في الدولة العباسية: خلافة المستعين بالله إلى خلافة المستعصم بالله

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

خلافة المستعين بالله

أحمد بن المعتصم بن هارون. كان فاضلا ديناً، أخبارياً مطلعاً على التواريخ، متجملا في ملبسه. وهو أول من أحدث الأكمام العراض؛ فجعل عرض الكم ثلاثة أشبار وهو عم المنتصر قبله، أخو المتوكل أبيه. وإنما قدمته الأتراك وعدلوا عن أولاد المتوكل؛ لأنهم كانوا قتلوا المتوكل فخافوا أن يلي الخلافة أحد من أولاده فيأخذ بثأر أبيه؛ فاختاروا من أولاد المعتصم أحمد هذا، ولقبوه بالمستعين باللّه. أمه أم ولد تسمى مخارق، وما كان له من الخلافة إلا الاسم، وكان المماليك الأتراك مستولين على الملك، وكان الأمر جميعه لكبيري الأتراك وصيف، وبغا التركيين حتى قيل في ذلك: من الرجز:

خَلِيفَة في قَفَصٍ ... بَين وَصِيفِ وبغَا

يَقُولُ مَا قَالاَ لَهُ ... كَمَا تَقُولُ البَبَّغَا

والببغا: هي الطير المسمى بالدرة، واستمر كذلك وهو مترصد لهما، إلى أن ظفر بوصيف فقتله، وهرب باغر الذي كان سطا في المتوكل وقتله، فتنكرت له الأتراك فخرج عنهم من سر من رأى إلى بغداد، فأرسلوا إليه يعتذرون، ويسألونه العودة إلى سر من رأى، فامتنع منهم، فلما أبى قصد الأتراك خلعه، فأتوا إلى الحبس، فأخرجوا محمداً أبا عبد الله بن المتوكل، ولقبوه المعتز بالله، وبايعوه وعمره تسعة عشر عاماً، ولم يل الخلافة أصغر منه، وجيشوا على المستعين باللّه جيشاً إلى أن خلع نفسه، وأشهد القضاة والعدول على نفسه بذلك، وانحدروا به إلى واسط وحبسوه تسعة أشهر، ثم دسوا إليه سعيداً الحاجب فذبحه في الحبس في ثالث شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وجاء برأسه إلى المعتز وهو يلعب الشطرنج فقيل له: هذا رأس المخلوع. فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب، ثم أمر بدفنه وعمره إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، وخلافته إلى زمان خلعه سنتان وثمانية أشهر وستة عشر يوماً.

خلافة المعتز باللّه

محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله كان بديع الحسن جداً، مليح الصورة ليس في الخلق أجمل منه حسناً، كان مستضعفَاً مع الأتراك، وكان صالح بن وصيف مستولياً عليه، وهو خائف منه، فاجتمع الجند عليه، وطلبوا منه أرزاقهم، ووعدوه أنه إذا أنفق عليهم أرزاقهم ركبوا معه على صالح بن وصيف، فيقتلوه ويصفو الملك له، ولم يكن في خزائنه مال يصرفة عليهم فطلب من أمه وكانت تركية اسمها قبيحة لفرط جمالها بين النساء، فأبت أن تعطيه وشحت عليه بالمال، وسخت بولدها وكان معها مال عظيم فاتفق الأتراك على خلعه، وركب عليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا وهجموا عليه وجروا برجله، وأوقفوه في الشمس، فصار يرفع رجلا ويضع رجلا، وعذبوه وهم يلطمونه ويقولون: اخلعها ويتقي بيديه ويأبى، ثم أجابهم، وخلع نفسه؛ فأدخلوه الحمام، ومنعوه الماء إلى أن مات عطشاً. وقيل: أتوه بماء مالح فشربه وسقط ميتاً، ثم أخرجوه وأشهدوا عليه أنه لا أثر به، وصادر صالح بن وصيف قبيحة أم المعتز وعذبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهباً ونصف أردب لؤلؤ ومثله زمرد وسدس أردب ياقوت أحمر، ثم أخرجت إلى مكة وأقامت بها إلى أن ماتت، وأقل الناس الترحم عليها؛ حيث إن هذا المال عندها وشحت به عن ولدها عند احتياجه؛ فكان عليه ما كان.

توفي في ثالث شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. مدة خلافته سنتان وأحد عشر شهراً، وعمره اثنتان وعشرون سنة وسبعة أشهر.

خلافة المهتدي باللّه

أبو إسحاق بن الواثق هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور الخليفة الصالح، ولد في خلافة جده، سنة بضع عشرة ومائتين، وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وما قبل بيعة أحد حتى أتى إليه بالمعتز قبل قتله، فلما رآه قام له وسلم على المعتز بالخلافة وجلس بين يديه فجيء بالشهود والقاضي ابن أبي الشوارب فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة، واعترف بذلك ومد يده وبايع المهتدي، فارتفع حينئذ المهتدي إلى صدر الديوان، وقال: لا يجتمع سيفان في غمد، وتمثل بقول أبي ذؤيب: من الطويل:

تُرِيدِينَ كَيْمَا تجمعيني وَخَالِدَاًوَهَلْ يُجْمَعُ السَّيْفَانِ وَيْحَكِ في غِمْدِ

وكان المهتدي باللّه أسمر، رقيقاً، مليح الوجه، ورعاً متعبدَاً، عادلا، قوياً في أمر اللّه تعالى، بطلا شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الحق والخير. قال أبو بكر بن الخطيب: قال أبو موسى العباسي: لم يزل صائماً منذ ولي إلى أن قتل، قال العباس بن هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان، فوثبت لأنصرف، فقال لي: اجلس فجلست، وتقدم فصلى بنا ثم دعا بالطعام، فإذا طبق عليه خبز وآنية فيها ملح وخل وزيت، فدعاني إلى الأكل فقال: كل واستوف فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى؛ فعجبت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد أسبغ اللّه نعمته عليك، فقال: إن الأمر على ما وصفت، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، فكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت.

وقال ابن عرفة النحوي: حدثني بعض الهاشميين، قال: كان للمهتدي سفط فيه جبة صوف وكساء، وكان يلبسه بالليل ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم عن الظلم، وكان يشرف على الدواوين بنفسه، ويجلس الكتاب بين بديه، فتبرم به بابك التركي وانحصر، وكان ظلوماً، غشوماً فأمر المهتدي بقتله، فلما قتل هاجت الأتراك، ووقع الحرب بينهم وبين المغاربة؛ فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طنبغا أخو بابك فهزمهم، ومضى المهتدي منهزماً والسيف في يده وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد بن أبي داود، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه، وأخذوه أسيرَاً، وحمل على دابة، وأردف خلفه سائس بيده خنجر، وأدخل إلى دار بعضهم وجعلوا يصفعونه ويقولون: اخلعها، فأبى عليهم، فسلم إلى رجل منهم فوطئ مذاكيره حتى قتله. وتوفي في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكانت مدة خلافته سنة واحدة إلا خمسة عشر يوماً، عمره ثمان وثلاثون سنة وأربعة أشهر.

خلافة المعتمد على الله

أبي جعفر، أحمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.

لما قتل متغلبة الأتراك الخليفة المهتدي صبراً عمدوا إلى الحبس، وأخرجوا ابن عمه أبا جعفر أحمد بن المتوكل، ولقبوه بالمعتمد على اللّه، وبايعوه سنة ست وخمسين، أمه أم ولد اسمها فينان، وكان له انهماك على اللذات واللهو، فقدم أخاه طلحة بن المتوكل ولقبه بالموفق باللّه، وجعله ولي عهده، ولاه المشرق، والحجاز، واليمن، وفارس، وطبرستان، وسجستان، والسند. وكان له ولد صغير اسمه جعفر ولاه المغرب، والشام، والجزيرة، ولقبه المفوض إلى اللّه، وعقد لهما لواءين أبيض وأسود، وعقد لهما البيعة، وشرط على أخيه الموفق باللّه أنه إن حدث به الموت وولده صغير كان الموفق ولي عهده، وإن كان حينئذ ولده كبيراً كان هو ولي عهده، وكتب بذلك معاقدة كتب كل منهما خطة عليه، وكتب القضاة والعدول خطوطهم عليها، وأرسلها إلى مكة فعلقت في الكعبة، وما أفاد مع هذا حذر من قدر؛ كان الموفق عاقلا مدبراً شجاعاً، مشتغلا بأمور المملكة، ملتفتاً لأمور الرعية، وكان أخوه المعتمد مكباً على لهوه ولذاته، مهملا أحوال الرعية غير ملتفت إليها؛ فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة الموفق، وظهرت فيه نجابات كثيرة، وكان ميمونَاً مظفرا في الحروب.

وظهر أيام المعتمد طائفة من الزنج، وتغلبوا على المسلمين، وكان لهم رئيس اسمه يهبول يدعى أنه أرسله اللّه إلى الخلق، وادعى علم المغيبات، وقتل في المسلمين....، ذكر الصولي أنه قتل ألف ألف وخمسمائة ألف مسلم، وكان يستأسر نساء المسلمين ويبيعهن في الأسواق بأبخس ثمن، وينادي على الشريفة العلوية بدرهمين، وكان عند الزنجي الواحد منهم عشر شرائف يطؤهن ويمتهنهن في الخدم الشاقة، وكان ذلك من أعظم المصائب في الإسلام. وتملك هذا الكافر مدناً كثيرة للمسلمين، واستأصل أهلها، وجعل دار مملكته واسط ورامهرمز وما والاهما؛ فانتدب لقتاله الموفق باللّه، وجمع الجموع والعساكر ممن حنكته الحروب، ووسمته قوارع الخطوب، فاتخذهم جناناً ويداً، ورضي بهم ساعداً وعضداً، فركض بهم إلى الأعداء اللئام، الكفرة الطغام. فالتقت الفئتان على ضربية الحرب، وتساقيا كئوس الطعن والضرب، فجفلت السودان من لامع الصارم الأبيض، وفروا كما يفر الليل الأسود من النهار المبيض، وقتل أميرهم يهبول، ونصر الله ملة الإسلام، ومحا بنوره ذلك الظلام، واستردت المدائن التي أخذها وغيرها من البلاد، واطمأن المسلمون وكافة العباد، ولقبوه بالناصر لدين اللّه، وصار له حينئذٍ لقبان: الموفق باللّه، والناصر لدين الله. ودخل إلى بغداد في عظمة وعلو شأن، ورأس ذلك الكافر ورءوس أصحابه على رماح، ودعا له المسلمون، وقصدته الشعراء بالمدائح، وأحبه الناس، وبعد صيته واستفحل أمره.

واستمر أخوه المعتمد على حاله منهمكاً في اللهو واللذات وله اسم الخلافة، وجميع الأمور يتلقاها الموفق باللّه الناصر لدين الله، فحسده أخوه المعتمد، لذهابه بالذكر والصيت، وأراد هضمه؛ لاستيلائه على المملكة ورضا الناس عنه، فلم يدر كيف يصنع في ذلك، فاستعان على هضم جانب أخيه بصاحب مصر يومئذٍ أحمد بن طولون، وكان ملكاً شجاعاً فاتكاً، صاحب جيوش وجنود، كثير الأموال والخزائن، مستقلا بمملكة مصر يأخذ خراجها، فكاتبه المعتمد، وأمره أن يقاتل أخاه ليخف أمره ويهون بذلك، فجرت بينهما حروب اشتغل بها الموفق عن أخيه المعتمد، وصار يواليه تارة ويداريه، ويباعده تارة ويدانيه. ومضى على ذلك زمان والموفق بعد مرهن.

وكان للموفق ابن نجيب اسمه أحمد جعله الموفق ولي عهده واستعان به في حروبه، وظهرت له نجابة وقوة، فخشي الموفق على نفسه وعلى أخيه المعتمد لما رأى من شجاعته وبسالته؛ فأودعه بطن الحبس ووكل به من يثق به في أمره، واستمر محبوساً إلى أن اشتد حال الموفق في المرض فبادر غلمانه إلى الحبس، وأخرجوا ولده أحمد منه فلما رآه الموفق قال: يا ولدي لهذا اليوم خبأتك، وكان ذلك قبل موته بثلاثة، وفوض إليه وأوصاه بعده المعتمد خيراً، ثم مات بعد ثلاثة أيام.

وشمت المعتمد بموت أخيه، وظن أنه استراح وصفا له دهره، والدهر ما صفا لأحد من البشر؛ وإن صروفه تأتي بالعبر والغير. فما حال عليه الحول حتى سلب ذلك الطول والحول، ولم يكن له بعد خذلانه الناصر من قوة ولا ناصر. وتوفي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وعمره أربعون سنة وستة أشهر.

خلافة المعتضد

أحمد بن الموفق باللّه طلحه بن المتوكل بن المعتصم.

بويع له بالخلافة بعد وفاة عمه المعتمد في تاريخ وفاته المذكور آنفاً. أمه أم ولد اسمها صواب، كان قليل الرحمة، مهيئاً ظاهر الجبروت، وافر العقل، شجاعَاً مظفراً. دانت له الأمور فسالمه كل مخالف ومعاند، شديد السطوة، حسن السياسة، يقدم على الأسد وحده، إذا غضب على أحد ألقاه في حفرة وطم عليه التراب، وله تصرفات شتى في قتل من غضب عليه، أسقط المكوس ورفع المظالم عن الرعية، وأظهر عز الملك بعد ما ذل ووهن، وجدد ملك بني العباس، وفي ذلك يقول عبد اللّه بن المعتز: من السريع:

أَمَا تَرَى مُلْكَ بني هَاشِم ... عَادَ عَزِيزاً بَعْدَ مَا ذُللا

يَا طَالِبَ المُلْكِ فَكُنْ مِثْلَهُ ... تَسْتَوْجِبِ المُلْكَ وَإِلاَ فَلاَ

وفيه يقول أبو العباس علي بن الرومي: من الطويل:

هَنِيئاً بني الْعَباسِ إِن إِمَامَكُمْ ... إِمَامُ الهدَى وَالْبَأْسِ وَالجودِ أَحْمَدُ

كَمَا بِأبي العَبَّاسِ أُسسَ مُلْكُكُمْ ... كَذَا بِأبي الْعَباسِ أيضاً يُجَدَدُ

إِمَام يَظَلُّ الأَمْسُ يَشكُو فِرَاقَهُ ... تأسُفَ مَلْهُوفٍ وَيَشْتَاقُهُ الْغَدُ

وكان مع سطوته وبأسه يتوخى العدل، ويبرز المراء في صورة الجبروت والعسف، وهو في ذلك محق في الباطن، فمن ذلك ما روى عن عبد اللّه بن حمدون قال: خرج المعتضد للصيد يوماً وأنا معه، فمر بمقثاة فعاث بعض جنوده فيها، فصاح صاحبها واستغاث بالمعتضد، فأحضره وسأله عن سبب صياحه فقال: ثلاثة من غلمانك نزلوا المقثاة فأخربوها. فأمر عبيده بإحضارهم، فضرب أعناقهم ومضى وهو يحادثني فقال لي: اصدقني ما الذي تنكره الناس من أحوالي. فقلت له: سفكك للدماء. فقال: ما سفكت دمَاً حراماً قط، فقلت: بأي ذنب قتلت أحمد ابن الطيب. فقال: دعاني إلى الإلحاد فقتلته لما ظهر لي إلحاده؛ لنصرة الدين. فقلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثاة الآن؟ فقال: واللّه ما قتلتهم، وإنما ثلاثة من قطاع الطرق، وأوهمت الناس أنهم هم، ثم أحضر صاحب الشرطة فأمره بإحضار الثلاثة الذين نزلوا المقثاة فأحضرهم وشاهدتهم، ثم أمر بإعادتهم إلى الحبس. وهكذا ينبغي تدبير السياسة، وإظهار النصفة، وتخويف الجند وإرعابهم.

ومما وقع في أيام المعتضد من عمارة المسجد الحرام زيادة دار الندوة، وهي الزيادة التي في شامي المسجد وهي أول الزيادتين، والأخرى التي في الجانب الغربي، سيأتي أن الآمر بها المقتدر، وبينهما قريب من عشرين سنة، وليست الزيادة هي عين دار الندوة، بل محلها في تلك الأماكن لا على التعيين من خلف مقام الحنفي إلى آخر الزيادة.

قلت: ما سبق بيانه أن قصياً أول من بنى مكة، ثم بنت قريش بيوتها، وأن البيوت كانت محدقة بالكعبة، ولها أبواب شارعة إلى المطاف، وبين كل دارين طريق إلى المطاف، وهو هذه البقعة المرخمة - يقتضي أن دار الندوة هي محل مقام الحنفي الآن بلا شبهة، فتأمل ذلك.

ومن شعر المعتضد قاله حين مرض: من الطويل:

تَمَتع مِنَ الدُّنْيَا فَإِنكَ لاَ تَبقَىوَخُذ صَفْوَهَا مَهْمَا صَفَتْ وَدع الرنْقَا

وَلاَ تَأْمَنَن الدهرَ إِني أَمِنتُهُ ... فَلم يُبقِ لِي حَالا وَلَم يَرْعَ لي حَقا

قَتَلتُ صَنَادِيدَ الرجَالِ وَلَم أَدَع ... عَدواً وَلَم أُمهِل عَلَى حَسَدِ خَلقَا

وَأَخلَيتُ دَارَ الملكِ عَن كُل نَازِلٍ ... وَفَرقتُهُمْ غَربَاً وَمَزقتُهُمْ شَرْقَا

وَلما بَلغتُ النجمَ عِزاً وَرِفعَة ... وَدَانَت رِقَابُ الخَفقِ أَجمَعَ لِي رقا

رَمَاني الردى سهماً فأَخمَدَ جمرَتِي ... فَها أنا ذا في حُفرَتِي عَاجِلا مُلقَى

وَأَفسَدتُّ دُنيَايَ وَدِينِي سَفَاهَة ... فَمَن ذَا الذِيِ مِني بِمَصْرَعِهِ أَشقَى

فَيَا لَيتَ شعري بَعدَ مَوتِيَ مَا أَرَى ... لِرَحمَةِ رَبي أَم إِلَى نَارِهِ أُلقَى

ثم عهد إلى ابنه علي ولقبه المكتفي باللّه، وأخذ له البيعة قبل موته بثلاثة أيام.

حكى المسعودي أن المعتضد كان مفرطاً في الجماع، فاعتل من إفراطه وطالت علته، وغشي عليه؛ فشك من حوله في موته، وكان لا يجسر أحد عليه لشدة هيبته، فتقدم إليه الطبيب ليخبره بجس النبض، ففتح عينيه وفطن لذلك، فرفس الطبيب برجله رفسة رماه أذرعا فمات الطبيب!! ثم مات المعتضد من ساعته.

وكان أسمر اللون، مهيباً جداً، معتدل الشكل. توفي لسبع بقين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين، وقيل: سنة سبع وثمانين، وكان مدته تسع سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام، وعمره ست وأربعون سنة وشهر.

خلافة المكتفي باللّه

علي بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.

لما توفي المعتضد كان ابنه المكتفي غائباً بالرقة، فنهض بأعباء البيعة له الوزير أبو الحسين القاسم بن عبيد الله، وكتب إليه فوصل، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً زينت له بغداد، ونزل دار الخلافة وخلع على الوزير سبع خلع، ومدحه الشعراء وأنعم عليهم بالجوائز السنية.

كان مولده في غرة ربيع الأول سنة مائتين وأربع وستين. وأمه أم ولد تركية اسمها غنجك، وكان مليح الصورة يضرب بحسنه المثل. قال ابن المعتز: من الكامل:

مَيزتُ بَين جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا المَلاَحَةُ بِالجِنَايَةِ لاَ تَفِي

وَاللَّهِ لاَ كَلّمتُهَا وَلَوَ أنَّهَا ... كَالشمْسِ أَوْ كَالْبَدرِ أَو كَالْمُكتَفِي

كان وسيماً جميلا، بديع الحسن، وردى اللون، معتدل الطول، أسود الشعر. قال الصفدي في شرح اللامية: ومن أين للمكتفي صفة الحسن؟ والذي دلت عليه التواريخ أنه كان أسمر أعين قصيراً، وليست هذه من صفات الحسن. قلت: المثبت مقدم على النافي؛ سيما وأكثر التواريخ فيها وصفه بالحسن كما هنا.

وكان إلى حب علي بن أبي طالب. امتدحه شاعر بقصيدة يذكر فيها فضل أولاد العباس على أولاد علي، فقطع المكتفي عليه إنشاده وقال: كأنهم ليسوا ابني عم وإن لم يكونوا خلفاء، ما أحب أن يخاطب أهلنا بشيء من ذلك، ولم يسمع القصيدة ولا أجازه عليها: وذكر عبد الغفار في تاريخ نيسابور عن أبي المديني - وكان معلماً للمكتفي قبل أن يلي الخلافة، فلما أفضت إليه كتب إليه بهذين البيتين: من الخفيف:

عِنْدَ أَهل التُقَى وَأَهلِ المُروهْ ... حَق الأُسْتَاذِ فَوْقَ حَق الأبوَةْ

وَأَحَق الأنَامِ أَنْ يَحفَظُوا ذَا ... كَ وَيرْعَوْهُ أَهلُ بَيْتِ النبوهْ

ومن أعظم الحوادث في أيام المكتفي ظهور القرامطة الملحدين، بل الكفرة أعداء الدين فأول من خرج منهم يحيى بن بهرويه القرمطي، وكانت دار ملكهم هجر، وهم طائفة إباحية يدعون أن الإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن الحنفية، ويسندون إليه أقاويل باطلة لا أصل لها، فجهز عليه المكتفي جيوشاً فقتله، فقام بعده أخوه الحسين وظهر شأنه، وظهر ابن عمه عيسى ابن مهرويه، ويلقب بالمدثر، وزعم أنه المراد بالسورة الشريفة يا أيها المدثر، ولقب غلامَاً مظلماً بالمطوَق بالنور، وزعم أنه المهدي، ودعا لنفسه على المنابر، وأفسد بالشام وعاث؛ فحارب المكتفي الثلاثة وقتلهم، وطيف برءوسهم في البلاد في سنة إحدى وتسعين ومائتين.

ولم يطل زمان المكتفي؛ توفي ليلة الأحد لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، ومدة خلافته ست سنين وسبعة أشهر، وعمره إحدى وثلاثون سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً.

خلافة المقتدر بالله

أبو الفضل جعفر بن المعتضد بن الموفق باللّه بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ابن المهدي بن المنصور.

بويع له بالخلافة ببغداد يوم مات أخوه المكتفي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأربعين يوماً، ولم يل الخلافة قبله ولا بعده أصغر منه، وضعف دست الخلافة في أيامه.

ذكر صاحب النوادر وغيره أن صافي مولى المعتضد قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد وهو يريد دار الحريم، فلما بلغ باب دار المقتدر وقف وتسمع وتطلع من خلل الباب، فإذا هو بالمقتدر وله إذ ذاك خمس سنين، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل منه واحدة بعد واحدة ثم يطعم الجماعة عنبه عنبة على الدور، حتى فنى العنقود والمعتضد يتمزق غيظاً، ثم رجع ولم يدخل الدار، فرأيته مهموماً، فقلت: ما سبب هذا يا سيدي؟ فقال: يا صافي، لولا العار والنار لقتلت هذا الغلام اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت: يا سيدي، ما شأنه، وأي شيء غمك أعيذك باللّه من هذا؟ فقال: ويحك، أنا بصير بما أقول: أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأنا أعلم أن الناس بعدي لا يختارون أحداً على ولدي، إنهم سيجلسون ابني علياً - يعني المكتفي - وما أظن عمره يطول للعلة التي به - يعني الخنازير التي في حلقه - فيتلف عن قريب ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعد أمثل من جعفر - يعني المقتدر - وهو صبي وله من الطبع والسخاء ما قد رأيته من أنه أطعم الوصائف مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم. والشح على مثله في طبائع الصبيان غالب، فيحتوي على النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبذر خراج الدنيا، فتضيع الثغور، وتعظم الأمور، وتحدث الحوادث والأسباب التي فيها زوال الملك عن بني العباس. فقلت: يا مولاي، يتخلق بأخلاقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: ويحك، احفظ عني ما أقول: فإنه كما قلت. ومكث يومه مهموماً. وضربه الدهر ضربة ومات المعتضد، وولى المكتفي ولم يطل عمره، وولي المقتدر، فكان ما ذكره المعتضد، فواللّه لقد وقفت على رأس المقتدر وهو في مجلس لهوه، فدعا بالأموال فأخرجت إليه ووضعت البحر بين يديه، فجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها ويمحقها ويهبها، وأعطى القهرمانة سبحة جوهر لم ير مثلها، وأخرج على النساء جميع جواهر الخلافة، وأتلف أموالا كثيرة، منها من النقد ثمانمائة ألف ألف دينار، فذكرت قول مولاي المعتضد، ثم إن الجند وثبوا على وزيره فقتلوه، واتفقوا على خلع المقتدر، وعقدوا لأبي العباس عبد اللّه بن المعتز بن متوكل فوليها.

خلافة عبد الله بن المعتز بن المتوكل

لما أقاموه في الخلافة لقبوه الغالب بالله، وقيل: المرتضى بالله، بعد أن شرط عليهم ألا يكون في ذلك حرب ولا سفك دم، فلما بويع استمر يوماً وليلة، فأرسل إلى المقتدر يأمره بإخلاء دار الخلافة، وأن يذهب إلى دار محمد بن طاهر لينظر في أمره، فلما جاء الرسول إلى المقتدر وبلغه الرسالة قال: ليس عندي جواب إلا السيف، ولبس السلاح وركب، ومعه جماعة قليلة من خدمه وهم مستسلمون للقتل في غاية الخوف والوجل، وهجموا على عبد الله بن المعتز، فأهاله ذلك وألقى الله في قلبه الرعب فانهزم هو ووزيره وقاضيه، وكل من هو في ديوانه؛ ظناً أن خلف هؤلاء أعواناً وأنصارَاً، وقبض المقتدر على ابن المعتز وحبسه، ثم أخرجه من الحبس ميتاً.

قال ابن خلكان: لما أدخل ابن المعتز على المقتدر أمر به فطرح على الثلج عرياناً، وحشى سراويله ثلجاً، فلم يزل كذلك والمقتدر يشرب إلى أن مات في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين.

وعبد اللّه بن المعتز لقصر زمانه لا ينبغي عده من الخلفاء، ولكن قد ذكرناه كما ذكره بعض المؤرخين لفضله وأدبه، وهو أشعر بني العباس؛ بل أشعر بني هاشم على الإطلاق، وأغزرهم فضلاَ وأدبَاً ودخولا، ومعرفة بعلم الموسيقا، وصاحب التشبيهات المبتكرة، الغريبة المخترعة، المرقصة، التي لا يشق له فيها غبار. وكان يقول: إذا قلت: كأن، ولم أجد تشبيهاً فقطع اللّه لساني. قلت: مما أحفظ لعبد اللّه ابن المعتز من ذلك قوله في تشبيه الهلال والثريا، حيث يقول: من المنسرح:

قَدِ اتقَضَت دَولَةُ الصيَامِ وَقَد ... بَشَرَ سُقمُ الهِلاَلِ بِالْعِيدِ

يَتْلُو الثرَيا كَفَاغِرٍ شَرِهِ ... يَفتَحُ فَاهُ لأَكْلِ عُنْقُودِ

وقوله في تشبيه الليل والهلال والنجوم: من المنسرح:

كَأنمَا الليلُ وَالهِلالُ وَقَدْ ... لاَحَتْ نُجُومُ السمَاءِ مُنْقَضهْ

وَأم مِنَ الزنجِ حَوْلَهُ ذهبٌ ... تَبدرُ مِنْهُ بَنَادِقُ الفِضَّه

وقوله: من الرجز:

إِذَا الهِلاَلُ فَارَقَتهُ لَيْلَتُه

لِكُل مَنْ يَرمُقُهُ وَيَنْعَتُهْ

كَأنهُ أَسمَرُ شَابَت لِحيَتُه

وهو صاحب القصيدة البائية التي يفخر فيها على بني هاشم، ويدعى أولوية الخلافة ببني العباس - وهو في ذلك ظالم - وهي قوله: من المتقارب:

أَلاَ مَنْ لِعَين وَتَسكَابِهَا ... تُشَكى القَذَا وَبُكَاهَا بِهَا

تَرَامَت بِنَا حَادِثَاتُ الزمَانِ ... تَرَامِى القِسِي بِنشَابِهَا

وَيَا رُب أَلْسِنَةِ كَالسيوفِ ... تُقَطعُ أَرْقَابَ أَصْحَابِهَا

وكم دُهِيَ المرءُ مِن نفسِهِ ... فمزَّقهُ حَدُ أَنيابِهَا

وَإِنْ فُرْصَةٌ أمكنَتْ في العدو ... فَلاَ تُبدِ همَّكَ إلاّ بِهَا

فإنْ لم تَلِج بابَها مُسْرِعاً ... أتاكَ عدوُكَ مِنْ بَابِهَا

وهل نافِعٌ نَدَمْ بعدَهَا ... وتأميلُ أخرى وأَنَّى بِهَا

وَمَا يُنْتَقَصْ من شبابِ الرجالِ ... يُزَدْ في نُهَاها وَأَلْبَابِهَا

نهيتُ بني رَحِمِي نَاصِحاً ... نَصِيحَةَ بَر بأنسَابِهَا

وقد رَكِبُوا بغيهم وارْتَقَوْا ... مَعَارجَ تَهْوِى بركابِهَا

فَرَامُوا فَرَائِسَ أُسْد الشَرَى ... وقد نَشِبَتْ بينَ أَنيابِهَا

دَعُوا الأسدَ تفرس ثم اشْبَعُوا ... بما تفضلُ الأسْدُ في غابِهَا

ومنها:

قتلنا أميةَ في دارِهَا ... ونحنُ أحق بأسلابِهَا

ولما أبى اللَهُ أَن تملِكُوا ... نهضْنَا إليها وقُمْنَا بِهَا

ونحن ورثنا ثيابَ النبِي ... فَلِمْ تَجذِبونَ بأَهْدَابِهَا

لَكُمْ رَحِم يا بني بِنتِهِ ... ولكنْ بَنُو العم أولَى بِهَا

فَمَهْلا بني عَمنَا إنها ... عطيةُ رب حَبَانا بِهَا

وكانت تَزَلزلُ في العالَمِينَ ... فَشُدَتْ لَدَيْنَا بأَطْنَابِهَا

فرد عليه شاعر زمانه، وفصيح أوانه - العزيز بن سرايا الحلي، وأجاد فقال: من المتقارب:

أَلاَ قُلْ لِشر عبيدِ الإِلهِ ... وَطَاغى قريشٍ وَكَذابِهَا

أَأَنْتَ تُفَاخِرُ آلَ النبي ... وَتَجْحَدُهَا فَضْلَ أَنْسَابِهَا

بِكُمْ بَأهَلَ المُصْطَفى أَمْ بِهِمْ ... وَرَدَ العُدَاةَ بِأَوْصَابِهَا؟!

أَعَنْكُم نَفي الرجْسَ أَم عَنهُمُ ... لِطُهْرِ النُّفُوسِ وَأَلْبَابِهَا؟!

أَمِ الشُرْبُ واللهْوُ مِنْ دَأْبِكُمْ ... وَفَرْطُ العِبَادَةِ مِنْ دَأبِهَا؟!

وقلتم وَرِثْنَا ثِيَابَ النبِي ... فَلِمْ تَجْذِبُونَ بأهْدَابِهَا

وعندكَ لاَ تُورَثُ الأنبياءُ ... فَكَيْفَ حَظِيتُمْ بأَثْوَابِهَا

فكذبْتَ نَفْسَكَ في الحالَتَيْنِ ... ولم تعلمِ الشَهْدَ مِنْ صَابِهَا

أَجَدُكَ يَرضَى بما قلتَهُ ... وَمَا كَانَ يَوْماً بمُرْتَابِهَا

وكان بصِفين من حِزبِهِم ... لحربِ الطغاةِ وأحزابِها

وقد شَمرَ المَوتُ عن سَاقِهِ ... وكَشرَتِ الحَرْبُ عن نَابِهَا

فأقبلَ يَدْعُو إلى حَيْدرٍ ... بِإرْعَابها وبإرْهَابِهَا

وآثرَ أَنْ ترتضيه الأَنامُ ... منَ الحَكَمَينِ لإسْهَابِهَا

ليُعْطِي الخِلافَةَ أَهلا لَهَا ... فلم يرتضوه لأَنجابِهَا

وَصَلى معَ الناسِ طولَ الحياةِ ... وحيْدرُ في صدرِ مِحْرابِهَا

فَهَلا تَقَمَصَها جَدُكُمْ ... إذَا كانَ ذلك أَحْرَى بِهَا

وإِذْ جَعَلَ الأمرَ شُورَى لهم ... فهَلْ كَانَ من بَعْضِ أَرْبَابِهَا

أَخَامِسَهُمْ كَانَ أَمْ سَادِساً ... وَقَدْ جُليَتْ بَيْنَ خطَابِهَا

وقولُكَ: أنتم بَنُو بنتِهِ ... وَلَكِنْ بَنُو العَم أَولَى بِهَا

بَنُو البِنتِ أيضاً بَنُو عَمهِ ... وذَلِكَ أَدْنَى لأَنْسَابِهَا

فَدَع في الخلاَفَةِ فَصلَ الخِطَابِ ... فليسَتْ ذَلُولا لِرُكَابِهَا

وَمَا أَنْتَ والفَحْصَ عَن شَأنِهَا ... وَمَا قَمَّصُوكَ بِأَثْوَابِهَا

وَمَا سَاوَرَتْكَ سِوَى سَاعَةٍ ... فَمَا كُنْتَ أَهْلا لألَقَابِهَا

وَكَيْفَ يَخُصوكَ يَوماً بِهَا ... وَلَمْ تَتَأدب بآَدَابِهَا

وَقُلتَ بأنكُمُ القَاتِلُونَ ... أسودَ أُمَيةَ في غَابِهَا

كَذَبْتَ وَأَسْرَفْتَ فِيمَا ادعَيْتَ ... وَلَمْ تَفدِ نَفسَكَ عَنْ عَابِهَا

فَكَمْ حَاوَلَتهَا سَرَاة لَكُمْ ... فَردتْ عَلَى نَكْصِ أَعْقَابِهَا

ولولا سُيُوف أبي مُسْلِم ... لَعَزَّتْ عَلَى جَهْدِ طلاَبِهَا

وَذَلِكَ عَبْدٌ لَهُم لاَ لَكُم ... رَعَى فيكمُ قُربَ أَنْسَابِهَا

وَكنتُم أَسَارَى بِبَطْنِ الحُبُوسِ ... وَقَد شَفكُم لَثْمُ أَعْقَابِهَا

فَأَخرَجَكُمْ وَحَبَاكُم بِهَا ... وَقَمَصَكُم فَضلَ جِلْبَابِهَا

فجازَيْتُمُوه بِشَر الجَزَاءِ ... لطغوَى النفُوسِ وَإِعْجَابِهَا

فَدَع ذِكرَ قَوم رَضُوا بالكَفَافِ ... وَجَاءُوا القَنَاعَةَ مِن بابِهَا

هُمُ الزاهِدُون هُمُ العَابِدُونَ ... هُمُ العامِلُونَ بآدابهَما

هُمُ القَائِمُونَ هُمُ الراكِعُون ... هُمُ الساجِدُونَ بِمحْرَابِهَا

هُمُ قُطبُ مِلةِ دِينِ الإِلَهِ ... وَدورُ الرحِي بِأَقطَابِهَا

عَلَيك بِلَهوِكَ بالغَانِيَاتِ ... وَخَل المَعَالِي لأرَبَابِهَا

ووصفِ العِذَارِ وَذَاتِ الخِمَارِ ... وَنَعتِ العُقَارِ بِأَلْقَابِهَا

وَشِعرِكَ في مَدحِ تَركِ الصلاَة ... وَسَعىِ السقَاةِ بأَكْوَابِهَا

فَذَلِكَ شَأنكَ لاَ شَأنهُم ... وَجَرىُ الجِيَادِ بِأحسَابِهَا

واستمر المقتدر في الخلافة إلى أن خرج عليه مؤنس الخادم مقدم جيشه، وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة لأمر بلغه عنه، وهو أنه قد عزم على اغتياله، فبلغ المقتدر ما نقل إلى مؤنس، فحلف المقتدر على بطلان ذلك معتذرَاً إلى مؤنس فأسرها مؤنس ولم يقبل حلفه ولا عذره، وركب والجيش معه وجاءوا دار الخلافة، فهرب خواص المقتدر، وأشهد المقتدر على نفسه بالخلع، وأحضر مؤنس أبا منصور محمد بن المعتضد وبايعه، ولقب بالقاهر باللّه، وفوضت الوزارة إلى الوزير أبي علي ابن مقلة الكاتب المشهور، واستقر القاهر، وكتب الوزير إلى سائر البلاد، وعمل يوم الاثنين الديوان، فجاء العسكر يطلبون منه رسم البيعة، فارتفعت الأصوات فمنعهم الحاجب من الدخول إلى الخليفة القاهر، فقتلوا الحاجب، ومالوا إلى دار مؤنس الخادم، وأخرجوا المقتدر من الحبس، وحملوه على أعناقهم إلى دار الخلافة، فجلس على سريرها، وأتوه بأخيه القاهر، وهو مقهور يبكي ويقول: اللّه اللّه يا أخي في روحي. فاستدناه المقتدر، وقبل بين عينيه، وقال: يا أخي، لا ذنب لك، الذنب مؤنس، وأنت مضطر مغلوب على أمرك، والله لا ينالك مني مكروه، فطب نفساً وقر عيناً. وبذل المقتدر الأموال للجند واسترضاهم، وثبتت له الخلافة بعد العزل مرتين، الأول بالمعتز، والثانية بالقاهر، وهذه التولية ثالث مرة، والثالثة ثابتة.

ومن محاسن المقتدر أنه زاد في المسجد الحرام باب إبراهيم في الجانب الغربي منه، وليس المراد بإبراهيم المضاف إليه هذا الباب سيدنا إبراهيم الخليل - على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين أفضل الصلاة والسلام - وإنما هو إبراهيم كان خياطاً يجلِسُ عند الباب وعمر دهراً، فعرف الباب به وأضيف إليه، كذا في أعلام القطبي.

وقدمت على المقتدر رسل ملك الروم بهدايا لطلب الهدنة، فعمل المقتدر موكباً عظيماً لإرهاب العدو، فأقام مائة وستين ألف مقاتل بالسلاح الكامل سماطين، وأقام بعدهم الخدم وهم سبعة آلاف خادم، ثم الحجاب وهم سبعمائة حاجب، وعلق في دار الخلافة ثمانية وثلاثين ألف ستر ديباج، وكانت الفرش الفاخرة التي بسطت في الأرض اثنين وعشرين ألف بساط، وفي الحضرة مائة سبع بسلاسل الذهب والفضة، وأبرز شجرة صيغت من الذهب والفضة وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة، وعلى الأغصان طيور ذهب وفضة تنفخ فيها الريح فيسمع لكل طير تغريد وصفير خاص، وهذا بعد وهن الخلافة وضعفها، فكيف كان زينتها في أيام دولتهم في كمال وصفها، فسبحان من لا يزال ملكه ولا يزول.

وفي هذه السنة - وهي سنة سبع عشرة وثلاثمائة - لم تشعر الحجاج يوم التروية بمكة إلا وقد وافاهم عدو الله أبو طاهر القرمطي في عسكر جرار، فدخلوا بخيلهم وسلاحهم المسجد الحرام، ووضعوا السيف في الطائفين والمصلين والمحرمين إلى أن قتلوا في المسجد الحرام وفي مكة وشعابها - أزيد من ثلاثين ألف إنسان، وركض أبو طاهر بسيفه مسلولا بيده وهو سكران، فصفر لفرسه عند البيت فبال وراث، والحجاج يطوفون والسيوف تأخذهم، وقتل في المطاف خاصة ألف محرم، وطمت بئر زمزم بالقتلى، وما بمكة من الحفر والآبار ملئت بهم، وطلع أبو طاهر إلى باب الكعبة فقلعه وهو يقول: من الرمل:

آَنا بِاللهِ وَباللَّهِ أَنا ... يَخلُقُ الخَلقَ وَأُقنِيهِم أَنَا

وأطلع رجلا لقلع الميزاب فأتاه سهم من جبل أبي قبيس فقتله، وأطلع آخر لقلعه فسقط إلى أسفل فانفضخ دماغه، فقال: دعوه حتى يأتي من يأخذه. وقتل أمير مكة محمد بن محارب وخلقاً من العلماء والصلحاء، واستدعى جعفر بن أبي علاج فأمره بقلع الحجر الأسود فقلعه بعد العصر يوم الاثنين رابع عشر ليلة خلت من ذي الحجة من تلك السنة. وأقام بمكة أحد عشر يوماً، وقيل: ستة أيام، ثم انصرف إلى بلده هجر، وحمل معه الحجر الأسود يريد أن يحول الحج إلى بلده الذي سماه دار الهجرة، وأراد أخذ مقام الخليل، فغيبه بنو شيبة في بعض شعاب مكة.

ولما وصل إلى بلده علق الحجر الأسود في الأسطوانة السابعة مما يلي صحن المسجد، وبقي الحجر الأسود عندهم، وبذل له المطيع العباسي خمسين ألفاً فلم يردوه، إلى أن أيسوا من تحويل الحج إلى بلدهم هجر، فردوه إلى محله من أنفسهم بعد اثنين وعشرين عاماً وأربعة أيام، أتى به سمندر بن الحسن القرمطي إلى مكة يوم النحر سنة 339 تسع وثلاثين وثلاثمائة فوضعه، وقال: أخذناه بأمر، ورددناه بأمر.

وللقرمطي وعترته سير مطولة، وابتلى أبو طاهر بأكلة فصار لحمه يتناثر بالدود، فمات أشنع موتة. وفي التواريخ صور أخرى لهذه القصة متناقضة، وهذا ملخص أصح ما روى فيها، فاعتمدنا عليه باختصار.

ثم وقع بين مؤنس والمقتدر حرب خرج فيه المقتدر فتوغل في المعركة، فضربه بربري من خلفه فسقط إلى الأرض. فقال لضاربه: ويحك أنا الخليفة، فقال: أنت المطلوب، وذبحه بالسيف ورفع رأسه على الرمح، وسلب ما على بدنه وبقي مكشوف العورة حتى سُتر بحشيش، ثم حفر له مكانه فدفن وعفي أثره.

وكانت وفاته لثمان بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة ومدة خلافته أولا وثانياً وثالثاً خمس وعشرون سنة إلا أياماً، وعمره ثمان وثلاثون سنة وشهر ونصف.

خلافة القاهر باللّه

أخيه محمد بن المعتضد بن الموفق باللّه بن المتوكل بن المعتصم بويع لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.

ولما ولي قبض على أخيه المكتفي، وأمر به فأقيم في بيت وسد عليه بالآجر والجص حتى مات غماً. وقبض على أم المقتدر فطالبها بمال لم تقدر عليه؛ فتهددها وضربها بيده وعذبها وعلقها منكوسة حتى كان يجري بولها على وجهها وهي تقول: ألست ابني في كتاب اللّه، ألم أخلصك من ابني المقتدر لما جيء بك إليه تبكي؟ وأنت الآن تعاقبني هذه العقوبة. ثم إنها ماتت بعدُ عقب ذلك.

ثم إن الجند شغبوا عليه، وهجموا على داره من سائر الأبواب، فهرب إلى سطح حمام واستتر فيه، فأتوا إليه وقبضوا عليه، وخلعوه وحبسوه، وسملوا عينيه. قال ابن البطريق: لأن القاهر قد ارتكب أموراً قبيحة لم يسمع بها في الإسلام، وكان أهوج طائشاً، سفاكَاً للدماء، مدمناً للشرب، كانت له حربة يأخذها بيده فلا يضعها حتى يقتل بها إنسانَاً، ولولا الحاجب سلامة لأهلك الناس.

وحكى أن رجلا قال: صليت في جامع المنصور ببغداد، فإذا أنا بإنسان عليه جبة عتابية قد ذهب وجهها، وبقيت بطانتها وقطنها، وهو يقول: أيها الناس، تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين وأنا اليوم من فقراء المسلمين، فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر باللّه.

كانت مدة خلافته ست سنين وسبعة أشهر. ووفاته تأخرت إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وعمره اثنان وخمسون سنة وثمانية أشهر.

خلافة الراضي باللّه

أبي العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم.

بويع بالخلافة يوم خلع عمه القاهر سنة ست وعشرين وثلاثمائة، واستوزر أبا علي بن مقلة. وأطلق كل من كان في حبس القاهر، ثم قبض على ابن مقلة، وسبب ذلك أن محمد بن رائق كان بواسط متغلباً عليها إلا أن الضرورة ألجأته إلى ذلك؛ لاضطراب الأمور عليه، ولضعف من يلي الوزارة عن القيام بها، فأحضر الراضي القضاة، وأعلمهم بأن ابن مقلة راسله في محمد بن رائق فأفتوا بقطع يده اليمنى، وبعد أيام قطع لسانه، ثم مات في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ودعا الراضي باللّه محمد بن رائق فقدم إلى بغداد، فجعله الراضي أمير الأمراء، وفوض إليه تدبير المملكة، ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا اسمها، والحكم للأمراء والملوك المتغلبين، فكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة والدنيا في أيدي المتغلبين، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عليه: فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله اليزيدي وأخوته، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه الديلمي، والموصل وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان الحسن بن حمدان وناصر الدولة وسيف الدولة، ومصر والشام في يد أبي بكر محمد بن طغج الإخشيدي، والمغرب وإفريقية في يد المهدي الفاطمي، والأندلس في يد بني أمية أولاد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك الأموي، وخراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أولاد أبي طاهر القرمطي، ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها، وتعطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها.

فتوفي الراضي بالله خامس ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعلة الاستسقاء والسحج، وكان أكبر أسباب علته كثرة الجماع، وكانت مدة خلافته ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرة أيام، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وهو آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة وجالس الندمان، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين. ومن شعره قوله: من مجزوء الخفيف:

كُل صَفوٍ إِلَى كَدر ... كُلُّ أَمن إِلى حَذر

وَمَصِيرُ الشبَابِ لِل ... موتِ فِيهِ أَوِ الْكَدر

در در المَشِيبِ مِن ... وَاعِظ يُنذِرُ البَشَر

أَيهَا الآمِلُ الذِي ... تَاهَ في لُجةِ القَدر

أَينَ مَن كَانَ قَبلَنَا ... ذَهَبَ العَينُ وَالأَثَر

رَب فَاغَفِر ليَ الخَطي ... ئَةَ يَا خَيرَ مَن غَفر

خلافة المتقي لله

أخوه إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الراضي، فصلى ركعتين وركب السرير. وكان ذا دين وورع وزهد، ولهذا لقبوه بالمتقي، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، والتصرف لتوزون.

ثم إنه زاد استيلاؤه فخلع المتقي، وسلمه لابن عمه المستكفي فأخرجه إلى جزيرة بقرب السند، وأكحله بعد أن أشهد المتقي على نفسه بالخلع سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، فكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرَاً. ولما توفي قال القاهر - وكان يعيش: من السريع:

صِرتُ وَإبرَاهِيم شَيخَي عَمي ... لاَ بُد لِلشيخَينِ مِن مَصْدَرِ

مَا دَامَ توزون لَهُ إِمرَة ... مُطَاعَة فَالمَيلُ في المَجمَرِ

ولم يحل الحول على توزون حتى مات، وكان عُمر المتقي اثنتين وثلاثين سنة وستة أشهر واثني عشر يوماً.

خلافة المستكفي باللّه

أبي القاسم، عبد الله، المستكفي علي بن المعتضد، بويع بالخلافة بعد ابن عمه. وفي أيامه قدم معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي إلى بغداد، فخلع عليه وفوض إليه أمر المملكة وتدبيرها، وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن علي بعماد الدولة، ولقب أخاهما أبا الفتح بركن الدولة، وكان قدومه سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.

ثم وقعت الفتنة بينه وبين معز الدولة، وقبض عليه وسمل عينيه. وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل وقبل الأرض، ثم قبل يده وطرح له كرسيُّ فجلس عليه، ثم تقدم إليه رجلان من الديلم ومدا أيديهما إلى المستكفي فظن أنهما يريدان تقبيل يده فمدها إليهما، فجذباه من أعلى السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى دار معز الدولة فاعتقله، ثم خلعه وسمل عينيه، فصار ثالثاً للأولين قبله، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء.

وكان خلعه في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ومدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر ويومان، وعمره ست وأربعون سنة وشهران، وكانت وفاته في بيت معز الدولة في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.

خلافة المطيع باللّه

الفضل بن المقتدر بن المعتضد. ضعفت في زمنه الخلافة، وكاد ينمحي رسمها، ولا يذكر اسمها، وغلب على الأمر معز الدولة، والمطيع لا نهى له ولا أمر، ولا خلافة تذكر، وعين له معز الدولة في كل يوم مائة دينار، فهذا كان حظه من الخلافة، وانقطعت الخطبة لبني العباس في مصر والشام والحجاز، وغلب على المطيع مرض الفالج واشتدت زمانته، فجعل ابنه ولي عهده مع ضعف حاله.

وتوفي في أيامه معز الدولة سنة ست وخمسين وثلاثمائة فقام ولده عز الدولة بختيار مقام والده، وقلده المطيع موضع أبيه وخلع عليه، فاستقل بالأمور كأبيه.

وفي سنة ثمان وخمسين توفي كافور الإخشيدي صاحب مصر وفيها قدم جوهر، القائد الرومي - غلام المعز لدين الله الفاطمي صاحب إفريقية - إلى مصر وأقام بها الدعوة لسيده المعز الفاطمي، وبايعه الناس على ذلك، وانقطعت الخطبة بمصر عن بني العباس، وشرع في بناء القاهرة والقصرين، ثم دخل المعز بنفسه مصر لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، كما سنذكر ذلك عند فتح مصر في الباب الثالث المعقود للدولة الفاطمية إن شاء اللّه تعالى.

ولما تغلب سبكتكين التركي، وهو غلام معز الدولة، وقويت شوكته، ونفذت كلمته، وانضاف إلى ذلك ما لحق المطيع من الفالج والمرض - خلع نفسه طائعاً من الخلافة، وسلمها لولده الطائع عبد الكريم، وقيل: أبو بكر، ولقبه الطائع لله، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. ثم توفي سنة أربع وستين، وكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً، وعمره تسع وخمسون سنة وسبعة أشهر واثنان وعشرون يوماً.

خلافة الطائع لله

عبد الكريم بن المطيع الفضل بن المقتدر بن المعتضد.

بويع له بالخلافة، والأمر مغلوب عليه، وما له إلا الاسم، لم يل الخلافة من بني العباس أكبر سناً منه، كان عمره حين استخلف سبعاً وأربعين سنة، ولم يتقلد الخلافة منهم من أبوه حي غيره وغير أبي بكر الصديق في الخلفاء رضي اللّه تعالى عنه وعنهم، ولما ولي خلع على سُبكتكين التركي فولاه ما وراء بابه.

وفي أيامه استولى عضد الدولة على بغداد وملكها، فخلع عليه الطائع، وتوجه بتاج جوهر وطوقة وسوَره وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعهد هذا اللواء الثاني لغيره، وأمر بضرب الدبادب على بابة صبحاً ومغرباً وعشاء، وأنه يخطب له على منابر الحضرة، وذلك بعد محاربة عضد الدولة لابن عمه عز الدولة ابن معز الدولة وظفره به.

ولما مات عضد الدولة قام ولده بهاء الدولة بن عضد الدولة بتدبير المملكة بعد والده، فخلع عليه الطائع، وقلده ما كان قلد أباه.

ثم إن بهاء الدولة أمسك الطائع واعتقله ونهبت دار الخلافة، ثم أشهد على الطائع بخلع نفسه من الخلافة وتسليمها إلى أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، وكان الخلع والإشهاد في شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأقام مخلوعاً إلى أن توفي في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة.

خلافة القادر بالله

هو أبو العباس، أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن جعفر بن المعتضد.

كان رجلا صالحاً عالماً كثير التهجد والصدقات، وصنف كتابَاً في فضل الصحابة وذم الروافض، وكان يقرأ في المساجد والجوامع.

بويع بالخلافة ليلة خلع الطائع نفسه، وكان غائباً فقدم في عاشر رمضان، وجلس من الغد جلوسَاً عاماً، وهنئ وأنشد الشعر بين يديه، ومن ذلك قول الشريف الرضي من قصيدة: من الكامل:

شَرَفُ الخِلاَفَةِ يا بني العَباسِ ... أليَومَ جَددَهُ أَبُو العَبَاسِ

ذَا الطودُ أَبقَاهُ الزمَانُ ذَخِيرَة ... مِن ذَلِكَ الجَبَلِ العَظِيمِ الراسِي

يحكي أن في زمانه جيء إليه برجل قامته ذراع واحد، ولحيته شبران، وأذناه في غاية الطول والعرض المفرط، دور الواحدة أربعة أذرع، فطافوا به بغداد، وكان من يأجوج ومأجوج رمت به الريح من فوق السد، فأحضر القادر له أجناسَاً من الترك فلم يفهموا كلامه.

واستمر القادر إلى أن توفي حادي عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر، وعمره ست وثمانون سنة وثمانية أشهر ويومان.

قال الحافظ الذهبي: كان في عصر القادر رأس الأشعرية الإمام الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. قلت: هذا الإمام هو جد الفقير إلى الله تعالى جامع هذا الكتاب. وقد ذكره ابن قتيبة وغيره بالسيادة وشرف النسبة المحمدية الحسينية، والبعض الآخر لم يذكره بسيادة وشرف من المؤرخين؛ لنسبه فيحتمل صحة النسبة ويكون من إطلاق من أطلق اعتماداً على تقييد من قيد، على أن لي اتصالا لا ريب فيه بنسبه عليه الصلاة والسلام من جهة الأم؛ فأرجو بهما أو به الفوز الآخروي برضا اللّه تعالى. على أني بحمد الله متشرف بانتظامي في سلك وارثي علمه عليه الصلاة والسلام فرعاً عن أصل آصل، سلسلة علم ما فصلها - بحمد اللّه - جاهل، علماء محققين، فضلاء مدرسين، وإن عريت عزائمي عن ذاك، ومنيت أسبابي عما هناك؛ ففي ولائي لأهل بيته ومحبتي، وحسن اعتقادي وخدمتي - ما يقوي قوى أمراس أملي، وأطمع به أن يمحي خطأ خطط خطلي ورأس المعتزله، القاضي عبد الجبار، ورأس الرافضة ابن المعلم، ورأس الكرامية محمد بن الهيصم، ورأس القراء أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي صاحب كتاب مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار، ورأس الشعراء أبو عمرو بن دراج، ورأس الكتاب المجودين ابن البواب، ورأس الملوك السلطان محمود بن سُبكتكين، انتهى. وزاد السيوطي فقال: ورأس الزنادقة الحاكم بأمر الله العبيدي، ورأس اللغوي إسماعيل الجوهري، ورأس النحاة عثمان بن جني، ورأس البلغاء البديع الهمذاني، ورأس الخطباء ابن نباتة صاحب الخطب المشهورة، ورأس المفسرين أبو القاسم ابن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء القادر بالله، فإنه من أعلامهم، تفقه وصنف، ومدته في الخلافة من أطول المدد.

خلافة القائم بأمر الله

عبد اللّه بن القادر باللّه أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد.

كان خَيراً ديناً، فاضلا صالحاً، مغلوباً على أمره مدة زمانه. أمه أرمنية اسمها قطر الندى، أدركت خلافته. بويع بالخلافة يوم مات أبوه القادر باللّه، وكانت بيعته بحضرة القضاة والأمراء والكبراء، فكان أول من بايعة الشريف الرضي الموسوي وأنشد: من المتقارب:

فَإما مَضَى جَبَلٌ وَانقَضَى ... فَمِنْكَ لَنَا جَبَل قَدْ رَسَا

وَإما فُجِعنَا بِبَدْرِ التمَامِ ... فَقَد بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضحَى

لَنَا حَزَن مِن خِلاَلِ السرُورِ ... فَكَم ضَحِك مِنْ خِلاَلِ البُكَا

فَيَا صَارِماً أَغمَدَتهُ يَدٌ ... لَنَا بَعْدَكَ الصارِمُ المُنْتَضَى

وَلَمَّا حَضَرنَاكَ عَقدَ البَيَانِ ... عَرَفْنَا بِهَدْيِكَ طُرْقَ الهُدَى

فَقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ المِشَيبِ ... كَمَالاَ وَسِنكَ سِنُّ الفَتَى

واستوزر أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا الإمام المشهور في أيامه.

وفي سنة ثلاثين وأربعمائة كان انقراض الدولة الديلمية دولة بني بويه، وكانت مدتها مائة وسبعَاً وعشرين سنة، وابتدأت دولة السلاطين السلجوقية.

قال الذهبي: وآل سلجوق هم ملوك الروم، وقد امتدت أيامهم وبقي منهم بقية إلى زمن الملك الظاهر.

وفي ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة في خلافة القائم المذكور كان حريق جامع دمشق الذي كان عمره الوليد بن عبد الملك وكلفه. وقد تقدم ذكره عند ذكر خلافة الوليد، وكان حريقه في هذه السنة. وسبب الحريق أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فيما بينهم، فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء بجانب المسجد من جهة القبلة، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع، فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة التي على جدرانه، وتغيرت معالمه ومحاسنه، وتبدلت بهجته بضدها، وقد كانت سقوفة مذهبة مبطنة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه بالفصوص المذهبة والملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا: الكعبة ومكة فوق المحراب، والبلاد كلها شرقيها وغربيها كل في مكانه اللائق به، وفيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، كل مصور في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصل الحيطان إلى مقدار الثلث منها، وباقي الجدران بالفصوص المذهبة والملونة، وأرضه كلها بالفصوص الرخام الملون، ولم يكن في الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها من دور الخلفاء وغيرهم. ثم لما وقع هذا تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طيناً في الشتاء، غباراً في الصيف، ولم يزل كذلك حتى تبلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب بعد الستمائة، وكان جميع ما سقط من الرخام وغيره مستودعاً في المشاهد الأربعة، شرقيه وغربيه حتى فرغها من ذلك القاضي كمال الدين الشهرزوري في زمن الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي حين ولاه نظر الأوقاف كلها، ولم تزل الملوك تجدد في محاسنة إلى زماننا هذا، فتماثل حاله في زمن الأمير شكر بن عبد اللّه الناصري نائب الشام، وذلك في سنة ثلاثين وسبعمائة.

وأما الخضراء وهي دار الملك والإمارة، فبادت وصارت كوماً تراباً، بعدما كانت في غاية الإحكام والإتقان، وحسن البناء وطيب الفناء، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرذالة مكانها إلا سفلَةُ الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الملك والإمارة منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان الأموي. كذا في تاريخ ابن السبكي.

وكان القائم بأمر الله أبيض، مليح الوجه، مشربَاً بحمرة، ورعاً زاهداً عابداً، مريداً لقضاء حوائج المسلمين، موقرَاً لأهل العلم، معتقداً في الفقراء والصالحين، ولم يقم أحد في الخلافة إقامته، كانت مدته أربعَاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، وقيل: خمسَاً وأربعين سنة، وكانت وفاته سنة سبع وستين وأربعمائة لعشرة أيام مضت من شعبان.

قال ابن السبكي: افتصد القائم بأمر اللّه يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من السنة المذكورة من ماشرا كان يعتاده. قلت: ماشرا اسم لعلة، نعوذ باللّه من جميع العلل. ثم نام فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت كل قوته، وحصل اليأس منه، فدعا حفيده وولي عهده من بعده عمدة الدين أبا القاسم عبد اللّه بن محمد ابنه، وأحضر إليه الفقهاء والنقباء، وأشهد عليه ثانياً بولاية العهد له من بعده فشهدوا، ثم توفي وكان عمره أربعَاً وسبعين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومدته أربعاً وأربعين سنة، ومدة أبيه قبله إحدى وأربعين سنة؛ فمجموعهما خمس وثمانون سنة وأشهر، وذلك مقارب لمدة دولة بني أمية كلها.

خلافة المقتدي بأمر الله

هو القاسم، عمدة الدين عبد اللّه بن ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم عبد اللّه ابن القادر أحمد ابن الأْمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر اللّه، وذلك أنه لما افتصد استدعى ابن ابنه هذا عبد الله ولقبه المقتدي بأمر اللّه كما تقدم ذكر ذلك، فلما مات جده القائم بأمر اللّه المذكور بويع بالخلافة يوم وفاته بحضرة الإمام الولي الشهير أبي إسحاق الشيرازي الشافعي صاحب كتاب التنبيه والمهذب، وغيرهما، أحد أركان أئمة الشافعية. ثم إن المقتدي جهز الإمام المذكور إلى نيسابور إلى جلال الدولة ملك شاه السلجوقي سفيراً له في خطبة ابنته، فنجز الشغل وناظر إمام الحرمين هناك، ثم ودعه إمام الحرمين حال خروجه، وأخذ بركاب بغلته حتى ركب، وكان المقتدي قد بايع بالعهد لولده المستظهر بعده، ثم لما ولدت ابنة ملك شاه من الخليفة المقتدي ولداً أقبل ملك شاه يريد بغداد، وأرسل إلى المقتدي يلزمه أن يعزل ولده المستظهر عن ولاية عهده ويجعل ولي عهده ابن بنته جعفر مكانه، وأن يخرج من بغداد ويتركها ويذهب إلى أي بلد شاء، فأرسل المقتدي يتلطف به في ذلك، فأبى إلا شدة وغلظة، يريد بذلك إظهار التحكم والحيف على الخليفة، وطلب الخليفة الإمهال شهراً فأبى وقال: ولا ساعة، فأرسل إلى وزيره فاستمهله له عشرة أيام فأمهله، فصار الخليفة يصوم النهار ويقوم الليل ويضع خده على التراب، ويناجي حضرة رب الأرباب، يدعو على ملك شاه، فاستجاب الله دعاءه، فهلك ملك شاه قبل مضي العشرة الأيام وكفاه الله تعالى شره، وما ربك بظلام للعبيد. وعدت هذه كرامة للخليفة المقتدي، وهذه عقبى كل ظالم ومعتدي.

ذكر أن المقتدي قدم إليه طعام فتناول منه ثم غسل يديه، وهو على أكمل حال في جسمه ونفسه، وبين يديه قهرمانته شمس النهار فقال: ما هذه الأشخاص الذين دخلوا على بغير إذن؟ فالتفتت فلم تر أحداً، فنظرت إليه فوجدته قد تغير وجهه، واسترخت يداه، وانحلت قواه، وسقط إلى الأرض، فإذا هو قد مات، فأمسكت عن البكاء واستدعت الخادم، فاستدعى الوزير أبا منصور، فبكيا وأحضرا أبا العباس أحمد بن المقتدي، وكان أبوه المقتدي قد عهد إليه بالخلافة بعده، فعزياه وهنأه، وأخفى موته ثلاثة أيام حتى توطأت البيعة لابنه أحمد، ولقب بالمستظهر باللّه. كانت وفاة المقتدي سنة سبع وثمانين وأربعمائة. ومدة خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر إلا يومين، وعمره ثمان وثلاثون سنة وثمانية شهور.

خلافة المستظهر باللّه

أبي العباس، أحمد بن المقتدي بن محمد القائم عبد الله بن القادر أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد. بويع بعد موت والده المقتدي، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير كما تقدم ذكر ذلك، وحضر من العلماء الإمام الغزالي والشاشي وابن عقيل وبايعوه يومئذ، وكان كريم الأخلاق، حافظاً للقرآن العظيم، فصيحاً بليغاً، شاعرَاً منطيقاً. من شعره: من البسيط:

أَذَابَ حَر الْجَوَى في الْقَلْبِ مَا جَمُدَايَوْماً مَدَدْنَ عَلَى رَسْمِ الوَدَاعِ يَدَا

قَدْ أَخْلَفَ الوَعْدَ بَدر قَدْ شُغِفْتُ بِهِمِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفى دَهْراً بِمَا وَعَدا

إن كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْد الحُب في خَلَدِي ... مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلاَ عَايَنْتُهُ أَبَدَا

حكى أنه اجتمع في زمانه في برج الحوت ستة أنجم من السبعة السيارة ما عدا زحل، فحكم المنجمون أنه سيظهر طوفان كطوفان نوح عليه الصلاة والسلام، فتألم من ذلك المستظهر باللّه، وأحضر من المنجمين ابن الفيلسوف وسأله عن ذلك فقال: في زمان نوح عليه الصلاة والسلام اجتمع في برج الحوت السبعة الأنجم بكمالها، والآَن اجتمع ستة، ولا يعلم الغيب إلا اللّه، لكن الذي تدل عليه الدلائل وليس بقطعي أنه سيجتمع الماء من العالم من طرقٍ شتى في مكان واحد، فيغرقون في ذلك المحل. فخافوا على بغداد لاجتماع العالم فيها وهي في جنب شط النهر، فوصل الخبر أن الحجاج حين نزلوا في وادي المناقب هجم عليهم سيل جحاف فغرقوا أجمعين في ذلك السيل، فتعجب من قرب التحقيق من قوله والأمر بيد اللّه تعالى سبحانه " عالمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلىَ غَيبِهِ أَحداً إِلا مَنِ اَرتضى مِن رَّسُولٍ " " الجن: 26 - 27 " ، الآية.

توفي المستظهر ليلة الخميس لأربع وعشرين ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. ومدة خلافته خمس وعشرون سنة وعشرة أيام، وعمره إحدى وأربعون سنة وأحد عشر شهرَاً وأربعة أيام.

خلافة المسترشد بالله

الفضل بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبد اللّه بن محمد الذخيرة بن القائم عبد الله بن القادر أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد.

بويع يوم وفاة والده المستظهر، وكان شجاعاً ديناً، مشتغلاَ بالعبادة، لم يل الخلافة بعد المعتضد أشهم منه، أمه أم ولد اسمها لبابة، كان شديد الهيبة، ذا رأي ويقظة وهمة عالية، ضبط الأمور، وأحيا مجد بني العباس، وجاهد غير مرة.

يحكى أن في زمانه ظهر سنة أربع عشرة وخمسمائة قبر الخليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وشوهدت أجسامهم المباركة كأنما دفنوا تلك الساعة، ووجد عندهم في الموضع قناديل الذهب والفضة وغير ذلك، ذكر ذلك في كتاب قلادة النحر الفقيه بامخرمة.

كانت وفاته يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومدة خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.

ومن شعره قوله: من الطويل:

أَنَا الأَشْقَرُ المَوْعُودُ بي في المَلاَحِموَمَنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مُزَاحِمِ؟

فكان هذا التخيل من خيالاته الفاسدة؛ فإنه ما يملك من الدنيا ولا فناء داره.

خرج عليه الملك مسعود بن محمد بن ملك شاه السلجوقي فلم يقاتل معه أحد، فقاتل وحده إلى أن حمل أسيراً فحبس. وذكر أهل التواريخ أنه لما حبس رأي في منامه كأن على يده حمامة مطوقة، وأتاه آتٍ فقال له: خلاصك في هذا وأشار إلى الحمامة، فلما أصبح حكى ذلك لابن سكينة الإمام فقال له: ما أولته يا أمير المؤمنين. فقال: أولته بقول أبي تمام: من الكامل:

هُنَّ الحَمَامُ فَإِنْ كَسَرتَ عِيَافَة ... مِن حَائِهِن فَإِنهُن حِمَامُ

ولا أرى أحلامي إلا في حِمامي، فقتل بعد أيام قلائل. وقيل في كيفية قتله غير ذلك، فقتل في التاريخ المذكور وعمره ثلاث وأربعون سنة وأحد عشر شهراً.

خلافة الراشد بالله

منصور بن المسترشد بن المستظهر بن المقتدي.

بُويعَ له يوم وفاة أبيه بعهد منه فمكث ما شاء اللّه، ثم وقع بينه وبين السلطان مسعود بن محمد قاتل والده فاستخدم الراشد أجناداً كثيرةَ وتهيأ للقائه، فكاتب السلطان مسعود أتابك زنكي وأرتغش، كبيري جند الراشد، فأشارا عليه بالتوقف عن المسير إلى الملك مسعود، وأقبل الملك مسعود بجيوشه، فدخل بغداد في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، فنهب دور الجند، ومنع من نهب البلد، واستمال الرعية وأحضر القضاة والشهود، فقدحوا في الراشد بأنه صدرت منه سيرة قبيحة من سفك الدماء وارتكاب المنكرات، وفعل ما لا يجوز فعله، وشهدوا عليه بذلك؛ فحكم قاضي القضاة بخلعه فخلعوه في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، وكان الراشد قد هرب هو وأتابك زنكي إلى الموصل، فطلبه السلطان مسعود، فهرب إلى فارس ثم دخل أصبهان وحاصرها فتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه، وكانت مدته إلى أن خلع سنة إلا أياماً، وعمره إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثون سنة.

كان شاباً أبيض تام الشكل، شديد البطش، شجاع النفس، كريماً جوادَاً فصيحاً. قال العماد الكاتب: كان للراشد الحسن اليوسفي، والكرم الحاتمي، رحمه الله تعالى.

خلافة أبي عبد اللّه المقتفي

محمد بن المستظهر بن المقتدي، وهو عم الراشد قبله.

بويع له يوم خلع ابن أخيه الراشد ولقب بالمقتفي، وسبب تلقيبه بهذا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الخلافة بأشهر في المنام وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر، فاقتف بي. فقام بتدبير المملكة، وكان بيده أَزِمَةُ الأمورة لا يجري في خلافته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه، وكتب بيده في أيام خلافته ثلاث ربعات.

وكان محمود السيرة مشكور الدولة، يرجع إلى فضل ودين، وعقل ورأي وسياسة، جدد معالم الإمامة، ومهد رسوم الخلافة، وامتدت أيامه، ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة مثله في شهامته وصرامته، مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته، ولم تزل جيوشه منصورةَ حيث يممت.

قال العلامة ابن الجوزي: من أيام المقتفي هذا عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق لهم منازع، وقبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك، وليس للخليفة معهم إلا الاسم فقط.

ومن سلاطين دولته سنجر صاحب خراسان، ونور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام المعروف بنور الدين الشهيد.

وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في خلافته قال ابن الأثير: ظهر بدمشق الشام سحاب أسود، فاشتد الظلام حتى لا يرى أحد أحداً، ثم انقشع وظهر بعده سحاب أحمر، فتلونت السماء بلون النار، ثم بعد ذلك ظهرت ربح عظيمة عاصف تقلع الأشجار العظيمة من أصولها.

وفي سنة خمس وأربعين وخمسمائة من خلافته أمطرت السماء دماً أحمر لا ينكر منه شيء، وكان ذلك الإمطار في بلاد نيسابور.

وفي قلادة النحر في حوادث سنة تسع وأربعين وخمسمائة في خلافة المذكور: كانت قصة أهل قرية المعلف، وهي قرية بين الكُدر والمهجم من أعمال تهامة اليمن، وفي كفاية المستبصر: هما قريتان اسم إحداهما معلف والأخرى سحلة، أرسل اللّه عليهما سحابة سوداء فيها رجف وبرق وشعل نار تلهب وريح، فلما رأوا ذلك زالت عقولهم فألتجأ منهم قوم إلى المساجد فغشيهم العذاب، فاحتملت الريح أصل القريتين من تحت الثرى بمساكنهم بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال والدواب فألقتهم بمكان بعيد نحو خمسة أميال من حيث احتملتهم، فوجدوا حيث ألقتهم صرعى ولبعضهم أنين، وهم صم بكم عمي، فماتوا عن آخرهم يومهم، نسأل اللّه السلامة والعافية لنا ولجميع المسلمين.

وكان المقتفي محباً للحديث وسماعه، معتنياً به وبالعلم، مكرماً لأهله. ولما دعا الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماماً يصلي به الصلوات الخمس - دخل فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكان الطبيب هبة اللّه بن صاعد ابن التلميذ النصراني قائماً فقال: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبرَاً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر - ما لزمته كفارة الحنث؛ لأن اللّه تعالى ختم على قلوبهم ولن يفك ختمه إلا الإيمان، فقال المقتفي: صدقت وأحسنت. فكأنما ألقم ابن التلميذ حجراً مع فضله وغزارة علمه وأدبه.

وتوفي الخليفة المقتفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول، وقيل: الآخر، وقيل: رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة. مدة خلافته خمس وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونصف، وعمره سبع وستون سنة، وقيل: وشهر واحد.

خلافة المستنجد باللّه

أبو المظفر، يوسف ابن المقتفي لأمر اللّه محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي. كان أديباً فاضلا، أهلا للخلافة، بويع له يوم وفاة والده. أمه أم ولد حبشية اسمها طاوس.

حكى أنه قبل أن يستخلف رأى في منامه أن ملكاً نزل من السماء فكتب في كفه خمس خاءات، فلما أصبح سأل الإمام محمداً الغزالي، أو أخاه أحمد عن تعبير ذلك، فقال: واللّه أعلم، أنك ستلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فكان كذلك، وليها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فالخاء الأولى للخلافة.

وكان موصوفاً بالعدل والديانة، أبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين، روى أنه سجن رجلا كان يسعى بالفساد في الناس، فجاء إليه رجل، وبذل فيه عشرة آلاف دينار فقال المستنجد له: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار على آخر مثله تأتيني به فأحبسه وأكفي الناس شره. وله شعر متوسط منه قوله في بخيلٍ: من السريع:

وَبَاخِلٍ أَشعَلَ في بَيتِه ... تَكَرُماً مِنْهُ لَنَا شَمْعَهْ

فَمَا جَرَتْ مِن عَيْنِهَا دَمْعَةٌ ... حَتَّى جَرَتْ مِنْ عَيْنِهِ دَمْعَهْ

وقوله: من الخفيف:

عَيرتنِي بِالشيْبِ وَهوَ وَقَارُ ... لَيتَهَا عَيرَتْ بِمَا هُوَ عَارُ

إِنْ تَكُن شَابَتِ الذَّوَائِبُ مِني ... فَالليَالِي تَزِينُهَا الأَقْمَارُ

وفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وهي السنة الثالثة من خلافته جرت الكائنة الغريبة، وهي ما ذكره العلامة السيد نور الدين علي السمهودي المدني في كتابه خلاصة الوفا وغيره، فقال: إن الملك العادل نور الدين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه ليلة ثلاث مرات وهو يشير إلى رجلين أشقرين، يقول: أنجدني من هذين. فأرسل إلى وزيره، وتجهزا في بيته ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفراً، وصحب مالا كثيرَاً فقدم المدينة في ستة عشر يومَاً، فزار ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم، وصار يتأمل في كل ذلك تلك الصفة إلى أن انقضت الناس فقال: هل بقي أحد؟ قالوا: لم يبق سوى رجلين صالحَين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة. فطلبهما فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما عليه الصلاة والسلام، فسأل عن منزلهما فأخبر أنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكهما ومضى إلى منزلهما فلم ير غير ختمتين وكتباً في الرقائق، ومالا كثيرَاً فأثنى عليهما أهل المدينة خيراً فبقى متردداً متحيراً، فرفع حصيراً في البيت فرأى سرداباً محفوراً ينتهي إلى صوب الحجرة، فارتاعت الناس لذلك، فقال لهما السلطان: أصدقاني، وضربهما ضرباً شديداً، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة، وأمالوهما بالمال العظيم ليتحيلا في الوصول إلى الجناب الشريف، ونقله وما يترتب عليه، فنزلا قرب رباط وصارا يحفران ليلاَ، ولكل منهما محفظة جلد، والذي يجتمع من التراب يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع إذا خرجا بعلة الزيارة، فلما قرب من الحجرة عدت السماء وأبرقت وحصل رجف عظيم، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة، ما ظهر حالهما بكى السلطان بكاء شديداً، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة المسمى الآن شباك الجمال، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيمَاً إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص، وملأ الخندق، فصار حول الحجرة سور من رصاص إلى الماء، انتهى.

وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة ذكر صاحب الخميس عن شمس الدين صواب الموصلي بواب المسجد النبوي، والقائم بأمره بإسناد صحيح عنه أن جماعة الروافض وصلوا من حلب فأهدوا إلى أمير المدينة الشريفة من الأموال والجواهر لم يخطر ببال، فشغله ذلك وأنساه دينه، والتمسوا منه أن يخرجوا جسد أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما غشيه من حب الدنيا والتشاغل بالأموال عن الدين وافقهم على ذلك. قال صواب الموصلي المذكور: فطلبني أمير المدينة وقال: إن في هذه الليلة يصل إليك كذا وكذا من الرجال، فحين يصلون إليك سلم إليهم مفتاح الحجرة الشريفة النبوية ولا تتشاغل عنهم، وإلا أخذت ما فيه عيناك.

قال صواب: فأخذتني رعدة ودهشة، ولا أدري إلامَ يئول الأمر، فانتظرت، فلما كان نصف الليل أقبل أربعون رجلا فدخلوا من باب السلام، فسلمت إليهم مفتاح الحجرة المطهرة، فإذا معهم المقاحف والمكاتل وآلات الحفرة فعرفت مرادهم؛ وغاب حسى من الهيبة النبوية، ثم سجدت للّه وجعلت أبكي وأتضرع، فما نظرت إلا وقد انشقت الأرض واشتملتهم بجميع ما معهم من آلات الحفر والتأمت لساعتها، وذلك عند المحراب العثماني، فسجدت شكراً للّه، فلما استبطأ الأمير الخبر أرسل لي رسولا فأخبرته بما رأيت، فطلبني عاجلا فوصلت إليه فإذا هو مثل الواله، فسألني مشافهة فحققت له ما رأيت، فقال: إن خرج منك هذا الأمر قتلتك، فلم أزل ساكتاً عن بث هذا الأمر مدة حياة ذلك الأمير خوفاً منه.

وتوفي المستنجد يوم السبت ثالث ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة، ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة إلا يوماً أو يومين، وعمره سبع وأربعون سنة، وقيل: تسع وأربعون وشهر. وكان أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثون من الخلفاء. قال فيه بعض الأدباء: من البسيط:

أَصبَحتَ لُب بني العَباسِ كُلهِمُ ... إِن عُددَت بِحِسَابِ الجُملِ الخُلَفَا

خلافة المستضيء بنور اللّه

أبي محمد، الحسن بن المستنجد، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المستنجد، وخطب له بالديار المصرية واليمن، وكانت الخطبة منقطعة منهما في زمن المطيع العباسي عند استيلاء المعز الفاطمي على مصر، وكان المستضيء جواداً كريمَاً، مؤثرَاً للخير، كثير الصدقات سخياً، محيياً للسنة، أمنت البلاد في زمانه، وأبطل مظالم كثيرة، واحتجب عن أكثر الناس؛ فلم يكن يركب إلا مع مماليكه، ولم يكن يدخل عليه غير الأمير قيماز.

قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنهما - غير هذا، ووافقه في الكنية أيضاً. ومما نظمه العماد الكاتب حين جاءت البشارة بخلافة المستضيء وهو بأرض الموصل قوله: من الخفيف:

قد أضاءَ الزمانُ بالمُسْتَضي ... وارثِ البُرْدِ وابْنِ عَم النبِي

جاءَ بِالحق والشريعةِ والعَد ... لِ فيا مرحباً بهذا المَجِي

فهنيئَاً لأهْلِ بغدادَ فازوا ... بعد بؤسَى بكل عيشٍ هني

وكان مرضه بالحمى، ابتدأ بها يوم عيد الفطر، فلما كان يوم السبت سلخ شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة توفي إلى رحمة اللّه تعالى، وكانت مدة خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية وعشرين يوماً، وقيل: تسع سنين وثلاثة أشهر، وعمره سبع وثلاثون سنة.

خلافة الناصر لدين اللّه

أحمد بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. كانت فيه شهامة وصرامة وإقدام، وعقل ودهاء، وكان مستقلاُّ بأمور الملك بالعراق متمكناً، طالت أيامه، وكانت له دسائس وعيون عند كل أحد من الأمراء والعظماء، والسلاطين والحكام من الأجناس المختلفة؛ حتى كان يظن أن له اطلاعاً على المغيبات.

بويع بالخلافة بعد موت والده، وعمره ثلاث وعشرون سنة، فبسط العدل، وأمر بإراقة الخمور، وكسر الملاهي، وإزالة المكوس والضرائب، فعمر البلاد، وبسط الأرزاق، وقصدت الناس بغداد وتبركوا به.

وفي أيامه ظهور صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستخلاصه بيت المقدس من الفرنج، واستيلاؤه على مصر، وإزالة دولة الفاطميين عنها، فخطب بها للناصر العباسي، كما سنذكر ذلك عند ذكرهم.

وفي أيامه مات السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان بن طغرلبك بن محمد بن ملك شاه، وهو آخر ملوك الدولة السجلوقية، وكان عدتهم نيفاً وعشرين ملكاً، أولهم طغرلبك الذي أعاد الخليفة القائم إلى بغداد، ومدة دولتهم مائة وستون سنة.

وطالت أيامه؛ فأحيا رسوم الخلافة، وامتلأت القلوب بهيبته، وكان ذا فكر صائب، وكانت أيامه من غرر الزمان، وهو الذي وقع للشريف قتادة بن إدريس صاحب مكة معه تلك الواقعة حين استدعاه، وسأذكرها إن شاء اللّه في الخاتمة عند ذكر الشريف قتادة.

وكان له إحسان على أهل الحرمين، وكانت الكعبة الشريفة تُكسَى الديباج الأبيض زمن المأمون إلى آخر أيام الناصر هذا، فكساها الديباج الأسود، واستمر إلى زماننا هذا.

قال في قلادة النحر نقلا عن العماد الكاتب: في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، في خلافة الناصر العباسي، أجمع المنجمون على اجتماع الكواكب السبعة في برج الميزان، ويدل ذلك على خراب العالم، وأن تهب ويح مثل ريح قوم عاد، وعينوا الاجتماع في ليلة نصف شعبان من السنة المذكورة. وفرق الملوك فحفروا حفائر ونقلوا إليها الماء والزاد، قال: فلما كانت الليلة التي عينوها جلسنا عند السلطان، والشموع تتقد، فلم يتحرك اللهب منها، ولم تر ليلة مثلها في ركود ريحها وسكونها، ولكن ظهر بعد ذلك أن سلطان التتار خرج في تلك الليلة من تلك السنة، فكان منه ما كان من الفساد، وعاث في أكثر البلاد، وأفنى خلقاً من العباد، حتى قتل الخليفة العباسي المستعصم باللّه ببغداد، كما سأذكر قصته على أتم الأحوال.

وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، أمطرت السماء يوماً وليلة رماداً وأظلمت الدنيا وعجز الناس عن اطراق الطرق إلى بيوتهم من الأسواق، وذلك بمدينة زبيد باليمن، ووقعت بردة في أسفل وادي مور من بلاد تهامة، طولها مائة وستون ذراعاً، وعرضها عشرة أذرع، وسمكها نحواً من قامتين، فلما ذابت سقى بمائها أربع قطع من الأرض في ذلك الموضع.

وكان الناصر في أكثر الليل يشق الحروب والأسواق، وكان الناس يتهيئون للقائه، وهو أطول بني العباس خلافة، كانت مدته ستاً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين، وكانت وفاته سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، أصابه في آخر عمره الفالج؛ فبقي معه سنتين وذهبت عينه، ثم مات في التاريخ المذكور وعمره سبعون سنة إلا شهراً. كان تركي الوجه، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر اللحية، رقيق المحاسن. رحمه الله تعالى.

خلافة الظاهر بأمر الله

أبي نصر، محمد بن الناصر لدين الله، أحمد بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي.

كان من أهل الورع والدين، تابعاً للشرع، اتفق أهل النقل أنه ما جاء أحد بعد عمر بن عبد العزيز مثله، فإنه أحيا سنة العمرين، وسار بسيرتهما، فأعاد الأموال المغصوبة والأملاك المأخوذة في أيام أبيه ومن قبله إلى أهلها، وأظهر العدل، وأزال المكس، وكان العمال تكيل للديوان بكيل زائد على ما يكيلون به للناس فأبطل ذلك، وكتب إلى وزيره " وَيل للمُطَفِفِينَ " إلى قوله " لِرَبِ اَلعَاَلمِينَ " " المطففين: 1 - 6 " فقال له الوزير: تفاوت الكيل ينوف على ثلاثين ألف دينار، فقال له: أبطله ولو أنه ثلاثمائة ألف دينار. وفرق ليلة عيد النحر على الفقهاء مائة ألف دينار، فلامه وزيره على ذلك، فقال: اتركني أفعل الخير؛ فإني لا أدري كم أعيش، ولم يمتد زمانه.

وكان في أضيق عيش، فقالوا له إشفاقاً لحاله: لم لا تتوسع في المأكل والمشرب والرزق؟ فقال: من فتح الحانوت بعد العصر، فحاله معلوم في البيع والشراء.

توفي في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ولما توفي اتفق خسوف القمر في تلك السنة مرتين. فجاء ابن الأثير رسولا من صاحب الموصل برسالة في التعزية أولها: ما لليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما، وما للشمس والقمر لا ينكسفان وقد فقد ثالثهما!: من الطويل:

فيا وَحشَةَ الدنيَا وكانَت أنيسة ... ووحدةَ مَن فيها لِمَصْرَع واحدِ

وهو سيدنا ومولانا، الإمام الظاهر بالله، أمير المؤمنين، الذي جعلت ولايته رحمة للعالمين. إلى آخر رسالة ذكرها السيوطي في تاريخه. وكانت مدته عشرة أشهر وأياماً، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وقيل: وخمسون وستة أشهر.

خلافة المستنصر باللّه

أبي جعفر، منصور بن الظاهر بأمر اللّه محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد بن المستضيء الحسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بن المقتدي.

بويع له بالخلافة بعد موت أبيه الظاهر في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فنشر العدل وبذل الإنصاف، وقرب أهل العلم والدين، وبني المساجد والربط والمدارس، وأقام منار الدين، وقمع المتمردين، ونشر السنن، وكف كف الفتن، وحمل الناس على أقوم سنن، وحفظ الثغور وافتتح الحصون، واجتمعت القلوب على محبته، والألسن على مدحته، ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معاباً. وكان جده الناصر يقربه، ويسميه القاضي، لهديه وعقله، وإنكار ما يجده من المنكر.

قال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: كان المستنصر راغباً في فعل الخير، مجتهداً في أعمال البر، وله في ذلك آثار جميلة، وهو الذي أنشأ المستنصرية؛ التي لم يبن مثلها في مدارس الإسلام، ولم يوجد في المدارس أكثر كسباً منها، ولا أكثر أوقافاً عليها، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم.

وقال ابن واصل: بناها على دجلة من الجانب الشرقي، وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها مارستاناً، ورتب فيها مطبخاً للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والحبر، ورتب فيها الخبز واللحم والحلوى والفواكه، وكسوة الشتاء وكسوة الصيف، وجعل فيها ثلاثين يتيماً، ووقف على ذلك ضياعاً وقرى كثيرة سردها الذهبي وغيره، ولكل فقيه في الشهر دينار، وشرع في عمارتها سنة خمس وعشرين وستمائة، وأتمها في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونقل إليها من الكتب النفيسة، وعدة فقهائها مائتان ثمانية وأربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة، وشيخ حديثٍ، وشيخ نحوٍ وشيخ سب، وشيخ فرائض، وكان غلال ما وقف عليها في كل عام نيفاً وسبعين ألف مثقالِ ذهباً.

وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية؛ ليعامل بها بدلاً عن قراضة الذهب، فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضاً عن قراضة الذهب؛ رفقَاً بكم، وإنقاذَاً لكم من التعامل بالحرام، ومن الصرف الربوي، فأعلنوا الدعاء له، ثم أديرت وسعرت كل عشرة دراهم بدينار، فقال أبو المعالي، القاسم بن أبي الحويل في ذلك أبياتاً: من الخفيف:

لا عَدِمْنَا جميلَ رأيِكَ فينا ... أَنْتَ باعَدتَّنَا عَنِ التَّطفيفِ

ورسَمْتَ اللجَينَ حتى أَلفنَا ... ه وما كان قَبْلُ بالمألوفِ

ليس للجَمْعِ كان مَنْعُكَ للصر ... فِ ولكنْ للعَدْلِ والتعريفِ

قلت: تأمل بيته الأخير؛ فما ألطفه! ومن مناقبه أن الوجيه القيرواني امتدحه بقصيدة يقول فيها: من الكامل:

لو كُنْتَ في يومِ السقيفةِ حاضراً ... كُنْتَ المقدمَ والإمامَ الأَوْرَعَا

فقال له قائل بحضرته: أخطأت؛ قد كان حاضراً العباس جد أمير المؤمنين، ولم يكن المقدم إلا أبو بكر، فأقر ذلك المستنصر وخلع على القائل، ثم أمر بنفي الوجيه فخرج إلى مصر، كذا قاله الذهبي. قلت: العباس - رضي تعالى عنه - لم يحضر السقيفة؛ فالرد مردود، على أن قول الشاعر: حاضر لا يلزم منه حضوره عند السقيفة حتى يرد ما قاله هذا القائل؛ بل مراده: حضوره، أي: وجوده في ذلك الزمن، يعني زمن اجتماعهم في السقيفة، لا حضور نفس الاجتماع فيها.

وكانت مدارس بغداد يضرب بها المثل في ارتفاع العماد، وإتقان المهاد، وطيب الماء، ولطف الهواء، ورفاهية الطلاب، وسعة الطعام والشراب.

وأول مدرسة بنيت في الدنيا مدرسة نظام الملك؛ فلما سمع علماء ما وراء النهر هذا الخبر اتخذوا ذلك العام مأتماً، وحزنوا على سقوط حرمة العلم، فقالوا حين سئلوا عن ذلك: إن للعلم ملكة شريفة لا تطلبها إلا النفوس الشريفة، بجانب الشرف الذاتي، فلما جعلت عليه الأجور تطلبته النفوس الرذلة؛ لتجعله مكسباً وسلمَا لحطام الدنيا، لا لتحصيل شرف العلم؛ بل لتحصيل المناصب الدنيوية الأسفلية الفانية، فيرذل العلم لرذالتهم، ولا يشرفون بشرفه. ألا ترى إلى علم الطب؛ فإنه مع كونه شريفاً لما تعاطاه اليهود والنصارى رذل برذالتهم، ولم يشرفوا بشرفه، وهذا حال طلبة العلم في هذا الزمان الفاسد، كذا في الأعلام. قلت: قد كان هذا قبل، وأما اليوم فلا طلب ولا مطلوب، ولا رغبة ولا مرغوب، نسأل اللّه اللطف وحسن الخاتمة.

ومن جملة خدام المستنصر باللّه الأمير شرف الدين، وإقبال الشرابي المستنصري.

وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وقع باليمن مطر عظيم عمه جميعَاً، وكان فيه برد عظيم قتل من الدواب والوحوش شيئاً كثيراً، ونزلت فيه بردة كالجبل الصغير لها شناخيب، يزيد كل واحد منها على ثلاثة أذرع، وقعت في مفازة من بلاد سنحان وزراحة، وذلك بمرحلتين بمسير الجمال عن صنعاء فغاب في الأرض أكثرها، وكانت يدور حولها عشرون رجلا فلا يرى بعضهم بعضَاً. وبشاذروان الكعبة الشريفة في وسط مصلى جبريل عليه الصلاة والسلام، وهي الحفيرة المسماة الآَن بالمعجنة، حجر من الرخام الأزرق ومنقور فيه بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمارة هذا مطاف الشريف - وذكر اسمه - وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وصلى الله على سيدنا محمد وآَله انتهى. وهذا الحجر باقي إلى يومنا.

ثم توفي المستنصر لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة، وكانت خلافته ست عشرة سنة وعشرة أشهر، وعمره اثنتان وخمسون سنة وأربعة أشهر، رحمه الله تعالى.

خلافة المستعصم بالله

أبي أحمد، عبد اللّه بن المستنصر بالله، منصور بن الظاهر بأمر اللّه، محمد بن الناصر لدين اللّه، أحمد. هو آخر الخلفاء العباسيين بالعراق. أمه أم ولد حبشية اسمها هاجر.

بويع له بالخلافة عند موت أبيه المستنصر، كان ليناً هينَاً، قليل الرأي، بعيد الفهم، فوض جميع أموره إلى وزيره مؤيد الدين - بل مدمر الدين - ابن العلقمي الرافضي، فكان سبب هلاكه وزوال ملكه كما سيأتي ذكره، وكان للمستنصر أبيه ابنان: أحدهما يسمى بالخفاجي، كان شديد الرأس، شديد الرأي، شجاعاً صعب المراس، والثاني هذا المستعصم، وكان هيناً ليناً، ضعيف الرأي، فاختاره الأمير شرابي على أخيه الخفاجي؛ ليستبد هو بالأمر، ويستقل بأحوال الملك؛ فإنه لا يخشاه كما يخشى من أخيه الخفاجي. فلما توفي المستنصر أخفى الأمير إقبال موته نحواً من عشرين يومَاً، حتى دبر الولاية للمستعصم، وبويع له بالخلافة، ففر أخوه الخفاجي إلى العربان وتلاشى أمره.

وفي سنة إحدى وأربعين بنى إقبال الشرابي مدرسة بمكة على يمين الداخل من باب السلام إلى المسجد، ورباطَاً فيه عدة خلاوي، ووقف بالمدرسة كتباً ذهبت شذر مذر إلا قليلا، والمدرسة باقية إلى الآن، وعلوها مجلسان مطلان على باب السلام، وبها كتب وقفها بعض أهل الخير ممن أدركناه، رحمهم اللّه تعالى، كذا في الأعلام للقطب النهروالي؛ نسبة إلى نهروالا قرية من قرى الهند أو العجم.

وفي موسم السنة المذكورة حجت والدة المستعصم بالله، وهي أم ولد حبشية اسمها هاجر كما تقدم، وكان في خدمتها الأمير إقبال الشرابي الدوادار، ومعه ستة آلاف خلعة، وتصدق بنحو ستين ألف دينار، وعدت جمال ركب أهل بغداد تلك السنة، فكانت فوق مائة وعشرين ألف بعير، ثم عادت إلى بغداد.

وفي سنة أربع وخمسين وستمائة، كان ظهور النار، قال أبو شامة في كتاب الروضتين: جاءنا كتب من المدينة الشريفة فيها: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة، ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة؛ فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر المذكور، فظهرت نار عظيمة في الحرة الشرقية قريبَاً من قريظة، نراها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وسالت أودية منها وادي شظا سيل الماء، وطلعنا نقصدها فإذا الجبال تسير ناراً، وسارت هكذا وهكذا، كأنها الجبال، وطار منها شرر كالقصر، وفزع الناس إلى القبر الشريف مستغفرين تائبين، واستمرت هكذا أكثر من شهر.

وقال الذهبي: كانت تدب دبيب النمل، وكانت تحرق كل ما مرت عليه من الحجارة وغيرها؛ فكانت الحجارة تذوب كما يذوب الرصاص، وكانت لا تحرق أشجار المدينة على مشرفها الصلاة والسلام. وكان نساء المدينة يغزلن على ضوئها، ثم انطفأت بعد مدة قريبة من شهر، ومع ذلك ما كان لها حرارة، وما كانت تؤثر فيمن وصل إليها.

ذكر أن أمير المدينة الشريفة أرسل رجلين ليتحققا أمر هذه النار، فلما وصلا إلى قربها، وشاهدا عدم حرارتها - تقربا إليها؛ حتى إن أحدهما أخرج نشاباً فأدخله النار فذاب نصله، ولم يحترق العود، فقلب النشاب وأدخله النار فاحترق الريش ولم يحترق العود؛ لأن السهام كانت من أشجار المدينة، وذلك من معجزاته عليه الصلاة والسلام. قال اليافعي في تاريخه: وهذه النار هي التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: " تظهر في آخر الزمان نار شرقي المدينة، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى من أرض الشام " . قلت: الذي ذكره الحافظ الذهبي أن لفظ الحديث: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بأرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " ، ثم قال: وأمر هذه النار متواتر، وهو مصداق ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى أنه رأى في الليل أعناق الإبل في ضوئها، والصادق لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم.

ثم كان أن مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الملك صار وزير المستعصم، وكان رافضياً سباباً، مستولياً على المستعصم، عدواً له ولأهل السنة، يداريهم في الظاهر، وينافقهم في الباطن وكان دائراً على طمس آثار السنة، وإعلاء منار البدعة، فصار يكاتب هولاكو قائد التتار، ويطمعه في ملك بغداد، ويخبره بأخبارها، ويعرفه بصورة أخذها، وبضعف الخليفة، وبانحلال العسكر عنه. وصار يحسن للمستعصم توفير الخزائن، وعدم الصرف على العسكر، والإذن لهم في الذهاب أين شاءوا، ويقطع أرزاقهم، ويشتت شملهم؛ بحيث إنه أذن مرة لعشرين ألف مقاتل، فذهبوا ووفر علوفاتهم من الخزانتين.

وكان التتار جائلين في الأرض يقتلون ويأسرون ويخربون الديار، ونارهم في غاية الاشتعال والاستعار، والمستعصم ومن معه في غفلة عنهم؛ لإخفاء ابن العلقمي عنه سائْر الأخبار، إلى أن وصل هولاكو خان إلى بلاد العراق، واستأصل من بها قتلاَ وأسراً.

وتوجه إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يطلبه، فاستيقظ من نوم الغرور، وندم على غفلته حيث لا ينفع الندم، وجمع من قدر عليه وبرز إلى قتاله، وجمع من أهل بغداد خاصته، ومن عبيده وخدامه ما يقارب أربعين ألف مقاتل، لكنهم مرفهون بلين المهاد، وساكنون على شط بغداد، في ظل ثخين، وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع أحباب، ما كابدوا حربَاً، ولا ذاقوا طعناً ولا ضرباً، وعساكر المغل ينوفون على مائة ألف مقاتل، فوقع التصاف، والتحم القتال، وزحف الخميس إلى الخميس، يوم الخميس عاشر محرم سنة ست وخمسين وستمائة، وصبر أهل بغداد على حر السيوف، صبروا مضطرين على طعم الحتوف، وأعطوا الدار حقها، واستقبلوا غمام السهام وبلها وودقها، واستمروا كذلك من إقبال الفجر إلى إدبار النهار، فعجزوا عن الاصطبار، وانكسروا أشد انكسار، وولوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة، وقتل أكثرهم شر قتلة، ووضعت التتار فيهم السيف والنار، فقتلوا في ثلاثة أيام ما ينوف على ثلاثمائة ألف وسبعين ألفاً، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الخزائن والأموال، وأخذ هولاكو جميع النقود، وأمر بحرق الباقي، ورمى كتب مدارس بغداد في دجلة، وكانت لكثرتها جسراً يمرون عليها ركبانَاً ومشاة، وتغير لون الماء بحبرها إلى السواد، فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم وقال: أنا في تقرير الصلح، فخرج، ووثق لنفسه بينهم، ورجع إلى الخليفة وقال: إن الملك هولاكو قد ركب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يؤثر أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع سلاطين الديلم والسلجوقية، وينصرف عنك بجنوده، فيجيب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقناً لدماء من بقي من المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، فالرأي أن تخرج إليهم.

فخرج الخليفة في أعيان دولته فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد، فضربت أعناقهم، وكذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من فيها من العلماء والأمراء والحجاب والكتاب، واستبقى هولاكو المستعصم أياماً إلى أن استصفي أمواله وخزائنه وذخائره، ثم رمى رقاب أولاده وذويه وأتباعه، وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة، ويرفس بالأرجل حتى يموت؛ ففعل به ذلك.

وفي رواية: أن خروج الخليفة المستعصم إليه كان قبل وقوع شيء من القتال، ثم لما خرج وفعل به ومن معه ما فعل - بذل السيف في بغداد، واستمر السيف نحو أربعين يوماً، فبلغت القتلى أكثر من ألف ألف نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة.

واستشهد الخليفة - رحمه اللّه - يوم الأربعاء رابع عشر صفر من سنة ست وخمسين وستمائة، وانقطعت بموته خلافة بني العباس بن عبد المطلب من العراق، وعدتهم سبعة وثلاثون خليفة، أولهم: عبد اللّه السفاح ابن محمد بن علي بن عبد اللّه ابن العباس، وآخرهم: هذا المستعصم باللّه عبد اللّه بن المستنصر باللّه أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر اللّه محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد بن المستضيء بنور اللّه حسن بن المستنجد باللّه يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر باللّه أحمد بن المقتدي بأمر اللّه عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة بن القائم بأمر اللّه عبد اللّه بن القادر باللّه أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن أحمد ابن الأمير طلحة الموفق بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس.

وكانت مدة خلافته ست عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة، وقيل: ست وأربعون وشهران.

وهذه السنة التي قتل فيها المستعصم تسمى: سنة المصائب، وبقيت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصفاً: ستٍ وخمسين وستمائْة، وسبع وخمسين، وثمانٍ وخمسين، وتسعِ وخمسين، إلى رجب منها؛ فأقيمت بمصر الخلافة، وبويع المستنصر كما سنذكره.

قال الحافظ الذهبي عند ذكر قتل الخليفة: وما أظنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده، وأعمامه وبني عمه، وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها، وعملت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها، وتمثل بقول سبط بن التعاويذي: من الكامل:

بَادَتْ وأهلُوهَا مَعَاً فبيوتُهُم ... ببقاءِ مولانا الوزيرِ خرابُ

وقال بعضهم: من الكامل:

يا عصبَةَ الإسلامِ نوحِي واندُبِي ... حزناً علَى ما تَم للمستعصِمِ

دَستُ الوزارةِ كان قَبْلَ زمَانِهِ ... لابْنِ الفراتِ فَصَارَ لابنِ العلقمِي

قلت: يشير إلى ابن الفرات، وكان وزيراً في خلافة المقتدر. وكان آخر خطبة خطبت ببغداد، قال الخطيب في أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، والسيف قائم بها. ومما قاله تقي الدين ابن أبي اليسر في بغداد: من البسيط:

لسائلِ الدمعِ عن بغدَادَ إخبارُ ... فما وقوفُكَ والأحبابُ قد ساروا

يا زائْرِينَ إِلى الزوراءِ لا تَفِدُوا ... فما بذاك الحِمَى والدارِ ديارُ

تاجُ الخلافةِ والربْعُ الذي شرُفَت ... به المَعَالِم قد عَفاهُ إقفارُ

أضحَى لِعَصفِ البلا في رَبعِهِ أثر ... وللدموعِ على الآثارِ آثارُ

يا نارَ قَلبيَ من نارٍ لحَر وغى ... شبت عليه ووافي الربْعَ إعصارُ

علا الصليبُ على أعلَى منابِرِهَا ... وقامَ بالأمْرِ مَنْ يحويه زُنارُ

وكم حريم سَبَتهُ التُركُ غَاصِبة ... وكان مِنْ دونِ ذاك الستْرِ أَشتَارُ

وكم بُدُورٍ على البَدرِيةِ انخسفَت ... ولم يعد لِبُدُورٍ منهُ إبدارُ

وكم ذخائرَ أضحَت وهي شائعةٌ ... من النهابِ وقد حازَتْهُ كفارُ

وكم حدودٍ أقيمَت من سيوفهِمُ ... على الرقابِ وخطَت فيه أَوزَارُ

نادَيتُ والسبيُ مَهتُوكٌ يَجُرهُمُ ... إلى السفاحِ من الأعداءِ دَعارُ

إليكَ يا ربنا الشكوَى فأنتَ ترَى ... ما حل بالدينِ والباغونَ فُجارُ

ومن غريب الاتفاق ما رواه بعضهم قال: لما استولت التتار على بغداد، وقتلوا الخليفة المستعصم، كان ببغداد رجل من ذوي اليسار معروف، فلما سمع بقرب التتار من بغداد، جعل في قاع داره مخبأ تحت الأرض، ووضع فيه صناديقه وأمتعته، وسائر ما يعز عليه من أموال وغيرها، ثم جعل على فم ذلك الموضع هيئة فم الخرابة، وجعل تسرب مائها إلى موضع آخر؛ ليخفي أمر ذلك الموضع عن الناظرين. وقال في نفسه: إذا دخلت التتار بغداد خرجت إلى الصحراء، فإذا خرجوا عدت إلى داري ومالي. فلما فرغ من إحكام ذلك وجد في ذخائره ستاً من اللآلئ الكبار النفيسة، كبارَاً جداً، فقال في باله: فتح هذه المطمورة أمر عظيم، وفكر في حفظ تلك اللؤلؤات، فلم يجد لها موضعاً أحسن من عش عصافير كان بسقف تلك الدار قريباً من المخبأ المذكور، فاستدعى بسلم فوضعها في ذلك العش، وجلس في دهليز تلك الدار، وعليه زي الفقراء، فلما دخلت التتار بغداد خرج إلى موضع استتر فيه، فأمسك بعض عساكر التتار رجلا من أهل بغداد، وألزموه أن يريهم دور أهل اليسار من أهل بغداد، ليجد فيها ما يأخذه، فأتى ذلك الرجل بذلك البعض إلى هذه الدار المذكورة فطافا فيها فلم يجدا شيئاً، فغضب التترى فربطه وقال: أتهزأ بي؟ وجعل يضربه ويعذبه، والرجل يحلف له أن صاحب هذه الدار من مياسير أهل بغداد، وما هزأت بك. فبينما هو يضربه إذ زرق عليه عصفور من ذلك العش الذي فيه اللؤلؤات فأصاب الزرق وجهه، فازداد غيظه فضرب ذلك العش فوقع العش، وسقطت تلك اللؤلؤات منه، فتدحرجت منه ثلاث، فوقعن في ثقب تلك الخربة، فأخذ التتري تلك الثلاث لؤلؤات، وألزم الرجل بخراب تلك الخرابة لإخراج اللؤلؤات الأخرى، فلما شرع في تخريبها وأزال وجهها، وجد سلالم تنتهي إلى الموضع الذي فيه الأموال والذخائر والصناديق، فأخذ التتري جميع ما هناك وأطلق الرجل وأعطاه ما تيسر؛ فاعتبروا يا أولي الألباب.

شرح حال التتار

قال الموفق عبد اللطيف الخجندي في خبر التتار: هو حديث يأكل الأحاديث، وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسي التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض، وتملؤها ما بين الطول والعرض.

هذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند؛ لأنهم في جوارهم، وبينهم وبين بنكث أربعة أشهر، وهي في النسبة إلى الترك، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، سمر اللون، سريعوا الحركة في الجسم والرأي، تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، قَلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم؛ لأن الغريب لا يشتبه بهم، وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة؛ فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه، ولا عسكر حتى يخالطوه، فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل فيهم، وتضيق طرق الحرب عليهم، ونساؤهم يقاتلن كرجالهم، والغالب على سلاحهم النشاب، وأكلهم أي لحم وجدوه، وليس في قتلهم استثناء ولا إبقاء، يقتلون الرجال والنساء والأطفال، وكان مقصودهم إفناء النوع الإنساني وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال.

وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أرض التتار بأطراف بلاد الصين، وهم سكان بوادي، مشهورون بالشر والغدر.

وسبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر، وهم ست ممالك، ولهم ملك حاكم على الست، وهو القان الأكبر المقيم بطغماج وهو كالخليفة على المسلمين، وكان سلطان أحد الممالك الست، واسمه دوس خان، قد تزوج بعمة جنكيز خان ملك التتار فحضر زائراً لعمته، وقد مات زوجها، وكان قد حضر مع جنكيز خان كشلوخان، فأعلمتهما أن الملك الذي هو دوس خان لم يخلف ولدَاً، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام مقامه وانضم إليه خلق من المغل، ثم سير التقاديم والهدايا إلى القان الأكبر، فأستشاط غضباً، وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت إليه وطردها، وقتل الرسل لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة سلطنة، إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكيزخان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد، وأظهرا الخلاف للقان، وهو الحاكم على الست المدن المذكورة، وأتتهما أمم كثيرة من التتار، وعلم القان قوتهم وشرهم؛ فأرسل يؤانسهم، ثم أرسل بعد ذلك ينذرهم ويتهددهم، فلم يغن ذلك فيهم شيئاً، ثم عزم على قصدهم فقصدهم، ووقع بينهم ملحمة عظيمة، فكسروا القان وملكوا بلاده، واستفحل شرهم، واستمر الملك بين جنكيزخان وكشلوخان على المشاركة، ثم سارا إلى بلاد قاسون من نواحي الصين فملكاها، فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستصغره جنكيزخان فوثب عليه فقتله، واستقل جنكيزخان، ودانت له التتار وانقادت، واعتقدوا فيه الألوهية، وبالغوا في طاعتهم.

ثم كان أول خروجهم من بلادهم سنة ست وستمائة إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان - الذي أباد الملوك وأخذ الممالك وعزم على قصد الخليفة فلم يتهيأ له - إلى أهل فرغانة والشاش وكاشان، وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والإجفال عنها إلى سمرقند وغيرها، ثم خربها جميعاً؛ خوفاً من التتار أن يملكوها؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهم.

ثم سارت التتار يتحفظون. ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة وستمائة، فأرسل فيها جنكيزخان إلى السلطان خوارزم رسلا وهدايا، وقال الرسل لخوارزم شاه: إن القان الأعظم جنكيزخان يسلم عليك ويقول لك: ليس يخف علي عظم شأنك، وما بلغت من سلطانك، ونفوذ حكمك على الأقاليم، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثل أعز أولادي، وغير خاف عليك أني ملك الصين، وأنت أخبر الناس ببلادي، وأنها مغارات العساكر والخيول، ومعادن الذهب والفضة، وفيها كفاية عن غيرها، فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة فأمر التجار بالسفر لتعم المصلحتان. فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه، وسر جنكيزخان بذلك، واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار، وكان خال خوارزم شاه نائباً عنه على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرهت نفسه إلى أموال التجار، فكتب إلى جنكيزخان يقول: إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار، وما قصدهم إلا التجسس، وإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم، فقبض عليهم وأخذ أموالهم، فوردت رسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يقول: إنك أعطيت أمانك للتجار فغدرت، والغدر قبيح، وهو من السلطان أقبح، فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا، وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به، فدخل خوارزم شاه من الرعب، لكنه تجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا، فيا لها من قتلة كم هدرت من دماء للإسلام، أجرت بكل قطر سيلا من الدم.

ثم سار جنكيزخان إليه فانجفل خوارزم شاه عن جيحان إلى نيسابور إلى مرج همدان؛ رعباً من التتار، فأحدق به التتار وقتلوا كل من معه، ونجا هو بنفسه فخاض الماء إلى جزيرة ولحقته علة ذات الجنب فمات بها وحيداً طريدَاً، وذلك سنة سبع عشرة وستمائة؛ فملكوا جميع مملكة خوارزم شاه.

ثم بعد ذلك عبروا النهر بعد أن أخذوا بخارى وسمرقند، وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان، فلم يجد التتار أحداً في وجوههم، فطوفوا البلاد قتلا وسبياً، وساقوا إلى أن وصلوا همدان وقزوين.

قال ابن الأثير في كامله: حادثة التتار من الحوادث العظمى، والمصائب الكبرى، التي عقمت الدهور عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلقه الله لم يبل بمثلها - لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها. ومن أعظم ما يذكرون فعل بُختنَصر ببني إسرائيل ببيت المقدس، فما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام. وما بنو إسرائيل، بالنسبة إلى ما قتلوا من الأنام؟ فهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في الدنيا سير السحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا كبار المدن والقرى مثل تركستان وكاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بخارى وسمرقند، فتملكوا ملكها، وأبادوا أهلها، ثم تعبر طائفة إلى خراسان فتفرغ منها ملكاً وتخريبَاً وقتلا وإبادة، ثم إلى الري وهمذان، إلى حد العراق، ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها، ويخربونها ويفتحونها، كل ذلك في أقل من سنة أمر لم يسمع بمثله، ثم من أذربيجان إلى دَرْبند شروان، ثم إلى بلاد اللان فقتلوا وأسروا، ثم بلاد القفجاق - وهم من أكثر الترك عدداً - فقتلوا من وقف، وهرب الباقون، واستولى التتار عليها، ومضت طائفة منهم إلى غزنة وأعمالها، وسجستان وكرمان ففعلوا مثل هذا، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله؛ فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، وإنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً وإنما رضي بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه، ثم إنهم كانوا لا يحتاجون إلى الميرة ومددهم يأتيهم، فإن معهم الأغنام والبقر والخيل، يأكلون لحومها لا غير، وأما خيل ركوبهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق الشجر، لا تعرف الشعير. وديانتهم سجودهم للشمس - والعياذ باللّه - حال طلوعها، ولا يحرمون شيئاً، ويأكلون جميع الدواب وبني آدم، ولا يعرفون نكاحَاً، بل المرأة الواحدة يأتيها الجماعات، ويثبون وثوب القردة، يقطعون المسافات الطويلة في أيام قليلة، ويخوضون الأوحال، ويتعلقون بالجبال، ويصبرون على العطش والجوع، ويهجرون الغمض والهجوع، ولا يبالون بالحر والبرد، والسهل والوعر، طعامهم كف شعير، وشربهم من طرف البئر، يكاد أحدهم يتقوت بطرف أذن فرسه، يقطعها ويأكلها نيئة!! ويصبر على ذلك أياماً عديدة؛ بل يكتفي هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة.

ثم ساروا إلى بغداد وهم ينوفون على مائتي ألف فارس وراجل سالب باسل، فكان ما كان منهم على الخليفة المستعصم وبغداد وأهلها، وملكهم هولاكو بعد أن مات جنكيزخان.

ثم وصلوا إلى حلب وبذلوا فيها السيف، بعد أن ملكوا ما بينها وبين بغداد من المدن والقرى.

ثم أرسل هولاكو إلى الملك الناصر، صاحب دمشق كتاباً صورته: يعلم سلطان ناصر طال بقاؤه أنا لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم قتلناهم بسيف الله، ثم خرج إلينا رؤساء البلد ومقدموها، فكانت قصارى كل منهم سبباً لهلاك نفوس تستحق الإذلال. وأما صاحب البلد الخليفة، فإنه خرج إلى خدمتنا، ودخل تحت عبوديتنا، فسألناه عن أشياء كذبنا فيها؛ فاستحق الإعدام وكان كذبه ظاهراً " ووجدوا ما عملوا حاضراً " " الكهف: 49 " . وأنت فأجب ملك البسيطة، ولا تقولن: قلاعي المانعات، ورجالي المقاتلات وقد بلغنا أن شذرة من عساكر العراق التجأت إليك هاربة، وإلى خبائك لائذة: من الكامل:

أينَ المفَرُ ولا مفَر لهارب ... ولنا البسيطانِ الثرَى والمَاءُ

فبساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضَاً وطولها عرضاً.

ثم أرسل كتاباً ثانيَاً يقول فيه حضرة ملك ناصر طال عمره، أما بعد، فإنا فتحنا بغداد، واستأصلنا مُلكها ومَلكها، وقد كان ضن بالأموال، ولم ينافس في الرجال، فظن أن ملكه يبقى على ذلك الحال، وقد علا ذكره ونما قدره، فخسف في الكمال بدره: من المتقارب:

إذا تَم شيء بدا نقصُهُ ... ترقبْ زوالاَ إذا قِيلَ تَم

ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد، فلا تكن كالذين نسوا اللّه. وأبدِ ما في نفسك إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أجب دعوة ملك البسيطة تأمن من شره، وتنل من بره، واسعَ إليه برجالك وأمرائك، ولا تعُق رسولنا، والسلام.

ثم أرسل إليه كتابَاً ثالثاً يقول فيه: أما بعد، فنحن جنود اللّه، بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر اللّه ما ائتمر، إن عوتب تنمر، وإن روجع استمر، ونحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد، فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تساقون، ونحن جيوش الهلكة لا جيوش المملكة، مقصودنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام، وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر، ولا مفر؟! ذلت لهيبتنا الأسود، وأصبحت في قبضتنا الأمراء والخلفاء، ونحن إليكم صائرون، ولكم الهرب، وعلينا الطلب: من الطويل:

ستعلَمُ ليلَى أيَ دين تداينَت ... وأي غريم للتقاضي غَريمُهَا

دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وجعلنا عظيمهم صَغيراً، وأميرهم أسيرَاً، تحسبون أنكم ناجون أو متخلصون، وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر.

فلما وصلوا إلى دمشق خرج إليهم الملك المظفر، المسمى قطز، من ملوك الأتراك من مصر، ومقدم عسكره الظاهر بيبرس البندقداري، فالتقى معهم عند عين جالوت، ووقع المصاف يوم الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، فهزم التتار شر هزيمة، وانتصر المسلمون وللّه الحمد والمنة، وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينتهبونهم، وجاء كتاب الملك المظفر إلى دمشق بخبر النصرة فطار المسلمون فرحاً، وسيأتي ذكر الملك المظفر قطز في الباب الخامس المعقود للدولة التركية إن شاء اللّه تعالى.

قال السخاوي: ثم لم يزل بقاياهم يخرجون إلى أن كان اَخرهم تيمور لنك الأعرج، فطرق الديار الشامية وعاث فيها، وحرق دمشق حتى جعلها خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن مات وتفرق بنوه في البلاد.

قلت: وفي الشائع أن ملوك الهند في زماننا يرجع نسبهم إلى تيمور لنك هذا، واللّه أعلم بصحة هذا؛ فإني لم أره منقولا.

واعلم أن السنة النبوية قد أشارت إلى قتال الترك وفتنتهم، فقد روى الستة إلا النسائي حديث: " لا تقوم القيامة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة " ، وفي رواية للبخاري: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر " وفي لفظ له: " عراض الوجوه " فقوله: " نعالهم الشعر " يحتمل أنه على ظاهره، ويحتمل أن تكون من جلود مشعرة، قاله المناوي في تخريج المصابيح، وحمر الوجوه: بيض مشربة بحمرة.

وذلف بالذال المعجمة في رواية الجمهور، قال صاحب المشارق وهي الصواب، ويروى بإهمال الدال، وهو جمع أذلف، كأحمر وحمر، معناه: فطس الأنوف كما في الرواية الأخرى، أي: قصارها مع انبطاح. وقال النووي: الذلف: غلظ أرنبة الأنف. والمجان: جمع مجن بكسر الميم: الترس. والمطرقة بضم الميم وإسكان الطاء، وحكى فتحها مع تشديد الراء، والأول هو المشهور في الرواية، ومعناه: أن وجوههم عريضة ووجناتهم ناتئة.

وقوله: " حتى تقاتلوا خوزَاً وكرمان " ضبطه ابن الأثير في نهايته فقال: بالخاء والزاي المعجمتين: جيل معروف، وهم من بلاد الأهواز، وكرمان صقع معروف، قال السمعاني: بلدة معروفة من بلاد العجم بين خراسان وبحر الهند. وورد " اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء " الحديث، زاد في رواية " فإنهم أصحاب بأس شديد وغنائم قليلة " قلت: بنو قنطوراء بالمد والقصر، قيل: كانت جارية لسيدنا إبراهيم الخليل فولدت له أولاداً، فانتشر منهم الترك. حكاه محمد بن الأثير واستبعده، لكن ما استبعده جزم به المجد الفيروزأبادي في قاموسه. وروى الخطيب البغدادي عن علي - رضي اللّه تعالى عنه - : تكون مدينة بين الفرات ودجلة، يكون فيها ملك بني العباس وهي الزوراء، تكون فيها حرب مفظعة يسبى فيها النساء، وتذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم، ثم قال: وإسناده شديد الضعف. قال الحافظ السيوطي: وقد وقعت هذه الحرب بعد موت الخطيب بأكثر من مائتي سنة، وذلك يقوي الحديث ويصححه.

قال السخاوي: ومن المرات التي قاتل فيها المسلمون الترك دولة بني أمية حتى أغزى معاوية الجيش إلى الروم، وأردفهم بابنه يزيد بن معاوية، ومعه عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عباس، وأبو أيوب الأنصاري، ثم كان بينهم وبين المسلمين مسدوداً بالهدنة التي عقدها يزيد بينه وبينهم، إلى أن فتح ذلك شيئاً فشيئاً، وكثر السبي فيهم حتى كان أكثر عسكر المعتصم بن الرشيد منهم، ثم غلبت الأتراك على الملك فقتلوا ابنه المتوكل بن المعتصم، ثم أولاده الخلفاء واحداً بعد واحد إلى أن خالط المملكة الديلم، ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضاً، فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على تلك الممالك آل سُبكتكين غلام معز الدولة بن بويه، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، وكانت بقايا أتباعهم بالشام، وهم آّل زنكي والد محمود بن زنكي الملقب نور الدين الشهيد، وأتباع آل زنكي هم بنو أيوب الأكراد، فاستكثرت بنو أيوب الأتراك من المماليك أيضاً فغلبوهم بالديار المصرية والشامية والحجازية. وخرج على آل محرق في المائة الخامسة الغز فخربوا البلاد، وقتلوا في العباد، ثم جاءت الطامة الكبرى بعد الستمائة؛ فكان خروج جنكيزخان، وخلفه بعده هولاكو، واستعرت الدنيا بهم نارَاً لا سيما الشرق بأسره، حتى لم يبق بلد منه إلا دخلها شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة وسلب ملكه ودمار عماره، وظهر به - بل بجميع ذلك - مصداق قوله صلى الله عليه وسلم " أن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء " ، وقد تقدم ذكر الحديث، واللّه سبحانه أعلم.

وكان ممن نجا من سيوف التتار من بني العباس أبو العباس أحمد بن الظاهر، عم المستعصم المقتول، قيل: كان محبوسَاً ببغداد، فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب، وصار إلى عرب العراق، فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس بعد الملك المظفر قطز، وفد عليه إلى مصر في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعه عشرة من بني مهارش عرب الحلة، البلدة المعروفة، فركب السلطان الملك الظاهر بيبرس للقائه، ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الشافعي، ثم بايعه بالخلافة السلطان، ثم قاضي القضاة المذكور، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الكبار على مراتبهم، وذلك في ثالث عشر رجب من السنة المذكورة. وضربت السكة باسمه، وخطب له، ولقب بلقب أخيه المستنصر، وفرح الناس، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة، فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا للسلطان والمسلمين، ثم صلى بالناس، ثم رسم بعمل خلعة للسلطان، وبكتابة تقليد له، ثم نصبت خيمة بظاهر القاهرة، وركب الخليفة المستنصر بالله المذكور، والسلطان الظاهر المذكور معه يوم الاثنين رابع شهر شعبان إلى الخيمة، وحضر القضاة والعلماء والأمراء والوزراء، فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه، ونُصِبَ مِنْبَر فصعد عليه فخر الدين بن لقمان فقرأ التقليد، ثم ركب السلطان بالخلعة ودخل من باب النصر وزينت القاهرة، وحمل الوزير التقليد على رأسه راكباً والأمراء مشاة، ورتب السلطان للخليفة جيشاً وأتابكاً واستدارا وشرابياً وخازنداراً وحاجباً وكاتباً، وعين له خزانة وجملة مماليك، ومائة فرس وثلاثين بغلا، وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك.

قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا المستنصر؛ فإنه وليها بعد ابن أخيه وهو المستعصم المقتول، وإلا المقتفي بن المستظهر؛ فإنه وليها بعد الراشد ابن أخيه المسترشد بن المستظهر، ثم عزم المستنصر إلى العراق يريد تخت بغداد، فخرج معه السلطان الملك الظاهر بيبرس يشيعه إلى أن دخلوا دمشق، ثم سار الخليفة بمن معه متوجهاً إلى بغداد، فلما وصل إلى السراة ثالث محرم سنة ستين وستمائة - قاتله هناك قره بغا نائب هولاكو على بغداد، فقتل المستنصر ومن معه، ولم ينج منهم إلا القليل، ولم يقم له أمر فكانت ولايته ستة أشهر. والحاصل أن خلفاء بني العباس البغداديين سبعة وثلاثون خليفة أولهم السفاح وآخرهم المستعصم، ومدة ملكهم فيها خمسمائة وأربع وعشرون سنة ويوم واحد. وقد ذكرهم الإمام محمد بن عبد اللطيف بن يحيى بن علي بن تمام السبكي نظماً مبتدئاً بأبي بكر الصديق فقال: من الطويل:

إذا رمتَ أعداد الخلائفِ عُدهُمْ ... كما قُلْته تدعى اللبيبَ المحصلاَ

عتيق وفاروقٌ وعثمانُ بعدَه ... عليُ الرضَا مِنْ بَعْدِهِ حَسَن تلا

معاوية ثم ابنُهُ وحفيدهُ ... مُعَاويَة وابنُ الزبَيْرِ أخو العُلاَ

ومروان يتلوه ابنُهُ ووليدُهُ ... سليمانُ وافى بَعْدَهُ عُمَرْ وَلاَ

يزيدُ هشام والوليدُ يزيدُهُمْ ... سناهُمْ بإبراهيمَ مروانُ قَدْ علا

وسَفاح المنصورُ مهدي ابنُهُ ... وهادِي رشيد للأمينِ تَكَفلا

وأعقب بالمأمونِ مُعْتَصِم غدا ... بَوَائقه يسْتَتْبع المُتَوَكلاَ

ومنتصر والمستعِينُ وبعدَهُ ... لمعتز المَتْلُو بالمهتدي أقْبَلاَ

ومعتمد يَقفُوه معتضِد وعَن ... سنا المكتفي يتلوه مقتدرٌ سلا

وبالقاهِرِ الراضِي يُفوٌضُ متقِ ... وثَانِيهِ مُستَكف مطيع تفضلا

وطائعُهُم للهِ باللهِ قادر ... وقائمُهُم بالمقتدي استَظهر العلا

ومسترشد والراشدُ المكتفي بِهِ ... ومستنجد والمستضِي نَاصِر جلا

فظاهِرُهُم مستنصر قد تكملوا ... فإن آت تقصيراً فكن متطولا

قلت: ولم يذكر عبد الله بن المعتز فيهم، وقد ذكره بعض المؤرخين، وبعضهم لم يذكره؛ لكونه ولي نصف يوم أو نحوه؛ فلذلك تركه الناظم.

ثم صار الملك في مصر، والحل والعقد إلى ملوك الأتراك، ثم الجراكسة ثم العثامنة، وقد كانوا يعينون واحداً من أولاد العباس للخلافة، ويكون كواحد من العامة لا حل له ولا عقد يجاب، ولا يسمع، ولا يفكر في رأي له فيتبع.

فأول من ورد إليهم مصر المستنصر الذي تقدم ذكر قدومه إليها على الملك الظاهر بيبرس؛ فجهزه وسيره إلى بغداد فتم عليه ما تم، ثم وصل بعده إلى مصر من بني العباس أبو العباس أحمد بن الراشد بن المسترشد، ولقب بالحاكم بأمر الله، فأكرمه الظاهر بيبرس أيضاً، وأثبت نسبه بحضرة قضاة الشرع وبايعه بالخلافة، فأجرى عليه النفقة وسكن بمصر، وليس له من الأمر شيء وإنما اسمه الخليفة، واستخلف أولاده من بعده على هذا النسق ليس لهم إلا اسم الخلافة، يأتون به إلى السلطان الذي يريد توليته، فيقول له: وليتك السلطنة. هكذا كانوا بألقاب الخلفاء واحداً بعد واحد، وكانت سلاطين الأقاليم يتبركون بهم، ويرسلون إليهم أحياناً يطلبون تقليد السلطنة، فيكتبون إليهم تقليدَاً ويعهدون إليهم بالسلطنة عهداً.

ولا يخفى أن هؤلاء ليس لهم من الخلافة إلا الصورة، كما كانت الخلفاء البغداديون المحجور عليهم من جانب أمرائهم، وإنما لهم الاسم المجرد عن المعنى من كل وجه، وعدتهم ثمانية عشر خليفة، أولهم: المستنصر الذي جهزه الملك الظاهر بيبرس إلى بغداد فوقع له في الطريق ما وقع، وإنما عددناه منهم لأن ولايته بمصر، وآخرهم: محمد المتوكل على اللّه ابن المستمسك باللّه يعقوب، وهذا المستمسك هو آخر من ذكره العلامة السيوطي في منظومته في الخلفاء. واستمر المستمسك باللّه خليفة إلى أن كبرت سنه، وكف نظره، ودخلت أيام الدولة العثمانية، وافتتحت الديار المصرية، فأخذه السلطان سليم معه إلى أسطنبول واستمر بها إلى أن مات السلطان سليم، ثم عاد إلى مصر فخلع، وولى ولده المتوكل علي بن المستمسك في شعبان سنة أربع عشرة وتسعمائة، واستمر خليفة إلى أن توفي ثاني عشر شعبان سنة خمس وتسعين وتسعمائة، في أيام المرحوم داود باشا صاحب مصر، وباني رباط الداودية ومدرستها المعروفة به، وبموته انقطعت الخلافة الصورية أيضاً بمصر، وكان المتوكل فاضلاَ أديباً له شعر حسن، منه قوله: من البسيط:

لم يبقَ محتسب يُرجَى ولا حسن ... ولا كريم إليه مُشتَكَى حَزَنيِ

وإنما سَادَ قوم غيرُ ذي حَسَبٍ ... ما كنتُ أوثرُ أنْ يمتد بي زَمَنِي

قال العلامة قطب الدين: اجتمعت به رحلتي إلى مصر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة، وأخذت عنه. وهذه قصيدة العلامة السيوطي المتضمنة لذكر الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين البغداديين والمصريين، ومدة وفياتهم، وهي غاية في ضبط أولئك. قال رحمه اللّه تعالى: من البسيط:

ألحمدُ للهِ حمداً لا نَفَادَ له ... وإنما الحمدُ حقاً رأسُ مَن شكَرَا

ثم الصلاةُ على الهادي النبي ومَن ... سادَت بنسبته الأشرافُ والأُمَرَا

إن الأمينَ رسُولَ اللهِ مبعثُهُ ... لأَربعينَ مضَت فيما رَوَوْا عُمُرَا

وكانَ هجرتُهُ منها لطَيبَةَ مِن ... بعد الثلاثةِ أعواماً تلي عَشَرَا

وماتَ في عامِ إحدى بَعدَ عَشرتها ... فيا مصيبةَ أَهلِ الأرضِ حينَ سَرَى

وقامَ مِن بعده الصديقُ مجتهداً ... وفي ثلاثة عشر بعدَهُ قُبِرا

وهو الذي جَمَعَ القرآن في صحفٍ ... وأولُ النَاسِ سَمي المُصحَفَ الزبُرَا

وقامَ من بعدِهِ الفاروقُ ثُمتَ فِي ... عشرينَ بعدَ ثلاثٍ غَيبوا عُمَرا

وَهْوَ الذي اتخَذَ الديوانَ وافترَضَ ال ... عَطاءَ قَبلُ وبيتَ المالِ والدُرَرَا

وَهْوَ المسمى أميرَ المؤمنينَ ولم ... يُدْعَى به قَبْلَهُ شخص مِنَ الأمُرَا

وقام عثمانُ حتَى جاءَ مَقْتَلُه ... بعد الثلاثينَ في خَمسٍ وقد حُصِرا

وبعدُ قامَ علي ثم مقتَلُهُ ... لأربعينَ فمَنْ أوداه قد خَسِرا

ثم ابنُهُ السبطُ نصفَ العامِ ثُم أتَى ... بنو أمية يَبْغونَ الوغَى زُمَرَا

فسلم الأمرَ في أُخْرَى لِرَغْبَتِهِ ... عن دارِ دُنْيَا بلا ضَيْرِ ولا ضَرَرَا

الخلفاء الأمويون:

وكان أولَ في مُلكِ معاوية ... في النصْفِ من عامِ ستينَ الحِمَامُ عَرا

ثمَّ اليزيدُ ابنُهُ أَخْبِثْ به ولداً ... في أربع بعدها ستُونَ قد قُبِرَا

وابنُ الزبَيرِ وفي سبعينَ مَقْتَلُه ... بعد الثلاثِ وكَمْ بالبيتِ قد حُصِرا

وفي ثمانينَ مَع ستّ عليه قضى ... عبدُ المليكِ به الأمرَ الذي اشتُهرا

ثم الوليدُ ابنُهُ في قَبْلِ مَا رَجَب ... في الست من بعدِ تسْعِينَ انقضَى عُمُرا

وَهْوَ الذي مَنَعَ الناسَ النداءَ له ... باسْمٍ وكانتْ تُنَادَى باسمِها الأُمَرَا

وقامَ بَعْدُ سليمانُ الخِيَارُ وفِي ... تسعِ وتسعينَ جاء الموتُ في صَفَرَا

وبعدَه عُمَرٌ ذاك النجيبُ وفي ... إحدى تلي مائة قد أَلْحَدُوا عُمَرَا

وَهوَ الذي أمر الزهرِيَ خَوْفَ ذَهَا ... بِ العلم أنْ يجمَعَ الأَخبارَ والأَثَرا

ثم اليَزِيد فَفِي خَمْسِ قَضَى وتَلا ... هِشَامُ في الخَمْسِ والعِشْرينَ قَدْ سطرا

ثم الوليدُ وبعد العام مقتله ... من بعد ما جاء بالفسق الذي شهرا

ثم اليزيد وفي ذا العام مات وقد ... أقام ست شهور مثل ما أثرا

وبعده قامَ إبراهيمُ ثم مضَى ... بالخلعِ سبعينَ يوما مذ أقامَ ثرا

وبعده قامَ مروانُ الحمارُ وفي ... اثنتينِ بعد ثلاثينَ الدماءُ جَرَى

الخلفاء العباسيون:

وقام مِنْ بَعدِهِ السفاحُ ثم قَضَى ... بعدَ الثلاثينَ في ست وقد جُدرَا

وقامَ مِن بعده المنصورُ ثمتَ في ... خمسينَ بعد ثمانِ مُحْرِماً قُبِرا

ثم ابنُهُ وَهُوَ المهديُ ماتَ لدَى ... تسعٍ وستينَ مَسْمُومَاً كما ذُكِرَا

ثم ابنُهُ وَهُوَ الهادي وموتَتُه ... في عامِ سبعينَ لما هَمَّ أَنْ غَدَرَا

ثم الرشيدُ وفي تسعين تاليةٍ ... ثلاثة ماتَ في الغزوِ الرَّفِيعٍ ذُرَا

ثم الأمينُ وفي تسعينَ تاليةٍ ... ثمانياً جاءه قتل كما ذُكِرَا

وقامَ مِنْ بعده المأمونُ ثمتَ في ... ثمانِ عشرةَ كان الموتُ فاعْتَبِرا

وقامَ معتصم مِنْ بعدِهِ وقضَى ... في عامِ سبعٍ وعشرينَ الذي أُثِرَا

وَهْوَ الذي أدخَلَ الأَتراكَ منفرداً ... ديوانَهُ واقتناهُمْ جالباً وشرا

ثم ابنُهُ الواثِقُ المالي الورَى رُعُبا ... وفي ثلاثينَ مَع اثِنْتَيْنِ قد غَبَرَا

وذو التوكُلِ ما أزكَاهُ من خُلُقٍ ... ومظهرُ السنةِ الغَراءِ إذ نَصَرَا

في عامِ سبعِ تليهَا أربَعُونَ قَضى ... قتلا حَبَاه أبنُه المدعوُ منتَصِرا

فلم يَقُمْ بعدَهُ إلا اليسيرَ كَمَا ... قد سَنهُ اللّه فيمَنْ بعضَه غَدَرَا

والمستعينُ وفي عام اثنتينِ تَلاَ ... خمسينَ خَلْع وقتل جاءه زُمَرَا

وَهوَ الذي أحدثَ الأكَمامَ واسعة ... وفي القلانِسِ عن طُولٍ أَتَى قِصَرَا

وقامَ مِنْ بَعدِه المعتزُّ ثُمتَ في ... خمسٍ وخمسينَ حَقاً قتلُهُ أثرَا

والمهتدِي الصّالِحُ الميمونُ مَقتَلُهُ ... مِنْ بعدِ عَام وقفي قبله عمرا

أقامَ مِنْ بَعدِهِ بالأَمرِ مُعْتَمِد ... في عامِ تسعٍ وسبعين الحِمَامُ عَرَا

وذاكَ أولُ ذِي أمرِ له حَجَرُوا ... وأولُ الناسِ موكولا به قُهِرَا

وقام مِنْ بعده بالأمرِ معتضد ... وفي ثمانينَ مَعْ تسَع مضت قُبِرَا

ثم ابنُهُ المكتفي باللّه أحمدُ فِي ... خمسٍ وتسعينَ وافاه الذي قدرَا

في عامِ عشرينَ في شوالَ بَعدَ مُضِي ... ثلاثةٍ قُتِلَ المدعوُ مُقْتدرَا

وبعدَهْ القاهِرُ الجَبارُ مخلَعُه ... في اثنينِ مِنْ بعد عشرين وقد سُمِرَا

وقام من بعده الراضي وَمَاتَ لَدَى ... تسعٍ وعشرينَ وانسُب عِنْدَهُ أخَرَا

والمتَقي وَمَضَى بالخَلْعِ مُشتَمِلا ... من بعد أربعةِ الأعوامِ في صَفَرا

وقام بالأمرِ مستكفيهِمُ وَقَفَاً ... من بعدِ عامٍ لأمر المتقي أَثَرَا

ثم المطجُ وفى ستينَ يتبعُهَا ... ثلاثةٌ فى أخيرِ العامِ قد غبرَا

ثم ابنُه الطائعُ المقهورُ مخلَعُه ... عامَ الثمانينَ مَغ إحْدَى كما أُثِرَا

ثم الإمام أبو العباسِ قادرُهم ... فى اثنينِ مِق بعد عشرينَ مَضَتْ قُبِرَا

ثم ابْنُهُ قائِمْ للّه ماتَ لَدى ... سبعٍ وستينَ مِق شعبانَ قَدْ سُطِرَا

والمقتدِي ماتَ فى تسعِ بأولهَا ... بَغدَ الثمانينَ جذَ الملك واقتدَرَا

وَقَامَ مِنْ بَعدِه مستظهرٌ وقَضَى ... فى خامسِ القرنِ فى اثنينِ تلِى عَشرَا

وقام مِنْ بعده مسترشذ ولَدَى ... تسعٍ وعشرين فيه القَتْلُ حَل عُرَا

ثَم ابنُهُ الراشدُ المقهورُ مَخلَعُهُ ... مِن بعد عامٍ فلا عينْ ولا أَثَرَا

والمقتفي ماتَ مِن بَغدِ التَمَكُنِ فِي ... خمسٍ وخمسينَ وانقادَتْ له النصَرا

وقَامَ مِنْ بعدهِ مستنجدْ وقَضَى ... من بعدِ ستينَ مَعْ سِت وقد شعرا

والمستضىءُ بأمر اللّه ماتَ لَدَى ... خمسٍ وسبعين بالإحسان قد بَهَرا

وقام مِنْ بعدهِ بالأمرِ ظاهِرُهُم ... تسعًا شهورًا فأقلل مدةَ قِصَرَا

وقام مِنْ بعدهِ مستنصر وقَضَى ... لأربعينَ وكَمْ تَرْثِيهِ مِنْ شُعَرَا

وقام مِنْ بعدهِ مستعصم ولَدَى ... ستّ وخمسينَ كَانَ الفتنةُ الكبرَى

جاء التتارُ فَأَزدَوهُ وبلدتَهُ ... فيلعنُ اللهُ والمخلوقةُ التتَرَا

مرتْ ثلاثُ سنين بعدَهُ وَيلى ... نصف ودَهْرُ الزَدَى عَنْ قائمٍ شغرَا

الخلفاء العباسيون المصريون:

وقامَ مِن بعد ذا مستنصز وثَوَى ... فى آخِرِ العام قَتْلاَ مِنهُمُ وسرى

أقام ستَ شهور ثم رَاحَ لَدَى ... مُهَل ستينَ لَم يَبْلُغْ بها وَطَرَا

وقام مِنْ بعده فى مصرَ حاكِمُهُنم ... على وَهى لا كَمَنْ مِن قَبْلُ قد غَبَرَا

ومات (4) فى عام إحدى بَغد سبعِ مِئِى ... وقام من بعدُ مستكفيهم وجَرَى

فى أربعينَ قضى إذ قام واثِقُهُم ... فَفِى اثنتينِ قضى خلعا مِنْ الأمَرَا

وقام حاكمُهُنم مِن بعدِه وقضى ... عَامَ الثلاثِ مع الخَمسِينَ معتبرَا

فقام مِنْ بعدِه بالأمرِ معتضد ... وفى الثلاثةِ والستينَ قَدْ غَبَرَا

وذو التوكُلِ يتلوهُ أَقَامَ إلئ ... بعدَ الثمانينَ فى خمس وقد حُصِرَا

وبايَعُوا واثقا باللّه ثُمتَ فى ... عامِ الثمانِ قَضَى وسَمَه عُمَرا

وبايَعُوا بعدَهُ بالله معتصمًا ... فى عامِ إحدى وتسعينَ أُزِيل وَرَا

وذو التوكل رَدوهُ أقامَ إلى ... ذا القرنِ عامَ ثمانٍ منه قَد قُبِرَا

أولادُه منهمُ خمس مبجلة ... حازوا الخلافةَ إِذْ كانَت لَهُمْ قَدرا

والمستعينُ وآلَ الأمرُ أن خلعوا ... فى شهرِشعبان فى خمس تَلي عَشَرَ

وقام مِنْ بعدِه بالأمر معتضد ... لأربعينَ تليها الخمسةُ احتُضِرَ

وقام بالأمر مستكفيهمُ وقَضَى ... فى عامِ الاَرْبع والخمسينَ مُصْطَبِرَا

وقام قائِمهُمْ من بعدُ ثُمتَ في ... سبعٍ وخمسينَ بعدالخلع قد حُصرا

وقام مِنْ بعدِه مستنجدٌ دَهرا ... خليفة العَضرِ رقَّاهُ الإله ذرا

وبعدَ نظمىَ هذا النظمَ فى مُدد ... قَضَى خليفتُنا المذكورُ مصطَبرا

فى عام الاَرْبَعِ من شهرِالمحرمِ مِن ... بعدِ الثمانينَ يومَ السبت قَدْ قبرا

وبويع ابنُ أخيه بَعدَهُ ودُعِى ... بذي التوكُلِ كالَجد الذى شُهرا

وماتَ عامَ ثلاث بعد تِسعِمِئِى ... سلخ المحرَمِ عَن عهدٍ له سطرا

لنجله البر يعقوبَ الشريفِ وَقَد ... لُفبَ مستمسكًا باللّه فى صَفرا

هذا آخر ما نظمه العلامة السيوطى، وقال بعضهم: فذكر خلع المستمسك هذا بعد طول عمره وكبر سنه وانكفاف نظره وولاية ابنه محمد المتوكل على الله بن المستمسك باللّه - فقال:

وكان خلع له فى عام أربعةِ ... من بعدعَشرَةَ فى شعبانَ قد شُهرا

ولم يكنْ خَلعُهُ من أجلِ مَنْقَصَةٍ ... فى دينِه ثم دنياهُ وليسَ جَرى

شبيهُ ذاكَ ولكنْ أمرُ خالِقنَا ... مُذْ حل فى عينه فأَذْهَبَ البصرا

وأهلُ حَل وعَقْدٍ بايَعُوا بِرِضَا ... لِنَجْلهِ لَيْسَ فِيْهِمْ واحدٌ غدرا

بذى التوكُلِ حقا لقبُوهُ وَقُلْ ... محمد اِسمه لاَ زَال مُنْتَصرا

في ساعةِ الخلع والمخلوعُ والدُه ... كانَتْ بَنُو عَمهِ راضِينَ ما ذكرا