سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
خلافة هارون الرشيد
ابن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وكان فصيحاً بليغاً يحجُ عاماً ويغزو عاماً، وربما جمع بينهما في عام واحد، ويصلي كل يوم مائة ركعة لا يتركُهَا إلا لعلة، ويتصدق كل يوم بألف درهم، ويحب العلماء، ويظهر حرمات الإسلام، ويتفقد الصلحاء، ومع ذلك كان منهمكَاً في اللهو، وله في ذلك نوادر وحكايات لا تحصر بحد، ولا تحصى بعد.
بويع ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة مات أخوه الهادي سنة سبعين ومائة، وولد له المأمون فيها، وكانت ليلة عجيبة، فيها وفاة خليفة، وولاية خليفة، وولادة خليفة.
ولما بويع الرشيد استوزر يحيى بن خالد البرمكي، فقال إبراهيم الموصلي: من الطويل:
أَلَم تَرَ أَن الشمْسَ كانَتْ مريضَة ... فلما أتَى هارُونُ أَشْرَقَ نُورُهَا
تَلبستِ الدُنْيَا جَمَالا بِملكِهِ ... فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
فأعطاه هارون مائة ألف، وأعطاه يحيى خمسين ألفَاً.
وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ولداود بن رزين الواسطي قوله فيه: من الطويل:
بِهَارُونَ لجَ النورُ في كُل بلدةِ ... وقامَ بِهِ في عَدْلِ سِيرَتِهِ النهْجُ
إِمامٌ بِذَاتِ اللّه أَصْبَحَ شُغلُه ... فأَكثَرُ مَا يُعنَى به الغَزوُ والحجُ
تَضِيقُ عيونُ الخلقِ عن نُورِ وجهِهِ ... إذا ما بَدَا لِلناسِ مَنظَرُهُ البلجُ
تَفَسحَتِ الآَمالُ في جُودِ كَفه ... وَأعطى الذي يرجُوهُ فَوقَ الذي يرجُو
وفي سنة خمس وسبعين ومائة: كان خُرُوجُ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن المثنى في الديلم، وهو أخو المهدي محمد الملقب بالنفس الزكية، واشتدت شوكته، وكثر جمعه، وأتاه الناس من الأمصار، فندب إليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً، وولاه جرجان وطبرستان والري، وما يليها وحمل معه الأموال، فسار ونزل بالطالقان، وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله، وكتب إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم، فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، وعين عبد الصمد بن علي أن يكون منهم، فكتب له الرشيد بكل ما أحب وأفاضَ عليه العطاء، وعظُمَت منزلة الفضل عنده. ثم إن الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في محبسه.
وفي سنة ست وثمانين: حج الرشيد، فسار من الأنبار ومعه أولاده الثلاثة: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، والقاسم الملقب بالمؤتمن، وكان قد ولى الأمين العهد، وولاه العراق والشام إلى آخر المغرب، وولى المأمون العهد بعده وسلم إليه من همدان إلى آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم بعد موت المأمون، ولقبه المؤتمن، وجعل خلعه وإثباته للمأمون، وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم، ومَرَ بالمدينة فأعطى فيها ثلاثة أعطية: عطاء منه، وعطاء من الأمين، وعطاء من المأمون، فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، ثم سار إلى مكة، فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقواد، وكتب كتاباً أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون، وآخر على المأمون بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة الشريفة، وجدَّد عليهما العهود بذلك، قال إبراهيم الحجبي: لما أردت تعليق كتاب العهد بالكعبة، سقط مني المعلاق؛ فكان فألا بسرعة نقضه.
ولما صير الرشيد ولده الأمين ولي عهده بعهده، قال سلم الخاسر قصيدة في ذلك يقول فيها: من الكامل:
قُل للمنازلِ بالكَثِيبِ الأَعفَرِ ... سُقيت غَادِيةَ السماءِ الممْطِرِ
قَد بايَعَ الثقَلاَنِ مَهدِي الهُدَى ... لمحمدِ ابنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعفَرِ
قَد وَفَّقَ اللهُ الخليفَةَ إذ بنى ... بَيتَ الخلافةِ لِلْهِجَانِ الأزْهرِ
فَهُوَ الخليفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجده ... شَهِدَا عليه بِمَنْظَرٍ وبِمَخْبَرِ
فحشت زبيدة فاه جواهر، قيل: باعة بعشرين ألف دينار.
قلت: ومن شعر سلم قوله: من مخلع البسيط:
بَانَ شبابِي فما يَحُورُ ... وطَالَ مِن لَيْلِيَ القَصِيرُ
أَهدي لِيَ الشوقَ وَهوَ حُلو ... أَغَنُّ في طَرْفِهِ فُتُورُ
وَقَائلٍ حِينَ شَب وَجدِي ... وَاشتَعَلَ المُضمَرُ الستِيرُ
لَوْ شِئْتُ أَسلاَكَ عَنْ هَوَاهُ ... قلب لأَشجَانِهِ ذَكُورُ
فَقلتُ لا تَعْجَلَن بِلَوْمِي ... فَإِنمَا يُنبِئُ الخَبِيرُ
عَذبني والهَوَى صَغِير ... فَكَيف بِي والهَوَى كَبِيرُ
مَن رَاقَبَ الناسَ مَاتَ غَماً ... وَفَازَ بِاللَّذةِ الجَسُورُ
وسلم هذا اسمه: سلم بن عمرو البصري أحد الشعراء المحسنين، وهو غلام بشار بن برد، مدح المهدي والرشيد والبرامكة، وكان عاكفاً على المعاصي، ثم تزهد وتنسك مدة مديدة، ثم مرق وعاد إلى اللهو وباع مصحفه، واشترى بثمنه ديوان شعر، فلقب لذلك الخاسر.
ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد: أن أخاه موسى الهادي لما ولي الخلافة قبله، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي، فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع فألحَ عليه فيه، فشق على الرشيد أخذه، فطلبه ومر على جسر بغداد فرماه في دجلة، فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة، أتى إلى ذلك المكان بعينه ومعه خاتم رصاص، فرماه فيه، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه ففعلوا، فاستخرجوا الخاتم الأول، فعد ذلك من سعادة الرشيد.
وفي سنة سبع وثمانين: كانت نكبة الرشيد بالبرامكة.
اعلم أن البرامكة يقال: أصلهم من جيل من العجم كانوا مجوسَاً، وأولهم في التقرب إلى الخلفاء خالد بن برمك، وكان من كبار الشيعةَ، وله قدم راسخ في الدولة، وكان يلي الولايات العظام: ولاه المنصور على الموصل وأذربيجان، وولى ابنه يحيى على أرمينية، ووكله المهدي بكفالة الرشيد، فأحسن تربيته، ودفع عنه أخاه الهادي، لما أراده على الخلع وتولية ابنه العهد، وحبسه الهادي لذلك، فلما ولي الرشيد، استوزر يحيى، وفوض له أمور ملكه، وكان أولا يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ثم استبد بالرأي في الدولة، وكان بيتهم معموراً بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد ساهموا أباهم في حمل الدولة، واستولوا على حظّ من تقريب السلطان واستخلاصه، وكان الفضل أخا للرشيد من الرضاع؛ أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيزران، وكان يخاطب يحيى يا أبت، واستوزر الفضل وجعفرَاً، وولي جعفر على مصر وخراسان، وبعث الفضل لاستنزال يحيى بن عبد اللّه العلوي من الديلم، ودفع ولده المأمون لما ولاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى؛ فحسنت آثارهم في ذلك كله، ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولةَ، وكثرت السعاية فيهم، وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم. فلما كثرت فيهم السعاية بسبب استيلائهم على الخليفة فمن دونه، تحيل أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالا على إسماعه للخليفة، ولتحريك حفائظه عليهم، ومن ذلك بيتان هما: من الرمل:
لَيت هِنْداً أنجزتْنَا ما تَعِد ... وشَفَت أَتفُسَنَا مما نَجِدْ
واستَبَدت مَرة واحدة ... إنما العَاجِر مَنْ لا يَسْتَبِد
فلما سمعها الرشيد قال: إي واللّه عاجز، فبعثوا بذلك كامن غيرته، وسلَطوا عليه انتقامه؛ نعوذ باللّه من غلبة الرجال وسوء الحال؛ ذكر هذا ابن عبد ربه القرطبي في العقد، فتنكر لهم الرشيد.
ودخل عليه يوماً يحيى بن خالد بغير إذن، فأنكر ذلك عليه، وخاطب طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفاً به عن مواجهته، وكان حاضراً، فقال يحيى: أما هي عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني، فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها، فاستحيى هارون وقال: ما أردت ما تكره.
وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد، يعني: إذا دخل يحيى، فتقدم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك؛ فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زمانَاً، فلما حج الرشيد سنة سبع وثمانين، ورجع من حجه، ونزل الأنبار، أرسل مسروراً الخادم في جماعة من الجند ليلا، فأحضروا جعفرَاً بباب الفسطاط، وأعلم الرشيد، فقال: ائتني برأسه، فطفق جعفر يتذلل ويسأل مسروراً المراجعة في أمره؛ فدخل إلى الرشيد يكلمه فيه؛ فحذفه الرشيد بِعَصا كانت في يده وتهدده، فخرج وأتاه برأسه، وحبس يحيى وابنه الفضل من ليلته وبعث من احتاط على منازل يحيى وولده وجمع موجودهم، وكتب في ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر، وأمر بأن يقسم بقطعتين، وينصبا على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة، ولم يضيق على يحيى وابنه الفضل.
قال في المروج: واختلف في سبب إيقاعه بهم، فأما الظاهر: فاحتجار الأموال. فإنهم كانوا ليس للرشيد معهم أمرٌ، حتى كان يحتاج لليسير من المال؛ فلا يقدر عليه.
وقيل: إن سبب ذلك أن الرشيد لما وجه يقطين بن موسى إلى إفريقية لإصلاحها، وكان يقطين من كبار الشيعة، وممن كان مع إبراهيم الإمام فقال: يا أمير المؤمنين، اكشف لي عن جسدك أقبله؛ لأكون قبلت بضعة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، حدثني مولاي إبراهيم الإمام أن الخامس من خلفاء بني العباس تغدر به كُتابه، فإن لم يقتلهم قتلوه، فقال له الرشيد: الله، حدثك الإمام بهذا؟ قال: نعم، فكان ذلك السبب في قتلهم؛ لأنه هو الخامس من خلفاء بني العباس.
وقيل: إن سبب قتل جعفر أنه رفع إلى الرشيد رقعة لم يدر رافعها، وفيها: من السريع:
قُل لأمِينِ اللهِ في أَرضِهِ ... ومَن إلَيْهِ الحَلُّ والعَقْدُ
هذا ابن يَحيَى قد غَدَا مَالِكَاً ... مِثْلَكَ ما بَيْنَكُمَا حَد
أَمرُكَ مَردُود إلَى أمرِه ... وَأَمرُهُ لَيسَ له رَدُّ
وقَدْ بنى الدارَ التي ما بنى ... مِثَالَهَا الفُرْسُ ولا الْهِنْدُ
أَلدرُّ واليِاقُوتُ حَصبَاؤها ... وتُربُهَا العَنبَر والند
ونَحن نخشَى أنه وَارِث ... مُلْكَكَ إِنْ غَيَّبَكَ اللحْدُ
ولَن يُبَاهِي العَبْدُ أربابَهُ ... إلا إذا ما بطرَ العَبدُ
فلما وقف عليها الرشيد أوقع به.
وقيِل: سببه أن الرشيد لما استنزل يحيى بن عبد الله العلوي عند جعفر، وكان يخافه على الخلافة، وكان جعفر يرى سرور الرشيد بموت من يموت في حبسه من هؤلاء الأصناف، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن يحيى بن عبد الله قد مات، فَسُر سرورَاً، وأخبر أباه يحيى بذلك، فقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، إن تركناه تلفنا، وإن قتلناه فالنار لنا. ثم خيل له أن كتب إلى علي بن موسى بن ماهان والي خراسان، وكان متزوجاً بنت يحيى، فعرفه ما جرى، وفزع إليه في أن يكون يحيى عنده مكرمَاً إلى أن يقضي الله قضاءه، وكان الكتاب بخط يحيى، ولم يكن يحيى يعلم ما بين علي بن عيسى وبين ولديه الفضل وجعفر من العداوة، فلما وصل الكتاب إلى علي بن عيسى بن ماهان، وصل يحيى بن عبد اللّه قال: هذا من حيل الفضل وجعفر علي، فأجاب يحيى بأنه يفعل ما أراد، وأنفذ الكتاب إلى الرشيد؛ فأعلمه أن يحيى بن عبد الله عنده، فكتب إليه الرشيد يحسن فعله ويعلمه فساد أمر البرامكة لديه، وأمره ببعث يحيى بن عبد الله إليه من غير أن يعلم أحداً، فلما وصل يحيى إلى الرشيد، أوقع بالبرامكة بعد مدة من ذلك الوقت.
وقيل: أرادت البرامكة الزندقة وإفساد الملك، فقتلهم.
وقيل: سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر، ولا عن أخته عباسة، ومتى غاب أحدهما عنه، لا يتم سروره، فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تمسها، وكانا يحضران مجلسه، وربما فارقهما فيمتلئان من الشراب، وهما شابان، فجامعها جعفر، فحملت منه. وفي كمامة الزهر أن العباسة عشقت جعفراً، فراودته، فأبى خوفاً على نفسه، ورأت أن النساء إلى الخديعة أقرب، فبعثت إلى أم جعفر عتابة، وكانت عتابة ترسل إلى ابنها في كل جمعة بِكراً، وكان لا يطؤها حتى يأخذ شيئاً من النبيذ، فقالت العباسة: أرسليني لجعفر كجارية من اللواتي ترسلينها إليه، فأبت، فقالت لها: إن لم تفعلي، أخبرت الرشيد أنك كلمتني في كيت وكيت، وإن اشتملتُ على ولد، زاد في شرف ابنك، وما عسى أن يفعل أخي بعد اشتمالي على ولد، فطمعت عتابة في ذلك ووعدت ولدها بجارية من هيئتها كذا وكذا، فطالبها جعفر بها، فمطلته أياماً، ثم قالت للعباسة: تَهيئي في هذه الليلة ففعلت، وأدخلتها على جعفر، وكان لا يعرفها لأنه كان يجلس معها هو والرشيد، فلا يجسر أن يرفع طرفه إليها خوفاً، فلما قضى منها وطره، قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك، فقال: وبنت أي ملك أنت؟ قالت: أنا مولاتك العباسة، فطارَ السكر من رأسه، وقال لأمه: بعتيني واللّه رخيصاً. فكان هذَاَ هَو السبب.
ويقال: إن علية بنت المهدي قالت للرشيد: ما رأيت لك يا سيدي يوم سرور منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال لها: يا حيائي، لو علمت أن قميصي يعلم السبب، لأحرقته.
وفي ربيع الأبرار: لم أر أبر من الفضل بأبيه يحيى؛ بلغ من بره أنه لما كانا محبوسين، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء مسخن، فمنع السجان الوقود في ليلة باردة، فلما أخذ يحيى مضجعه، قام الفضل إلى قمقم، فأدناه إلى المصباح فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح، فتوضأ به أبوه يحيى، فشعر السجان بذلك، فلما كانت الليلة الثانية، غيب السجان المصباح، فبات الفضل متأبطَاً القمقم، يدفئه لأبيه ليله أجمع.
ومات يحيى بالسجن في الرقة سنة تسع وثمانين ومائة بعد قتل جعفر بثلاث سنين؛ وبقي الفضل بعده في السجن، ثم مات، وكانت دولتهم منذ استخلف هارون إلى أن قتل جعفر سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوماً.
وقد رثتهم الشعراء وأكثروا، ومن ذلك قول علي بن معاذ: من السريع:
يا َأَيهَا المُغتَرُّ بِالدهرِ ... وَالدَّهرُ ذُو صَرف وَذُو غَدرِ
إِن كُنتَ ذَا جَهْلٍ بِتَصرِيفِهِ ... فَانظُر إلَى المَصلُوبِ بِالجسْرِ
فبينما جَعفَرُ في مُلكِهِ ... عشيةَ الجمعَةِ بالغمْرِ
إذ عَثَرَ الدهرُ به عثرَة ... يا وَيلَتِي مِن عَثرَةِ الدهرِ
وقال سلم الخاسر: من الطويل:
هَوَت أنجُمُ الجَدوَى وشَلت يد الندَى ... وغَاضَت بِحَارُ الجُودِ بعدَ البَرَامِكِ
هوت أنجُم كانَت لآل ابن برمَكِ ... بها يَعرِف الجارِي قَوِيمَ المَسَالِكِ
وقال منصور النميري: من مخلع البسيط:
أُندُب بني بَرمَكِ لدُنيَا ... تَبكِي عَلَيهِم بكُل نَادِي
كانتْ بهم بُرهَة عَرُوساً ... فأضحَتِ الآَنَ في حِدَادِ
وقال دعبل الخزاعي: من الطويل:
ألم تر صَرْفَ الدهرِ في آلِ بَرمَكِ ... وآلِ نهيكٍ والقُرُونِ الَتي خَلُوْا
لقد غَرَسُوا غَرسَ النخيلِ تكرماً ... فما حصدُوا إلا كما تحصدُ البقلُ
وقال أبو عذرة الأعرابي: من الخفيف:
ما رَعَى الدَّهرُ آلَ بَرمَكَ لَما ... أَن رَمَى ملكَهُم بأمْرٍ بديعِ
إنَّ دهراً لم يَرع حقاً ليحيى ... غَيرُ راعِ حَقاً لآَلِ الربِيعِ
قلت: آل الربيع هو حاجب هارون الرشيد، كأنه يهددهم بهذا القول ويخوفهم. ولبعضهم: من المديد:
يَا بني برمَكَ وَاهاً لَكُم ... ولأَيامِكُمُ المُقبلَهْ
كَانَتِ الدنيا عَرُوساً بِكُم ... وَهِيَ اليَومَ عَجُوز أرْمَلَهْ
وفي ابن خلكان: عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، قال: دخلت على والدتي في يوم عيد النحر، فوجدت عندها امرأة عجوزاً في ثياب رثة، فقالت لي والدتي: أتعرف من هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عتابة أم جعفر البرمكي. فأقبلت عليها بوجهي وأكرمتها، وتحادثنا زماناً، ثم قلت: يا أمه، ما أعجب ما رأيت. قالت: يا بني، لقد أتى على هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وإني أعد أن ابني عاق لي، ولقد أتى على العيد اليوم وما مناي إلا جلد شاتين أفرش أحدهما وألتحف بالآخر. قال: فدفعت لها خمسمائة دينار، فكادت تموت فرحاً.
وهاهنا مكاتبة من يحيى بن خالد حال كونه في السجن إلى الخليفة هارون نثر ونظم، أحببت ختم قصتهم بها، هي: إلى أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخلف المهديين، وخليفة رب العالمين. من عَبْدٍ أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزل به الزمان، وناح عليه الحدثان، فسار إلى الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الدعة، وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهر، وافتقد الهجوع، فساعته شهر، وليلته دهر، قد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعاً يا أمير المؤمنين، وحجة اللّه على فقدك لما أصيب به من بُعدك لا لمصيبتى بالحال والمال؛ فإن ذلك كان بك ولك عارية في يدي منك، ولا بد أن تسترد العواري، فإن كانت المحنة في جعفر، فبجرمه أخذته، وبجريرته عاقبته، وما أخاف عليك زلة في أمره، ولا مجاوزة به فوق ما يستحقه، فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتي، وارحم ضعفي وسني، ووهن قوتي، وهب لي رضى عني، فمن مثلي الزلل ومنك الإقالة، ولست أعتذر ولكني أقرّ، وقد رجوت أن يظهر منك الرضى من وضوح عُذري، وصدق قولي، وظاهر طاعتي ومليح حجتي، ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الجلية فيه ويبلغ المراد منه، إن شاء اللّه تعالى.
ثم كتب تحتها شعراً يقول: من مجزوء الكامل:
قُلْ لِلْخَلِيفةِ ذي الصنَا ... ئِعِ والعطايا الفَاشِيَهْ
وابنِ الخلائفِ مِن قري ... شٍ والملوكِ الهَادِيَهْ
رأسِ الملوك وخَيرِ مَن ... ساسَ الأمورَ الماضيَهْ
إن البرامكَةَ الذي ... ن رمُوا لَدَيكَ بداهِيَهْ
عمتهُمُ لَكَ سخطة ... لم تُبق مِنْهُمْ باقِيَهْ
فَكأنهُم مما بِهِم ... أَعجَاز نَخْلِ خاويَه
صفرُ الوجوهِ عَلَيْهم ... خِلَعُ المذلةِ باديَهْ
مستضعفُونَ مُطَردُو ... نَ بكُلِّ أرضٍ قاصِيَهْ
من دون ما يَلْقَونَ مِن ... عَتْب يشِيبُ الناصيَهْ
أضحَوا وجلُ مناهُمُ ... منكَ الرضَا والعافِيهْ
بَعدَ الوزارةِ والإما ... رةِ والأمورِ العاليَه
أُنظُرْ إلى الشيخِ الكبي ... ر فنَفْسُهُ لك راجيَهْ
أوَ مَا سَمِعْتَ مقالتي ... يا ذا الفروعِ الزاكيَهْ
ما زلتُ أرجو راحَة ... فاليومَ حَانَ رجائيَهْ
اَلْيَوْمَ قد سَلَبَ الزما ... نُ كرامتي وبَهَائِيَهْ
ألقَى الزمَانُ جِرَانِيه ... مستثبتَاً بفنائيَهْ
ورمَى سواءَ مَقاتِلِي ... فأصاب حِينَ رمانيَهْ
يا مَن يَوَد لِيَ الردَي ... يكفيكَ ويَحكَ ما بِيَهْ
يكفيكَ أني مستبا ... حٌ مَعْشَرِي ونسَائِيَهْ
يكفيك ما أَبصَرْتَ مِن ... ذلي وذل مكانيَهْ
إن كان لا يَكفِيكَ إل ... لاَ أَنْ أَذُوقَ حِمَامِيه
فلقدْ رَأَيتُ المَوْتَ مِن ... قبل المماتِ عَلانِيَهْ
وفُجِعْتُ أَعظَمَ فجْعَةٍ ... وفَنيتُ قَبْلَ فَنَائِيَهْ
أُنْظُر بعينِكَ هَل تَرَى ... إلاَ قُصُورَاً خاليَه
وذخائرَاً موروثَة ... قُسمنَ قَبْلَ مَمَاتِيَهْ
ومصارعاً وفجائعاً ... ومصائبَاً متواليهْ
أَخَلِيفَة اللهِ الرضَا ... لا تُشْمِتَنْ أعدائيَهْ
واذكُر مُقَاسَاتِي الأمُوْ ... رَ وخِدمَتِي وعَنَائِيهْ
إِرحَم جُعِلتُ لك الفدا ... كِبَرِي وشِدةَ حَالِيَهْ
واحمِ أخاكَ الفَضلَ وال ... باقِينَ مِنْ أولادِيَهْ
أخليفةَ الرحمنِ إن ... نَكَ لو رَأَيتَ بَنَاتِيَهْ
وبُكَاءَ فاطمةَ الكبي ... رةِ والمَدَامِعَ جاريهْ
ومقالَهَا بتوجعٍ ... يا شِقوَتِي وبَلائِيَه
ما لي وقد غَضِبَ الإما ... مُ عَلى جميع رِجَالِيَهْ
يا نظرةَ المَلِكِ الرضَا ... عودي إلَيْنَا ثَانِيَهْ
فلما رأى الرشيد هذه الأبيات، وقع تحتها قوله: من مجزوء الكامل:
أَجْرَى القَضَاءُ عَلَيكُمُ ... ما جِئْتُمُوهُ عَلاَنِيَهْ
مِنْ تَرْكِ نُصحِ إمامِكُم ... عند الأُمُورِ البَادِيَهْ
يا آلَ بَرْمَكَ إنمَا ... كُنْتُمْ ملوكاً عادِيَهْ
فكَفَرتُمُ وعَصَيتمٌ ... وجحدتُّمُ نَعْمَائِيَهْ
هَذِي عُقُوبَةُ مَنْ عَصَى ... معبودَهُ وعَصَانِيَهْ
" وضرَبَ اَللَهُ مَثَلا قَرية كَانتَ آمِنَة مُطمَئنَةَ... " الآية " النحل: 112 " .
سأل الرشيد موسى الكاظم بن جعفر، فقال له: لم زعمتم أنكم أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشر، فَخَطَبَ إليك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفخر بذلك على العرب والعجم، فقال موسى: لكنه لا يخطب إليَ ولا أزوجه؛ لأنه ولَدَنَا ولم يَلِدْكُمْ. ودخل عليه يوماً، فعثر بهدب البساط، فوقع، فضحك الرشيد، فالتفت إليه موسى فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ضعف صوم، لا ضعف سكر.
وكان الرشيد قد حمل موسى معه سنة أن حَجَ، حمله معه من المدينة إلى بغداد، وحبسه غير مضيق عليه إلى أن توفي.
قال الذهبي: بلغنا أنه بعث إلى الرشيد رسالة يقول: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، ثم نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون.
قال عبد الرحمن بن صالح الأزدي: لما رأى الرشيد قبره - عليه الصلاة والسلام - فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، يا ابن عم - يفتخر بذلك - فتقدم موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت، فتغيَّر وجه الرشيد، وقال: هذا الفخر حقاً، قال: ولعل الرشيد ما حمله إلى بغداد وحبسه إلا لقوله: السلام عليك يا أبتِ؛ فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا.
حكى الإمام محمد بن ظفر قال: كان الرشيد مع ظلمه، وعظيم مُلْكه، وجبروته يعتريه خَوفُ اللّه، فمن ذلك أن خارجياً خرج عليه، فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مراراً، ثم إنه جهز إليه جيشاً كثيفاً، فقاتلوه فغلبوه بعد جهد، وأتوا به الرشيد، فجلس مجلسَاً عاماً وأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: يا هذا، ما تريد أن أصنَعَ بك؟ قال: ما تريدُ أن يَصْنَعَ اللّه بك إذا وقفتَ بين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه.
فلما خرج، قال بعض جلسائْه: يا أمير المؤمنين، رجلٌ قَتَلَ أبطالك، وانتهب أموالك، تطلقه بكلمة واحدة؟ هذا مما يُجَرئُ عليك أهلَ الشر، فقال الرشيد: ردوه، فعلم الرجل أنه قد تكلم فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تطعهم، فلو أطاع الله الناس فيك، ما ولاك طرفة عين، قال: صدقت، ثم أمر له بصلة.
وفي كتاب روض الأخبار: أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره، والفضل بن الربيع خلفه، فإذا شيخ راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العين، فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد يا شيخ؟ قال: حائطاً لي، فقال: هل أدلك على شيء تداوي عينيك، فتذهب هذه الرطوبة. فقال الشيخ: ما أحوجني إلى ذلك، فقال له الفضل: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكمأة، فصيره في قشر جوزة، واكتحل به؛ فإنه يذهب رطوبة عينيك. فاتكأ الشيخ على حلس حماره، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة وصفك، فإن نفعنا الكحل زدناك، فضحك الرشيد حتى كاد أن يسقط من على ظهر فرسه.
قال النضر بن شميل إمام اللغة: حدثني الفراء، عن الكسائي، قال: دعاني الرشيد وليس عنده إلا حاشيته وابناه المأمون والأمين، فقال: يا علي، ما زلت ساهراً مفكراً في معاني أبيات قد خفيت علي. قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن ينشدنيها، فأنشد: من الرجز:
قد قُلْتُ قولا للغُرَابِ إذْ حَجَلْ
عَلَيك بالقُودِ المسانيفِ الأُوَلْ
تَغَد ما شِئتَ عَلَى غَيْرِ عَجَل
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العير إذا فصلَت من خيبر، وعليها التمر، يقع الغراب على آخر العير، فطرده السائق يقول: يا هذا، تقدم إلى أوائل العير، فكل على غير عجل. والقود: جمع أقود، وهو الطويل العنق، والأنثى قوداء، والمسانيف: المتقدمة.
ثم أنشدني: من الطويل:
لَعمرِي لَئِن عَشرتُ مِن خشيَةِ الردىَ ... نُهَاقَ الحميرِ إِنني لَجَهُولُ
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل من العرب إذا وصل إلَى خيبر، أكب على أربعة، وعشر تعشير الحمار، وهو أن ينهق عشر نهقات متتابعات يفعل ذلك؛ فيدفع عن نفسه حمى خيبر.
ثم أنشدني قول الآخر: من البسيط:
أجاعل أَنْتَ بَيقُوراً مُضَرمَة ... ذريعَة لَكَ بين اللهِ والمَطَرِ
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كانت العرب إذا أبطأ المطر، شدت العشر والسلع - وهما ضربان من النبت - في أذناب البقر، وألهبوا فيها النار، وشردوا بالبقر؛ تفاؤلا بالبرق والمطر.
ثم أنشدني: من الطويل:
لعمركَ ما لامَ الفَتَى مِثل نَفسِهِ ... إِذا كانَتِ الأحياءُ تَعْرَى ثيابُهَا
وآذَنَ بالتصفِيقِ مَن سَاءَ ظنهُ ... فلم يَدرِ مِن أي اليدَينِ جوابُهَا
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل منهم إذا ضَل في المفازة، قلب ثيابه، وصاح كأنه يومئ إلى إنسان، ويشتد شدة ويصفق بيديه، فيهتدي الطريق.
ثم أنشدني: من مجزوء الكامل:
قَودَاء تَملِكُ رَحلَهَا ... مِثلَ اليَتِيمِ مِنَ الأَرَانِبْ
فقلت: نعم، يقول: هذه ناقة مثل اليتيم من الآكام، واليتيم الواحد من كل شيء، والأرانب: الآكام.
ثم أنشدني لآخر: من الطويل:
إِلى اللهِ أشكُو هَجْمَة هجريةَ ... تعاورها أَمْر السنِين الغَوَابِرِ
فعادَت روايا تَحمِلُ الطينَ بَعدَ ما ... تَكُونُ قِرَى للمُعْتَفِينَ المَفَاقِرِ
قلت: نعم، هذا رجل في بستانه نخيل أتى عليها الدهر، فجفت، فقطعها وصيرها أجذاعاً، وسقف بها البيوت، فقال: هذه الأجذاع كانت تحمل الرطب فنأكل ونطعم الأضياف، فجفت، فقطعتها وسقفت بها، فهي الآن تحمل الطين والتراب وغير ذلك.
ثم أنشدني: من الطويل:
وَسِرب مِلاَحٍ قد رأيتُ وجوهَهُمْ ... إِنَاث دَوَانِيهِ، ذُكُورْ أواخِرُهْ
قلت: نعم، يعني: الأضراس.
ثم أنشدني قول الآخر: من الطويل:
فَإني إِذن كَالثورِ يُضْرَبُ جَنبُهُ ... إِذَا لَمْ يَعَفْ يَوْماً وَعَافَتْ صَوَاحِبُهْ
قلت: نعم، كانت العرب إذا وردت البقر الماء، فشربت الثيران، وأبت البقر، ضربت الثيران فتشرب البقر، وهو كما قال الشاعر الآخر: من البسيط:
إِني وَقَتْلِي سُلَيْكاً ثُم أَعقِلَهُ ... كَالثوْرِ يُضْرَبُ لَما عَافَتِ البَقَرُ
ثم أنشدني قول الآخر: من الطويل:
وَمُنحَدِرٍ مِنْ رَأْسِ بَرقَاءَ حَطهُ ... مَخَافَةَ بَينٍ أَوْ حَبِيب مُزَايِلِ
قلت: نعم، يعني: الدموع، والبرقاء: العين؛ لأن فيها بياضَاً وسواداً. حطه: أساله.
قال: فوثب الرشيد، فجذبني إلى صدره، وقال: لله در أهل الأدب، ثم دعا بجارية: فقال: احملي إلى منزل الكسائي خمس بدر على أعناق خمسة أعبد يلزمون خدمته.
ثم قال لي: استنشدهما - يعني ابنيه - فأنشدني محمد الأمين فقال: من الطويل:
وَإني لَعَف الفَقْر مُشْتَرَكُ الغِنى ... وَتَارِكُ شَكلٍ لاَ يُوَافِقُهُ شَكْلِي
وَشَكلِيَ شَكل لا يَقُومُ لِمِثلِهِ ... مِنَ الناسِ إِلا كُل ذي ثِقَةٍ مثلِي
ولي نيقةْ في المَجد والبَذلِ لم يَكُن ... تَأَنقَهَا فيما مَضَى أَحَد قَبْلِي
وأجعلُ مالي دُونَ عِرضِيَ جُنة ... لِنَفسِي واستغنى بِمَا كَانَ مِنْ فَضْلِ
وأنشدني عبد اللّه المأمون: من الكامل:
بَكَرَت تلومُكَ مَطلَعَ الفَجْر ... ولقَد تلومُ بَغْير ما تَدْري
ما إن مَلَكت مُصِيبَة نَزَلَت ... إذ لا تحكمُ طائعَاً أمْرِي
مَلِكُ المُلوكِ عَلَى مقتَدر ... يُغطي إذا ما شاء مِنْ يُسْرِ
فَلَرُب مغتبطِ تمد له ... ومفَجعِ بنوائِبِ الدهرِ
ومكاشِح لي قد مَدَدت له ... نَحراً بلا ضرْعٍ ولا غمْرِ
حتى يَقُولَ لنَفسِهِ لَهَفٌ ... في أَي مذهَب غايةٍ أَجْرِي
ويَرَى قَنَاتِي حِينَ يغمِزُهَا ... غَمزَ الثقَافِ بطيئَةَ الكَسْرِ
فقال الرشيد: يا علي، كيف تراهما؟ فقلت: من الطويل:
أَرَى قَمَرَي أُفقٍ وَفَرْعَى بشامَةٍ ... يَزِينُهُما عِرق كريمٌ ومَحْتِدُ
يَسُدانِ آفاقَ السماءِ بشيمةٍ ... يؤيدُهَا حَزم وعَضْبٌ مُهْندُ
سليلَى أمِيرِ المؤمنينَ وَحَائِزَي ... موارِيثِ ما أبْقَى النبِيُ محمَدُ
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكَنت عروقه، وعذبت مشاربه. غذاهما ملك أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم. فأسأل اللّه أن يزيد بهما الإسلام تأييدَاً وعزاً، ويمتع أمير المؤمنين بهما ويمتعهما بدوام سلطانه وقدرته، ما دجا ليل وأضاء نهار. ثم انقضى المجلس وخرجت جذلا مسروراً.
وفي كتاب الأذكياء: ذكر أبو جعفر أحمد بن جعفر البلخي؛ أن الرشيد جمع بين الكسائي وأبي محمد اليزيدي، يتناظران في مجلسه، فسألهما الكرماني عن قول الشاعر: من مجزوء الرمل:
ما رأينا خَرِباً يَن ... قر عنه البَيضَ صَقْرُ
لاَ يَكُونُ العَيرُ مُهراً ... لا يكون؛ المُهْر مُهرُ
فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على هذا إقواء. فقال اليزيدي: الشعر صواب؛ لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، ثم استأنف، فقال: المهر مهر، ثم ضرب بقلنسوته على الأرض، وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال الرشيد: واللّه، إن خَطَأَ الكسائي مع حسن أدبه لأحب إلي من صوابك مع سوء أدبك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه.
واجتمع الكسائي، ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنهما - فقال الكسائي: من تبحر في علم النحو، اهتدى إلى سائر العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى. قال: لا، قال: لم ذا؟ قال: لأن النحاة يقولون: المصغر لا يصغر، قال محمد: فما تقول في تعليق العتق بالملك؟ قال: لا يصح، قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر.
وتعلم الكسائي النحو على كبر سنه، وسببه أنه مشى يوماً حتى أعيا، فجلس وقال: عييت، فقيل له: لحنت، قال كيف؟ قيل: إن كنت أردت التعب، فقل أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت بغير همز. فأنف من قولهم: لحنت، واشتغل بالنحو حتى مهر وصار إمام وقته. وكان يؤدب الأمين والمأمون، وصارت له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه.
وتوفي محمد بن الحسن والكسائي في يوم واحد سنة سبع وثمانين ومائة، ودفنا في مكان واحد، فقال الرشيد: هاهنا دفن العلم والأدب.
وقصة الكسائي مع سيبويه في مسألة: فإذا هو هي، أو إياها شهيرة لا نطول بذكرها.
وقال المبرد: حدثني محمد بن عباد الحنفي قال: أخبرني العباس بن الأحنف ببغداد قال: لم أدر ذات يوم إلا والمسودة قد أحاطت بي، فمضى بي إلى دار الخلافة هارون الرشيد، فصرت إلى خالد بن يحيى فقال: ويحك يا عباس، إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك، وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين، وقد جرى بينهما عتب، وهي بِعِزة دالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بِعِزةِ الخلافة وشرف الملك يأبى، وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستقيده الصبابة، فقل شعراً تسهل به هذا السبيل.
فلما قضى كلامه دعاه أمير المؤمنين، فصار إليه وأعطيت ورقاً ودواة، فاعتراني الدمع ونفر عني كل شيء، ثم انفتح لي شيء من الأشياء، والرسل من الخليفة ما تغبني، فجائني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات، فإن كان، فَفِيهَا مقنع. وفي مدة ذهاب الرسول ومجيئه حضرني بيتان من غير ذلك الروي، فكتبت الأربعة في صدر الرقعة، وعقبتها بالبيتين، وذلك قولي: من الكامل:
ألْعَاشِقَانِ كلاَهُمَا متغضبُ ... وكلاهما متوحد متجنبُ
صَدت مُغَاضِبةَ وصَد مُغَاضِباً ... وكلاهُما مما يُعَالِجُ مُتْعَبُ
رَاجِعْ أَحبتَكَ الذينَ هَجَرْتَهُمْ ... إن المتيمَ قَلَمَا يتجنبُ
إن التجنُبَ إن تطاوَلَ منكُمَا ... دَبَّ السلُوُ له فَعَز المَطْلَبُ
ثم البيتان وهما: من السريع:
لاَ بُدَ للعاشِقِ من وَقْفَةٍ ... تَكُونُ بين الوَصْلِ والصَّرْمِ
حَتى إذا الهُم تمادَى به ... رَاجَعَ مَن يَهْوَى عَلَى رَغْمِ
قال: ثم وجهت بالرقعة فدفعها إلى الرشيد، فقال: واللّه، ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، واللّه لكأني قصدت به، فقال يحيى: فأنت واللّه المقصود، يا أمير المؤمنين، هذا يقوله العباس بن الأحْنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين، وأفضى إلى قوله: راجع من يهوى على رغم استغرق ضحكاً ثم قال: إني واللّه أراجعها على رَغم، يا غلام، نعلي. فنهض وأذهله الجذل والسرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى، وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة. ثم جاء إنسان، فسارهُ بشيء، فنهض ونهضت لنهوضه، فقال: يا عباس، أمسيت أنبل الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول. قلت: لا، قال: ذكر أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه، فقالت له: كيف كان هذا يا أمير المؤمنين؟ فأعطاها الشعر، وقال: هذا الذي جاء بي، قالت: من يقوله؟ فقال: العباس بن الأحنف، قالت: فبكم كوفئ؟ فقال الخليفة: ما فعلت شيئاً، قالت: إذن واللّه لا أجلس حتى يكافأ. وأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم لقيامهما، وهما يتناظران في صِلَتِكَ، هذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا القبلة، فضحك، وقال: هذا أحسن من شعرك، فأمر لي الخليفة بمالِ وأمرتْ هي لي بمال دونه، وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به، وحملت المال على بغلة. انتهى.
وروى عن المبرد قال: حدثني من أثق به أن مسلم بن الوليد الأنصاري المسمى بصريعِ الغواني كان يمدحُ من دون الخليفة، وكان يقول: إن نفسي تذوب حسرات من أن يحوي جوائز الخلفاء من لا يقاربني في الأدب، ولا يوازيني ولا يصلح أن يكون شعره خادماً لشعري. فخرج ذات يوم، فلقي يزيد بن منصور الحميري بباب الرشيد، فسلم عليه، وسأله أن يقربه من الخليفة، فوعده ذلك، فدخل الحميري، فأصاب أمير المؤمنين لقس النفس قد اشتمل عليه الفكر في سرعة تقضي الأمور، وأنه لا يتشبث منها بشيء إلا كان كالظل الحائل، والسراب الخادع. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما هذا الذي أنت فيه عارض لك، وكانت الحكماء تقول: الهم مفسدة للنفس، مضلة للفهم، مشدهة للقلب، وقالت أيضاً: بالسرور يطيب العيش، ومع الهم يتمنى الموت.
قال: وكأن الرشيد نشط واندفع عنه ما اعتراه من ذلك الفكر، فتقدم الحميري وقال: يا أمير المؤمنين، خلفت بالباب اَنفاً رجلا من أخوالك الأنصار، متقدمَاً في شعره وأدبه وظرفه، أنشدني قصيدة يذكر فيها أنسه ولهوه ومحادثة إخوانه، ويذكر مجالس اتفقت بأبلغ قول وأحسن وصف، يبعث والله على الصبابة والفرح ويباعد من الهم والترح. وكأنه وفق بيمن أمير المؤمنين وسعادة جده لأن يكون زائداً في سرور أمير المؤمنين. قال: فاستفزه السرور والقلق إلى دخوله عليه واستماع قصيدته، فجعل الخليفة يتابع الرسل إليه، فدخل مسلم، فسلم بالخلافة، ثم أمهل حتى سكن، ثم أذن له في الجلوس والانبساط، واستدعى منه الشعر فانبرى ينشد: من الطويل:
أَدِيرَا عَلَي الكَأْسَ لاَ تَشْرَبَا قبليوَلاَ تَطْلُبَا مِنْ عِنْدِ قَاتِلَتِي ذَحْلِي
فما جَزَعِي أَني أموتُ صَبَابَةَ ... ولكن على مَنْ لا يَحِل لها قَتْلِي
أحبُّ التي صَدت وقالَتْ لِتِرْبِهَا ... دَعِيهِ الثريا مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ وَصْلِي
بَلى ربما وَكلْتُ عَيْني بنظرةِ ... إليها تزيدُ القَلبَ خَبلاَ على خَبْلِ
كَتَمتُ تباريحَ الصبَابَةِ عَاذِلِي ... فلم يَدْرِ ما بي واستَرَحت مِنَ العَذْلِ
ومانحة شرابَها المَلك قَهوَة ... يهوديةَ الأَصهَارِ مُسلِمَةَ البَعلِ
رَبِيبَةَ شَمسٍ لم تُهَجن عُروقُهَا ... بِنَارٍ ولم يُجمَع لها سَعَفُ النخلِ
بعثنا لها منا خَطيباً لبضعَها ... فجاء بها يمشي العرضنة في مهل
قَدِ استودعَت دَنا لها فَهوَ قائِم ... بها شفقاً بين الكرومِ على رِجْلِ
فوافى بها عَذرَاءَ خل أخو نَدي ... جَزِيلُ العطايا غَيرُ نِكسٍ ولا وَغلِ
مُعتقَة لا تَشتَكِي دَمَ عاصِرِ ... حرورية في جَوفِهَا دَمُهَا يَغْلِي
أغارَتْ على كَف المُدِيرِ بلونِهَا ... فصَارَت له منها أَنَامِل كالذبْلِ
أماتَتْ نفوساً من حياةٍ قريبةٍ ... وماتَتْ فلم تُطْلَبْ بوتر ولا تَبْلِ
شَقَقنَا لها في الدَن عيناً فأسبَلَت ... كما أخلصَتْ عَين الخَرِيدَةِ بِالكُحْلِ
كان فنيقاً بازلاً شق نَخرهُ ... إذا أسفَرَتْ منها الشعاعُ على البُزْلِ
ودارَتْ علينا الكَأسُ مِنْ كَف ظَبْيَةٍ ... مبتلةٍ حَوْرَاء كَالرشَأ الطفْلِ
كأن ظباء عُكفاً في رياضها ... أباريقُها أو حِينَ قَعْقَعَةِ النبْلِ
وحن لنا عود فَبَاحَ بِسِرنَا ... كأن عليه سَاقَ جاريةٍ عُطْلِ
تضاحكُهُ طَوراً وتبكيه تارة ... خَدَلَجة هَيْفَاءُ ذَاتُ شَوى عَبْلِ
إذا ما عَلَت منا ذُؤَابَةَ مَاجِد ... تَمَشتْ به مَشْيَ المُقيدِ في الوَحْلِ
فلا نحن مِتنَا مَوتَةَ الدَّهرِ بغتة ... ولا هي عَادَتْ بعد عَل ولا نَهْلِ
سأنقادُ لِلَّذاتِ مُتبِعَ الهَوَى ... لأُمْضِيَ هَمُّاً أو أَصَبْت فَتَى مِثليِ
هَلِ العيشُ إلا أَن تَرُوحَ مَعَ الصبَاوَتَغْدُو صَرِيع الكَأْسِ والأَعْينِ النُّجْلِ؟!
قال: فجعل الرشيدُ يتطاوَلُ لها ويستحسنُ جميع ما حكاه، وأمر له بمال جزيل، وأن يتخذ له مجلس يتحول إليه، وجعل الرشيد وأصحابه يتناشدون قصيدته هذه، وسماه يومئذ بآخر بيت في القصيدة: صَرِيعَ الغواني؛ فالرشيد هو الذي سماه بهذا الاسم، فلزمه. انتهى. كذا في المحاسن لإبراهيم البيهقي.
وأدخل الفضل بن يحيى أبا نواس إلى عند الرشيد، فقال له الرشيد: أنت القائل: من مجزوء الرمل:
عتقَتْ في الدَن حَتى ... هِيَ في رِقةِ دِينِي..
أحسبك زنديقاً. قال: يا أمير المؤمنين، قد قلت ما يشهد لي بخلاف ذلك، قال: وما هو؟ فقال: من السريع:
أية نار قَدَحَ القَادِح ... وَأِيُ جِد بَلَغَ المازح؟!
لله در السيب من واعظ ... وناصح لو قبل الناصح
فاغدُ فَمَا في الحَق أُغْلُوطَةٌ ... وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائحُ
مَن يَتَّقِ اللهَ فَذَاكَ الذِي ... سِيقَ إِلَيهِ المَتجَرُ الرابحُ
لا يَختَلِي الحَوْرَاءَ مِنْ خِدْرِهَا ... إِلا امْرُؤ مِيزَانُهُ رَاجِحُ
فاسمُ بِعَيْنَيك إِلى نسوَةٍ ... مُهُورُهُنَ العَمَل الصَّالِحُ
فقال الرشيد: لا أعتبر بهذا الكلام، يا غُلام، اضرب عنقه، فقال أبو نواس: يا أمير المؤمنين، أتقتلني شهوة لقتلي؟ قال: بل استحقاقاً، قال: فإن الله تعالى يحاسب، ثم يعفو أو يعاقب؛ فبماذا استحققتُ عند أمير المؤمنين القتل؟! قال بقولك: من الطويل:
أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْرَاً وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُولاَ تَسْقِنِي سِراً إذا أَمْكَنَ الجَهْرُ
قال: يا أمير المؤمنين، فهل علمت أنه سقاني أو شربت؟! قال: أظُن، قال: أفتقتلني على الظن، وبعض الظن إثم؟ قال: وقد قلت - أيضاً - ما تستحق به القتل غير هذا، قال: وما هو؟! قال: قولك في التعطيل: من الكامل:
مَا جَاءَنَا أَحَد يُخبرُ أَنهُ ... في جَنَّة مَنْ مات أو في نَارِ
قال: أفجاء أحد يا أمير المؤمنين؟! قال: لا، قال: أفتقتلني على الصدق؟! قال: أو لست القائل: من البسيط:
يَا أَحمَدُ المُرْتَجَى في كُل نائبةِ ... قُمْ سَيدِي نَعصِ جَبارَ السمَوَاتِ
قال أبو نواس: أفقام أحمد يا أمير المؤمنين، وصار القول فعلا. قال: لا أعلم، قال: أفتقتلني على ما لا تعلم؟! قال: فدع هذا كله، قد اعترفْتَ في مواضع كثيرة من شعرك بما يوجب عليك القتل، قال: قد علم اللّه تعالى هذا من قبل علم أمير المؤمنين، فأخبر عني أني أقول ما لا أفعل؛ يشير إلى الآية في الشعراء: " وَأَنَهُم يَقولوُنَ مَا لا يَفعَلوُن " " الشعراء: 226 " ، فقال الفضل: يا سيدي؛ إنه ليؤمن بالبعث، وإنه يحمله المجون على ذِكْرِ ما لم يعتقده.
ثم إن أبا نواس أنشد الخليفة يقول مدحاً: من الطويل:
لَقَدْ طَالَ في رَسْمِ الديارِ بُكَائِي ... وقَدْ طال تَرْدَادي بها وَعَنَائِي
كأني مريع فِي الديارِ طريدَة ... أَرَاهَا أمامِي مَرَة وَوَرَائِي
فَلما بدا لِي اليَأسُ عَدَيْتُ نَاقَتِي ... عَنِ الدارِ واسْتَوْلَى عَلَي عَزَائِي
إلَى بَيتِ حَانٍ لاَ تَهِر كِلاَبُهُ ... عَلَي ولا ينكرنَ طُولَ ثَوَائي
فما رمتُهُ حتى أتَى دُونَ ما حَوَت ... يميني وحَتى رَيطَتي وحِذَائي
وكأس كمصباح السماءِ شَرِبتُهَا ... عَلى قُبلَةٍ أو مَوعِدِ بِلِقَاءِ
أَتَت دونها الأيامُ حتَّى كأنها ... تَسَاقَطُ نورَاً مِنْ فُتُوقِ سَمَاءِ
تَرَى ضَوءَهَا من ظاهرِ البَيْتِ ساطعاً ... عَلَيْك وَلَوْ غَطيْتَهُ بِغِطَاءِ
تَبَارَكَ مَنْ سَاسَ الأمورَ بِقُدْرَةٍ ... وفَضلَ هَارُونا على الخُلَفَاءِ
نَرَاكَ بِخَيْرِ ما انطَوينَا عَلَى التقَى ... وما سَاسَ دُنْيَانَا أبو الأمُنَاءِ
إِمام يخافُ اللّه حَتَى كأنه ... يؤملُ رُؤيَاهُ صَبَاحَ مَسَاءِ
أَشَم طِوَال الساعِدَينِ كأنما ... يُنَاطُ نِجَاداً سَيْفُهُ بِلِواءِ
قال: فخلع عليه الرشيد، ووصله بعشرة آلاف درهم، والفضل بمثلها، فنظر إلى جارية تختلف كأنها لؤلؤة، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ميت في ليلتي هذه، فإذا مت، فمر أن أُدفَنَ في بطن هذه الجارية، فقال له الرشيدة خذها لا بارَكَ اللّه لك فيها، فقال أبو نواس: فانصرفت بمثل الشمس حسناً، وفي منزلي كلام لي مثل القمر، فلقيني محمد بن بشير الشاعر فقال: أتيتك مهنئاً بما حباك أمير المؤمنين، فقلت: هي نعمة تتبعها نقمة، قال: ولم ذاك؟ قلت: عندي غلام مثل القمر، وهذه الشمس إن جمعتهما أتخوفُ ما تعلم، وإن أفردت الجارية لم آمَن عليها وغلامِي لا بُد منه، قال: اجعلها عند بعض إخوانك إلى وقت حاجتك، قلت: فلعل الحارسَ هو المحروس منه، قال: فصَيرهَا عند عجوز تثقُ بها، قلت: لعلي أسترعِي الذئب، قال: ثم افترقنا، فالتقى معي بعد ثلاث، فقلت له: يا محمد بن بشير، ما على وجه الأرض شر منك، شاورتك في أمر فلم تفتح علي فيه شيئاً، فلما فارقتك، ازدحَمَ عليَ الرأي المصيب، فقال لي: صنعت ماذا؟ قلت: زوجتُ الشمسَ بالقَمَرِ، فحصلتهما لأَقضِي بهما وطرى، فقال: كان الشيء عليك حلالا فجعلته حراماً، فقال أبو نواس: يا أحمق، ما شاورتك في الحلال والحرام، إنما قلت لك: كيف الرأي في تحصيلهما عندي. ثم أنشأ يقول: من السريع:
زَوجتُ هَذَاكَ بِهَذي لِكَي ... أَنكِحَ ثنتينِ فثنتينِ
أنكِحُ هَذَا مرة ثُم ذا ... أُدِيرُ رمحَاً بين صَفيْنِ
مَتعتُ نَفسِي بِهِمَا لذة ... يَا مَنْ رَأَى مَطلعَ شَمْسَيْنِ
وذكر أن هارون الرشيد لما قدم المدينة المنورة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في بعض حجاته، وجه يحيى بن خالد البرمكي إلى الإمام مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه: احمل إليَ كتابك الذي صنعت - يعني الموطأ - أسمعه عليك، فقال مالك ليحيى: أَقرِئْهُ السلام، وقل له؛ العلم يزار، ولا يزور، ويؤتى ولا يأتي، فرجع إلى هارون الرشيد وأخبره، ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين، يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك بأمر فخالفك، اعزم عليه حتى يأتيك، فبينما هم كذلك إذا بمالك قد دخل وليس معه الكتاب، جاء مسلماً على الخليفة، فسلم وجلس، فقال له هارون: يبلغ أهل العراق أني سألتك أمرَاً من الأمور سهلا فأبيت علي، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعلك في هذا الموضع، فلا تكنْ أول من ضيع العلم؛ فيضيعك اللّه تعالى، ولقد رأيت من ليس هو في حسبك ونسبك يعز هذا العلم ويجله، فأنت أحرى أن تجله، ولم يزل يعظه ويعدد عليه حتى بكى، ثم قال مالك: أخبرني الزهري، عن خارجة، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يستَوِي اَلقَاعدُونَ مِنَ المُؤمنِينَ غيرُ أُولِي اَلضررِ وَالمجُاهدونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموالهم وَأنفُسِهِم " " النساء: 95 " ، وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، أنا رجل ضرير، فهل لي رخصة - يعني في ترك الجهاد - فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا أدري " ، قال زيد: وقلمي رطب ما جف، حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ثم سرى عنه، فقال: " اكتب يا زيد: " غيرُ أُولِي اَلضررِ " " النساء: 95 " ، قال: فحرف واحد يا أمير المؤمنين بعثَ فيه الملك جبريل من مسيرة خمسين ألف عام، حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أفلا ينبغي لي أن أعزه وأجله؟ قال: بلى، ثم إن هارون أتى إلى منزل الإمام مالك، فسمع منه الكتاب، ووفقه اللّه للصواب.
وقد قيل الدين لسيوف الأمراء وألسن العلماء.
واجتمع القاضي أبو يوسف بالإمام مالك عند الرشيد، فقال له القاضي أبو يوسف: ما تقول فيمن سها بزيادة في الصلاة؟ فقال الإمام مالك: يسجد للسهو بعد السلام، فقال: فإن سها بهما، فقال: يسجد قبل السلام، فقال أبو يوسف ملتفتاً إلى الرشيد: الشيخ تارة يخطئ وتارة لا يصيب، فظن الإمام مالك أنه يقول: تارة يخطئ، وتارة يصيب، فقال: على هذا أدركنا مشايخنا من السلف الصالح، ثم نبه الإمام مالك لقول أبي يوسف ومراده، فقال: ما ظننت أن أهل العلم يتكلمون بمثل هذا، قلت: رحم الله الإمام مالكاً، ورضي عنه، فما أغفله عن مظان السوء، وما أسلم فطرته، وأخلص نيته، وأصدق طويته حيث لم يخطر بباله ذلك، ولا خطر بباله أن يخطر ببال أهل العلم.
وقد طلب الرشيد من الإمام مالك أن يكتب مذهبه لقصد أن يجمع الأمة على مذهبه فقط، فقال الإمام: لا تفعل هذا؛ فإن الأحاديث النبوية كثيرة، وقد نقلها العلماء في سائر البلدان وانتشرت، فلا تحجر واسعاً، ودع الأمة على مذاهبها، رضي الله عنه.
قال الأصمعي: وقال لي الرشيد: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لنا، قلت: واللّه يا أمير المؤمنين، ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فسكت، فلما انصرف الناس قال: اجلس، فجلست، فلما لم يبق سوى الغلمان قال: ما معنى ما ألاقتني؟ فقلت: قال الشاعر: من الكامل:
كَفاكَ كَف مَا تُلِيقُ بِدِرْهَمٍ ... جُوداً وأُخرَى تُعطِ بالسيْفِ الدمَا
فقال: أحسنْتَ هكذا فكُن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، وأمر لي بخمسة آلاف دينار رواها أبو حاتم، عنه.
وفي مروج الذهب: رأى الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: لو فعلت ذلك، كانت الروم تختطف الناس من المسجد الحرام وتدخل مراكبهم إلى الحجاز. فترك ذلك.
قال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناسَ وأعظمهم، ومغنيه أبو إسحاق الموصلي، وزوجته زبيدة بنت جعفر.
وحكى أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجواهر والدواب ما قيمته ألف ألف وخمسة وعشرون ألف دينار. ومن النقد مائة ألف ألف دينار، وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والنساء، فاللّه يسامحه.
قال صاحب جواهر العقدين: لما أنشد منصور النميري هارون الرشيد قصيدته تقرباً للرشيد يغض فيها من الطالبيين منها قوله: من الوافر:
يُسَمونَ النبِي أَباً ويَأبى ... مِنَ الأحزاب سَطر في السطُورِ
يريد بذلك الآية الكريمة " مَا كاَنَ مُحَمَّد أَبَا أحد مِّن رّجَالِكُم... " الآية. " الأحزاب: 40 " ، رأى في ليلته النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهوى عليه بقضيب من نار، ويقول: أنت الذي تنفي ذريتي مني، فانتبه مرعوباً، ومال إلى التشيعِ، وقال في ذلك ما أوجب أن أمر الرشيد لما وقف عليه بقتله، فنجاه اللّه ووجدوه قد مات، وهذه الواقعة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني.
قال أبو محمد بن حزم: أراه كان لا يشرب النبيذ المختلف فيه إلا الخمر المتفق على تحريمها، ثم جاهر بها جهاراً كبيراً.
قال السيوطي في تاريخه: في سنة اثنتين وتسعين ومائة: توجه الرشيد نحو خراسان، فذكر محمد بن الصباح أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق، إلى أن قال: يا صباح، لا أحسبك تراني بعدها، قلت: بل يردك الله سالماً، ثم قال: ولا أحسبك تدري ما أجد، فقَلت: لا واللّه، فقال: تعال أريك، وانحرف عن الطريق، فأومأ إلى الخواص فتنحوا، ثم قال: أمانة اللّه يا صباح أن تكتم علي وكشف عن بطنه، فإذا عصابة حرير حوالي بطنه فقال: هذه علة أكتمها عن الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي على رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل ابن بختيشوع رقيب الأمين، وفلان رقيب المؤتمن، ما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي ويعدُ أيامي ويستطيل دهري، فإن أردت أن تعرف ذلك، فالساعة أدعو ببرذون فيجيئون به أعجَفَ ليزيد في علتي، ثم دعا ببرذون فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي، ثم ركبه، وودعني، وسار إلى جرجان، ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث وتسعين، وهو عليل إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن مات.
قال الذهبي: إن الرشيد رأى مناماً أنه يموت بطوس، فانتبه وبكى، وقال: احفروا لي قبرَاً فحفر له، ثم حمل في قبته على جمل، وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال: يا ابن آدم، تصير إلى هذا. وأمر قوماً فنزلوا، فختموا فيه ختمة، وهو في محفته على شفير القبر، فلما مات، دفن به.
وكانت خلافته ثلاثَاً وعشرين سنة وشهرين وتسعة عشر يوماً، وقيل: أربعاً وعشرين، وقيل: خمسَاً وعشرين سنة، وعمره أربع وأربعون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام.