في الدولة العبيدية المسمين بالفاطميين بالمغرب ثم بمصر

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب الثالث

في الدولة العبيدية المسمين بالفاطميين بالمغرب ثم بمصر

اعلم أن بني العباس حين ولوا الخلافة امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام، كما كان بنو أمية من قبلهم، ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية من ولد هشام بن عبد الملك - حفيده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة، فأجاز البحر ودخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفاح فيها حولا، ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلك، فقطع الدعوة عن السفاح وبقيت بلاد الأندلس منقطعة عن الدولة الإسلامية من بني العباس.

ثم كانت وقعة فخ أيام الهادي أخي الرشيد على بني الحسن بن علي سنة تسع وستين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وجماعة من أهل بيته، ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عبد اللّه المحض بن الحسن المثنى إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابر هنالك؛ فاقتطع المغرب عن بني العباس، واستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم، ثم ضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة بها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل الخليفة المتوكل العباسي، وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عبد اللّه الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في كتابه لعبيد اللّه المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وبايع له، وانتزع إفريقية من بني الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس، واستحدثوا دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر الآن في أخبارهم، ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين، ولحق بالديلم فأسلموا على يديه، وملك طبرستان ونواحيها، وصار له هناك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلاثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني علي بن عمر داعي الطالقان أيام المعتصم. وسيأتي ذكر ذلك في الباب الثاني من الخاتمة عند ذكر من دعا من أهل البيت. واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن محمد، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الخمسين والثلاثمائة، واستولى عليها الديلم، وصارت لهم دولة أخرى فظهر باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، وهو ابن إبراهيم طباطبا، لقب بذلك للكنة كانت في لسانه يعدل عن لفظ قبا قبا إلى طبا طبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى، وأظهر هنالك دعوى الزيدية وملك صعدة وصنعا، وكانت لهم هنالك دولة لم تزل حتى الآن، وأول من ظهر منهم يحيى ابن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين. وسيأتي ذكرهم في الدعاة للمبايعة.

ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج، ادَعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن في نسبه؛ فادعى ثانياً أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان، وقيل: إنه انتسب إلى طاهر ابن الحسين بن علي. والذي ثبت عند المحققين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة، قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد الموفق طلحة المعتمد أيام السبعين ومائتين.

ثم ظهر القرمطي بنواحي البحرين وعمان، سار إليهما من الكوفة سنة تسع سبعين ومائتين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق دعوى كاذبة. وكان من أصحابه الحسن الجبائي وزكرويه القاشاني؛ فقاما بالدعوة من بعده ودعوَا لعبيد الله المهدي، وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل.

وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر أعوام الستين والمائتين، وأقامت دولتهم إلى آخر المائة الرابعة، ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بِغَزنَةَ إلى منتصف المائة السادسة.

وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى استبدوا بها على الخلفاء من لدن أيام الرشيد والمأمون إلى أول المائة الثالثة، ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طغج، موالي كافور إلى الستين والثلاثمائة.

ثم استولى المعز الفاطمي على مصر بعد موت كافور لما افتتحها له عبده جوهر الرومي الصقلي، واختط القاهرة والجامع الأزهر والقصرين، واستمرت في يد أولاده إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، حتى كان آخرهم العاضد، فاستولى عليه ملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي، وقطع خطبة الفاطميين، عاد الخطبة بمصر لبني العباس، للمستضي بن المستنجد منهم، بعد أن قطعت عنهم مائتين ونيفاً وثمانين سنة، مدة استيلاء الفاطميين عليها كما سيأتي ذكر كل ذلك في الدولة الأيوبية.

ثم عقبها دولة أخرى لمواليهم، وهي الدولة التركمانية الذين أولهم المعز أيبك التركماني، ثم عقبتها دولة أخرى لمواليهم، وهي الدولة الشركسية، ثم عقبتها دولة أخرى وهي العثمانية، وسيأتي ذكر كل دولة في باب على حدة على ترتيب ما ذكرناه.

وفي خلال هذا كله تضايق نطاق الدولة العباسية بخروج المستبدين بالنواحي عليها، ولم يمتد نطاقها إلا إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم.

ثم كانت للديلم دولة أخرى، واستولوا فيها على النواحي، وملكوا الأعمال. ثم ساروا إلى بغداد وملكوها، وصيروا الخليفة في مملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلاثمائة إلى الأربعمائة والخمسين، فكانت مدتهم مائة وعشرين سنة، وكانت من أعظم الدول.

ثم أخذها من أيديهم الملوك السلجوقية إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم بأمر اللّه العباسي سنة الأربعين وأربعمائة أو الخمسين إلى آخر المائة السادسة، وكانت دولتهم كذلك من أعظم الدول في العالم، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي، وهي باقية لهذا العهد آخذة في التلاشي. كما سنذكر كلا في محله من بابه المعقود له.

 

نسب العبيديين بإفريقية

قد اختلف الناس في صحة نسب هؤلاء العبيديين القائمين بإفريقية ثم بمصر؛ فأثبت نسبهم وصححه جماعة ونفاه جماعة كثيرون. قال العلامة ابن خلكان: والجمهور على عدم صحة نسبهم، وأنهم كذبة أدعياء، لا حظ لهم في النسبة المحمدية أصلا.

فممن أثبت نسبهم العلامة ابن خلدون في تاريخه فقال: نسبة هؤلاء العبيديين إلى أول خلفائهم، وهو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب ابن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم، ولا بالمحضر الذي كتب ببغداد أمام القادر بالله العباسي بالقدح في نسبهم، وأشهد فيه أعلام الأئمة مثل القدوري، والصيمري، وأبي العباس الأبيوردي، وأبي حامد الأسفراييني، وأبي الفضل النسوي، وأبي جعفر النسفي، ومن العلويين المرتضى، وابن البلجاني؛ وابن الأزرق، وزعيم الشيعة أبي عبد الله بن النعمان؛ فهي شهاده على السماع. وكان ذلك القدح متصلا في دولة العباسيين منذ مائتين من السنين، فاشياً في أمصارهم وأعصارهم عند أعدائهم شيعة بني العباس؛ فتلون الناس بمذهب أهل الدولة، فجازت شهادتهم بذلك، والشهادة على السماع في مثله جائزة، على أنها شهادة نفي؛ فلا تعارض شهادة المثبت، مع أن طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم، حتى في مكة والمدينة - أدل شيء على صحة نسبهم.

وأما من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية كميمون القداح، فكفاه إثمَاً وسفسفة. وكان شيعة هؤلاء العبيديين في المشرق واليمن وإفريقية، وكان أصل ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها، أنفذهما جعفر الصادق وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجئ صاحب البذر، فنزل أحدهما ببلد مرغة والآخر ببلد سوف جمار، وكلاهما من أرض كتامة؛ ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي.

وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه؛ لإقامة دعوته باليمن، وأن المهدي خارج في هذا الوقت، فسار فأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم، واستولى على أكثر اليمن وسمي بالمنصور، وابتنى حصناً بجبل لاعة، وفرق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند هند ومصر والمغرب.

ولما توفي محمد الحبيب عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له؛ أنت المهدي، وتهاجر بعدي هجرة بعيدة فتلقى محنَاً شديدة. واتصل خبره بسائر دعاته في إفريقية واليمن، وبعث إليه أبو عبد الله الشيعي رجالاَ من كتامة يخبرونه بما فتح اللّه عليهم، وأنهم في انتظاره، وشاع خبره واتصل بالخليفة العباسي على المكتفي، فطلبه ففر من أرض الشام إلى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه الآخر أبو القاسم غلاماً حدثَاً، وخاصته ومواليهم، بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها علي بن الفضل، وأنه أساء السيرة، فانثنى عن ذلك، واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي داعيتهم بالمغرب، فارتحل هو ومن معه من مصر إلى الإسكندرية، ثم خرجوا من الإسكندرية في زي التجار، وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر - وهو يومئذ عيسى النوشري - بخبرهم والقعود لهم بالمراصد، وكتب إليه بنعته وحليته فسرح في طلبهم، ثم وقف عليهم وامتحن أحوالهم؛ فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم، وجد المهدي في السير، وكانت له كتب في الملاحم منقولة من آبائه، سرقت من رَحْلِهِ في طريقه، فيقال: إن ابنه أبا القاسم استردها من برقة حين زحف إلى مصر.

ثم إن المهدي أغزى ابنه أبا القاسم، وجموع كتامة سنة إحدى وثلاثمائة إلى الإسكندرية ومصر، وبعث أسطوله في البحر في مائتي مركب، وشحنها بالأمداد، وعقد عليها لحباسة بن يوسف، فسارت العساكر فملكوا برقة والإسكندرية والفيوم، فبعث المقتدر عساكر من بغداد مع سُبكتكين ومؤنس الخادم؛ فتواقعوا معهم مراراً وأجلوهم عن مصر؛ فرجعوا إلى المغرب.

ثم أعاد المهدي حباسة في العسكر في البحر سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر، فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرات، وكان الظهور آخراً لمؤنس، وقتل من أصحاب حباسة حوالي سبعة آلاف، وانصرف إلى المغرب فقتله المهدي، فانتقض عليه لذلك أخو حباسة واسمه عروبة، واجتمع عليه من كتامة خلق كثير من كتامة والبربر؛ فسرح إليه المهدي مولاه غالباً في الجيوش؛ فهزمهم وقتل عروبة وبني عمه في أمم لا تحصى.

ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتخذها معصماً لأهل بيته، لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج. ويحكى عنه أنه قال: بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها، فخرج بنفسه يرتاد موضعاً لبنائها، ومر بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها؛ جزيرة متصلة بالبر؛ كصورة كف اتصلت بزند فاختطها، وهي المهدية، وجعلها وأدار ملكه، وأدار عليها سوراً محكماً، وجعل لها أبواباً من الحديد، وزن كل مصراع مائة قنطار.

وابتدأ بناءها آخر سنة ثلاث وثلاثمائة، ولما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب ونظر إلى منتهاه، وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار - يعني أبا يزيد - وأبو يزيد هذا خارجي خرج عليه، نهب باجة وغيرها، وأحرق وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأخبية والبيوت وآلات الحرب، وأهدى إليه رجل حماراً أشهب، وكان يركبه وبه لقب، وكان يلبس جبة صوف قصيرة ضيقة الكمين، وهو أبو يزيد بن مخلد بن كيداد، وكان جده كيداد من أهل قسطيلية من بلد توزر، وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة، وبها ولد ولده أبو يزيد المذكور، ثم أمر أن ينحت في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين، ويخبأ في أرضها أهراء الطعام ومصاح للمياه، وبنى فيها القصور والدور، فكملت سنة ست وثلاثمائة. فلما فرغ منها قال: اليوم أمنت على الفواطم.

ثم جهز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرة ثانية سنة سبع وثلاثمائة فملك الإسكندرية، ثم سار وملك الجيزة والأشمونين وكثيراً من الصعيد، وكتب إلى أهل مكة بطلب الطاعة فلم يجيبوه إليها، وبعث المقتدر مؤنساً الخادم في العساكر؛ فكانت بينه وبين أبي القاسم عدة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والوباء، فرجع إلى إفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهدية إلى الإسكندرية في ثمانين أسطولاَ؛ مددَاً لأبي القاسم.

ثم توفي عبيد اللّه المهدي في ربيع سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد، ويقال: نزار، ولقب القائم بأمر اللّه؛ فعظم حزنه على أبيه، حتى يقال: إنه لم يركب سائر أيامه إلا مرتين. وكثر الثوار عليه في النواحي، فسير إليهم وأخذهم، واستباح أموالهم وديارهم، وحاصر الأدارسة ملوك الريف، ودخل المغرب وحاصر فاس، واستنزل عاملها أحمد بن بكر، ثم بعث عسكراً إلى مصر مع خادمه زيران فملكوا الإسكندرية، فجاءت عساكر الإخشيد من مصر؛ فأزعجوهم عنها؛ فرجعوا إلى المغرب.

ثم توفي القائم أبو القاسم، محمد بن عبيد الله المهدي، صاحب إفريقية بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل، وذلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ فقام بعده ولده إسماعيل بعهده إليه، وتلقب بالمنصور. هذا ما ذكره ابن خلدون، ثم استمر في ذكر تعدادهم - واحداً بعد واحد - إلى آخرهم العاضد لدين اللّه.

وأما غير ما ذكره ابن خلدون في شأنهم، فقال به جماعات كثيرون منهم الإمام الحافظ الذهبي في تاريخه دول الإسلام، ونصه: اعلم أن مبدأ أمرهم ومنشأ خبرهم، أن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه القداح - لأنه كان يعالج العيون بالقدح فتبصر - ابن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهم - قدم إلى سلمية، وكان له بها ودائع وأموال من ودائع جده عبد الله القداح، فاتفق أن جرى بحضرته ذكر النساء، فوصفت له امرأة يهودي حداد مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن والجمال، وله منها ولد يماثلها في الجمال، فتزوجها وأحبها، وحسن موضعها منه، وأحب ولدها فعلمه العلم، وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة، وكان الحسين يدعيِ أنه الوصِي وصاحب الأمر، والدعاة بالمغرب واليمن يكاتبونه، ولم يكن له ولد؛ فعهد إلى اليهودي ابن الحماد ربيبه، وأعطاه الأموال، وأمر أصحابه بطاعته وخدمته، وقال: إنه الإمام الرضي، وزوجه ابنة عمه، وهو جدهم عبيد الله فتلقب بالمهدي، ووضع لنفسه نسباً هو عبيد الله بن الحسن بن عَلِي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلما توفي الحسين قام بعده المهدي هذا، فلما انتشرت دعوته أرسل إليه داعيه بالمغرب بما فتح اللّه عليه من البلاد، وأنهم ينتظرون قدومه إليهم؛ فشاع خبره عند الناس أيام المكتفي العباسي علي بن المعتضد؛ فطلبه فهرب هو وولده نزار الملقب بالقائم، وهو يومئذٍ غلام، ومعهما خاصتهما ومواليهما، فلما وصلا إلى إفريقية أحضر الأموال منها واستصحبها معه، فوصل إلى رقادة في العشر الأخير من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائتين، ونزل في قصر من قصورها، وأمر أن يدعى له في الخطبة في جميع تلك البلاد، وجلس يوم الجمعة للمبايعة، وأحضر الناس بالعنف، ودعاهم لمذهبه، فمن أجاب أحسن إليه ومن أبى حبسه، فاستمر على ذلك إلى أن كانت وفاته سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

ثم قام من بعده ابنه نزار، وتلقب بالقائم بأمر الله تعالى، واستمر إلى أن مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

ثم قام من بعده ابنه إسماعيل، وتلقب بالمنصور. انتهى ما ذكره الحافظ الذهبي.

قال ابن خلكان في ترجمة المنصور هذا: وذكر أبو جعفر، أحمد بن محمد المروذي، قال: خرجت مع المنصور بن القائم بن المهدي العبيدي، صاحب إفريقية، يوم هزم أبا يزيد الخارجي فسايرته وبيده رمحان، فسقط أحدهما مراراً، فمسحته وتفاءلت له فأنشدته: من الطويل:

فأَلقَتْ عَصَاها واستَقَر بِهَا النَوى ... كَمَا قَرَ عَيْناً بالإياب المُسافِرُ

فقال: هلا قلت ما هو خير من هذا وأصدق " وَأَوحَينا إِلىَ مُوسَى أَن ألقِ عَصاك فإذا هيَ تَلقَفُ مَا يأفكوُنَ فَوَقَعَ الحقَّ وَبطلَ مَا كانوا يعَمَلُونَ فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وَاَنقَلَبوُا صاغِريِن " " الأعراف: 117 - 119 " فقلت: يا مولانا، أنت ابن رسول اللّه، قلت ما عندك لما عندك من العلم.

وكان المنصور شجاعاً رابط الجأش، فصيحاً بليغَاً، يرتجل الخطب ارتجالا، وتوفي بمدينته التي بناها وسماها المنصورية. انتهى ما ذكره ابن خلكان.

وإفريقية بكسر الهمزة والفاء الساكنة والراء المكسورة بعدها مثناة تحتية فقاف مكسورة فمثناة تحتية مشددة: إقليم عظيم ببلاد المغرب، افتتح في خلافة عثمان بن عفان - رضي اللّه تعالى عنه.

ثم قام من بعده ابنه معد الملقب بالمعز بن إسماعيل، الملقب بالمنصور بن نزار، الملقب بالقائم بن عبيد اللّه، الملقب بالمهدي. هذا المعز أول من ملك مصر من العبيديين، أرسل عبده جوهراً الرومي الصقلي، أرسله من إفريقية بلاد المغرب؛ لأخذ بلاد مصر عند اضطراب جَيشِهَا بعد موت كافور الإخشيدي، فلم يجتمعوا عليه؛ فأرسل بعضهم إلى المعز يستنجد به، فأرسل مولاه جوهراً هذا في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فوصل إلى القاهرة في شعبان في مائة ألف مقاتل، ومعه من الأموال ألف ومائتا صندوق، وقيل: خمسمائة صندوق، فانزعج الناس، وأرسلوا يطلبون إليه الأمان فآمنهم؛ فلم يرض الجيش بذلك، وبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الأمان لأهلها، ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من شعبان، فشق مصر ونزل في مكان القاهرة اليوم وأسس من ليلته القصرين، وخطب يوم الجمعة الآتية وقطع الدعاء لبني العباس، ودعا لمولاه المعز وذكر الأئمة الاثني عشر، وأذن بحي على خير العمل، وكان يظهر الإحسان إلى الناس، ويجلس كل يوم سبت مع الوزير جعفر بن الفرات، واجتهد في تكميل القاهرة، وفرغ من جامعها سريعاً وهو الجامع الأزهر المشهور، وأرسل أميرَاً من أمرائه - يسمى جعفر بن فلاح - إلى الشام، فأخذها لسيده المعز، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وصحبته توابيت آبائه، فلما وصل إلى الإسكندرية في شعبان منها تلقاه أعيان مصر؛ فخطب الناس هناك خطبة بليغة ارتجالاَ، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب وقال: إن اللّه تعالى قد أغاث الرعايا بهم وبذويهم، حكى ذلك قاضي بلاد مصر، وكان جالساً إلى جانبه، ثم إنه سأله: هل رأيت خليفة أفضل مني. فقال القاضي: لم أر أحداً من الخلائف سوى أمير المؤمنين، فقال له: أحججت. فقال: نعم، قال: وزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقبر أبي بكر وعمر. قال: فتحيرتُ ماذا أقول، ثم نظرت فإذا ابنه قائم مع كبار الأمراء فقلت: شغلني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهما، كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد، ونهضت إليهما فسلمت عليهما، ورجعت فانفسح المجلس إلى غير هذا المجال.

ثم سار من الإسكندرية إلى مصر فدخلها في اليوم الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل بالقصرين، ثم كانت أول حكومة انتهت إليه: أن امرأة كافور الإخشيدي تقدمت إليه فذكرت له أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوج بالذهب، وأنه جحدها ذلك؛ فاستحضره وقرره، فجحد اليهودي ذلك وأنكره فأمر عند ذلك المعز أن تحفر داره وأن يستخرج ما فيها فوجدوا القباء قد جعله في جرة ودفنه، فسلمه المعز إليها، فتقدمت إليه وعرضته عليه فأبى أن يقبله منها ورده عليها، فاستحسن ذلك منه الحاضرون من مؤمن وكافر، وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اللّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .

وفي بعض التواريخ: أنه سئل في ذلك المجلس عن نسبه فاستل سيفه إلى نصفه بيمناه، وقبض قبضة من الذهب بيسراه فقال: هذا نسبي، وهذا حسبي. واللّه أعلم بصحة ذلك.

وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة عملت الروافض البدعة الشنعاء يوم عاشوراء ببغداد؛ من تعليق المسوح، ونثر النتن في الأسواق، وخروج النساء سافرات الوجوه والنهود، ينحن على الحسين رضي اللّه تعالى عنه. ووقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض، وكلا الفريقين قليل عقل بعيد من السداد؛ وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملا وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة والزبير، وقاتل مقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، فقتل من الفريقين خلق كثير، وعاثت العيارون في البلد بالفساد، ونهبت الأموال، وقتل الرجال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة.

قال العلامة ابن الأثير في كامله: لما استقر المعز الفاطمي في الديار المصرية وتأطد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي الأحسائي، قال ابن عساكر: وبقية نسبه: ابن أبي سعيد الحسن بن بهرام، ويقال: الحسن بن أحمد بن الحسن بن يوسف بن كودر كار، يقال: أصلهم من الفرس، قال: ويعرف الحسين هذا بالأعصم، وكان قد تغلب على دمشق سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ثم عاد إلى بلده الأحساء بعد سنة، ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي. ذكر له الحافظ ابن عساكر أشعاراً حسنة رائقة فائقة؛ فمن ذلك ما كتبه إلى جعفر بن فلاح قبل الحرب بينهما، وهو هذه الأبيات: من البسيط:

أَلحَربُ ساكِنَة والخيلُ صَافِنَة ... والسلمُ مبتَذَل والظل مَمُدودُ

فإن أنبتُم فَمَقبُول إِنَابَتُكُم ... وإن أبيتُم فَهَذا الكُورُ مَشدُودُ

على ظهورِ المَطَايا أو يَرِدنَ بِهَا ... دِمَشقَ وَالبَابُ مَهدُوم ومَردُودُ

إني امرُؤ لَيس من شَأني ولا أَرَبِي ... طَبل يَرِن وَلاَ نَايٌ وَلاَ عُودُ

ولاَ اعتِكَافْ عَلَى خمرٍ ومجمَرَةٍ ... وذاتِ دَل لهَا عَد وتفنيدُ

ولا أَبيتُ بَطِينَ البَطنِ من شِبَعِ ... وَلي رفيق خميص البَطنِ مَجهودُ

ولا تَسَامَت بِيَ الدنيا إِلَى طَمَع ... يَوماً وَلاَ غَرنِي منها الموَاعيد

ومن شعره أيضاً قوله: من الكامل:

يَا سَاكِنَ البَلَدِ المَنِيعِ تَعززا ... بِقِلاَعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ

لاَ عِز إِلا لِلعَزِيزِ بِنَفْسِهِ ... وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ

ثم في هذا العام، وهو عام ثلاث وستين وثلاثمائة سار إلى مصر في جيش كبير من أصحابه، والتقى معه أمير العرب ببلاد الشام، وهو حسان بن الجراح الطائي في عرب الشام بكمالهم، فلما سمع به المعز الفاطمي سقط في يده لكثرتهم؛ فكتب إلى القرمطي يستميله ويقول له: إن دعوة آبائك إنما كانت لآبائي قديماً، فدعوتنا واحدة. ويذكر فضله وفضل آبائه. فرد له الجواب بقوله: من الكامل:

زَعَمت رِجَالُ العُرْب أَني هِبْتُهَا ... فَدَمِي إِذَن مَا بَينْهَا مَطلُولُ

يَا مِصْرُ إن لَم أَسقِ أَرَضَكِ مِن دَمِ ... يَرْوِي ثَرَاكِ فَلاَ سَقَانِي النيلُ

وصل كتابك الذي كثر تفصيله وقل تحصيله، ونحن سائرون على أثره والسلام. فلما انتهوا إلى أطراف مصر عاثوا قتلا ونهباً وفساداً، وحار المعز ماذا يفعل؛ لكثرة من مع القرمطي، وضعف جيشه عن مقاومته؛ فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب، ووعده بمائة ألف دينار؛ فأرسل إليه حسان أن ابعث إلي بما التزمت في أكياس، وأقبل بمن معك، فإذا التقينا انهزمتُ بمن معي، فأرسل إليه المعز بمائة ألف في أكياس، ولكنها زغل أكثرها ضرب النحاس، وألبسه ذهباً وجعله في أسفل الأكياس، ووضع في رءوس الأكياس الدنانير الخالصة. ولما بعثها إليه ركب في أثرها بجيشه فالتقى الناس، فلما تواجه الفريقان ونشبت الحرب بينهما - انهزم حسان بن الجراح بالعرب، فضعف جانب القرمطي وقوي عليه المعز الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة بين يديه؛ فرجعوا إلى أذرعات في أذل حال، وبعث المعز في آثارهم بعض الأمراء في عشرة آلاف فارس ليحسم مادة القرامطة.

ولما أرسل جوهر القائد الرومي الصقلي رسولا إلى سيده المعز الفاطمي بإفريقية يبشره بفتح الديار المصرية وإقامة الدعوة والخطبة له بها - فرح فرحَاً شديداً. وامتدحه الشعراء فكان ممن امتدحه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي بالقصيدة المشهورة وهي: من الطويل:

تَقُولُ بنو العباسِ هَل فُتِحَت مِصرُ ... فَقُل لبني العباسِ قَد قُضِي الأَمرُ

وقد جَاوَزَ الإسكندريةَ جَوهَر ... تطالِعُهُ البُشْرى ويَقْدمُهُ النَّصْرُ

وقد أَوْفَدَت مِضر إليهِ وُفودَهَا ... وَزِيدَ على المعقودِ مِنْ جسرِهَا جِسْرُ

فمَا جَاء هنا اليومُ إلا وَقَدْ غَدَتْ ... وأيْدِيكُمُ مِنْهَا ومِنْ غَيرِها صِفْر

فلا تكثِرُوا ذَمَّ الزمَانِ الذي خَلاَ ... فَذَلِكَ عَصْرْ قد تَقَضى وَذَا عَصْرُ

أَفي الجيشِ كنتُم تَمْتَرُونَ رُوَيدَكُم فهذا القَنَا العَرَاصُ والعَسْكَرُ المَجْرُ

وقد أَشْرفَتْ خيلُ الإِلهِ طَوَالِعاً ... عَلَى الدينِ والدنيا كَمَا طَلَعَ الفَجْرُ

وَذَا ابنُ رَسولِ الله يطلُبُ وَتْرَه ... وكَانَ حَرٍ ألاَ يَضِيعَ لَهُ وَتْرُ

ذَرُوا الوِردَ في مَاءِ الفُرَاتِ لِخيلِهِ ... فلا الضحلُ منه تمنَعُونَ ولا الغَمْرُ

أفي الشمسِ شك إِنها الشمسُ بَعدَ مَا ... تَجَلَّتْ عِيَاناً ليسَ مِنْ دويها سِتْرُ

وَمَا هِيَ إلا آيةٌ بعدَ آية ... ونذرٌ لكم إِن كَانَ تُغِنيكُمُ النذْرُ

وكونُوا حَصِيداً خامِدِينَ أوِ ارْعَوُوا ... إلى مَلِكٍ في كَفه الموتُ والنشْر

أَطِيعُوا إماماً للأئمةِ فَاضِلا ... كمَا كَانَتِ الأعمَالُ يَفْضُلُهَا البِرُّ

رِدُوا سَاقيَاً لا تُنْزِفُونَ حِيَاضَهُ ... جموعاً كما لا تُنْزِفُ الأبْحُرَ الذر

فإن تَتبَعُوهُ فَهوَ مولاكُمُ الذِي ... لَهُ بِرَسُولِ اللّه دُونَكُمُ الفَخْرُ

وإلاَّ فبُعْدَاً للبَعِيدِ فَبَيْنَهُ ... وبينَكُمُ مَا لاَ يُقربهُ الدَّهْرُ

أَفي ابْنِ أبي السبْطينِ أمْ في طليقِكُم ... تَنزلتِ الآياتُ والسوَرُ الغُرُ

بني نتلةِ ما أَوْرَثَ الله نتلة ... وَمَا ولدَتْ هَلْ يستوي العَبْدُ والحُرُ

وَأَنَّى بِهذَا وهيَ أعْدَت بلُؤْمِهَا ... أَبَاكُمْ فإِيَّاكُمْ ودَعْوَى هِيَ الكُفْرُ

ذرُوا الناسَ رُدوهُمْ إلى مَن يَسُوسُهُمْ ... فَمَا لَكُمُ في الأمرِ عُرف ولا نُكْرُ

أسرتُمْ قُروما بالعراقِ أعِزة ... فَقَدْ فُك من أعناقِهِمْ ذلِك الأَسْرُ

وقد بَزكُمْ أيامَكُمْ عَصَبُ الهُدَى ... وَأَنْصَارُ دِينِ اللَهِ والبيضُ والسمْرُ

وَمُقْتَبِل أَيامَهُ مُتَهلل ... إِلَيْهِ الشَّبابُ الغَضُ والزَّمَنُ النضْرُ

أَدَارَ كَمَا شَاءَ الوَرَى وتَحَيزَتْ ... على السبعةِ الأَفْلاَكِ أُنْمُلُهُ العَشْرُ

أَتدْرُونَ مَنْ أزكى البريةِ مَنصِباً ... وأفضلُهَا إِنْ عُددَ البَدْوُ والحَضْرُ

تعالَوْا إِلى حكامِ كُل قبيلةِ ... فَفي الأَرْضِ أَقْيَال وأندِيَةٌ زُهْرُ

وَلاَ تَعْدِلُوا بالصيدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... ولا تَتْرُكوا فِهْرَاً وَمَا جمعتْ فِهْرُ

فجيئوا بمَن ضمتْ لؤَي بنُ غالب ... وجِيئوا بمن ضمت كنانَةُ والنضرُ

ولا تذَرُوا عُليَاً مَعد وعِزهَا ... ليُعرَفَ منكُم مَن لَهُ الحق والأَمرُ

ومِن عَجَب أن اللسانَ جَرَى لَهُم ... بذكرٍ عَلَى حينَ انْقَضَوا واتقَضى الذكرُ

فَبَادُوا وعفي الله آثارَ مُلكِهِم ... فَلاَ خَبَر تلقَاهُ عنهُمْ ولا خُبْرُ

أَلاَ تلكمُ الأَرْضُ الأَرِيضَةُ أَصبَحَت ... وَمَا لِبني العباسِ في عُرْضِهَا فِترُ

فَقَد دَالَتِ الدنيَا لآلِ محمدٍ ... وقد جررَت أذيالَهَا الدولةُ البِكْرُ

ورد حقوقَ الطالبيينَ مَن زكَت ... صنائِعُهُ في آلِهِ وزَكَا الذُّخْرُ

مُعِز الهُدَى والدين والرحِمِ التي ... بِهِ اتصلَتْ أسبَابُهَا ولَهُ الشُكْرُ

مَنِ انَتاشَهُمْ في كل شرقٍ ومغرب ... فبُدلَ أَمْناً ذَلِكَ الخَوْفُ والذعرُ

وكلُّ إمامي يَجيءُ كَأَنَّما ... على يَدهِ الشعْرَى وَفي وجْهِهِ البَدرُ

ولما تولتْ دولةُ النصبِ عَنْهُمُ ... تولى العَمَى والجَهلُ واللُؤمُ والغَدرُ

حقوق أتَت من دونهَا أَعصُرٌ خَلَت ... فَمَا رَدهَا دَهْر عليهِمْ ولا عَصرُ

فجردَ ذو التاجِ المقاديرَ دونَهَا ... كما جُردَت بيض مضارِبُها حُمرُ

وأنقذَها مِن بُرثُنِ الدهرِ بعدَمَا ... تواكَلَها الفرْس المنيب والهَصْرُ

وأجْرَى على ما أنزل اللهُ قَسمَهَا ... فَلَم يَنْخَرِمْ فيهَا قليل ولا كُثْرُ

فدونَكُمُ يَا آلَ بَيْتِ محمد ... صَفت بمعز الدينِ حَمْأَتُها الكُدرُ

فقد صَارَتِ الدنيا إليكم مَصِيرَهَا ... وَصَار له الحمْدُ المُضَاعَفُ والأَجْرُ

إمامٌ رأيتُ الدينَ مُرْتَبِطاً بهِ ... فَطَاعَتُه فَوزٌ وعِصيَانه خُسْرُ

أرَى مَدحَهُ كالمدحِ للّه إِنَه ... قُنُوت وَتسبِيح يُحَط به الوِزرُ

هُوَ الوَارِثُ الدنيا وَمَنْ خُلِقَت لَه ... مِنَ الناسِ حَتى يلتقي القطر والقطْرُ

وما جَهِلَ المنصورُ في المَهدِ فَضلَهُ ... وقد لاحَتِ الأعلاَمُ والسمة البُهرُ

رَأَى أَنْ يُسمي مالكَ الأرضِ كلها ... فلما رآه قَالَ ذَا الصمَدُ الوَتْرُ

وَمَا ذَاكَ أخذٌ بالفَرَاسَةِ وحدَهَا ... وَلاَ أنه فِيها إلى النطقِ مُضطَرُ

ولكن مَرجُواً مِنَ الأَثَرِ الذي ... تَلَقاهُ عَن حَبرِ ضَنِينٍ به حبرُ

وكنزاً مِنَ العِلمِ الربُوبِي إِنه ... هوَ العلمُ حقاً لا العِيَافَةُ والزجرُ

فبشرْ به البيتَ المحرمَ عَاجِلاَ ... إذَا أَوجَفَ التطوَافُ بالناسِ والنفرُ

وَهَا فَكَأَن قد زارَهُ وتجانَفَت ... به عَن قصورِ المُلْكِ طيبة والسر

هلِ البيتُ بَيتُ اللّه إلا حَرِيمُه ... وهَل لِغَريبِ الدارِ عَنْ دارِهِ صَبْرُ

مَنَازِلُهُ الأُولَى اللواتي يَشُقنَهُ ... فليْسَ له عنهن مَعْدى ولا قَصْرُ

وحيثُ تلقى جَدُه القدسَ وانتحت ... لَهُ كلماتُ اللَّهِ والسر والجَهْرُ

فإن يَتَمَن البيتُ تلكَ فَقَد دَنَت ... مواكِبُها والعُسْرُ مِنْ بعدِه اليُسْرُ

ألستَ ابنَ بانِيهِ فلو جِئتَهُ انجلَت ... غَوَاشِيهِ وابيَضتْ مناسِكُه الغُبْرُ

حبيبٌ إِلَى بطحاءِ مَكةَ موسِمْ ... تحيي مَعَداً فيهِ مَكَّةُ والحِجْرُ

هناكَ تضيءُ الأرضُ نورَاً وتلتقِي ... دُنُوا فلا يَسْتَبْعِد السَّفَرَ السفْرُ

وتُدْري فروضُ الحج مِنْ نَافِلاَتِهِ ... ويَمْتَازُ عند الأمةِ الخَيْرُ والشَر

شهدتُ لَقَد أعززتَ ذَا الدينَ عِزة ... خَشِيتُ لَهَا أن يَستَبِد بكَ الكِبْرُ

وأمضيتَ عزماً ليسَ يَعصيكَ بَعده ... مِنَ الناسِ إلا جَاهِل بك مُغْتَرُ

فلم يبق إلا البُرْدُ تترى وَقَد نَأَى ... عليكَ به أَقصَى مَوَاعيدِه شَهْرُ

وما ضَرَ مِصرَاً حينَ ألقت قِيَادَهَا ... إِليك أمُدَ النيلُ أم غَالَهُ الجَزْرُ

وقد حُبرت فيهَا لك الخُطَبُ التي ... بَدَائِعُها نَظمْ وألفَاظُهَا نَثْرُ

فلم يُفتَرَق فيهَا لِذِي ذمة دَم ... حَرَام ولم يُحمَلْ على مُسْلِمٍ إِصرُ

غَدَا جَوهَر فيهَا غَمَامَةَ رَحمَةٍ ... يَقِي جَانِبَيْهَا كُل حادثةٍ تَعْرُو

كأني به قَد سَارَ في القومِ سِيرَة ... سَواء إِذَا ما حَل في الأرضِ وَالْقَطْرُ

ومن أين تَعدُوهُ وسيلة مِثلِهَا ... وقَدْ قُلصت في الحربِ عن ساقِه الأُزرُ

وثَففَ تثقيفَ الرُدَينِي قَبلَهَا ... وما الطرفُ إلا أن يُهَذِّبَهُ الضُمرُ

وليسَ الذي يأتي بأولِ مَا كَفَى ... فَشُد بِهِ مُلكٌ وَسُد بِه ثَغْرُ

فما بمَدَاهُ دُونَ عِز تخلف ... وما بِخُطَاه دونَ صَالِحَةٍ بَهرُ

سننتَ لَهُم فيه من العَدلِ سُنة ... هيَ الآية الكبرى وبُرْهَانها السحرُ

على مَا خلا من سنةِ الوَحي مَا خَلا ... فَأَذيَالُهَا تضفُو عليهِمْ وتَنْجَر

وأوصيتَهُ فيهم بِرفقِك مُردِفاً ... بجودِكَ معقوداً بِهِ عندَكَ البِرُ

وَصَاة كما أوصَى بِهِ اللهُ رُسْلَه ... ولَيسَ بأُذنٍ أنتَ مُسْمِعُهَا وَقرُ

وثبتهَا بالكُتبِ في كُل مُدرَجِ ... كَأَن جميعَ الخيرِ في طَيه سَطْرُ

يَقُولُ رجال شاهَدُوا يومَ حُكمِهِ ... بِذَا تَعمُرُ الدنيا وَلَو أنها قَفرُ

بذَا لا ضِيَاع حَلَّلُوا حرماتِها ... وَأَقطَاعَها واستُصفى السهلُ والوَعرُ

فحسبُكُمُ يَا أهلَ مِصرِ بعَدلِهِ ... دليلا على العَدلِ الذي عنه يَفْتَرُ

فذاكَ بيَان واضحٌ عن خليفةٍ ... كثيرُ سِوَاهُ عند مَعرُوفه نَزْرُ

رَضِينَا لَكُم يا أهل مصرٍ بِدَولة ... أطيلَ لَنَا في ظلها الأمْنُ والوَفرُ

لكم أسوَة فينا قديماً فلَم يَكُن ... بأحوالِنَا عنكُم غِطَاء ولاَ سِتْرُ

وهَل نحنُ إلا مَعشَرْ من عُفَاتِهِ ... لَنَا الصافِنَاتُ الجُرْدُ والعَسْكرُ الدثْرُ

فكيفَ مَوَالِيهِ الذِينَ كأنَّهُمْ ... سَمَاءٌ على العافِينَ أَمْطَارُها التبْرُ

لَبِثْنَا به أيامَ دهرِ كَأنما ... بِهَا وَسَنَ أَو مَالَ مَيْلا بها السكرُ

فيا مَلِكاً هَذيُ المَلاَئِكِ هَديُه ... ولكن بَحرَ الأنبياءِ لَهُ بَحرُ

ويا رَازِقَاً من كفهِ نَشَأ الحَيا ... وإلا فَمِنْ أسرَارِهِ يَنبُعُ البَحر

أَلاَ إِنمَا الأيامُ أيامُكَ التي ... ليَ الشطرُ من نَعمَائِها وَلَكَ الشطْرُ

لَكَ الشطرُ منها مَالِكَ المَجدِ والعُلاَ ... وَيَبقَى لَنَا مِنْهَا الحَلُوبةُ والدرُ

لقد جدت حَتى لَيسَ لِلمَالِ طَالب ... وأَعطَيتَ حَتى ما لمُنفِسة قَدْرُ

فلَيسَ لِمن لا يرتَقِي النجمَ هِمة ... وليسَ لِمَن لاَ يَستَفِيدُ الغِنَى عُذْرُ

وَدِدتُ لجيلٍ قد تقدم عصرهُم ... لَوِ استأخَرُوا في حلبَةِ العُمرِ أو كروا

وَلو شَهِدُوا الأيامَ والعَيشُ بَعْدَهُم ... حَدَائِقُ والآمَالُ مُونِقة خُضْرُ

فَلَو سَمِعَ التثويبَ مَن كَانَ رِمة ... رُفَاتاً وَلَبى الحَيَ مَنْ ضمَهُ القَبْرُ

لَنَادَيتُ مَن قَد مَاتَ حَي بِدَولة ... تُقَامُ بِهَا المَوْتَى وَيُرْتَجَعُ العُمْرُ

انتهت.

قلت: قوله بني نتلة يشير إلى بني العباس؛ لأن نتلة أم العباس، وقد أفحش فرمى بني العباس بالكفر والرق والعبودية! فلا قوةَ إلا باللّه.

وكان هذا - محمد بن هانئ - شاعرَاً محبوباً مقرباً عند المعز، استصحبه معه من بلاد القيروان وتلك النواحي حين توجه إلى الديار المصرية، فلما كان ببعض الطريق وُجد محمد بن هانئ مقتولاَ مجدلاَ على حافة البحر، وذلك في رجب، وقد كان شاعراً مطبقاً، قوي النظم؛ إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغاته في مدائحه للمعز خصوصاً. فمن ذلك قوله فيه - قبحهما الله تعالى: من الكامل:

مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقدَارُ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ القَهَارُ

وهذا خطأ كثير، وكفر كبير. وقال - أيضاً - قبحه اللّه وأخزاه وفض فاه: من مجزوء الكامل:

وَلَطَالَمَا زَاحَمْت تَح ... تَ رِكَابِهِ جِبْرِيلاَ

ومن ذلك قوله، قال ابن الأثير: ولم أر ذلك في ديوانه: من مخلع البسيط:

حَل بِرقَّادَةَ المَسِيحُ ... حَل بِهَا آدم وَنُوحُ

حَلَّ بِهَا اللّه ذُو المَعَالِي ... فَكُل شَيْءٍ سِوَاهُ رِيحُ

قال ابن الأثير: وقد شرع بعض المتعصبين له في الاعتذار عنه؛ قال العلامة ابن السبكي في تاريخه: وهذا الكلام - إن صح عنه - فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة، ولا في هذه الدار.

قال في الأرج المسكي: فصارت الخطبة الإسلامية على قسمين، فمن بغداد إلى حلب وسائر ممالك الشرق إلى أعمال الفرات يُخطب فيها للمطيع العباسي، ومن حلب إلى بلاد المغرب مع الحرمين الشريفين يخطب فيها للمعز العُبَيدي هذا.

وتوفي المعز في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة. ثم قام من بعده ابنه نزار الملقب بالعزيز ابن المعز الفاطمي العبيدي، بويع بعد موت أبيه المعز، وقام بتدبيره القائد جوهر غلام والده، وكان يدعي التنجيم فكتب له: من مخلع البسيط:

بِالظلمِ والجَورِ قَدْ رَضِينَا ... وَلَيْسَ بالْكُفْرِ والحَمَاقَهْ

إن كنتَ أُعْطِيتَ عِلمَ غَيب ... بَينْ لَنَا كَاتِبَ البِطَاقَهْ

كان العزيز هذا قد استوزر رجَلين، أحدهما نصراني اسمه عيسى بن نسطورس، والآخر يهودي اسمه ميشا فعز بسببهما أهل تينك الملتين في ذلك الزمان على المسلمين، حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة فقالت فيها: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بميشا، وأذل المسلمين بك!! إلا ما كشفت عن ظلامتي، فعند ذلك أمر بالقبض عليهما، وأخذ من النصراني ثلاثمائة ألف دينار، كذا ذكره ابن السبكي رحمه اللّه تعالى.

قال ابن خلكان: أكثر أهل العلم بالنسب لا يصححون نسب المهدي عبيد اللّه جد خلفاء مصر؛ حتى إن هذا العزيز في أول ما تولى صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هنالك ورقة مكتوباً فيها هذه الأبيات: من السريع:

إِنا سَمِعْنا نَسباً مُنْكَراً ... يُتلَى عَلَى المِنْبَرِ في الْجَامِع

إِنْ كُنْتَ فِيمَا تَدعِي صَادِقاً ... فَاذْكُرْ أَباً بَعْدَ الأَبِ السابع

وَإِنْ تُرِدْ تحقِيقَ مَا قُلْتَهُ ... فَانْسُبْ لَنَا نَفْسَكَ كَالطَائِعِ

أَوْ لاَ دعَ الأَنْسَابَ مَسْتُورَة ... وَادْخُلْ بِنَا في النَّسَبِ الوَاسِعِ

فَإن أَنْسَابَ بني هَاشِمٍ ... يَقْصُرُ عَنْهَا طَمَعُ الطَامِعِ

وتوفي العزيز في رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، فكانت مدته إحدى وعشرين سنة. ثم قام بعده ابنه منصور الملقب بالحاكم بأمر الله، بويع بعد موت أبيه، وهو صاحب الجامع الذي هو داخل باب النصر في القاهرة، وكان أول أمره خيراً، ولما كبر عبد الكواكب، وفعل في حكوماته ما يضحك منه الصبيان من المهملات والقبائح، واستمر إلى أن عملت أخته على قتله فقتل.

قال ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان في ترجمة الحاكم بأمر اللّه: كان له حمار أشهب، يدعى بقمر يركبه، وكان يحب الانفراد والركوب وحده، فخرج راكبَاً حماره ليلة الاثنين رابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليله كله، وأصبح متوجهاً إلى شرق حلوان، ومعه ركابيان؛ فأعاد أحدهما ثم أعاد الآخر، وبقي الناس يخرجون يلتمسون رجوعه، ومعهم دواب الموكب إلى يوم الأحد سلخ الشهر المذكور، ثم خرج ثاني القعدة جماعة من الموالي والأتراك، فأمعنوا في طلبه، وفي الدخول في الجبل، فرأوا الحمار الأشهب الذي كان يركب عليه وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بسيف وعليه سرجه ولجامه، فتبعوا الأثر إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جبات، ووجدت مزررة لم تحل أزرارها وفيها أثر السكاكين، فحملت إلى القصر ولم يشكوا في قتله، غير جماعة من الغالين في حبهم له، السخيفين عقولا؛ يظنون حياته وأنه سيظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم.

وكان الحاكم جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، وكانت سيرته عجباً، يخترع كل يوم حكماً يحمل الناس عليه؛ فمن ذلك أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بكتب سب الصحابة - رضي اللّه تعالى عنهم - في حيطان المساجد والقناطر والشوارع، وكتب به إلى سائر البلدان من الديار المصرية، ثم أمر بقطع ذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وأمر بضرب من سب الصحابة وتأديبه، وأمر بقتل الكلاب؛ فلم ير كلب في الأسواق والأزقة إلا قتل، ونهى عن بيع الفقاع والملوخيا، ونهى عن بيع الزبيب قليلة وكثيرة، وجمع جملة كثيرة منه فأنفق على إحراقها ما يساوي خمسمائة دينار، ثم منع من بيع العنب أصلاَ، وألزم اليهود والنصارى أن يتميزوا في لباسهم عن المسلمين في الحمامات وخارجها، ثم أفرد حمامَاً لليهود وحماماً للنصارى، وألزمهم ألا يركبوا أشياء من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم الخشب، ولا يستخدموا أحداً من المسلمين، ولا يركبوا حماراً لمكار مسلم، ولا سفينة نوتيها مسلم.

وفي سنة خمس وأربعمائة منع النساء من الخروج من المنازل أو يطلعن من الأسطحة والطاقات، ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومن الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقاً منهن على مخالفة ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز عجائز يطفن في البيوت يستعلمن أحوال النساء من منهن تعشق أو تعشق بأسمائهن وأسماء من يعترض لهن، وكثر من الدوران بالليل، وغرق من اطلع على فسقه من الرجال والنساء، فضاق النطاق عليهن وعلى الفساق، ولم يتمكن أحد منهم أن يصل إلى أحد إلا نادراً؛ حتى إن امرأة نادت قاضي القضاة بالديار المصرية، وهو مالك بن سعد الفارقي، وحلفته بحق الحاكمِ لما وقف لها فاستمع كلامها؛ فوقف لها فبكت بكاء شديداً وقالت: إن لي أخاً ليس لي غيره وهو في السياق، وأنا أسألك لما وصلتني إلى منزله لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، فرق لها القاضي رقة شديدة، وأمر رجلين معه أن يكونا معها حتى يبلغاها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح جارتها، وذهبت حتى وصلت مع الرجلين إلى منزل فطرقت الباب ودخلت، وقالت لهما: اذهبا راشدين، فإذا هو منزل رجل تهواه ويهواها، فأخبرته بما احتالت به على القاضي، فأعجبه ذلك، وجاء زوجها آخر النهار فوجد بابه مغلقاً، فسأل عن أمرها فذكر له ما صنعت، فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال: ما أريد امرأتي إلا منك؛ فإنها ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى عشيقها؛ فخاف القاضي من معرة هذا الأمر، فركب إلى الحاكم وبكي لديه، فسأله عن شأنه، فأخبره بما اتفق من الأمر، فأرسل الحاكم مع الرجلين من يحضر الرجل والمرأة جميعاً على أي حال كانا عليه، فوجدوهما متعانقين سكرانين، فسألهما القاضي عن حالهما، فأخذا يعتذران بما لا يجدي، فأمر بتحريق المرأة في بارية، وضرب الرجل بالسياط ضربَاً مبرحاً. وازداد احتياط الحاكم على النساء حتى مات. ذكر هذا ابن الجوزي في المنتظم. وأمر بهدم القمامة وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات، وجميع ما لها من الأحباس لجماعة من المسلمين، وأمر ألا يتكلم أحد في صناعة النجوم، وأن ينفي المنجمون من البلاد، وكذلك أصحاب الغناء. ثم أمر ببناء ما كان هدمه من الكنائس، ورد ما كان أخه من أحباسها. انتهى.

حلوان: مدينة كثيرة النزه فوق مصر بمقدار خمسة أميال، كانت مسكن عبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز، وبها ولد عمر رضي اللّه تعالى عنه.

وقال العلامة السبكي في تاريخه عند ذكر الحاكم: ولنذكر شيئاً من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه اللّه ولا وقاه شراً:

كان - قبحه اللّه - كثير التلون في أفعاله وأقواله، جائراً في كيفية بلوغ ما يؤمله؛ لأنه كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها قارون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، فكان قد أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن تقوم الناس على أقدامهم صفوفاً؛ إعظاماً لذكره واحترامَاً لاسمه! فكان هذا يفعل في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً، حتى إنه يسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، وابتنى المدارس وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وخربها. وألزم الناس بإغلاق الأسواق والدكاكين نهاراً وفتحها ليلاَ، فامتثلوا ذلك دهرَاً طويلا، حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه وقال: ألم أنهكم عن هذا؟ فقال: يا سيدي أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار؟ فهذا من جملة السهر. فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول. وكل هذا منه تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة، ليرقى إلى ما هو أهم من ذلك لعنه اللّه.

وقد كان يعمل الحسبة بنفسه؛ يدور في الأسواق على حماره فمن وجده قد عثر في معيشته أمر عبدَاً أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون لم يسبق إليه - لعنه اللّه - وكانت العامة يبغضونه ويكتبون له الأوراق التي فيها الشتيمة البليغة له ولأسلافه وحريمه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد حنقَاً عليهم، حتى إن أهل مصر حملوا صورة امرأة من ورق بخفها وإزارها وفي يدها قصة فيها من الشتم والقبائح شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها؛ فرأى ما فيها فأغضبه جداً وأمر بقتل تلك المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظاً على غيظه ثم لما وصل إلى القاهرة أمر العبيد من السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها، وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، فذهب العبيد فامتثلوا ما أمرهم به فقاتلهم أهل مصر قتالاَ عظيماً ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحرم، وفي كل يوم يخرج بنفسه - لعنه اللّه - فيقف من بعيد ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟! ثم اجتمع الناس في الجوامع فرفعوا المصاحف، وجأروا إلى اللّه تعالى واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم؛ فقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم السودان وتفاقم الحال جداً. ثم ركب الحاكم ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل من القضية، وأن العبيد ارتكبوا ذلك عن غير علمه، وهو ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الحال حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبي حريم خْلق كثير ففعل بهن الفواحش والمنكرات، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفاً من العار والفضيحة، واشترى الرجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد. انتهى ما قاله ابن السبكي.

وقَالَ ابن الجوزي في كتابه المنتظم، في ذكر الأمم، من العرب والعجم: ثم زاد ظلم الحاكم وعن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت!! وكان قد تعدى شره الناس حتى إلى أخته؛ يتهمها بالفاحشة ويسمعها أغلظ الكلام؛ فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت فيه أكبر الأمراء، وكان يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله فواطأها على ذلك، وجهز من عنده عبدين أسودين فقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا بجبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل ينظر في النجوم، وليس معه إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه. واتفق الحال على ذلك وتقرر، فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم: لا بد أن في هذه الليلة علي قطعاً عظيمَاً؛ فإن نجوت منه عمرت نحواً من ثمانين سنة، فقالت له أمه: يا مولاي، فإذا كان الأمر كما تقول، فارحمني ولا تترك ليلتك هذه إلى موضع أصلا. وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر فنام إلى قريب ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي؛ فثار وركب فرساً وتبعه صبي وركابي حتى صعد جبل المقطم، فاستقبله ذالك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعاً يديه ورجليه وبقرا بطنه، وأتيا به مولاهما، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير، وقد أطلعته على الحيلة، فبايعته لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله.

وكان بدمشق فاستدعته، وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس بذلك، وجعلت ترسل ركابين يصعدون الجبل ويجيئون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين من بعدهم تركناه في موضع كذا وكذا حتى اطمأن الناس وقدم ابنه، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلته حلية عظيمة، فأجلسته على السرير فبايعه الأمراء والرؤساء، وأطلقت لهم الأموال الجزيلة، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم؛ وقوفاً في خدمته، ثم أمرتهم في بعض الأيام أن يقولوا له: أنت قاتل مولانا ثم يهتبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها، فعظمت هيبتها، وقويت حرمتها، وثبتت دولتها؛ فإنها هي التي كانت متولية الأمور لدولة ابن أخيها.

وكان عمر الحاكم حين قتل سبعَاً وثلاثين سنة، وكان قتله سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ومدة ملكه خمسَاً وعشرين سنة، لعنه اللّه وقبحه.

وفي ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعمائة في دولة الحاكم المذكور، كتبت ببغداد محاضر تتضمن اللعن والقدح في نسب الخلفاء المصريين الذين يزعمون أنهم فاطميون وليسوا كذلك، وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والفقهاء والأشراف والأماثل والمعدلين والصالحين، شهدوا جميعاً أن الناجم، وهو منصور ابن نزار الملقب بالحاكم بأمر الشيطان لا بأمر الله - حكم اللّه عليه بالبوار والدمار، والخزي والنكال والاستئصال، ابن معد بن إسماعيل بن محمد القائم ابن سعيد، لا أسعده اللّه؛ فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، ومن تقدم من سلفه من الأرجاس والأنجاس - عليه وعليهم لعنة اللّه ولعنة اللاعنين - أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن أباطيلهم، وأن الذي ادعوه باطل وزور. وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات الطالبيين توقف في إطلاق القول في هؤلاء، وأنهم الخوارج، وأنهم أدعياء.

وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم أو يذهب وَهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار، ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.

وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير:

فمن العلويين: المرتضي، والرضي، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى. ومن القضاة: أبو محمد القناتي، وأبو القاسم الحمزوي، وأبو العباس بن السوري. ومن الفقهاء: الإمام أبو حامد الإسفراييني، وأبو محمد بن الكشفلي، وأبو الحسين القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو علي بن حكمان. ومن الشهود: أبو القاسم التنوخي في كثير، وقُرئ بالبصرة، وكتب فيه خلق كثير. هذه عبارة الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى.

ثم قام من بعده ولده علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين اللّه، وكني بأبي هاشم، بويع بعد قتل أبيه وهو ابن ست عشرة سنة، وقامت عمته بتدبير ملكه أحسن قيام - كما تقدم ذكره - إلى أن ماتت، فحذا حذوها، وحسنت أيامه وسيرته. إلى أن طمع الناس فيه لصغر سنه، وتغلب صاحب الرملة حسان بن مفرج البدري على أكثر بلاد الشام. وتضعضعت دولة الظاهر إلى أن توفي يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وكانت مدة ولايته ستة عشر عاماً وتسعة أشهر.

ثم قام بالأمر بعده ابنه معد المُكَنى أبا تميم، الملقب بالمستنصر - بسين الاستفعال - ابن الظاهر وعمره سبع سنين، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل، أمير الجيوش، بدر بن عبد اللّه الجمالي. بويع يوم موت أبيه وهو ابن سبع سنين وسبعة وعشرين يوماً، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، ولا يعلم في الإسلام خليفة ولا سلطان أقام في الملك هذه المدة والمستنصر هذا هو الذي خطب له البساسيري على منابر بغداد، وهذا شيء لم يقع لأحد من آبائه.

وفي أيامه وقع الغلاء العظيم بمصر، حتى إن الكلب بيع بخمسة دنانير ليؤكل، والقط بثلاثة دنانير، وضعفت الناس من شدة الجوع؛ حتى إن الكلب يدخل إلى بيت الشخص فيأكل ولده وليس له قدرة على النهوض إلى دفعه، وكان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق وفيها عشرون داراً، كل دار تساوي أكثر من ألف دينار فبيعت كلها بطبق خبز؛ كل دار منها برغيف!!.

قال ابن الجوزي في المنتظم: خرجت امرأة وَمَعَهَا قدر ربع من جوهر، فقالت: من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه براً؟ فلم تجدْ مَنْ يأخذه مِنْهَا بذلك، فَقَالَتْ: إِذَا لم ينفعني وقت الحاجة فلا حاجة لي به، فألقته على الأرض وانصرفت، فالعجب ما كان له من يلقطه. وأخرج المستنصر جميع الذخائر فباعها، يقال: إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجواهر المثمنة، وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المنسوج بالذهب، وعشرين ألف سيف محلى، وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله، فصار إذا نزل للصلاة يستعير بغلة الديوان حتى يركبها، ومات معظم الناس جوعاً.

قال ابن الجوزي في المنتظم: في سنة اثنتين وستين وأربعمائة في ولاية المستنصر كان غلاء شديد، وقحط عظيم بديار مصر؛ بحيث إنهم أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وأفنيت الدواب. فلم يبق لصاحب مصر فرس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوماً عن بغلته فغفل عنها الغلام لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا وصلبوا، فأصبحوا وعظامهم بادية على ما صلبوا عليه، قد أكل الناس لحومهم!! وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء، ويدفن رءوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم؛ فقتل.

وفيها ضاقت يد شريف مكة محمد بن أبي هاشم بن فليتة، فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب والباب فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذلك فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في الحجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقبلها في سنة خمسين وأربعمائة كانت فتنة البساسيري، وهو أرسلان التركي - قبحه الله تعالى - وذلك أنه عزم على أن يسير إلى بغداد ويأخذها من صاحبها الخليفة العباسي المسمى بالقاهر بن القادر، ويخطب فيها للمستنصر الفاطمي، فركب البساسيري ومعه قريش بن بحران أمير العرب إلى الموصل، فأخذها وأخرب قلعتها؛ فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وأرجف الناس بأن البساسيري عازم على قصد بغداد، وأنه قرب من الأنبار، وتفرق الجيش من بغداد، إلى نواحي همذان والأهواز، وبقيت بغداد وليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة القائم بأمر الله على الرحيل من بغداد إلى غيرها وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله فلبث فيها اغتراراً، ولما خلا البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الخروج فليذهب إلى حيث شاء؛ فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة ديناراً أو دينارين لعدم الجسر.

قال: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو من عشر بومات مجتمعات يصحن صياحاً مزعجاً. وقيل للوزير أبي القاسم بن المسلمة؛ الملقب برئيس الرؤساء، وزير القائم العباسي: من المصلحة أن الخليفة يرتحل من بغداد لعدم المقاتلة بها فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة العوام، ودُفِعَ إليهم سلاح من دار المملكة. فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة، دخل البساسيري بغداد، ونشر الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها: الإمام المستنصر بالله، أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ - وهم أهل الرفض والإلحاد - فتضرعوا إليه، وسألوه أن يجتاز عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الروايا، فخيم بها، والناس إذ ذاك في ضر ومجاعة شديدة، ونزل قريش بن بدران في نحو مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري قد جمع الدِارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وهلك اكثر السجلات والكتب الحكمية، ونهبت دار المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل، وكذلك أذن في سائر جوامع بغداد، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة فحاجز الوزير ابن المسلمة بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يفد ذلك شيئاً، فركب الخليفة بالسواد والبردة على كتفيه، وعلى رأسه القواد، وبيده سيف صلت، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رءوس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف المسللة.

ثم إن الخليفة أخذ ذمامَاً من أمير العرب، قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فآَمنه على ذلك وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال له: لقد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك.

واستحضر البساسيري ابن المسلمة ووبخه ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحَاً واعتقله مهاناً عنده، ونهبت العيارون دار الخلافة؛ فلا يحصى ما أخذ منها من الجواهر، والنفائْس، والديباج، والأثاث، وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف.

قلت: ما أخذه البساسيري لأستاذه المستنصر من دار الخليفة القائم العِباسي أخرجه وباعه بأبخس الأثمان، وهو مضطر جوعان، ولم يتمتع به في هذه الدار، وهو محاسب عليه في دار القرار.

ثم اتفق رأي البساسيري وقريش بن بدران على تسيير الخليفة من بغداد، وتسليمه إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلى البدري، وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا صالحاً.

قلت: حديثة عانة: بليدة بين حلب وبغداد، مشهورة مذكورة إلى الآَن، النسبة إلى جزئها الأول فيقال: فلان الحديثي. انتهى.

فلما بلغ الخليفة ذلك دخل على قريش بن بدران ألا يخرجه من بغداد فلم يفد ذلك شيئاً، وسيروه مع أصحابه إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش أميرها حولاً كاملاً؛ وليس معه أْحد من أهله، فحكي عن القائم أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة، فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت اللّه تعالى فقلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زاهراً، وربع القرب عامراً، فقد قل العزاء، وبرح الخفاء. قال: فسمعت قائلاً على شط الفرات يقول: نعم نعم، فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فعلمت أنه هاتف أنطقه الله تعالى بما جرى الأمر عليه. وكان الأمر كذلك؛ فإنه خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، كما سنذكره الآن.

ولما كان يوم عيد الأضحى ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والقطاريف المصرية، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر، والروافض في غاية السرور، وانتقم من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرق خلقاً كثيراً، وقتل من العلماء جمعاً.

ولما كانت ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة، أحضر بين يديه الوزير ابن المسلمة، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود، فأركب جملاً، وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة جلد. وحين أجاز بالكرخ، نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، فأوقف بازاء دار الخلافة وهو في ذلك كله يتلو قوله تعالى " قُلِ اَللَهُمَ ماَلِكَ اَلملك " " الآية آل عمران: 26 " ، ثم لما فرغ من الطواف به في البلد، وأعيد إلى العسكر، ألبس جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلاب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة حياً فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه اللّه تعالى، وكان آخر كلامه أن قال: الحمد للّه الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وبغداد في قبضة البساسيري، يخطب فيها للخليفة المستنصر الفاطمي، والقائم قاعد ب حديثة عانة.

ثم لما كان يوم الاثنين، ثاني عشر صفر، أحضر البساسيري قاضي القضاة أبا في اللّه الدامغاني، وجماعة من الوجوه والأعيان من العلويين والعباسيين، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر الفاطمي، ثم دخل دار الخلافة، وهؤلاء المذكورون معه، وأمر بنقض تاج دار الخلافة؛ فنقضت بعض الشراريف. ثم قيل له: إن ترك الفتح في هذا الأمر من المصلحة؛ فتركه. ثم ركب إلى زيارة المشهد، وأمر بأن تنقل جثة ابن المسلمة إلى ما يقارب الحرم الظاهري، وأن ينصب على دجلة.

وكتبت أم الخليفة، وكانت عجوزاً كبيرة قد بلغت التسعين، وهي مختفية في مكان - إلى البساسيري؛ تشكو إليه الفقر والحاجة وضيق الحال، فأرسل إليها ونقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلاً من خبز، وأربعة أرطال من لحم؛ ولا يفي هذا بقيراط مما فعله بولدها وبأهل السنة.

وكان وقوع هذا الواقع، والسلطان طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق غائب؛ لقتال أخيه إبراهيم بن ميكائيل. فلما ظفر به وأسره وقتله، وتمكن أمره، وطابت نفسه واستقر حاله، ولم يبق له بتلك البلاد منازع - سمع بهذا الواقع؛ فكتب إلى قريش بن بدران أمير العرب، يأمره بأن يعاد الخليفة إلى داره، على ما كان عليه، وتوعده على ترك ذلك بأساً شديداً. فكتب إليه قريش، يتلطف به يسأله، ويقول: أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكن اللّه منه؛ ولكن أخشى أن أشرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو يبدر إليه أحد بأذية؛ ولكن سأعمل في أمره بكل ما يمكنني. ثم إنه راسل البساسيري، وأشار عليه بعود الخليفة إلى داره؛ وخوفه من جهة الملك طغرلبك. وقال له - فيما قال - : إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا من جهته رسول ولا أحد، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد.

وجاء كتاب من الملك طغرلبك، عنوانه: إلى الأمير الأجل، علم الدين أبي المعالي، قريش ابن بدران، مولى أمير المؤمنين. من شاهنشاه، ملك المشرق والمغرب، طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان: حسبي اللّه وكان في الكتاب ما نصه: والآن، فقد سارت بنا المقادير إلى قتال كل عدو للدين والملك، ولم يبق لنا وعلينا من المهمات؛ إلا خدمة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التضجيع فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجيوش المشرق إلى هذا المهم العظيم؛ ونريد من الأمير الجليل السعي النجيح الذي وفق له وتفرد به؛ وهو أن يتمم وفاءه من أمانته وخدمته في باب سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر اللّه أمير المؤمنين، وأن يكون أحد الرجلين؛ إما أن يقبل به إلى وكر عزه، ويتولى إقامته وموقف خلافته من مدينة السلام، وينتدب بين يديه متولياً أمره منفذاً حكمه شاهراً سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة؛ ويوليه العراق بأسرها، وتصفي له مشارع برها وبحرها؛ لا يطأ حافر من خيول العجم شبراً من أرض تلك المملكة إلا بالتماس لمعاونته ومظاهرته. وإما أن يحافظ على شخصه العالي؛ بتحويله من القلعة إلى حين يجاء لخدمته فيتكفل بإعادته، ويكون الأمير الجليل مخيراً بين أن يلتقي بنا أو يقيم حيث شاء بتولية العراق، وسنخلفه في الخدمة. وهو - أدام اللّه تمكنه - يتيقن ما ذكرنا، ويعلم أن توجهنا إثر هذا الكتاب بهذا الغرض المعلوم، ولا غرض سواه، ومن اتصل ببغداد من سائر العرب والعجم والأكراد، كلُّهم إخواننا، وفي ديننا وعهدنا، وعلينا لهم عهد الله وميثاقه - ما داموا موافقين للأمير ولكل محترم - عفونا وأمننا لما بدر منه؛ إلا البساسيري؛ فإنه لا عهد له ولا أمان، وهو موكول إلى الشيطان؛ وقد ارتكب في دين الله عظيماً، وهو - إن شاء الله - مأخود حيث وجد، ومعذب على ما عمل وسعي في دماء خلق كثير بسوء دخيلته، وإدارة أفعاله على فساد عقيدته. وكتب في رمضان، سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.

فلما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران، استعلم عن أخبار الملك طغرلبك من الرسل وغيرهم؛ فإذا معه جنود عظيمة، فخاف من ذلك خوفاً شديداً، وبعث إلى البرية، وأمر بحفر أماكن للماء، وتجهيز علوفات كثيرة إلى هنالك، وأنفذ الكتاب إلى البساسيري؛ فانزعج البساسيري لذلك وخارت قوته وضعف أمره، وبعث إلى أهله فنقلهم من بغداد، وأرصد له إقامات عظيمة بواسط، وجعلها دار مقره، ووافق على عود الخليفة إلى بغداد؛ ولكن اشترط شروطاً كثيرة؛ ليذهب خجله.

وترحل قريش بن بدران إلى أرض الموصل، وبعث إلى حديثة عانة يقول لأميرها مهارش بن مجلي - الذي سلم إليه الخليفة - : المصلحة تقتضي أن تحول الخليفة إلي؛ حتى نستأمن لأنفسنا بسببه؛ فلا نسلمه حتى نأخذ لأنفسنا أماناً، ويكون في يدك دون يدي. فامتنع عليه مهارش، وقال: قد غدر بي البساسيري في أشياءَ وعدني بها فلم أرها، ولست بمرسله إليك أبداً، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدر بها.

وكان مهارش رجلاً صالحاً ثقة أمينا، فقال للخليفة: من المصلحة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان: فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا؛ فإنا نخشى من البساسيري أن يعود فيحصرنا. فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة.

فسارا في الحادي والعشرين من ذي القعدة، إلى أن حصلا بقلعة عكبراء، فتلقته رسل الملك طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها إليه، وهو متشوق إليه كثيراً، وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك دخل بغداد، وكان يوماً مشهودَاً؛ غير أن الجيوش نهبوا بغداد سوى دار الخليفة، وصودر خلق كثير وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق عظيمة وملابس سنية؛ أرسل ذلك مع وزيره عبد الملك الكندري.

ولما انتهوا أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه، وقالوا لمن حوله: اضربوا السرادق، وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجيء نحن فنستأذن عليه، فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة فلما دخل الوزير عبد الملك الكندري ومن معه، قبلوا الأرض، بعد أن استأذنوا - فلم يؤذن لهم إلا كما قالوا. وأخبر الخليفة بسرور السلطان بما حصل؛ من العود إلى بغداد واشتياقه إليه جداً، وكتب الوزير عبد الملك إلى السلطان وأخبره بما جرى، وأحب أن يأخذ خط الخليفة في أعلى الكتاب؛ فيكون أقر لِعَين السلطان. ولم يكن عند الخليفة دواة؛ فأحضر الوزير دواته ومعها سيف، قال: هذه حرمة السيف والقلم، فأعجب الخليفة قوله.

وترحلوا من منازلهم تلك بعد يومين، فلما وصلوا إلى النهروان، خرج السلطان طغرلبك من بغداد لتلقيه. فلما انتهى إلى السرادق قبل الأرض بين يدي الخليفة سبع مرات، فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه، فأخذها السلطان فقبلها ثم جلس عليها، وقدم للخليفة الحبل الياقوت الأحمر، الذي كان لابن بويه، فوضعه بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة لؤلؤ كبار، وقال: هذا لرسلان خاتون؛ وهي أخته زوجة الخليفة، وكانت قد خرجت في وقعة البساسيري، ولحقت بأخيها السلطان طغرلبك؛ تخدم وتسأل أن يسبح الخليفة بهذه المسبحة؛ وجعل يتعذر عن تأخره عن الحضرة فيقول: سببه عصيان أخي إبراهيم عَلَي فحاربته وقتلته، واتفق موت أخي الأكبر؛ فاشتغلت في ترتيب أولاده في هذه الممالك. وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا - إن شاء الله - أمضي إلى هذا الكلب البساسيري، وأعود إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازي به؛ من سوء المقابلة بما كان من فعله هاهنا. فدعا له الخليفة وشكره على ذلك. كل ذلك بتوجيه الوزير عبد الملك الكندري بين الخليفة والسلطان، وأعطى الخليفة السلطان سيفاً كان لم يبق معه من أمور الخلافة سواه.

ودخلَ الخليفةُ بغداد يومَ الخميسِ، لخمسِ بقين من ذي القعدةِ، وَكَانَ ذلك يومَاً مشهوداً؛ الجيش كله مَعَهُ، والقضاة والأعيان بَين يَديهِ، وَالسلطان آخذ بلجام بغلته، حتى وصل إلى باب الحجرة. ولما وصل الخليفة إلى دار مملكته ومقر خلافته، استأذن السلطان طغرلبك في الخروج وراء البساسيري، فأذن له. وكان قد عزم على أن يمضي معه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفيك. وأطلق لمهارش عشرة آلاف دينار، ولم يرض.

وشرع السلطان في ترتيب الجيوش وراء البساسيري، فأرسل جيشاً من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو في التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة، في بقية الجيش. وأما البساسيري فإنه مقيم ب واسط في جمع غلات وتمور، يتهيأ لقتال أهل بغداد ومن فيها، وعنده: أن السلطان طغرلبك ومن معه ليسوا بشيء يخاف منهم؛ وذلك لما يريده اللّه من إهلاكه على يد السلطان، جزاه اللّه عن الإسلام والمسلمين خيراً.

ولما سار السلطان وقد وصلت إليه السرية الأولى، فلقوه بأرض واسط فالتقوا هناك، فانهزم أصحاب البساسيري ونجا بنفسه على فرسه، فتبعه بعض الغلمان فرمى فرسه بنشابة؛ فألقته إلى الأرض، وجاء وضربه على وجهه ولم يعرفه، وأخذه واحد من الجيش، يقال له: كشتكين، فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري، من الأموال والذخائر ما عجزوا عن حمله.

ولما وصل الرأس إلى السلطان، أمر أن يذهب به إلى بغداد وأن يرفع على قناة، وأن يطاف به، والدباب والبوقات والنفاطون معه، ففعل ذلك، وخرج الناس والنساء والصبيان؛ للفرجة عليه، ثم نصب على الطيار تجاه دار الخلافة، وللّه الحمد والمنة.

وكان مع البساسيري خلق من البغادِدَة، خرجوا ظانين أنه سيعود إليها؛ محبة فيه، فهلكوا ونهبت أموالهم كلها، ولم ينج من أصحابه إلا القليل.

وأما الخليفة: فإنه لما عاد إلى دار الخلافة، جعل لله عليه ألا ينام على وطاء، ولا يأتيه أحد بطعامه إذا كان صائماً، ولا يخدمه في وضوئه وغسله؛ بل يتولى ذلك كله بنفسه. وعاهد اللّه ألا يؤذي أحداً ممن آذاه، وأن يصفح عمن ظلمه، وكان يقول: ما عاقبت من عصى الله فيك، بأكثر من أن تطيع اللّه فيه.

انتهت وقعة البساسيري بكمالها، وأحببت إيرادها؛ لأنها من أعظم الوقائع، ولم تخل من فائدة ويقال: إن المستنصر هذا أحسن السيرة والعدل؛ لما احتفظ بتدبير المملكة. وذكروا أنه كتب على رقعة: من السريع،

أَصْبَحْتُ لاَ أَرْجُو وَلاَ أَتقِي ... إِلاَّ إِلَهِي وَلَهُ الْفَضْلُ

جَدي نبيي وَإمَامِي أَبِي ... وَقَوْليَ التوْحِيدُ وَالْعَدْلُ

المال مال اللّه، والعبيد عبيد اللّه، والعطاء خير من المنع " وَسَيعلمُ اَلذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبِ يَنقَلِبوُن " " الشعراء: 227" .

وفي أيامه احترق جامع دمشق، سنة إحدى وستين وأربعمائة.

قلت: البساسيري هذا اسمه: أرسلان، ويلقب: أبا الحارث، وهو من الترك، وكان من مماليك بهاء الدولة ابن عضد الدولة الديلمي، وكان أولاً مملوكاً لرجل من أهل مدينة بسا بالباء العجمية بأصبهان فنسب إلى ذلك الرجل المنسوب إلى تلك المدينة فقيل له البساسيري، ثم كان مقدماً كبيراً عند الخليفة القائم بأمر اللّه، لا يقطع أمراً دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى، وتمرد وعتا، وخرج على الخليفة بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين؛ ليتم له ما رامه من الأمل الفاسد. وكانت وفاته سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.

وكانت وفاة المستنصر يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

ثم قام من بعده أحمد الملقب بالمستعلي، المكنى بأبي القاسم، بويع بعد موت أبيه المستنصر، وسنه نيف وعشرون سنة. وكان القائم بتدبير ملكه: أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي. وقد كان عهد أبوه إلى ولده الآخر نزار، فخلعه الأفضل، فقاتله نزار، فهزمه الأفضل وأسر القاضي ونزار؛ فقتل القاضي وحبس نزار حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وكان عمره إحدى وعشرين سنةَ.

وفي أيامه: استولت الفرنج على سواحل أهل الشام وبيت المقدس، واضمحل أمر الفاطميين، ولم يبق لهم من الخلافة إلا الاسم، واستمر إلى أن مات يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة.

ثم قام بالأمر بعده ابنه منصور الملقب بالآمر بأحكام اللّه ابن المستعلي ابن المستنصر، الفاطمي العبيدي، أبو عَلي الخبيث الرافضي، بويع بعد موت أبيه، وتولى تدبير مملكته شاهنشاه، فلما كبر جازاه بالقتل، وأقام عوضه في الوزارة المأمون البطائحي، صاحب جامع الأقمر بالقاهرة، ثم قبض عليه وقتله وصلبه أيضاً.

واستمر الآمر إلى أن مات ليلة الأربعاء، ثالث عشر ذي القعدة الحرام، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكانت مدته سبعاً وعشرين سنة وتسعة أشهر، ولم يعقب. وسبب موته: أنه مر على الجسر من الروضة عند خروجه إلى الجزيرة تجاه مصر، فوثب عليه تسعة فضربوه بالسكاكين، حتى إن أحدهم وثب وركب خلفه، ثم حمل جريحاً إلى أن مات.

ثم قام من بعده ابن عمه عبد المجيد، الملقب بالحافظ لدين اللّه بن محمد بن المستنصر المكنى أبا الهول. بويع بعد قتل الآمر، ودام إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

واستوزر في أيامه أحمد بن الأفضل، شاهنشاه بن بدر الجمالي، ولقب أمير الجيوش كأبيه وجده، وكانت الأمور قبل ولاية الحافظ اضطربت لموت الآمر عن غير ولد، وكان الحافظ كثير المرض بالريح القولنج، فعمل له الحكيم المسمى سرماه طبلاً للقولنج الذي وجد بعد في خزائن الفاطميين لما ملك السلطان صلاح الدين مصر، وكان هذا الطبل مركباً من المعادن السبعة في أشرافها، وكان من خاصية هذا الطبل إذا ضرب به أحد خرج منه تلك الريح المذكورة، فلما وجد في الخزائن ضرب به بعض الأجناد الأجلاف، فخرج منه ريح؛ فغضب وضرب به الأرض فكسره فبطلت تلك الخاصية، فندم السلطان صلاح الدين لذلك غاية الندم.

وفي أيام الحافظ هذا ابتذلت الخلافة حتى لم يبق له من الحكم لا قليل ولا كثير، وكانت مدته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر.

ثم قام من بعده ابنه إسماعيل، الملقب بالظافر، ابن عبد المجيد بن محمد بن المستنصر الفاطمي العُبيدي، صاحب الجامع الظافري المعروف بجامع الفاطميين داخل القاهرة، بويع بعد موت أبيه وهو ابن سبع عشرة سنة وأشهر.

وكان يهوى نصراً، ابن وزيره العباس وينادمه، فينزل الظافر له خفية وينام عنده، فتكلم الناس في ذلك، فبلغ العباس ذلك فوبخ ابنه بما سمع من كلام الناس، فلما نزل إليه الخليفة في بعض الليالي على عادته ومعه خادم واحد ونام، قام نصر إليه فقتله ورمى به في بئر، وعرف أباه الوزير بذلك، فلما أصبح الوزير توجه إلى باب القصر كأنه لم يعلم بما وقع، فطلب الخليفة على العادة فقال له خادم القصر: ابنك نصر يعرف أين هو، فقال له الوزير: ما لابني علم. ثم أحضر العباس أخوين للظافر وابن أخيه وقتلهم صبراً بين يديه، ثم أحضر أعيان الدولة وقال لهم: إن الظافر قد ركب البارحة في مركب فانقلب به وغرق. وقام ودخل إلى الحريم وأخرج عيسى بن الظافر وبايعه ولقبه بالفائز، وتفرق الناس عن الوزير لما عرفوا أمر الظافر وطالبوه بدم الخليفة.

وكانت مدة الظافر أربع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأرسل النساء يستغثن بطلائع بن رزيك، وكان إذ ذاك بدمشق متولي منية ابن الخصيب، فجمع طلائع عسكره وقصد عباساً الوزير فبلغه، فجمع عباس ما قدر على جمعه من الجواهر والأموال وخرج نحو الشام، فخرج عليه الفرنج في الطريق فأسروه وأخذوا أمواله، وتولى طلائع وزارة مصر، وأرسل فبذل للفرنج مالاً عظيماً، وأخذ عباساً منهم وقتله وصلبه على باب القصر، وتلقب بالملك الصالح، وهو صاحب جامع باب الزويلة. وكان قتل الظافر سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

ثم قام من بعده ابنه عيسى، الملقب بالفائز بن الظافر بن الحافظ بن محمد بن المستنصر. بويع بعد قتل أبيه وهو صبي، وأصيب بالرجفة لما أخرجه الوزير عباس من الحريم على كتفه للبيعة، وهو ابن سنتين أو أربع، وذلك أنه لما رأى أعمامه قتلى فزع واضطرب، ودام به ذلك إلى أن مات يوم الجمعة سابع عشر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وهو ابن عشر سنين تقريباً.

قال في البداية: وفيها - يعني سنة تسع وأربعين وخمسمائة - تولى الفائز بنصر الله، أبو القاسم، عيسى بن إسماعيل الظافر، ثم كانت وفاته في صفر وعمره إحدى عشرة سنة، ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران، وكان مدبر دولته أبو الغارات.

ثم قام من بعده عبد اللّه، الملقب بالعاضد لدين اللّه بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام، فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزيك الوزير، وأخذ له البيعة وزوجه بابنته وجهزها بأمر عظيم، وقد عمرت بعد زوجها العاضد، ورأت زوال دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين، يوسف بن أيوب بن شاذي الكردي؛ فإن العاضد هو اَخرهم، وكان انتقال دولتهم في زمنه، وكان لما بويع ابن إحدى عشرة سنة.

قال في الأرج المسكي: وكان القائم بتدبير ملكه وزيره الملك الصالح طلائع ابن رزيك، وزر له بعد والده ولقب بالعادل، فانتزعها منه شاور، وهو الذي كان سبباً لخراب الديار المصرية بمباطنته الفرنج لعنهم اللّه، وزوال دولة العبيديين منها.

ثم بعد قتل شاور وزر له أسد الدين شيركُوه بن شاذي الكردي، وهو عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ لأن أيوب وشيركوه أخوان أبوهما شاذي، وأيوب يلقب نجم الدين، وشيركوه يلقب أسد الدين فهو عم السلطان صلاح الدين، فلقب شيركوه بالملك المنصور، وأقام شهرين وأياماً ثم مات، فاستوزر العاضد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولقبه بالملك الناصر، فقطع الملك الناصر بعد سنين اسم الخليفة العاضد من الخطبة بمصر وأعمالها، بأمر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقر، صاحب الشام المعروف بنور الدين الشهيد، ومات العاضد بعد ذلك بأيام في يوم الاثنين، يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، وندم السلطان صلاح الدين على قطعه الخطبة في حياته وتمنى أن كان القطع بعد موته، فاستولى السلطان صلاح الدين بن أيوب على مصر وذخائرها.

واختلف في سبب موت العاضد، فقيل: إنه تفكر في أموره فرآها في إدبار فأصابه ذَرب عظيم فمات منه، وقيل: إنه لما خطب لبني العباس بالقاهرة بلغه ذلك فاغتم فمات، وقيل: إنه لما أيقن بزوال ملكه كان في يده خاتم فصه مسموم فمصه فمات منه.

قال الذهبي: وكان العاضد مع وزرائه كالمحجور عليه لا يتصرف في شيء مما يريد، وهو آخر ملوك مصر المسمين بالعبيديين والفاطميين، وكانت مدة تملكهم مائتين وثمان سنين فكانوا لأربعة عشر متخلفاً لا مستخلفاً.

وقال العلامة ابن السبكي في تاريخه المسمى بالبداية: كان ابتداؤها سنة أربع وستين وثلاثمائة. وكان موت العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة، وأعيدت الخطبة للمستضيء العباسي ابن المستنجد. وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت الخطبة قد قطعت عن بني العباس من ديار مصر من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي. قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتاباً سميته، النصر على مصر.

قال العلامة ابن السبكي: واتفق أنه لما دخل المعز الفاطمي مصر أرسل إلى الجامع الأزهر يطلب ألقاباً تكون عنده لمن يقوم بعده من أولاده وأولاد أولاده، فكتبت له هذه الألقاب: العزيز، الحاكم بأمر الله، إلى العاضد آخرهم. والعضد في اللغة: القطع. فكان مع إرادته سبحانه وتعالى قاطعاً لخلافتهم، وبه انقراض ملكهم.

قال العلامة ابن السبكي: واتفق أنه لما استقر أمر السلطان صلاح الدين في مصر بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين محمود بن زنكي له بذلك، لمعاتبة الخليفة المستنجد إياه قبل وفاته بذلك، وكان إذ ذاك العاضد مريضاً مدنفاً. فكانت وفاته يوم عاشوراء في سنة سبع وستين كما تقدم ذكر ذلك، فحضر السلطان صلاح الدين جنازته، وشهد عزاءه وبكى عليه، وتأسف وظهر منه حزن، فقد كان مطيعاً له فيما يأمره به. ولما مات استحوذ الملك صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج أهل العاضد إلى دار أفردها لهم، وأجرى عليهم النفقات والأرزاق الهنية والمعيشة المرضية. وكان يتندم على إقامته الخطبة العباسية قبل وفاته وهلاً صبر بها إلى ما بعد مماته، ولكن كان ذلك قدراً مقدوراً، وفي الكتاب مسطوراً. ومما قال العماد الكاتب في ذلك: من المنسرح،

تُوُفيَ العَاضِدُ الدعِيُّ فَمَا ... يفتَحُ ذُو بِدعَةٍ بِمِصرَ فَمَا

وَعَصرُ فرعَونِهَا انقضى وَغَدَا ... يُوسُفُهَا في الأُمُورِ مُحتَكِمَا

فَانطَفَأَت جَمرَةُ الفُؤَادِ وَقَد ... بَاخَ مِنَ الشر كُل مَا اضطَرَمَا

وَصَارَ شَملُ الصلاَحِ مُلتئماً ... بِهَا وَعَقدُ السدَادِ منتظما

لما غدَا معلماً شِعَارُ بني ال ... عباسِ حَقاً وَالبَاطِلُ اكتُتِمَا

وَبَاتَ دَاعي التوحِيدِ منتَصراً ... وَمن دُعَاةِ الإشرَاكِ منتَقِمَا

فَظَل أهلُ الضَّلاَلِ في ظُلل ... دَاجيَةِ مِن عَمَايَةٍ وَعَمى

وَارتَبَكَ الجَاهِلُونَ في ظُلَم ... لما أَضَاءَتْ مَنَابِرُ العُلَمَا

وَعَاد بِالمستَضِيء مُمتَهِداً ... بِنَاء حَق قَد كَانَ منهَدِمَا

وَاعتَلَتِ الدولَةُ التِي اضْطُهدَت ... وَانتَصَرَ الدينُ بَعْدَ مَا اهتُضِمَا

وَاهتز عِطفُ الإسلاَمِ مِن جَذَل ... وَافتر ثَغْرُ الإِيمَانِ مُبْتَسِمَا

وَاستبشَرَت أَوجُهُ الهُدَى فَرَحاً ... فليَقرَعِ الكُفْرُ سِنهُ نَدَمَا

عَادَ حَرِيمُ الأعدَاءِ منتهكَ ال ... حِمَى وَفَيءُ الطغاةِ مُقتَسَمَا

قُصُورُ أَهلِ القُصُورِ أَخْرَبَهَا ... عَامِرُ بَيتِ مِنَ الْكَمَالِ سَمَا

أُزعِجَ بَعدَ السُّكُونِ سَاكِنُهَا ... وَمَاتَ ذُلاً وَأنْفُهُ رَغِمَا

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وقد قال حسان الشاعر المدعو عرقلة: من الخفيف،

أَصبَحَ الملكُ بَعدَ آلِ عَلِي ... مُشرِقاً بِالمُلُوكِ مِن اَلِ شَاذِي

وَغَدَا الشرقُ يَحسُدُ الغَربَ للِقر ... مِ وَمصر تزهُو عَلَى بَغْدَاذِ

مَا حَووهَا إِلا بِعَزم وَحَزم ... وَصَليِلِ الفُولاَذِ في الفُولاَذِ

لاَ كَفرعَونَ وَالعَزِيزِ وَمَن كَا ... نَ بِهَا كَالخَصِيبِ وَالأستَاذِ

وقوله: آل عَلِي يعني الفاطميين. ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا أدعياء ينتسبون إلى يهودي حداد ب سلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم.

قال: وقد استقصيت الكلام في ذلك في بعض الأحيان من الكفريات والمصائب العظيمات، وقد صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة من أجل ما وضع فيه: كتاب القاضي العلامة، إمام الأئمة، أبي بكر الباقلاني، الذي سماه: كشف الأسرار، وهتك الأستار،.

ومن أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بمصر قوله من قصيدة: من الطويل،

أَلَستم مُزِيلِي دولَةِ الكُفرِ من بَني ... عُبَيد بِمِصر؟ إن هَذَا هُوَ الفَضلُ

زَنَادِقَة شِيعية بَاطِنية ... مَجُوس، وَمَا في الصالحِين لَهم أَصْلُ

يُسِرونَ كفراً يُظهِرُونَ تَشَيُّعاً ... لِيَستِترُوا شيئاً، وَعمهُمُ الجهل

ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستنجد بالله العباسي: من الطويل،

لِيهنِكَ يَا مولايَ فَتحٌ تَتَابَعَت ... إِلَيكَ بِهِ خُوصُ الركَائِبِ تُوجَفُ

أَخَذتَ بِهِ مصرَاً وَقد حَالَ دُونَهَا ... مِنَ الشركِ نَاس في لَهَا الحَق تُقذَفُ

فَعَادَت بِحمدِ الله باسمِ إِمَامِنَا ... تَتِيهُ عَلى كُل البِلاَدِ وَتَشرُفُ

فلا غروَ إن ذَلت لِيُوسُفَ مِصرهُ ... وكانَت لَهُ عَليَاؤُهَا تتشَوف

تَملكَهَا في قبضَةِ الكُفر يُوسُف ... وَخلصَهَا من عُصبَةِ الفسقِ يُوسُفُ

فَشَابَهَهُ خلقاً وخُلقاً وَعِفة ... وَكُل عَن الرحمَن في الأرَضِ يَخلُفُ

كَشَفتَ بِهَا عَن آلِ هَاشِم سبة ... وَعَاراً إلى إِلاَ بِسَيفِكَ يُكشَفُ

ذكر الشيخ شهاب الدين في الروضتين: أن أبا الفضائل، الحسين بن محمد، وزير ابن هبيرة - أنشدها للخليفة المستنجد والد المستضيء قبل موته، عند تأويل منام رآه بعض الناس للخليفة، فأراد الشاعر بيوسف الثاني الخليفة المستنجد؛ لأن اسمه يوسف، وكذا ذكره ابن الجوزي وغيره أن هذه القصيدة أنشدت للمستنجد في حياته، ولكن لم يُخطب بمصر إلا لولده المستضيء بن المستنجد، فجرى التأويل باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم إن الخليفة المستضيء أرسل إلى الملك نور الدين الشهيد خلعة سنية، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية، فرفعت على أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع ببلاد الشام وبلاد مصر، فلله الحمد على ما صح من العز والنصر.

وكان قد أجمع جماعة من الدولة المصرية الفاطمية الذين كانوا حكاماً فاتفقوا فيما بينهم أن يعيدوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم، إليهم، وعينوا خليفة من ورثة الفاطميين ووزراء وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه. وكان من نية الملك صلاح الدين أن يبعث أخاه تورانشَاه شمس الدين، إلى اليمن، فشرع عُمارةُ اليمني يذكر له اليمن وما فيها من المصالح والدور والمنتزهات والمغلات، ويحسن له المصير إليها؛ ليخف الجيش بمصر ويضعف مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين، فخرج تورانشاه ولم يخرج معه عمارة بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويدخل المتكلمين فيه، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، هذا وقد أدخلوا معهم في هذا الأمر بعض من ينتسب إلى الملك الناصر، وذلك من قلة عقولهم وكثرة جهلهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فجاء إلى السلطان وأخبره بما تمالأ عليه القوم وما انتهى أمرهم إليه، فأطلق له السلطان أموالاً جزيلة، وأفاض عليه خلعَاً جميلة، ثم استدعاهم السلطان واحداً واحداً فقررهم فأقروا له بذلك؛ فاعتقلهم، ثم استفتى العلماء في أمرهم، فأفتوا بقتلهم وتبديد شملهم، فعند ذلك أمر بهم فصلبت رءوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنقل من بقي من جيش العُبَيديين إلى أقاصي البلاد.

وقد كان عمارة هذا معاديَاً للقاضي الفاضل، فلما حضر بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل فاجتمع بالسلطان ليشفع فيه، فتوهم عمارة أنه تكلم فيه فقال: يا مولانا السلطان لا تسمع منه، فغضب القاضي الفاضل ونهض وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه كان قد شفع فيك، فندم عمارة ندماً عظيماً، ولما ذهب به ليصلب اجتاز بدار القاضي الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد عند ذلك قائلا: من الرجز،

إِن الخَلاصَ هُوَ العَجَب ... عَندُ الرحِيمِ قَدِ احتَجَب

قال ابن أبي طي: وكان الذين صلبوا الفضل بن كامل القاضي، وهو أبو القاسم، هبة الله، ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب ب فخر الأمناء وهو أول من صُلب، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب. وله شعر رائق منه في غلام رفاء: من مخلع البسيط،

يَا رَافِياً خَرقَ كُل ثوبٍ ... وَيَا رَشا حبهُ اعتِقَادِي

عَسَى بِكَف الوِصَالِ تَرفُو ... مَا مزقَ الهَجرُ مِن فُؤَادِي

وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدقائق القصد، فعوقب ليعلم بها فامتنع من ذلك فمات واندرست، وشريا كاتب السر، وعبد الصمد أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، رجل منجم نصراني كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوَم، وعمارة اليمني هذا، وقد كان شاعراً مطبقاً، بليغاً فصيحاً، لا يُلحق في هذا الشأن. وله ديوان مشهور، ذكره ابن السبكي في طبقاته، وله في الفاطميين ووزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جداً، وأقل ما نسب إلى الرفض، وقد اتهم باطنه بالكفر المحض، وله مصنف في الفرائض، وكتاب الوزراء الفاطميين، وكتاب جمع فيه سيرة نفسه. وكان أديباً فاضلاً، فقيهاً فصيحاً. وذكر العماد الكاتب في الخريدة أنه قال في قصيدته التي يقول فيها: من البسيط،

ألعلمُ مُذْ كَانَ محتَاج إِلى العَلَم ... وَشفرَةُ السيف تَستغني عَنِ الْقَلَم

وهي طويلة قال فيها أيضاً:

قد كَانَ أولُ هذَا الدينِ من رَجُل ... سَعَى إِلَى أَن دَعوهُ سَيدَ الأمُمِ

قال العماد الكاتب: فأفتى علماء مصر بكفره وقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله. قال: ويجوز أن يكون الشعر معمولاً عليه، كذا قاله العلامة ابن السبكي. أقول: سبحان الله كيف هذا الإفتاء بالكفر والحال أن هذا اللفظ ليس ظاهرَاً فيما يوجب الكفر فضلاً عن أن يكون نصاً؟ إذ قوله سعى يحتمل أن يريد به سعيه صلى الله عليه وسلم في إبلاع دين الله، وعرضه نفسه على القبائل، وصبره على ما لاقاه من أذى قريش وغيرهم، وجهاده في إعلاء كلمة الله وإعلانها، وهذا هو الظاهر ظهوراً بيناً والمطلوب والمتعين الحمل عليه؛ إذ الإيمان والعصمة ثابتان له قبل ذلك بلا شك، فعندي في هذا التكفير تفكير. انتهى.

ومما أورد له ابن الساعي قوله يمدح بعض الملوك: من الكامل،

مَلِك إذَا قَابلتُ بِشرَ جَبِينِه ... فَارَقْتُهُ وَالبِشْرُ فَوقَ جَبِيني

وإِذَا لَثمت يَمِينَهُ وخَرَجتُ مِن ... أبوَابِهِ لَثَمَ المُلُوكُ يَمِينِي

ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد الفاطمي ودولته وأيامه: من الكامل،

أَسَفي عَلَى زَمَنِ الإمَامِ العَاضِد ... أَسَفَ العَقيِم عَلَى فِرَاقِ الوَاحِدِ

جَالَستُ مِن وُزَرائه وَصَحِبتُ مِن ... أُمَرَائهِ أَهْلَ الثنَاءِ الخَالِدِ

لَهَفي عَلَى حُجُرَاتِ قَصرِكَ إِذ خَلَت ... يَا ابْنَ النبِي مِنِ ازدِحَامِ الوَافِدِ

وَعَلى النَّوَازِلِ مِن عَسَاكِرِكَ التي ... كَانَتْ كَأموَاجِ الخِضَم الراكِدِ

قلدت مُؤتَمَنَ الخِلاَفَةِ أمرَهُم ... فَكَبَا وَقصرَ عَن صَلاَحِ الفَاسِدِ

فَعَسَى الليَالِي أَن ترد عَلَيكُم ... مَا عَودَتكُم مِن جَمِيلِ عَوَائِدِ

وِله مِن قصيدة فيِه: مِن البسيط

ياِ عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي

بالله زُر سَاحَةَ القَصرَينِ وَابْكِ مَعِي ... عَلَيْهِمَا، لاَ عَلَى صِفين وَالجَمَلِ

وَقُل لأَهلِهِمَا وَاللهِ مَا التَحَمَت ... فِيكُم قُرُوحِي وَلاَ جُرْحِي بِمُندَمِلِ

مَاذَا تُرَى كَانَتِ الإفرنجُ فَاعِلة ... في نَسلِ آلِ أَمِيرِ المُؤمِنينَ عَلي

وقد أورد الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين من أشعار عمارة هذا ومدائحه في الخلفاء الفاطميين وذويهم - شيئاً كثيراً، فمن ذلك قوله: من البسيط:

لِي في هَوَى الرشَاِ العُذرِيٌ أَعْذَار ... لَم يبقَ لي مُذْ أَقر الدمْعُ إِنْكَارُ

لي في القُدُودِ وَفي لَثمِ الخُدُودِ وَفِي ... ضم النهوَدِ لُبَانَات وَأَوْطَارُ

هَذَا اختِيَارِي فَوَافِق إِن رَضِيتَ بِهِ ... أَو لاَ فَدَعني وَمَا أهوَى وَأَختَار

ومما أنشد الشيخ تاج الدين الكندي في عمارة حين صلب قوله: من الطويل:

عمَارَةُ في الإسلاَمِ أبدَى خِيَانَة ... وَبَايَعَ فِيهَا بَيْعَة وَصَلِيبَا

وَأمسَى شَرِيكَ الشركِ في بغضِ أَحمَد ... فَأَصْبَحَ في حُبٌ الصليِبِ صَلِيبَا

وَكَانَ خَبِيثَ الملتَقَى إِن عَجمتَه ... تَجد مِنْهُ عُوداً في الثقَافِ صَلِيبَا

سَيلقَى غَداً مَا كَانَ يَسعَى لأجلِه ... وَيسقَى صَدِيداً في لَظى وَصلِيبَا

قلت: الأول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع بمعنى ودك العظام.

ولما صلب الملك الناصر هؤلاء بين القصرين في القاهرة - وكان ذلك اليوم يوم السبت الثامن من شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة - كتب إلى الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكي يعلمه بذلك وما وقع بهم من الخزي والنكال، فوصل الكتاب بذلك الأمر يوم توفي الملك نور الدين المذكور، رحمه الله تعالى.