولة الأموية: خلافة الوليد بن يزيد

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة الوليد بن يزيد

لما توفي هشام بالرصافة، ولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد، وكان متلاعباً، وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه، وكان يضرب من يؤخذ في صحبته، فخرج الوليد في خاصته ومواليه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم، ليكاتبه بالأحوال، فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيماً في البرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر، فسأل عن كاتبه عياض فقال: إنه لم يزل محبوساً حتى مات هشام، فأرسل إلى الخزان أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاماً من كفن، ثم خرج عياض بعد موت هشام من الحبس، وكتب أبواب الخزائن، ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العباس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فَيُحْصي ما فيها من أموال هشام وولده وماله وحشمه، إلا مسلمة بن هشام، فإنه كان يراجع أباه هشاماً بالرفق بالوليد، فانتهى لما أمره به الوليد، ثم استعمل الوليد العمال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم، وكتب مروان بيعته، واستأذن في القدوم، ثم عهد الوليد من سنته لابنيه الحكم وعثمان بعده، وجعلهما ولي عهده، وكتب بذلك إلى العراق وخراسان.

قال الذهبي: كان أبوه يزيد بن عبد الملك حين احتضر، عهد بالأمر إلى هشام ابن عبد الملك وأخيه بأن يكون العهد من بعده لولده الوليد بن يزيد، فلما مات هشام، بويع له بالخلافة يوم موت عمه هشام، وهو إذ ذاك بالبرية فاراً من عمه هشام؛ لأنه كان بينه وبين عمه هشام منافسة؛ لأجل استخفافه بالدين، وشربه الخمر، واشتهاره بالفسق والفجور، فهم هشام بقتله ففر وصار لا يقيم بأرض خوفاً من هشام، فلما كان الليلة التي قدم عليه البريد في صبحها بالخلافة، قلق تلك الليلة قلقاً شديداً، فقال لبعض أصحابه: ويحك قد أخذني الليلة قلق، فاركَبْ بنا حتى ننبسط، فسار مقدار ميلين، وهما يتحادثان في أمر هشام، وما يكتب إليه من التهديد والوعيد، ثم نظرا فرأيا في البعد رهجاً وصوتاً، فقالا: اللهم، أعطنا خيرهم، فلما قدم البريد، وأثبتوا الوليد معرفة، ترجلوا وجاءوا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت، ثم قال: ويحكم أمات هشام؟. قالوا: نعم، ثم أعطوه الكتب فقرأها. وسار مِنْ فوره إلى دمشق، فأقام على اشتهاره بالمنكرات، وتظاهر بالكفر والزندقة.

قال ابن عساكر وغيره: انهمك الوليد في شرب الخمر ولذاته ورفَض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو والتلذذ مع الندماء والمغنين، وكان يضرب بالعود، ويوقع بالطبل، ويمشي بالدف، وكان قد انتهك محارم الله حتى قيل له: الفاسق، وعرف بذلك، ومع هذا: كان أكمل بني أمية أدباً وفصاحَة وظرفاً وأعرفهم باللغة والنحو والحديث، وكان جوادَاً مفضالاً، ولم يكن في بني أمية أكثر منه إدماناً للشراب والسماع، ولا أشد مجوناً وتهتكاً منه، واستخفافَاً بالدين وأمر الأمة، يقال: إنه واقع جارية وهو سكران وجاءه المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فحلف ألاَ يصلي بالناس إلا هي، فلبست ثيابه وصلت بالمسلمين، وهي جنب سكرَى، وقيل: إنه صنع بركة، فملأها خمراً، وكان إذا طرب، ألقى نفسه فيها ويشرب منها حتى يظهر النقص في أطرافها.

وحكى الماوردي في كتاب أدب الدين والدنيا، عنه: أنه تفاءل ذات يوم في المصحف، فخرج له قوله تعالى: " وَاَسْتَفتحوُا وخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيد " " إبراهيم: 15 " فأمر بالمصحف فنصب ورماه بالسهام حتى مزقه، وهو يقول: من الوافر،

أَتُوعِدُ كُل جَبارٍ عَنِيد ... فَهَا أنا ذَاكَ جَبَارٌ عَنِيدُ

إذا مَا جِئتَ ربكَ يَوْمَ حشر ... فقُلْ يا رب مَزَّقَني الوَلِيدُ

وقد جاء في الحديث: " يكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو شر من فرعون " ، فتأوله العلماء بالوليد بن يزيد هذا، فخلعه أهل دمشق لما ذكر، وقتله يزيد ابن عمه الوليد في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته سنة واحدة.

قال العلامة ابن خلدون: ولقد ساءت المقالة فيه كثيراً، وكثير من الناس نفوا عنه ذلك، وقالوا: إنها شناعات الأعداء ألصقوها به.

قال المدائني: دخل ابنه المعمر بن يزيد على الرشيد هارون، فسألة: ممن أنت.؟ فقال: من قريشٍ، فقال الرشيد: من أيها؟. فسكت ووجم، فقال له الرشيد: قل، وأنت آمن، ولو أنك مروان، فقال: أنا المعمر بن يزيد، فقال: رحم اللّه عمك، ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة هو مجمع عليه؛ ارفع حوائجك، فرفعها إليه وقضاها.

وقال شبيب بن شبة: كنا جلوساً عند المهدي، وذكر الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام ابن علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن اللّه تعالى أعدل من أن يولي خلافة النبوة، وأمر الأمة زنديقاً؛ إنه أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه وشربه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة، يطرح الثياب التي عليه المطيبة المصبغة، ثم يتوضأ فيحسن الوضوء، ويؤتي بثياب بيض نظيفة، فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ، عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه؛ أترى هذا من فعال من لا يؤمن باللّه؟! فقال له المهدي: بارك اللّه فيك يا بن علاثة، وإنما كان الرجل محسداً في خلاله، ومزاحماً بكبار عشيرته، وأهل بيته من عمومته، مع لهو كان يصاحبه أوجَدَ لهم السبيل على نفسه، فكان من خلاله قرض الشعر الوثيق، ونظم الكلام البليغ.

قال يوماً لهشام يغريه في مسلمة: إن عقبي من بقي لخوف من مضى، وقد أمكن بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، فتزودوا؛ فإن خير الزاد التقوى فأعرض هشام وسكت القوم.

وأما حكاية مقتله: فإنه لما تعرض له بنو عمه، ونالوا من عرضه، أخذ في مكافأتهم، فضرب سليمان ابن عمه هشام مائة سوط، وحلقه وغربه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته، وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته، وحبس عدة من ولد الوليد، وطعنوا عليه في تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما، وكان أشد الناس عليه يزيد بن الوليدة لأنه يتنسك؛ فكان الناس إلى قوله أميل؛ فخرج عليه يزيد بن الوليد المذكور الملقب بالناقص، وتغلب على دمشق.