في الدولة الأموية: خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

لما خلع أهل دمشق الوليد بن يزيد بن الوليد المذكور، ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية، فإنه كان غائباً بها، فجهز إليه الجيش مع عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ومع منصور بن جمهور، وقد كان الوليد حين بلغه الخبر، بعث عبد اللّه بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فأقام بطريقه قليلاً، ثم بايع ليزيد، وأشار على الوليد وأصحابه أن يلحق بحمص؛ فيتحصن بها، قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عبد الله بن عنبسة، وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل، فسار إلى قصر النعمان بن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحاك وغيرهم، وجاءه كتاب العباس بن الوليد بأنه قادم، ولما وصل عبد العزيز ومنصور اللذان أرسلهما يزيد صحبة الجيش، بعث إليه وإلى أصحابه زياد بن الحصين الكلبي يدعوانهم إلى الكتاب والسنة، فقتله أصحاب الوليد فقَاتلوهم حينئذ، واشتد القتال بينهم، وبعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العباس بن الوليد في أن يأتي الوليد، فجاء به منصور كرهاً إلى عبد العزيز، وألزمه البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا راية باسمه فتفرقْ الناس عن الوليد، واجتمعوا على العباس وعبد العزيز، وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف فأبى، ثم قاتل الوليد قتالاً شديداً؛ حتى سمع النداء بقتله وسبه من جوانب الحومة، فدخل القصر وأغلق الباب، وطَلَبَ الكلام من أعلى القصر، فكالمه يزيد بن عنبسة السكسكي، فذكره بحقوقة وفعاله فيهم، وزيادته في أرزاقهم، فقال ابن عنبسة: ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاكك ما حرم اللّه تعالى، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر اللّه تعالى.

فقال: حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقْتَ، فيما أحل اللّه سعة عما ذكرتَ، ثم رجع إلى الدار فجلس وأخذ المصحف يقرأ، وقال: يوم كيوم عثمان، فتسوروا عليه، وأخذ يزيد بن عنبسهّ بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه، واحتزوا رأسه وساروا به إلى يزيد، فأمر بنصبه، فتلطف له يزيد بن فروة في المنع من ذلك، وقَال: هذا ابن عمك وخليفة، وإنما تنصب رءوس الخوارج، ولا اَمن أن يغضب له أهل بيته، فلم يجبه يزيد إلى ذلك، وأطافه بدمشق على رمح وبعثه، إلى أخيه سليمان بن يزيد، وكان معهم عليه. وكان قتله في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة؛ كما تقدم ذكر ذلك.

ولما قتل، خطب يزيد بالناس فذمه وثلبه، وأنه قتله لأجل ذلك، ثم وعدهم بحسن النظر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسد الثغور والعدل في العطاء والأرزاق، ورفع المظالم، وإلا فلكم ما شئتم من الخلع، وكان يسمى الناقص؛ لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الجند وهي عشرة عشرة، وردها كما كانت أْيام هشام، وقيل: لنقصان كان في أصابع رجليه، وأول من سماه بذلك مروان ابن محمد.

ولما قتل الوليد، كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم على أرمينية، وكان على الجزيرة عبدة بن رباح الغساني، وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه، فبعث معه مروان بن عبد الملك، فلما انصرفوا من الصائفة، لقيهم بحران خبر مقتل الوليد، فسار عبدة عن الجزيرة إلى الشام، فوثب عبد الملك بالجزيرة وحران، فضبطهما وكتب إلى أبيه مروان بأرمينية يستحثه طالباً بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها، وكان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة، وكان هشام قد حبسه على إفساد الجند بإفريقية عند مقتل كلثوم بن عياض، وتشفع فيه مروان، فأطلقه واتخذ عنده يداً، فلما سار من أرمينية، دخل ثابت بن نعيم إلى أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات، واجتمع له الكثير من جند مروان وناهضه القتال، ثم غلبهم وانقادوا له، وحبس ثابت بن نعيم وأولاده، ثم أطلقهم من حران إلى الشام، وجمع نيفاً وعشرين ألفاً من الجزيرة يسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه بشرط ما كان عبد الملك ولي أباه محمداً من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك، وبايع له مروان وانصرف، وأقام يزيد في الخلافة والأمور مضطربة عليه، وكان مظهراً للنسك وقراءة القرآن وأخلاق عمر بن عبد العزيز، وكان ذا دين وورع.

قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ولي يزيد بن الوليد، وكان قدرياً، فدعا الناس إلى القدر وحملهم عليه، وبايع لأخيه إبراهيم بن الوليد بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك؛ حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض أصابه، ثم توفي يزيد آخر سنة 126 ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته خمسة أشهر وعشرين يوماً، وعمره تسع وثلاثون سنة، وقيل: أربعون.

خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم

لما مات يزيد بن الوليد، وجلس في مكانه إبراهيم أخوه، لم يبايعه مروان، وتعلل بأشياء، ونهض للخلافة، وبويع في خامس عشر شهر صفر سنة سبع وعشرين ومائة. وكان قبل ذلك والياً على أرمينية؛ كما تقدم ذكره، وصار سلطانه في الشام ومصر فقط، وكان زمانه زمان حرب وفتن واختلاف، فاضطربت أموره، فسار إلى دمشق، فلما انتهى إلى قنسرين، وكان عليها بشر بن الوليد عاملاً لأخيه يزيد، ومعه أخوهما مسرور، فدعاهما مروان إلى بيعته، ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان، فلما تراءى الجمعان، مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان، وأسلموا بشراً وسروراً، فأخذهما مروان وحبسهما، وسار بأهل قنسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا قد امتنعوا من بيعة إبراهيم فوجه إليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك في جند أهل دمشق، وكان يحاصرهم، فلما دخل مروان، رحل عبد العزيز عنهم وبايعوا مروان، وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفاً، ومروان في ثمانين ألفاً، فدعاهم إلى الصلح، وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحَكَم وعثمان وليي عهده، فأبوا وقاتلوه، وسرب عسكراً جاءوهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن فيهم أهل حمص، فقتلوا منهم نحواً من خمسة عشر ألفاً، وأسروا مثلها، ورفع مروان القتل، وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد، وكان ممن شهد مقتل الوليد، وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق، فاجتمع مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج، وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان؛ خشية أن يطلقهما مروان؛ فيثأران كل منهما، وولوا ذلك يزيد بن خالد، فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما، وأخرج يوسف بن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس؛ فلم يطيقوا فتحه، وأعجلتهم خيل مروان، وأنهب سليمان بن هشام بيت المال، وخرج من المدينة، وعمر مولى الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد، وصلبوه على باب الجابية، وجاء مروان فدخل دمشق وأُنبِئ بابن الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفنهما، وأتى بأبي محمد السفياني في قيوده، فسلم عليه بالخلافة، وقال: إن وليي العهد جعلاها لك، ثم بايعه، وسمع الناس فبايعوه، وكان أولهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وأهل حمص، ثم رجع مروان، واستأمن له إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام، وقدما عليه، وكان قدوم سليمان بمن معه من أخوته وأهل بيته ومواليه، فبايعوا لمروان في سنة تسع وعشرين ومائة في رمضان منها.

قيام أبي مسلم الخراساني بالدعوة لبني العباس بخراسان

ظهر بها في مدينة مرو، فدانت له البلاد، وهزم الأحزاب المروانية، وكان أبو مسلم داعياً لإبراهيم بن محمد الإمام بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أخي السفاح عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، وكان إبراهيم المذكور بالقرية المعروفة بالكرار والحميمة والكتب من أبي مسلم تصل إليه بما اتفق من الفتوحات، وكان قبله نصر بن سيار عاملاً على خراسان لمروان، فحاصره أبو مسلم حتى خرج متخفيَاً، فكتب نصر إلى مروان يستنجده بهذه الأبيات يقول: من الوافر،

أَرَى خَلَلَ الرمادِ وميضَ نَارٍ ... وَيوشِكُ أن يِكُونَ لها ضِرَامُ

فإِن النارَ بالعيدان تُذكى ... وإنَّ الحَربَ أوَّلها كَلاَمُ

فَإن لم تُطفِئوها تُخرِجُوهَا ... مُسَجرَة يشيبُ لها الغُلاَمُ

أقولُ من التعجب لَيْتَ شعري ... أأيقاظْ أُمَيهُ أَم نِيَامُ؟!

فَإن يكُ قومنا أَضحَوا نياماً ... فقل قُومُوا فَقَدْ حَانَ القيامُ

تعَزي عَن رجالِكِ ثُم قولي ... عَلَى الإسلامِ والعَربِ السلامُ

فوجده الرسول مشغولا بحرب الضَحاك بن قيس، فكتب إليه الجواب: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقَال نصر لأصحابه: أما إن صاحبكم قد أعلمكم أن لا نصر عنده، وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثور مروان على كتاب إبراهيم الإمام ابن محمد لأبي مسلم يوبخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر؛ إذ أمكنته، ولا يطاوله في المحاصرة، ويأمره ألا يدع بخراسان متكلماً بالعربية. فلما قرأ مروان الكتاب، بعث إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو يومئذ عامله على دمشق يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء أن يسير إلى الحميمة للقبض على إبراهيم الإمام، فقبضه عامل البلقاء وشده وثاقَاً، وكان القبض عليه في مسجد الحميمة، وأرسل به إلى الوليد، وأرسل به الوليد إلى مروان، فحبسه بحران ثم قتله.

وكان إبراهيم قد عهد بالوصية إلى أخيه عبد اللّه بن محمد الملقب بالسفاح ابن الحارثية، وأرسل إليه بالجامعة وأمره أن يسير على ما ذكر فيها؛ فإن الأمر صائر إليه، وإن بني العباس موطدة لا محالة، فلما اشتهر قتل إبراهيم الإمام، بايع أبو مسلم وغيره من الدعاة أبا العباس عبد الله السفاح ابن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، فبث دعوته في سائر الأمصار، وأظهر لبس السواد، وسير أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وسار مروان بن محمد إليه من حران في مائة وعشرين ألف قارح، ونزل بالزاب - اسم نهر قرب الموصل - وبعث السفاح سلمة بن محمد في ألفين، وعبد اللّه الطائي في ألف وخمسمائة، وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، وورس بن نضلة في خمسمائة كل ذلك إمداد لأبي عون.

ثم ندب أهل بيته إلى السير إلى أبي عون، فأرسل عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه ابن عباس، فسار وقدم علي أبي عون، فتحول له عن سرادقه بما فيه، ثم أمر عنبسة ابن موسى في خمسة آلاف، فعبر النهر من الزاب في أول جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقاتل عساكر مروان إلى المساء، فرجع فعقد مروان الجسر من الغد، وقدم ابنه عبد اللّه فعبر، فبعث عبد الله بن علي عم السفاح المذكور المخارق ابن غفار في أربعة آلاف نحو عبد اللّه بن مروان، فسرح ابن مروان الوليد بن معاوية ابن مروان بن الحكم، فانهزم أصحاب المخارق، وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رءوس القتلى، فقال له: أنت المخارق؟ قال: لا، قال: فتعرفه في هذه الرءوس؟ قال: نعم، هو ذا، فخلى سبيله.

وقيل: بل أنكر أن يكون في الرءوس؛ فخلى سبيله.

ثم عاجلهم عبد اللّه بن علي بالحرب، وعلى ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بن معاوية، فأرسل إليه مروان في الموادعة، فأبى، وحمل الوليد بن معاوية وهو صهر مروان على ابنته، فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي، فأمر الناس عبد اللّه بن علي فترجلوا، ومشى قدماً ينادي: يالثارات إبراهيم، وبالشعار: يا محمد يا منصور، وأمر مروان القبائل أن يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته، ثم ظهر له الخلل فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا، فأخذوها من غير قتال، فبعث ابنه عبد الله يصدهم عن ذلك، فتنادوا بالفرار، فانهزموا، فقتل منهم خلق كثير، وقطع مروان الجسر فغرق منهم أكثر ممن قتل.

قال الكاتي في تاريخه: قيل: كان سبب هزيمته أنه نزل عن فرسه في الحرب ليزيل حقنه، فهرب الفرس إلى وسط العسكر، فتوهموا أنه قتل، فقيل: ذهبت الدولة بالبولة.

وكانت الهزيمة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

ومضى مروان في هزيمته، ونظر إلى أصحابه مع كثرة عَددهم وقوة عُددهم ولِمَا قد ظَهَرَ فيهم من الفشل، وما حل بهم من الجزع والوجل، فقال: إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة.

فأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام، واجتاز عسكر مروان بما فيه، وكتب بالفتح إلى ابن أخيه عبد الله السفاح، وسار مروان منهزماً إلى مدينة الموصل، وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم، وقيل لهم: هذا أمير المؤمنين، فتجاهلوا، وقالوا: أمير المؤمنين لا يفرُّ، ثم أسمعوه الشتم والقبائح، فسار إلى حران، وبها أبان ابن أخيه يزيد بن محمد، فأقام بها نحواً من عشرين ليلة، وسار عبد الله بن علي المذكور على أثره إلى الموصل، فملكها، وعزل هشاماً التغلبيَ، وولى مكانه محمد بن صول، ثم سار في أتباع مروان إلى حران، فخرج منها مروان، وترك عليها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص، وجاء عبد اللّه إلى حران، فلقيه أبان مفرداً، فأَمنه وملك الجزيرة.

ولما بلغ مروان حمص، أقام بها ثلاثاً وارتحل، فاتبعه أهلها، لينهبوه فقاتلهم وهزمهم، وأثخن فيهم، وسار إلى دمشق، وعليها الوليد ابن عمه، فأوصاه بقتال عروة، وسار إلى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إليه عبد اللّه بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، فأجاره، ثم سار عبد اللّه بن علي في أثره من حران بعد أن هدم الدار التي حبس فيها مروان أخاه إبراهيم الإمام، وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن على بعثه السفاح مدداً في أربعة آلاف، فسار إلى قنسرين فأطاعوه، ثم إلى حمص كذلك، ثم إلى بعلبك، ثم لما نزل مزة دمشق من قرى الغوطة، قدم عليه أخوه صالح بن علي بعثه السفاح مدداً في ثمانية آلاف، وأقام عبد اللّه بن علي خمس عشرة ليلة، وارتحل يريد فلسطين، فأجفل مروان إلى النيل، ثم إلى الصعيد، ونزل صالح بن علي الفسطاط، يعني: مصر، فتقدمت عساكره، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم، ودلوهم على مكانه ببوصير.

ذكر العلامة الدميري في حياة الحيوان: أن مروان لما أن وصل إلى أبو صير، وهي قرية عند الفيوم، قال: ما اسم هذه القرية؟ قيل له: أبو صير، فقال: وإلى اللّه المصير، ثم دخل كنيسة، فبلغه أن خادماً نم عليه، فأمر به فقطع رأسه، وسل لسانه، وألقى على الأرض، فجاءت هرة، فأكلته، ثم سار إليه أبو عون وعامر بن إسماعيل المذحجي، فأدركوه ببوصير، ثم هجم على الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل المذحجي، فخرج مروان من باب الكنيسة وفي يده السيف، وقد أحاطت به الجنود، وصفت حوله الخيول، فتمثل ببيت العجاج بن حكيم السلمي: من الكامل:

مُتَقَلِّدِينَ صَفَائِحاً هِنْدِية ... تَتْرُكْنَ مَنْ ضَرَبُوا كَأَنْ لَمْ يُولَدِ

ثم قاتل حتى قتل، فأمر عامر برَأْسه، فقطع في ذلك المكان، وسل لسانه، وألقى على الأرض، فجاءت تلك الهرة بعينها، فخطفته وأكلته، فقال عامر: لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا، لكان كافياً، لسان مروان في فَمِ هرةٍ، وفي ذلك يقول شاعرهم: من البسيط:

قَدْ يَسرَ اللَهُ مِصْراً عَنْوَةَ لكُمُ ... وأهلَكَ الظالِمَ الجَبارَ إِذْ ظَلَمَا

فَلاَكَ مِقْوَلَهُ هِر يُجَرْجِرُهُ ... وَكَانَ عَامِرُ مِن ذي الظلْمِ منْتَقِمَا

وبعث عون بالرأس إلى صالح بن علي، فبعث به صالح إلى السفاح، ووجد عامر بن إسماعيل المذكور نساء مروان وبناته في كنيسة بوصير، وقد وكل بهن خادماً يقتلهن بعده، فبعث بهن إلى صالح، ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء عليهن على قتلاهم عند بني أمية، ثم عفا عنهن وحملهن إلى حران يبكينَ، ودخل عامر بعد قتل مروان الكنيسة، فجلس على فرش مروان، وكان مروان يتعشَّى، فلما سمع الوجبة، وثب عن عشائه فخرج فقتل، فجلس عامر على ذلك الطعام، وجعل يأكل منه، ودعا بابنة لمروان، وكانت أسن بناته، فقالت: يا عامر، إن دهراً أنزل مروان عن فرشه، وأقعدك عليه، حتى تعشيت بعشائه، واستصبحت بمصباحه، ونادمت ابنته - لقد أبلغ في موعظتك، وأجمل في إيقاظك، فاستحيا عامر، وصرفها.

قال ابن زنبل في تاريخه: قتل مع مروان ابنه عبيد اللّه، وهرب ابنه الآخر عبد اللّه حتى انتهَى إلى ملك النوبة، فلما وصل إليها، وصل إليه ملك البلاد، وما رضي بالجلوس فوق الفرش بل جلس فوق التراب، فقال للترجمان: قل للملك، لم فعلت ذلك؟ فقال له: إني ملك، وحق على كل ملك أن يكون متواضعاً لعظمة الله تعالى، ثم أقبل ينكث في الأْرض بإصبعه، ثم رفع رأسه، وقال له: كيف سُلبتم نعمة الملك، وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟! فقال: جاء من هو أقربُ منا إليه، وقتلنا وطردنا، وجئتُ أنا مستجيراً إليك، ثم قال: كيف كنتم تشربون الخمر، وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقال: فعله عبيدنا وأتباعنا من العجم وغيرهم، لما دخلوا في ملكنا من غير علمنا، ثم قال: فلم كنتم تركبون على دوابكم بآلة الذهَبِ والفضةِ والديباج، وهو محرم عليكم؟ فقال له مثل الأول، ثم قال: فلم كنتم إذا خرجتم لصيد طائر لا خَطَرَ له، هجمتم في أهل القرى، وكلفتموهم الضيافة، وما لا قدرة لهم عليه، وأفسدتم مزارعهم بدوابكم، والفساد محرم في دينكم؟! فتعذر بمثل الأول، وقال: كرهنا مخالفتهم؛ لأن مماليكنا تمكنوا في البلاد، فهز رأسه، وقال: لا واللّه، ولكنكم استحللتم ما حرم عليكم، وارتكبتم ما نهاكم عنه وأحببتم الفساد والظلم، وكرهتم العدل، فسلبكم اللّه تعالى العِز وألبسكم الذل. والنقمة إذا نزلت عمت، والبلية إذا حلت شملت، وإن للّه فيكم نقمة لن تبلغ غايتها، فاخرج من بلدي؛ وإلا قتلتك ومن معك. قال: فخرج من بلاده ملوماً مدحوراً.

قال ابن خلدون: بقي عبد اللّه بن مروان المذكور إلى أيام المهدي العباسي، فأخذه عامل فلسطين، وسجنه إلى أن مات في السجن. وكان مروان بطلا شجاعَاً مهيباً، كانوا يعدونه في مقابلة ألف مقاتل، أبيض اللون ربعة أشهل العين ضخماً كث اللحية، كان حاكمَاً سائساً لقب بالجعدي، قال العلامة السيوطي في تاريخه: نسبة إلى مؤدبه الجعد بن درهم؛ لتمسكه بمذهبه، كان يقول بخلق القرآن، ويتزندق، أمر هشام بن عبد الملك خالداً القسري بقتله لذلك فقتله، ويلقب مروان بالحمار - أيضاً - لأنه كان لا يجف له لبد في محاربة الخارجين عليه، كان يصل السري بالسري، ويصبر على مكاره الحرب، ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار، أو لأن العرب تُسَمى كل مائة سنة حماراً، فلما قارب ملك بني أمية في زمنه مائة سنة، لقبوه بالحمار.

قال مروان: وا لهفتاه على دولة ما نصرت، وكف ما ظفرت، ونعمة ما شكرت، فقال له خادمه وكان من أولاد عظماء النصارى: من أهمل الصغير حتى يكبر، والقليل حتى يكثر، والخفي حتى يظهر، أصابه مثل هذا.

مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر، وعمره خمسون سنة، وقيل: سبع وخمسون، وقيل: ثمان، وقيل: ستون.

وفي روض الأخبار: ذهبت الدولة من بني أمية في عهد ثلاثة من الرجال: مروان ابن محمد، وصاحب عسكره يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان خطيباً شجاعاً يضرب بشجاعته المثل، ووزيره وكاتبه عبد الحميد، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.

قال المطرزي في شرحه على المقامات الحريرية: كان لمروان عبد الحميد كاتباً، والبعلبكي مؤذناً، وسلامة الحادي حاديَاً، فأحضروا إلى السفاح بعد قتل مروان، فقال سلامة الحادي: استبقني يا أمير المؤمنين، فإني أحسن الحداء، قال: وما بلغ من حدائك؟ قال: تعمد إلى إبل ظمئت ثلاثاً، ثم توردها، فإذا بدأت تشرب، رفعت صوتي بالحداء، فترفع رءوسها، وتدع الشرب، ثم لا تشرب حتى أسكت. فأمر بإبل ظماء، فقرب منها الماء، ثم حدا، فرفعت رءوسها، فلم تزل رافعة حتى سكت من حدائه. فاستبقاه وأجازه.

ثم قال البعلبكي: إني مؤذن منقطع النظير، قال: وما بلغ من أذانك؟ فقال: تأمر جارية فتقدم لك طستاً، وتأخذ إبريقاً بيدها، وأشرع في الأذان، فتدهش ويذهب عقلها حتّى تلقَي الإبريق من يدها، وهي لا تعلم، فأمر بذلك فوجده صحيحاً، فاستبقاه وأجازه.

وقال عبد الحميد: استبقني يا أمير المؤمنين؛ فإني فريد الدهر في الكتابة والبلاغة، فقال: ما اْعرفني بك؟! فأنت الذي فعلت بنا الأفاعيل، وعملت بنا الدواهي، فقطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه.

ودخل سديف يوماً على السفاح، وعنده سليمان بن هشام وقدامة فقال: من الخفيف:

لاَ يَغُرنْكَ مَا تَرَى مِنْ رجالٍ ... إن تَحْتَ الضلوعِ داء دَوِيَّا

فَضَعِ السيْفَ وارْفَعِ السوْطَ حتَّى ... لا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِها أُمَوِيا

فأمر السفاح بسليمان فقتل، ودخل شبل بن عبد اللّه مولى بني هاشم على السفاح، وعنده ثمانون أو تسعون نفسَاً من بني أمية قد أمنهم فهم على الكراسي، فأنشد: من الخفيف:

أَصْبَحَ المُلْكُ ثابتَ الآساس ... بالبهاليلِ مِن بني العَبَّاسِ

طَلَبُوا وترَ هاشمٍ فَشَفَوهَا ... بعدَ مَيْلٍ مِنَ الزمَانِ وَبَاسِ

لا تُقِيلَن عبد شمْسٍ عثاراً ... واقطَعَنْ كل رقْلَةٍ وغِرَاسِ

أقصِهِم أيها الخليفَةُ واقْطَعْ ... عنكَ بالسيْفِ شَأْفَةَ الأَرْجَاسِ

ذلُهَا أَظْهَرَ التودُدَ منها ... وبهَا مِنْكُمُ كَحَر المَوَاسِي

ولَقَدْ ساءني وسَاءَ سَوَائي ... قُربُهَا مِنْ مَنَابِرٍ وكراسِي

أَنْزِلُوهَا بحَيثُ أَنْزَلَهَا الل ... ه بدَارِ الهَوَانِ والإتْعَاسِ

واذكُرُوا مَصْرَعَ الحُسَينِ وَزَيْدٍ ... وقَتِيلا بجَانِبِ المِهْرَاسِ

والقتيلَ الذي بحرانَ أضْحَى ... ثَاوِياً بَيْنَ غُرْبَةٍ وَتَنَاسِي

فقال السفاح: أنتم بين يَدَي على الكراسي، ودماء أسلافي تقطر من أسيافكم، فأمر بهم، فشدخوا بعمد الحديد، وبسط فوقهم الأنطاع، فأكل عليها الطعام، وأنينهم يسمع، وإن الطعام في صحون المائدة ليختلج لاختلاجهم، وقال: واللّه ما أكلت طعاماً ألذ من طعامي هذا، يوم بيوم الحسين، ولا سواء. وكان كبير منهم جالساً إلى جانب السفاح، فقال له السفاح: كأن هذا لم تطبْ به نفسك؟ فقال: نعم، والله، قال: أفتحب اللحاق بهم؟ قال: نعم، وإني إلى ذلك لمشتاق، فلا خير في العيش بعدهم، فأمر به، فسحب وشدخ كما شدخوا.

وقيل: إن القائل للشعر الثاني هو سديف صاحب البيتين الأولين، لا شبل بن عبد اللّه.

ثم تتبعوا بني أمية بالقتل، فقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عم السفاح بالبصرة جماعة منهم، ورموا بأشلائهم في الطريق، فأكلتها الكلاب، ونبش عبد الله ابن علي عم السفاح أيضاً قبور الخلفاء منهم، فلم يجدوا في القبور إلا شبه الرماد، وخيطاً في قبر معاوية، وجمجمة في قبر عبد الملك، وربما وجدوا فيها بعض الأعضاء، إلا هشام بن عبد الملك، فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسياط، ثم صلبه وحرقه وذراه في الريح.

قال ابن خلدون: كذا قيل، والله أعلم بصحة ذلك.

واستقصوا في تتبعهم قتلا، ولم يفلت إلا الرضعاء، أو مَنْ هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن الملقب بالداخل؛ لأنه أول من دخل إلى بلاد المغرب، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وغيره ممن تبعه من قرابته.

وفي ربيع الأبرار للزمخشري: انقرضت دولة بني أمية، وكانوا أربعة عشر نفراً: معاوية، يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد الذي يقال له: معاوية الأصغر - رضي الله عنه - مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، عبد الملك بن مروان، الوليد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية - رضي الله عنه وأرضاه - يزيد بن عبد الملك بن مروان، هشام بن عبد الملك بن مروان، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الفاسق ممزق المصحف بالسهام، ومقدم الجارية تؤم الناس في صلاة الصبح جنبَاً سكرى، يزيد ابن الوليد بن عبد الملك، إبراهيم بن الوليد أخي يزيد المذكور قبله، يليه مروان بن محمد بن مروان بن الحكم المنبوز بالحِمَارِ.

وفي أكثر التواريخ: ذكروا أن مدة ملكهم ألف شهر؛ لأن الحسن بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - حين تكلموا عليه في تسليم الأمر إلى معاوية قال: " ليلةُ اَلقَدرِ خَير مِنْ ألفِ شهر " " القدر: 3 " ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فقول الحسن - رضي الله عنه - كان تقريباً لا تحديداً، ويمكن أن يكون تحديداً على بعض الحساب؛ نظرَاً إلى تمكنهم وانهزامهم، وقتلهم من تداخل السنين والشهور، وهي يسيرة.

فأما على ظاهر الحساب: أن معاوية بن أبي سفيان بويع بعد وفاة علي بن أبي طالب في ثاني عشر ذي الحجة في سنة أربعين من الهجرة، وبويع عبد الله السفاح العباسي في ثالث عشر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فإن أخرجنا من هذه المدة مدة ابن الزبير تكون مدة ملكهم إلى أن مات مروان ثلاثَاً وثمانين سنة وشهرين وثلاثة وعشرين يوماً؛ لأن مدة ابن الزبير تسع سنين وأشهر بويع سنة أربع وستين، وقيل: ثلاث وسبعين سنة.

وإن حسبتها من اليوم الذي صالح فيه الحسن معاوية، تكون بعد إخراج مدة ابن الزبير ثلاثاً وثمانين سنة وشهراً واحداً، وستة وعشرين يوماً، واللّه أعلم.

وفي سراج الملوك: سئل بعض العلماء ما الذي أذهب ملك بني أمية؟ فقال: تحاسد الأكفاء، وانقطاع الأخبار، وذلك أن يزيد بن عمر بن هبيرة وزير مروان كان يحب أن يضَعَ نصر بن سيار أمير خراسان لمروان، فكان لا يمده بالرجال، ولا يرفع إلى مروان ما يرد من الأخبار.

وسئل بعض بني أمية عن سبب زوال ملكهم؟ فقال: استعمال الصغار من الرجال، على الكبير من الأعمال، وتقديم الأرذال والأنذال، على أهل الدين والكمال، وذوي النجدة من الرجال، فآل أمرنا إلى ما آل.

وقال بعضهم - وقد سئل عن مثل ذلك - فقال: نوم الغدوات، وشرب العشيات، والاجتراء بإعلان الفجور وترك النهيِ عن المنكرات. ولا شيء أضيع للملك وأهلك للرعية من شدة الحجاب، وعدم القبول لقول العقلاء؛ لأنهم قالوا: من تم سروره قصرت شهوره، والحزم أسد الآراء، والغفلة أضر الأعداء، ومن قعد عن حيلة تدبير الملك أقامته شدائد الفتن، ومن نام عن عدوه نبهته المكائد والمحن، ومن أعجبته آراؤه غلبته أعداؤه، ومن استضعف عدوه اغتر، ومن اغتر ظفر به عدوه، ومن طالت عداوته زالت سلطته، ومن كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلكه وفناؤه، ورأس الحكمة التودد إلى الناس.

قلت: صدق فيما به نطق، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه!!.

ورأيت في تاريخ العلامة محمود بن علي بن أحمد البهوتي المسمى بتاريخ الخلائف ما نصه: قد كان لبني أمية ألقاب تلقبوا بها، فمعاوية بن أبي سفيان يلقب بالتام لدين الله، ويزيد يلقب بالمنتصر على أهل الزيغ، ومعاوية بن يزيد يلقب بالراجع إلى الله، ومروان بن الحكم يلقب بالمؤتمن بالله، وعبد الملك بن مروان بالموفق لأمر اللّه، والوليد بن عبد الملك بالمنتقِم للّه، وسليمان بن عبد الملك بالداعِي إلى اللّه، وعمر بن عبد العزيز بالمعصومِ باللهِ، ويزيد بن عبد الملك بالقادر بصُنْع اللّه، وهشام بن عبد الملك بالمنصور باللّه، والوليد بن يزيد بالمكتفي باللّه، ويزيد بن الوليد بالشاكر لأنعم الله، وإبراهيم بن الوليد بالمعتز بالله، ومروان بن محمد بالقائم بحق اللّه، وعبد اللّه بن الزبير بالعائذ ببيت الله، فسبحان مغيِّر الدول ومفني الأمم، لا رب غيره سبحانه!! فليس العباسية أبا عذرتها، فليعلم ذلك!