ذكر دولة الهواشم

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

ذكر دولة الهواشم

هؤلاء الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسن بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرم بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانت بين هؤلاء الهواشم وبني السليمانيين فتن متصلة. ولما مات شكر ذهبت الرئاسة من بني سليمان؛ لأن شكراً آخرهم ولم يعقب.

وتقدم فيهم طراد بن أحمد لم يكن من بيت الإمارة وإنما كانوا يؤملونه لإقدامه ورأيه وشجاعته، وكان رئيس الهواشم يومئذ أبو هاشم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد المذكور، وكان قد ساد في الهواشم، وعظم ذكره فاقتتلوا سنة أربع وخمسين وأربعمائة بعد موت شكر فهزم الهواشم بني سليمان، وطردوهم عن الحجاز، فساروا إلى اليمن وكان لهم به ملك، فاستقل بإمارة مكة الأمير أبو هاشم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن المذكور وخطب للمستنصر العبيدي.

ثم ابتدأ الحاج من العراق سنة ست وخمسين وأربعمائة بنظر السلطان ألب أرسلان بن داود ملك السلجوقية حين استولى على بغداد والخلافة، طلب منه القائم العباسي ذلك فبذل المال وأخذ رهائن من العرب، وحج بالناس أبو الغنائم نور الهدى الزيني نقيب الطالبيين، ثم جاور في السنة التي بعدها واستمال الأمير أبا هاشم محمد بن جعفر المذكور عن طاعة العبيديين فخطب لبني العباس سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وانقطعت ميرة مصر عن مكة فعذله أهله عما فعل فرد الخطبة للعبيديين.

ثم خاطبه القائم العباسي وعاتبه وبذل له الأموال فخطب له سنة ثنتين وستين وأربعمائة بالموسم فقط، وكتب إلى المستنصر العبيدي معتذرَاً.

ثم بعث القائم العباسي أبا الغنائم الزيني نقيب المذكورين سنة ثلاث وستين وأربعمائة أميراً على الركب العراقي، ومعه عسكر ضخم لأمير مكة من عند ألب أرسلان وثلاثون ألف دينار، وتوقيع بعشرة آلاف دينار واجتمعوا بالموسم، وخطب الأمير أبو هاشم محمد بن جعفر للقائم العباسي فقال: الحمد لله الذي هدانا أهل بيته إلى الرأي المصيب، وعوض بنيه لبسة الشباب بعد لبسة المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومتابعة إمام الجماعة. فانحرف المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي صاحب مصر المذكور عن الهواشم ومال إلى السليمانيين، وكتب إلى علي بن محمد الصليحي صاحب دعوتهم باليمن أن يعينهم على استرجاع ملكهم وينهض معهم إلى مكة، فنهض وانتهى إلى المهجم.

وكان سعيد بن نجاح الأحول موتور بني الصليحي قد جاء من الهند ودخل صنعاء، فثار بها واتبع الصليحي، وهو في سبعين رجلاً والصليحي في خمسة آلاف فبيته بالمهجم وقتله. كذا في تاريخ العلامة ابن خلدون.

ورأيت في تاريخ العلامة محمد بن جار الله بعد أن قال: ثم ولي بعد شكر بنو أبي الطيب: وهم الذين يقال لهم السليمانيون من جماعة شكر، ولم يذكر الفاسي عدتهم.

قال: ثم ولي علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة في شهر الحجة، وأظهر العدل بها، واستعمل الجميل مع أهلها، وكثر الأمن، وطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار في أيامه وكثرت له الأدعية، وكسا البيت ثوباً أبيض، ورد للبيت الحلي الذي أخذه بنو أبي الطيب لما ملكوا بعد شكر، وأقام بمكة إلى ربيع الأول سنة ست وخمسين وأربعمائة.

ثم ولى عنه نائباً أبا هاشم محمد بن جعفر هذا، وسبب ذلك أن الصليحي لما دخل مكة كان الأشراف بنو أبي الطيب قد أبعدوا عن مكة وجمعوا عليه، ثم راسلوه بأن يخرج من مكة ويؤمر بها من يختار منهم، وكان قد وقع في عسكره الوباء فمات منهم سبعمائة رجل ولم يبق ألا نفر يسير، فاختار أبا هاشم محمد بن جعفر هذا، وهو أول الهواشم، وأقامه نائباً عنه وأمره على مكة واستخدم له عسكراً، وأعطاه مالاً وسلاحاً وخمسين فرساً، ثم عاد إلى اليمن فجاء الأشراف بنو سليمان ومعهم حمزة بن أبي وهاص، وحاربوا محمد بن جعفر فحاربهم ولم يكن له بهم طاقة، فخرج هارباً من مكة فتبعوه، فكر راجعاً، وضرب واحداً منهم ضربة قطع بها درعه، وجسده وفرسه ووصل إلى الأرض فرجعوا عنه، وكان تحته فرس، يقال لها: دنانير لا تكل ولا تمل، وقيل: إنه كان صهر شكر على ابنته.

ثم عاد محمد بن جعفر إلى مكة بعد خروجه منها.

فهذا الذي ذكره ابن جار الله مخالف لما ذكره العلامة ابن حلدون مخالفة ظاهرة. أما أولاً: ففي تاريخه فإنه - أي ابن جار الله - ذكر أن إتيان الصليحي إلى مكة، وإقامته أبا هاشم محمد بن جعفر نائباً عنه كان في سنة ست وخمسين وأربعمائة، وأنه دخلها وأقام أبا هاشم محمد بن جعفر أول أمراء الهواشم، والذي ذكره ابن خلدون؛ إن الصليحي أمره المستنصر العبيدي لما مال عن الهواشم إلى السليمانيين بسبب عدولهم بالخطبة عنه إلى العباسيين أن ينهض مع السليمانيين، ويعينهم على استرجاع ملكهم، وأرخ ذلك الأمر له بسنة اثنتين وستين وأربعمائة فهذا تخالف في التاريخ.

وأما ثانياً: فمخالفته من جهة المعنى، إذ كيف يؤمر بإعادة السليمانيين إلى ملكهم، وإزالة الهواشم عن مكة فيفر السليمانيون عن مكة، ويرسلون لة أقم من تختاره منا فيقيم عليهم أبا هاشم وهو من الهواشم المغضوب عليهم من جهة مرسله المستنصر العبيدي، وكيف يفر السليمانيون عنه، وهو آت لنصرتهم وإرجاع دولتهم إليهم من يد الهواشم، فما علمت وجه التوفيق بينهما في ذلك والله أعلم.

وأيضاً لم يذكر ابن خلدون أن الصليحي دخل مكة، بل إنه لما انتهى إلى المهجم - اسم محل - هجم عليه سعيد بن نجاح الأحول فقتله.

وإذ قد انجر الكلام إلى ذكر الصليحي فلنذكر طرفاً من خبره ومبدأ منتهى أمره.

قال العلامة ابن السبكي: الصليحي هو علي بن محمد بن علي الصليحي. كان أبوه محمد قاضياً باليمن ونشأ له هذا الولد فتوسم فيه بعض من عنده علم من الملاحم، وقال له: أنت تلي ملك اليمن، فاشتغل على هذا وحوى علوماً كثيرة، وحج بالناس دليلاً سنين متعددة. ثم توافق مع جماعة من أولاد رؤساء اليمن نحو الستين وخرجوا إلى رأس جبل منيع باليمن فحاصرهم الجند في عشرين ألف مقاتل فلم يقدروا عليهم، ثم استفحل أمره وبنى برأس ذلك الجبل حصناً منيعاً. ثم تدلى فأخذ البلاد بلداً بلداً حتى استحوذ على اليمن كلها وخطب بنفسه ودعا للخليفة المستنصر العبيدي واستمر كذلك نحواً من ثلاثين سنة.

فلما كانت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة - كذا قاله ابن السبكي.

وقال ابن خلدون سنة اثنين وستين وأربعمائة - خرج في طائفة من الجيش يريد الحج، فلما كان بالمهجم اعترضه سعيد بن نجاح الأحول صاحب التهائم، وكان الصليحي قد وتره في أول دولته، فاعترضه سعيد هذا وأخوه حناش في سبعين رجلاً مع كل رجل منهم جريدة في رأسها مسمار، فنذر بهم الصليحي، فأرسل سرية في ألفي مقاتل ليردوهم فاختلفوا في الطريق فخلص إليه سعيد وأخوه في أصحابهما، وهو على غرة فوصلوا إليه، وقتلوه بسيفه، وقتلوا جميع أقاربه، وكانوا نحو مائة وستين، ومالوا على بقية العسكر فقتلوا وأسروا، ورجعوا إلى اليمن فملكوه مع بلاد تهامة وهذا أمر لم يتفق مثله ألا نادراً.

وكان مقتله عند قرية يقال لها: الرهيم وبئر أم معبد وليست بأم معبد السعدية.

قلت: ومن شعر الصليحي بيتان في حفظي هما: من الكامل:

أنكَختُ بِيضَ الِهندِ شمر رِقَابِهم ... فَرُؤُوسُهُمْ دُونَ النِّثَارِ يِثَارُ

وكَذاً العُلا لا يُسْتَباح نِكَاحُهَا ... إِلا بِحَيثُ تُطَلَقُ الأَعْمَار

ولما رجع سعيد بن نجاح برأس الصليحي منصوباً فوق المظلة التي كانت يظلل بها فوقه إذا ركب في جنده، قال في ذلك أبو بكر العثماني: من الكامل:

بَكَرَتْ مِظَلتُهُ عَلَيْهِ فَلَم تَرُحْ ... إلاَّ عَلَى الملكِ الأَجل سَعِيدِهَا

ماً كَانَ أَقبَحَ وَجهَهُ في ظِلها ... ماً كَانَ أحسَنَ رأْسَهُ في عُودِهَا

رجع: ولما عاد محمد بن جعفر إلى مكة بعد خروجه منها جمع أنجاداً من الأتراك فزحف بهم إلى المدينة فأخرج منها بني الحسين، وجمع بين الحرمين. ثم مات القائم العباسي وانقطع ما كان يصل إليه منه، فقطع محمد بن جعفر الخطبة للعباسيين، ثم جاء الزينبي من قابل بالأموال فأعادها.

ثم بعث المقتدي سنة سبعين وأربعمائة منبراً إلى مكة استجيد خشبه ونقش عليه بالذهب اسمه، وبعث على الحاج ختلغ التركي وهو أول تركي تأمر على الحج، وكان والياً على الكوفة وقهر العرب من بني خفاجة، فبعثه المقتدى أميراً على الحاج فوقعت الفتنة بين العسكر العراقي والمصري فكسر المنبر وأحرق، ثم عاود الفتنة سنة ثلاث وسبعين وقطعت الخطبة عن المستنصر العبيدي وأعيدت للمقتدي العباسي واتصلت إمارة ختلغ على الحاج وبعده خمارتكين. إلى أن مات السلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك فانقطعت الخطبة للعباسيين وبطل الحاج من العراق لاختلاف ملوك السلجوقية وتغلب العرب.

ومات المقتدي العباسي خليفة بغداد وبويع ابنه المستظهر.

ومات المستنصر العبيدي خليفة مصر، وبويع ابنه المستعلي وخطب له بمكة. واستمر هذا محمد بن جعفر متولياً على مكة إلى أن مات سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وهو أول من أعاد الخطبة العباسية بمكة بعد أن قطعت نحو مائتى سنة بسبب استيلاء العبيديين على مصر والحرمين.

وذكر ابن خلدون: أن مدة إمارته على مكة ثلاث وثلاثون سنة، ألا أنه خرج منها هارباً من التركمان الذين استولوا عليها سنة أربع وثمانين وأربعمائة.

قال ابن الأثير: قال العلامة الفاسي: وهو أول من أعاد الخطبة العباسية ونال بسبب ذلك مالاً عظيماً من السلطان ألب أرسلان السلجوقي، فإنه خطب له بعد القائم العباسي، ثم كان يخطب لابن ابنه عبد الله الملقب بالمقتدي العباسي حيناً، وحيناً للمستنصر العبيدي صاحب مصر يقدم في ذلك من تكون صلته أعظم، ولعل ذلك بسبب إرسال التركمان إليه.

ثم ولى بعده ابنه القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن أبي هاشم فكثر اضطرابه، ومهد بنو زيد أصحاب الحلة طريق الحاج من العراق، فاتصل حجهم وحج سنة ثنتي عشرة وخمسمائة نظر الخادم من قبل المسترشد العباسي بركب العراق، وأوصل الخلع، والأموال إلى مكة، وأمن الاضطراب الذي وقع في ولايته استيلاء أصبهبذ بن سارتكين على مكة في أواخر سنة سبع وثمانين، فهرب منها، قاسم بن محمد المذكور، وأقام أصبهبذ بها إلى شوال، فجمع قاسم عسكراً وكبسوا أصبهبذ فانهزم إلى الشام ودخل قاسم مكة ودامت ولايته عليها إلى أن مات سنة ثمان عشرة وخمسمائة. ومن شعر قاسم يصف قومه قوله: من الكامل:

قَومِي إِذاً خَاضُوا العَجَاجَ حَسِبْتَهم ... ليلاً وخِلتَ وُجوهَهُم أَقمَارَا

لا يَبخَلُونَ بِزَادِهم عَن جَارِهِم ... عَدَلَ الزمَانُ عَلَيهِمُ أَو جَارَا

وِإذاً الصرِيخُ دَعَاهُمُ لِمُلِمةٍ ... بَذَلُوا النفُوسَ وفَارقُوا الأَعمَارَا

وِإذاً زِنَادُ الَحربِ أَذكَت نَارَهَا ... قَدَحُوا بِأَطرَافِ الأَسِنةِ نَارَا

وكانت مدته ثلاثين سنة.

قال ابن خلدون: ثم ولى بعده ابنه فليتة وقيل أبو فليتة، فافتتح بالخطبة العباسية، وحسن الثناء عليه بالعدل ووصل نظر الخادم أميراً إلى مكة على الحاج، ومعه الأموال والخلع، ثم استمر فليتة إلى أن مات سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكانت مدته عشر سنين.

ثم ولى بعده ابنه هاشم بن فليتة واستمر متولياً إلى أن مات سنة تسع وأربعين، وقيل إحدى وخمسين وخمسمائة، ولم يختلف عليه اثنان مدة ولايته.

ثم تولى بعده ابنه قاسم بن هاشم بن فليتة، والخطبة للعباسيين، وإمارة حاج العراق لنظر الخادم.

ثم كانت فتنة المسترشد العباسي مع السلطان مسعود السلجوقي، ومقتل المسترشد، وتعطل ركب العراق.

ثم حج نظر في السنة بعدها، ثم انقطع الركب العراقي للفتن والغلاء، ثم حج سنة أربع وأربعين وخمسمائة نظر الخادم ومات في طريقه. فولى مكانه قيماز، واعترضه ركب من الأعراب فنهب الركب واتصل حج قيماز.

ثم صنع المقتفي الخليفة العباسي باباً للبيت مصفحاً أوصله نظر الخادم إلى مكة سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة.

وبويع المستنجد الخليفة العباسي فخطب له قاسم بن هاشم الأمير المذكور كما كان يخطب لأبيه المقتفي، ثم قتل قاسم سنة ست وخمسين وخمسمائة.

وبويع المستنجد، قتلته الحشيشية، يقال كان ذلك بإشارة صاحب مصر وهو يومئذ العاضد العبيدي والمتغلب عليه.

ثم ولى بعده عمه عيسى بن فليتة، وحج العراق متصل.

وتوفي المستنجد الخليفة العباسي سنة ست وستين وخمسمائة.

وبعث المستضيء بن المستنجد بركب العراق طاشتكين التركي.

وانقضت دولة العبيديين، ووليها صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستولى على مكة واليمن وخطب له بالحرمين، ثم مات المستضيء العباسي سنة خمس وسبعين. وبويع ابنه الناصر العباسي وخطب له بالحرمين.

ودامت ولاية عيسى بن فليتة على مكة نصف يوم، لأنه دخل مكة في يوم عاشوراء سنة ست وستين وخمسمائة، وجرى بينه وبين عسكر أخيه عيسى فتنة إلى الزوال، ثم خرج...، ثم أصلحا بعد ذلك.

ثم ولى بعده ابنه داود بن عيسى، واستمر إلى الليلة النصف من رجب سنة إحدى سبعين فعزل، وسبب عزله أن أم الناصر الخليفة العباسي حجت في زمنه ثم أنهت لي ابنها الناصر عن داود ما اطلعت عليه من أحواله فعزله لذلك.

ثم ولى أخوه مكثر بن عيسى، واستمر إلى موسم هذه السنة ثم عزل، وجرى بينه بين أمير الركب العراقي طاشتكين حرب شديد في ذلك الموسم كان الظفر فيه لطاشتكين، وذلك أنه وصل الخبر إلى مكثر أن صحبة الحاج العراقي عسكراً كثيراً، وسلاحاً وعدداً، وأن معهم الأمير قاسم بن مهنا، فجمع مكثر الشرفاء والعرب، ولم يحج من أهل مكة ألا القليل، ولم يوف أكثر الحاج المناسك، ولم يبيتوا بمزدلفة، لم ينزلوا بمنى، ولم يرموا، وإنما رمى بعضهم وهو سائر، ونزل الحاج يوم النحر الأبطح، فخرج إليهم ناس من أهل مكة، فحاربوهم في بقية يوم النحر واليوم الثاني الثالث، فاشتد القتال على أهل مكة، وقتل من الفريقين جماعة، ثم هاجموا مكة على مكثر، فصعد إلى الحصن الذي بناه بأبى قبيس، فصعدوا وراءه، فتركه وسار عن مكة فدخلوها، وأمر أمير الحاج بهدم الحصن، ونهب غالب بيوت مكة،، وأحرق دوراً كثيرة.

ومن عجيب ما جرى أن إنساناً زراقاً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام فاحترق ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب بها مكاناً اَخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها فاحترق هو بها، وبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات، وكانت هذه الواقعة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة المذكورة.

وتسلمت مكة إلى الأمير قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، وكان وصل صحبة الحاج العراقي كما سبق خبره إلى مكثر؛ لأنه سافر إلى العراق فوليها الأمير قاسم بن مهنا المذكور بعد انهزام مكثر، فأقام متولياً ثلاثة أيام، ثم رأى من نفسه العجز عن القيام بإمرة مكة فاستعفى فأعاد الأمير طاشتكين أمير الحاج المذكور داود بن عيسى إلى إمارة مكة، وشرط عليه شروطاً في ترك المكوس، والعدل بين الرعايا، ولم تعلم ولاية داود هذه إلى متى استمرت، غير أنه يتداول هو وأخوه مكثر إمرة مكة، ثم انفرد بها مكثر عشر سنوات متواليات آخرها سنة 597 سبع بتقديم السين وتسعين بتقديم التاء وخمسمائة، غير أن في ولايته أو في ولاية أخيه في داود - على الشك - كان ممن ولي مكة سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب وذلك سنة 581 إحدى وثمانين وخمسمائة؛ لأنه قدم مكة في هذه السنة ومنع الأذان بحي على خير العمل، وقتل جماعة من العبيديين المفسدين، وضرب السكة الدراهم والدنانير باسم أخيه السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، وفر منه أمير مكة مكثر أو أخوه داود على الشك.

قلت: ذكر العلامة ابن جبير في رحلته أنه رأى سيف الإسلام طغتكين المذكور داخلاً إلى الحرم الشريف.

قال: وشاهدته وعن يمينه مكثر، وعن يساره قاضي الشرع الشريف، ورأيت مكثراً لابساً ثوباً أبيض، وعمامة من صوف أبيض، فطاف بالبيت والريس يدعو له إذا أقبل من الركن اليماني حتى يجاوز مصلى جبريل مولياً، ثم يسكت، ثم يدعو إذا أقبل من الركن اليماني، وهكذا في كل شوط، فلما فرغ من صلاته فرش له خلف مقام الخليل شقة من كتان، فصلى عليها سنة الطواف، فاتضح - بما ذكره ابن جبير - أن الفار هو داود لا مكثر، فانتفى الشك الذي ذكره ابن جار في تاريخه.

وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أسقط السلطان صلاح الدين المكس عن الحجاج إلى مكة في البحر على طريق عيذاب؛ لأنه كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس ما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل به ذلك حبس حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيراً لا يملك شيئاً، فرأى السلطان صلاح الدين إسقاط ذلك وأن يعرض عنه أمير مكة، فقرر معه أنه يحمل إليه كل عام ألفي دينار وثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك أوقافاً وخلدها، فانبسطت لذلك النفوس وزاد السرور وزال البؤس، وصار يرسل الإنعام، للمجاورين بالحرمين من العلماء والفقراء.

ومدحه العلامة ابن جبير بقصيدة أولها: من المتقارب:

رَفَعتَ مَغَارِمَ مَكْسِ الحِجَازِ ... بِإِنعَامِكَ الشامِلِ الكَافِلِ

ثم ذكر ابن جبير شيئاً من أخبار هذا المكس، فقال: إنه كان يؤخذ من كل إنسان سبعة دنانير مصرية ونصف، فإن عجز عن ذلك عوقب بأنواع العذاب الأليم من تعليقه بالخصيتين وغير ذلك، وكانت هذه البلية في مدة دولة العبيديين المتخلفين بمصر جعلوها معلوماً لأمير مكة فأزالها الله تعالى بعد أن أزالهم على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وعوض أمير مكة ما تقدم ذكره.

وضعف أمر الهواشم وكان مكثر هو آخرهم، وكان أبو عزيز قتادة يناسبهم من جهة النساء، فورث أمرهم وملك مكة من أيديهم وطردهم عنها بالسيف.

وأما ما يسمع على الأفواه من أن الشريف قتادة إنما دخل مكة سابع عشر رجب في عمرة ابن الزبير التي يخرج فيها كل أهل مكة رفيع ووضيع، فلم أطلع على أصل ذلك، وانقرضت دولتهم، والبقاء لله وحده لا شريك له في ملكه سبحانه وتعالى.