في الدولة العباسية: خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح

قد قدمت كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم عبد الرحمن الخراساني، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم قتل مروان ابن محمد ببوصير.

بويع للسفاح هذا بالخلافة يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفي المسامرة بويع في الكوفة يوم الخميس، ومن غد يوم الجمعة لعشرين خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة بويع بيعة العامة.

وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي، السفاح المشهور بابن الحارثية كان أصغر من أخيه المنصور أبي جعفر عبد اللّه بن محمد، كان كريماً جواداً.

وفي كتاب قلادة النحر لأبي مخرمة: ما حصل في زمانه بينه وبين الطالبيين من الأشراف شيء، ولا قام عليه أحد منهم، بل قربهم وأحسن إليهم، وكانت المحبة صافية بينهم، وقام بأمر الدولة العباسية أبو مسلم الخراساني، وتأطدت له الأعمال من الشرق إلى الغرب، وحصل عنده برد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القضيب والمخصرة، فإن مروان بن محمد لما تيقن بالقتل دفنهما حسداً، فدل عليهما غلام، فأخرجهما عامر ابن إسماعيل المذحجي الداخل على مروان الكنيسة، وأرسل بهما إلى السفاح، واسم أمه ريطة بنت عبيد اللّه، من ذرية حارث بن مالك بن ربيعة؛ ولذلك يقال للسفاح ابن الحارثية، وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثيات؛ لأنهم كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن حارثية، فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز، أتاه محمد بن علي والد السفاح فقال: أريد أتزوج ابنة خالي من بني الحارث، فتأذن لي؟ فقال له عمر: تزوج من شئت، فتزوج ريطة المذكورة، فأولدها السفاح، فانتقلت الخلافة إليه، يفعل اللّه ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا مانع لحكمه.

ولما استقر السفاح في الخلافة، خرج عليه بعض أشياع بني أمية وقوادهم، وكان أول من نقض عليه حبيب بن مرة المري من قواد مروان، كان بحوران والبلقاء، خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض، ومعناه لبس البياض، ونصب الرايات البيض؛ مخالفة لشعار العباسية في ذلك، وتابعه قيس ومن يليهم، والسفاح يومئذ بالحيرة، فزحف إليه عبد اللّه بن علي عم السفاح، وبينما هو في محاربته، بلغه الخبر بأن أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي نقض بقنسرين، وكان من قواد مروان، فلما انهزم مروان، وقدم علي عبد اللّه بن علي، بايعه ودخل في دعوة العباسيين، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس، فبعث بهم وبنسائهم القائد الذي جاءه من قبل عبد اللّه بن علي، وشكوا ذلك إلى أبي الورد، فقتل القائد، وخلع معه أهل قنسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف، وقدموا عليهم أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد بن معاوية، وقالوا: هو السفياني الذي يذكر، ولما بلغ ذلك عبد اللّه بن علي، وادع حبيب بن مرة، وسار إلى أبي الورد بقنسرين، ومر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلى حمص فبلغه أن أهل دمشق خلعوا وبيضوا، وأقاموا فيهم عثمان بن عبد الأعلى الأزدي، وأنهم هزموا أبا غانم وعسكره، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما خلفه عبد اللّه بن علي عندهم، فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي الورد، وقدم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف، فانكشف ورجع إلى أخيه عبد اللّه بن علي منهزماً، فزحف عبد الله في جماعة القواد، ولقيهم بمرج الآخرم، وهم في أربعين ألفاً فانهزموا. وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد إلى تدمر وراجع أهل قنسرين طاعة العباسية، ورجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق ومن معهم، فهرب عثمان بن عبد الأعلى، ودخل أهل دمشق في الدعوة، وبايعوا لعبد اللّه بن علي، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيباً إلى أيام المنصور، فقتله زياد بن عبد الحارثي عامل الحجاز يومئذ للمنصور، وبعث رأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين، فأطلقهما المنصور.

ثم خلع أهل الجزيرة وبيضوا، وكان السفاح بعث إليها ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قواده، وأزالهم بحران، وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان، سار عنها، واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحران شهرين، فبعث السفاح أخاه أبا جعفر إليهم، وكان محاصراً لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحاق بن مسلم، وهو بقرقيسيا والرقة، وقد خلعوا وبيضوا، وسار نحو حران، فأجفل إسحاق بن مسلم عنها ودخل الرهَا، وبعث أخاه بكار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ بريكة من الحرورية، فصمد إليهم أبو جعفر المنصور فهزمهم، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق، فخلفه إسحاق بالرها، وسار إلى سميساط، وجاء عبد اللّه بن علي فحاصره، ثم جاء أبو جعفر المنصور، فحاصروه سبعة أشهر، وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقن مَوتَ صاحبها - يعني مروان بن محمد - فلما تيقن موته، طلب الأمان، فاستأذنوا السفاح، فأمرهم بتأمينه، وخرج إسحاق بن مسلم إلى أبي جعفر؛ فكان من آثر أصحابه وخواصه.

قلت: لله أبو إسحاق بن مسلم هذا ما أوقفه عند عقده، وأوفاه بميثاقه وعهده.

واستقام أهل الجزيرة والشام، وولى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان؛ فلم يزل عليها حتى جاءته الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح، ولقد صدق من قال: من الكامل:

لاَ يَسلَمُ الشرَفُ الرفيعُ مِنَ الأذى ... حَتى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدمُ

ذكر ابن الأثير؛ أن أبا جعفر المنصور لما أمره أخوه السفاح بحصار ابن هبيرة أحد الناقضين عليه، حاصره بواسط، وكان ابن هبيرة خندق على نفسه، فقال أبو جعفر: إن ابن هبيرة يخندق على نفسه كالنساء، فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إلى أبي جعفر يقول: أنت الذي تقول كذا وكذا، فابرز إلي لترى، فأرسل إليه المنصور: لم أجد لي ولك مثلا في ذلك إلا كالأسدِ لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: بارزني، فقال له الأسد: ما أنت لي بكفء، فإن بارزتك و نالني منك سوء كان عاراً علي، وإن قتلتك قتلت خنزيرَاً، فلم أحصل على حمد، ولا في قتلي إياك فخر، فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأُعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال له الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطخ براثني بدمك.

قال الحافظ الذهبي في دول الإسلام: لما صلى السفاح بالناس أول جمعة، خطب، فقال في خطبته: الحمد للّه الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه. ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن إلى أن قال: فلما قبض الله نبيه، قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان، فجاروا واستأثروا، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حَقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، لم تفتروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، ولقد زدت في عطياتكم مائة مائة، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

وفي سنة ست وثلاثين ومائة: استأذن أبو مسلم الخراساني السفاح في القدوم عليه للحجِّ، وكان منذ ولي خراسان لم يفارقها، فأذن له في القدوم بخمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولا آمن على نفسي، فأذن له في ألف، وقال: إن طريق مكة لا يحتمل العسكر، فسار في ثمانية آلاف فرقهم ما بين نيسابور والري، وخلف مواليه وخزائنهُ بالري، وقدم في ألف، وخرج القواد بأمر السفاح لتلقيه، ودخل على السفاح، فأكرمه وأعظمه، واستأذن في الحج، فأذن له، وقال: لولا أن أبا جعفر يريد الحجَ، لاستعملتك على الموسم، وأنزله بقربه، وكان قد كتب إلى أبي جعفر: إن أبا مسلم استأذنني في الحج، فأذنتُ له وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا يطمع أن يتقدمك، فقدم أبو جعفر إلى الأنبار. وكان بين أبي جعفر وأبي مسلم - من حين بعث السفاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ عليه البيعة له ولأبي جعفر من بعده وتولى أبو مسلم على خراسان - شيء، فاستخف أبو مسلم إذ ذاك بأبي جعفر، فلما قدم أبو جعفر الآَن، أغرى السفاح بقتل أبي مسلم، فأذن له في قتله، ثم ندم، فكفه عن ذلك، وسار أبو جعفر إلى الحج، ومعه أبو مسلم.

وفي كتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي حكاية طريفة، عن خالد بن صفوان التميمي؛ أنه دخل على أبي العباس السفاح، وليس عنده أحد فقال: يا أمير المؤمنين، إني واللّه ما زلت مذ قلدك اللّه تعالى خلافته، أطلب أن أصير إلى مثل هذه الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب حتى أفرغ، فعل، فأمر السفاح الحاجب بذلك، فقال ابن صفوان: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وأجلت فكري فيك، فلم أر أحداً له قدرة واتساع في الاستمتاع بالنساء مثلك، ولا أضيق فيهن عيشاً؛ إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين فقصرت نفسك عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ باستطراف الجواري، ومعرفة أخلاقهن والتلذذ بما يشتهي منهن؛ فإن منهن الطويلة التي تشتهي لجسمها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة والطائف واليمامة ذوات الألسن العذبة، والجواب الحاضر، وبنات الملوك، وما يشتهي من نضارتهن ولطافتهن، وتخلل خالد لسانه، فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ من كلامه، قال السفاح: ويلك! ملأت مسامعي ما أشغل خاطري، ما سلك فيها أحسن من هذا، فأعدْ على كلامك؛ فقد وقع مني موقعَا، فأعاده خالد بأحسن مما ابتدأه، فقال له السفاح: انصرف، فانصرف، وبقي السفاح مفكراً، فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف ألاَ يتخذ معها سرية ووفى، فقالت: إني أنكرت منك يا أمير المؤمنين، فهل حدث شيء، أو أتاك خبر ارتعت له؟ قال: لا، فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد، فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد، قال خالد: فخرجت من الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة.

فبينما أنا واقف؛ إذ أقبلوا يسألون عني فحققت الجائزة، فقلت: لهم: ها أنا، فاستبق أحدهم بخشبة فغمزت برذوني، فلحقني وضرب عجز البرذون، وركضت فيهم، واستخفيت في منزلي أياماً، ووقع في قلبي أني أتيت من أم سلمة، فبينما أنا ذات يوم جالس في المنزل لم أشعر إلا بقومٍ قد هجموا علي، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق في قلبي أنه الموت، فقلت إنا للّه وإنا إليه راجعون، لم أر دم شيخ أضيع من دمي، وركبت إلى دار أمير المؤمنين، فأصبته جالساً، ولحظت في المجلس بيتاً عليه ستور رقاق، وسمعت حساً من خلف الستر، فأجلسني ثم قال: ويحك يا خالد، وصفت لي صفة فأعدها علي، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسْمَ الضرتين من الضرر، وأن أحداً لم يكن عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضُر وتنغيص.

فقال السفاح: لم يكن هذا من كلامك أولا، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأعلمتك أن الثلاث من النساء يدخلنَ على الرجل البؤس، ويشيبن الرأس، فقال السفاح: برئتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت سمعت هذا منك أو مر في حديثك لي، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع من النساء شَر مجموع لصاحبه يشبنه ويهرمنه، قال السفاح: لا واللّه ما سمعت هذا منك أولا، قلت: بلى والله، فقال السفاح: أتكذبني؟ قلت: فتقتلني؟! نعم، واللّه يا أمير المؤمنين، إن أبكار الإماء رجال إلا أنه ليس لهن خصي، قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر، ثم قلت: واللّه وأخبرتك أن عندك ريحانةَ قريشٍ، وأنت تطمح بعينيك إلى النساء والجواري، فقيل لي من وراء الستر: صدقتَ والله يا عماه بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق بما في خاطره عن لسانك، فقال السفاح: مالك، قاتلك الله؟ قال خالد: فانسللت وخرجت، فبعثت لي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت ثياب، وقالت: الزم ما سمعناه منك.

ويروى أنه سهر ذات ليلة، وعنده أناس من مضر، وفيهم خالد بن صفوان بن أهتم التميمي المذكور، وناس من اليمن فيهم إبراهيم بن مخرمة الكندي، فقال أبو العباس: هاتوا فافلعوا ليلتنا بمحادثتكم، فبدأ إبراهيم بن مخرمة فقال: يا أمير المؤمنين، إن أخوالك هم الناس، وهم العرب الأول الذين كانت لهم الدنيا، وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكاً وأربابَاً تداولوا الرياسة كابرًَا عن كابر، وآخراً عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون الحمد ومآثر الحمد، منهم النعمانان والحمادان والقابوسان، ومنهم غسيل الملائكة، ومَنِ اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومن كان يأخذ كل سفينة غصبَاً، ويجري في كل نائية نهبَاً، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس من نبل، وإن عظم خطره، وعرف أثره، من فرس رائع، أو سيف قاطع، أو مجن واق، أو درع حصينة، أو درة مكنونةَ، إلا وهم أربابها وأصحابها. إن حل ضيف قروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر، ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر. فمن مثلهم يا أمير المؤمنين، البيت يمان، والحجر يمان، والركن يمان، والسيف يمان.

فقال أبو العباس ما أرى مضر تقول بقولك هذا، وما أظن خالداً يرضى بما ذكرت.

فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت الموجدة، تكلمت.

فقال أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحداً.

فقال خالد: يا أمير المؤمنين، خاب المتكلم وأخطأ المتقدم؛ إذ قال بغير علم، ونطق بغير صواب، أو يفخر على مضر، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من أهل بيته، وهل أهل اليمن إلا دابغ جلد، أو قائد قرد، أو حائك برد؟! دل عليهم هدهد، وغرقهم جرذ، وملكتهم أم ولد. واللّه يا أمير المؤمنين، ما لهم ألسنة فصيحة، ولا سنة صحيحة، ولا حجة تدل على كتاب، ولا يعرفون بها صواب، وإنهم لبإحدى الخصلتين، إن جازوا قصدوا ما أكلوا، وإن حادوا عن حكمنا قتلوا.

ثم التفت إلى الكندي، فقال: أتفخر بالفرس الراِئع، والسيف القاطع، والترس الواقي والدرع الحصينة، وأشباه ذلك؟ أفلا تفخر بأكرم الأنام وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فالمن من الله - عز وجل - عليكم إذ كنتم من أتباعه وأشياعه، فمنا نبي اللّه المصطفى، وخليفة الله المرتضى، ولنا السؤدد والعلا، وفينا العلم والحجا، ولنا الشرف المقدم، والركن الأعظم، والبيت المكرم، والجناب الأخضر، والعدد أكثر، والعز أكبر، ولنا البيت المعمور، والمشعر المشهور، والسقف المرفوع، وزمزم وبطحاؤها، وجبالها وصحراؤها، وحياضها وغياضها، وأحجارها وأعلامها، ومنابرها وسقايتها، وحجابها وسدنة بيتها، فهل يعدلنا عادل، أو يبلغ فخرنا قائل؟ ومنا أعظم الناس، عبد اللّه بن عباس، أعلم البشر، الطيبة أخباره، الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النورين، ومنا الصديق والفاروق، ومنا أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء حمزة، ومنا ذو الجناحين جعفر الطيار، ومنا الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، ومنا عرف الدين، ومن عندنا أتاكم اليقين، فمن زاحمنا زحمناه، ومن عادانا اصطلمناه، ومن فاخرنا فخرناه، ومن بدل سنتنا قتلناه.

ثم التفت إلى الكندي فقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: إني بها عالم، فقال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين، قال: فما المبزم؟ قال: السن، قال: فما الشناتر؟ قال: الأصابع، قال: فما الصنبارة؟ قال: الأذن، قال: فما القلوب؟ قال: الذئب، قال: فما الزب؟ قال: اللحية، قال: أفتقرأ كتاب اللّه تعالى؟ قال: نعم، قال: فإن اللّه تعالى يقول: " إنَّا أَنزَلناهُ قرآناً عربياً " " يوسف: 2 " ، وقال: " بلِسَانٍ عَرَبي مبين " " الشعراء: 195 " ، وقال جل ذكره: " وما أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قوَمِه " " إبراهيم: 4 " ، فقال عز وجل: " السن بالسن والعين بالعين " " المائدة: 45 " ولم يقل: الجحمة بالجحمة، وقال: " يجعَلوُنَ أَصاَبِعهُم في آذَانهم " " البقرة: 19 " ، ولم يقل: شناترهم في صنابرهم، وقال: " وَالسِّنَّ بِاَلسِّن " " المائدة: 45 " ، ولم يقل: المبزم بالمبزم، وقال: " فَأكَلَهُ اَلذِّئب " " يوسف: 17 " ، ولم يقل: أكله القلوب، وقال: " لا تَأخذْ بِلِحيتَي " " طه: 94 " ، ولم يقل: بزبي، وإني سائلك يا بن مخرمة عن ثلاث خصال، فإن أقررت بها قهرت، وإن جحدتها كفرت، قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي اللّه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم، قال: أفتعلم أن فينا كتاب اللّه المنزل؟ قال: اللهم نعم، قال: أفتعلم أن فينا خليفة اللّه المرتضى؟ قال: اللهم نعم، قال: فأي شيء يعدل هذه الخصال؟ قال أبو العباس: اكفف عنه، فواللّه ما رأيت غلبة قط أنكَرَ منها، واللّه ما فرغت من كلامك يا أخا مضر، حتى توهمتُ أنه سيعرَجُ بسريري إلى السماء. ثم أمر لخالد بمائة ألف درهم.

وفي ابن خلكان: أن السفاح نظر يوماً إلى المرآة، وكان من أجمل الناس وجهَاً، فقال: اللهم، إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعَاً بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاماً يقول لآخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه، وقال: حسبي الله، ولا قوة إلا بالله، عليه توكلت، وبه استعنت، فما مضت المدة المذكورة حتى أخذته الحمى، ومرض، فمات بعد شهرين وخمسة أيام بالجدري بالأنبار مدينته التي بناها، وسماها: الهاشمية، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثلاث وثلاثين، وكانت وفاته يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة، ومدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وولادته سنة خمس ومائة، وكان أبيض مليحَاً جميلا حسن اللحية والهيئة.