في ذكر الدولة الشركسية بمصر والشام وأعمالهما

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

الباب السادس

في ذكر الدولة الشركسية بمصر والشام وأعمالهما

اعلم أن الشراكسة جنس من الترك في جتوب الأرض لهم مدائن عامرة، ولهم جمال ومزارع يرعون ويزرعون، وهم تابعون لسلطان سراي قاعدة ملك خوارزم، وملوك هذه الطوائف لملك صراي كالرعية يقاتلونهم، ويسبون منهم النساء والأولاد ويجلبونهم إلى أطراف البلاد والأقاليم، وكان الملك المنصور قلاورن الذي هو من ملوك الأتراك صاحب مصر قد استكثر من شراء المماليك الشركسية وكذلك أولاده وأولادهم، وأدخلوهم في الخدم الخاصة وصاروا صلحدارية وجمدارية وجاشنكيرية، وكبروا عمائهم وسلكوا طرائق أستاذيهم ملوك الترك وأدخلوا السلطنة وغلبوا عليها واستكثروا من جنسهم وعملوا قواعد انتظمت بها دولتهم وولي منهم ومن أولادهم السلطنة بمصر اثنان وعشرون ملكاً.

وكان ابتداء ملكهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة، ومدة ملكهم مائة وثمانية وثلاثون سنة. فأولهم:

السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق

بن آنص العثماني. كذا ذكره المقريزي في خططه:

قام بدولة الشركسة، جلبه عثمان بن مسافر فلذلك يقال له: برقوق العثماني، فاشتراه الأتابك يلبغا العمري، وهو من جملة الأتراك الذين مسهم الرق مماليك بني أيوب، وإنما سمى برقوق؛ لجحوظ في عينيه، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار أمير مائة مقدم ألف، وكان أتابكاً للملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن الناصر بن محمد قلاوون، وهو الرابع والعشرون من ملوك الأتراك مماليك الأيوبية المتغلبين عليهم، وكان إذ ذاك سن الملك الصالح حاجي لما ولي السلطنة عشرة أعوام، وليس له من السلطنة إلا الاسم، فألزم الأمراء برقوق بخلع الملك الصالح حاجي وبتوليته السلطنة بدله، فخلع بعد سنة ونصف كما تقدم، وذلك يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة.

وكان برقوق متمكناً من المملكة جمع الأموال والخزائن، واشترى المماليك الشركسية، فتمكنت من الملك، وتلاعبت بعده المماليك الشركسية بملك مصر، وصاروا ملوكها وسلاطينها بالقوة والغلب والاستيلاء، وكانت تقع بينهم فتن وجدال وجلاد، وقتل نفوس، وحرب بسوس، وخوف وبؤس، إلى أن يستقر الأمر لواحد منهم فيركب في شعار السلطنة.

وكان من شعار سلاطينهم عمامة كبيرة ملفوفة مكلفة يجعلون في مقدمها ويمينها ويسارها شكل ستة قرون بارزة من نفس العمامة ملفوفة من نفس الشاش، يلبسها السلطان في موكبه وديوانه وذلك عرف لهم، والعرف يحسن ويقبح، ويلبس قفطاناً يكون على كتفه قطعة طراز مزركش بالذهب ومثله على كتفه الأيسر.

ويلبسه الأمراء أيضاً، فليس مخصوصاً بالسلطان، ويخلع بمثل هذا القفطان على من أراد، وتحمل على رأس السلطان قبة صغيرة لطيفة كالجسر في وسطها صوره طير صغير يظلل السلطان بتلك القبة، والذي يحملها على رأس السلطان هو أمير كبير وظيفته أن يصير سلطاناً بعد ذلك.

وأكابر أمرائه أربعة وعشرون أميراً بطبلخانة تضرب على أبوابهم صبحاً وعصراً كل واحد منهم أمير بابه مقدم ألف بمنزلة البيكلاربيكية عندهم، ودونهم أمير عشرة مقدم مائة بمنزلة السنجق، كل واحد منهم عمامته بقرنين فقط، ودونهم الخاصكية يكون له فرس، وخادم، وعلى رأسه زنط عليه عمامة بعذبة يديرها تحت حنكه، ودونهم - وهم المشاة - على رووسهم طواقٍ من جوخ أحمر ضيق مدخله واسع آخره لاطىء برأسه، وملبوسُ أكثرِهم اللطةُ البيضاء المصقولة يكون على كتفيه طرازان من مخمل وأطلس مزركش، وفي أوساطهم شدود بيض مصقولة يشدونها ويسدلونها، ويسدلون أطرافها إلى أنصاف سوقهم، وكأن خيال السلطنة في دماغ كل واحد منهم من حين يُجلب إلى السوق إلى أن يموت.

حتى إن واحداً منهم جلب، وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرَج، قال للدلال الذي يبيعه: هل اتفق تولي الأقرع الأعرج سلطاناً في مصر. وبالجملة فقد كانت لهم سماحة وحماسة وصداقة لمن صادقوه، وكانت أرزاق مصر بأيديهم، وأهل مصر تتلاعب بهم فيما بيدهم من الأرزاق.

ثم لما تسلطن برقوق استمر سلطاناً، وأنشأ المدرسة التي بمصر بين القصرين، كان مشد عمارتها شركس الخليلي، فقيل في ذلك العمل: من البسيط:

قَذ أَتشاً الظاهِرُ السلطَان مَدرَسَة ... فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرعَةِ العَمَلِ

يَكفِي الخَلِيلَ بِأَن جَاءَتْ لخدمَته ... صم الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ

فأقام سلطاناً إلى أن اختلف عليه الأمراء، فخرج عليه تمربغا الأفضلي ويلبغا العمري فجهَّز عليهما عساكر فكسر، وقوى أمرهما وملكا مصر، فإن برقوقاً عجز عن النهوض وقبض عليه، فأخرج حاجي من دور القلعة وأعيد إلى السلطنة، وحبس برقوق بالكرك ثم تسحب من الحبس، وجمع الجيوش، وقاتل وغلب على المملكة، وأعيد إلى السلطنة، وصار يتتبع أعداءه ومن خرج عليه، ويقدم من وافقه وحالفه إلى أن اصطفاهم وما صفا له الزمان، وظن أنه من وأين الأمان، وبرق برق الزيال على برقوق وشاهد الانفصال، فعهد بالسلطنة إلى ولده الناصر فرج، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الجمعة وقت التسبيح منتصف شوال سنة واحد وثمانمائة، وفي ذلك يقول أحمد المقري رحمه الله تعالى: من الطويل:

مَضَى الظاهِرُ السلطَانُ أَكرَمُ مَالِكِ ... إِلَى رَبهِ يَرقَى إِلَى الخُلدِ فِي الدَرَج

وقَالُوا سَتَأتي شِدَة بَعدَ مَوْتِهِ ... فَأَكذَبَهمْ رَبي وَماً جاً سِوَى فَرَجْ

وخفف برقوق من الذهب العين الذي ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الخيل المسومة والبغال الفارهة ستة آلاف، ومن الجمال خمسة آلاف، وكان عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول، وكانت مدة تصرفه ست عشرة سنة وأربعة أشهر.

ثم تولى ابنه

الملك الناصر

أبو السعادات فرج بن برقوق عند وفاة أبيه كما تقدم، صبيحة يوم الجمعة منتصف شوال سنة ثمانمائة وواحدة، وصار الأمير أيتمش مدبر مملكته، والأمير يشبك خازنداره، فوقعت بينهما منافرات أدت إلى مشاجرة، ثم إلى قتال، فانكسر أيتمش، فهرب إلى نائب الشام وجيش جيوشاً على الناصر ويشبك، فخرج الناصر لقتالهم فهزمهم، واضطربت أحوال مصر؛ لاختلاف الكلمة.

ثم وصل تيمورلنك إلى بلاد الشام، وأخذها من سردون الظاهري، فخرج إليه الناصر فرج فوجده قد توجه إلى بلاد الروم، فأعطى الشام لتغري بردي، وعاد إلى مصر سنة ثلاث وثمانمائة.

ومن خيرات فرج: تعميره المسجد الحرام من الحريق الواقع به ليلة السبت لليلتين بقيتا من شوال سنة ثمانمائة واثتتين، وسببه ظهور نار من رباط راشت الملاصق لباب الحزورة من أبواب المسجد في الجانب الغربي منه، وراشت هو الشيخ أبو القاسم إبراهيم بن الحسين الفارسي، وقف هذا الرباط على الرجال الصوفية أصحاب المرقعات في سنة 529 خمسمائة وتسع وعشرين، فوشت النار من سراج تركه في الخلوة، فاحترق ما في الخلوة وعلق الحريق من شباك الخلوة إلى سقف المسجد فاشتعل سقف المسجد، وعجزوا عن إطفائه، لارتفاع السقف فاحترقت الأروقة من ابتداء الحريق إلى باب العجلة، فأرسل فرج الأمير بيسق سنة ثمانمائة وثلاث إلى مكة، وكان هو أمير الحاج المصري، فعمر المسجد الحرام في مدة يسيرة، وكملت في أواخر شعبان سنة أربع وثمانمائة.

ومن جملة خيراته: أنه لما رأى رباط راشت وما آل إليه بعد الحريق من الخراب حتى صار سباطة بذلك المحل، أمر بإعادته رباطاً كما كان، وصرف عليه من ماله إلى أن عاد أحسن من الأول، ويسمى هذا الرباط الآن رباط الخاص، سببه أنه استأجره وعمره بعد تهدمه في أواسط القرن العاشر، والخاص من طائفة المباشرين في ديوان السلطان بمصر من خدمة السلطان جقمق العلائي ومن بعده، وكان هذا بيسق الأمير من أهل الخير رحمه الله.

ثم كثرت الفتن بمصر من الأمراء الظاهرية على فرج، إلى أن ضجر من ذلك وهرب من القلعة بعد العشاء ليلة الإثنين سادس ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، فاختفى عند سعد الدين بن عرب أحد رؤوس المباشرين فأخفاه عنده، فأصبح الأمراء فاقديه، فأقاموا في السلطنة أخاه الملك المنصور عبد العزيز بن برقوق، فتلاشت أمور المملكة لصغر سنه واختلاف الأمراء عليه، فظهر الناصر فرج بعد هروبه واختفائه وركب معه أمراء من مماليك أبيه، فأخذ القلعة في جمادى الآخرة سنة ثمانمائة وثمان ونفى أخويه عبد العزيز وإبراهيم إلى الإسكندرية فتوفيا بها، واتهم فرج بقتلهما في سنة تسع وثمانمائة.

ثم صار الملك الناصر يتتبع أعداءه من الأمراء فيقتلهم واحداً بعد واحد، فتجمعوا عليه وخرجوا عن طاعته، وقاتلوه فهزمهم، وخرجوا إلى الشام فتبعهم وصاروا يمكرون به ويهربون عنه، ويتعبونه في طلبهم، إلى أن مل منه الخدم والأتباع فصادفوه في طلبهم بعد التعب والدأب، وهو ومن معه قد أتعبوا خيولهم في طلبهم من العشاء إلى الصباح وأشرفوا عليه. فحمل الناصر ومن معه وهم نفر قليل على أعدائه وهم متوفرون كثيررن، فمنعه أصحابه من هذه الحملة، وعلموا أنهم في قلة فلم يطعهم وأطاع غروره وجهله، واغتر بشجاعته وظن أن لا يقابله أحد، فدارت عليه الدوائر، فما كان للناصر من قوة ولا ناصر. فأُخِذَ وقيد، وحبس بقلعة دمشق إلى أن قتل بأيدي المشاعلية بالسكاكين في ليلة السبت منتصف صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة وألقي بعد هذه القتلة على سباطة مزبلة، وهو عريان عن اللباس تمر به الناس تنظر إلى ذلك البدن الممتهن والجسد العاري الممتحن، إلى أن عطف الله بعض الأنام بعد عدة أيام فحمله وغسله وكفنه وواراه في مقبرة باب الفراديس.

ووقع في أيام فرج بن برقوق المذكور أن سلطان كاله من سلاطين الهند وهو غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه أرسل إلى الحرمين الشريفين صدقة كبيرة مع خادمه ياقوت الغياثي؛ ليتصدق بها على أهل الحرمين، ويعمر له بمكة مدرسة، ورباطاً ويوقف على ذلك جهات يصرف ريعها على أفعال البر كالتدريس ونحوه، وكان ذلك بإشارة وزيره خان جهان، فوصل ياقوت المذكور بأوراق سلطانية إلى مولانا الشريف حسن بن عجلان شريف مكة يومئذ مع هدايا جليلة إليه فقبلها وأن يفعل ما أمر به السلطان غياث الدين، لكنه أخذ ثلث الصدقة على معتاده ومعتاد آبائه، ووزع الباقي على الفقهاء والعلماء والفقراء، فاشترى ياقوت الغياثي لعمارة المدرسة والرباط دارين متلاصقتين على باب أم هانئ، هدمهما وبناهما رباطاً. ومدرسة، واشترى أصيلتين وأربع وجبات من ماء الريحاني، وجعلها وقفاً على مدرسة، وجعل لها أربعة مدرسين، واشترى داراً مقابلة للمدرسة المذكورة بخمسمائة مثقال ذهباً ووقفها على مصالح الرباط، وأخذ منه السيد حسن بن عجلان في الدارين اللتين بناهما رباطاً ومدرسة والأصيلتين والأربع وجبات من قرار عين الريحاني اثني عشر ألف مثقال ذهباً، وأخذ منه مبلغاً لا يعلم قدره كان جهزه معه سلطانه؛ لتعمير عين عرفة. فذكر مولانا أنه يصرف ذلك على عمارتها، فعين الشريف أحد قواده وهو الشهاب بركوت المكيني لتفقد عين بازان وإصلاحها وإصلاح البركتين وكانتا معطلتين فأصلحهما.

وكان خان جهان المذكور أرسل مع ياقوت الغياثي المذكور خادماً له يسمى إقبال أرسله بصدقة أخرى من عنده لأهل المدينة، وجهز معه مالاً يبني له به مدرسة ورباطاً وهدية لأمير المدينة يومئذ، وهو الأمير جماز الحسيني، فانكسرت السفينة التي بها مواد بقرب جدة؛ فأخذ الشريف حسن ربع ما خرج من البحر على عادتهم في المكسر، وأخذ ما يتعلق بالأمير جماز؛ لأنه عصى وظهر منه شنائع في المدينة من أخذ مفتاح خزانة النبي صلى الله عليه وسلم من قاضي المدينة جبراً بعد إهانته، وهو القاضي زين ين أبو بكر بن الحسين المراغي، وضرب شيخ الخدام، وأخذ من خزانة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة خوشخانة وصندوقين كبيرين، وصندوقاً صغيراً كلها ممهورة فيها ذهب مودعة لملوك العراق، وخمسة آلاف كفن أراده، وأخذ قناديل الذهب من الحجرة فمنعه الله ورجمته العامة، فهرب من المدينة الشريفة، وأخذه الله، ونهب العرب كل ما معه، فأرسل مولانا الشريف حسن بن عجلان إلى المدينة عسكراً وصلوا إليها بعد خراب البصرة، فولى عليها الشريف حسن بن عجلان غير الحسيني المذكور، وكل ذلك سنة إحدى عشرة وثمانمائة.

ولما قتل الناصر فرج ما أقدم أحد من الشراكسة على التلبس بالسلطنة خوفاً من مخاصمة العسكر.

ثم ولي

الخليفة العباسي

ولَّوْه بالجبر، وهو المستعين بالله أبو الفضل العباسي المصري بعد تمنع شديد. وكان القائم بتدبير المملكة الأمير شيخ المحمودي، فاستمر المستعين بالله ستة أشهر وأياماً وخلع، وكان استناب المؤيد شيخ، وشاركه في الخطبة والأمر للمؤيد.

ثم تولى

الأمير شيخ المحمودي

وتلقب بالملك المؤيد في مستهل شعبان من السنة المذكورة سنة خمس عشرة وثمانمائة، وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق، اشتراه من تاجر يسمى محمود اليزدي، فأعتقه فلذلك يقال له: المحمودي، ثم جعله أمير عشرة ثم صاحب طبلخانة ثم مقدم ألف ثم ولي نيابة طرابلس فأسره تيمور لما أسر نواب البلاد الشامية، ثم هرب منه إلى أن آل أمره أن صار سلطاناً فخدم المستعين وعصى عليه نواب البلاد الشامية، فتوجه لقتالهم مراراً كثيرة، وافتتح الشام وغيرها ثم عاد إلى مصر، وكان يعتريه ألم المفاصل فصار يُحمل على الأكتاف ويركب المحفة، وكان شجاعاً مقداماً مهيباً، وكانت أسواق ذوي الأدب نافقة عنده؛ لجودة فهمه وذوقه، وكان يحب العلماء والفضلاء ويجل قدرهم، وبنى مدرسته الموجوعة الآن فبدأ في عمارتها سنة سبع عشرة وثمانمائة وكان سنه عشرين سنة.

قلت: وهو الباني للجامع المشهور بجامع المؤيدية وبه المنارة التي توارد عليها شيخا الإسلام: الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، والعلامة الإمام الهمام محمود العيني الحنفي، وذلك لما أن ظهر في المنارة اختلال بعد بناثها، فقال الحافظ المذكور هذين البيتين يعرض فيهما به في ستر التورية: من الطويل:

لِجَامِعِ مَوْلاناً المُؤَيدِ بَهجَةٌ ... مَنَارَتُهُ بالحُسْنِ تَزْهُو وبالزيْنِ

تَقُولُ وَقَد مَالَت عَنِ القَصدِ أَمْهِلُوافَلَيْسَ عَلَى جِسْمِي أَضَرُ مِنَ العَيْنِ

فوصل خبر البيتين إلى الإمام العلامة محمود العيني، فقال في جوابهما معرضاً ستر التورية كذلك: من البسيط:

مَنَارَة كَعَروسِ الحُسنِ إِذْ جُلِيَت ... وَهَدمُهاً بِقَضَاءِ اللهِ والقَدَرِ

قَالُوا: أُصِيبَت بِعَين قُفتُ: ذاً غَلَطٌ ... ماً أَوجَبَ الهَدْمَ إلأ خِسةُ الحَجَرِ

قال الحافظ ابن حجر: والبيتان قد عملهما له النواجي لا سامحه النّه، سامح الله الجميع. ومن أعجب ما وقع له في أيامه أن جملاً لجمال يقال له: الفاروني يحمِّله فوق طاقته فهرب أثناء جمادى الآخرة من تلك السنة، ودخل المسجد الحرام ولم يزل يطوف بالبيت، والناس حوله يريدون إمساكه فيعضهم ولا يمكن من نفسه، فتركوه حتى أتم ثلاثة أسابيع، ثم جاء إلى الحجر الأسود فقبله، ثم توجه إلى جهة مقام الحنفي، ووقف هناك تجاه الميزاب الشريف، فبرك عنده وبكى، وألقى نفسه على الأرض ومات، فحمله الناس إلى بين الصفا والمروة، ودفنوه هناك.

وفي آخر سنة ثمان عشرة وثمانمائة أرسل المؤيد منبراً حسناً إلى المسجد الحرام، ودرجة الكعبة، ووصل ذلك في موسم السنة المذكورة، وخطب الخطيب على المنبر الجديد خطبة التروية يوم سابع ذي الحجة الحرام.

وكانت وفاة المؤيد شيخ المحمودي يوم الإثنين لتسع خلون من المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وكانت مدة سلطنته ثمان سنين وخمسة أشهر.

ثم تولى بعده ولده

الملك المظفر

أبو السعادات أحمد بن المؤيد بعهد منه، وعمره إذ ذاك سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام.

وصار مدبر مملكته الأمير ططر أمير مجلس أتابك العساكر، وخالف عليه أمير الشام ومن معه فتجهز ططر عليهم، ومعه الملك المظفر أحمد طفلاً وقاتلهم وقتل كثيراً منهم إلى أن صفا له الوقت فخلع الملك المظفر أحمد.

ثم تولى

ططر

وتسلطن عوضه يوم الجمعة لليلة بقيت من شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، ورجع بالمظفر إلى مصر، واستمر بالقلعة إلى أن نقل إلى الإسكندرية، فتوفي بها مطعوناً في السنة المذكورة، وكانت مدة سلطنته سبعة أشهر وعشرين يوماً، ونقل إلى الجامع المؤيدي داخل باب زويله، رحمه الله تعالى.

وكان ططر من مماليك الظاهر برقوق أعتقه وقدمه، ولا زال يترقى إلى أن صار عند المؤيد رأس نوبة ثم أمير مجلس، ثم تسلطن وتلقب بالملك الظاهر لقب أستاذه، ومهد الممالك وقبض على المخالفين عليه، وقرب المحالفين له.

وله آثار جميلة ومقاصد حسنة جليلة من أعظمها أنه قرر لصاحب مكة الشريف حسن بن عجلان عشرين ألف دينار تحمل إليه من خزينة مصر كل عام، وجعل ذلك في مقابلة ترك المكس على الخضرة، والفواكه والحبوب، وغيرها بمكة، وأمر أن يكتب عهده واعترافه بذلك على سواري المسجد من ناحية باب السلام ومن ناحية باب الصفا، والسواري المكتوبة بهذا العهد موجودة إلى الآن في المسجد الحرام. ثم توفي يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة فكانت مدة ملكه أربعة وتسعين يوماً.

ثم تولى بعده ابنه الملك

محمد بن الظاهر ططر

وعمره نحو العشر سنوات.

وأتابكه ومدبر مملكته الأتابك جان بيك الصوفي إلى أن تغلب على الأتابك برسباي الدقماقي، فقبض عليه وأرسله إلى سجن الإسكندرية فصار أتابكاً مكانه، واستبد بأمور الملك من غير مشارك، فخلع الملك الصالح يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة، ومدة ملكه ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً، وعمره عشرون سنة، واستمر بعد الخلع عند والدته بالقلعة إلى أن توفي بالطاعون.

ثم تولى الملك الأشرف

برسباي الدقماقي

اشتراه الأمير دقماق الظاهري نائب ملطية، وقدمه إلى الظاهر برقوق هدية فأعتقه وقربه ورقاه إلى أن ولاه الملك المؤيد مقدم ألف، واستمر إلى أن تسلطن بعد قبضه على محمد بن ططر.

ومن جملة مناقبه أنه أخذ بلاد قبرس، وأسر ملكها في سنة تسع وعشرين وثمانمائة وهو في تخت مملكته لم يتحرك، وكان عاقلاً مدبراً سيوساً محباً لجمع المال، اشترى من ماله ثلاثة آلاف مملوك شركسي، وفتح آمد سنة اثنتين وثلاثين وئمانمائة، وبنى مدرسته الأشرفية التي أنشأها بمصر على رأس الوراقين، وعلق خوذة ملك آمد التي أخذها بعد قتله علقها بدهليز مدرسته بين البابين بسلسلة، وله خيرات كثيرة.

توفي سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، ومدة ولايته ستة عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.

ثم تولى بعده ولده يوم موته الملك العزيز يوسف بن برسباي وعمره أربعة عشر عاماً:

وصار مدبر مملكته الأتابك جقمق العلائي، ولا زال يقوى أمره والأقدار تساعده إلى أن خلع العزيز بعد أن تسلطن نحواً من ثلاثة أشهر وأربعة أيام، لم يكن له فيها سوى الاسم.

ثم ولي مكانه يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة ولقب بالملك الظاهر سيف الدين، وكني بأبي سعيد جقمق العلائي، وجلس على سرير المملكة، والعلائي نسبة إلى مشتريه علاء الدين فنسب إليه فقيل: العلائي، ثم انتقل إلى الظاهر برقوق فقيل: الظاهري، وكان عند الظاهر برقوق خاصكياً، ثم صار في دولة الناصر فرج بن برقوف ساقياً، ثم أمير عشرة مقدم، مائة، ثم في دولة المؤيد خازنداراً. ثم من مقدمي الألوف، ثم في الدولة الأشرفية حاجب الحجاب، ثم أمير آخور كبير، ثم أمير سلاح، ثم صار أتابكاً إلى أن تسلطن فخرج عن طاعته الأمير قرقماس، فقاتله وظفر به، وسجنه في الإسكندرية ثم قتله، ثم خرج عن طاعته نائب حلب تغري برمش، ثم أينال الحكمي نائب الشام، فجهز عليهما العساكر فقتلهما واحداً بعد واحد، وبعد قتل هؤلاء صفا له الوقت فأخذ وأعطى وأقدم وسطاً. وكان متواضعاً محباً للفقراء والعلماء الصالحين، يميل إلى تربية الأيتام ويحسن إليهم، عفيفاً عن المنكرات، طاهر الفم الذيل. لا يعلم من ملوك الشراكسة قبله ولا بعده أعف منه. وكان - على قاعدة لأتراك - الدعوى عنده لمن يسبق، يذاكر بمسائل فقهية، ويتعصب لمذهب حنفية، وملك مصر نحو خمس عشرة سنة.

ومن أول ما عمل في ولايته أن أرسل إلى شريف مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان بخلَع ومراسيم، وأرسل إليه سودون المحمدي، ليكون أميراً على خمسين فارساً من الترك مقيمين بمكة.

وفي سنة سبع وخمسين وثمانمائة وردت القصاد من مصر تخبر أن الملك الظاهر جقمق زاد به المرض، فخلع نفسه من السلطنة يوم الخميس لسبع بقين من محرم سنة المذكورة.

ثم تولى بعده

أبو السعادات فخر الدين عثمان بن جقمق

ولقب بالملك المنصور، ورضي الناس به واطمأنوا، وسنه إذ ذاك دون العشرين، وركب في شعار السلطنة، وحمل الأتابك أينال العلائي أمير كبير القبة والطير على رأسه، وقد تقدم أن من قواعدهم أن لا يحملها إلا من يلي السلطنة بعد المتولي المحمولة له.

وجلس على تخت السلطنة في قلعة الجبل، وباشر الأمور إلى أن توفي والده بعد ولايته باثني عشر يوماً، فوقعت فتنة بين الأمراء، فخلع عثمان بن جقمق، فقاتل بعد الخلع قتالاً شديداً، ثم حبس فتسحب من الحبس، فظفر به، وقبض عليه، وأرسل إلى سجن الإسكندرية، فسجن إلى سنة أربع وستين، فأطلقه السلطان خشقدم وأمر بإكرامه وهو بالإسكندرية. وكانت مدته نحو أربعين يوماً.

ثم تولى الملك الأشرف

سيف الدين أبو النصر أينال العلائي

يوم خلع عثمان صبيحة يوم الإثنين لثمان مضين من ربيع الأول من السنة المذكورة، وأينال مملوك لبرقوق اشتراه، ثم أعتقه ابنه فرج، ثم رقاه جقمق إلى أن جعله أتابكاً، واستمر إلى أن تسلطن، وطالت أيامه نحو ثمان سنين وشهرين. وكان طويلاً خفيف اللحية بحيث اشتهر بأينال الأجرود، وكان قليل الظلم، قليل سفك الدماء متجاوزاً عن التقصير.

وفي أيامه ولى الأمير جان بك مشدا على جدة، وهو الذي التمس منه الشريف بركات أن يلتمس من السلطان إقامة ولده محمد بن بركات مقامه في شرافة مكة، كما سيأتي في ذكر بركات بن حسن بن عجلان في الخاتمة - إن شاء الله تعالى - .

وهو الباني للبستان - أعني جان بك - الذي على يسار الذاهب إلى منى، المعروف ببستان جان بك، وحفر فيه عدة آبار، وغرس ما قدر عليه من الأشجار حتى شجر التمر هندي. قلت: وهو الآن موجود وفيه المربعة التي تحتها السبيل المعطل، وفي البستان شيء من الأشجار، وقليل من الخضر.

واستمر أينال سلطاناً إلى أن خلع نفسه من السلطنة لولده الملك المؤيد شهاب الدين أبي الفتح أحمد بن أينال العلائي.

ثم تولى ابنه أحمد المذكور ابن أينال ولقب بالملك المؤيد:

كما مر آنفاً يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة خمس وستين وثمانمائة، وتوفي والده أينال بعد ولايته بيوم واحد، فاستمر خمسة أشهر، وخمسة أيام، ثم خلع، فإن الطوائف اتفقوا على خلعه من غير موجب بالأتابك خشقدم، فخلعوه، ثم حبسوه بالإسكندرية إلى أن أطلقته تمربغا في أيام سلطنته يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان من السنة المذكورة.

ثم تولى أتابكه الملك العادل سيف الدين خشقدم الناصري:

وهو رومي اشتراه الملك المؤيد، وأعتقه وصار خاصكياً عنده، ثم تنقلت به الدولة إلى أن جعله أينال أتابكاً لولده فخلعه بعد خمسة أشهر وتسلطن مكانه. وكان خشقدم محباً للخير، وكسا الكعبة في أول ولايته على العادة. وكان حسن السيرة إلا أنه كان فيه شح وطمع، ويرضى بإفساد مماليكه في أمور المسلمين، فلذلك تمنى الناس زواله، حتى اليهود والنصارى.

ثم مرض، وطال مرضه، وتوفي يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، ومدة ملكه ست سنين وخمسة أشهر وأيام.

ثم تولى بعده في ذلك اليوم أتابكه بلباي المؤيد:

تلقب بالملك الظاهر أبي النصر وخلع على الأمير تمربغا الظاهري الأتابكية عوضاً عن نفسه، وكان بلباي ضعيفاً عن تدبير الملك وتنفيذ الأمو، فخلعه الأمراء من السلطنة يوم السبت لسبع مضين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكانت مدة سلطنته شهرين إلا أربعة أيام.

ثم تولى مكانه الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا الظاهري:

ويقال: إنه رومي الأصل من مماليك الظاهر جقمق أعتقه ورباه صغيراً ورقاه إلى أن جعله خاصكياً ثم سلحداراً ثم خازنداراً، ثم إلى أن صار أتابكاً للعساكر ثم تسلطن، وكان له فضل وتودد إلى الناس، وحذق ببعض الصنائع بحيث كان يعمل القبي الفائقة بيده ويعمل السهام عملاً فائقاً، ويرمي بها أحسن رمي مع الفروسية التامة.

وما زال به الأمر حتى خلعوه ونفوه إلى الإسكندرية، وكانت مدة ولايته ثمانية وخمسين يوماً.

ثم إن السلطان قايتباي اعتذر إليه من وثوبه عليه، وأكرمه وأحسن مثواه، وأرسله إلى دمياط على أحسن حال، فقبل عذره ولم يقع لملك من الإكرام بعد الخلع ما وقع له لكونه جديراً بذلك.

ثم تولى السلطنة أتابك العساكر يومئذ السلطان الأشرف قايتباي المحمودي الظاهري الشركسي:

ظهر يوم الإثنين لست مضين من شهر رجب سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة يوم خلع تمربغا، وقيل له: المحمودي؛ لأنه جلبه الخوجا محمود إلى مصر، فنسب إليه، فاشتراه الأشرف برسباي، وأعتقه الظاهر جقمق وإليه انتسب بالظاهري.

وكان محباً للخير معتقداً في الصالحين. حكى عن نفسه أنه لما جلبه سيده إلى مصر للبيع وهو إما مراهق أو بالغ كان معه رفيقه أحد المماليك والجلب، فتحادثا مع الجمال ليلة من الليالي في شهر رمضان فقالوا: لعل هذه الليلة ليلة القمر، والدعاء فيها مستجاب، فليدع كل واحد منا بدعاء يحبه. قال قايتباي؛ فقلت: أما أنا فأطلب سلطنة مصر من الله تعالى. فقال رفيقي: وأنا أطلب أن أكون أميراً كبيراً، والتفتنا إلى الجمال، فقلنا له: أي شيء تطلب أنت؟ فقال: أنا أطلب من الله خاتمة الخير، فصار قايتباي سلطاناً وصار صاحبه أميراً كبيراً، فكنا إذا اجتمعنا نقول: فاز الجمال من بيننا.

وكان رحمه الله ملكاً جليلاً وسلطاناً نبيلاً، له اليد الطولى في الخيرات، والطول الطائل في إسداء المبرات، بنى في المساجد الثلاثة عدة رُبط ومدارس، وجوامع عظيمة الآثار باهرة الأنوار، وله بمصر والشام وغزة وغير ذلك آثار جميلة، وخيرات جزيلة، أكثرها باق إلى الآن، وجميع عمائره يلوح عليها لوائح النورانية والأنس، وفي أول ولايته أرسل إلى شريف مكة، بالمراسيم والخلع، وهو الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان، وإلى قاضي القضاه إبراهيم بن علي بن ظهيرة تقليداً لقضاء مكة، ومراسيم تتضمن الأمر بإبطال جميع المكوسات والمظالم، وأن ينقر ذلك على أسطوانة من أساطين الحرم الشريف في باب السلام.

وفي أواخر سنة أربع وسبعين وثمانمائة - أو التي قبلها - بنى مسجد الخيف بناء عظيماً محكماً، وجعل في وسط المسجد قبة عظيمة هي حد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيت جدرانه المحيطة به وبنى أربع بوائك من جهة القبلة فصارت قبة عالية فيها محراب النبي صلى الله عليه وسلم، وبلصق القبة مئذنة غير المئذنة التي على باب المسجد، وبنى في داراً بلصق باب المسجد كانت مسكن أمير الحاج، وعلى باب الدار سبيل على صهريج كبير جعل في صحن المسجد يمتلىء من المطر، وجدد العلمين الموضوعين لحد عرفة، والعلمين الموضوعين لحد الحرم، وجدد عين عرفات، وابتدأ العمل فيها من سفح جبل الرحمة إلى وادي نعمان، فوجد الماء بكثرة، فاقتصر على ذلك ولم يصل إلى أم العين، وكانت قد انقطعت منذ مائة وخمسين عاماً، فكان الحجاج يقاسون في يوم عرفة من قلة الماء ما لا صبر عليه، ثم أصلح البرك وملأها بالماء، ثم أصلح عين خليص وأجراها وأصلح بركتها وبنى قبتها، وكان ذلك سنة تسع وسبعين وثمانمائة.

وفي سنة اثنين وثمانين وثمانمائة أمر السلطان وكيله وتاجره الخوجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن وشاد عمائره الأمير سنقر الجمالي أن يحصلا له موضعاً مشرفاً على الحرم الشريف ليبني فيه مدرسة ليدرس فيها على المذاهب الأربعة، ورباطاً يسكنه الفقراء، ويعمل له ربوعاً ومسقفات، يحصُل منها ريع كبير، يصرف منه على المدرسين وعلى القراء، وأن تقرأ له ربعة في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة، والمتصوفون، ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتِّباً للأيتام، وغير ذلك من جهات الخير، فاستبدل له رباط السدرة، ورباط المراغي، وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دار الشريفة شمسية من شرائف بني حسن اشتراها وهدم ذلك جميعه، وجعل فيه اثتتين وسبعين خلوة، ومجمعاً كبيراً مشرفاً على المسجد الحرام وعلى المسعى، وصير المجمع المذكور مدرسة، بناها بالرخام الملون، والسقف المذهب، وقرر فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وأربعين طالباً، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل الواقف في ذلك المجمع للقضاة الأربعة حضوراً بعد العصر مع جماعة من الفقهاء، يقرؤون ثلاثين جزءاً من القرآن، وجعل لكل معلم أربعين صبياً من الأيتام، ورتب لكل واحد من الأيتام وأهل الخلاوي ما يكفيهم من القمح كل سنة، وللدرسين وقراء الربعة، وأهل الخدم مبالع من الذهب تصرف لهم كل سنة، وبنى عدة ربوع ودور تغل في كل عام نحواً من ألفي دينار، ووقف عليهم بمصر قرى وضياعاً كثيرة تغل حبوباً كثيرة تحمل كل عام إلى أهالي مكة، وعمل من الخيرات العظيمة ما لم يعمله سلطان قبله، وذلك باقٍ إلى الآن إلا أن الأكلة استولت على تلك الأوقاف فضعفت جداً.

قلت: هذا في زمان قطب الدين رحمه الله تعالى، وأما الآن فقد تضاعفت لا ضعفت، إلا أنها - كما قال رحمه الله - : قد استولت عليها أكلة النظار، وقد صارت المدرسة سكناً لأمراء الحج إذا وصلوا مكة أيام الموسم. وكان الفراغ من بناء هذه المدرسة، والرباط والبيتين أحدهما: من ناحية باب السلام، والثاني: من ناحية باب الحريريين في سنة أربع وثمانين وثمانمائة على يد مُشَيدِ عمائره الأمير سنقر الجمالي.

وفي هذه السنة وردت أحكام سلطانية من السلطان قايتباي إلى صاحب مكة الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان رحمه الله تتضمن أنه رأى مناماً وأن بعض المعبرين عبر له ذلك المنام بغسل البيت الشريف من داخله وخارجه وغسل المطاف، وأنه أمره أن يفعل ذلك.

فحضر مولانا الشريف محمد بن بركات رحمه الله بنفسه، وقاضي القضاة إبراهيم ابن ظهيرة وناس من الترك المقيمين بمكة الأمير قاتي باي اليوسفي، والأمير سنقر الجمالي، والدوادار الكبير جان بك نائب جدة المعمورة، وبقية القضاة والأعيان، وفاتح الكعبة عمر بن أبي راجح الشيبي، والشيبيون والخدام، وغسلوا الكعبة الشريفة من ظاهرها وباطنها قدر قامة، وغسلوا أرض الكعبة وأرض المطاف الشريف، وطيبوها بالطيب والعود، وكان ذلك يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة.

ومن أعظم ما وقع في أيام السلطان قايتباي - من الأمور المهولة - حريق المسجد النبوي في ثلث الليل الأخير من ليلة الإثنين ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة، فعمره رحمه الله أحسن عمارة وبنى المقصورة، وأدار عليها الشبك الحديد جميعها.

وكان تمام ذلك في عام ثمان وثمانين وثمانمائة كما رأيته مرسوماً بالقلم الحديد في جهة الباب من الحجرة الشريفة. وقد ذكر السيد السمهودي ذلك مفصلاً وغيره، وعمر السلطان المذكور بالمدينة مثل ما عمر بمكة من المدرسة والرباط، وأوقف كتباً على طلبة العلم الشريف، فأرسل مصاحف كثيرة وكتباً لخزانة المسجد الشريف، عوضاً عما احترق.

ولم يحج من ملوك الشراكسة غير السلطان قايتباي المذكور، وذلك لتمكنه في الملك وحسن تدبيره وضبطه للممالك فحج سنة أربع وثمانين وثمانمائة.

فأقام الأمير يشبك الدوادار الكبير نائباً عنه بمصر، وخرج بعد الحاج بثلاثة أيام. وكان أمير الحاج الخارج بالمحمل الشريف خشقدم، فخرج السلطان قاصداً للحج والزيارة، ووصلت القصاد إلى شريف مكة يومئذ جمال الدين الشريف محمد ابن بركات بن حسن بن عجلان سقى الله رمسه صوب الرحمة والرضوان، فتهيأ هو والقاضي إبراهيم بن ظهيرة القاضي الشافعي لملاقاة السلطان؛ فإن القصاد أخبروهما أنهم فارقوه من عقبة أيلة، فأرسل الشريف أحد قواده يسبقه إلى ملاقاة السلطان بسماط حلوى. فوصل إلى الحوراء، ولاقى السلطان، ومد له سماط الحلوى هنالك فوصل عليه وأظهر غاية اللطف والمجابرة، وأكل وقسم على أمرائه وعسكره، وكان سماطاً كبيراً جميلاً. ويحكى من لطافة السلطان أنه تناول شيئاً من الحلوى، وسأل الذي جاء به: ما اسم هذا عندكم. فقال له القائد: اسمه: كل واشكر.

فقال له: سلم على سيدك، وقل له: أكلنا وشكرنا.

ثم لما وصل إلى ينبع عدل إلى المدينة الشريفة فأقام الشريف محمد ومن معه من القضاة والأعيان ببدر منتظرين قدوم السلطان، فلما وصل الخبر بعود السلطان من المدينة ركب الشريف محمد ومن معه لملاقاته، فاجتمعوا به في مسجد الصفراء، وتلاقيا على ظهور الخيل وتصافحا، ومشى الشريف عن يمينه، والقاضي إبراهيم عن يساره، وباقي من معهما سلموا على السلطان من بُعْد، ومشوا أمامه، وصار السلطان يلاطفهما، ويسألهما عن أحوالهما، ويشكر مساعيهما ويطمن خواطرهما، وينصت لهما إذا تكلما، واستمر كذلك إلى أن وصل السلطان إلى وطاقه فرجعا عنه إلى مخيمهما، وصاروا يسايرونه في الطريق، ويبدي لهم وافر الأنبساط وكمال النشاط، وألبسهم خلعاً فاخرة مراراً عديدة، وتقدموا إلى وادي مر ورتبوا له سماطاً حافلاً، ولما كان صبح يوم الأحد مستهل ذي الحجة وصل السلطان إلى مخيمه بوادي مر ووجد السماط ممدوداً فجلس هو ومن معه عليه، وأكل وأطعم وخلع على الخدام خلعاً متعددة جميلة، ووصل بقية القضاة والخطباء والأعيان، فسلموا على السلطان فانصرفوا أمامه، وركب السلطان هو وشيخ الإسلام إبراهيم بن ظهيرة وولده أبو السعود، وأخوه أبو البركات وأمام السلطان إبراهيم بن الكركي الحنفي، ودخلوا مكة عصراً من أعلاها وشيخ الإسلام هو الذي تقدم لتطويف السلطان، وصار يلقنه الأدعية إلى أن دخل من باب السلام الأقصى، وطلع بفرسه منه فجفل به الفرس، فسقطت عمامته واستمر مكشوف الرأس إلى أن تقدم المهتار فشالها من الأرض ومسحها، فناولها السلطانَ فلبسها، وكان ذلك تأديباً له من الله تعالى حيث كان يتعين عليه أن ينزعها، ويدخل مكشوف الرأس متواضعاً.

ولما وصل إلى العتبة الداخلة من باب السلام الأذنى، ترجل وقرأ الريس بين يديه بصوت جهوري " لَقَد صَدَقَ الله رَسُولَهُ اَلرؤيا بِاَلحَق... " الفتح: 27 الآية. ثم رفع يديه يدعو للسلطان، وأمن من حوله من أهل الأصوات، فقبل الحجر وطاف، والريس يدعو له من أعلى قبة زمزم، والناس محيطون بالطواف يشاهدونه ويدعون له، إلى أن تم طوافه وصلى خلف المقام ثم خرج إلى الصفا، فلما فرغ من سعيه عاد إلى الزاهر فبات به في مخيمه، وركب في الصبح في موكبه، ولاقاه الشريف وأولاده والقاضي، فخلع السلطان على الشريف والقاضي، وغيرهما، ومشوا أمامه في الموكب العظيم، والأبهة الجليلة، ولم يتخلف أحد بمكة حتى النساء المخدرات.

ودخل مكة بهذه الصفة إلى أن وصل مدرسته، فترجل له الناس، وسلم عليهم، ودخل المدرسة، ومد له الشريف سماطاً، واستمر على ذلك تمد له صبحاً وليلاً الأسمطة الجليلة الجميلة، ومد له ثاني يوم القاضي إبراهيم بن ظهيرة سماطاً بالمدرسة، واستمر بالمدرسة ما ظهر لأحد إلى أن طلع عرفة، وكانت الوقفة بالإثنين فأفاض مع الناس، وأتم حجه، وقرب أغناماً كثيرة، وكان يناسب أن ينحر شيئاً من الإبل فما أشار عليه به أحد.

وركب مرة إلى درب اليمن يشاهد ما قدمه له الشريف محمد من الإبل، والخيل وتشكر من فضل الشريف، ثم سافر ظهر يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة بعد أن طاف للوداع، والريس يدعو له على قبة زمزم، ومشى القهقري إلى أن خرج من باب الحزورة وركب معه الشريف وأولاده، والقاضي إبراهيم إلى الزاهر، ثم ودعهم ووادعهم وسافر إلى مصر وعاد إلى مملكته، ولم يختل شيء من ملكه مع غيبته عن تخت مصر نحو ثلاثة أشهر، وذلك لإتقانه أمر الملك وتدبيره وضبطه. ولقد كان واسطة عقد الشراكسة وأقربهم إلى قلوب الرعية، وأجملهم حالاً وأحسنهم إحساناً وأفضلهم عقلاً، وأكملهم نبلاً، وأكثرهم في جهات الخير إيثاراً وآثاراً، وأكبرهم عمائر وأوقافاً وأدواراً، وأطولهم طولاً وزماناً، وأمكنهم ملكاً وقوة وإمكاناً. وكانت أيامه كالطراز المذهب، ودولته تنجلي كالعروس في حلل الجوهر والذهب، حتى قدم عليه بريد الأجل، وما أغنى عنه ما جمعه من الخيل والخول، وكان انتقاله إلى رحمة الله تعالى يوم الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 901 إحدى وتسعمائة، وكانت مدة تصرفه ثلاثين سنة إلا ثلاثة أشهر.

ثم تولى الملك الناصر أبو السعادات محمد ابن السلطان قايتباي:

وكان يغلب عليه الجنون والسفه، وما كان له التفات إلى الملك، ولا تدبير السلطنة، بل غلب عليه اللهو واللعب والحركات المستبشعة.

يحكى عنه أمور قبيحة منها: أنه كان إذا سمع بامرأة حسناء هجم عليها، وقطع دائر فرجها ونظمه في خيط أعده لنظم فروج النساء.

ومنها: أن والدته كانت من عقلاء النساء وأجملهن هيأت له جارية جميلة، وجمعتها به في بيت مزين أعدته لهما فدخل بها وقفل الباب على نفسه وعليها، وربطها وشرع يسلخ جلدها عنها كالجلاد، وهي بالحياة، وهي تصرخ، فلما سمعوا صراخها أرادوا الهجوم عليه فما أمكنهم لأنه قفل الباب من داخل واستمر كذلك إلى أن سلخها، وحشا جلدها بالأثواب السندسية وخرج يظهر للناس أستاذيته في السلخ، وأن الجلادين يعجزون عن كماله في صنعته قُبحَ هو وصنعته.

ومنها: أنه مر في موكبه بدكان حلواني، ودار حوله أمراؤه فأقامه من دكانه، وجلس كأنه يبيع الحلاوة، وأخذ بيده الميزان فصار يزن لهم حتى جبرت الحلاوة.

وكان يقلي الجبن المقلي بنفسه يبيعه للجند ويأمرهم بشرائه منه، ويأخذ أكياس الذهب إلى طرف النيل فيرمي ديناراً فيقول: هذا قال: بق، ويرمي الآخر فيقول: هذا ما قال: بق، ثم يحضر الأمراء الكبار ويأمر بذبحهم في الديوان، فصار الشخص منهم إذا أضجع للذبح صوت صوت الغنم، فيضحك ويطلقه.

وكانت له حركات من هذه الخرافات منها ما يضحك ومنها ما يبكي، إلى أن سقط من أعين الناس والعسكر وسطوا عليه كما سطا بالحسام الأيتر، وسلخوه من الملك كما سلخ الضعيفة بالخنجر، ومزقوه كل ممزق ولعذاب الآخرة أكبر.

وسبب قتله أنه من غروره خرج مختفياً منفرداً من خدمه وعبيده متباعداً عن خوله وحشمه، فتوجه يمشي وحده إلى بر الجزيرة، فكمن له عشرة أنفس من مماليك أبيه في خيمة على ممره، فلما وصل إليهم خرجوا له من الخيمة، فأمسكوا بلجام فرسه، وضربوه بالسيوف إلى أن قطعوه، وجاؤوا به مقتولاً إلى القاهرة ودفنوه في تربة أبيه سنة 904 أربع وتسعمائة، وكانت مدة سلطنته ثلاث سنين.

ثم تولى بعده خاله

الملك الظاهر قانصوه

وهو خال هذا المقتول، وكان أمياً لا يعرف إلا بلسان الشركس قريب العهد ببلده؛ لأنه جلب للسلطان قايتباي من بلاده وهو كبير قد وخطه الشيب، وصار يرقيه بواسطة أخته زوجة قايتباي خوندام الناصر ولده، وهي التي أقامته مقام ولدها الناصر، وبذلت له الأموال والخزائن، وأرادت إقامته وإصلاحه، ولن يُصلِحَ العطارُ ما أفسَد الدهرُ، فما استكملته الإيالة، وما أهلوه للسلطنة والولاية، فخلعوه من الملك أواخر سنهَ 905 خمس وتسعمائة، وكانت مدته سنة وسبعة أشهر.

ثم تولى بعده السلطنة أمير كبير جانبُلاط:

وتلقب بالملك الأشرف في أوائل سنة خمس وتسعمائة، ولم يتهن بالسلطنة، ولا وافقه أحد عليها، وخلع بعد ستة أشهر.

ثم تولى مكانه الملك العادل طومان باي:

وما استكمل يوماً واحداً بل هجم عليه العسكر وقتلوه، فما أقدم أحد على السلطنة، وكانت الأمراء متوفرة، وبعضهم يشير إلى بعض في الجلوس على تخت الملك فاتفقوا على تولية قانصوه الغوري، لأنهم رأوه سهل الإزالة أي وقت أرادوا إزالته أزالوه؛ لأنه كان أقلهم مالاً وأضعفهم حالاً وأوهنهم قوة، وأشاروا أن يتقدم فأبى فألزموه بذلك، فقال: أقبل ذلك بشرط أن لا تقتلوني، فإذا أردتم خلعي من السلطنة فأخبروني بما تريدون وأنا أوافقكم على ذلك وأترك لكم الملك وأمضي حيث أريد، فعاهدوه على ذلك فقبل.

ثم تول قانصوه الغوري السلطنة:

ولقبوه الملك الأشرف أبا النصر قانصوه الغوري، وذلك في سنة 906 ست وتسعمائة، وفرح العسكر بولايته لأنهم سئموا تعدد السلاطين وسرعة تقضِّي ملكهم، بل فرح العامة وأمنوا على أنفمسهم وأموالهم في الجملة.

وكان قانصوه الغوري كثير الدهاء ذا رأي وفطنة وتيقظ، إلا أنه كان شديد الطمع كثير الظلم والفسق، بخيلاً محباً للعمارة، فمن جملة عمارته: الجامع والتربة، وكان في نيته أن يدفن بها، ووقف عليها أوقافاً كثيرة وما قدر له دفنه بها بل ذهب تحت سنابك الخيل وما عرف شخصه، " وَماً تدرِي نفس مَاذاً تَكسِبُ غَدا وَماً تدرِي نَفس بأَيِِّ أرض تَموُت " لقمان: 34.

وله آثار جميلة في طريق الحاج في عقبة أيلة ومآثر بمكة المشرفة وغيرها، وكان يتنزل مع الأمراء من غير تشديد عليهم ولا إظهار عظمة وأمر ونهى، وذلك في ابتداء أمره إلى أن تمكن من قوته وبأسه.

حكى العلامة قطب الدين عن شيخه أحمد بن عبد الغفار عن والده وكان من أرباب الأقلام في ديوان قانصوه قال: استشم الغوري مبادئ فتنة أراد الأمراء إحداثها، وأرادوا أن يجعلوها مقدمة لخلعة من السلطنة، فلما استشعر ذلك منهم عمل ديواناً وجمع فيه الأمراء والمقدمين، وأمرهم بالجلوس، وجلس بينهم كأحدهم، وكانت عادة الأمراء الوقوف بين يدي السلطان ولا يجلسون معه إلا في السماط فقط، فلما جلسوا وجلس، أنكروا ذلك وكانوا يتعجبون من ذلك وكلُّ مصغ إلى ما يقول السلطان؛ فقال: ما جمعتكم يا أغوات إلا لأسألكم سؤالاً خطر لي، أطلب منكم جوابه على الوجه الذي ترونه صواباً. فقالوا: نعم، فقال: أسألكم عن جماعة جاؤوا إلى رجل، وأودعوه صرة من الدراهم مربوطة مختومة، فقال: أنا أستودع منكم هذه الوديعة بشرط أن تأتوني وتطلبوا وديعتكم بلا نزاع معي ولا خصومة فأرد وديعتكم إليكم، فقالوا: نعم قبلنا منك هذا الشرط، وأودعوه ومضوا، ثم عادوا إليه بعد مدة وقالوا: نريد الوديعة بنزاع شديد ومخاصمة ومضاربة قوية، فقال لهم: هذه وديعتكم حاضرة خذوها بلا نزاع ولا ضراب معي كما شرطت عليكم، نالوا: لا بد من المخاصمة والنزاع معك، فأيهم على الباطل، وأيهم على الحق؟ ففهموا مراده واستعفوا منه، فقال لهم: أنا ما جلست معكم إلا لتعلموا أني كأحدكم لا أمتاز عليكم بشيء، وهذه السلطنة أسلمها لأيكم أرادها ولا أنازع عليها، فإنما أنا رجل من الجند، فقبل كل منهم يده، وأذعنوا له بالسلطنة وسألوه استمراره فيها.

وسكنت الفتنة بهذا التدبير، وغفلوا عنه مدة واشتغلوا عنه بضرورياتِ وطالت معه حيل إلى أن صار يأخذ منهم واحداً بعد واحد، ويتغافل عنهم، ثم يحصل حيلة أخرى، وعلة أخرى لأحدهم، فيأخذه بها، ويوقع بين الاثنين، ويأخذ هذا بذاك، وذاك بذا، ويدس لهم الدسائس من الطعام والسم ونحوه، حتى أفنى قرانصتهم ودهاتهم إلا قليلاً منهم.

واتخذ مماليك جدداً، واستجلب جلباً وأعد عدداً، وصاروا يظلمون الناس ويعاملون الخلق عسفاً وغشماً، وهو يغضي عنهم ويتغافل، فأظهروا الفساد، وأهلكوا العباد، وأكثروا العناد، وطغوا في البلاد، وصار يصادر الناس، ويأخذ أموالهم بالقهر والبأس.

وكثرت العوانية في أيامه؛ لكثرة ما يصغي إليهم، وصاروا إذا شاهدوا أحداً توسع في دنياه، وأظهر التجمل في ملبسه ومثواه، وشوا به إلى السلطان فيرسل إليه يطلب القرض، ويصفي أمواله، ويسلمه إلى الصوباشي ليأخذ ماله، ويهلك أهله وعياله.

وجمع من هذا الباب أموالاً عظيمة، وخزائن واسعة ذهبت في آخر الأمر سدى وتفرقت بيد العدى، وتمزقت بدداً.

وأما الميراث فبطل في أيامه، وصار إذا مات أحد يأخذ ماله جميعه للسلطنة، ويترك أولاده فقراء إلا إن اعتني به اعتناء كبيراً جعل له نزراً يسيراً من مال أبيه، وأخذ لنفسه باقيه. وكثر ظلمه في آخر أيامه، فاستجاب الله فيه دعاء المظلومين، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.

وحكي عن شخص من أولياء الله تعالى مجاب الدعوة أنه رأى بمصر في أيام الغوري جندياً من الشراكسة أخذ متاعاً من دلال ولم يُرضِه في قيمته، فتبعه الدلال يطلب منه حقه وهو ممتنع، فقال له الدلال: بيني وبينك شرع الله، فضربه الجندي بالدبوس، فشج رأسه، وقال: هذا شرع الله، فسقط الدلال مغشيّاً عليه، ومضى الجندي بالمتاع وما قدر أحد من المسلمين على منعه من فعله. قال الشخص: فصعب علي هذا الحال، فرفعت يدي إلى الله تعالى، ودعوت الله عز وجل على الجندي المزبور وسلطانه وحزبه وإخوانه، وعلى الظلمة من أعوانه، فصادف ساعة إجابة وقبول، واقترن السؤال بحصول المسئول، فبت تلك الليلة على طهارة، وأنا أفكر في أمرهم، وأحدث نفسي كيف يزول ملك هذا السلطان الجائر، وقد ملأت جنوده الأرض. وإني للمسلمين بسلطان رؤوف رحيم، عادل كريم؟ فنمت فرأيت فيما يرى النائم ملائكة من السماء بأيديهم مكانس يكنسون الشراكسة من أرض مصر، ويلقونهم في بحر النيل، فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى وقع ذلك.

ثم إني استيقظت من نومي وسمعت قارئاً يقرأ قوله تعالى: " فانتَقَمناً مِنهُم فَأَغْرَقنَاهُم في اَليَمِ بِأَنهُم كَذَبوُ بِآياتناً وَكَانوُا عَنْهاً غَافِلِين " الأعراف: 136، فعلمت أن الله سوف يأخذهم أخذاً وبيلا.

فما مضى على هذه الوقعة قليل من الزمان إلا وبرز الغوري بجنوده، وأمواله وبنوده، وأثقاله وخزائنه، وأنصاره وأعوانه من مصر لقتال السلطان سليمان خان إلى حلب، فجاء الخبر بعد قليل بأنه كسر وقتل أكثر جنوده وفقد هو تحت سنابك الخيل في مرج دابق، وكان قتله بين الظهر والعصر، يوم الأحد خامس عشر رجب سنة 922 اثنتين وعشرين وتسعمائة.

وقيل: إنه فقد من الحرب وأنه عاش مدة ببلاد المغرب، وقيل: بل عاش بمصر مدة طويلة.

قال شيخنا: وعلم بما قدمته من أن شخصاً مات بالقرب من زمن الوقعة ببعض مدارس مصر فوجد في عنقه كيس فيه ختم باسم الغوري فقيل: إنه هو، وكانت مدة الغوري خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.

وللأشرف قانصوه الغوري مآثر جميلة وعمائر حسنة جليلة. فمما عمره بمكة المشرفة باب إبراهيم بعقد كبير، جعل علوه قصراً، وجعل في جانبه مسكنين لطيفين، وبيوتاً ممتدة حول باب إبراهيم، ووقف الجميع على جهات خير، ولا يصح وقف ذلك؛ لأنه في المسجد، وكذلك السكنان؛ لأن اكثرهما في المسجد الحرام، وما أمكن العلماء أن ينكروا عليه ذلك في أيام سلطنته؛ لعدم إصغائه إلى كلام أهل الشرع، وبنى أيضاً ميضأة خارج باب إبراهيم على يمين الخارج، وقد أبطلت؛ لأن روائحها تصل إلى المسجد فيتأذى المصلون، فأبطلت وأغلق بابها قريباً في سنة 980 تسعمائة وثمانين بأمر شريف سلطاني.

قلت: هي الآن مفتوحة ينتفع بها المسلمون عامرة.

ومن أثره الترخيم الواقع في الحجر الشريف، عمل بأمره في أيامه، واسمه مكتوب فيه وفرغ من عمارته سنة 917 سبع عشرة وتسعمائة، وبنى بركة بدر وعدة خانات وآبار في طريق الحاج المصري، وبنى خاناً في عقبة أيلة والأزلم، ومدرسة أنشأها علو سقف الجملون بالقاهرة، وأنشأ مجرى الماء من مصر العتيقة إلى قلعة الجبل.

ومن آثاره بناء سور جدة وكانت العربان تهجم في أيام الفتن وتنهبها، ونهبت مراراً أيام الوقائع بين الشريف بركات وأخيه هزاع، وبعد هزاع جازان، فأرسل الغوري أحد أمرائه المقدمين، وهو الأمير حسين الكردي، وجهز معه عسكراً من الترك والمغاربة واللوند في خمسين غراباً لدفع ضرر الفرنج في بحر الهند، فلما وصل إلى جدة بنى سورها وهدم كثيراً من بيوتها وأخذ حجارتها، وبنى بها السور في شدة وبأس، واستخدم عامة الناس في حمل الحجر واللبِن حتى التجار المعتبرين وسائر المنتسبين، وضيق على الناس بحيث يحكى أن أحدهم تأخر قليلاً عن المجيء، فلما جاء أمر أن يبنى عليه فبني، واستمر قبره جوف البناء إلى يوم الجزاء إلى غير ذلك من الظلم الشديد والجور العتيد، وبنى السور جميعه في أقل من سنة.

وكان ظلوماً غشوماً أكولاً يستوفي الخروف مع عدة أرغفة ونفائس له معدة. واستمر حاكماً بجدة إلى أن تقوى بالمال، وتأثل وجمع جنوداً من كل صنف، ثم توجه إلى الهند سنة إحدى وعشرين وتسعمائة ثم رجع إلى مكة.

وقد انقضت دولة الشراكسة بمصر، وملكها السلطان سليم خان، فورد حكم سلطاني إلى شريف مكة بركات بن محمد بن حسن بن عجلان بقتل الأمير حسين الكردي المذكور، وكان الشريف بركات هو المستخرج لذلك الحكم لعداوة سابقة بينه وبين حسين المذكور، فأخذ مقيداً إلى جدة، وربط في رجله حجر كبير وغرق في بحر جدة في موضع يقال له: أم السمك فأكلته الأسماك بعد أن كان يعد من الأملاك.

ولما قتل الغوري وانكسرت عساكره هرب بقية الشراكسة من السيوف إلى مصر وصيروا الدوادار الكبير طومان باي سلطاناً، فتولى والسلطان سليم في إثرهم، هم في الهرب وهو من ورائهم للطلب، فأرسل إليه السلطان سليم بعد أن ملك حلب والشام وما بينهما من البلاد بقاصد، وكتب معه كتباً يستميل بها خاطره، ويستجلب بها قلبه، ويعده بكل جميل إن دخل في الطاعة، وكف القتال بين المسلمين، فلم يلتفت لشيء من ذلك، بل قتل القاصد وعين مَن يهجم في العسكر والأمراء، وسير من المماليك الخاصة ألفين وخمسمائة، وجمع من مشايخ العربان ما كمل به سبعة آلاف خيال، وساروا جميعاً إلى العريش.

ثم إن السلطان سليم خان أرسل إلى الوزير الأعظم سنان باشا بأربعة آلاف خيال ليلحق من قدَّمه من العسكر، وهم ألفان عليهم الأمير محمد بير بن عيسى، وقصد بتقدمتهم تمهيد الطريق، فلما خشي عليهم أتبعهم بالوزير المذكور، فأدركهم بغزة. فلما بلغ الشراكسة ذلك توقفوا عن الحرب، لكنهم سعوا في جمع الناس من القرى والنواحي، فأقاموا في العريش ثلاثة أيام، فجمع سنان باشا من معه من الأمراء والأعيان، واستشارهم في المقاتلة أو الانتظار حتى يرد السلطان فأجمعوا على المقاتلة؛ خشية من الهجوم.

ففي ليلة السبت سابع عشري ذي القعدة الحرام ركب سنان، وخرج من غزة وأظهر أنه راجع لجهة الرملة، فسار طول ليلته، وأصبح بالقرب من خان يوسف، وكان بالقرب منه عسكر الشراكسة، فلما رأى جانبرد الغزالي وكان رئيس من تقدم من الشراكشة العسكر العثماني هيأ عسكره، وعين الميمنة والميسرة، وكذلك سنان باشا جعل على ميمنته فرهاد بمن معه، وعلى ميسرته محمد بن عيسى، فلما رأى الغزالي ذلك عين بعض جماعة من عسكره مع المشاة وأمرهم أن يقروا على ساقة العسكر أولاً، فلما رأى سنان باشا ذلك أخرج من عسكره مقدار ألف خيال وماش ترمي البندق، وأمرهم أن يكونوا خلف العسكر وحوله، فلما رأى الشراكسة ذلك تربصوا وسايروا العسكر قليلاً قليلاً ينتهزون الفرصة، فلما نزل سنان بمحل المنزل هجم الغزالي، وكان سنان أمر الينيشرية، وغالب العسكر أن لا يخرجوا سلاحهم وأن يكونوا حول ثقلهم، فلما هجم الغزالي قابله طائفة الينيشرية برمي البندق، ثم ركب سنان وتلاحق العسكر، والتحم القتال إلى وقت الغروب، فانهزم الغزالي وقتل غالب الأمراء الذين معه وأرسلت رؤوسهم مع من قبض عليه أيضاً إلى السلطان سليم فسر بذلك، وذهب الغزالي إلى مصر، وسار السلطان سليم حتى نزل ببركة الحج، وتهيأ منها لفتح قلعة مصر، وأخذ البلاد، فاتفقت الشراكسة المقيمون بها، وغيرهم من العرب على إعانة طومان باي، فبلغت عدتهم عشرين ألفاً، فجمع طومان باي المدافع الكثيرة، وأخرجها للريدانية وقررها في الأرض، وأرسل إلى الإسكندرية، وطلب من يضرب بالمدافع، فاجتمع عنده خلق كثير، فنزل بمخيمه، فلما بلغ السلطان ذلك وكان قد صف عسكره ميمنة وميسرة ترك استقبال طومان باي، وسلك طريقاً أخرى من خلف جبل المقطم من وراء عسكر الشراكسة، واستمرت مدافع الشراكسة مركوزة لمن يأتي من أمام الريدانية بلا نفع ولا دفع، وبادرهم برمي المدافع والبنادق، واستقبلته خيول الجند وفرسانها، والتحم الحرب وحمي الوطيس، حتى أظلمت الدنيا ولم تزل الشراكسة تهجم مع تلك الظلمات على العساكر العثمانية المرة بعد المرة وتكر وتفر، والقتل فيهم وهم لا يصدهم شيء حتى قتل منهم جانب عظيم من أعيانهم، وقتل من العساكر العثمانية أقل من ذلك، فانكسرت الشراكسة، ولم يزل عسكر السلطان خلفهم إلى أن أدخلوهم بيوتهم فنهبت بيوتهم وأموالهم، وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر في الحجة الحرام سلخ سنة 922 اثنتين وعشرين وتسعمائة.

وفي صبح يوم الجمعة غرة محرم الحرام افتتاح سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة أمر السلطان في المسجد والجوامع بالخطبة باسمه الشريف، وضرب السكة كذلك باسمه، وأقام بالعادلية ثلاثة أيام، ثم ارتحل ودخل البلاد وتعدى إلى الجيزة، ونزل بعسكره فيها، فجمع طومان باي من بقي من الشراكسة نحو سبعة آلاف، وهجم على البلاد ليلاً، واتفق معه بعض العرب وتبعه خلق من أهل مصر، وقتلوا جميع من وجد في البلد من العسكر العثماني، وقصد الهجوم ليلاً على السلطان في الجيزة، وهيأ مراكب البحر للذهاب، فلما بلغ ذلك السلطان سليم خان عين جماعة على المعابر، وأمر العساكر بالتقيد، وعدم الغفلة، فلم يقدر طومان باي على الهجوم ليلاً، وبعث جماعة وأمرهم بالهجوم على مصر، وكل من وجدوه من آدمي أو بهيمة قتلوه أو محل قابل للحرق أحرقوه، وأغاروا على الناس، والمصريون يقاتلونهم من الأماكن الحصينة بالسهام والحجارة، واستمر الحرب على هذا الأسلوب ثلاثة أيام، فوصل السلطان بنفسه، وسار على البلاد، ورمى المدافع على جميع من لاقاه، واشتد الحرب في الرميلة، وهلك خلق كثير من الجهتين، ثم هرب طومان باي إلى جامع الشيخونية وحارب، هناك ضجت الرعايا بطلب الأمان وكثر الصياح منهم، فأمنهم السلطان وأمر بتتبع الشراكسة خاصة، فلم يجد طومان باي بدّاً من الهروب، فخرج في نحو عشرة أنفس هارباً لجهة الصعيد، وقتل ذلك اليوم ما ينيف على أربعة آلاف نفس حتى سالت الدماء، وتكدر بحر النيل وتعفن الهواء لذلك، فرميت أجسامهم في البحر، وجمعت رؤوسهم أكواماً بعد أكوام، فعاد السلطان لمخيمه بالجيزة، وبنى له كوشكاً عالياً يسكنه مدة مقامه بمصر هرباً من العفونة، ونقل إليه من قبض عليه من أعيان أمراء الشراكسة، فأمر بضرب أعناقهم على ضوء المشاعل، وقتل سنان باشا ذلك اليوم، فأسف عليه السلطان سليم وقال: أي فائدة في مصر بلا يوسف. لأن سنان لقبه يوسف.

وفي صبيحة ذلك اليوم دون ديواناً رتب فيه للعساكر العطايا، وعين أرباب المناصب فأرسل إليه الغزالي - وكان قد هرب في الوقعة الأولى من الريدانية إلى جهة الصالحية - فطلب الأمان، فلما علم السلطان أنه لم يحضر الوقعة التي داخل البلد عفا عنه وطلبه، فجاء تائباً مستغفراً، فأنعم عليه ببلدة سجاع، ثم أقام السلطان في محله إلى ثالث عشري محرم، وارتحل وصعد إلى القلعة.

ثم إن طومان باي أرسل بطلب الأمان والعفو عما مضى، فقبل السلطان منه ذلك واستمال خاطره، وأرسل بجوابه وإجابته كيخية عسكر أنادول مصطفى شلبي والقضاة الأربعة قضاة مصر، وكتب إليه بالعهد والأمان معهم، فلما وصلوا إليه منعه بعض المفسدين من الشراكسة وحرضوه على العصيان فقتل مصطفى شلبي المذكور والقضاة الأربعة، وأظهر عدم الانقياد، واجتمع عنده بقية الشراكسة وطائفة من العربان، وقصد العود إلى مصر وتعدى على المراكب ووصل قريب مصر حتى نزل ببركة الحبش، فعين السلطان بعض الأمراء والعساكر لحربه، فتوجهوا لقتاله، وخرج السلطان أيضاً بنفسه فنزل بالقرب من النيل، فارتحل طومان باي من محله وهرب، فتبعه العسكر منازل، فعلم الأمراء أنه لا راحة لهم ما دام موجوداً فتركوا أثقالهم وسعوا في طلبه فادركوه بين الإسكندرية ورشيد، فحصل حرب عظيم وقبض على جماعة ممن معه، وهرب هو، وتوجه في طلبه بعض الأمراء فأدركه في بحيرة، وأحاط به وقتل جميع من معه، فألقى طومان باي نفسه في البحر، فلما أشرف على الغرق طلب الأمان، فرموا له حبلاً وتمسك به فجروه إلى البر ومسكوه، وقيدوه وجاؤوا به إلى السلطان، ويقال: إنه هرب واستجار بشيخ عرب بني جذام عبد الدائم ابن مقر، وأنه هرب إلى خياط السلطان سليم وسلم إليه السلطان طومان باي، ذكر هذا العلامة قطب الدين رحمه الله تعالى، فقصد السلطان العفو عنه لما رآه، ثم تذكر جرائمه، ونقض العهد وقتل القضاة الأربعة والكيخية وعلم أن الفتنة لا تنام ما دام موجوداً فأمر بشنقه فشنق على باب زويلة فتم أمر السلطان سليم خان على مصر.

وقد مهد القوانين والقواعد ونصب القضاة الأربعة على المذاهب الأربعة، وولى ملك الأمراء الأمير خير بك على مصر المحروسة، وولى جان بردي الغزالي على الشام، وكان وعدهما بذلك وهما من خواص أمراء الغوري، وكانا يكرهانه في الباطن، ويكرههما كذلك فأرسل لهما السلطان الأمان وعهد لهما أن يوليهما مصر والشام، فوافقاه على ذلك، فلما تلاقى العسكران فرا بالميمنة والميسرة، فبقي الغوري وخواص من معه في القلب، فغار الغوري تحت سنابك الخيل، ومحي كما يمحى النهار بالليل، كما تقدم ذكر ذلك عند ذكر حرب الغوري.

ومهد السلطان سليم الأمور على ما ينبغي، وسار إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر، ثم توجه من مصر إلى تخت الملك القسطنطينية، وقد تمهدت له البلاد، وعم حكمه العباد، ودخل أمر الحرمين الشريفين تحت حكمه، وخطب له فيهما بأمره ورسمه، وفي سائر هذه الأقطار بشريف لقبه واسمه. وانقضت دولة الشراكسة عن آخرها. ولله البقاء سبحانه.