سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
خلافة محمد الأمين
ابن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد اللّه المنصور بن محمد بن علي بن عبد اللِّه بن العباس، بايع له أبوه الرشيد بولاية العهد في سنة خمس وسبعين، ولقبه بالأمين، وله يومئذٍ خمس سنين، لحرص أمه زبيدة على ذلك، قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة، ثم لابنه الآخر من بعد الأمين عبد اللّه، ولقبه المأمون، وولاه ممالك خراسان بأسرها. ثم بايع ابنه الآخر القاسم، ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء: قد ألقى بينهم بأسهم، وغائلة ذلك تضرُ بالرعية، ثم إنه علق نسخة البيعة بالكعبة الشريفة، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي: من مجزوء الكامل:
خيرُ الأمورِ مغبةَ ... وأحق أمرٍ بالتمام
أمر قضى أحكامَهُ الر ... رَحمنُ فِي البَيتِ الحَرَام
وقال عبد الملك بن صالح: من البسيط:
حُب الخليفةِ حب لا يدينُ له ... عاصِي الإلهِ وشانٍ يَلْقَحُ الفتنا
أللهُ قلدَ هاروناً سياستَه ... لما اصطَفَاه فأحيا الفرضَ والسنَنَا
وقلدَ الأَمرَ هارون لِرَأفتِهِ ... بنا أميناً ومأموناً ومؤتمنا
قال بعضهم: وقد زوى الرشيد الخلافة عن ولده المعتصم لكونه أمياً، فساقها اللّه إليه، وجعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته، ولم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة.
بويع الأمين بالخلافة يوم توفي الرشيد بطوس والأمين ببغداد، فورد عليه بها خاتم الخلافة والبردة والقضيب، فلما تمكن من الخلافة خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو في المهد، وسماه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن، وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى، فأرسل إلى الكعبة الشريفة من جاءه بكتاب العهد الذي علقه فيها الرشيد للأمين والمأمون فمزقه، وكان ذلك برأي الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر، فقال بعض الشعراء في ذلك: من المتقارب:
أضاعَ الخلافةَ غِشُ الضميرِ ... وفسقُ الوزيرِ وجهلُ المُشِيرِ
ففضل وزير وبَكر مُشير ... يريدانِ ما فيه حَتْف الأميرِ
لواطُ الخليفةِ أعجوبَة ... وأعجبُ منه حلاق الوَزِيرِ
فهذا يدوسُ وهذا يُدَاسُ ... وهذا لعمري خلافُ الأمورِ
فلو يستعفانِ هذا بذاكَ ... لكانا بعُرْضةِ أمرِ يسيرِ
وأعجبُ مِن ذا وذا أَننَا ... نُبَايعُ للطفْلِ فينا الصغيرِ
ومَنْ ليسَ يُحسِنُ غسلَ استِه ... ولم يخلُ من بولِهِ حجرُ ظِيرِ
وكان أول من أجاب الأمين إلى خلع المأمون وزيره علي بن عيسى بن ماهان، فجهزه الأمين لحرب المأمون في مائة ألف مقاتل، فلما قرب من الري قابله طاهر بن الحسين من قبل المأمون في أربعة آلاف أو خمسة آلاف، وحمل عليه على حين غفلة، فكانت بينهما وقعة في ذلك الموضع كانت الدائرة على علي بن ماهان وأصحابه، وانجلت عن قتل علي بن عيسى، فحز رأسه، وظفر طاهر بجميع خزائنه، وأرسل على الفور إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون بكتاب يقول فيه: أطال اللّه بقاءك، وكبت أعداءك، كتبت كتابي هذا إليك ورأس علي بن ماهان بين يدي، وخاتمه في إصبعي. فسمع المأمون بذلك، وسلم عليه بالخلافة في ذلك الوقت.
ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان، وولاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان، فسار إلى همذان وحصنها، وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه، وهزمه طاهر إلى البلد، ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة، وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهرة فأمنه وأقام في أمانه، ثم أصاب عبد الرحمن غرة من طاهر فركب وهجم عليه في عسكره فقاتله طاهر أشد القتال حتى انهزم أصحاب عبد الرحمن وقتل، ولم يزل طاهر يهزم الجيوش، ويقتل قواد الأمين واحداً بعد واحد، وهو سائر إلى بغداد يريد الأمين، وفر قائدان من قواد الأمين الكبار هما خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان إلى طاهر بن الحسين، فوثبا على جسر دجلة في ثامن المحرم فقطعاه وركزا أعلامهما وخلعا الأمين ودعيا للمأمون، فأصبح طاهر ابن الحسين وألح على أصحاب محمد الأمين، ودخل طاهر قسرَاً بالسيف، ونادى مناديه: من لزم بيته فهو آمن. ثم أحاط بمدينة المنصور وبقصر زبيدة وقصر الخلد، فثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب طاهر المجانيق خلف السور وعلى القصرين ورماهم، فخرج محمد وأمه وأهله من القصر إلى مدينة المنصور، وتفرق عامة جنده وعلمائه، وقل عليهم القوت والماء، وفنيت خزائنهما على كثرتها.
قال الحافظ الذهبي: ذكر عن محمد بن راشد، أخبرني إبراهيم بن المهدي أنه كان مع محمد بمدينة المنصور في قصر باب الذهب، فخرج ليلة من القصر من الضيق والضنك فصار إلى قصر القرار، فطلبني فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوءه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك. فدعا برطل من نبيذ فشربه، ثم سقيت مثله، فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني لعلمي بسوء خلقه، فغنيت، فقال: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك، فدعا بجارية وكان اسمها ضعف، فتطيرتُ من اسمها. ثم غنت الجارية بشعر النابغة الجعدي: من الطويل:
كليب لعمرِي كان أكثَرَ ناصراً ... وأيْسر ذنباً منك ضُرج بالدَمِ
فتطير الأمين من ذلك وقال لها: غني غير هذا، فغنت: من البسيط:
أبكِي فراقَهُمُ عيني فأرقها ... إن التفرُقَ للأحبابِ بَكَاءُ
ما زال يَعْدُو عليهِمْ رَيْبُ دهرِهِمُ ... حتى تفَانَوا ورَيْبُ الدهرِ عَدَاءُ
فاليومَ أبكيهمُ جَهْدِي وأندبُهُم ... حتى أءوب وما في مُقْلَتي ماءُ
فقال: لعنك اللّه، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ظننت أنك تحبه، ثم غنت؛ من المنسرح:
أما ورب السكونِ والحركِ ... إنَّ المنايا كثيرَةُ الشَرَك
ما اختلَفَ الليلُ والنهارُ ولا ... دارَت نجومُ السماءِ في الفَلَكِ
إلا لنقلِ السلطانِ من ملكٍ ... قد زالَ سلطانُهُ إلى مَلِكِ
ومُلْكُ ذي العرشِ دائم أبداً ... لَيْسَ بفانٍ ولا بمُشْتَرَكِ
فقال لها: قومي لعنك اللّه فقامت، فعثرت في قدح بلور له قيمة فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم، أما ترى؟ واللّه ما أظن أمري إلا قد قرب. فقلت: بلى، يطيل الله عمرك ويعز ملكك. فسمعت صوتاً من دجلة " قُضي اَلأمرُ الذي فِيهِ تستفتيان " " يوسف: 41 " ، فوثب محمد مُغَتَماً، ورجع إلى موضعه بالمدينة، فقتل بعد ليلة أو ليلتين.
وذكر المسعودي أن إبراهيم المهدي قال: استأذنت على الأمين وهو في شدة الحصار، فإذا هو واضع رجله بالشباك، وكان في القصر بركة عظيمة يدخل من دجلة إليها الماء من ذلك الشباك الحديد، فسلمت وهو مقبل على الماء، والخدم والغلمان قد انتشروا في تفتيش الماء وهو كالواله، فقال لي: لا تؤذني يا عم، فإن مقرطتي قد ذهبت في البركة إلى دجلة، وإن كوثر - اسم خادم له خصي - قد صاد مقرطتين، ولم أصد أنا شيئاً بعد - والمقرطة سمكة كان قرطها بحلقتي ذهب فيهما جوهرتان عظيمتان - قال إبراهيم: فخرجت وأنا آيس من فلاحه، وقلت: لو ارتدع في وقت لكان هذا الوقت. وكان مع طاهر هرثمة بن أعين، وعظم الأمر واشتد الحصار والبلاء، حتى خربت بذلك منازل بغداد، ووثب العيارون على أموال الناس فانتهبوها، وأقام الحصار مدة سنة.
ومما عمل في بغداد من المراثي قَول القائل: من الوافر:
بكيتُ دَماً على بغدادَ لما ... فقدت نضارَةَ العيشِ الأنيقِ
أصابَتْهَا من الحسادِ عَين ... فأفنَتْ أهلها بالمنجنيقِ
وتضايق الأمر على الأمين، وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سراً يعدهم إن أعانوه، ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته، فأجابوا طاهراً وفارقوا الأمين، وصرحوا بخلعه، ومنع طاهر الأمين ومن معه من كل شيء، حتى كاد هو وأصحابه أن يموتوا جوعَاً وعطشاً. فلما عاين الأمين ذلك كاتب هرثمة بن أعين وطلب منه أن يؤمنه حتى يأتيه؛ فأجابه هرثمة إلى ذلك وبلغ ذلك طاهراً فشق عليه؛ كراهة أن ينسب الظفر لهرثمة دونه، فلما كان يوم الخميس لخمس بقين من المحرم من سنة ثمان وتسعين ومائة خرج الأمين إلى هرثمة في حراقة، فركب الأمين ومن معه، وكان طاهر قد أكمن للأمين، فلما صار الأمين في الحرَاقة رموه بالنشاب والحجارة، فانكفأت الحراقة وغرق محمد وهرثمة، فسبح محمد حتى صار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بن حميد الطاهري، فصاح بأصحابه فنزلوا ليأخذوه، فبادر محمد الماء، فأخذ برجله وحمله على برذون، وخلفه من يمسكه كالأسير.
قال أحمد بن سلام: كنت مع الأمين في الحراقة فأخذت وحبست، فبعد هدوء من الليل إذا أنا بحركة الخيل وهم يقولون: بشر زبيدة فأدخل عليَ رجل عريان عليه سراويل وعمامة ملثم بها، وعلى كتفه خرقة خلقة، فصيروه معي ووكلوا بنا، فلما حسر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد؛ فاستعبرت واسترجعت في نفسي، فقال لي: من أنت؟ قلت: مولاك أحمد بن سلام، قال: أعرفك، كنت تأتيني بالرقة. قلت: نعم. قال: كنت تأتيني وتتلطفني كثيرَا، لست مولاي؛ بل أنت أخي، ادن مني فإني أجد وحشة شديدة، قال أحمد: فضممته إليَ، ثم قال: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قلت: حي. قال: قبح اللّه صاحب البريد ما أكذبه، كان يقول لي: قد مات. قلت: قبح الله وزراءك. قال: لا تقل، فما لهم ذنب، ولست أول من طلب أمراً فلم يقدر عليه. قال: أتراهم يقتلونني أو يفون لي بأمانهم؟ قلت: بل يفون لك يا سيدي. وجعل يمسك الخرقة بعضديه فنزعت منطقة علي وقلت: ألقها وخذ هذه. فقال: ويحك دعني. فهذا من اللّه لي في هذا الموضع خير كثير. فلما انتصف الليل دخل الدار قوم من العجم بالسيوف، فقام وقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون. ذهبت والله نفسي في سبيل اللّه. أما من حيلة؟ أما من مغيث؟ فأحجموا عن التقدم. وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم. فقمت وصرت وراء حصر ملففة، وأخذ محمد بيده وسادة وقال: ويحكم أنا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هارون أنا أخو المأمون، الله اللّه في دمي.
فوثب عليه خُمَاروَيه - غلام لقريش الدنداني - فضربه بالسيف على مقدم رأسه، فضربه محمد بالوسادة واتكأ عليه، فأخذ السيف من يده، فصاح خمارويه: قتلني قتلني، فتكاثروا عليه فذبحوه من قفاه وذهبوا برأسه إلى طاهر؛ فنصب رأسه على حائط بستان، وأقبل طاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد الأمين، ثم بعث به مع البردة والقضيب والمصلى - وهو من سعف مبطن - مع ابن عمه محمد بن مصعب إلى المأمون، فلما وصل الرأس إليه سجد شكراً للّه تعالى على الظفر، وأمر لمحمد ابن مصعب بألف ألف درهم، وجُرت جئته بحبل. ولما بلغ إبراهيم بن المهدي عم الأمين ما وقع للأمين بكى طويلا وأنشد: من السريع:
عُوجَاً لمغنى طللٍ داثرِ ... بالخُلد ذات الصَّخر والآجرِ
والمرمر المسنون يطلى بِهِ ... والباب باب الذهَبِ الناضرِ
وأبلغَا عني مقالا إلى ال ... مَولَى عن المأمورِ والآمِرِ
قولا له يا ابنَ ولي الهدَى ... طَهر بلادَ اللَهِ منْ طاهِرِ
لم يكفِهِ أن حَز أَوداجَهُ ... ذبح الضحَايا بِمُدَى الجازِرِ
حتى أتى يسحَبُ أوصالَهُ ... في شَطَنٍ يعني به السابِرِي
قد برد الموتُ على عَينِهِ ... فطرفه منكسرُ الناظِرِ
ولما بلغ هذا الشعر المأمون اشتد عليه ذلك، وندم وحزن وحوقل.
ولخزيمة بن الحسن على لسان زبيدة قصيدة يقول فيها: من الطويل:
أتَى طاهرٌ لا طَهَّرَ اللهُ طاهراً ... فما طاهِر فيما أتَى بُمطَهرِ
فأخرجَنِي مكشوفَةَ الوَجْهِ حاسراً ... فَأنْهَبَ أموالي وأخرقَ أَدْوُرِي
يَعز عَلَى هَارُونَ ما قَد لَقِيتُهُ ... وما مَر بي من ناقِصِ الخلقِ أعورِ
تذكر أميرَ المؤمنينَ قَرَابتِي ... فديتُكَ من ذي حُرْمَةِ مُتَذَكرِ
وكان الأمين من أحسن الشباب صورة: أبيض طويلا جميلا، ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة، وفصاحة وأدب وفضل وبلاغة، لكن كان سيئ التدبير، ضعيف الرأي، لا يصلح للإمارة. قال ابن جبير: لما ملك محمد الأمين ابتاع الخصيان، وغالى بهم وصيرهم لخلوته، ورفض النساء والجواري، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين وأجرى لهم الأرزاق، واقتنى الوحوش والسباع والطيور، واحتجب عن أهل بيته وعن أمرائه واستخف بهم، ومحق بيوت الأموال، وضيع الجواهر والنفائس، وبني عدة قصور في عدة أماكن، وعمل خمس حرَاقات على صفة أسد وفيل وعقاب وحية وفرس، وأنفق في عملها أموالا، فقال أبو نواس: من الخفيف:
سَخرَ اللهُ للأمينِ مطايا ... لم تُسَخَرْ لصاحبِ المحرابِ
فإذا ما ركابُهُ سارَ براً ... سارَ في الماء راكباً ليثَ غابِ
أسداً باسطاً ذرَاعيهِ يَهْوي ... أهرت الشدْقِ كَالحَ الأنيابِ
وهكذا حتى وصفها جميعاً.
ومن شجاعته وقوة بطشه ما نقله المسعودي فقال: حكى أنه اصطبح يوماً فأتى بسبع هائل على جمل في قفص فوضع بباب القصر، فقال: افتحوا القفص وخلوه، فقيل، يا أمير المؤمنين، إنه سبع هائل أسود كالثور كثير الشعر، فقال: خلوا عنه. ففعلوا. فخرج فزأر وضرب بذنبه الأرض، فتهارب الناس وأغلقت الأبواب، وبقى الأمين وحده غير مكترث، فأتاه الأسد وقصده، فرفع يده فجذبه الأمين وقبض على ذنبه وغمزه وهزه ورماه إلى خلف، فوقع السبع على صخرة فخر ميتاً، وجلس الأمين وكأنه لم يعمل شيئاً، وإذا أصابعه قد تخلعت، فشقوا بطن الأسد، فإذا مرارته قد انشقت على كبده.
قال الذهبي: كتب الأمين إلى طاهر بن الحسين رقعة فيها يا طاهر ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا فكان جزاؤه عندنا إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع قال: فلم يزل طاهر يتبين موقع الرقعة منه. قلت: وكان طاهر قد انتدب لحربه من جهة أخيه المأمون، فكتب له هذه الرقعة وهي غاية في التحذير.
ولم يل الخلافة هاشمي ابن هاشمية إلا علي بن أبي طالب ومحمد الأمين هذا؛ فإن أم الأول فاطمة بنت أسد هاشمية، وكذا أم الثاني، زبيدة بنت جعفر بن منصور.
قال الصولي: حدثنا أبو العيناء عن محمد بن عمرو الرومي، قال: خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجلس يبكي، وجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال: من مجزوء الرمل:
ضَرَبُوا قرةَ عيني ... ومِن أجلِى ضَرَبُوهُ
أخَذ اللهُ لقلبي ... مِن أناس أحرقُوهُ
قال: ثم أحضر عبد اللّه بن أيوب التميمي الشاعر فقال له: قل عليهما، فقال: من مجزوء الرمل:
ما لمَنْ أهَوى شبِيه ... فبِهِ الدُنْيَا تَتِيهُ
وَصْلُهُ حلو ولكن ... هجْرُهُ مُر كريهُ
مَنْ رأى الناسُ له فض ... لا عليهم حَسَدُوهُ
مثل ما قَد حَسَدَ ال ... قائمَ بالمُلْكِ أَخُوهُ
فقال الأمين: واللّه بحياتي أحسنت يا عباسي، أنظر، فإن جاء على ظهر فأوقره له، وإن جاء في زورق فأوقره له، فأوقر له ثلاثة بغال دراهم هي التي جاء عليها.
ومما قيل في هجو الأمين أقامه مقام الرثاء فقال: من الرمل:
لِمَ نَبْكِيكَ لماذا للطرَب ... يا أبا موسَى وتزويج اللعبْ
ولتَركِ الخمسِ في أوقاتِهَا ... حرصاً منكَ على ماءِ العِنَبْ
وشنيف أنا لا أَبْكِي له ... وعلى كوثَرَ لا أخشَى العَطَبْ
لم تَكُنْ تصلحُ للمُلكِ ولَم ... تعطك الطاعَةَ بالملْكِ العربْ
لِمَ نبكيكَ لما عَرضتَنَا ... للمجانيقِ وطَوْراً للسلَبْ
وذكر عن الكسائي أنه قال: لما ولاني الرشيد تأديب ابنيه الأمين والمأمون كنت أشدد عليهما في الأدب وآخذهما أخذاً شديداً خصوصَاً الأمين، فأتتني ذات يوم خالصة أمة زبيدة فقالت: إن السيدة تقرئك السلام وتقول لك: حاجتي أن ترفق بابني محمد، فقلت قولي لها: إن محمداً مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في حقه. قالت خالصة: إن لرقة السيدة سببَاً أنا أخبرك به، إنها في الليلة التي ولدته فيها أريت في منامها كأن أربع نسوة أقبلن عليه فاكتنفنه من جهاته الأربع، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر، ضيق الصدر، عظيم الكبر، واهي الأمر، شديد الغدر. وقالت التي من خلفه: قصاف، مبذر متلاف، قليل الإنصاف، كثير الإسراف. وقالت التي عن يمينه: ملك عظيم الحطم، قليل اللحم، كثير الإثم، قطوع الرحم. وقالت التي عن شماله: ملك غدار، كثير العثار، سريع الدمار. ثم بكت خالصة وقالت: يا كسائي، هل ينفع الحذر مع القدر؟ قلت: لا واللّه.
وذكر الأصمعي أنه دخل على الرشيد - قال: وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولا - فسلمت عليه بالخلافة، فأشار إلي بالجلوس فجلست حتى خف الناس، ثم قال: يا أصمعي، ألا تحب أن ترى محمداً وعبد اللّه ابني؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وقد أردت القصد إليهما لأسلم عليهما. ثم قال الرشيد: علي بمحمد وعبد اللّه، فانطلق الرسول، فأقبلا كأنهما قمراً أفق، قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأرض حتى وقفا على أبيهما فسلما عليه بالخلافة، فأومأ لهما فجلس محمد عن يمينه وعبد اللّه عن شماله، ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقى عليهما شيئاً من فنون الأدب إلا أجابا فيه وأصابا. فقال: كيف ترى أدبهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما، فأطال الله بقاءهما ورزق الأمة رأفتهما. فضمهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى تحدرت دموعه على لحيته، ثم أذن لهما في القيام، فنهضا حتى إذا خرجا قال: يا أصمعي، كيف بهما إذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أن لو كان في الأموات؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هذا شيء قضى به المنجمون عن مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما؟! قال: بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء. قال الصولي: وكان الرشيد يسمع ما يجري بينهما جميعه من موسى بن جعفر الصادق، ولذلك قال ما قال.
قال في قلادة النحر: إن المأمون مر يوماً على زبيدة أم الأمين فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يعرفه، فقال لها: يا أماه أتدعين علي أن قتلت ابنك وسلبته، فما كان الباغي إلا ابنك، وإن لكل باغِ مصرعاً. قالت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: فما الذي قلت؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين. فألح عليها قال: ولا بد أن تقوليه. قال: قلت: قبح الله اللجاج والملاحَة. قال وكيف ذلك؟ قالت: إني لألعب يوماً مع أمير المؤمنين الرشيد الشطرنج على الحكم والرضا فغلبني، فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته فلم يعفني، فتجردت من ثيابي وطفت القصر عارية. ثم عاودنا اللعب فغلبته، فأمرته أن يذهب إلى المطبخ فيطأ أقبح جارية أشوهها خلقة، فاستعفاني فلم أعفه، فبذل لي خراج مصر والعراق، فأبيت وقلت: والله لتفعلن ذلك فأبى، فألححت عليه وأخذت به، وجئت به إلى المطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أنتن ريحاً ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها، فعلقت منه بك، فكنت سبباً لقتل ولدي وسلبه ملكه، فولي المأمون وهو يقول: لعن الله الملاحة.
أقول: نعم لعن الله الملاحة؛ إذ إلحاحه على زبيدة كان سبب سماع هذا الكلام المؤلم.
قال الثعالبي في المعارف: كانوا يقولون: لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد، فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهدي عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها. وأما ولاة العهد فكثير. ونظيرتها في ذلك من بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: أبوها يزيد بن معاوية، ومعاوية بن أبي سفيان جدها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان بن الحكم حموها، وعبد الملك بن مروان زوجها، ويزيد بن عبد الملك ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، والوليد وهشام وسليمان بنو زوجها عبد الملك، ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد ابنا ابن زوجها.
كانت مدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية عشر يوماً، وقيل ثمانية أشهر. وقتل لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وعمره سبع وعشرون سنة، وقيل: وأربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل: ست وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة وستة أشهر، رحمه اللّه تعالى وعفا عنه وعن المسلمين، آمين.
خلافة المأمون
عبد اللّه بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور بن عبد الله أبو العباس، الهاشمي، ولد سنة سبعين ومائة عندما استخلف أبوه الرشيد، وقرأ العلم في صغره، وسمع ابن هشيم، وعباد بن العوام، ويوسف بن عطية، وأبا معاوية الضرير، وطبقتهم. وبرع في الفقة والعربية وأيام الناس. ولما كبر عُني بالفلسفة وعلوم الأوائل، ومهر فيها؛ فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن.
وكان من أتم رجال بني العباس حزماً وعزماً، وحلماً وعلماً، ورأيَاً ودهاءَ، وهيبة وشجاعة، وسؤدداً وسماحَة. وله محاسن وسيرة طويلة. وبرع في معرفة التاريخ وفنون الأدب، وكان يضرب المثل بحلمه.
وامتحن العلماء في زمانه، وكان يجبرهم على القول بخلق القرآن.
قال في المسامرة: بايع المأمون على الرضا في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وجعله ولي عهده من بعده، ولبس الخضرة ونوه بذكره، فغضب بنو العباس بالعراق لهذين الأمرين وخلعوه، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي ولقبوه المبارك، فحاربه الحسن بن سهل، فهزمه إبراهيم وألحقه بواسط، وأقام إبراهيم بالمدائن. ثم سير المأمون إليه جيشاً آخر فهزموه، فاختفى وانقطع خبره إلى أن ظهر في وسط خلافة المأمون فعفا عنه، وله سيره مبسوطة مذكورة، ومات على الرضا - رضي اللّه تعالى عنه - سنة ثلاث ومائتين، فرجع المأمون سنة أربع ومائتين إلى لبس السواد كعادته وعادة آبائه.
قال الحافظ الذهبي: قال ابن أبي الدنيا: وكان المأمون أبيض، ربعة حسن الوجه، تعلوه صفرة، قد وَخَطَهُ الشيب أعين، طويل اللحية، دقيقها، ضيق الجبين، على خده خال، وقال الجاحظ: أبيض فيه صفرة، وكان ساقاه دون جسمه صفراوين؛ كأنما طليا بالزعفران، أمه أم ولد اسمها مراجل، ماتت أيام نفاسها به، وكان فصيحاً مفوهاً، وكان يقول: معاوية بعمرو، وعبد الملك بحجاجه، وأنا بنفسي. وقد رويت هذه الكلمة عن المنصور. وكان نقش خاتم المأمون عبد اللّه بن عبيد الله. وروى أنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثاً وثلاثين ختمة.
وقال الحسين بن فهم الحافظ: حدثنا يحيى بن أكثم قال: قال لي المأمون: أريد أن أحدث، قال: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟ فقال: ضعوا لي منبراً. ثم صعد، فأول حديث حدثنا عن هشيم عن أبي هشيم عن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - فرفع الحديث - قال: امرؤ القيس صاحب لواء الشعر إلى النار، ثم حدث بنحو ثلاثين حديثَاً ثم نزل - فقال لي: كيف رأيت يا يحيى مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس يفقه الخاصة والعامة. فقال: ما رأيت لكم حلاوة، إنما المجلس لأْصحاب الخلقان والمحابر.
وقال السراج: حدثنا سهل بن عساكر قال: تقدم رجل غريب بيده محبرة إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به. فقال: ما تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر الرجل فيه شيئاً، قال: فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم، وحدثنا يحيى، وحدثنا حجاج، فذكر الباب، ثم سأله عن باب آخر فلم يذكر فيه شيئاً، فقال المأمون: حدثنا فلان، وحدثنا فلان، إلى أن قال لأصحابه: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول أنا من أصحاب الحديث! أعطوه ثلاث دراهم. ومع هذا فكان المأمون مسرفاً في الكرم جواداً ممدحاً، جاء عنه أنه فرق في ساعة واحدة ستة وعشرين ألف ألف درهم. وجاء أنه مدحه أعرابي مرة فأجازه بثلاثين ألف دينار. وأما ذكاؤه وعلمه فروى محمد بن عون عن أبي عيينة أن المأمون جلس فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني ديناراً واحداً، وقالوا: هذا نصيبك. فحسب المأمون وقال أيضاً: هذا نصيبك، هذا أخوك خلف أربع بنات، قالت: نعم، قال: لهن أربعمائة دينار، وخلف والدة لها مائة دينار، وخلف زوجة فلها خمسة وسبعون ديناراً، باللّه ألك اثنا عشر أخاً؟ قالت: نعم. قال: لكل واحد ديناران ولك دينار واحد.
وقال ابن الأعرابي: قال لي المأمون: أخبرني عن قول هند بنت عتبة: من الرجز:
نحنُ بناتُ طارق ... نمضِ على النمارِقْ
من طارق هذا؟ قال: فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: ما أعرف؟ فقال المأمون: إنما أرادت النجم، انتسبت إليه بحسنها. ثم رمى إلي بعنبرة في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم.
وقال أبو معشر المنجم: كان المأمون أماراً بالعدل، محمود السيرة، ميمون النقيبة، فقيه النفس، يعد من كبار العلماء. وعن الرشيد والده قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء لأنسبه إلى الرابع - يعني نفسه - لنسبته، وقد قدمت محمداً عليه وإني لأعلم أنه ينقاد إلى هواه، مبذر لما حوته يده، يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر - يعني زبيدة - وميل بني هاشم إليه لقدمت عبد اللّه عليه.
وعن المأمون قال: لو عرف الناس حبي للعفو، لتقربوا إلي بالجرائم، وأخاف ألا أوجر فيه. يعني لكونه طبعَاً له. وعن يحيى بن أكثم قال: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا. وذكر أن ملاحاً مر به المأمون، فقال الملاح: أتظنون أن هذا نَبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين؟ لا والله. فسمعها المأمون فتبسم وقال: ما الحيلة حتى أنبل في عيني هذا السيد الجليل؟! وعنه قال: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء، فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها، ونعله في يده، فوقف على طرف البساط وقال: السلام عليكم، فرد المأمون السلام، فقال: أتأذن لي في الدنو؟ قال: ادن وتكلم. فقال: أخبرني عن المجلس الذي أنت فيه، جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة والقهر؟ قال المأمون: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمور الناس من عقد لي ولأخي، فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في الشرق والغرب على الرضا بي فرأيت أني متى تخليت عن الأمر اضطرب حبل الإسلام وتنازعوا ومرج عهدهم وبطل الجهاد والحج وانقطعت السبل، فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر. فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، وذهب. فوجه المأمون من يكشف خبره فرجع فقال: يا أمير المؤمنين مضى إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاَ في مثل هيئته، فقالوا له: أتيت الرجل؟ قال: نعم، وأخبرهم بما جرى، فقالوا: ما نرى بما قال بأسَاً، وافترقوا. فقال المأمون: كفينا مؤنة هؤلاء بأيسر الخطب.
وأتى برجل من الخوارج فقال له: ما حملك على الخروج والخلاف؟ قال " وَمَن لم يحكمُ بِمَا أَنزَلَ اَللهّ فَأُولَئكَ هُمُ الكافرون " " المائدة: 44 " ، فقال له المأمون: ألك علم بأنها منزَّلة؟ قال: نعم. قال: ما دليلك؟ قال: إجماع الأمة. قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل، فارض بإجماعهم في التأويل. قال: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وعن إسحاق الموصلي قال: كان المأمون قد سخط على الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع الشاعر لكونه هجاه عندما قتل الأمين، قال إسحاق: فبينما أنا ذات يوم عند المأمون إذ دخل الحاجب برقعة فاستأذن في إنشادها فأذن له فقال: من الطويل:
أَجِرنِي فإني قد ظَمِئْتُ إلى الوردِ ... متَى تنجزِ الوعدَ المؤكَد بالعَهْدِ
أعيذُكَ من خُلفِ الملوكِ فقد ترَى ... تقطُّعَ أنفاسي عَليْكَ من الوَجْدِ
أيبخَلُ فردُ الحُسنِ عني بنائِل ... قَلِيلِ وقَد أفردتُهُ بهوى فَزدِ؟
إلى أن قال:
رأى اللهُ عَبدَ اللهِ خَيرَ عبادِهِ ... فملكه، واللهُ أعلمُ بالعَبْدِ
أَلاَ إنما المأمونُ للناسِ عصمةٌ ... مُمَيزَةٌ بين الضلاَلةِ والرشدِ
فقال له: أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين أحسن قائلها. قال: ومن هو؟ قال: عبدك الحسين بن الضحاك. فقال: لا حياه اللّه ولا بياه، أليس هو القائل: من الطويل:
فلا تَمتِ الأشياءُ بعد محمدٍ ... ولا زالَ شملُ الملكِ فيها مبددَا
ولا فَرِحَ المأمونُ بالملكِ بعده ... ولا زالَ في الدنيا طريدَاً مشرَدَا
هذه بتلك فلا شيء له عندنا. قال الحاجب: فأين عادة عفو أمير المؤمنين؟ قال: أما هذه فنعم، ائذنوا له. فدخل، فقال: هل عرفت يوم قتلِ أخي هاشمية هتكت؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك: من الطويل:
ومما شَجَى قَلبي وكَفكَفَ عَبرَتِي ... محارمُ مِن آلِ الرسولِ استُحِلَتِ
ومهتوكة بالجلدِ عنها سجوفها ... كعاب كقرنِ الشمسِ حين تبدتِ
فلا باتَ ليلُ الشامتِينَ بغبطة ... ولا بلَغَت آمالها ما تمنتِ
فقال: يا أمير المؤمنين لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني. فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة.
حكى الصولي أنه كان يحب اللعب بالشطرنج، واقترح فيه شيئاً، وكان ينهى أن يقول الشخص: تعال نلعب، ويقول: بل نتناقل، ولم يكن به حاذقَاً. وكان يقول: أنا أدبر الدنيا وأتسع لها، وأضيق عن تدبير شبرين. وله فيه: من البسيط:
أرض مُرَبعَة حمراءُ مِن أَدم ... مَا بين إِلفَين معروفَيْنِ بالكَرَمِ
تذاكرا الحَربَ فَاحتَالاَ لها حِيَلا ... مِن غيرِ أَن يأَثَما فيها بِسَفْكِ دَمِ
هذا يُغِيرُ على هذا، وَذَاكَ عَلى ... هذا يغِيرُ، وَعَين الحَزْمِ لَم تَنَمِ
فَانظُر إلى فِطَنٍ جَالَتْ بِمَعرِفَةٍ ... في عَسْكَرَينِ بلا طَبل ولا عَلَمِ
ونظر المأمون إلى عمه إبراهيم بن المهدي - وكان يلقب بالتنين لسمنه - فقال له: ما أظنك عشقت قط. ثم أنشد: من السريع:
وَجهُ الذِي يَعشَقُ مَعروفُ ... لأنهُ أَصفَرُ مَنحُوفُ
لَيسَ كَمَن يَأتِيكَ ذَا جُثةٍ ... كَأَنهُ لِلذبحِ معلُوفُ
وعن المأمون قال: ما أعياني قط جواب إلا جواب ثلاثة: صرت إلى أم ذي الرياستين الفضل بن سهل أعزيها فيه فقلت: لا تأسى عليه، فإني عوضه لك. قالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا أحزن على ولد أكسبني مثلك؟!. وأتيت بمتنبئ فقلت له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قلت: ويحك موسى له آيات، فائتني بها حتى أومن بك. قال: إنما أتيت بهذه المعجزات لفرعون إذ قال: " أنا ربكم الأعلى " فإن قلت ذلك أتيتك بالآيات. قال: وأتى أهل الكوفة يشكون عاملهم، فقال خطيبهم: هو شر عامل؛ أما في أول سنة فإنا بعنا الأثاث، وفي الثانية بعنا العقار، وفي الثالثة نزحنا عن بلادنا، وأتيناك نستغيث. فقلت: كذبت، بل هو رجل قد حمدت مذهبه، ورضيت دينه فاخترته معرفة بكم، وقد تقدم سخطكم على العمال غير مرة. قال: صدقت يا أمير المؤمنين، وكذبت أنا، فقد خصصتنا به هذه المدة دون باقي البلاد، فاستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإحسانه مثل الذي شملنا. فقلت: قم في غير حفظ اللّه، قد عزلته عنكم.
وكان قدوم المأمون من خراسان إلى بغداد في صفر سنة أربع ومائتين، دخلها في رابع صفر في أبهة عظيمة وتجمل زائد، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لباس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك لما قال له يعض أهل بيته: إنك على أثر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم. قال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحداً من بني هاشم شيئاً ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم لما ولي علي ولي عبد اللّه بن عباس البصرة، وعبيد اللّه اليمن، ومعبداً مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحداً منهم إلا ولاه شيئاً، وكانت هذه في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت.
وفي سنة عشر بعد المائتين تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وقام بخلع للقواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يومَاً، وكتب رقاعاً فيها أسماء بضياع له، ونثرها على القواد والعباسيين، فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها، ونثر صينية ملأى جواهر بين يدي المأمون عندما زفت إليه.
وفي سنة إحدى عشرة ومائتين أمر المأمون بأن ينادي: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
وفي سنة اثنتي عشرة أظهر القول بخلق القرآن، ثم في سنة ثمان عشرة امتحن العلماء بالقول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه بالعراق إسحاق بن الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين بذلك ليلزم العلماء ويحاجهم في ذلك.
قال الحافظ الذهبي: قال إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي في تاريخه: حكى أبو سليمان بن داود بن علي، عن يحيى بن أكثم قال: كنت عند المأمون وعنده جماعة من قواد خراسان وقد دعا إلى خلق القرآن حينئذِ، فقال لأولئك القواد: ما تقولون في القرآن؟ قالوا: كان شيوخنا يقولون: ما كان فيه من ذكر الحمير والجمال والبقر فهو مخلوق، وما كان فيه من سوى ذلك فهو غير مخلوق. فأما إذا قال أمير المؤمنين غير ذلك فنحن نقول: كله مخلوق. فقلت للمأمون: أتفرح بموافقة هؤلاء.
ومن كلام المأمون: الناس ثلاثة: فمنهم مثل الغذاء لا بد منه على كل حال، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض، ومنهم كالداء مكروه على كل حال. وكان يقول: لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال. وكان يقول: غلبة الحجة أحب إلى من غلبة القدرة؛ لأن غلبة الحجة لا تزول، وغلبة القدرة تزول بزوالها، وكان يقول: الملك يغتفر كل شيء إلا ثلاثاً: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وكان المأمون معروفاً بالتشيع؛ روى عنه أبو داود المصاحفي قال: سمعت النضر ابن شميل يقول: دخلت على المأمون فقال لي: إني قلت اليوم شعراً فاسمعه، فقلت: هاته. قال: من المنسرح:
أَصبَحَ دِينِي الذِي أَدِينُ بِهِ ... وَلستُ مِنهُ الغدَاةَ مُعْتذِرَا
حب عَلِي بَعدَ النبي وَلاَ ... أَشْتُمُ صِديقَهُ وَلاَ عُمَرَا
واِبنُ عفانَ في الجِنَانِ مَعَ ال ... أَبرَارِ ذَاكَ القَتِيلُ مُصْطَبرَا
وعائِشُ الأُمُّ لَستُ أشتُمُهَا ... مَنْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ منه بَرَاَ
ومن شعره: من المتقارب:
لِسَانِي كَتُوم لأَسْرَارِكُم ... وَدَمْعِي نمُوم لِسري مُذِيعُ
فَلَولاَ دُمُوعِي كتمتُ الهَوَى ... وَلَوْلاَ الهَوَى لَم تكُنْ لِي دُمُوعُ
وفي ابن خلكان: دخل النضر بن شميل على المأمون ليلة فتفاوضا الحديث، فروى المأمون عن هشيم بسنده إلى ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز " بفتح السين. فقال النضر: يا أميرِ المؤمنين صدق هشيم، حدثنا فلان ابن فلان... إلى علي بن أبي طالب، فذكر الحديث، فقال فيه: " سداد من عوز " وكسر السين، وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: كيف قَلت، سِداد بكسر السين؟ قلت: لأن السداد بالفتح هاهنا لحن، فقال: أتلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم فتبعه أمير المؤمنين، فقال: ما الفرق بينهم. قلت: السداد، بالفتح: القصد في الدين والسبيل، وبالكسر: البلغة، وكان ما سددت به شيئاً فهو سداد. فقال المأمون: أو تعرف العرب ذلك. قلت: نعم، هذا العرجي يقول: من الوافر:
أَضَاعُونِي وَأي فَتَى أَضَاعُوا ... لِيَومِ كَرِيهَةِ وَسِدَادِ ثَغْرِ
فاستوى جالساً وقال: قبح الله من لا أدب له. ثم أقبل علي فقال: أخبرني بأخلب بيت قالته العرب: قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: من المنسرح:
تَقُولُ لِي وَالعُيُونُ هَاجِعَةْ ... أَقِمْ عَلَيْنَا يَوْمَاً فَلَمْ أُقِمِ
مَتَى يَقُلْ صَاحِبُ السرَادِقِ هَا ... ذَا اِبْنُ بيض بالبَابِ يَبْتَسِمِ
قَدْ كنت أسلمتُ فِيكَ مُقْتَبلا ... فَهَاتِ أدخُلْ وأَعْطِني سَلَمِي
فقال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني بأنصف بيت قالته العرب، قلت: قول عروبة: من الكامل:
إِني وإن كان ابن عَمي وَاغِرا ... لمُدَاهِن من خلفهِ وَوَرَائِهِ
ومعده نَصْرِي وإن كان امرأَ ... مُتَبَاعداً من أَرْضِهِ وَسَمائِهِ
فأكون وَالي سِرهِ وأَصُونُه ... حَتى يحينَ علي وَقْتُ أَدَائِهِ
وإِذَا الحَوَادِثُ أَحْجَنَتْ بِسَوَامِهِ ... قَربتُ جلتَهَا إِلَى حِرْبائِهِ
وَإِذَا دَعَا باسمي لِيَركبَ مَرْكبَاً ... صعباً ركِبتُ لَهُ على سيسَائِهِ
وإِذَا رَأَيتُ عليه بُرْداً ناضراً ... لَم يلقَنِي مُتَمنياً لِردَائِهِ
قال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني عن أغرب بيت قالته العرب، قلت: قول راعي الإبل: من المنسرح:
أَطلُبُ مَا يَطلُبُ الكريم مِن الر ... رزقِ لِنَفْسِي وَأُجمِلُ الطَّلَبَا
وَأَطلُبُ الدرةَ الصفاءَ وَلاَ ... أَطلُبُ في غَير خلفها جَلَبَا
إني رأيتُ الفَتَى الكَريمَ إِذَا ... رَغَّبتهُ في صَنِيعةٍ رَغِبَا
والنذلَ لا يطلب العَلاَء وَلاَ ... يعطيكَ شيئاً إلا إذا رَهِبَا
مثلُ الحِمارِ المُوَاقِعِ السوءِ لاَ ... يُحسِنُ مَشْياً إِلا إِذا ضُرِبَا
فقال: واللّه لقد أحسن وأجاد، ودعا بالدواة فما أدري ما يكتب. ثم قال: يا نضر كيف تقول فعل الأمر من الإتراب؟ فقلت: أقول أترب القرطاس والقرطاس متروب، قال: فكيف تقول من الطين. قلت: أقول طن الكتاب والكتاب مطين، قال: هذه أحسن من الأولى ثم دفَع ما كتب إلى خادم وجهه معي إلى الحسن بن سهل. فلما قرأ الفضل الرقعة قال: يا نضر، قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرته، فأمر لي بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحدٍ استفيد مني.
وقد نادى المأمون بإباحة المتعة فلم يجسر أحد ينكر عليه، فروى له يحيى بن أكثم حديث الزهري، عن ابني الحنفية، عن أبيهما محمد بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن متعة النساء يوم خيبر، فلما صح له الحديث رجع إلى الحق ونادى بإبطالها.
وأما مسألة خلق القرآن فصمم عليها ولم يرجع عنها في سنة ثمان عشرة، وامتحن العلماء بها فعوجل ولم يمهل، توجه في هذه السنة غازياً إلى أرض الروم، فلما وصل إلى البذندون مرض واشتد به المرض، فأوصى بالخلافة إلى أخيه المعتصم بن الرشيد، وأما المؤتمن المعقود له العهد بعده فقد كان خلعه قبل حين، وجعل الرضي مكانه فيما تقدم سنة إحدى ومائتين، فلما ورد نزل على عين البذندون فأقام هناك واعتل.
قال المسعودي: أعجبه برد ماء العين وصفاؤها وطيب الموضع وكثرة الخضرة، وقد طرح له درهم في العين فقرأه فيها لفرط صفائها، ولم يقدر أحد أن يسبح فيها لشدة بردها، فرأى سمكة نحو الذراع كأنها الفضة فجعل لمن يخرجها سيفَاً، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها فقال المأمون: يقلي الساعة، ثم أخذته رعدة وتغطى باللحف وهو يرتعد ويصيح، فأوقدت حوله نار، ثم أتى بالسمكة فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق من غمرته فسأل عن تفسير اسم المكان بالعربي فقيل له: مد رجليك، فتطير به، وسأل عن تفسير البقعة قيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة فكان يتجنب نزول الرقة، فلما سمع هذا من الروم عرف وأيس وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه، وأجلس المعتصم عنده من يلقنه الشهادة، فرفع الرجل بها صوته، فقال له ابن مامسويه: لا تصح، فواللّه ما يفرق الآن بين ربه وبين ماني.
ففتح المأمون عينيه وبهما من عظم الورم والحمرة أمر شديد، وأقبل يحاول بيديه البطش بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز، فرمز بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعاً وقال في الحال: يا من لا يموت، ارحم من يموت، ثم قضى في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، فنقله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفن هناك.
ولما ورد خبر وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي: من الخفيف:
هَل رَأيتَ النجُومَ أَغْنَت عَنِ المأ ... مُونِ يَوماً أَو ملكه المأسوس
خَلفُوهُ بِعَرْصَتي طَرَسُوس ... مِثلَ مَا خَلفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ
حدث محمد بن أيوب أمير البصرة للمأمون قال: كان بالبصرة رجل من بني تميم، شاعر أديب، كنت آنس به، فأردت نفعه فقلت: خليفتنا المأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، وإني موفدك عليه، فدعا لي، فأعطيته نجيبَاً ونفقة، ثم عمل أرجوزة لطيفة ذكرني فيها فاستحسنتها، وخرج إلى الشام والمأمون بسلغوس ثم أخبرني بعد ذلك فقال: بينما أنا في غداة قرة على نجيبي وأنا أريد العسكر، إذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره ولا تحرك خطاه، فتلقاني مواجهة فقال: السلام عليك، بكلام جهوري وقال: قف إن شئت. فوقفت، فتضوعت منه رائحة المسك، فقال: ممن أنت؟ فقلت: رجل من مضر، فقال: ونحن من مضر، قال: ثم ممن؟ قلت: من تميم من بني سعد، فقال: هيه ما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الخليفة الذي ما سمعت بمثله أندى راحة ولا أوسع ساحة ولا أطول باعاً ولا أمد يفاعَاً، وقد قصدته بشعر يلذ على أفواه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين. قال: فأنشدنيه، فمضيت وقلت: يا ركيك، أخبرك بشعر قلته في الخليفة ومديح حبرته فيه؟ فقال: وما تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي فألف دينار. قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدَاً، ومتى تصل إليه وبينك وبينه عشرون ألف رامح ونابل، فقلت له: أمعك مال؟ قال: بغلي هذا خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب؟ فقال: دع؟ عنك هذا ولك اللّه أن أعطيك ألف دينار، فأنشدته الأرجوزة وقلت: من الرجز:
مَأمُونُ يَا ذَا المِنَنِ الشرِيفَه ... وَصَاحِبَ المَرْتَبَةِ المُنِيفَهْ
وَقَائِدَ الْكَتِيبَةِ الكَثِيفَهْ ... هَل لَكَ في أرْجُوزَةٍ ظَرِيفَهْ
أَظرَفَ مِنْ فِقهِ أبي حَنيفَهْ ... لاَ وَالَّذي أَتتَ لَهُ خَلِيفَهْ
مَا ظَلَمَت في أَرْضِنَا عَفِيفَه ... أَميرنَا مُؤنَتُهُ خَفِيفَهْ
ومَا اجتَنَى شيئاً سِوَى الوَظِيفَه ... فَالذئْبُ وَالنعجَةُ في سَقِيفَه
وَاللصُ وَالتَّاجِرُ في قَطِيفَهْ
قال: فواللّه ما أتممتها حتى غشينا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فأخذني شبه جنون، فنظر إلي وقال: لا بأس عليك، قلت: أمعذري أنت؟ قال: نعم، ثم التفت إلى خادم وقال: أعطه ما معك، فأخرج كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار ذهباً وقال: هاك، سلام عليك، ومضى. ورجعت إلى بلدي مسروراً.
في المسامرة لابن عربي: أشرف المأمون من قصره فرأى رجلا قائماً وبيده فحمة، وهو يكتب بها على حائط قصره، فأمر المأمون بعض خدمه أن يذهب إليه فينظر ما كتب ويأتيه به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً وقبض عليه وتأمل الكتاب وإذا هو: من البسيط:
يَا قَصر جُمعَ فيكَ الشؤم واللوم ... مَتَى تُعَششُ في أَرجَائِكَ البُومُ
يَومَ تعَششُ فيكَ البُومُ مِن فَرَحي ... أَكونُ أولَ مَن يَرعَاك مَرْغُوم
ثم إن الخادم قال للرجل: أجب أمير المؤمنين. فقال له: سألتك باللّه لا تذهب بي إليه، فقال الخادم: لا بد من ذلك. فلما مثل بين يديه أعلمه الخادم بما كتبه، فقال له المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنه لن يخفي عليك ما حواه قصرك من خزائن الأموال، والحلي والحلل، والطعام والشراب، والفرش والأواني، والأمتعة والجواري، والخدم، وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي، ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قّد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة، فوقفت مفكرَاً في أمري، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع، ولا فائدة لي فيه، ولو كان خرابَاً وأنا مررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارَاً أبيعه وأتقوت بثمنه. أَوَ مَا علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟! فقال المأمون: وما قال الشاعر. فقال: قال من الطويل:
إِذَا لم يَكن للمَرءِ في دولةِ امرِئٍ ... نصيب وَلاَ حَظ تَمَنى زَوَالَهَا
وَمَا ذَاكَ مِن بُغْضي لها، غَيْرَ أَنهُ ... يُرَجى سِوَاها فهوَ يهوى زَوَالَهَا
فقال المأمون: يا غلام، أعطه ألف دينار. ثم قال: هي لك كل سنة ما دام قصرنا عامرَاً بأهله. وفي مثل هذا المعنى قال الشاعر: من الطويل:
إِذَا كنتَ في أَمْر فَكُنْ فيه مُحسِناً ... فَعَما قَليلِ أَنتَ مَاض وَتَارِكُهْ
وَكَم دَحَتِ الأُيامُ أربابَ دَولَةٍ ... وَقَدْ ملَكُوا أضعافَ مَا أُنْتَ مَالِكُهْ
كانت مدة خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، وعمره ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، ومن شعر المأمون في آل البيت قوله: من الوافر:
وَكَم غَاو يَعَض عَلي غَيظاً ... إذَا أَدنَيتُ أَبنَاءَ الوَصِي
يحاولُ أَن نورَ اللّه يُطفَى ... وَنُورُ اللهِ في حِصنِ أَبي
فقلت أَلَيسَ قَد أُوتيتَ علماً ... وَبَانَ لَكَ الرشيد مِن الغَوِي
وعُرفتَ احتِجَاجي بالمَثَانِي ... وَبِالمَعقُولِ وَالأَثَرِ القَوي
بِأيةِ خلةٍ وبِأي مَعنَى ... تُفَضلُ مُلحِدينَ عَلى عَلِيِّ
علي أَعظَمُ الثقَلينِ حَقاً ... وأفضَلهم سِوَى حَق النبي
رحمه اللّه تعالى.