في ذكر الدولة التركمانية

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب الخامس

في ذكر الدولة التركمانية

كان ابتداؤها سنة ثمان وأربعين وستمائة.

أولهم

المعز أيبك التركماني

الصالحي النجمي التركي، أول ملوك الأتراك بالديار المصرية. وقد نظم بعضهم من مسه الرق من ملوك الأتراك في أبيات موالياً وهي:

أيبك قطز يعقبو بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال

لاجين بيبرس برقوق شيخ ذو الأفضال ... ططر برسباي جقمق ذو العلا أينال

وخشقدم عنه قل بلباي ذوالأحوال ... تمر بغاقيتبيه الغمر ذو الإقبال

قال في الأرج المسكي: وهذه الأبيات مفيدة، لأن كثيراً من فقهائنا نصوا على عدم صحة أوقافهم معللين ذلك بأنهم أرقاء لبيت المال، وما وقفوه من أموال بيت المال، ويجعلون ذلك وسيلة إلى جواز تناول من يكون مقيماً بمِصر من، أموال الحرمين الموقوفة عليهم من ملوك الأتراك، والإطلاق في ذلك خطأ، فإن بعضهم لم يمسه الرق وهو من عدا المنظومين في هذه الأبيات فليتنبه لذلك، وأيبك المذكور كان من مماليك الملك الصالح أيوب الأيوبي اشتراه في حياة والده الملك الكامل، وجعله جاشنكير فلهذا تسلطن يوم السبت آخر ربيع أول سنة ثمان وأربعين أو تسع وأربعين وستمائة بعد خلع شجرة الدر نفسها، وأجمع على سلطنته الأمراء من غير كره، وركب بشعار السلطنة، وحملت الغاشية بين يديه وتم أمره.

ثم إن المماليك الصالحية اتفقوا على واحد من بني أيوب، وهو موسى وسلطنوه واجتمعوا عليه، وكان القائم بهذا الأمر: فارس الدين أقطاي الجمداري، وبيبرس البندقداري، وبلباي الرشيدي، وسنقر الرومي، فأقاموا مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن الملك المسعودي بن الكامل بن العادل ولقبوه الملك الأشرف، وكان عند عماته. فأحضروه، وكان عمره إذ ذاك نحو عشر سنين، ولم يعزل المعز عن السلطنة بل كان أتابك العساكر، وخطب لهما على المنابر معاً وكانت هذه الحركة بعد سلطنته بخمسة أيام كما تقدم ذكر ذلك، واستمر شريكاً للصبي إلى أن مهد أموره وقويت شوكته وصفا له الوقت، فعزل الصبي واستقل بعد أمور حصلت ووقائع، إلى أن قتلته زوجته شجرة الدر لما بلغها أنه يريد التزوج عليها، فواطأت على قتله جماعة من المماليك، ثم قتلتهم جميعاً، وكان قتلها له يوم الثلاثاء عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة.

ثم تولى ابنه

الملك المنصور نور الدين علي

تسلطن وجلس على تخت الملك، وعمره خمس عشرة سنة، ووزر له وزير أبيه شرف الفائزي، وقام بتدبير ملكه الآمر علم الدين سنجر الحلبي، فحدثته نفسه بالوثوب على الآمر فقبض عليه الأمير قطز المعزي الأيبكي، ووقع في أيامه حروب كثيرة مع المماليك الصالحية.

ثم قدم في أيامه هولاكو ملك التتار إلى بغداد وقتل الخليفة المستعصم، ثم ملك هولاكو حلب والشام، وقصد مصر، فلما بلغ الأمير قطز ذلك وكان قد استفحل أمره في الديار المصرية كلموه في السلطنة، والقيام بملاقاة التتار، فجمع القضاة وأعيان الدولة فأجمع رأي الجميع على خلع الملك المنصور من السلطنة لصغر سنه؛ لعدم دفعه للعدو المخذول، فخلع، وتسلطن قطز، وبقي الملك المنصور معتقلاً إلى أن مات، وكانت مدته سنتين، وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، كان كثير اللهو فاستولى عليه أكابر الدولة وحبسوه، كما تقدم.

ثم تولى

الملك المظفر سيف الدين قطز

بويع عام سبع وخمسين وستمائة وهو بمصر المحروسة، وله ولاية الشام، وحلب، وجميع ما كان لمخدومه.

فلما وصل الخبر بأن التتار وصلوا دمشق - مع استمرارهم على قتل المسلمين وتعطيل شعائر الدين - تجهز الملك المظفر المذكور في جيوش عظيمة، ومقدمها الظاهر بيبرس، فالتقى الجمعان عند عين جالوت يوم الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة وانتصر المسلمون، وهزم التتار، وقتلوا شر قتلة، ثم ولوا الأدبار والناس يتخطفونهم، ثم جاء كتاب الملك المظفر إلى دمشق بالنصر، طار الناس فرحاً، ثم دخل المظفر إليها مؤيداً منصوراً، وأحبه الناس غاية المحبة فمهد أمورها وأصلح ما فسد من شأنها.

وهو أول من ملك البلاد الشامية من ملوك الترك بديار مصر؛ لأن الشام جميعه في تصرف الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وغيره من بني أيوب من بعده، واتبع بيبرس آثار التتار حتى أخرجهم من حلب وطردهم عن البلاد.

ثم وقعت الوحشة بينه وبين بيبرس؛ لأنه وعده ولاية حلب ثم أخلفه، فاتفق أن المظفر قطز لما عاد إلى مصر صار إلى التصيد فرأى أرنباً فساق خلف الأرنب، وساق وراءه جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتله، وكبيرهم بيبرس البندقداري ومعه آبض.

فلما دنوا منه - ولم يبق عند قطز غيرهم - تقدم إليه بيبرس وشفع عنده شفاعة فقبلها المظفر، فأهوى بيبرس على يده ليقبلها فقبض عليه وحمل عليه آبض فضربه بالسيف، ثم حملوا عليه وقَتلوه وتركوه ميتاً، وساقوا وهم شاهرون سيوفهم إلى أن وصلوا إلى الدهليز السلطاني بمنزله في الصالحية، فجلس بيبرس على مرتبة السلطنة وتم أمره.

وكان قتل المظفر يوم السبت سادس ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، فكانت مدته سنة واحدة إلا يوماً وقيل إلا عشرة.

ثم تولى

الملك الظاهر بيبرس

البندقداري الصالحي التركي النجمي، ركن الدين أبو الفتوح: تسلطن بعد قتل الملك المظفر، وأصله تركي الجنس، أخذ من بلاده وبيع بدمشق للعماد الصائغ ثم اشتراه منه علاء الدين أيدكين البندقداري.

ثم لما صادر الملك الصالح علاء الدين أيدكين أخذ بيبرس هذا في جملة من أخذ وجعله من مماليكه البحرية، وما زال يترقى والقدر يسعفه إلى أن صار أستاذه أيدكين من جملة أمرائه.

وهو الذي استحدث بمصر القضاة الأربعة، وهو صاحب الفتوحات الكثيرة، والهمم العلية، والأخلاق الرضية.

ومن أثر خيراته إنشاء المدرسة التي بين القصرين تجاه البيمارستان، والجامع الذي بالحسينية.

وفي أيامه أقيمت الخلافة العباسية بمصر، بعد قتل المستعصم كما تقدم ذلك، فأقام في السلطنة سبع عشرة سنة وشهرين ونصفاً.

ومات في القصرين بدمشق سنة ست وسبعين - بتقديم السين - وستمائة.

ثم تولى ابنه

الملك السعيد ناصر الدين

محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس.

دعي ببركة خان على اسم جده لأمه بركة خان، ملك التتار ابن دولة خان الخوارزمي.

تسلطن في حياة أبيه بيبرس صورة في يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين ستمائة إلى أن استبد بالأمر بعد موت أبيه، واستمر إلى أن خرج عليه جماعة من الأمراء، وكبيرهم حموه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي وخلعوه من الملك وسلطنوا أخاه سلامش بن الملك الظاهر.

وكانت مدة الملك السعيد من يوم موت أبيه سنتين وشهرين ونصفاً.

وأعطى الكرك بعد أن خلع، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن مات يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة.

ثم تولى

الملك سلامش بن بيبرس

الملك العادل سيف الدين.

تسلطن بعد أخيه، وهو ابن سبع سنين ونصف، وصار أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، فخلع به في شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، وكانت مدته مائة يوم، وليس له إلا مجرد الاسم.

ثم تولى

الملك المنصور قلاوون الألفي

الملك المنصور سيف الدين.

تسلطن بعد خلع سلامش، وأصله من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، اشتراه سنة سبع وأربعين وستمائة، وترقى بعد موت أستافه الصالح، وعظم بدولة الظاهر بيبرس إلى أن صار يخطب له مع السلطان العادل سلامش المذكور، وضربت السكة على وجه باسم سلامش، وعلى الوجه الآخر باسم قلاوون، وأمسك جماعة من الأمراء الظاهرية، واستعمل مماليكه على البلاد وأمرهم. وله همة عظيمة.

ومن مناقبه أن عدة مماليكه بلغت اثني عشر ألفاً، وأن ملك مصر دام من بعده في ذريته ونسله ثم في يد مماليكهم، إلى أن انقضت دولة الأتراك، وجاءت دولة الأروام وكان أجل ملوك الترك، وهو الذي بنى بمصر البيمارستان بين القصرين والقبة التي دفن فيها، وله فتوحات بساحل البحر الرومي، منها: طرابلس وبيروت وصيداء وغير ذلك، وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنة وشهرين ونصفاً، وتوفي سنة تسع وثمانين وستمائة.

ثم تولى الأشرف

صلاح الدين خليل بن قلاوون

تسلطن بعد موت أبيه، واستمر إلى أن خرج من القاهرة في أوائل المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وتوجه إلى البحيرة للصيد، فلما كان بتروجة يوم السبت ثاني عشر محرم الحرام وقت العصر حضر إليه نائب السلطنة الأمير بيدار ومعه جماعة من الأمراء، وكان الأشرف قد أمره بكرة النهار أن يمضي بالدهليز والعساكر إلى جهة القاهرة، وبقي الأشرف وأمير شكار يتصيدان، فأحاطوا به وليس معه إلا شهاب الدين بن الأشهل أمير شكار المذكور، فابتدر الأشرف بيدار وضربه بالسيف فقطع يديه، ثم ضربه حسام الدين لاجين على كتفه فحلها، فصاح لاجين على بيدار: من يريد الملك تكون هذي ضربته؟! فسقط الأشرف عن فرسه ولم يكن معه سيف بل كان في وسطه بند مشدود، ثم جاء الأمير بهادر رأس نوبة فأدخل السيف من أسفله وشق به إلى حلقه وتركه طريحاً في البرية، واتفقوا على بيدار وحلفوا له ومشوا تحت العصائب السلطانية يريدون القاهرة ولقبوه بالملك الأوحد، وبات تلك ليلة وأصبح يسير إلى القاهرة، فلما ارتفع النهار إذا بجمع عظيم قد أقبل فيه الأمير كتبغا المنصوري، والأمير حسام الدين الأستادار، وغيرهما، يطلبون بيدار بدم أستاذهم الأشرف خليل، فالتقوا فانكسر بيدار وقتل، وحملت الأشرفية رأسه على رمح، وعادوا إلى القاهرة، واتفقوا على سلطنة أخيه محمد بن قلاوون، فكانت مدته؛ ثلاث سنين وشهرين، وقتل سنة ثلاث وتسعين وستمائة.

ثم تولى

الملك الناصر محمد

أخو الأشرف المذكور.

بويع بعد قتل أخيه في العام المذكور، وعمره تسع سنين، وهذه سلطنته الأولى، واستقر نائبه في السلطنة الأمير كتبغا المنصوري، وفي الوزارة علم الدين سنجر الشجاعي مضافاً للأستدارية وتدبير الدولة، ثم قبض الناصر على جماعة من الأتراك الذين اتفقوا على قتل أخيه، ثم أمسكه كتبغا الشجاعي لما بلغه أنه يريد الفتك به ولقتله بعض أصحاب كتبغا المنصوري صبراً، واستبد كتبغا بأمر المملكة لصغر سن الناصر، ثم بدا له أن يخلعه ويتسلطن عوضه، فاتفق مع أكابر الأمراء على ذلك فوافقوه، وخلعوا الناصر في الحادي والعشرين من المحرم سنة أربع وتسعين و ستمائة، وسلطنوا:

كتبغا

ولقبوه بالعادل. وكانت مدة الناصر هذه الأولى نحو السنة. ثم جهز كتبغا الناصر إلى الكرك بعد أن قال له: لو علمت أنهم: يُخلون لك الملك والله لتركته، ولكنهم لا يخلونه لك، وأنا مملوكك، ومملوك والدك أحفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وتجرب الأمور فتعود إلى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق أكون بها مثل صاحب حماه، فوافقه على ذلك، فأقام كتبغا سنتين، ثم هرب إلى الشام سنة ست وتسعين وستمائة.

ثم تولى

الملك المنصور حسام الدين لاجين

الذي كان نائباً عن كتبغا، فأقام سنتين وشهراً ونصفاً، وقتل في القلعة سنة ثمان وتسعين وستمائة.

ثم عاد

الملك الناصر محمد بن قلاوون

إلى السلطنة ثانياً، وفيه يقول الوداعي: من السريع:

أَلمَلِك الناصِرُ قَد أَقبَلَت ... دَوْلَتُهُ مُشرِقَةَ الشَمسِ

عادَ إِلئ كُرسِيهِ مِثل مَا ... عَادَ سُلَيمَانُ إِلى الكُرْسِي

واستمر إلى أن تجهز لقتال التتار، فانكسر فرجع إلى مصر، ثم تجهز للقائهم أيضاً فكسرهم وهزمهم، ونصر الله الإسلام وأهله، ثم عاد إلى مصر فتنكر عليه صاحب سلال وأستاداره بيبرس الجاشنكير، ودام ذلك التكدر بينهم إلى أن أظهر في رمضان سنة ثمان وسبعمائة التوجُّه إلى الحجاز، وخرج من القاهرة، وتوجه إلى الكرك متبرماً منهما، وأعرض عن ملك مصر، فروجع في ذلك فأبى، فكانت مدته عشرين سنة، فاتفق الأمراء على سلطنة بيبرس الجاشنكير وسلطنوه، فتسلطن:

بيبرس الجاشنكير

ولقبوه بالملك المظفر. تسلطن عام ثمان وسبعمائة بعد خلع الناصر محمد بن قلاوون، وعيب به في الإرسال إلى الكرك، وتطلب الأموال منه، حتى إن الناصر تأدب معه في المكاتبات وكتب له الملك المظفر وهو لم يرجع عنه، فلما زاد عليه تحرك عليه، وكانت مماليك أبيه النواب بالديار الشامية كلهم معه - ما عدا الأفرم فإنه كان من أعوان الجاشنكير - فأجابوه بالسمع والطاعة، فتوجه إلى الجاشنكير المذكور فجبن عن لقائه لتغير مماليكه وجماعته عليه، ثم تسحب من قلعة الجبل والعامة من خلفه تؤذيه وتريد به شراً حتى شغلهم بنثر الذهب عليهم، وتوجه هارباً إلى الصعيد واستولى الناصر على البلد، ثم احتال على قبضه وإحضاره فخنقه بالوتر ثم أطلقه وسمه، ثم خنقه ثانياً هكذا، إلى أن مات في شوال سنة تسع وسبعمائة، فكانت مدة دولته سنة، وفي ذلك يقول بعضهم: من الوافر:

تَثَنى عطْفُ مصر حِينَ وافى ... قدومُ الناصر المَلِكِ الخَبِيرِ

فَذَل الجَشنَكِير بِلاَ لِقَاءٍ ... وأَصْبَحَ وَهْوَ ذُو جَأشٍ نَكِيرِ

إذا لَم تئضد الأقدار شَخصاً ... فأوَلُ ماً يُرَاعُ مِنَ النَصِيرِ

وهو الذي بنى البيبرسية بالدرب الأصفر.

وهذه هي المرة الثالثة لعود السلطان الناصر محمد إلى الملك، فدام في السلطنة ثلاثة وثلاثين عاماً بعد بيبرس المذكور، وعظم أمره جداً وعمر العمائر الهائلة، حتى إنه صار أجل سلاطين مصر من جميع الوجوه، واستمر إلى أن مات يوم الأربعاء عشري ذي الحجة الحرام سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتسلطن من ولده لصلبه ثمانية نفر، وكانت مدة ولايته في المرات الثلاث أربعاً وأربعين سنة وخمسة عشر يوماً.

ثم تولى الأشرف

علي كجك بن محمد الناصر بن قلاوون

تسلطن بعد قتل أخيه، وكان قوصون إذا حضرت العلامة يأخذ القلم بيده، ويجعله في يد الأشرف حتى يعلم على المناشير، واضطربت الأحوال ووقع التعصب على قوصون في الخاصة والعامة؛ لقبح سيرته معهم، فقتلوه ونهبوا داره وخلعوا كجك في يوم الإثنين عاشر شوال سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بأخيه أحمد ابن الناصر محمد بن قلاوون، وحبس كجك بقلعة الجبل إلى أن مات في سلطنة أخيه الآخر، وهو الملك الكامل سنة ست وأربعين وسبعمائة.

ثم تولى

الملك الناصر أحمد بن قلاوون

تسلطن بعد خلع أخيه كجك، واستمر إلى أن اختار ترك ملك مصر، وعاد إلى الكرك وأخذ الأموال والذخائر بعد أن ظلم وتعسف، فطلبوه للملك مراراً وهو ممتنع متعذر، وترد أجوبته بخط كاتب نصراني كان مقرباً عنده، فخلعوه بأخيه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون، وأجلس على تخت الملك يوم الخميس ثاني عشر محرم الحرام سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فكانت مدته دون الأربعة أشهر، فجهز إليه أخوه الملك الصالح الجيوش مرة بعد أخرى، وحاصره بالكرك فلم يقدر الناصر أحمد على مقاومة الناصر إلى أن تلاشى أمر الناصر وهلك أهل الكرك من الجوع، وهو مع ذلك لا يمل ولا يكل من القتال والحصار، إلى أن قبض عليه يوم الإثنين وقت الظهر ثاني عشر صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكتب بذلك إلى أخيه، فأرسل الملك منجك اليوسفي فحز رأسه، وتوجه به إليه إلى القاهرة.

ثم تولى الملك الصالح

 

إسماعيل المذكور ابن محمد قلاوون

تسلطن بعد توجه أخيه إلى الكرك، واستمر إلى أن مات في العشرين من ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة، وكانت مدته ثلاث سنين وشهراً وثمانية عشر يوماً ورثاه الصفدي بقوله: من الطويل:

مَضَى الصالحُ المَرجو للبأسِ والندَى ... وَمَن لَم يَزَل يَلقَى المُنَى بالمَنَائِحِ

فَيا لَك مِصر كَيف حَالُكِ بَعدَهُ ... إذا نَحنُ أَثنَيناً عَلَيك بصَالِحِ؟!

ثم تولى الملك الكامل

شعبان بن محمد بن قلاوون

تسلطن بعد موت أخيه الملك الصالح بعهد منه إليه بعد اختلاف من الأمراء في إقامته وإقامة أخيه حاجي، فاتفقوا عليه، وقال الأمير نائب السلطنة: بشرط أن لا يلعب بالحمام، فنقم عليه شعبان بعد أن تسلطن، وأخرجه إلى نيابة صفد، وكان جلوس الملك الكامل على سرير الملك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فقال فيه ابن نباتة المصري: من مخلع البسيط:

شَعبَانُ سُلطَانُناً المُرَجى ... مُبَارَكُ الطالِعِ البَدِيعِ

ياً بَهْجَةَ الدهرِ إذ تَبَدى ... هِلاَلُ شَعبَانَ في رَبِيعِ

واستمر إلى أن خلعه الأمراء يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبعمائة بأخيه حاجي، فكانت مدته سنة واحدة وسبعة عشر يوماً.

قال الصفدي: حكى لي سيف الدين عاود بن أرغون شاه قال: مَدَدنا السماط على أن يأكل الملك الكامل: وجهزنا طعام حاجي إليه في السجن، فخرج حاجي وكل على السماط ودخل الكامل السجن، وأكل الطعام الذي كان لحاجي، وقلت في واقعته: من السريع:

بيتُ قَلاَوُون مُعَادَاتُهُ ... في عاجِلِ كانَتْ بلا آجلِ

حل عَلَى أَمْلاَكِهِ للردى ... دَينْ قَدِ اسْتَوفَاهُ بالكَامِلِ

وقتل الكامل يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة من السنة المذكورة.

ثم تولى

حاجي

ويقال: أمير الحاج ولقب بالملك المظفر. تسلطن بعد خلع أخيه الملك الكامل كما تقدم، واستمر إلى أن وقع بينه وبين الأمراء أشد المنافرة، وتفرقت عنه قلوب الناس، فخرج الأمراء بمن معهم إلى قبة النصر، فركب المظفر ومن معه إليهم، فتفرق عنه أصحابه، فالتقاهم هو بنفسه فطعنه أمير يلبغا أمير مجلس فطرحه عن فرسه، وضربه الأمير طال برقه بالطبر من خلفه فجرح وجهه وأصابعه، ثم ربطوه وأحضروه إلى الأمير أرقطاي النائب ليقتله، فلما رآه نزل عن فرسه ورمى عليه قباءه وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان ابن سلطان ما أقتله، خذوه إلى القلعة، فأدخلوه إلى تربة هناك وقضى الله أمره فيه، وذلك في ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وكانت مدته سنة وثمانية أشهر واثني عشر يوماً، وكان أكبر أسباب عزله لعبه بالحمام، فقال الصفدي رحمه الله تعالى في ذلك: من الخفيف:

أيهاً العَالِمُ اللبِيبُ تَفَكر ... في المَلِيكِ المُظَفرِ الضرغَام

كمَ تَمادَى فِي البغي والغي حَتى ... كَانَ لعبُ الحَمَامِ جِد الحِمَامِ

ثم تولى السلطان حسن بن محمد بن قلاوون من أولاد الناصر محمد بن قلاوون:

تسلطن بعد أخيه قبله، وكان اسمه قمارى، فلما جلس على سرير الملك سماه النائب قمارى، فقال له السلطان: يا عم ما اسمي إلا حسن، ما أنا مملوك، فقال النائب: المرسوم مرسومك يا خوند. واستمر في الملك إلى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، فوقعت بينه وبين الأمير طاز الناصري وحشة، فقام طاز في خلعه وسلطنة أخيه صالح فتم له ذلك، فَأُخِذَ السلطان حسن، وحبس بالدور من قلعة الجبل بعد أن خلع نفسه، وذلك في أوائل رجب من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وكانت مدته ثلاث سنين وتسعة أشهر.

ثم تولى

الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون

تسلطن بعد أخيه حسن، وصار مدبر مملكته الأمير إن طاز، وليس للصالح فيها إلا الاسم فقط، إلى أن أخرج طاز الأمير شيخو اللال العمري الناصري من سجن الإسكندرية فبقي أمر المملكة إلى ثلاثة: شيخو أتابك العساكر، وهو أول من سمي بالأمير الكبير، ولبس لها خلعة فصارت الأتابكية وظيفة من يومئذ، والأمير طاز أمير مجلس، والأمير صرغتمش رأس نوبة النوب، ونائب السلطنة إذ ذاك الأمير صلاي. واستمر الصالح إلى أن خلعه شيخو من السلطنة وأعاد حسن في يوم الإثنين ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدة الصالح ثلاث سنين وثلاثة أشهر، واحتفظ عليه بداره إلى أن توفي في ذي الحجة الحرام سنة إحدى وستين وسبعمائة.

وتولى أمر السلطان حسن وعظم شأنه إلى أن وقع بينه وبين غلامه مملوك يلبغا العمري، فتحاربا فانكسر حسن إلى القلعة، فتبعه يلبغا فهيأ السلطان مماليكه للقتال فلم يجد لهم خيلاً لأن الخيل كانت في الربيع، فَتَزَيا بغير زيه وهرب، فعرف وقبض عليه ولم يعلم ما وقع له، وكانت مدته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر.

والسلطان حسن هذا هو الذي بنى المدرسة التي بالرميلة بمصر، وهي من أحسن المدارس عالية البناء واسعة الفناء، ثم عمر لها عمارة بأربعة رؤوس، وقد وصفها المؤرخون وصفاً عجيباً.

وقصة السلطان حسن مع الشيخ العلامة قوام الدين الأتقاني حين قال له السلطان: ما الفرق بينك وبين الحمار؟ فأجاب بقوله: هذه الوسادة، وقد كانت بينهما.

وفي أيام السلطان حسن بنى شيخو جامعه، وخانقاءه، وبنى صرغتمش مدرسة، وقرر الشيخ قوام الدين في تدريسها، وكانت مدة تصرف السلطان حسن أولاً وثانياً عشر سنين وأربعة أشهر، ثم قتل بيد مملوكه يلبغا سنة اثنتين وستين وسبعمائة.

ثم تولى

محمد ابن الملك المظفر حاجي

ويقال: أمير الحاج بن محمد بن قلاوون وتلقب بالملك المنصور، بويع بعد قتل عمه حسن في العام المذكور، فأقام سنتين وخمسة أشهر، ثم خلع فأقام بالقلعة محبوساً إلى أن مات سنة أربع وستين وسبعمائة.

ثم تولى الملك شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون:

ولقب بالملك الأشرف بعد ابن عمه قبله، إلا أن الأمور كلها بيد يلبغا، وشاركه في ذلك طنبغا الطويل: فما زال يلبغا وطنبغا حتى ظفر به وقبض عليه وظلم، فاتفق المماليك على قتله ففر، فاشتجاشوا بالسلطان شعبان عليه فوافقهم ونزل إلى بولاق وسلطن يلبغا أيزك بن حسن أخا شعبان فلم يتم له ذلك، ثم انهزم يلبغا فقتل، فأقام شعبان في الأتابكية بعده استدمر، وخلع عليه فأراد استدمر أن يحذو حذو يلبغا في مشاركه السلطنة بعد أن سكن بالكبش فلم يوافقه شعبان على شيء من ذلك، فأراد استدمر خلع شعبان وركب عليه، فانكسر استدمر ومسك وحبس، وفي ذلك يقول ابن العطار الشاعر: من البسيط:

هِلاَلُ شَعبَانَ جَهراً لاَحَ فِي صَفَرِ ... بالنصرِ حَتَى أَرَى عِيداً لشَعْبَانِ

وأَهلُ كَبشٍ كَأَهلِ الفِيلِ قَد أُخِذُوا ... رَجماً وماً انْتَطَحَت في الكَبْشِ عنزانِ

واستمر شعبان عظيم الشوكة إلى أن توجه للحج سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وأقام جماعة في تدبير المملكة فاختلفوا عليه، وخلعوه في غيبته، وسلطنوا ولده علياً وزعموا أن شعبان بالعقبة، وصادف قولهم هذا أن الأمراء الذين معه خرجوا عليه بعقبة أيلة، وانهزم معهم وعاد إلى القاهرة واختفى في تربة عند قبة النصر، فبلغ الأمراء الذين عصوه فأمسكوا غلاماً كان معه وضربوه فأقر، فتوجهوا إليه وقتلوه، وقتلوا من معه من الأمراء، وكان قتله ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة سنة سبع وسبعين وسبعمائة.

قلت: ومن خيراته بناء منارة الحزورة، كما ذكره القطب وغيره، والعمود المنقور عليه اسمه كان قريباً منها.

فلما وقع الحريق بالمسجد - وعمر ذلك الجانب فرج بن برقوق ثاني ملوك الشراكسة - نقل لا عن قصد، ووضع تحت منارة باب بني سهم المعروف بباب العمرة، فيظن الرائي ذلك التاريخ في العمود أن الإشارة فيه إليها لقرب مكانه منها، وانما هو لمنارة الحزورة وهي مؤرخة بعام اثنين وسبعين وسبعمائة.

وفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أحدثت العلامة الشطفة الخضراء على عمائم الشرفاء ليتميزوا بها، وكان ذلك بأمر هذا السلطان شعبان بن حسن بن الناصر محمد ابن قلاوون المذكور، فقال في ذلك العلامة أبو عبد الله بن جابر الضرير النحوي صاحب شرح الألفية المشهور بالأعمى والبصير رحمه الله تعالى: من الكامل:

جَعَلوا لأَبْنَاءِ النبِي عَلاَمَةً ... إن العَلاَمَةَ شَأنُ مَن لَم يشهَر

نُورُ النبُوَّةِ فِي كَرِيم وُجُوهِهِمْ ... يُغنِي الشرِيفَ عَنِ الطرَازِ الأَخْضَرِ

وفي هذه السنة كان ابتداء خروج الطاغية تيمورلنك، الذي خرب البلاد وأباد العباد، فكان تاريخ خروجه عذاب وذلك سنة 773، واستمر يعثو في الأرض بالفساد إلى أن أهلكه الله في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة، وسيأتي ذكره عند ذكر ملوك آل عثمان في الباب السابع إن شاء الله تعالى.

ثم تولى بعده ولده علي بن الأشرف شعبان وتلقب بالملك المنصور في عام السبع والسبعين والسبعمائة المذكور:

تسلطن بعد والده وهو ابن سبع سنين، واستمر إلى أن مات في يوم الأحد ثالث عشر صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، وكانت مدته خمسة أعوامّ وخمسة أشهر وله من العمر ثلاثة عشر عاماً.

ثم تولى أخوه حاجي بن شعبان الأشرف:

وتلقب بالملك الصالح بعد موته في عام ثلاث وثمانين، فدام سلطانه عاماً كاملاً وأشهراً، وكان سنه ست سنين والكلام لبرقوق، ثم خلعه برقوق بعد إلزام له من الأمراء لما وقع من الفتن، وتسلطن برقوق يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين، ثم إن برقوقاً جعل حاجي بن الأشرف شعبان بعد خلعه في قلعة الجبل كما هي عادة أولاد السلاطين، فاستمر إلى سنة خمس وثمانين، فثار على برقوق يلبغا الناصري فخلعه، وأعاد حاجي إلى الملك، فتسلطن ثانياًْ، واستمر إلى أن حف به منطاش، واستعان به على حرب برقوق بعد أن أطلق من حبس الكرك، فتوجه حاجي معه لقتال برقوق، فانتصر عليهما ومعهما الخليفة العباسي، فقتل منطاش، وأمسك حاجي إلى أن دخل به إلى القلعة بمصر، وفرش له الحرير ليمشي عليه فعزل نفسه، ثم جعله بداره بقلعة الجبل مبجلاً إلى أن مات في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة، فكانت مدته الثانية هذه سبعة أعوام ونحو ستة عشريوماً.

وبعزل الصالح نفسه كما ذكر انقضت الدولة التركية، وأقبلت الدولة الشركسية وكانت مدتهم مائة وأربعاً وثلاثين سنة، وعدة ملوكهم خمسة وعشرين ملكاً، والملك لله الذي لا يزول ملكه ولا يتحول.