في الدولة العباسية: خلافة المهدي والهادي

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة المهدي

محمد بن أبي جعفر المنصور عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس القرشي الهاشمي.

لما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة، اجتمع أهل بغداد فبايعوه. قال السيوطي في تاريخه: أول من هنأ المهدَي بالخلافة وعزاه بأبيه المنصورِ أبو دلامة، فقال: من الكامل:

عَيْنَايَ واحدَة تُرَى مسرورة ... بأميرِهَا جَذْلَى، وأخرَى تَذْرِفُ

تَبْكِي وتضحَكُ تَارَة ويَسُوءُهَا ... ما أنكَرَتْ ويَسُرُهَا ما تَعْرِفُ

فيسُوءُهَا مَوْتُ الخليفةِ مُحْرِماً ... ويَسُرُّهَا أنْ قَامَ هذَا الأرأفُ

ما إِنْ رَأَيْتُ كما رأيتُ ولا أَرَى ... شَعْراً أسرحُهُ وآخَر أَنْتِفُ

هَلَكَ الخليفة يَا لَدِينِ محمدٍ ... وأتاكُمُ مِنْ بعده مَنْ يَخْلُفُ

أَهْدَى لهذا اللهُ فَضْلَ خلافةِ ... ولذاكَ جَناتِ النعيمِ تزخرفُ

وذكر الصولي أن امرأةَ اعترضت المهدي، فقالت: يا عصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر في حالي، فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم.

وكان أول ما فعله أن أطلق من كان في حبس أبيه المنصور، إلا من كان حبسه في دم أو مال أو ممن سعى بالفساد، وكان حليماً جواداً فصيحاً سلك مع الناس سيرِة مرضية، فأحبه الناس، وإن كان منهمكاً في اللهو، فقد أراح الناس من تعب الظلم والجور والاعتساف، لما أضاف إلى ذلك من الحلم والجود والإنصاف، حتى أطمأن به العباد والبلاد، وكانت أيامه كالأعياد.

ولادته سنة سبع وعشرين ومائة. وفي سنة ستين؛ حج المهدي، واستخلف على بغداد ابنه الهادي، واستصحب ابنه هارون وجماعة من أهل بيته. ولما وصل إلى مكة، اهتم بكسوة الكعبة، فكساها بأفخر الكسوة بعد أن أتاه بنو شيبة، فقالوا: قد تكاثرت الكساوي على الكعبة، ونحن نخشَى من ثقلها على الكعبة، فأمر بنزع جميع ما كان عليها، وكانت فيها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخينِ، وقسم مالا عظيماً هناك في مصارف الخير؛ فكان منه ما جاء به من العراق ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائة ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع المسجد الحرام؛ وذلك لأنه رأى الكعبة ليست في وسط المسجد لضيق جانبه من جهة اليمن؛ فأمر الصناع والمهندسين بتوسيعه من تلك الجهة واشترى دوراً هنالك وهدمها، فنهاه المهندسون، وقالوا: يدخل السيل إن فعلتَ ذلك إلى المسجد لضيق مجراه حينئذ، فقال: لا بدَ من ذلك، وإن دخل السيل، ولو أنفقت في ذلك جميع بيوت المال، وصعد المهندسون على ظهر الكعبة، ونصبتَ الرماح بعضها إلى بعض، ومدَتْ من أعلى الكعبة إلى الجهات الأربع حتى كانت مستوية متوسطة في المسجد نسبة الجهات الأربع إليها على السواء، فجزاه اللّه خيرَاً وشكر سعيِه.

قال الفاكهي: كان بعد جدار المسجد من الجانب الجنوبي عن الكعبة تسعة وأربعين ذراعاً لا غير، ولبيان مثل هذه الأمور كتب مفردة.

ولما رجع أمر ببناء القصور بطريقّ مكة، أوسع من قصور أبيه المنصور من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل وبتحديد الأميال، وحفر الآبار، وذلك على يد يقطيِن بن موسى. وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتقصير المنابر إلى مقدار منبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي سنة ثلاث وستين: ظهر عطاء المقنع شيخ لعين خراساني كان يعرف السحر والسيميا، فربط الناس بالخوارق والمغيبات، وادعى الربوبية، وكان يقول بالتناسخ، أي: أن اللّه تعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له، ثم تحول إلى صورة نوح ثم إلى صورة إبراهيم وغيرهم من الأنبياء والحكماء والفلاسفة، ويقرأ: " في أي صورة ما شاء ركبك " " الانفطار: 8 " ثم إنه تحول سبحانه وتعالى إلى صورة أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، ثم مِنْ بعدِ أبي مسلم إلى صورة نفسه، فعبده خلائق من الجهلة، وكان مشوهاً أصور أعور العين قصيرَاً، فكان لا يكشف وجهه، بل اتخذ له وجهاً من الذهب؛ ولذلك قيل له: المقنَّع، ومما أضل الناس به من المخاريق: أنه أظهر لهم قمراً يرونه في السماء من مسيرة شهرين مع قمر السماء، وفي ذلك يقول ابن سناء الملك من قصيدة أخرج فيها ذكره مخرج الغزل فقال: من الطويل:

إلَيك فَمَا بَدرُ المُقَنَّعِ طَالِعَا ... بأَسْحَرَ مِن أَلْحَاظِ بَدرِ المُقَنعِ

ولأبي العلاء المعري: من الطويل:

أَفِقّ أيها البَدرُ المُعممُ رَأسَهُ ... ضَلاَل وَغي مِثْل بَدْرِ المُقَنعِ

ولما استفحل شرُ عطاء - لعنه الله - جهز المهدي عسكرَاً لحربه، فقصدوه وحصروه في قلعته ببلسام من أعمال بخارى، فلما عرف أنه مأخوذ جمع نساءه فسقاهنَّ السم فهلكنَ، ثم تناول هو السم، فمات وهو يتّحسَاه في نار جهنم خالداً، ثم أخذت القلعة وقتل رءوس أتباعه - لعنه الله - وبعث برأسه ورءوسهم إلى المهدي، فوصلَت إليه بحلب، وهو ذاهب لغزو الروم.

وفي سنة أربع وستين ومائة: خلع المهدي ابن عمه عيسى بن موسى عن ولاية العهد إلى ابنه موسى الهادي ابن المهدي.

وفي سنة ست وستين أخذ البيعة لابنه الآخر هارون بعد ابنه الهادي ولقبه بالرشيد.

فالحاصل: أن المهدي محمداً عهد إلى ولديه الهادي وهارون الرشيد، على أن يكون الهادي بعده قبل الرشيد.

ثم في سنة تسع وستين: اعتزم على خلع ابنه الهادي، والبيعة للرشيد، وتقديمه على الهادي، وكان الهادي بجرجان فبعث إليه بذلك واستقدمه، فضرب الهادي الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي، فلما بلغ ماسبذان، توفي هنالك يقال مسمومَاً من بعض جواريه، يقال: سمت إحداهما الأخرى في كمثرى، فغلط المهدي، فأخذها فأكلها، فما جسرت أن تقول له: إنها مسمومة.

ويقال: سبب موته أنه طرد صيداً، فدخل وراءه إلى خربة، فدق باب الخربة ظهره، فأدخل قربوس السرج في صدره.

وكان موته في المحرم من السنة المذكورة سنة تسع وستين، ولم يوجد له نعش يحمل عليه فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز.

وكانت مدة خلافته عشرين سنة وشهراً، وله من العمر ثلاث وأربعون سنة، وكان جواداً ممدحاً سخياً إلى الرعية حسن الخلق والخلق.

يقال: إن أباه خلف في الخزائن مائة ألف ألف دينار، وستين ألف ألف درهم، ففرقها المهدي.

وقد قيل: ما جاء في بني العباس أكرم من المهدي، ولا أبخل من أبيه المنصور.

دخل على المهدي شريك القاضي، فقال له المهدي؛ يا شريك، ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال فيه جدك العباس وعبد الله ابنه، فقال: ما قالا فيه؟ قال: أما العباس فمات، وعلي عنده أفضلُ الصحابة، وقد كان يرى كثيراً من المهاجرين الأولين يسألونه عما ينزل بهم من النوازل وما احتاج هو إلى أحد منهم حتى لحق إلى كرامة اللّه تعالى. وأما عبد اللّه ابنه، فكان يضرب بين يديه بسيفَين، وكان في حروبه رأساً متبعَاً وسيداً مطاعاً، فلو كانت إمامة علي جوراً، لكان أول من قعد عنه جدك عبد اللّه؟ لعلمه بدين اللّه وفقهه في أحكام اللّه، فأطرق المهدي رأسه ساعة، ثم عزلَ شريكَاً عن القضاء بعد أيام قليلة.

ودخل عليه ابن الخَياط وامتدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم، فسأله أن يقبل يده فقبلها، ثم خرج، فما انتهى إلى الباب حتى فرقها جميعاً، فعوتب على ذلك فقال: من الطويل:

لمستُ بكَفي كَفهُ أَبْتَغِي الغِنَى ... وَلَمْ أَدرِ أن الجُودَ مِنْ كَفهِ يُعْدِي

فَلاَ أَنَا منه ما أَفَادَ ذَوُو الغِنَى ... أَفَدتُ، وَأَغدَانِي فَأَتلَفْتُ ما عِنْدِي

فبلغ المهدي ذلك، فأمر له بخمسين ألف دينار.

وقال سَلم الخاسرُ يرثي المهدي: من الوافر:

وَبَاكيةٍ على المَهدي عبرَىكَأَنَّ بها وما جُنتْ جُنُونا

وقد خَمَشَت محاسِنَهَا وأبدَت ... غدائِرَهَا وأظْهَرَتِ القُرُونَا

لَئن بلى الخليفةُ بعد عِز ... لقدْ أَبْقَى مساعِيَ مَا بَلينَا

سَلامُ اللَّهِ غُدوَةَ كل يومٍ ... على المهدي حيثُ ثَوَى رَهينَا

تركنَا الدينَ والدنيَا جميعاً ... بحَيثُ ثَوَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَا

وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي: أن أبا دلامة دخل على المهدي، فأنشده قصيدة، فقال له المهدي: سلني حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، تهب لي كلب صيد، فغضب، وقال: أتسأل كلب صيد، وأنا أقول لك ما أقول؟! فقال: يا أمير المؤمنين، الحاجة لي أم لك؟! فقال له: بل لك، قال: فإني سائلك إياه، فأمر له بكلب صيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني خَرَجْتُ إلى الصيد، فأعدو على رجلي؟! فأمر له بدابَّةٍ، فقال: يا أمير المؤمنين، فمن يقومُ عليها؟ فأمر له بغلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني صدت صيداً فمن يطبخه. فأمر له بجارية، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أين يبيتون؟ فأمر له بدار، فقال: يا أمير المؤمنين، قد صار في عنقي عيال، فمن أين لي ما يقوت هؤلاء؟ قال: قد أقطعتك ألف جريب عامر.

وعن عبد الله بن هارون قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد اللّه عن المغيرة قال: دخل المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وأبو السائب والعثماني وابن أخت الأحوص على المهدي، وهو بالمدينة فقال: أنشدوني، فأنشده المغيرة: من الطويل:

وللناسِ بَدر في السماءِ تَرَونَهُ ... وأَنتَ لنا بَدرٌ على الأرضِ مُقْمِرُ

فَبِاللهِ يا بَدرَ السماءِ وصِنْوَهُ ... تُرَاكَ تُكَافي عُشرَ ما لَكَ مُضْمَرُ

وما البَدر إِلا دُونَ وَجهِكَ في الدُجَى ... يغيبُ فَتَبْدُو حِينَ غَابَ فَتُقْمِرُ

وما نَظَرَتْ عيني إلَى البَدرِ ماشياً ... وأنتَ فتمشِي في الثيَاب فَتَسْحَرُ

ثم أنشده ابن أخت الأحوص فقال: من البسيط:

قَالَت كلابة مَنْ هذا نقلْتُ لها ... هذا الذي أَنتِ مِنْ أعدائِهِ زَعَمُوا

إني امرؤ لَج بي حُب فأحرَضَنِي ... حَتى بَلِيتُ وحتَّى شَفنِي السَّقَمُ

ثم أنشده المخزومي: من الطويل:

رَمَى القلْبُ مِن قلبِي السوَادَ فأوجَعَا ... وَصَاحَ فصيحٌ بالرَّحيلِ فَأسْمَعَا

وغَردَ حادِي البَينِ وانشقتِ العَصَا ... فأصبَحْتُ مَسْلُوبَ الفُؤَادِ مُفَجعَا

كفَى حَزَناً مِن حادِثِ الدهرِ أنني ... أَرَى البَينَ لا أَستطِيعُ للبَينِ مَدْفَعَا

وقد كُنْتُ قَبل اليومِ بالبَين جَاهِلا ... فيا لَكَ بيناً ما أَمَرَ وأَوْجَعَا

ثم أنشده أبو السائب يقول: من الطويل:

أَصِيخَا لداعي حُب ليلَى فَيممَا ... صُدُورَ المطايا نَحوَهَا فتَسَمَعَا

خليلي إنْ ليلَى أقامَتْ فَإِننِي ... مُقِيم، وإنْ بانَتْ فبينا بِنَا مَعَا

وإنْ أثبتت لَيلَى بربْعِ يحوزها ... أعيذكُمَا بالله أَنْ تَتَزَعْزَعَا

ثم أمر لهم بصلات جسيمة.

وحدث إدريس بن سليمان بن يحيى بن يزيد بن أبي حفصة: كان سبب اتصال مروان بخلفاء بني العباس، وكان - واللّه أعلم - من شعراء بني أمية، أن جارية يمانية أهديت إلى أبي جعفر المنصور، فأنشدته شعراً لمروان يمدح فيه السري بن عبد اللّه، يذكر فيه وراثة العباس، فسألها المنصور عن الشعر. فقالت: هو لمروان، فوافاه بالربذة حاجاً، وبالمنصور العلة التي مات بها، فلقي مروان الربيع حاجب المنصور، فقال له: كن قريبَاً حتى يدعو بك، فلم تزل العلة بالمنصور تشتدُ حتى مات قبل أن يصل إليه مروان فقال له الربيع: الْحَقْ بالمهدي ولا تتخلف عنه، فانصرفَ مروان إلى اليمامة فجعلها طريقاً وعليها بشر بن المنذر والياً، فأوفده بشر على المهدي فيمن أوفد، فقدم مروان على المهدي وقد مدحه بأربع قصائد مطلع الأولى: من الطويل:

صَحَا بَعْدَ جُهْدِ فاستَرَاحَت عواذله ... وأَقْصَرْنَ عنه حِينَ أَقْصَرَ بَاطِلُهْ

والثانية: من الكامل:

طَافَ الخَيَالُ فَحيهِ بسَلاَمِ ... أَنى أَلَم، ولَيْسَ حين مَنَامِ

وفيها يقول:

أَني يكُونُ ولَيْسَ ذاكَ بكَائِنِ ... لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأعْمَامِ؟!

والثالثة: من الكامل:

إعْصِ الهَوَى وَتَعز عَن سُعْدَاكَا ... فَلِمِثْل حِلْمِكَ عَنْ هَوَاكَ نهاكا

والرابعة: من الطويل:

بَرى العَين شَوْق حَالَ دُونَ التجلُدِ ... ففاضَتْ بأَسْرَاب مِنَ الدَمْعِ حُشَدِ

قال إدريس: فأعطى المهدي مروان إجازة سبعين ألف درهم، فقال مروان يمدحه في قصيدة، ويذكرها: من الطويل:

بِسَبْعِينَ ألفاً رَاشَنِي مِنْ حِبَائِهِ ... وما نَالَهَا في الناسِ مِنْ شَاعِرٍ قبلي

رحم الله أهل الكرم.

وحدث أحمد بن أبي بكر الباهلي قال: حدثني حاجب المهدي قال: قال لي المهدي يوماً نصف النهار: اخرج فانظر من في الباب، فخرجت فإذا شيخ واقف، فقلت: لك حاجة؟ فقال: لا أخبر بحاجتي أحداً غير أمير المؤمنين، فأخبرت المهدي بخبره وبقوله، فقال: ائذن له، ومُرْهُ بالتخفيف، فخرجت، وقلت له: ادخل وخففْ، فدخل وسلم بالخلافة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنا قد أمرنا بالتخفيف: من الطويل:

فإنْ شئْتَ خَففْنَا فكنا كَرِيشَةٍ ... متَى تَلْقَهَا الأنفاسُ في الجَو تَذْهَبِ

وإن شئْتَ ثَقلْنَا فكُنا كصخرةِ ... متى تُلْقِهَا في حَوْمَةِ البَحْرِ تَرسُبِ

وإن شئتَ سلمنا فكُنا كراكب ... متى يَقْضِ حَقاً من سلامِكَ يَغْرُب

فضحك المهدي، وقال: بل تكرم وتقضى حاجتك، فقضى حاجته، ووَصله بعشرة آلاف درهم.

كان معن بن زائدة الشيباني من أمراء المنصور أبي المهدي، ثم أبقاه المهديُ والياً على أذربيجان على ما كان من والده المنصور، وهو أحد الأجواد المشهورين والشجعان المذكورين، قَدِمَ عليه قوم من أهل الكوفة مستميحين، فنظر إليهم في هيئة رثة، فأنشأ يقول: من الطويل:

إذا نَوْبَةٌ نَابَت صديقَكَ فاغتنَمْ ... مَرَمَتَهَا فالدهْرُ بالناسِ قُلَّبُ

فأَحسَنُ ثوبَيك الذي أنْتَ لابس ... وأَمهَرُ مُهْرَيكَ الذي هُوَ يُرْكَبُ

وقال: يا غلام، أعطهم لكل واحد أربعة آلاف، فقال أحدهم: يا سيدي، دنانير أو دراهم؟ فقال معن: والله، لا تكونُ همتك أرفع من همتي، يا غلام، صفرها لهم. وأتاه أعرابي ومعه مولود فقال: من البسيط:

سَميت طِفلِيَ مَعناً ثم قلتُ له ... هذا سَمِيُ فَتى في الناسِ محمودِ

أمسَت يمينُكَ مِن جُودٍ مُصَورَة ... لا بَل يمينُكَ منها صُورَةُ الجُودِ

فأمر له بثلاثمائة دينار.

روى أن المهدي خرج يوماً يتصيد، فلقيه الحسين بن مطير الأسدي فأنشده: من البسيط:

أضحَتْ يمينُكَ مِن جُودٍ مصورَة ... لا بَل يمينك منها صُورَةُ الجودِ

مِنْ حُسنِ وجهِك تُضحِي الأرضُ مشرقَة ... ومِنْ بنانِكَ يَجْرِي الماءُ في العُودِ

فقال له المهدي: كذبتَ يا فاسقُ، وهل تركتَ في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في معن بن زائدة: من الطويل:

أَلِما بِمَعْنٍ ثَم قولا لِقَبرِه ... سَقَتك الغَوَادي مَرْبَعاً ثُم مَرْبَعَا

فَيَا قَبْرَ مَعنٍ كَيف وارَيتَ جُودهُ ... وقَدْ كَانَ منه البَرُّ والبَحْرُ مُترَعَا

ولكنْ حَوَيتَ الجُوَدَ والجُودُ ميتٌ ... ولو كَانَ حياً ضِقتَ حتى تَصَدَعَا

ولما مَضَى مَعْن مَضَى الجُود والندَى ... وأَصْبَحَ عِرنينُ المَكَارِمِ أَجْدَعَا

فأطرق الحسين، ثم قال: يا أمير المؤمنين، وهل مَعْن إلا حسنة من حسناتك؟ فرضي عنه، وأمر له بألف دينار. 

خلافة الهادي

موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم. كان شجاعاً كريماً، وكان في صغره لا يزال فاتحاً فمه خلقةَ، فوكل أبوه غلاماً ينبهه على إطباق فمه كلما رآه فاتحه، فيقول له: موسى أَطبقْ، فكان يقال له لذلك في صغره موسى أطبق.

كانت ولادته سنة ست وأربعين ومائة. وقال سلم الخاسر جامعاً بين التهنئة للهادي بالخلافة والعزاء بأبيه المهدي محمد فقال: من الطويل:

لَقَد قَامَ مُوسَى بِالخِلاَفَةِ والهُدَى ... وَمَاتَ أميرُ المؤمنين مُحمَدُ

فَمَاتَ الذي عَمَّ البرية فَقْدُهُ ... وقَامَ الذي يَكْفِيكَ مَن تتفقدُ

وقال مروان بن أبي حفصة: من الطويل:

لَقَد أَصبَحَت تختالُ في كُل بلدةٍ ... بقَبْرِ أميرِ المؤمنينَ المَقَابِرُ

ولو لم تُسَكنْ بابنه بَعدَ موتِهِ ... لَمَا بَرحَت تَبكِي عَلَيهِ المنابرُ

ولو لم يَقم موسَى عليهَا لَرجعَت ... حنيناً كَمَا حَن الصفايا العَشَائِرُ

بويع بالخلافة بعد موت أبيه، وكان الهادي مقيماً بجرجان يحارب أهل طبرستان، وكان الرشيد لما توفي المهدي والعسكر معه بماسبذان، نادى في الناس بالعطاء؛ تسكيناً لهم وقسم فيهم، فلما استوفوها، تنادوا بالرجوع إلى بغداد، وتسابقوا إليها، واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوه بالأرزاق وفتقوا السجون، وقدم الرشيد بغداد في أثرهم، فبعثت الخيزران إلى الربيع ويحيى، فامتنع يحيى خوفاً من غيرة الهادي، وأمر الربيع بسنتين للجند فسكنوا، وكتب الهادي إلى الربيع يتهدده، فاستشار يحيى في أمره، وكان يثق بوده، فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه ويصحبه الهدايا واللطف، ففعل، فرضي الهادي عنه، فأخذت البيعة ببغداد للهادي، وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق، وبعث نصر إلى الهادي بجرجان، فركب البريد إلى بغداد.

قال الصولي: ولا يعرف خليفة رَكِبَ خيل البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد، فقدمها في عشرين يوماً، واستوزر الربيع، وهلك لمدة قليلة من وزارته، واشتد الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم.

وفي سنة تسع وستين: كان ظهور حسين المقتول بفخ، وهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقصته معروفة.

وكان للهادي بغض بالرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره عليه أخيراً، وكان رأى أنه دفع إليهما قضيبين، فأورق قضيب الهادي من أعلاه، وأورق قضيب الرشيد كله، وتأول ذلك بقصر مدة الهادي وطول مدة الرشيد وحسنها، فلما ولي الهادي أجمع على خلع أخيه الرشيد والبيعة لابنه جعفر بن الهادي مكانه، وفاوض في ذلك قُوَاده، فأجابه إلى ذلك يزيد بن مزيد، وعلي بن عيسى، وعبد اللّه بن مالك، ووضع الشيعة على الرشيد ينتقصونه، ويقولون: لا نرضى به، ونهى الهادي أن يسار بين يديه بالحربة، فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولى أموره، فاتهمه الهادي بمداخلته، وبعث إليه وتهدده، فحضر عنده مستميتاً وقال: يا أمير المؤمنين، إن حملت الناس على نكث الأيمان فيه، هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوثق للبيعة، فصدقه وكف عنه، وعاد أولئك الذين خلعوه من القواد والشيعة فأغروه بيحيى، وأنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي، فطلب الحضور للنصيحة، فأحضره من الحبس، فقال: يا أمير المؤمنين، أتظن الناس يسلمون الخلافة لابنك جعفر وهو صبي، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم، وتأمن أن يسمو إليها عند ذلك أهل بيتك، فتخرج من ولد أبيك، واللّه، لو لم يعقده له المهديُ، لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذراً من ذلك، إني أرى أن تقر العهد لأخيك، فإذا بلغ ابنك، أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له، فقبل الهادي قوله وأطلقه.

ولم يقنع القواد ذلك؛ لأنهم كانوا حذرين من الرشيد، فأرسل إلى الرشيد وضيق عليه، واستأذنه في الصيد، ومضَى إلى قصر مقاتل، فنكره الهادي وأظهر جفاءه، وبسط الموالي فيه ألسنتهم، ثم خرج الهادي إلى حديثة الموصل، فاشتد مرضه هنالك، واستقدم العمال شرقاً وغرباً.

ولما ثقل، تآمر القوم الذين بايعوا جعفراً في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفاً من الهادي، ثم توفي الهادي في شهر ربيع سنة سبعين ومائة، وقيل: إنما توفي بعد أن عاد من حديثة الموصل.

ويقال: إن أمه الخيزران دست بعض الجواري عليه، فقتلنه؛ لأنها كانت أول خلافته تستبد عليه بالأموال، فعكف الناس على بابها، واختلفت المواكب إليها، فوجد الهادي من ذلك، فكلمته يوماً في حاجة فلم يجبها، فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك، فغضب الهادي وشتمه وحلف لا قضيتها، فقامت وهي مغضبة، فقال: مكانك، والله، وإلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أن أحداً من قُوادي وخاصَتي وقف ببابك، لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله. ما للمواكب تغدو وتروح عليك، أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟! إياك إياك، لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي، فانصرفت وهي لا تعقل. ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه؛ فيقال: فعلت أم فلان، وصنعت؟! فقالوا: لا نحب ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمي، فتتحدَثون معها؟! ويقال: إنه لما جَد في خلع الرشيد، خافت عليه منه، فلما ثقل في مرضه، دست بعض الجواري، فجلس على وجهه، فمات.

وحكى في بغية الخاطر: أن الهادي كان يدور يوماً في بستانه ومعه خواصه، وهو راكب على حمار، وليس معه سلاح، فدخل عليه حاجبه، فأخبره أن رجلا من الخوارج جيء به أسيراً، وكان الهادي حريصَاً على الظفر به، فأمر بإدخاله، فأدخل بين رجلين قد أمسكا بيديه، فلما رأى الخارجيُ وجه الهادي، جذب يديه من الرجلين، واخترط سيف أحدهما، ووثب نحو الهادي، فلما رأى ذلك من حول الهادي، فروا جميعاً، وبقي الهادي وحده، وثبت على حماره بركابه وعزم، حتى إذا قرب الخارجيُ منه وكاد أن يعلوه بالسيف، قال الهادي: اضرب عنقه يا غلام، فالتفت الخارجي حين سمع ذلك وهمَا منه، فوثب الهادي عن حماره، وانتزع السيف من يده، فذبحه به ذبحاً، ثم عاد على ظهر حماره من فوره، وتراجع إليه حاشيته، وقد ملئوا رعباً وجبناً، فما خاطبهم في ذلك بكلمة واحدة، ولم يكن بعد ذلك يفارقه السيف ولا يركب إلا الخيل.

وفي مروج الذهبي: أنه رفع إلى الهادي أن رجلا من بلاد المنصورة من أرض السند من أشرافهم ربى غلامَاً سنديُّاً أو هندياً، وأن الغلام هوى مولاته، فراودها عن نفسها فأجابته، فدخل مولاه، فوجدها معه، فَجَب ذكر الغلام وخصاه، ثم عالجه إلى أن برئ، فأقام مدة، وكان لمولاه ابنان، فصعد بهما الغلام السندي إلى أعلى سور الدار، فرأى سيده ابنيه مع الغلام، فقال: يا غلام، عرضتَ ابنيَ للهلاك، فقال الغلام: دع عنك هذا، فوالله لئن لم تَجُب نفسك بحضرتي الآَن لأرمين بهما، فقال: اللّه اللّه في وفي ابنيَ! فقال الغلام: دع عنك هذا، فوالله ما هي إلا نفسي، وإني لأسمح بها من شربة ماء. فأهوي ليرمِيَ بهما، فأسرع مولاه فأخذ المدية، فَجَب نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل، رمى بالصبيين فتقطعا، ثم قال: هذا الذي فعلتُ بفعلك في، وقتل هذين الولدين زيادة، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السند بقتل الغلام السندي وتعذيبه بأنواع العذاب، وأمر بإخراج كل سندي من مملكته، فَرَخُصُوا في أيامه حتى كانوا يتداولون في ذلك الزمان بأبخس ثمن، وقد قيل في مثل هذا المعنى: من البسيط:

لاَ تأمنَنَ فتَى أسكَنْتَ مهجَتهُ ... غَيْظاً وتَحْسِبُ أن الغَيْظَ قد ذَهَبَا

لاَ تقطَعَنْ ذَنَبَ الأفعَى وتُرْسِلُهَاإن كُنْت شَهْمَاً فَأتْبعْ رأْسَهَا الّذَنَبَا

وفي العقد لابن عبد ربه: ذكر عن عبد اللّه بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي قال: إن سيف ابن معلى كرب الزبيدي البطل المشهور المسمى بالصمصامة دخل في يد المهدي، فأعطاه لولده الهادي، فأخرج ذلك السيف الهادي يوماً في مجلسه، ووضعه بين يديه، ودعا بمكتل دنانير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال: من الخفيف:

حَازَ صمصامَةَ الزبيدي مِنْ دُو ... نِ جَمِيعِ الأَنامِ مُوسَى الأَمِينُ

سَيف عَمرِو وكَانَ فيما سَمعنَا ... خَيْرَ ما أُغْمِدَتْ عليه الجُفُونُ

أَخْضَرُ المَتْنِ بين خَدَيهِ نُورٌ ... مِن فِرِنْدٍ تَمِيدُ فيه العُيُونُ

أَوقَدَت فوقه الصواعِقُ نارا ... ثم ساطَتْ بِهِ الذعَاف المَنُونُ

فإذا ما سَلَلتَهُ بَهَرَ الشم ... سَ ضياء فلم تَكُنْ تَسْتَبِينُ

وكأَن الفِرِندَ والرونَقَ الجَا ... رِيَ في صَفْحَتَيْهِ مَاء مَعِينُ

وكأن المَنُونَ نِيطَت إلَيْهِ ... فَهْوَ في كُل جانِبَيْهِ منونُ

ما يُبَالِي مَنِ انتضَاهُ لِحَرب ... أَشِمَالٌ سَطَتْ به أَمْ يَمِينُ

فقال الهادي: دونك السيف والمكَتل فخذْهُمَا. ففرق ابن يامين المكتل والدنانير على الشعراء، وقال: في السيف عوضْ، ثم انصرف، فبعث إليه الهادي فاشترى منه السيف بخمسين ألف دينار، هكذا هكذا.

قلت: وتعجبني أبيات أربعة لابن الرومي في وصف السيف حيث يقول: من الخفيف:

خَيْرُ ما اسْتَعْصَمَتْ بِهِ الكَف غضبٌ ... ذَكَرْ جسهُ أَنِيثُ المَهَز

مَا تَأَملتهُ بِعَينَيك إِلا ... أرعدت صَفحَتَاهُ من غَيْر هَز

مِثْلُهُ أَفزَعَ الشجَاعَ إِلى الدر ... عِ فَغَالَى بِهِ عَلَى كُل بَز

مَا يُبَالي أَصممت شَفرَتَاهُ ... في مَحَز أم جَازَتَا عَنْ مَحَز

قال الحافظ الذهبي: وعن مصعب الزبيري، عن أبيه قال: دخل مروان بن أبي حفصة الشاعر على الهادي بن المهدي فأنشده قصيدة: من الطويل:

تَشَابَهَ يَومَاً بَأسِهِ وَنَوَالِهِ ... فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لأيهِمَا الفَضلُ

أَيومُ عَطَاهُ الجَم أَم يَومُ بَأسِهِ ... ...............

فلما فرغ من إنشادها، قال له: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة، أم مائة ألف تدون في الدواوين؟ فقال مروان: تعجل الثلاثون ألفاً، وتدون المائة ألف؛ فتلك من الهادي قليل. قال الهادي: بل يعجلاَنِ لك جميعاً، احملوا إليه مائة وثلاثين ألفاً.

قال نفطويه: قيل: إن الهادي قال لإبراهيم الموصلي: إن أطربتني فاحتكم، فغناه: من الهزج:

سُلَيمى أَزمَعَت بَينَا ... فَأَيْنَ لِقَاؤهَا أَينَا

في أبيات يسيرة، فأعطاه سبعمائة ألف درهم.

قال الذهبي: كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب، ويركب حماراً فارهاً - يعني قبل تلك الواقعة التي ذكرتها قريبَاً - وكان فصيحاً قادراً على الكلام، أديباً تعلوه هيبة، وله سطوة وشهامة، وكان طويلا جسيماً أبيضَ، شفته العليا تقلص؛ فلا يزال مفتوح الفم، فوكل به أبوه خادماً كلما رآه مفتوحَ الفم قال له: موسى أطبق، فيفيق على نفسه، ويطبق شفتيه؛ كما تقدم ذكر ذلك.

مات في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة وسِنهُ ثلاث وعشرون سنة، ومدة خلافته سنة وشهران.

وقيل في سبب موته غير ما تقدم؛ وهو أنه دفع نديمَاً له من جرف على أصول قصب قد قطع، فتعلق النديم به فوقع، فدخلت قصبة في مخرجه، فكانت سبب موته، فماتا جميعاً.