سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
الباب الثالث من خاتمة الخير
في ذكر من ولي مكة المشرفة من آل أبي طالب
إلى يوم تاريخه ولمع من أخبارهم، ونوادر حوادث أيامهم:
مكة زادها الله شرفاً، أشهر من أن تعرَف أو أن يصفها واصف، ألا أنها انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلوية مرة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها ألا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موالي سود من الحبشة والزيلع.
وكان أول من وليها بعد الفتح المحمدي عتاب بن أسيد باستخلاف محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، حين عزمه إلى غزوة حنين عام ثمان من الهجرة. والخلفاء الأربعة، ثم خلفاء بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، وتعداد عمالهم فرداً فرداً مبسوط في التواريخ لا حاجة بنا إليه، وكان في خلال ذلك يتغلب بعض الطالبيين والعلويين عليها.
فأول من وليها منهم بالتغلب محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عاملاً عليها، ومؤمرّاً من جهة محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، فإنه لما تغلب على المدينة الشريفة سنة خمس وأربعين ومائة في دولة المنصور العباسي، أمر على مكة محمد بن الحسن هذا وسيره إليها.
فخرج إليه السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب أمير مكة من جهة المنصور، فتحاربا بأذاخر فهزم السري، ودخل محمد مكة، فأقام بها يسيراً، فأتاه كتاب محمد النفس الزكية يخبره بمسير عيسى بن موسى لمحاربته، ويأمره بالمسير إليه، فسار محمد بن الحسن إليه من مكة، هو والقاسم بن إسحاق فبلغه وهو سائر بنواحي قديد قتل النفس الزكية فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن لإبراهيم بن عبد الله المحض حتى قتل إبراهيم.
ذكر هذا ابن الأثير، ورجع السري إلى ولاية مكة.
ثم وليها كذلك بالتغلب سنة 169 تسع وستين ومائة في دولة الهادي بن الرشيد الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
وقد تقدم خبره في الباب قبل هذا عند ذكر الدعاة.
ثم وليها كذلك بالتغلب الحسين بن الحسن الأفطس بن علي الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - وهو المعروف بالأفطس - وذلك في خلافة المأمون سنة 199 تسع وتسعين ومائة، وسببه أن أبا السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا لما تغلب على العراق ولي مكة الحسين بن الحسن الأفطس هذا، فسار إلى أن وصل وادي سرف المعروف في وقتنا اليوم بالنوارية على نصف مرحلة من مكة فتوقف عن الدخول إلى مكة خشية من أميرها من جهة المأمون، وهو داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فلما بلغ داود توجيه أبي السرايا للحسين الأفطس فارق مكة هو ومن بها من شيعة بني العباس.
فلما بلغ الحسين خروج داود دخلها ليلة عرفة فطاف وسعى، ثم مشى إلى عرفة فوقف ليلاً، ثم دفع إلى المزدلفة فصلى بالناس الصبح، ثم دفع إلى منى، فلما انقضى الحج عاد إلى مكة.
فلما كان مستهل محرم الحرام افتتاح سنة 200 مائتين نزع الحسين المذكور كسوة الكعبة التي كانت عليها من قبل المأمون ثم كساها كسوتين أنفذهما معه أبو السرايا من قز إحداهما صفراء والأخرى بيضاء، ثم عمد الأفطس إلى خزانة الكعبة، فأخذ جميع ما فيها من الأموال فقسمها مع كسوة الكعبة على أصحابه، وهرب الناس من مكة؛ لأنه كان يأخذ أموالهم ويزعم أنها ودائع لبني العباس عندهم ولما هرب الناس هدم دورهم، فكرهه الناس لظلمه، وطغى أصحابه وبغوا، وقلعوا شبابيك البيوت الحديد التي على المسجد وباعوها حتى قلعوا شبابيك زمزم، ولم يزل كذلك على ظلمه إلى أن بلغه قتل مرسله أبي السرايا سنة مائتين، فلما علم بذلك ورأى الناس قد تغيروا عليه لما فعله معهم من القبيح واستباحة الأموال، جاء هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر الصادق الملقب بالديباجة لجمال وجهه وسألوه المبايعة له بالخلافة فكره ذلك، فاستعان الأفطس عليه بولده علي بن محمد بن جعفر الصادق ولم يزالوا به حتى بايعوه بالخلافة، وذلك في ربيع الأول سنة مائتين، جمعوا الناس على بيعة محمد طوعاً وكرهاً، وبقي أشهراً وليس له من الأمر شيء، وإنما ذلك للأفطس ولابنه علي بن محمد وهما على أقبح سيرة مع الناس، ووثب الأفطس على امرأة جميلة فانتزعها قهراً من زوجها، وعلي بن محمد أخذ ابن قاضي مكة وحجزه عنده.
فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا بالمسجد الحرام، وقالوا لمحمد بن جعفر إن لم تحضر المرأة والصبي خلعناك، فأغلق بابه خوفاً من العامة وكلمهم من الشباك، ثم طلب الأمان ليخرج يخلصهما، فأعطى فخرج وخلص الصبي من ابنه علي، والمرأة من الأفطس. كذا ذكره الأزرقي.
قلت: عندي في صحة هذين الأخذين نظر، خصوصاً أخذ ابن الديباجة ابن قاضي مكة، فالنفس أبته كل الإباء، والله أعلم.
فلم تكن ألا مدة يسيرة حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فاراً من إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فنزل بالمشاش، واجتمع إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين، واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر المذكور، وجمع الناس من الأعراب وغيرهم وحفروا خندقاً وقابلهم إسحاق، ثم كره القتال، فسار إلى نحو العراق فلقيه جند أنفذهم هرثمة بن أعين قائد المأمون، وكان فيهم الجلودي وورقاء بن جميل فقالا لإسحاق: ارجع معنا ونحن نكفيك القتال، فرجع معهما، ولقيهم محمد بن جعفر والطالبيون ببئر ميمونة، وقد انضم إلى محمد غوغاء مكة وسواد البادية، فلما التقى الفريقان قتل جماعة ثم تحاجزوا ثم التقوا من الغد، فانهزم محمد والطالبيون ومن معهم، ثم طلب محمد الأمان من الجلودي وألا أجلة ثلاثة أيام، فآمنه وأجله، ثم خرج من مكة، ودخل الجلودي مكة بالجيش في جمادى الآخرة من السنة المذكورة أعني سنة 200 مائتين.
وتوجه الديباجة إلى بلاد جهينة فجمع منها جيشاً وسار إلى المدينة، وقاتل واليها من جهة المأمون وهو هارون بن المسيب، فانهزم الديباجة أيضاً، وفقئت عينه بنشابة، وقتل من عسكره خلق كثير، ثم عاد إلى مكة وطلب الأمان من الجلودي، فآمنه فدخل مكة في أواخر ذي الحجة من السنة المذكورة فأصعده الجلودي المنبر، والجلودي فوقه بمرقاتين عليه قباء أسود، فاعتذر محمد بأنه إنما وافق على المبايعة؛ لأنه بلغه موت المأمون، ثم قدم على المأمون بمرو واعتذر واستعفى، فقبل عذره وعفا عنه وأكرمه، فلم يلبث قليلاً حتى مات فجأة بجرجان، فصلى عليه المأمون، ونزل في لحده وقال: هذه رحم قطعت مذ سنين.
وكان موته في شعبان سنة ثلاث ومائتين. وسبب موته على ما قيل أنه جامع وافتصد ودخل الحمام في يوم واحد.
وفي موسم سنة 202 اثنتين ومائتين وليها كذلك بالتغلب إبراهيم بن موسى الكاظم ابن جعفر، جاء إليها من اليمن وعليها إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فلما سمع بوصوله خندق عليها وبنى سوراً على الجبال دائراً بالبنيان.
وكان في السنة التي قبلها سنة إحدى ومائتين وصل إلى مكة صنم من ذهب على صورة إنسان لملك من ملوك الهند، أرسل به إلى الكعبة، وعلى رأس الصنم تاج مكلل بالجوهر والياقوت والزبرجد، والصنم جالس على سرير من فضة وعلى السرير أنواع الفرش من الحرير والديباج، فوضع السرير عليه الصنم في وسط المسعى ثلاثة أيام ومعه معرِّف لمن كان له هذا الصنم وأنه أسلم وأرسل به هدية للكعبة فاحمدوا الله تعالى أن هداه للإسلام. ثم أخذ أمير مكة العباسي المذكور ذلك الصنم من الحجبة قهراً وضربه دنانير وأنفقها على العسكر، وحارب إبراهيم بن موسى فكسر الأمير وهرب ودخل إبراهيم بن موسى مكة.
ثم وليها في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالتغلب أيضاً إسماعيل بن يوسف الأخيصر بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فهرب منها عامل المستعين، وهو جعفر بن الفضل ابن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المعروف بشاشات، قتل إسماعيل الجند الذين بمكة وجماعة من أهلها.
ونهب منزل جعفر شاشات وغيره وأخذ من الناس نحو مائتي ألف دينار، وعمد إلى الكعبة الشريفة فأخذ كسوتها، وما جدد في خزانتها من الأموال، وما كان أعد من المال لإصلاح العين، ونهب مكة وأحرق بعضها، ثم خرج منها بعد مقامه بها خمسين يوماً في شهر ربيع الأول، وقصد المدينة الشريفة فتوارى عنه عاملها فظلم أهلها، وأخرب دورهم، وعطلت الجماعة من مسجده عليه الصلاة والسلام أكثر من نصف شهر، ثم رجع إلى مكة فحصر أهلها حتى ماتوا جوعاً وعطشاً وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم واللحم رطل بدرهم والشربة الماء بثلاثة دراهم، ولقى أهل مكة منه بلاءً شديداً.
ثم سار إلى جدة فحبس عن الناس الطعام وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، ووافى الموقف والناس بعرفات فقتل من الحجاج نحواً من ألف ومائة نفس فهرب الحجاج ولم يقف بعرفة أحد ليلاً ولا نهاراً سوى إسماعيل وعسكره، ثم بعد انفصاله من عرفة رجع إلى جدة ثانياً وأفنى أموالها وفعل أموراً قبيحة لا حاجة بنا إلى ذكرها. كذا ذكره العلامة ابن جار الله، وقبله التقى الفاسي في تاريخه شفاء الغرام. انتهى.
قلت: لا يظن ظان أن صدور هذا الفعل وشبهه من مثل هؤلاء السادة لنقص في دينهم واختلال في يقينهم حاشا وكلا، وإنما ذاك والله أعلم مما جرَت إليه الحمية والأنفة والشهامة التي تناسب أقداسهم من استيلاء ولاة الجور على ما هم الأحقون به، فيقصدون بذلك ثلم وجوههم وتفريق جموعهم ما أمكن لتعديهم بأصل الدخول في الخلافة، ولم ينعقد إذ ذاك إجماع على حرمة الخروج على أئمة الجور، فقدى أفتى الإمام أبو حنيفة بجواز الخروج على أبي جعفر المنصور منهم، وكذلك الإمام مالك رحمهما الله تعالى، وإنما انعقد الإجماع على ذلك بعد زمنهم بكثير هذا ما ظهر لجامعه الفقير. على إني أعلم أن هذا الجواب ينسب إلى الإقناع، فلا يكن منك أيها الناقد لرأس الاعتراض إقناع.
ولم يزل العمال عليها من بني العباس وشيعتهم والخطبة بها لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان بن داود ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط.