في الدولة العباسية: خلافة المتوكل والمنتصر بالله

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة المتوكل

جعفر، أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.

بويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، بعد الواثق. وكان أسمر اللون، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، إلى القصر أقرب، أمه أم ولد تركية اسمها شجاع.

استخلف فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة بالقول بخلق القرآن، وأظهر السنة ونصر أهلها.

وقدم إلى دمشق في صفر سنة أربع وأربعين وأعجبته، فعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها. وبنى قصراً كبيراً بداريه من جهة المزة، ثم رجع إلى سر من رأى دار ملكه.

قيل إن سبب ميله إلى دمشق: أن إسرائيل بن زكريا الطبيب نعت له دمشق، وأنها موافقة لمزاجه، ومذهبة عنه العلل التي تعرض له في الصيف بالعراق.

كان المتوكل شجاعاً كريماً، ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطاه المتوكل. ومن أفعاله الشنيعة أنه هدم قبر الحسين بن علي في سنة سبع وثلاثين، وهدم جميع ما حوله من الدور، وجعل مكانها مزارع، ومنع من زيارته، فتألم الناس لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه بعض الشعراء بقوله: من الكامل:

تاللهِ إِن كَانَت أُميةُ قد أَتَت ... قَتل ابنِ بنتِ نَبِيها مَظْلُومَا

فَلَقَدْ أَتَاهُ بنو أَبِيهِ بِمِثله ... هَذَا لَعَمرِي قَبرُهُ مَهدُومَا

أَسِفُوا عَلَى أَلا يَكُونُوا شَارَكُوا ... في قَتلِهِ فَتَتبعُوهُ رَمِيمَا

وهذا الفعل السيئ محا جميع محاسنه، وصار ما عذب من إحسانه مغلوباً بأجاجه وآسنه، وعدت هذه الزلة أقبح قبيحة، وهذه الخلة الشنيعة أفضح من كل فضيحة.

وذكر ابن خلكان في ترجمة المتوكل عن المتوكل نفسه قال: ركبت إلى دار الواثق أخي في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز لأنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا إيتاخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في أمري، فقال محمد بن عبد الملك: نقتله في التنور. وقال إيتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل. فبينما هما على ذلك إذ جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي فدخل وحدثهما كلاماً لا أفهمه، لما داخلني من الخوف وشغل القلب في إعمال حيلة في الهرب، فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتغادون ويقولون: انهض يا مولانا. فلم أشك أني داخل لأبايع لولد الواثق، ثم ينفذ في ما قررا. فلما دخلت بايعوني، فسألت عن الحال، فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك ثم إن المتوكل قتل إيتاخ بالماء البارد، وابن الزيات بالتنور على ما أشارا إليه في حقه.

وهذا من أعجب الاتفاق؛ فإن ابن الزيات هو الذي صنع التنور، وكان يعذب به الناس فعذبه اللّه به جزاء وفاقاً. وهو من حديد داخله مسامير وكان يسجر عليه بحطب الزيتون حتى يصير كالجمر ثم يدخل فيه الإنسان، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. وكان ابن الزيات إذا استغاث به أحد من الرعية فقال: ارحمني، يقول: الرحمة خور في القلب، فلما ألقى هو في التنور قال للمتوكل: ارحمني، فقال له: الرحمة خور في القلب أو في الطبيعة، وكان قد حبسه قبل أن يدخله التنور أياماً فكتب إليه في الحبس بقوله: من البسيط:

هِيَ السبِيلُ فَمِن يَومٍ إِلَى يَوم ... كَأنهُ مَا تُرِيكَ العَين في النومِ

لاَ تَعجَلَن رُوَيداً إنهَا دُوَل ... دنيَا تَنقل مِن قَومِ إِلَى قَوْمِ

ووقعت في أيامه عجائب: منها أن النجوم ماجت من السماء وتناثرت كأنها الجراد، فرميت قرية السويداء بناحية مضر أحجار من السماء وُزن حجر منها فكان عشرة أرطال، ومار جبل باليمن عليه مزارع ومدن إلى جبل آخر بينهما نحو أربعة أيام، ووقع طائر أبيض دون الرخمة فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله أربعين مرة، وجاء من الغد ففعل كذلك! فكتبوا خبر ذلك على البريد إلى بغداد، وكتبوا فيه شهادة خمسمائة رجل سمعوا ذلك بآذانهم، وكان هذا في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين ومائتين، وحصلت زلازل، وغارت عيون مكة؛ فأرسل المتوكل مائة ألف دينار ذهباً لإجراء عين عرفات فصرفت فيها إلى أن جرت، كذا ذكره السيوطي.

قال العلامة النجم، عمر بن فهد في تاريخه إتحاف الورى، بأخبار أم القرى: في حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين: غارت عين مشاش، وهي عين مكة فبلغ ثمن القربة درهمَاً، فبعث المتوكل مالا ثانياً فأنفق عليها حتى جرت. قال ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل: هذه العين من عمل زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وهي عين بازان. قال العلامة القطبي: عين مشاش هي عين مكة موجودة الآن، وهي من جملة العيون التي تصب في عين حنين، وهي تقوى وتضعف أحياناً لقلة الأمطار وكثرتها، ومحلها معروف.

ولما كثر الترك ببغداد، ودخلوا في الملك، واستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد، والولاية والعزل، إلى أن حملهم الطغيان على الفتك بالخليفة المتوكل، لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفَاً التركي؛ لكثرة أمواله وخزائنه فتعصب له باغر التركي، وانحرف الأتراك عن المتوكل؛ فدخل باغر ومعه عشرة أتراك وهو في مجلس أنسه وعنده وزيره الفتح بن خاقان بعد مضي هزيع من الليل، فصاح الفتح: ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم، وهرب من كان حوله من الغلمان والندمان على وجوههم، فبقي الفتح وحده، والمتوكل غائب سكران فضربه باغر بالسيف على عاتقه فقده إلى حقوه، فطرح الفتح نفسه عليه، فضربهما باغر ضربة ثانية فماتا جميعاً فلفهما معاً في بساط، ومضى هو ومن معه، ولم ينتطح في ذلك عنزان. وقيل إن سبب ذلك أن ابنه المنتصر باطن عليه الأتراك حتى قتلوه، وذلك أنه كان بايع بالعهد للمنتصر، ثم أراد أن يعزله ويولي المعتز ابنه لمحبته لأمه، فسأل المتوكل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى، فكان يحضره مجلس العامة ويحط من منزلته ويتهدده ويشتمه، وقيل: كان هذا وهذا سبباً لذلك.

قال المسعودي: ولم يصح عن المتوكل النصب، حدثنا المبرد قال: قال المتوكل لأبي الحسن على الهادي بن محمد الجواد بن عَلِي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق؛ ما يقول ولد أبيك في العباس. قال: ما يقولون في رجل فرض اللّه طاعة نبيه على خلقه، وفرض طاعته على نبيه. فأعجب بجوابه المتوكل إعجاباً. قلت: لا يخفي على الفطن هذه التورية من هذا السيد الجليل وصدقها. وسعى إلى المتوكل بأبي الحسن المذكور بأن في منزله سلاحاً وكتباً من الشيعة، وأنه يريد التَوثّب على الخلافة، فبعث إليه المتوكل جماعة فهجموا على منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل، والمتوكل يشرب الخمر، فأعظمه وأجلسه وقال: اشرب. فقال: واللّه ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني، فأعفاه. ثم قال له أنشدني فأنشد: من البسيط:

بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأجبَال تَحْرُسُهُمْغُلْبُ الرجَال فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ

واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِز عَنْ مَعَاقِلِهِمْوَأُودِعُوا حُفْرَة يَا بِئْسَمَا نَزَلُوا

نَادَاهُمُ صَارخ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ... أَيْنَ الأَسِرَة وَالتيجَانُ وَالحلل

فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُتِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدّودُ يَقْتَتِلُ

قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْراً وَمَا شَرِبُوافَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَالك الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا

فبكى جعفر والحاضرون وقال: يا أبا الحسن لقد لينت منا قلوباً قاسية، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف. فأمر له بها ورده مكرماً.

ومما يحكى من كرمه أنه دخل عليه ابن الجهم - وقيل النميري - فأنشده قصيدة يقول فيها: من مجزوء الكامل:

وَإِذَا مَرَرْتَ ببئرِ عُرْ ... وَةَ فَاسْقِني مِنْ مَائِهَا

وكان بيد المتوكل درتان عظيمتان يقلبهن، فدحا إليه بدرة منهما فقال: استقص بها، فهي واللّه خير من مائة ألف دينار، قال: لا واللّه، ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى، فقال: قل، فقال: من مخلع البسيط:

بِسُرَ مَنْ رَا إِمَامُ عَدْلٍ ... تغْرَقُ مِنْ كَفِّهِ البِحَارُ

يُرْجَى وَيُخْشَى بِكُل خَطْب ... كَأَنَّهُ جَنَّة وَنَارُ

أَلْمُلْكُ فِيهِ وَفي بَنِيه ... مَا اخْتَلَفَ اللَيْلُ وَالنَّهَارُ

يَدَاهُ في الجُودِ ضَرَّتَانِ ... عَلَيْهِ كِلْتاهُمَا تَغَارُ

لَمْ تَأْتِ مِنْهُ اليَمِيَنُ شَيئاً ... إِلاَ أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ

قال: فدحا إليه بالدرة الأخرى. قلت: رحم اللّه الكرام المجيزين على دردي النظام بدري النظام.

وأجاز مروان بن أبي الجنوب على قصيدته التي يقول فيها: من الطويل:

فَأَمسِك نَدَى كَفيك عَني وَلاَ تَزِد ... فَقَد خِفتُ أَن أَطغَى وَأَن أَتَجَبرَا

فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، فأمر له بمائة وعشرين ألف دينار وخمسمائةَ ثوب ديباج.

قال علي بن محمد النديم: دخلت على المتوكل العباسي وعنده الرضي، فقال: يا علي من أشعر الناس؟ قلت: البحتري، قال: ومن بعده؟ قلت: مروان بن أبي حفصة، فالتفت إلى الرضي وقال: من أشعر الناس في زماننا؟ قال: علي بن محمد العلوي. قال: وما تحفظ من شعره؟ قال قوله: من الطويل:

لقَد فَاخَرَتنَا مِن قُرَيشٍ عِصَابَةٌ ... بِمَط خُدُودِ وَامتدادِ الأصابِعِ

فَلَما تَنَازَعنَا الفَخَارَ قَضَى لَنَا ... عَلَيهِم بِمَا نهوى نِدَاءُ الصوَامِعِ

قال المتوكل: وما معنى نداء الصوامع؟ فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه. قال المتوكل: وأبيك إنه لأشعر الناس، ثم أنشده قوله أيضاً: من المتقارب:

عَصَيتُ الهَوَى وَهَجَرتُ النسَاءَ ... وَكُنتُ دَوَاءَ فأَصبَحتُ دَاءَ

وَمَا أَنسَ لاَ أَنسَ حَتى المَماتِ ... تَرِيبَ الظبَاءِ تُجِيبُ الظبَاءَ

دَعِينِي وَصبرِي عَلَى النائِبَاتِ ... فَبِالصبرِ نِلتُ الثرَى وَالثوَاءَ

فَإن يَكُ دَهرِي لَوَى رَأسَهُ ... فَقَد لَقِيَ الدهرُ مِني التِوَاءَ

لَيَالِيَ أَروِي صُدُورَ القَنَا ... وَأَروِي بِهِن الصدُورَ الظمَاءَ

وَنَحن إِذَا كَانَ شُربُ المُدَامِ ... شَرِبنَا عَلَى الصافِنَاتِ الدمَاءَ

بِلغنَا السمَاءَ بِأَنسَابنَا ... وَلَولاَ السمَاءُ لَجُزنَا السمَاءَ

فحسبُكَ مِن سُؤددٍ أَننَا ... بِحُسنِ البَلاَء كَشفنَا الغِطَاءَ

يطيبُ الثنَاءُ لآَبائِنَا ... وذِكرُ عَلِي يَزِينُ الثنَاءَ

إِذَا ذُكِرَ الناسُ كَانُوا مُلُوكَاً ... وَكَانُوا عَبِيداً وَكَانُوا الإمَاءَ

هَجَانِي رِجَالٌ وَلم أَهجُهُم ... أبى اللّه لِي أَن أقُولَ الهجَاءَ

فوصله لهذه الرواية بمال عظيم.

وفي سنه أربع وأربعين ومائتين قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية؛ وذلك أنه حضر يوماً مجلس المتوكل، وكان يؤدب أولاده، فجاء منهم المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب، أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ابنا علي رضي اللّه عنهم؟ فقال يعقوب: واللّه إن قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك فمات، ثم أرسل المتوكل لأولاده دية أبيهم عشرة آلاف درهم، كذا في حياة الحيوان.

وذكر ابن خلكان: كان المتوكل يبغض علياً، فذكر يوماً علي عنده فغض منه، فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك، فشتمه أبوه المتوكل وأنشد مواجهاً له: من المجتث:

غَضبَ الفَتَى لابن عَمه ... رَأسُ الفتَى في حِرِ أمه

فحقد عليه وأغرى على قتله مع ما كان مما تقدم من عدوله بالعهد عنه إلى أخيه المعتز. قلت: هذا يؤيد القول الثاني أن المتوكل ناصبي، خلاف ما قاله المسعودي.

وذكر أن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً، قدم على المتوكل أول قدمة فأنشده قصيدة يمدحه بها يقول فيها: من الخفيف:

أَنتَ كَالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُد ... د وَكَالتيسِ في قِرَاع الخطُوبِ

أَنتَ كَالدلو لاَ عَدِمتُكَ دَلوا ... مِن كِبَارِ الدلا كَثيِر الذنُوبِ

فعرف المتوكل قوته، ورقة قصده، وخشونة لفظه، وعرف أنه ما رأى سوى ما شبه لملازمته البادية وعدم مخالطته، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، وفيها بستان يتخلله النسيم، والجسر قريب منه، وأمر له بجائزة سنية، فلطف طبعه عن أول أمره، وأنشد الأشعار البليغة الرقيقة بعد ذلك.

وحكى أن عبادة المخنث دخل يوماً إلى دار المتوكل، فرأى رطبة مطروحة فأكب ليأخذها، فرآه ابن للمتوكل صغير فأشار بإصبعه إلى استه وقال: يا عم من فتح لك هذه الكوة. فقال له عباده: الذي فتح لأمك اثنتين، فسمعه المتوكل فأمر بضرب عنقه، فهرب ولم يدر إلى أين يتوجه، فأخذ يهرب في الصحاري ومعه طبله ونايه، فلما أمعن في الصحراء خاف أن يدركه الطلب، فرأى غاراً مفتوحَاً فدخله وسد بابه بالحجارة، فلما صار إلى أقصاه وجد فيه أسداً عظيماً رابضَاً ففزع منه وهم الأسد أن يثب عليه، فما وسعه إلا أن ضرب الطبل، فلما سمعه الأسد فزع من صوته وهرب يريد الخروج، فوجد باب الغار مسدوداً فربض هناك خائفاً من صوت الطبل. فجعل عبادة تارة يضرب بالطبل، وتارة يزمر بالناي خوفاً من الأسد، ووافق ذلك قدوم الفتَح بن خاقان من نزهة كان خرج إليها، فلما سمع صوت الطبل والناي في الصحراء أنكره، ثم تبعه حتى وقف على باب الغار، وأمر أن يفتح، فلما فتحوه خرج الأسد هارباً على وجهه، فخرج عبادة وهو يبكي ويصرخ، ويقول: هذا دفعه إلى أمير المؤمنين أعلمه ضرب الطبل والغناء بالناي وشردته علي، فقال له الفتح: أنا أرضي أمير المؤمنين، ولك علي ألف دينار، فقال: أخاف واللّه أن يضرب عنقي.

فقال الفتح: أنا أستوهبه دمك، فقال: إن فعلت فقد رضيت. ثم أخذه معه، وأتى به المتوكل، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: هب لي دم عبادة فأنا الذي أذنبت وليس هو، فقال: ما كانت نيتي إلا أن أضرب عنقه، وقد وهبته لك، فقبل الفتح يده وقال: أنا الذي أطلقت الأسد وما له ذنب، فلما سمع المتوكل ذكر الأسد سأل عن أصل القصة، فقال له الفتح بما رأى، قال: وزعم أن أمير المؤمنين أعطاه ذلك الأسد ليعلمه الطبل والغناء، فضحك المتوكل حتى فحص برجله الأرض وقال: خدعك واللّه يا فتح، إن الأصل كيت، وأنجز الفتح لعبادة الألف التي وعده بها بوعده السابق. انتهى. كذا في بقية الخاطر لمحمد بن مصطفى الشهير بالكاتي.

قال البحتري: اجتمعنا في مجلس المتوكل فنعت له سيف هندي، فبعث إلى اليمن فاشترى له بعشرة آلاف فأتى به، فأعجبه ثم قال للفتح: أبغني غلاماً أدفع إليه هذا السيف لا يفارقني به، فأقبل باغر التركي، فقال الفتح: هذا موصوف بالشجاعة والبسالة، فدفع المتوكل إليه السيف وزاد في رزقه، فواللِّه ما انتضى ذلك السيف إلا ليلة ضربه باكر بالقصر الجعفري، وكان المتوكل مستغرقاً بجاريته التي اسمها قبيحة وهي أم ولده المعتز لا يصبر عنها ساعة. فوقفت له يوماً وقد كتبت على خديها بالغالية جعفر فتأملها ثم أنشأ يقول: من الطويل:

وَكَاتِبَةٍ بِالمِسْكِ في الْخَدِّ جَعْفَراًبِنَفْسي مَخَط المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أثَّرَا

لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرَاً مِنَ المِسْكِ خَدَهَالَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الحُب أسْطَرَا

وكانت ليلة المتوكل يضرب بها المثل في السرور الذي يعقبه ترح، يقال: مات بليلة المتوكل، كان قتله ليلة الأربعاء لليلتين مضتا من شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، وهو أول مقتول بمعرة ولده المنتصر بعد قتل الأمين بمباشرة طاهر بن الحسين، كانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وتّسعة أشهر وثمانية أيام، وكان عمرهُ أربعين سنة وشهراً وقيل إحدى وأربعين سنة.

خلافة المنتصر باللّه

محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور أخي السفاح بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، بويع بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، ومن الغد البيعة العامة.

ولما ولي خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد التي عقدها لهما أبوه المتوكل، وأظهر العدل والإنصاف في الرعية، فمالت إليه النفوس والقلوب مع هيبتهم له، وكان محببَاً إلى العلويين، وصولا لهم، باراً بهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد فدك عليهم، فقال يزيد المهلبي في ذلك يمدحه: من الكامل:

وَلَقَدْ بَرَرْتَ الطَالِبِيةَ بَعْدَ مَا ... ذَمُوا زَمَانَاً بَعدَهَا وَزَمَانَا

وَرَدَدتَّ أُلْفَةَ هَاشِمِ فَرَأَيْتهُمْ ... بَعْدَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ إِخْوَانَا

وكان حليماً كريماً. من كلامه: لذة العفو أعذب من لذة التشفي. وأقبح أفعال المقتدر الانتقام.

وقال الحافظ الذهبي: ذكر نجيح بن علي المنجم أن المنتصر جلس للهو، وأمر بفرش بساط من ذخائر الخزينة تداولته الملوك ففرش، فرأى فيه صورة رأس عليه تاج، وعليه كتابة بالفارسية، فطلب من يقرأ تلك الكتابة فأحضر رجل من الأعاجم فقرأها، وعبس عند ذلك، فسأله المنتصر عنها فقال: لا معنى لها، فألح عليه فقال: هي أنا الملك شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أمتع بالملك بعده إلا ستة أشهر. فتغير وجه المنتصر وقام من ذلك المجلس، وترك اللهو الذي أراده، وبات مغتماً وتوعك، ثم رأى في ليلة وعكه أباه فانتبه فزعاً يبكي، فقالت له أمه: ما يبكيك؟ فقال: أفسدت ديني ودنياي، رأيت أبي الساعة يقول لي: قتلتني يا محمد لأجل الخلافة، واللّه لا تتمتع بها إلا أياماً قلائل، ثم مصيرك إلى النار، فاستمر موهوماً من هذا المنام فما عاش بعد ذلك إلا أياماً قلائل، وكان على حذر من الأتراك يسبهم ويلعنهم، ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء؛ فلم يأمنوه؛ فأرادوا قتله فما أمكنهم الإقدام عليه؛ لشدة محاذرته منهم، فدسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند توعكه ليسمه فقصده بمبضع مسموم فأحس بذلك وأراد قتل الطبيب، فقال له: إنك تصبح طيباً وتقدم على قتلي، فأمهلني إلى الصبح، فأمهله فأصبح ميتاً. وكانت وفاته لأربع خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وعمره ست وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون وأربعة أيام، ومدة خلافته ستة أشهر.