في الدولة العباسية

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب الثاني في الدولة العباسية

اعلم أن أمر الإسلام لم يزل جميعاً ودولته واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم؛ لاجتماع عصبية العرب.

ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم الدعاة لأهل البيت، فغلبت دعاة بني العباس على الإمامة، واستقلوا بخلافة الملة، ولحق فل بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك ومن تبعه من مواليهم ومن العرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العباس، وانقسمت لذلك دعوة بني العباس، وانقسمت بذلك دولة الإسلام بدولتين؛ لافتراق عصبية العرب.

ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلوية، ونازعوا خلفاء بني العباس، واستولوا على القاصية من النواحي؛ كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديين بالقيروان ومصر، والقرامطة بالبحرين، والداعي بطبرستان والديلم، والأطروش فيها ومن بعده، وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرقة.

ذكر الشيعة ومبادئ دولهم وكيف انساقت إلى العباسية من بعدهم إلى آخر دولهم

كان مبدأ هذه الدولة، أعني دولة الشيعة: أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لهم دون من سواهم من قريش. وفي الصحيح، أن العباس قال لعلي في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه: " اذهَبْ بنا إليه نسأله في هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقال علي: إن سألناه فمنعناها لا يعطيناها الناس " وفي الصحيحين - أيضاً - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً " ، فاختلفوا في ذلك عنده، وتنازعوا ولم يتم الكتاب، وفي رواية قال: " قوموا عني " ، وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم، حتى قد ذهب كثير من الشيعة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه ذلك لعلي، ولم يصح ذلك من وجه يعول عليه. وكما نقلوه عن أهل الإثارة أن عمر قَالَ يوماً لابن عباس: إن قومكم - يعني قريشاً - ما أرادوا أن يجمعوا لكم بين النبوة والخلافة، فتتبجحوا عليهم، وأن ابن عباس أنكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام، فتكلم بما غضب له عمر، وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أن في نفوس أهل البيت شيئاً من أمر الخلافة والعدول عنهم بها، مما اللّه تعالى أعلم بصحته وعدمها.

قصة الشورى

أن جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعلي، ويرون استحقاقه على غيره، فلما عدل بها إلى سواه، أنفوا من ذلك، وأسفوا له؛ مثل الزبير، وسعد، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وغيرهم؛ إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الألفة بين المسلمين لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف.

ثم لما فشا النكير على عثمان، والطعن في الآفاق، كان عبد اللّه بن سبأ، ويعرف بابن السوداء، من أشد الناس خوضَاً في التشيع لعلي بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن علي، وأنه ولي بغير حق، فأخرجه عبد اللّه بن عامر عامل عثمان على البصرة منها إلى مصر، فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلى الغلو في ذلك وافتجار المذاهب الفاسدة فيه؛ مثل خالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، وغيرهم، ثم كانت بيعة علي ووقعة الجمل وصفين وانحراف الخوارج عليه بما أنكروا من التحكيم في الدين، وتمحضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية.

ثم لما قتل علي وبويع ابنه الحسن - رضي الله تعالى عنهما - فخرج عن الأمر لمعاوية سخط ذلك شيعة علي منه، وأقاموا يتناجون في السر باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه من النزول لمعاوية، وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع، وواعدهم إلى هلاك معاوية، فساروا إلى محمد بن الحنفية، وبايعوه في السر على طلب الخلافة متى ما أمكنه، وولى على كل بلد رجلا، وأقاموا على ذلك، ومعاوية يكف بسياسته من غربهم، ويقلع الداء إذا تعين له منهم؛ كما فعل بحجر بن عدي وأصحابه، وقد تقدم ذكر قتلهم عند ذكر خلافته، ويروض من شماس أهل البيت، ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم، ولا يهيج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك، إلى أن مات، وولي يزيد، فكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف، وكانت من أشنع الوقائع في الإسلام عظمت بها الشحناء، وتوغل الشيعة في شأنهم وعظم النكير والطعن على من تولى ذلك وأَمَرَ به، أو قعد عنه، ثم تلاوموا على ما أضاعوا من أمر الحسين، وأنهم لم ينصروه، فندموا، ورأوا أن لا كفارة لذلك إلا الاستماتة دون ثأره، وسَمَوْا أنفسهم التوابين، وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صُرَد الخزاعي، وجماعة معه من خيار أصحاب علي، كرم اللّه وجهه.

وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق، فلحق بالشام ونزل منبج قاصداً العراق، فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمان وكثير من أصحابه؛ كما ذكرنا ذلك فيما تقدم، وذلك سنة خمس وستين.

ثم خرج المختار بن أبي عبيد، ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدمته.

وفشا التعصب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج بهم عن حدود الحق.

واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحقُّ بالأمر من أهل البيت. وبايعَتْ كل طائفة لصاحبها سراً، ورسخ الملك لبني أمية، فطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها وتستروا بها، مع تعدُد فرقهم وكثرة اختلافهم، وسار زيد بن علي بن الحسين، وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل يتردد في إصابة علي في حرب الجمل وصفين، فلقن ذلك عنه، وكان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى تخطئة جده، وكان زيد - أيضاً - مع قوله بأفضلية علي على الصحابة يرى أن بيعة الشيخين صحيحة، وأن إمامة المفضول جائزة؛ خلاف ما عليه الشيعة، ويرى أنهما لم يظلما علياً.

ثم دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامة الشيعة، ورجع عنه بعضهم، لما سمعوه يثني على الشيخين، وأنهما لم يظلما علياً، وقالوا له: لم يظلمك هؤلاء، فرفضوا دعوته، وقالوا: نحن نرفضك إذنْ، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا الرافضة من أجل ذلك، ثم قاتل يوسف بن عمر فقتله وبعث برأسه إلى هشام بن عبد الملك، وصلب شلوه بالكناسة، ولحق ابنه يحيى بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعته إلى الخروج، فخرج هناك سنة؟ خمس وعشرين ومائة، فسرح إليه نصر بن سيار العساكر، فقتلوه، وبعث برأسه إلى الوليد، وصلب شلوه بالجوزجان، وانقرض شأن الزيدية هنالك.

وأقام الشيعة على شأنهم وانتظارِ أمرِهم، والدعاة لهم في النواحي على الإجمال للرضا من أهل البيت، ولا يصرحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة، وكانت شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا يرون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هاشم عبد اللّه بن محمد، وكان - يعني أبا هاشم عبد اللّه ابن محمد - كثيرَاً ما يفد على سليمان بن عبد الملك، فمر في بعض أسفاره بمحمد ابن علي بن عبد اللّه بن عباس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء، فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات، وأوصى له بالأمر، وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى ولد محمد بن علي هذا، وهو والد إبراهيم والسفاح، فلما مات أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية، قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سراً، وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، وأجابه عامة أهل خراسان، وبعث عليهم النقباء.

وتداول أمرهم هنالك، فتوفي محمد سنة أربع وعشرين ومائة، وعهد لابنه إبراهيم، وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمونه الإمام، ثم بحث أبا مسلم الخراساني إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره، وكتب إليهم بولايته، وذلك في دولة مروان بن محمد المنبوز بالحمار، فعثر مروان على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراسانى، فأمر عامله على دمشق أن يأمر عامل البلقاء بالقبض على إبراهيم الإمام، فقبض عليه، وأوثقه شدُّاً، وأرسل به إلى مروان بن محمد، فحبسه بحران ثم قتله؟ كما قدمنا ذكر ذلك قريباً، وملك أبو مسلم خراسان، وزحف إلى العراق، فملكها وغلبوا بني أمية على أمرهم، وانقرضت دولتهم، فقامت دولة بني العباس، وهذه الدولة من دول الشيعة؛ كما ذكرناه، وفرقتها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي بن أبي طالب، ثم بعده ابنه أبو هاشم عبد اللّه بن محمد، ثم بعده محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس بوصيته؛ كما ذكرناه، إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، ثم من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد اللّه السفاح، وهو عبد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية.

قلت: قال المسعودي: هذه نسبة إلى كيسان، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي؛ فإن اسمه كيسان، وإنما نسبوا إليه؛ لأنه أول من دعا لمحمد بن الحنفية.

قال ابن خلدون: ويسمون أيضاً: الخرمانية؛ نسبة إلى أبي مسلم الخراساني؛ لأنه كان يلقب خرمان.

ولبني العباس - أيضاً - شيعة يسمون الراوندية من أهل خراسان، يزعمون أن أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس؛ لأنه وارثه وعاصبه؛ لقوله تعالى: " وَأولوُا اَلأَرحَامِ بَعضهُمْ أَولىَ ببعض في كِتاب الله " " الأنفال: 75 " ، والناس منعوه من حقه في ذلك وظلموه، إلى أن رده اللّه إلى ولده، ويذهبون إلى البراءه من الشيخين وعثمان، ويجيزون بيعة علي؛ لأن العباس قال له: " يا بن أخي، هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان " ، ولقول داود بن علي على منبر الكوفة يوم بويع السفاح: يا أهل الكوفة، إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم، يعني السفاح.

قال في الإشاعة لأشراط الساعة في أماراتها البعيدة: ومنها دولة بني العباس: عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه تعالى عنه - : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أقبلت رايات ولد العباس من عقبات خراسان، جاءوا بنعي الإسلام، فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة " رواه أبو نعيم في الحلية.

وعن علي - رضي اللّه تعالى عنه - موصولا: مالي ولبني العباس شيعوا أمتي - أي: صيروهم شيعَاً وفرقاً - وسفكوا دماءها، ولبسوا ثياب السواد، ألبسهم اللّه ثياب النار رواه الطبراني.

والأحاديث الواردة في ذمهم كثيرة؛ فلا نطول بذكرها.

فمن الفتن الواقعة في زمانهم: قتال أهل المدينة، وقتل محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط، وقتل أخيه إبراهيم بن عبد اللّه، وحبس أبيهما عبد اللّه المحض، حتى مات في السجن، وقتل جماعة كثيرة من العلويين، وحبس الإمام جعفر الصادق في زمن المنصور، وموت الإمام موسى الكاظم في الحبس بالسم في زمن الرشيد هارون، وإدخال الفلسفة في الإسلام، ونصرة أهل الاعتزال، وتكليف العلماء على القول بخلق القرآن، وقتلُ كثير منهم بسبب ذلك في زمن المأمون، وضربُ الإمام أحمد بن حنبل في زمنه، وزمنِ أخيه المعتصم وابنه الواثق، ولم تتفق في زمانهم الكلمة، ولم تصف لهم الخلافة، وأكثرهم أدعياء، ومنهم ظلمة فسقة، وأحسن من فيهم المتوكل، لأنه أول من رجع عن الاعتزال، ونصر السنة؛ لكنه كان في التعصب على جانب عظيم بحيث إنه هَدَمَ قبر الحسين بن علي - رضي اللّه تعالى عنه - وجعله مزرعة، ومنع الناس من زيارته، وقد قال بعض الشعراء في ذلك: من الكامل:

تاللَّهِ إِنْ كانت أميةُ قد أَتَتْ ... قَتل ابْنِ بِنْتِ نَبيهَا مَظْلُومَا

فَلَقَد أتاه بَنُو أَبِيهِ بمثْلِهِ ... هذا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا

أَسِفُوا على ألا يَكُونُوا شَارَكُوا ... في قَتْلِهِ فَتَتبعوهُ رَمِيمَا

وقال آخر: من الكامل:

تاللَّهِ ما فَعَلَتْ عُلُوجُ أميةٍ ... مِعْشَارَ ما فَعَلَتْ بَنُو العَباسِ

نعم، كان المهتدي منهم زاهداً ناسكاً يتأسى بعمر بن عبد العزيز في هديه، لكنه قتل بعد سنة، ولم تطل أيامه.